لَم أشْعُر بِضبابية الوَقْت و ثِقَل سَيرورته أكثر من الآن ، و أنا مَغْمورٌ بِوحشة هذه الغرفة الزرقاء ، و أنيسي شُرْفَةٌ باردةٌ و صمتٌ عميق
أَكْتُبُ لك يا أبي لأنني لا أسْتَطِيع أن أزورك، و رُبَّما لأنَّ في قلبي كلاما كثيرا أكْبَرُ من أن يَعْبُر الحُنْجُرة
أُفْرِغُه على الورقة و أنا خَائِفٌ أن تُحْرِقَها جَمَراتُ الكَلِمات و تَصْبَغَها مَرارة الألم
أبي ،
أنا أكْـُتبُ لك اليوم و أنا أقفُ في نَفْس الغُرْفَة التي رَقَدْتَ فيها و رُبَّما أقفُ في نَفْس المَقام و نفس الموقف، و أشعر ربما بنفس ما كنت تشعر به
لقد كنت خائفا يا أبي ، لوقت طويل جدا ، كنت خائفا من السير على سِكَّة العُمْرِ ، خائفا من الغد أن يأتي حاملا معه تأشيرة الموت بهذا المرض، عشْتُ و أنَا أترقَّبُ و أنتظر و ألومك كثيرا
لا أدري لما، لكنَّني حقدت عليك كثيرا لأنَّك ستُورثني داءك العضال و ضعفك و هوانك على النَّاس، بينما يرث المحظوظون المال و الجاه و السُّلطة،
ودرست يا أبي الطِّب مثلك حتى أفهم مرضك/مرضنا ولو قليلا و ليس لكي أُدير عيادتك ، وكنت كُلَّما واجهتك لا أستطيع كبح غضبي و حنقي على نهايتي المختومة في جيناتك الوراثية و لا أستطيع إيقاف نفسي عن الهرب منك و أنا أرى مستقبلي يتجسد في مُعاناتك و أكوام الأدوية و العلاجات و مضادات الألم المكدسة إلى جانبك
لكنَّك كنت دائما تبتسم ، و تقول لي يا ابني إنَّ الله لطيف بعبده رحيم به ، و لا يزداد قلبي إلا سوادا على سواد كلما سمعتك ، و تظل بسمتك تلعب بعقلي ليل نهار ،" كيف له أن يبتسم و يرضى وهو يشهد خيانة جسده له و الحياة تغادره شيئا فشيئا "
أردت أن أفتح عقلك و أتجسس على أفكارك حينها ، أردت أن أقتنع أن الألم لن يكون بتلك الفظاعة التي أتخيلها ، لكني كنت أبيت أسمع صراخك الذي لا ينتهي حتى يُغمى عليك من شدة الألم ، و يبرد قلبي فجأة و تخور كل أوهامي أمام الصمت الذي يعقب نوبة ألمك
أنا اليوم يا أبي أنْزِلُ في الغرفة ذاتها التي كنت تُصارع المرض فيها ، نعم لقد وصل قطار حياتي إلى مدينة الموت البطيء و ترَجَّلتُ منه حافيا ، و أنا أسير على الأشواك التي تزداد قسوة و تشابكا يوما فيوم
و بعد خمس عشرة عاما من وفاتك، أنا أتجهز لجنازتي الطويلة و كأنني أُعيد عرض مسرحية شاهدتها ذات يوم، و أحفظ عن ظهر قلب كل فصولها
إلا أنني لا أقوى على الابتسام ولو رِياءا ، لا أملك في قلبي إيمانك الشديد برحمة الله و لا صبرك الأسطوري
لم أتجهز كما ينبغي لهذا المسير
كنت مشغولا بلومك و الحقد عليك ، كنت غارقا في خوفي و يأسي و لم أحاول أن أتقرب منك ،
كان عمري تسع عشرة عاما فقط يوم سمعت بمرضك و لم أكن أفهمه ،و كان عمري اثنين وعشرين عاما يوم شهدت أول نوبة ألم لك و فزعت حتى الموت
و عشت ما بقي لي و أنا أترقب أن يأتي دوري فقط
كيف كنت بهذه القوة يا أبي وهذه الثقة
ومن أين جئت بالأمل
كنت دائما تسألني عن دراستي بعد أن تسألني عن عبادتي و رياضتي و صحتي و هواياتي وكأنك تقول لي أن ألتفت للحاضر قبل أن يُفلت من يدي، كأنك تُشيرُ بكلماتك إلى ما أملكه في حياتي و لم تعد تملكه أنت على فراش المرض
أذكر أيام يخفُّ عليك المرض حتى نشُكُّ أنك قد عوفيت منه و يُسمح لنا باصطحابك للبيت معنا أسبوعا أو اثنين، و تتحول الحياة من كابوس طويل إلى حلم قصير العُمر بريء الملامح
أذكر يوم طلبت مني الخروج معك إلى بيت جدي لتُحضر بعض أغراضك،
كنت منزعجا طوال الطريق لا أدري بما أحدثك و تبدوا لي كل الأحاديث و الأخبار تافهة و مؤلمة ،
ولكنك كنت تسألني عما فعله ناديك المفضل في مباراته الفائتة و ماذا قال الوزير الفلاني و ماذا حدث في فلسطين
و تخبرني أنك تريد أكل الشخشوخة البسكرية و كأنك لا تعلم أن هذا النوع من الطعام يضرك
كنت أضيق ذرعا بكل ذلك الكلام ، وكأنني أريدك أن تبكي و تنوح و تلوم حياتك و تلعن مرضك و لا تتوقف عن الشكوى كما يفعل كل المرضى و كل الناس العاديين
لكنك كنت أسطوريا يا أبي أكثر مما يجب
طالت بنا الطريق الى بيت جدي أكثر مما ينبغي ، وكدت أفتح نافذة السيارة و أقفز منها و أطير بعيدا ولا أرجع
شعرت أنني مخنوق و مأسور في خوفي و غضبي، و أنّ ألمك يتربّصُ بك و قد يُفاجئوك في أية لحظة...
و أنت بجانبي تجمع شتات الحديث و تبتسم بكل رضى و طيب خاطر و تعيش يومك بلا هموم ولا ندم
حين وصلنا أخيرا إلى بيت جدي، شعرت بالدوار و الغثيان و استفرغت ما في بطني و قلبي معا على حافة الطريق عند عتبة الباب، وانفجرت ضاحكا حتى بانت نواجذك و انقطع نفسك ضحِكا
قلت: يالك من طفل كبير ، ألم تتغلب على دوار الحركة بعد و أنت غي سنِّك هذه ...؟
دخلنا البيت غسلت وجهي و خرجت أنظِّف عتبة الباب، بينما كنت تبحث عن "أشيائك" في عُلِّية البيت
حين عدت للدَّاخل كُنْت تنزل الدَّرج ، تأمَّلت جسمك النