مسـاره وارتباطاته
إن النقد الأدبي في حد ذاته؛ إنما يسعى إلى"معرفة الصور الجمالية، للقطعة الأدبية، وتقدير الصفات الأساسية التي يجب توفرها ليكون النص أثراً فنياً خالدا"1، وهويمتد في بعده إلى زمن قديم جدا، إذ يمكننا أن نربط بدايات تشكّله الأولى باليونان، حيث تجلّى الاهتمام واضحا بالعملية النقدية معهم، خاصة بعد ظهور أطروحات «أفلاطون"وتلميذه «أرسطو» فيما ارتبط منها بـ"نظرية المحاكاة"التي حاولت تفسير ما ينْظُمه الشعراء في مختلف الأنواع الأدبية من ملاحم ومسرحيات وغيرها، فاعتبر «أفلاطون"أن ما يقوم به الشعراء إنما هوتشويه لما هوكائن -الطبيعة، في حين رأى «أرسطو» بأن هذه"المحاكاة"لا تقف عند حدود ما هوكائن، بل تتعداه لما ينبغي أن يكون، ولأجل ذلك كان لا بدّ من الاهتمام بتلك الأعمال وتحليلها لمعرفة مواطن الجمال فيها، وقد أولى «أرسطو» عناية كبرى للشعر والإبداع من خلال ما أسماه"نظرية التطهير"التي تناقش فكرة التأثير الذي يحدثه الإبداع في نفسية المتلقي.
بينما ارتبط النقد عند النقاد العرب"القدامى"، ارتباطا وثيقا بالبحث عن سرّ الجمال والإعجاز في القرآن الكريم، وعلى ضوء مختلف الدراسات التي تناولت هذا الأخير في جوانبه المختلفة؛ اللفظية والنحوية والتركيبية والدلالية والنظمية، تم وضع الكثير من المبادئ والأسس لتحليل وتقييم الإبداع، غير أن بدايات هذا النقد العربي كانت في أكثرها أحكاما ذوقية، انطباعية، ناتجة عن التأثر بالنص، ولا تقدم تعليلا إلا فيما ندر.
أي أن المفهوم اللغوي للنقد؛ كان متعلقاً بتميز الجيد من الرديء، وهكذا ألقى هذا المعنى بظلاله على المعنى الاصطلاحي، إلا أن النقد العربي تطور بعد ذلك، وبدت تظهر ملامحه مع ظهور كتاب"طبقات فحول الشعراء"لأبن سلام الجمحي، كما يمكن القول أن النقد العربي القديم بل ذروته مع أعمال عبد القاهر الجرجاني.
كان مجيء النقد الأدبي الحديث والمعاصر سدا لهذه الثغرة في تاريخ النقد الأدبي وتجاوزا مؤسسا للأفكار النقدية القديمة، فظهرت علوم متنوعة وأنواع أدبية جديدة، واكبها أيضا ظهور كثير من المناهج النقدية، والتي تسلحت بكثير من الأسس العلمية والفلسفية والنفسية والاجتماعية، من أجل إيجاد نقد يتسم بالموضوعية، أوعلى الأقل يسعى لأن يكون موضوعيا في تحليلاته، فكان من آثار ذلك أن تعددت زوايا النظر للإبداع وظهر في الساحة النقدية ما يعرف باسم"المناهج السياقية"كالمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي، والتي تحاول قراءة النص من خارجه، وأخرى عرفت باسم"المناهج النسقية"، والتي تشتغل على بنية النص الإبداعي؛ كاللغة، البنية، النظام، العلامة، الرمز، ومن بينها"البنيوية"و"الأسلوبية"و"السيميائية".2
فظهرت في الساحة الأدبية وجوه تحاول أن تتجاوز النقد التقليدي، والاستفادة منه في الوقت ذاته، على غرار ما قاله"سارتر": بضرورة أن يختار المرء الموجود لا الكائن بين ما تطرحه أمامه الحياة من خيارات"، جاء ليعمق فكرة الالتزام بالموقف، بالرغم مما يصحب ذلك الاختيار من قلق على ما يختار وندم على ما يترك.
كما انه وإن كان لكل زمنٍ موجته الغالبة فإن الدارس لن يكون في غنى عن الوعي بالامتداد التاريخي، وبالأصول المتغيرة.
من هنا يكون الجمع بين القديم والحديث، والحداثى، في النقد الأدبي مهمة غير يسيرة، لكنها ليست مستحيلة، وذلك إذا استدلت الممارسة على نقاط الارتكاز الأساسية في كل عصر.
كما أن جل الأعمال النقدية في الجزائر، قد بدأت بأسلوب أكاديمي كلاسيكي، كأعمال"محمد مصايف"و"عبد الله ركيبي". ولكنها مرحلة طبيعية لا يسعنا إلاّ أن نقدر مجهودات الذين ساهموا فيها.
إلاّ أن ما يغلب على محاولاتها الجيل الجديد، أنها تنحوفي معظم الأحيان منحى نظرياً يبدوفيه اطلاع كبير على أحدث النظريات النقدية كالبنيوية مثلاً، غير أن الصلة بالنظريات المعاصرة بقيت على صعيد التنظير واجترار التنظير.
واستمرت العربية في زمانهم تصارع وتجاهد، لتفرض حضورها في الساحة الأدبية، في خضم الواقع الزاخر بالمتناقضات، وكثرة الألوان واللهجات العامية، وانقسام الناس ما بين فرانكوفوني وعامي، وذلك ولوبتغليب الدلالة الاجتماعية، وإن تم الاعتراف بالدلالة الاجتماعية للأدب منذ القديم، صراحة أوضمناً، إلا أن التنظير لوجودها على نحوفلسفي أعمق، لم يحصل إلاّ في العصر الحديث. وربما كان لحركات التحرر دور كبير في حمل الأديب على الالتزام بقضايا أمته.
فسيظل المبدأ الأدبي، مدخلا طبيعيا لنقد أي عمل إبداع، ذلك لأن المادة الأدبية هي البوابة الرئيسة الخاصة بالعبور إلى فضاءات الإنتاج الأدبي، والعنصر الأساس المساعد لنا على كشف ما يزخر به هذا الإنتاج من عمق فكري وفني وروحي، وبالتالي الوقوف على أبعاده ومدى قوته