لطالما كانت لعظماء كرة القدم بدايات صعبة في الميادين بل وحتى في حياتهم، فالعديد منهم كان يعاني الأمرين في أوساط جد متواضعة، لكن العزيمة العالية والروح القتالية دفعتهم للعمل بجد وتحد كل المشقات حتى وصلوا في نهاية المطاف لأعلى مراتب المجد.
أسماء عديدة عاشت وضعيات مماثلة واستُنزفت كميات مهمة من الحبر لرواية قصصهم وحتى المخرجون اغتنموا الفرصة لنسج أفلام متنوعة يستفيدون فيها من شهرة البطل والسيناريوهات المؤثرة التي تحملها تفاصيل انطلاقه في عالم الساحرة المستديرة.
روايتنا اليوم من نفس القالب، لكن في طياتها مجموعة من العجائب والغرائب، سنغوص في جزئيات استثنائية عن لاعب اختاروا له اسمه نسبة للأسطورة الهولندية "ماركو فان باستن"، فشرَفه منذ خطواته الأولى في العشب الأخضر ولا يزال في كل مداعبة له للكرة يبهر المتتبعين ويجعل المحللين يتنبؤون له بمستقبل زاهر.
لن أطيل عنكم حديث التشويق، فأنا أصف وألمح للشاب الواعد والمتألق خلال الموسم المنصرم "ماركو أسينسيو"، نعم سأحكي عمن فاجأ الجميع وسنه لم يتعد بعد ال21 عامًا، عمن أطرب حتى شيخ المدربين "فيسنتي ديل بوسكي" وأرغم لسانه على التغني به.
ولد ماركو في جزيرة مايوركا سنة 1996 من أم هولندية وأب إسباني وأمضى طفولته هنالك مترعرعًا مع النادي المحلي ومتعاقبًا على كافة الفئات السنية، قبل أن يلتحق سنة 2013 بالفريق الأول، حيث أطلق العنان لإبداعه وعمل بجد من أجل التطور.
مسيرة الوصول لملعب "إيبروستار" لم تكن سهلة أبدًا كما اختزلتها في سطور، بل المتاعب لاحقته وطفولته كانت محفوفة بالأحزان، فقد عانى اللاعب في سن ال12 من مشكل معقد في النمو حتى أصبح في فترة من الفترات عاجزًا تمامًا عن ممارسة رياضته المفضلة ومتنفسه الوحيد دون الشعور بآلام مبرحة. كان يضطر لوضع ورق الألمنيوم على ركبتيه وكاحليه بعد كل مباراة ثم يحمله والده نحو المنزل لأن المشي حينها يصبح بالنسبة له أمرًا مستحيلاً.
لكن ذلك ليس سوى القليل أمام الفاجعة التي قلبت حياته رأسًا على عقب، ففي ال15 من عمره، أفقده السرطان والدته التي كانت سنده الأول في الحياة وظل وحيدًا يثابر بجراح عميقة.
لا يزال اللاعب إلى اليوم يتذكر نبع الحنان بحرقة، لكن يبدو أن ذلك أنار دربه وزرع في نفسه دافعًا مهمًا للنجاح ولا عجب أنه لا يزال يهدي كل أهدافه لها.
حتى البيت الذي كبر فيه أسينسيو كان متواضعًا ووالده لم يكن يشتغل سوى كعامل في "سوبر ماركت"، فيما كان أخوه يدرس ليصبح شرطيًا، غير أن ذلك لم يشكل أبدًا حاجزًا أمام أحلامه وطموحاته الكبيرةّ وظل يصارع في هدوء.
كان أول راتب يحصل عليه الشاب الإسباني هو 1000 يورو شهريًا مع مايوركا، لكن تغير كل شيء بإمضائه مع النادي الملكي، إذ شكل ذلك بالنسبة له حافزًا إضافيًا للتطور وقد ترجم ذلك على أرض الواقع، فقد قضى الموسم الأول بنظام الإعارة مع ناديه الأم منفجرًا شيئًا، فشيئًا (6 أهداف و7 تمريرات حاسمة) ثم واصل نسقه التصاعدي في الموسم الموالي مع إسبانيول منهيًا 2015/2016 كخامس أفضل ممرر في الليجا، خلف كل من ميسي، سواريز، نيمار وكريستيانو رونالدو.
شعر حينها مسؤولو الميرينجي أنه الوقت المناسب ليتوجه اللاعب نحو القلعة البيضاء وبعد صراع مع "بيريز" الذي كان يرغب في بيعه للاستفادة منه ماديًا، حصل على الفرص الكافية مع المدرب الفرنسي "زين الدين زيدان"، إذ شارك في المباريات المهمة والمتواضعة وفي مختلف المسابقات حتى أصبح في نهاية المطاف ورقة رابحة وعنصرًا يقدم حلولاً جوهرية سواءً على المستوى التكتيكي أو الأداء الذي كان رائعًا، فأسلوبه سلس وغير معقد أبدًا كما يمتاز بالسرعة، دقة التمريرات ومهاراة عالية في التسديد من خارج منطقة الجزاء.
محاسن كثيرة جعلت ذو ال21 ربيعًا يبهر كافة المتتبعين، لا سيما أنه كان دائمًا حاسمًا وسجل في مرمى عدد من الفرق العملاقة، آخرها يوفنتوس في نهائي دوري الأبطال.
أسينسيو لا يزال يتألق ويبدع مع المنتخب الإسباني تحت 21 عامًا والريال كافأه على كل ذلك مجددًا عقده حتى 2023 ورافعين راتبه ل3,5 مليون يورو سنويًا أي 291 ألف يورو شهريًا وهي أرقام توضح بدورها القفزة النوعية التي قام بها اللاعب في الموسم المنصرم.
هي إذًا تجارب مليئة بالمشاعر المؤلمة والموجعة مر بها ماركو منذ طفولته، لكن ربما لولاها ما كان ليصل لما عليه اليوم. من الواضح أن ذلك الخليط من الشجن والأنين كان يغلي بداخله ويدفعه للكدح من أجل مستقبل أفضل، فهنيئًا له بالثمار التي بدأ بجنيها ومن يدري قد نراه يحقق إنجازات أعظم.