القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتاب و السنة

قسم الكتاب و السنة تعرض فيه جميع ما يتعلق بعلوم الوحيين من أصول التفسير و مصطلح الحديث ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2016-06-21, 15:30   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
المهاجرة 50
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن

القاعدة الأولى:

في كيفية تلقي التفسير.


للشيخ السعدي رحمه الله
)
كل من سلك طريقاً، وعمل عملاً، وأتاه من أبوابه وطرقه الموصلة إليه، فلا بد أن يفلح وينجح، كما قال تعالى: {{وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}} [البقرة: 189].

وكلَّما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر، وتعيَّن البحث التام عن أمثل وأحسن الطرق الموصلة إليه، ولا ريب أن ما نحن فيه هو أهم الأمور وأجلها وأصلها.

فاعلم أن هذا القرآن العظيم أنزله الله لهداية الخلق وإرشادهم، وأنه في كل وقت وزمان يرشد إلى أهدى الأمور وأقومها {{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}} [الإسراء: 9]. فعلى الناس أن يتلقوا معنى كلام الله كما تلقَّاه الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنهم إذا قرؤوا عشر آيات، أو أقل، أو أكثر، لم يتجاوزوها حتى يعرفوا ما دلت عليه من الإيمان والعلم والعمل، فينزلونها على الأحوال الواقعة، فيعتقدون ما احتوت عليه من الأخبار، وينقادون لأوامرها ونواهيها، ويُدخلون فيها جميع ما يشهدون من الحوادث والوقائع الموجودة بهم وبغيرهم، ويحاسبون أنفسهم: هل هم قائمون بها، أو مُخلُّون؟ وكيف الطريق إلى الثبات على الأمور النافعة، وإيجاد ما نقص منها؟ وكيف التخلص من الأمور الضارة؟ فيهتدون بعلومه، ويتخلَّقون بأخلاقه وآدابه، ويعلمون أنه خطاب من عالم الغيب والشهادة، موجَّه إليهم، ومطالبون بمعرفة معانيه، والعمل بما يقتضيه.

فمن سلك هذا الطريق الذي سلكوه، وجدَّ واجتهد في تدبُّر كلام الله،


انفتح له الباب الأعظم في علم التفسير، وقويت معرفته، وازدادت بصيرته، واستغنى بهذه الطريقة عن كثرة التكلُّفات، وعن البحوث الخارجية، وخصوصاً إذا كان قد أخذ من علوم العربية جانباً قوياً، وكان له إلمام واهتمام بسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأحواله مع أوليائه وأعدائه؛ فإن ذلك أكبر عون على هذا المطلب.
(1/5)
ومتى علم العبد أن القرآن فيه تبيان كل شيء، وأنه كفيل بجميع المصالح، مبيِّن لها، حاثّ عليها، زاجر عن المضارِّ كلها، وجعل هذه القاعدة نصب عينيه، ونزَّلها على كل واقع وحادث سابق أو لاحق، ظهر له عظم موقعها وكثرة فوائدها وثمراتها.

ويلتحق بهذه القاعدة:

القاعدة الثانية:

العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.

وهذه قاعدة نافعة جداً، بمراعاتها يحصل للعبد خير كثير، وعلم غزير، وبإهمالها وعدم ملاحظتها يفوته علم كثير، ويقع الغلط والارتباك. وهذا الأصل اتفق عليه المحققون من أهل الأصول وغيرهم، فمتى راعيتَ القاعدة السابقة، وعرفت (1) أن ما قاله المفسِّرون من أسباب النزول إنما هي أمثلة توضح الألفاظ، ليست الألفاظ مقصورة عليها، فقولهم: «نزلت في كذا، وفي كذا»، معناه: أن هذا مما يدخل فيها، ومن جملة ما يُراد بها؛ فإنه ـ كما تقدم ـ إنما أُنزل القرآن لهداية أول الأمة وآخرها، والله تعالى قد أمرنا بالتفكر والتدبُّر لكتابه، فإذا تدبَّرنا الألفاظ العامة، وفهمنا أن معناها يتناول أشياء كثيرة؛ فلأي شيء نخرج بعض هذه المعاني، مع إدخالنا ما هو مثلها

ونظيرها؟

ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا» فأرعها سمعك؛ فإنه إما خير تُؤمر به، وإما شر تُنهى عنه» (2).

__________

(1) - هكذا في الأصل، وصوابه: (عرفت) من غير واو العطف.

(2) - أخرجه ابن المبارك في الزهد (36)، وسعيد بن منصور (50)، وابن أبي حاتم كما نقله عنه ابن كثير في التفسير 2/ 2، والبيهقي في الشعب (1886)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 130، وفي سنده انقطاع.
(1/6)
فمتى مرَّ بك خبر عن الله، وعمَّا يستحقه من الكمال، وما يتنزَّه عنه من النقص، فأَثْبِتْ جميع ذلك المعنى الكامل الذي أثبته لنفسه، ونزِّهه عن كل ما نزَّه نفسه عنه. وكذلك إذا أخبر عن رسله، وكتبه، واليوم الآخر، وعن جميع الأمور السابقة واللاحقة، جزمت جزماً لا شك فيه أنه حق على حقيقته، بل هو أعلى أنواع الحق والصدق {{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}} [النساء: 122] و {{حَدِيثًا}} [النساء: 87].

وإذا أمر بشيء نظرت إلى معناه، وما يدخل فيه وما لا يدخل، وأن ذلك موجه إلى جميع الأمة. وكذلك في النهي؛ ولهذا كانت معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل الخير والفلاح، والجهل بذلك أصل الشر والجفاء. فمراعاة هذه القاعدة أكبر عون على معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، والقرآن قد جمع أجلّ المعاني وأنفعها وأصدقها بأوضح الألفاظ وأحسنها، كما قال تعالى: {{وَلاَ يَاتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *}} [الفرقان: 33] يوضح ذلك ويبينه وينهج طريقه:


القاعدة الثالثة:

الألف واللام الداخلة على الأوصاف، وأسماء الأجناس،

تفيد الاستغراق بحسب ما دخلت عليه.

وقد نص على ذلك أهل الأصول، وأهل العربية، واتفق على اعتبار ذلك أهل العلم والإيمان.

فمثل قوله تعالى: {{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}} إلى قوله: {{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}} [الأحزاب: 35] أدخل في هذه الأوصاف كل ما تناوله من معاني الإسلام، والإيمان، والقنوت، والصدق، إلى آخرها. وأن بكمال هذه الأوصاف يكمل لصاحبها ما رُتِّب عليها من المغفرة والأجر العظيم، وبنقصانها ينقص، وبعدمها يُفقد. وهكذا كل وصف رُتِّب عليه خير وأجر وثواب، وكذلك ما يقابل ذلك: كل وصف نهى الله عنه، ورتب عليه وعلى المتَّصِف به عقوبة، وشراً، ونقصاً، يكون له من ذلك بحسب ما قام به من الوصف المذكور.
(1/7)
وكذلك مثل قوله تعالى: {{إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا *إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا *وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *}}، عام بجنس الإنسان، فكل إنسان هذا وصفه، إلا من استثنى الله بقوله: {إلا المصلين} [المعارج: 19 ـ 22] إلى آخرها.

كما أن قوله: {{وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *}} [العصر: 1 ـ 2] أي: كل إنسان متصف بالخسار {{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}} الآية [العصر: 3] وأمثال ذلك كثير.

وأعظم ما تعتبر به هذه القاعدة: في الأسماء الحسنى؛ فإن في القرآن منها شيء (1) كثير، وهي أجل علوم القرآن، فمثلاً يخبر الله عن نفسه أنه الله، وأنه الملك، والعليم، والحكيم، والعزيز، والرحيم، والقدوس السلام، والحميد المجيد، فـ «الله» هو الذي له جميع معاني الألوهية التي يستحق أن يؤله لأجلها، وهي صفات الكمال كلها، والمحامد كلها، والفضل كله، والإحسان كله، وأنه لا يشارك الله أحد في معنى من معاني الألوهية، لا بشر، ولا ملك، بل هم جميعاً متألِّهون متعبِّدون لربهم خاضعون لجلاله

__________

(1) - هكذا في الأصل، وصوابه: شيئاً كثيراً.


يتبع








 


رد مع اقتباس
قديم 2016-06-21, 15:46   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
المهاجرة 50
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

.

وعظمته. و [أنه] (1) الملك الذي له جميع معاني الملك، وهو الْمُلْك الكامل، والتصرف النافذ، وأن الخلق كلهم مماليك لله، عبيد تحت أحكام ملكه القدرية، والشرعية، والجزائية. وأنه العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي أحاط علمه بالبواطن، والظواهر، والخفيَّات، والجليَّات، والواجبات، والمستحيلات، والجائزات، والأمور السابقة، واللاحقة، والعالَم العلوي، والسفلي، والكليات، والجزئيات، وما يعلم الخلق، وما لا يعلمون. وأنه الحكيم، الذي له الحكمة التامة الشاملة لجيمع ما قضاه، وقدَّره، وخلقه، وجميع ما شرعه، لا يخرج عن حكمته مخلوق، ولا مشروع. وأنه العزيز، الذي له جميع معاني العزة على وجه الكمال التام من كل وجه: عزة القوة، وعزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وأن جميع الخلق في غاية الذل، ونهاية الفقر، ومنتهى الحاجة والضرورة إلى ربهم. وأنه الرحيم، الذي له جميع معاني الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء، ولم يخل مخلوق من إحسانه طرفة عين، ووصلت رحمته حيث وصل علمه {{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}} [غافر: 7]. وأنه القدوس، السلام، المعظَّم، المنزَّه عن كل عيب وآفة ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له ند من خلقه.

وهكذا بقية الأسماء الحسنى اعتبرها بهذه القاعدة الجليلة ينفتح لك باب عظيم من أبواب معرفة الله، بل أصل معرفة الله تعالى معرفة ما تحتوي عليه أسماؤه الحسنى من المعاني العظيمة بحسب ما يقدر عليه العبد، وإلا فلا يبلغ علم أحد من الخلق، ولا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.

ومن ذلك قوله تعالى: {{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] [فالبر] (2) يشمل جميع أنواع

__________

(1) - في الأصل: وأن.

(2) - ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(1/9)
البر والخير. وتشمل التقوى: جميع ما يجب اتقاؤه من أنواع المعاصي والمحرَّمات.

والإثم: اسم جامع لكل ما يؤثِم ويوقع في المعصية، كما أن العدوان اسم جامع يدخل فيه التعدي على الناس في الدماء، والأموال، والأعراض.

والمعروف في القرآن: اسم جامع لكل ما عُرف حسنه شرعاً وعقلاً. وعكسه المنكر.

وقد نبَّه النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته إلى هذه القاعدة، وأرشدهم إلى اعتبارها في قوله في التشهد في الصلاة في قول المصلِّين: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، فقال: «فإنكم إذا قلتم ذلك سلَّمتم على كل عبد صالح من أهل السماء والأرض» (1)، وأمثلتها في القرآن كثيرة جداً.

القاعدة الرابعة:

إذا وقعت النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام،

دلت على العموم.

كقوله تعالى: {{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}} [النساء: 36] فإنه نهى عن الشرك به في النيات، والأقوال، والأفعال، وعن الشرك الأكبر، والأصغر، والخفي، والجلي؛ فلا يجعل العبد لله نداً ومشاركاً في شيء من ذلك.

ونظيرها: {{فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}} [البقرة: 22].

وقوله في وصف يوم القيامة: {{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا}}

[الانفطار: 19] يعم كل نفس، وأنه لا تملك شيئاً من الأشياء، لا إيصال

المنافع، ولا دفع المضار.

وكقوله تعالى: {{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ}} [يونس: 107] فكل ضرٍّ قدَّره الله على العبد ليس في استطاعة أحد من الخلق كشفه بوجه من الوجوه، ونهاية ما يقدر عليه المخلوق من الأسباب والأدوية جزء من أجزاء كثيرة داخلة في قضائه وقدره.

__________

(1) - البخاري في الأذان، باب التشهد في الآخرة. حديث رقم: (831) 2/ 311، ومسلم في الصلاة، باب التشهد في الصلاة، حديث رقم: (402) 1/ 301 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(1/10)
وقوله: {{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}} [فاطر: 2] {{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}} [النحل: 53] يشمل كل خير في العبد ويصيب العبد، وكل نعمة فيها حصول محبوب أو دفع مكروه، فإن الله هو المتفرد بذلك.

وقوله: {{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}} [فاطر: 3].

وإذا دخلت (مِنْ) صارت نصاً في العموم، كهذه الآية: {{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ *}} [الحاقة: 47] {{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}} [الأعراف: 59، 65، 73، 85؛ وهود:50،61،84؛ والمؤمنون:23،32] ولها أمثلة كثيرة جداً.

القاعدة الخامسة:

المفرَد المضاف يفيد العموم، كما يفيد ذلك اسم الجمع.

فكما أن قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ}} إلى آخرها [النساء: 23] يشمل كل أم انْتَسَبْتَ إليها وإن علت، وكل بنت انْتَسَبَتْ إليك وإن نزلت، إلى آخر المذكورات. فكذلك قوله تعالى: {{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ *}} [الضحى: 11] فإنها تشمل النعم الدينية والدنيوية.

{{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}}

[الأنعام: 162] فإنها تعم الصلوات كلها، والأنساك كلها، وجميع ما العبد فيه

وعليه في حياته ومماته، الجميع (1) قد أوقعتَه وأخلصتَه لله وحده لا شريك له.

وقوله: {{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}} [البقرة: 125] على أحد القولين: أنه يشمل جميع مقاماته في مشاعر الحج، اتخذوه معبداً.

__________

(1) - هذه اللفظة مكرَّرة في النسخة الخطية.
(1/11)
وأصرح من هذا قوله تعالى: {{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}} [النحل: 123] وهذا شامل لكل ما هو عليه من التوحيد، والإخلاص لله تعالى، والقيام بحق العبودية.

وأعم من ذلك وأشمل قوله تعالى لما ذكر الأنبياء: {{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}} [الأنعام: 90] فأمره الله أن يقتدي بجميع ما عليه المرسلون من الهدى، الذي هو العلوم النافعة، والأخلاق الزاكية، والأعمال الصالحة، والهدى المستقيم. وهذه الآية أحد الأدلة على الأصل المعروف: «أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه». وشرع الأنبياء السابقين هو هداهم في أصول الدين وفروعه.

وكذلك قوله تعالى: {{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}} [الأنعام: 153] وهذا يعمُّ جميع ما شرعه لعباده فعلاً، وتركاً، اعتقاداً، وانقياداً. وأضافهُ إلى نفسه في هذه الآية لكونه الذي نصبه لعباده، كما أضافه إلى الذين أنعم عليهم في قوله: {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} [الفاتحة: 7] لكونهم هم السالكون له. فصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين: ما اتصفوا به من العلوم، والأخلاق، والأوصاف، والأعمال.

وكذلك قوله: {4 5 6 7 8} [الكهف: 110] يدخل في ذلك جميع العبادات، الظاهرة والباطنة، العبادات الاعتقادية والعملية.


كما أن وصف الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالعبودية المضافة إلى الله {{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}} [الإسراء: 1] {{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}} [البقرة: 23] {{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}} [الفرقان: 1] يدل على أنه وفَّى جميع مقامات العبودية؛ حيث نال أشرف المقامات بتوفيته لجميع مقامات العبوديات.
(1/12)
وقوله: {{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}} [الزمر: 36] فكلما كان العبد أقوم بحقوق العبودية كانت كفاية الله له أكمل وأتم، وما نقص منها نقص من الكفاية بحسبه.

وقوله: {{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ *}} [القمر: 50] {{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}} [النحل: 40] يشمل جميع أوامره القدرية الكونية. وهذا في القرآن شيء كثير.


القاعدة السادسة:

في طريقة القرآن في تقرير التوحيد ونفي ضده.

يكاد القرآن أن يكون كله لتقرير التوحيد، ونفي ضده، وأكثر الآيات يقرر الله فيها توحيد الإلهية وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك (1)، ويخبر أن جميع الرسل تدعو قومها إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأنَّ الله تعالى إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، وأن الكتب والرسل اتفقت على هذا الأصل الذي هو أصل الأصول كلها، وأن من لم يدن بهذا الدين الذي هو إخلاص العمل لله فعمله باطل {{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}} [الزمر: 65] {{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}} [الأنعام: 88]. ويدعو العباد إلى ما تقرر في فطرهم وعقولهم من أن المتفرِّد بالخلق والتدبير، والمتفرِّد بالنعم الظاهرة والباطنة، هو الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وأن سائر الخلق ليس عندهم خلق، ولا نفع، ولا دفع، ولن يغنوا عن أحد من الله شيئاً، ويدعوهم أيضاً إلى هذا الأصل بما يتمدح به ويثني على نفسه الكريمة، من تفرُّده بصفات العظمة، والمجد، والجلال، والكمال، وأن من له هذا الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه مشارك أحق من أخلصت له الأعمال الظاهرة والباطنة، ويقرِّر هذا التوحيد بأنه هو الحاكم وحده، فلا يحكم غيره شرعاً ولا جزاء {{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}} [يوسف: 40].

__________

(1) - هكذا في الأصل. والتقدير: له.
(1/13)
وتارة يقرِّر هذا بذكر محاسن التوحيد، وأنه الدين الوحيد الواجب شرعاً، وعقلاً، وفطرة، على جميع العبيد، ويذكر مساوئ الشرك، وقبحه، واختلال عقول أصحابه بعد اختلال أديانهم، وتقليب أفئدتهم، وكونهم في شك وأمر مريج.

وتارة يدعو إليه بذكر ما رتَّب عليه من الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، والحياة الطيبة في الدور الثلاث، وما رتب على ضده من العقوبات العاجلة والآجلة، وكيف كانت عواقبهم أسوأ العواقب وشرها.

وبالجملة: فكل خير عاجل وآجل فإنه من ثمرات التوحيد، وكل شرٍّ عاجل وآجل، فإنه من ثمرات ضده، والله أعلم.

القاعدة السابعة:

في طريقة القرآن في تقرير نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.

هذا الأصل الكبير قرَّره الله في كتابه بالطرق المتنوعة التي يعرف بها كمال صدقه صلّى الله عليه وسلّم، فأخبر أنه صدَّق المرسلين، ودعا إلى ما دعوا إليه، وأن جميع المحاسن التي في الأنبياء فهي في محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما نُزهوا عنه من النواقص والعيوب فمحمد أولاهم وأحقهم بهذا التنزيه، وأن شريعته مهيمنة على جميع الشرائع، وكتابه مهيمن على كل الكتب، فجميع محاسن الأديان









رد مع اقتباس
قديم 2016-06-21, 15:54   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
المهاجرة 50
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

والكتب قد جمعها هذا الكتاب وهذا الدين، وفاق عليها بمحاسن وأوصاف لم توجد في غيره، وقرَّر نبوته بأنه أمِّي لا يكتب ولا يقرأ، ولا جالس أحداً من أهل العلم بالكتب السابقة، بل لم يُفَاجَأ الناس حتى جاءهم بهذا الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما أتوا، ولا قدروا، ولا هو في استطاعتهم، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وأنه محال مع هذا أن يكون من تلقاء نفسه، أو متقوِّل، أو متوهِّم فيما جاء به. وأعاد في القرآن وأبدى في هذا النوع، وقرَّر ذلك بأنه يخبر بقصص الأنبياء السابقين مطوَّلة على الوجه الواقع الذي لا يستريب فيه أحد، ثم يخبر تعالى أنه ليس له طريق ولا وصول إلى هذا إلا بما آتاه الله من الوحي، كمثل قوله تعالى لما ذكر قصة موسى مطوَّلة: {{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}} [القصص: 46] {{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ}} [القصص: 44] وكما في قوله: {{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}} [آل عمران: 44]. ولما ذكر قصة يوسف وإخوته مطولة قال: {{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}} [يوسف: 102].
فهذه الأمور والإخبارات المفصَّلة التي يفصِّلها تفصيلاً لم يتمكن أهل الكتاب الذين في وقته ولا من بعدهم على (1) تكذيبه فيها ولا معارضته من أكبر الأدلة على أنه رسول الله حقاً.
وتارة يقرِّر نبوته بكمال حكمة الله وتمام قدرته، وأن تأييده لرسوله، ونصره على أعدائه، وتمكينه في الأرض موافق غاية الموافقة لحكمة الله، وأن من قدح في رسالته فقد قدح في حكمة الله، وفي قدرته.
__________
(1) - هكذا في الأصل. ويمكن حمله على وجه يصح، وقد جرى عليه تعديل ـ بغير خط المؤلف ـ مع إضافة تُقدر بخمسة أسطر.
(1/15)
وكذلك نصره وتأييده الباهر على الأمم الذين هم أقوى أهل الأرض من آيات رسالته، وأدلة توحيده، كما هو ظاهر للمتأمِّلين.
وتارة يقرر نبوته ورسالته بما حازه من أوصاف الكمال، وما هو عليه من الأخلاق الجميلة، وأن كل خُلق عال سام فلرسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه أعلاه وأكمله؛ فمن عظمت صفاته وفاقت نعوته جميع الخلق التي أعلاها الصدق (1)، أليس هذا أكبر الأدلة على أنه رسول رب العالمين، والمصطفى المختار من الخلق أجمعين؟.
وتارة يقرِّرها بما هو موجود في كتب الأولين، وبشارات الأنبياء والمرسلين، إما باسمه العلَم، أو بأوصافه الجليلة، وأوصاف أمته، وأوصاف دينه.
وتارة يقرِّر رسالته بما أخبر به من الغيوب الماضية، والغيوب المستقبلة، التي وقعت في زمانه، والتي لا تزال تقع في كل وقت، فلولا الوحي ما وصل إليه شيء من هذا، ولا له ولا لغيره طريق إلى العلم به.
وتارة يقررها بحفظه إياه، وعصمته له من الخلق، مع تكالب الأعداء وضغطهم، وجدهم التام في الإيقاع به بكل ما في وسعهم، والله يعصمه، ويمنعه، وينصره!! وما ذاك إلا لأنه رسوله حقاً، وأمينه على وحيه.
وتارة يقرِّر رسالته بذكر عظمة ما جاء به، وهو القرآن الذي {{لاَ يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *}} [فصلت: 42] وتحدَّى أعداءه ومن كفر به أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة، فعجزوا، ونكصوا، وباؤوا بالخيبة والفشل!! وهذا القرآن أكبر أدلة رسالته، وأجلها، وأعمها.
وتارة يقرر رسالته بما أظهر على يديه من المعجزات، وما أجرى له من الخوارق والكرامات الدالة ـ كل واحد بمفرده منها، فكيف إذا اجتمعت ـ على أنه رسول الله الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
__________
(1) - مكررة في الأصل، وقد جرى عليها تعديل بغير خط المؤلف، وكُتب بدلاً منها: والأمانة.
(1/16)
وتارة يقرِّرها بعظيم شفقته على الخلق، وحنوِّه الكامل على أمته، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وأنه لم يوجد، ولن يوجد، أحد من الخلق أعظم شفقة، وبراً، وإحساناً، إلى الخلق منه، وآثار ذلك ظاهرة للناظرين.
فهذه الأمور والطرق قد أكثر الله من ذكرها في كتابه، وقرَّرها بعبارات متنوعة ومعاني مفصَّلة، وأساليب عجيبة، وأمثلتها تفوق العد والإحصاء، والله أعلم.
القاعدة الثامنة:
طريقة القرآن في تقرير المعاد.
وهذا الأصل الثالث من الأصول التي اتفقت عليها الرسل والشرائع كلها: التوحيد، والرسالة، وأمر المعاد، وحشر العباد.
وهذا قد أكثر الله من ذكره في كتابه، وقرَّره بطرق متنوعة:
منها: إخباره، وهو أصدق القائلين، ومع إكثار الله من ذكره فقد أقسم عليه في ثلاثة مواضع من كتابه.
ومنها: الإخبار بكمال قدرة الله تعالى، ونفوذ مشيئته وأنه لا يعجزه شيء؛ فإعادة العباد بعد موتهم فرد من أفراد آثار قدرته.
ومنها: تذكيره العباد بالنشأة الأولى، وأن الذي أوجدهم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً لا بد أن يعيدهم كما بدأهم. وأعاد هذا المعنى في مواضع كثيرة، بأساليب متنوعة.
ومنها: إحياؤه الأرض الهامدة الميتة بعد موتها، وأن الذي أحياها سيحيي الموتى. وقرر ذلك بقدرته على ما هو أكبر من ذلك وهو خلق السموات والأرض، والمخلوقات العظيمة، فمتى أثبت المنكرون لذلك ـ ولن يقدروا على إنكاره ـ فلأي شيء يستبعدون إحياءه الموتى؟.
وقرر ذلك بسعة علمه، وكمال حكمته، وأنه لا يليق به ولا يحسن أن يترك خلقه سُدى مُهْمَلين، لا يُؤمرون، ولا يُنهون، ولا يُثابون، ولا يعاقبون!! وهذا طريق قرَّر به النبوة وأمر المعاد.
(1/17)
ومما قرَّر به البعث، ومجازاة المحسنين بإحسانهم، والمسيئين بإساءتهم: ما أخبر به من أيامه في الأمم الماضين، والقرون الغابرة، وكيف نجّى الأنبياء وأتباعهم، وأهلك المكذبين لهم، المنكرين للبعث، ونوَّع عليهم العقوبات، وأحل بهم المثُلات، فهذا جزاء معجَّل، ونموذج من جزاء الآخرة أراه الله عباده؛ ليهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيا من حيَّ عن بيِّنة.
ومن ذلك ما أرى الله عباده من إحيائه الأموات في الدنيا، كما ذكره الله عن صاحب البقرة، والألوف من بني إسرائيل، والذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم الخليل والطيور، وإحياء عيسى ابن مريم للأموات، وغيرها مما أراه الله عباده في هذه الدار ليعلموا أنه قوي ذو اقتدار، وأن العباد لا بد أن يَرِدوا دار القرار، إما الجنة أو النار. وهذه المعاني أبداها الله وأعادها في مَحَالّ كثيرة. والله أعلم.
القاعدة التاسعة:
في طريقة القرآن في أمر المؤمنين وخطابهم بالأحكام الشرعية.
قد أمر الله تعالى بالدعاء إلى سبيله بالتي هي أحسن، أي: بأقرب طريق موصل للمقصود، محصل للمطلوب. ولا شك أن الطرق التي سلكها الله في خطاب عباده المؤمنين بالأحكام الشرعية هي أحسنها وأقربها،

فأكثر ما يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر بالوصف الذي مَنَّ عليهم به وهو الإيمان، فيقول: يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا، واتركوا كذا؛ لأن في ذلك دعوة لهم من وجهين:
(1/18)
أحدهما: من جهة الحث على القيام بلوازم الإيمان، وشروطه، ومكملاته، فكأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا قوموا بما يقتضيه إيمانكم، من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والتخلق بكل خُلق حميد، والتجنب لكل خُلق رذيل؛ فإن الإيمان الحقيقي هكذا يقتضي؛ ولهذا أجمع السلف أن الإيمان يزيد وينقص، وأن جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة من الإيمان ولوازمه، كما دلت على هذا الأصل الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة، وهذا أحدها؛ حيث يصدر الله أمر المؤمنين بقوله: «يا أيها الذين آمنوا»، أو يعلق فعل ذلك على الإيمان، وأنه لا يتم الإيمان إلا بذلك المذكور.
والوجه الثاني: أنه يدعوهم بقوله: «يا أيها الذين آمنوا» «افعلوا كذا، أو اتركوا كذا». أو يعلق ذلك بالإيمان، يدعوهم بمنَّته عليهم بهذه المنَّة التي هي أجل المنن، أي: يا من منَّ الله عليهم بالإيمان قوموا بشكر هذه النعمة بفعل كذا وترك كذا.
فالوجه الأول: دعوة لهم أن يتمِّموا إيمانهم ويكملوه بالشرائع الظاهرة والباطنة.
والوجه الثاني: دعوة لهم إلى شكر نعمة الإيمان ببيان تفصيل هذا الشكر، وهو الانقياد التام لأمره ونهيه.
وتارة يدعو المؤمنين إلى الخير، وينهاهم عن الشر، بذكر آثار الخير، وعواقبه الحميدة، العاجلة والآجلة، وبذكر آثار الشر، وعواقبه الوخيمة، في الدنيا والآخرة.
وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر نعمه المتنوعة، وآلائه الجزيلة، وأن النعم تقتضي منهم القيام بشكرها، وشكرها هو القيام بحقوق الإيمان.
وتارة يدعوهم إلى ذلك بالترغيب والترهيب، وبذكر ما أعدَّ الله للمؤمنين الطائعين من الثواب، وما لغيرهم من العقاب.
وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر ما له من الأسماء الحسنى، وما له من الحق العظيم على عباده، وأن حقه عليهم أن يقوموا بعبوديته ظاهراً وباطناً، ويتعبَّدوا له ويدعوه بأسمائه الحسنى، وصفاته المقدَّسة. فالعبادات كلها تعظيم وتكبير لله، وإجلال وإكرام، وتودُّد إليه، وتقرُّب منه.
(1/19)
وتارة يدعوهم إلى ذلك لأجل أن يتَّخذوه وحده وليّاً، وملجأ، وملاذاً، ومعاذاً، ومفزعاً إليه في الأمور كلها، وإنابة إليه في كل حال، ويخبرهم أن هذا هو أصل سعادة العبد وصلاحه وفلاحه، وأنه إن لم يدخل في ولاية الله وتوليه الخاص تولاه عدوه الذي يريد له الشر والشقاء، ويمنِّيه ويغره حتى يُفَوِّته المنافع والمصالح، ويوقعه في المهالك، وهذا كله مبسوط في القرآن بعبارات متنوعة.
وتارة يحثُّهم على ذلك، ويحذرهم من التشبه بأهل الغفلة، والإعراض، والأديان المبدلة؛ لئلا يلحقهم من اللوم ما لحق أولئك الأقوام، كقوله: {{فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}} [يونس: 95] {{فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}} [الأنعام: 52]، {{وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}} [الأعراف: 205] {{أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ *}} [الحديد: 16] إلى غير ذلك من الآيات.
القاعدة العاشرة:
في الطرق التي في القرآن لدعوة الكفار على اختلاف مللهم ونِحلهم.
يدعوهم إلى الدين الإسلامي والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بما يصفه من محاسن شرعه ودينه، وما يذكره من براهين رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ ليهتدي من قصده الحق والإنصاف، وتقوم الحجة على المعاند. وهذه أعظم طريق يُدعى بها جميع المخالفين لدين الإسلام؛ فإن محاسن دين الإسلام، ومحاسن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وآياته، وبراهينه، فيها كفاية تامة للدعوة، بقطع النظر عن إبطال شبههم وما يحتجُّون به، فإن الحق إذا اتضح عُلم أن ما خالفه فهو باطل ضلال.
(1/20)
ويدعوهم بما يخوِّفهم من أَخَذَات الأمم، وعقوبات الدنيا، وعقوبات الآخرة، وبما في الأديان الباطلة من أنواع الشرور، والعواقب الخبيثة، ويحذرهم من طاعة رؤساء الشر، ودعاة النار، وأنهم لا بد أن تتقطع نفوسهم على طاعتهم حسرات، وأنهم يتمنون أن لو أطاعوا الرسول ولم يطيعوا السادة والرؤساء، وأن مودتهم وصداقتهم ستتبدَّل بغضاء وعداوة.
ويدعوهم أيضاً بنحو ما يدعو المؤمنين بذكر آلائه ونعمه، وأن المنفرد بالخلق والتدبير والنعم الظاهرة والباطنة هو الذي يجب على العباد طاعته، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.
ويدعوهم أيضاً بشرح ما في أديانهم الباطلة، وما احتوت عليه من القبح، والمقارنة بينها وبين دين الإسلام؛ ليتبين ويتضح ما يجب إيثاره، وما يتعيَّن اختياره.
ويدعوهم بالتي هي أحسن، فإذا وصلت بهم الحال إلى العناد والمكابرة الظاهرة توعَّدهم بالعقوبات الصوارم، وبيَّن للناس طريقتهم التي كانوا عليها، وأنهم لم يخالفوا الدين جهلاً وضلالاً، أو لقيام شبهة أوجبت لهم التوقف، وإنما ذلك جحود ومكابرة وعناد، ويبين مع ذلك الأسباب التي منعتهم من متابعة الهدى، وأنها رياسات وأغراض نفسية، وأنهم لما آثروا الباطل على الحق طبع على قلوبهم، وختم عليها، وسد عليهم طرق الهدى عقوبة لهم على إعراضهم، وتوليهم للشيطان، وتخلِّيهم من ولاية الرحمن، وأنه ولاهم ما تولوا لأنفسهم، وهذه المعاني الجزيلة مبسوطة في
القرآن في مواضع كثيرة، فتأمَّل وتدبَّر القرآن تجدها واضحة جلية، والله أعلم.
القاعدة الحادية عشر [ة] (1):
كما أن المفسر للقرآن يراعي ما دلت عليه ألفاظه مطابقة،
وما دخل في ضمنها، فعليه أن يراعي لوازم تلك المعاني،
وما تستدعيه من المعاني التي لم يصرح اللفظ بذكرها.
__________
(1) - هكذا في الأصل ـ من غير تاء ـ إلى القاعدة التاسعة عشرة. والصواب: «عشرة». وقد كتبتها على الوجه الصحيح مع وضع التاء بين معقوفين [] في المواضع التي ستأتي.





يتبع









رد مع اقتباس
قديم 2016-06-21, 15:57   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
المهاجرة 50
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

وهذه القاعدة من أجلِّ قواعد التفسير وأنفعها، وتستدعي قوة فكر، وحُسن تدبر، وصحة قصد؛ فإن الذي أنزله هو العالم بكل شيء، الذي أحاط علمه بما تحتوي عليه القلوب، وما تَضَمّنه المعاني، وما يتبعها ويتقدمها وتتوقف هي عليه؛ ولهذا أجمع العلماء على الاستدلال باللازم في كلام الله لهذا السبب.
والطريق إلى سلوك هذا الأصل النافع أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني، فإذا فهمتها فهماً جيداً ففكِّر في الأمور التي تتوقف عليها، ولا تحصل بدونها، وما يشترط لها، وكذلك فكر فيما يترتب عليها، وما يتفرَّع عنها، وينبني عليها، ولا تزال تفكر في هذه الأمور حتى يصير لك ملَكة جيدة في الغوص على المعاني الدقيقة؛ فإن القرآن حق، ولازم الحق حق، وما يتوقف على الحق حق، وما يتفرَّع على الحق حق. فمن وُفِّق لهذه الطريقة، وأعطاه الله توفيقاً ونوراً، انفتحت له العلوم النافعة، والمعارف الجليلة. ولنمثل لهذا الأصل أمثلة توضحه:
منها: في أسمائه الحسنى «الرحمن الرحيم»، فإنها تدل بلفظها على وصفه بالرحمة، وسعة رحمته، فإذا فهمت أن الرحمة التي لا يشبهها رحمة أحد هي وصفه الثابت، وأنه أوصل رحمته إلى كل مخلوق، ولم يَخْلُ أحد من رحمته طرفة عين، عرفت أن هذا الوصف يدل على كمال حياته، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته؛ لتوقُّف الرحمة على ذلك كله، ثم استدللت بسعة رحمته على أن شرعه نور ورحمة؛ ولهذا يعلِّل تعالى كثيراً من الأحكام الشرعية برحمته وإحسانه؛ لأنها من مقتضاه وأثره.
(1/22)
ومنها قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}} [النساء: 58] فإذا فهمت أن الله أمر بأداء الأمانات كلها إلى أهلها استدللت بذلك على وجوب حفظ الأمانات، وعدم إضاعتها والتفريط والتعدي فيها، وأنه لا يتم الأداء لأهلها إلا بذلك. وإذا فهمت أن الله أمر بالحكم بين الناس بالعدل استدللت بذلك على أن كل حاكم بين الناس في الأمور الكبار والصغار لا بد أن يكون عالماً بما يحكم به، فإن كان حاكماً عاماً فلا بد أن يحصِّل من العلم ما يؤهله إلى ذلك، وإن كان حاكماً ببعض الأمور الجزئية كالشقاق بين الزوجين حيث أمر الله أن نبعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها فلا بد أن يكون عارفاً بهذه الأمور التي يريد أن يحكم بها، ويعرف الطريق التي توصله إليها.
وبهذا بعينه نستدل على وجوب طلب العلم، وأنه فرض عين في كل أمر يحتاجه العبد؛ فإن الله أمرنا بأوامر كثيرة، ونهانا عن أمور كثيرة، ومن المعلوم أن امتثال أمره واجتناب نهيه يتوقف على معرفته وعلمه، فكيف يتصور أن يمتثل الجاهل الأمر الذي لا يعرفه، أو يدع الأمر الذي يعرفه؟ (1)
وكذلك أمره لعباده أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، يتوقف ذلك على العلم بالمعروف والمنكر ليأمر بهذا، وينهى عن هذا، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يحصل ترك المنهي عنه إلا به فهو واجب؛ فالعلم بالإيمان والعمل الصالح متقدِّم على القيام به، والعلم بضد ذلك متقدِّم على تركه لاستحالة ترك ما لا يعرفه العبد قصداً وتقرُّباً وتعبُّداً (2).
__________
(1) - كمن نشأ على بدعة يظنها من الدين، أو تعاطى أمراً محرماً يعتقد إباحته!!
(2) - أي أنه لا يمكن أن يتحقق الكف عن المنكر والشر تقرباً إلى الله وتعبداً بتركه إلا بعد العلم بكونه منكراً.
(1/23)
ومن ذلك: الأمر بالجهاد، والحث عليه، من لازم ذلك: الأمر بكل ما لا يتم الجهاد إلا به، من تعلُّم الرمي، والركوب، وعمل آلاته وصناعاته، مع أن ذلك كله داخل دخول مطابقة في قوله تعالى: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] فإنها تتناول كل قوة عقلية، وبدنية، وسياسية، ونحوها.
ومن ذلك: أن الله استشهد بأهل العلم على توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وهذا يدل على عدالتهم، وأنهم حجة من الله تعالى على من كذَّب، بمنزلة آياته وأدلته.
ومن ذلك: سؤال عباد الرحمن ربهم أن يجعلهم للمتقين إماماً يقتضي سؤالهم الله جميع ما تتم الإمامة في الدين به، من علوم، ومعارف جليلة، وأعمال صالحة، وأخلاق فاضلة؛ لأن سؤال العبد لربه شيئاً سؤال له ولما لا يتم إلا به، كما إذا سأل الله الجنة واستعاذ به من النار فإنه يقتضي سؤال كل ما يقرِّب إلى هذه ويبعد من هذه.
ومن ذلك أنه أمر بالصلاح والإصلاح، وأثنى على المصلحين، وأخبر أنه لا يصلح عمل المفسدين، فيستدل بذلك على أن كل أمر فيه صلاح للعباد في أمر دينهم ودنياهم، وكل أمر يعين على ذلك، فإنه داخل في أمر الله وترغيبه، وأن كل فساد وضرر وشر فإنه داخل في نهيه والتحذير عنه، وأنه يجب تحصيل كل ما يعود إلى الصلاح والإصلاح بحسب استطاعة العبد، كما قال شعيب صلّى الله عليه وسلّم: {{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}} [هود: 88].
ومن ذلك قوله تعالى: {{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}} [البقرة: 223] و {{حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}} [الأنفال: 65] يقتضي الأمر بكل ما لا تتم البشارة إلا به، والأمر بكل ما فيه حث وتحريض، وما يتوقف على ذلك ويتبعه من الاستعداد والتمرُّن على أسباب الشجاعة والسعي في القوة المعنوية، من التآلف، واجتماع الكلمة، ونحو ذلك.
(1/24)
ومن ذلك، الأمر بتبليغ الأحكام الشرعية، والتذكير بها وتعليمها، فإن كل أمر يحصل به التبليغ وإيصال الأحكام إلى المكلَّفين يدخل في ذلك، حتى إنه يدخل فيه إذا ثبتت الأحكام الشرعية، ووُجدت أسبابها، وكانت تخفى عادة على أكثر الناس، كثبوت الأهلَّة ـ بالصيام والفطر والحج وغيره ـ إبلاغها بالأصوات، والرمي، وإبلاغها بما هو أبلغ من ذلك كالبرقيات، ونحوها، وكذلك يدخل فيه كل ما أعان على إيصال الأصوات إلى السامعين من الآلات الحادثة، فحدوثها لا يقتضي منعها، فكل أمر ينفع الناس فإن القرآن لا يمنعه، بل يدل عليه لمن أحسن الاستدلال به، وهذا من آيات القرآن، وأكبر براهينه، أنه لا يمكن أن يحدث علم صحيح ينقض شيئاً منه، فإنه يَرِدُ بما تشهد به العقول جملة أو تفصيلاً، أو يرد بما لا تهتدي إليه العقول، وأما وروده بما تحيله العقول الصحيحة، وتمنعه، فهذا محال، والحس والتجربة شاهدان بذلك؛ فإنه مهما توسَّعت الاختراعات، وعظمت الصناعات، وتوسَّعت المعارف الطبيعية، وظهر للناس في هذه الأوقات ما كانوا يجهلونه قبل ذلك، فإن القرآن ـ وللَّه الحمد ـ لا يخبر بإحالته، بل تجد بعض الآيات فيها إجمال أو إشارة تدل عليه. وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في غير هذا الموضع، والله أعلم وأحكم، وبالله التوفيق.
القاعدة الثانية عشر [ة]:
الآيات القرآنية التي ظاهرها التضاد يجب حمل كل نوع منها على حال بحسب ما يليق ويناسب المقام.
وهذا في مواضع متعددة من القرآن:
منها: الإخبار في بعض الآيات أن الكفار لا ينطقون ولا يتكلمون يوم

القيامة، وفي بعضها: أنهم ينطقون، ويحاجون، ويتعذرون، ويعترفون. فحَمْل كلامهم ونطقهم: أنهم في أول الأمر يتكلَّمون ويعتذرون، وقد ينكرون ما هم عليه من الكفر، ويُقسمون على ذلك، ثم إذا خُتم على ألسنتهم، وشهدت عليهم جوارحهم بما كانوا يكسبون، ورأوا أن الكذب غير مفيد لهم، أُخرسوا فلم ينطقوا.
(1/25)
وكذلك الإخبار بأن الله تعالى لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة، مع أنه أثبت الكلام لهم معه، فالنفي واقع على الكلام الذي يسرهم ويجعل لهم نوع اعتبار، وكذلك النظر، والإثبات واقع على الكلام الواقع بين الله وبينهم على وجه التوبيخ لهم والتقريع؛ فالنفي يدل على أن الله ساخط عليهم، غير راض عنهم، والإثبات يوضح أحوالهم، ويبين للعباد كمال عدل الله بهم إذ وضع العقوبة موضعها.
ونظير ذلك أن في بعض الآيات أخبر أنه: {{لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاَ جَآنٌّ}} [الرحمن: 39] وفي بعضها أنه يسألهم: {{أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}} [الشعراء: 92] و {{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}} [القصص: 65] ويسألهم عن أعمالهم كلها، فالسؤال المنفي: هو سؤال الاستعلام والاستفهام عن الأمور المجهولة؛ فإنه لا حاجة إلى سؤالهم مع كمال علم الله، واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم، وجليل أمورهم ودقيقها. والسؤال المثبت واقع على تقريرهم بأعمالهم، وتوبيخهم، وإظهار أن الله حكم فيهم بعدله وحكمته.
ومن ذلك الإخبار في بعض الآيات أنه لا أنساب بين الناس يوم القيامة، وفي بعضها أثبت لهم ذلك؛ فالمثبت: هو الأمر الواقع والنسب الحاصل بين الناس، كقوله: {{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *}} [عبس: 34، 35] إلى آخرها. والمنفي: هو الانتفاع بها؛ فإن كثيراً من الكفار يدَّعون أن أنسابهم تنفعهم يوم القيامة، فأخبر تعالى أنه {{يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ
(1/26)
مَالٌ وَلاَ بَنُونَ *إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ *}} [الشعراء: 88، 89]. ونظير ذلك: الإخبار في بعض الآيات أن النسب نافع يوم القيامة، كما في إلحاق ذرية المؤمنين لآبائهم في الدرجات، وإن لم يبلغوا منزلتهم، وأن الله يجمع لأهل الجنَّات والدرجات العالية من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم؛ فهذا لما اشتركوا في الإيمان وأصل الصلاح زادهم من فضله وكرمه من غير أن ينقص من أجور السابقين لهم شيئاً.
ومن ذلك الشفاعة؛ فإنه أثبتها في مواضع، ونفاها في مواضع من القرآن، وقيَّدها في بعض المواضع بإذنه، ولمن ارتضى من خلقه، فتعيَّن حمل المطلق على المقيد، وأنه حيث نُفيت فهي الشفاعة التي بغير إذنه، ولغير من رضي الله قوله وعمله، وحيث أُثبتت فهي الشفاعة التي بإذنه، لمن رضيه وأذن فيه.
ومن ذلك: أن الله أخبر في آيات كثيرة أنه لا يهدي القوم الكافرين، والفاسقين، والظالمين، ونحوها، وفي بعضها: أنه يهديهم ويوفقهم، فيتعيَّن حمل المنفيَّات على من حقَّت عليه كلمة الله، لقوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ *}} {{وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ}} [يونس: 96، 97] وحمل المثبتات على من لم تحق عليهم الكلمة، وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه.
ومن ذلك: الإخبار في بعض الآيات أنه العلي الأعلى، وأنه فوق عباده، وعلى عرشه، وفي بعضها: أنه مع العباد أينما كانوا، وأنه مع الصابرين، والصادقين، والمحسنين، ونحوهم؛ فَعُلُوُّه تعالى أمر ثابت له، وهو من لوازم ذاته، ودُنُوُّه ومعيَّته لعباده لأنه أقرب إلى كل أحد من حبل الوريد، فهو على عرشه عَلِيٌّ على خلقه، ومع ذلك فهو معهم في كل أحوالهم، ولا منافاة بين الأمرين؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وما يُتوهم بخلاف ذلك فإنه في حق المخلوقين. وأما تخصيص
(1/27)
المعية بالمحسنين ونحوهم فهي معية أخص من المعية العامة؛ فإنها تتضمن محبتهم، وتوفيقهم، وكلاءتهم، وإعانتهم في كل أحوالهم، فحيث وقعت في سياق المدح والثناء فهي من هذا النوع، وحيث وقعت في سياق التحذير والترغيب والترهيب فهي من النوع الأول.
ومن ذلك: النهي في كثير من الآيات عن موالاة الكافرين، وعن مودَّتهم والاتصال بهم، وفي بعضها: الأمر بالإحسان إلى من له حق على الإنسان منهم، ومصاحبته بالمعروف، كالوالدين ونحوهم، فهذه الآيات العامَّات من الطرفين قد وضَّحها الله غاية التوضيح في قوله: {{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *}} {{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ}} الآية [الممتحنة: 8، 9]، فالنهي واقع على التولي والمحبة لأجل الدين، والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان، لأجل القرابة، أو لأجل الإنسانية على وجه لا يخل بدين الإنسان.
ومن ذلك: أنه أخبر في بعض الآيات أن الله خلق الأرض ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن سبع سموات، وفي بعضها: أنه لما أخبر عن خلق السموات أخبر أن الأرض بعد ذلك دحاها، فهذه الآية تفسر المراد، وأن خلق الأرض متقدِّم على خلق السموات، ثم لما خلق الله السموات بعد ذلك دحى الأرض، فأودع فيها جميع مصالحها المحتاج إليها.
ومن ذلك: تارة يخبر أنه بكل شيء عليم، وتارة يخبر بتعلق علمه ببعض أعمال العباد ببعض أحوالهم، وهذا الأخير فيه زيادة معنى، وهو أنه يدل على المجازاة على ذلك العمل، سواء كان خيراً أو شراً، فيتضمن مع إحاطة علمه: الترغيب والترهيب.
ومن ذلك: الأمر بالجهاد في آيات كثيرة، وفي بعض الآيات الأمر
(1/28)
بكف الأيدي والإخلاد إلى السكون، فهذه حين كان المسلمون ليس لهم قوة ولا قدرة على الجهاد باليد، والآيات الأُخر حين قووا وصار ذلك عين المصلحة، وهو الطريق إلى قمع الأعداء.
ومن ذلك: أنه تارة يضيف الأشياء إلى أسبابها التي وقعت وتقع بها، وتارة يضيفها إلى عموم قدره، وأن جميع الأشياء واقعة بإرادته ومشيئته، فيفيد مجموع الأمرين: إثبات التوحيد، وتفرد الباري بوقوع الأشياء بقدرته ومشيئته، وإثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالمحبوب منها، والنهي عن المكروه، وإباحة مستوي الطرفين، فيستفيد المؤمن الجد والاجتهاد في عمل الأسباب النافعة، والنظر وملاحظة فضل الله في كل أحواله، وأن لا يتكل على نفسه في أمر من الأمور، بل يتكل ويستعين بربه.
وقد يخبر أن ما أصاب العبد من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه؛ ليُعَرِّف عباده أن الخير والحسنات والمَحَابّ تقع بمحض فضله وجوده، وإن جرت ببعض الأسباب الواقعة من العباد؛ فإن الأسباب هو الذي أنعم بها، وهو الذي يسَّرها، وأن السيئات ـ وهي المصائب التي تصيب العبد ـ أسبابها من نفس العبد وبتقصيره في حقوق ربه، وتعدِّيه لحدوده، فاللَّه وإن كان هو المقدِّر لها فإنه أجراها على العبد بما كسبت يداه، ولهذا أمثلة يطول عدُّها.

القاعدة الثالثة عشر [ة]:
طريقة القرآن في الحِجَاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلة.
قد أمر الله بالمجادلة بالتي هي أحسن، ومن تأمل الطرق التي نصب الله المحاجَّة بها مع المبطلين على أيدي رسله رآها من أوضح الحجج، وأقواها، وأقومها، وأدلها على إحقاق الحق، وإزهاق الباطل، على وجه لا تشويش فيه، ولا إزعاج، فتأمل محاجة الرسل مع أممهم، وكيف دعوهم
(1/29)
إلى عبادة الله وحده لا شريك له، من جهة أنه المتفرد بالربوبية، والمتوحِّد بالنعم، وهو الذي أعطاهم العافية، والأسماع، والأبصار، والعقول، والأرزاق، وسائر أصناف النعم، كما أنه المنفرد بدفع النقم، وإن أحداً من الخلق ليس عنده نفع ولا دفع، ولا ضر ولا نفع؛ فإنه بمجرد معرفة العبد بذلك، واعترافه به، لا بد أن ينقاد للدين الحق الذي به تتم النعمة، وهو الطريق الوحيد لشكرها، وكثيراً ما يحتج على المشركين به في عبادته بإلزامهم باعترافهم بربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء، والرازق لكل شيء، فيتعين أنه المعبود وحده؛ فانظر إلى هذا البرهان كيف ينتقل الذهن منه بأول وهلة إلى وجوب عبادة من هذا شأنه، ووجوب الإخلاص له. ويجادل المبطلين أيضاً بذكر عَيْب آلهتهم، وأنها ناقصة من كل وجه، لا تغني عن أهلها شيئاً. ويقيم الأدلة على أهل الكتاب بأنهم لهم من سوابق المخالفات لرسلهم ما لا يُستغرب معه مخالفتهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وينقض عليهم دعاويهم الباطلة، وتزكيتهم لأنفسهم، ببيان ما يضاد ذلك من أحوالهم، وأوصافهم، ويجادلهم بتوضيح الحق وبيان براهينه، وأن صدقه وحقِّيته تدفع بمجردها جميع الشبه المعارضة له {{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}} [يونس: 32].
وهذا الأصل في القرآن كثير؛ فإنه يفيد الدعوة للحق، ورد كل ما ينافيه. ويجادلهم بوجوب تنزيل الأمور منازلها، وأنه لا يليق أن يجعل للمخلوق العبد الفقير العاجز من كل وجه بعض حقوق الرب الخالق الغني الكامل من جميع الوجوه. ويتحدَّاهم أن يأتوا بكتاب أو شريعة أهدى وأحسن من هذه الشريعة، وأن يعارضوا القرآن فيأتوا بمثله إن كانوا صادقين، ويأمر نبيه بمباهلة من ظهرت مكابرته وعناده، فينكصون عنها؛ لعلمهم أنه رسول الله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وأنهم لو باهَلوه لهلكوا.


يتبع









رد مع اقتباس
قديم 2016-06-21, 16:02   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
المهاجرة 50
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

وفي الجملة لا تجد طريقاً نافعاً فيه إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإلا وقد احتوى عليه القرآن على أكمل الوجوه.
القاعدة الرابعة عشر [ة]:
حذف المُتَعَلَّق ـ المعمول فيه ـ يفيد تعميم المعنى المناسب له.
وهذه قاعدة مفيدة جداً، متى اعتبرها الإنسان في الآيات القرآنية أكسبته فوائد جليلة، وذلك أن الفعل، أو ما هو في معناه، متى قُيِّدَ بشيء تقيَّد به، فإذا أطلقه الله تعالى، وحذف المُتَعَلَّق فعمم ذلك المعنى، ويكون الحذف هنا أحسن وأفيد كثيراً من التصريح بالمُتَعَلَّقَات، وأجمع للمعاني النافعة؛ ولذلك أمثلة كثيرة جداً:
منها: أنه قال في عدة آيات {لَعَلَّكُمْ تعقلون} [النور: 61] {{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}} [الأنعام: 152] {{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}} [البقرة: 21] فيدل ذلك على أن المراد: لعلكم تعقلون عن الله كل ما أرشدكم إليه، وكل ما علَّمكموه، وكل ما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة، لعلكم تذكرون جميع مصالحكم الدينية والدنيوية، لعلكم تتقون جميع ما يجب اتقاؤه من جميع الذنوب والمعاصي.
ويدخل في ذلك ما كان السياق فيه وهو فرد من أفراد هذا المعنى العام؛ ولهذا كان قوله تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *}} [البقرة: 183] يفيد كل ما قيل في حكمة الصيام، أي: لعلكم تتقون المحارم عموماً، ولعلكم تتقون ما حرم على الصائمين من المفطرات والممنوعات، ولعلكم تتصفون بصفة التقوى وتتخلَّقون بأخلاقها، وهكذا سائر ما ذكر فيه هذا اللفظ، مثل قوله: {{هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}} [البقرة: 1] أي المتقين لكل ما يُتَّقى من الكفر والفسوق والعصيان، أي: المؤدِّين للفرائض والنوافل التي هي خصال التقوى، وكذلك
(1/31)
قوله: {{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *}} [الأعراف: 201] أي: إن الذين كانت التقوى وصفهم، وترك المحارم شعارهم، متى زين لهم الشيطان بعض الذنوب تذكروا كل أمر يوجب لهم المبادرة إلى المتاب، كعظمة الله، وما يقتضيه الإيمان، وما توجبه التقوى، وتذكروا عقابه ونكاله، وتذكروا ما تحدثه الذنوب من العيوب والنقائص، وما تسلبه من الكمالات {{فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}} من أين أُتوا، ومبصرون الوجه الذي فيه التخلص من هذا الذنب الذي وقعوا فيه، فبادروا في التوبة النصوح، فعادوا إلى مرتبتهم، وعاد الشيطان خاسئاً مدحوراً.
وكذلك ما ذكره على وجه الإطلاق عن المؤمنين، بلفظ «المؤمنين»، أو بلفظ: «إن الذين آمنوا» ونحوها، فإنه يدخل فيه جميع ما يجب الإيمان به من الأصول والعقائد، مع أنه قيد ذلك في بعض الآيات، مثل قوله: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}} الآية [البقرة: 136]، ونحوها.
وكذلك ما أمر به من الصلاح والإصلاح، وما نهى عنه من الفساد والإفساد مطلقاً، يدخل فيه كل صلاح، كما يدخل في النهي كل فساد.
وكذلك قوله: {{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [البقرة: 195] {{وَأَحْسِنُوا}} [البقرة: 195] {{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى}} [يونس: 26] {{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ *}} [الرحمن: 60] يدخل في ذلك كله: الإحسان في عبادة الخالق بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى المخلوقين بجميع وجوه الإحسان، من قول، وفعل، وجاه، وعلم، ومال، وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: {{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *}} [التكاثر: 1] فحذف المُتَكَاثَر به ليعمَّ جميع ما يقصد الناس فيه المكاثرة من الرياسات، والأموال، والجاه، والضيعات، والأولاد، وغيرها مما تتعلق به أغراض النفوس، ويلهيها عن طاعة الله.
(1/32)
وكذلك قوله {{وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *}} [العصر: 1، 2] أي في خسارة من جميع الوجوه، إلا من اتصف بالإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والصبر.
وقوله: {{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}} [النحل: 43] فذكر المسؤولين، وأطلق المسؤل عنه؛ ليعم كل ما يحتاجه العبد ولا يعلمه.
وكذلك أمره تعالى بالصبر، ومحبة الصابرين، وثناؤه عليهم، وبيان كثرة أجرهم، من غير أن يقيد ذلك بنوع؛ ليشمل أنواع الصبر الثلاثة: وهي الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة. ومقابل ذلك: ذمه للكافرين، والظالمين، والفاسقين، والمشركين، والمنافقين، والمعتدين، ونحوهم، من غير أن يقيده بشيء؛ ليشمل جميع ذلك المعنى.
ومن هذا قوله: {{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}} [البقرة: 196] ليشمل كل حصر.
{{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}} [البقرة: 239] ليعم كل خوف.
وقد يقيد ذلك ببعض الأمور فيتقيد به ما سبق الكلام لأجله، وهذا شيء كثير لو ذهبنا نذكر الأمثلة لطالت، ولكن قد فتح لك الباب فامشِ على هذا السبيل المفضي إلى رياض بهيجة من أصناف العلوم.
القاعدة الخامسة عشر [ة]:
جعل الله الأسباب للمطالب العالية مبشِّرات لتطمين القلوب وزيادة الإيمان.
وهذا في عدة مواضع من كتابه، فمن ذلك:
النصر، قال في إنزاله الملائكة: {{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}} [الأنفال: 10].
وقال في أسباب الرزق ونزول المطر: {{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}} [الروم: 46].
وأعمُّ من ذلك كله قوله: {{أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
(1/33)
الآخِرَةِ}} [يونس: 62 ـ 64] وهي كل دليل وعلامة تدلهم على أن الله قد أراد بهم الخير، وأنهم من أوليائه وصفوته، فيدخل فيه الثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، ويدخل فيه ما يشاهدونه من اللطف، والتوفيق، والتيسير لليسرى، وتجنيبهم العُسرى.
ومن ذلك، بل من ألطف ذلك: أنه يجعل الشِّدَّات مبشِّرة بالفرج، والعُسر مؤذناً باليُسر، وإذا تأملت ما قصَّه عن أنبيائه وأصفيائه، وكيف لما اشتدت بهم الحال، وضاقت بهم الأرض بما رحبت {{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}} [البقرة: 214] رأيت من ذلك العجب العُجاب. وقال تعالى: {{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *} {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *}} [الشرح: 5، 6] {{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}} [الطلاق: 7]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً» (1)، وأمثلة ذلك كثيرة، والله أعلم.
القاعدة السادسة عشر [ة]:
حذف جواب الشرط يدل على تعظيم الأمر وشدته في مقامات الوعيد.
__________
(1) - أخرجه أحمد 1/ 307، وعبد بن حميد (المنتخب 1/ 546 ـ 547)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 137 ـ 139) وصححه الألباني، والبيهقي في الشعب (1043)، وفي الأسماء والصفات ص97، وفي الاعتقاد ص58 ـ 59، والطبراني في الكبير (11243)، والحاكم 3/ 541 ـ 542، وابن عدي في الكامل 7/ 2524 ـ 2525، والعقيلي في الضعفاء 3/ 397 ـ 398، وأبو نعيم في الحلية 1/ 314، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/ 614، وذكره الهيثمي في المجمع 7/ 189 ـ 190. وهو قطعة من الحديث المشهور في وصية النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس رضي الله عنهما (كما في بعض روايات الحديث).
(1/34)
وذلك كقوله: {{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}} [السجدة: 12] {{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}} [البقرة: 165] {{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}} [الأنعام: 30] {{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}} [الأنعام: 27] فَحَذْف الجواب في هذه الآيات وشبهها أولى من ذكره؛ ليدل على عظمة ذلك المقام، وأنه
لهوله، وشدته، وفظاعته، لا يعبر عنه، ولا يدرك بالوصف. ومثل قوله تعالى: {{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *}} [التكاثر: 5] أي: لَمَا أقمتم على ما أنتم عليه من التفريط، والغفلة، واللهو.

القاعدة السابعة عشر [ة]:
بعض الأسماء الواردة في القرآن الكريم إذا أُفرد
دلَّ على المعنى العام المناسب له، وإذا قُرن مع غيره
دلَّ على بعض المعنى، ودلَّ ما قُرن معه على باقيه.
ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة:
منها: «الإيمان» أُفرد وحده في آيات كثيرة، وقُرن مع العمل الصالح في آيات كثيرة، فالآيات التي أُفرد فيها يدخل فيه جميع عقائد الدين، وشرائعه الظاهرة والباطنة؛ ولهذا يرتب الله عليه حصول الثواب، والنجاة من العقاب، ولولا دخول المذكورات ما حصلت آثاره، وهو عند السلف: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. والآيات التي قُرن الإيمان فيها للعمل (1) الصالح كقوله: {{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}} [البقرة: 277] يُفَسَّر الإيمان فيها: بما في القلوب من المعارف، والتصديق، والاعتقاد، والإنابة. والعمل الصالح: بجميع الشرائع القولية والفعلية.
__________
(1) - هكذا في الأصل. والصواب: بالعمل.
(1/35)
وكذلك لفظ «البر» و «التقوى»، فحيث أُفرد البر دخل فيه امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك إذا أُفردت التقوى؛ ولهذا يرتب الله على البر وعلى التقوى عند الإطلاق الثواب المطلق، والنجاة المطلقة، كما يرتبه على الإيمان. وتارة يفسر أعمال البر بما يتناول أفعال الخير، وترك المعاصي. وكذلك في بعض الآيات تفسير خصال التقوى، كما في قوله: {{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *} {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}} [آل عمران: 133، 134] إلى آخر ما ذكره من الأوصاف التي تتم بها التقوى. وإذا جمع بين البر والتقوى مثل قوله تعالى: {{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى}} [المائدة: 2] كان البر اسماً جامعاً لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأفعال، الظاهرة والباطنة. وكانت التقوى اسماً جامعاً يتناول ترك جميع المحرمات.
وكذلك لفظ «الإثم» و «العدوان»، إذا قُرنت فُسر الإثم: بالمعاصي التي بين العبد وبين ربه. والعدوان: بالتجري على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم. وإذا أُفرد الإثم دخل فيه كل المعاصي التي تُؤثِّم صاحبها، سواء كانت بينه وبين ربه، أو بينه وبين الخلق. وكذلك إذا أُفرد العدوان.
وكذلك لفظ «العبادة» و «التوكل» ولفظ «العبادة» و «الاستعانة» إذا أُفردت العبادة في القرآن تناولت جميع ما يحبه الله ويرضاه ظاهراً وباطناً، ومن أول ما يدخل فيها: التوكل، والاستعانة، وإذا جُمع بينها وبين التوكل والاستعانة نحو: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} [الفاتحة: 5] {{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}} [هود: 123] فُسرت العبادة بجميع المأمورات الباطنة والظاهرة، وفُسر التوكل باعتماد القلب على الله في حصولها، وحصول جميع المنافع، ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في حصولها.



يتبع









رد مع اقتباس
قديم 2016-06-21, 16:05   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
المهاجرة 50
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

وكذلك «الفقير» و «المسكين» إذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر كما في أكثر الآيات، وإذا جُمع بينهما كما في آية الصدقات: {{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}} [التوبة: 60] فُسر الفقير بمن اشتدت حاجته، وكان لا يجد شيئاً، أو يجد شيئاً لا يقع منه موقعاً. وفُسر المسكين بمن حاجته دون ذلك.
ومثل ذلك الألفاظ الدالة على تلاوة الكتاب، والتمسُّك به، وهو: اتباعه، يشمل ذلك: القيام بالدين كله، فإذا قُرنت معه الصلاة كما في

قوله تعالى: {{اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ}} [العنكبوت: 45] وقوله: {{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ}} [الأعراف: 170] كان ذكر الصلاة تعظيماً لها، وتأكيداً لشأنها، وحثاً عليها، وإلا فهي داخلة بالاسم العام، وهو التلاوة، والتمسك به، وما أشبه ذلك من الأسماء.
القاعدة الثامنة عشر [ة]:
في كثير من الآيات يخبر بأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.
وفي بعضها يذكر مع ذلك الأسباب المتعلقة بالعبد، الموجبة للهداية،
أو الموجبة للإضلال، وكذلك حصول المغفرة وضدها،
وبسط الرزق وتقديره.
وذلك في آيات كثيرة، فحيث أخبر أنه (1) يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويبسط الرزق لمن يشاء، ويقتره على من يشاء، دل ذلك على كمال توحيده، وانفراده بخلق الأشياء، وتدبير جميع الأمور، وأن خزائن الأشياء بيده، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، فيقتضي مع ذلك من العباد أن يعترفوا بذلك، وأن يعلِّقوا أملهم ورجاءهم به في حصول ما يحبون منها، وفي دفع ما يكرهون، وأن لا يسألوا أحداً غيره، كما في الحديث القدسي: (يا عبادي: كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم) (2)، إلى آخره.
__________
(1) - قوله: «أنه» مكرر في الأصل.
(2) - رواه مسلم في البر والصلة، باب تحريم الظلم. حديث رقم: (2577) 4/ 1994 من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(1/37)
وفي بعض الآيات يذكر فيها أسباب ذلك؛ ليعرف العباد الأسباب والطرق المفضية إليها، فيسلكوا النافع، ويدعوا الضار، كقوله تعالى: {{فَأَمَّا

مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *}} [الليل: 5 ـ 10] فبيَّن أن أسباب الهداية والتيسير: تصديق العبد لربه، وانقياده لأمره، وأن أسباب الضلال والتعسير ضد ذلك. وكذلك قوله تعالى: {{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}} [المائدة: 16] وقوله: {{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}} [البقرة: 26] {{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}} [الأعراف: 30] فأخبر أن الله يهدي من كان قصده حسناً، ومن رغب في الخير واتبع رضوان الله، وأنه يضل من فسق عن طاعة الله تعالى وتولى أعداءه الشياطين، ورضي بولايتهم عن ولاية رب العالمين. وكذلك قوله {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}} [الصف: 5] وقوله: {{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}} [الأنعام: 110].
(1/38)
وكذلك يذكر في بعض الآيات الأسباب التي تُنال بها المغفرة والرحمة ويُستحق بها العذاب، كقوله: {{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى *}} [طه: 82] {{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ}} [الأعراف: 156، 157] {{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}} [الأعراف: 56] {{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *}} [آل عمران: 133]. ثم ذكر الأسباب التي تنال بها المغفرة والرحمة، وهي خصال التقوى المذكورة في هذه الآية وغيرها: {{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ}} [البقرة: 218] {{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *}} [الأعراف: 204] وأعمُّ من ذلك كله قوله تعالى: {{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *}} [آل عمران: 132] فطريق
الرحمة والمغفرة سلوك طاعة الله ورسوله عموماً، وهذه الأسباب المذكورة خصوصاً.
وأخبر أن العذاب له أسباب متعددة، وكلها راجعة إلى شيئين: التكذيب لله ورسوله، والتولي عن طاعة الله ورسوله، كقوله تعالى: {{لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى *الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى *وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *}} [الليل: 15 ـ 18] {{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى *}} [طه: 48].
(1/39)
وكذلك يذكر أسباب الرزق، وأنه لزوم طاعة الله ورسوله، والسعي الجميل مع لزوم التقوى، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] وانتظار الفرج والرزق، كقوله: {{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}} [الطلاق: 7] وكثرة الذكر والاستغفار: {{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}} [هود: 3] {{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *}} الآية [نوح: 10 ـ 11]. فأخبر أن الاستغفار سبب يُستَجلَبُ به مغفرة الله، ورزقه، وخيره، وضد ذلك سبب للفقر والتيسير للعسرى. وأمثلة هذه القاعدة كثيرة قد عرفت طريقها فالزمه.
القاعدة التاسعة عشر [ة]:
خَتْمُ الآيات بأسماء الله الحسنى يدل على أن الحكم المذكور
له تعلق بذلك الاسم الكريم.
وهذه قاعدة لطيفة نافعة، عليك بتتبعها في جميع الآيات المختومة بها تجدها في غاية المناسبة، وتدلك على أن الشرع والأمر والخلق كله صادر عن أسمائه وصفاته، ومرتبط بها.
وهذا باب عظيم من معرفة الله، ومعرفة أحكامه، من أَجَلّ المعارف
(1/40)
وأشرف العلوم، تجد آية الرحمة مختومة بأسماء الرحمة، وآيات العقوبة والعذاب مختومة بأسماء العزة، والقدرة، والحكمة، والعلم، والقهر. ولا بأس هنا أن نتتبع الآيات الكريمة في هذا، ونشير إلى مناسبتها بحسب ما وصل إليه علمنا القاصر، وعبارتنا الضعيفة، ولو طالت الأمثلة هنا؛ لأنها من أهم المهمات، ولا تكاد تجدها في كتب التفسير إلا يسيراً منها، فقوله تعالى في قوله: {{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ}} [البقرة: 29] ذِكْرُ إحاطة علمه بعد ذِكْر خلقه للأرض والسموات يدل على إحاطة علمه بما فيها من العوالم العظيمة، وأنه حكيم حيث وضعها لعباده، وأحكم صنعها في أحسن خلق وأكمل نظام، وأن خلقه لها من أدلة علمه، كما قال في الآية الأخرى: {{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *}} [الملك: 14] فخلقه للمخلوقات من أكبر الأدلة العقلية على علمه، فكيف يخلقها وهو لا يعلمها؟
ولما ذكر كلام الملائكة حين أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة، ومراجعتهم لربهم في ذلك، فلما خلق آدم، وعلَّمه أسماء كل شيء، وعجزت الملائكة عنها، وأنبأهم آدم بها {{قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *}} [البقرة: 32] فاعترفوا لله تعالى بسعة العلم، وكمال الحكمة، وأنهم مخطئون في مراجعتهم في استخلافه في الأرض. وفي هذا أن الملائكة على عظمتهم، وسعة معارفهم بربهم، اعترفوا بأن علومهم تضمحل عند علم ربهم، وأنه لا علم لهم إلا منه، فخَتْم هذه الآيات بهذين الاسمين الكريمين ـ الدالين على علم الله بآدم، وتمام حكمته في خلقه، وما يترتب على ذلك من المصالح المتنوعة ـ من أحسن المناسبات.
وأما قوله عن آدم: {{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*}} [البقرة:37] وخَتْمُه كثيراً من الآيات بهذين الاسمين بعد ذكر
(1/41)
رحمته، ومغفرته، وتوفيقه، وحلمه، فمناسبته جلية لكل أحد، وأنه لما كان هو التواب الرحيم أقبل بقلوب التائبين إليه، ووفَّقهم لفعل الأسباب التي يتوب عليهم ويرحمهم بها، ثم غفر لهم ورحمهم فتاب عليهم أولاً بتوفيقهم للتوبة والأسباب، وتاب عليهم ثانياً حين قبل مَتَابَهُم، وأجاب سؤالهم؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: {{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}} [التوبة: 118] أي: أقبل بقلوبهم؛ فإنه لولا توفيقه وصَرْف قلوبهم إلى ذلك لم يكن لهم سبيل إلى ذلك حين استولت عليهم النفس الأمارة؛ فإنها لا تأمر إلا بالسوء إلا من رحم الله فأعاذه منها ومن نزغات الشيطان.
ولما ذكر الله النسخ أخبر عن كمال قدرته وتفرده بالملك فقال: {{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}} [البقرة: 106، 107] وفي هذا رد على من أنكر النسخ كاليهود، وأن نسخه لما ينسخه من آثار قدرته وتمام ملكه؛ فإنه تعالى يتصرَّف في عباده، ويحكم بينهم في أحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، فلا حَجْر عليه في شيء من ذلك.
ولما قال: {{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *}} [البقرة: 115] أي: واسع الفضل، واسع الملك، جميع العالم العلوي والسفلي داخل في ملكه، ومع سعته في ملكه وفضله فهو محيط علمه بذلك كله، ومحيط علمه في الأمور الماضية والمستقبلة، ومحيط علمه بما في التوجه إلى القِبل المتنوعة من الحكمة، ومحيط علمه بنيَّات المستقبلين لجهة من الجهات إذا أخطؤوا القبلة المعنية، فحيث تيمَّم المصلي تيمَّم إلى وجه ربه.
(1/42)
وأما قول الخليل وإسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان القواعد من البيت: {{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}} [البقرة: 127] فإنه توسل إلى الله بهذين الاسمين إلى قبول هذا العمل الجليل؛ حيث كان الله يعلم

نياتهما ومقاصدهما، ويسمع كلامهما، ويجيب دعاءهما؛ فإنه يُراد بالسميع في مقام الدعاء ـ دعاء العبادة، ودعاء المسألة ـ معنى المستجيب، كما قال الخليل في الآية الأخرى: {{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}} [إبراهيم: 39].
وأما خَتْم قوله: {{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}} [البقرة: 129] بقوله: {{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}} [البقرة: 129] أي: فكما أن بعثتك لهذا الرسول فيه الرحمة السابغة، ففيه تمام عزة الله، وكمال حكمته، فإنه ليس من حكمته أن يترك الخلق سُداً ـ عبثاً ـ لا يرسل إليهم رسولاً، فحقق الله حكمته ببعثته لئلا يكون للناس على الله حجة. والأمور كلها ـ قدرِيُّها وشرعيُّها ـ لا تقوم إلا بعزة الله ونفوذ حكمه.
وقد يكتفي الله بذكر أسمائه الحسنى عن التصريح بذكر أحكامها، وجزائها؛ لينبه عباده أنهم إذا عرفوا الله بذلك الاسم العظيم عرفوا ما يترتب عليه من الأحكام، مثل قوله تعالى: {{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}} [البقرة: 209] لم يقل: فلكم من العقوبة كذا، بل قال: {{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}} [البقرة: 209] أي: فإذا عرفتم عزته (وهو قهره، وغلبته، وقوته، وامتناعه)، وعرفتم حكمته (وهو وضعه الأشياء مواضعها، وتنزيلها مَحَالّها)، أوجب لكم الخوف من البقاء على ذنوبكم وزللكم؛ لأن من حكمته معاقبة من يستحق العقوبة ـ وهو المصرُّ على الذنب مع علمه ـ وأنه ليس لكم امتناع عليه، ولا خروج عن حكمه وجزائه؛ لكمال قهره وعزته.


يتبع









رد مع اقتباس
قديم 2016-06-21, 16:09   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
المهاجرة 50
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

وكذلك لما قال: {{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}} [المائدة: 34] لم يقل: فاعفوا عنهم. أو: اتركوهم، ونحوها. بل قال: {{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [المائدة: 34] يعني: فإذا عرفتم ذلك وعلمتموه عرفتم أن من تاب وأناب فإن الله يغفر له ويرحمه فيدفع عنه العقوبة.
ولما ذكر عقوبة السارق قال في آخرها: {{نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}} [المائدة: 38] أي: عَزَّ وحكم فقطع يد السارق، وعَزَّ وحكم فعاقب المعتدين شرعاً، وقدراً، وجزاء.
ولما ذكر الله مواريث الورثة وقَدَّرها قال: {{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}} [النساء: 11] فكونه عليماً حكيماً يعلم ما لا يعلم العباد، ويضع الأشياء مواضعها، فاخضعوا لما قاله وفَصَّله في توزيع الأموال على مستحقيها، الذين يستحقونها بحسب علم الله وحكمته، فلو وُكِل العباد إلى أنفسهم، وقيل لهم: وزِّعوه أنتم بحسب اجتهادكم؛ لدخلها الجهل والهوى، وعدم الحكمة، وصارت المواريث فوضى، وحصل في ذلك من الضرر ما الله به عليم، ولكن تولاها وقسمها بأحكم قسمة وأوفقها للأحوال، وأقربها للنفع؛ ولهذا من قدح في شيء من أحكامه، أو قال: لو كان كذا، أو كذا، فهو قادح في علم الله، وفي حكمته؛ ولهذا يذكر الله العلم والحكمة بعد ذكر الأحكام، كما يذكرها في آيات الوعيد؛ ليبيِّن للعباد أن الشرع والجزاء مربوط بحكمته، غير خارج عن علمه، ويختم الأدعية بأسماء تناسب المطلوب، وهذا من الدعاء بالأسماء الحسنى: {{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}} [الأعراف: 180] أي: تعبدوا لله بها، واطلبوه بكل اسم مناسب لمطلوبكم.
(1/44)
وقوله تعالى: {{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ *}} [الحج: 59]، والآيات المتتابعة التي بعدها، كل واحدة خُتمت باسمين كريمين، فالأولى منها هذه، خَتْمُها بالعلم والحلم يقتضي علمه بنيَّاتهم الجميلة، وأعمالهم الجليلة، ومقاماتهم الشامخة، فيجازيهم على ذلك بالفضل العظيم، ويعفو ويحلم عن سيئاتهم، فكأنهم ما فعلوها.
وخَتَم الثانية بالعفوِّ الغفور؛ فإنه أباح المعاقبة بالمثل، وندب إلى مقام الفضل ـ وهو العفو وعدم معاقبة المسيء ـ وأنه ينبغي لكم أن تَعَبَّدُوا لله بالاتصاف بهذين الوصفين الجليلين؛ لتنالوا عفوه ومغفرته.
وخَتْمُ الآية الثالثة بالسميع البصير، يقتضي سمعه لجميع أصوات ما سكن في الليل والنهار، وبصره بحركاتهم على اختلاف الأوقات، وتباين الحالات.
وخَتْمُ الآية الرابعة بالعلي الكبير؛ لأن علوَّه المطلق، وكبرياءه، وعظمته، ومجده، تضمحل معها المخلوقات، ويبطل معها كل ما عُبد من دونه، وبإثبات كمال علوه، وكبريائه، يتعين أنه هو الحق، وما سواه باطل.
وخَتَمَ الآية الخامسة باللطيف الخبير، الدالين على سعة علمه وخبرته بالبواطن كالظواهر، وبما تحتوي عليه الأرض من أصناف البذور، وألوان النباتات، وأنه لطف بعباده حيث أخرج لهم أصناف الأرزاق بما أنزله من الماء النمير والخير الغزير.
وخَتَمَ الآية السادسة بالغني الحميد بعد ما ذَكَر مُلكه للسموات والأرض، وما فيهما من المخلوقات، وأنه لم يخلقها حاجة منه لها؛ فإنه الغني المطلق، ولا ليتكمَّل بها؛ فإنه الحميد الكامل؛ وليدلهم على أنهم كلهم فقراء إليه من جميع الوجوه، وأنه حميد في أقداره، حميد في شرعه، حميد في جزائه، فله الحمد المطلق ذاتاً، وصفاتاً (1)، وأفعالاً.
__________
(1) - هكذا في الأصل، وصوابه: صفاتٍ.
(1/45)
وخَتْمُ الآية السابعة بالرؤوف الرحيم، أي: من رأفته، ورحمته، تسخيره المخلوقات لبني آدم، وحفظ السماوات والأرض، وإبقاؤها لئلا تزول فتختل مصالحهم، ومن رحمته سخر لهم البحار؛ لتجري في منافعهم، ومصالحهم، فرحمهم حيث خلق لهم المسكن، وأودع فيه كل ما يحتاجونه، وحفظه عليهم، وأبقاه.
ولما ذكر في سورة الشعراء قصص الأنبياء مع أممهم ختم كل قصة

بقوله: {{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ *}} [الشعراء: 9، 68، 104، 122، 140، 159، 175، 191] فإن كل قصة تضمَّنت نجاة النبي وأتباعه، وذلك برحمة الله ولطفه، وإهلاك المكذبين له، وذلك من آثار عزته، وقد يتعلق مقتضى الاسمين بكل من الحالتين؛ فإنه نجَّى الرسول وأتباعه بكمال قوته، وعزته، ورحمته، وأهلك المكذبين بعزته، وحكمته. ويكون ذكر الرحمة يقتضي عظم جرمهم، وأنه لولا أن جرمهم تعاظم، وسدوا على أنفسهم أبواب الرحمة، ولم يكن لهم طريق إليها، لما أحل بهم العقاب.
وأما قول عيسى عليه السلام: {{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}} [المائدة: 118] ولم يقل: أنت الغفور الرحيم. فإن المقام ليس مقام استعطاف واسترحام، وإنما هو مقام غضب وانتقام ممن اتخذه إلهاً مع الله، فناسب ذكر العزة والحكمة، وصار أولى من ذكر الرحمة.
(1/46)
ومن ألطف مقامات الرجاء: أنه يذكر أسباب الرحمة، وأسباب العقوبة، ثم يختمها بما يدل على الرحمة، مثل قوله: {{يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [آل عمران: 129] وقوله: {{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *}} [الأحزاب: 73] وذلك يدل على أن رحمته سبقت غضبه وغلبته، وصار لها الظهور، وإليها ينتهي كل من وُجد فيه أدنى سبب من أسباب الرحمة؛ ولهذا يخرج من النار من كان في قلبه أدنى حبة خردل من الإيمان، ولنقتصر على هذه الأمثلة فإنه يعرف بها صفة الاستدلال بذلك.
القاعدة العشرون:
القرآن كله محكم باعتبار، وكله متشابه باعتبار،
وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث.
وقد وصفه الله تعالى بكل واحدة من هذه الأوصاف الثلاث، فوصفه بأنه محكم في عدة آيات، وأنه: {{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}} [هود: 1]. ومعنى ذلك: أنه في غاية الإحكام، ونهاية الانتظام، فأخباره كلها حق وصدق لا تناقض فيها ولا اختلاف، وأوامره كلها خير وبركة وصلاح، ونواهيه متعلِّقة بالشرور، والأضرار، والأخلاق الرذيلة، والأعمال السيئة، فهذا إحكامه.
ووصفه بأنه متشابه في قوله: {{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا}} [الزمر: 23] أي: متشابهاً في الحسن، والصدق، والحق، ووروده بالمعاني النافعة المزكية للعقول، المطهِّرة للقلوب، المصلِحة للأحوال. فألفاظه أحسن الألفاظ، ومعانيه أحسن المعاني.
(1/47)
ووصفه بأن: {{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}} [آل عمران: 7] فهنا وصفه بأن بعضه هكذا، وبعضه هكذا، وأن أهل العلم بالكتاب يردون المتشابه منه إلى المحكم فيصير كله محكماً، ويقولون: {{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}} [آل عمران: 7] أي: وما كان من عنده فلا تناقض فيه، فما اشتبه منه في موضع فسَّره الموضع الآخر المحكم، فحصل العلم، وزال الإشكال. ولهذا النوع أمثلة:
منها: ما تقدم من الإخبار بأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فإذا اشتبهت على من ظن به خلاف الحكمة، وأن هدايته وإضلاله يكون جزافاً لغير سبب، وضَّحت هذا الإطلاق الآيات الأخر، الدالة على أن هدايته لها أسباب يفعلها العبد ويتصف بها، مثل قوله: {{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ}} [المائدة: 16] وأن إضلاله لعبده لها أسباب من العبد، وهو توليه للشيطان {{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}} [الأعراف: 30] {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}}
[الصف: 5]. وإذا اشتبهت على الجبري، الذي يرى أن أفعال العباد مجبورون عليها، بيَّنتها الآيات الأخر الكثيرة، الدالة على أن الله لم يجبر
(1/48)
العباد، وأن أعمالهم واقعة باختيارهم وقدرتهم، وأضافها إليهم في آيات غير منحصرة. كما أن هذه الآيات التي أضاف الله فيها الأعمال إلى العباد، حسنها وسيئها، إذا اشتبهت على القدرية النفاة، وظنوا أنها منقطعة عن قضاء الله وقدره، وأن الله ما شاءها منهم، ولا قدّرها، تُليت عليه الآيات الكثيرة الصريحة بتناول قدرة الله لكل شيء من الأعيان، والأعمال، والأوصاف، وأن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أعمال العباد، وأن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. وقيل للطائفتين: إن الآيات والنصوص كلها حق، ويجب على كل مسلم تصديقها، والإيمان بها كلها، وأنها لا تتنافى، فهي واقعة منهم، وبقدرتهم وإرادتهم، والله تعالى خالقهم، وخَلَق قدرتهم وإرادتهم، وما أُجمل في بعض الآيات فسَّرته آيات أخر، وما لم يتوضح في موضع توضح في موضع آخر، وما كان معروفاً بين الناس، وورد فيه القرآن، أمراً، أو نهياً، كالصلاة، والزكاة، والزنى، والظلم، ولم يفصله، فليس مجملاً؛ لأنه أرشدهم إلى ما كانوا يعرفون، وأحالهم على ما كانوا به متلبسين، فليس فيه إشكال بوجه، والله أعلم.









رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 14:38

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc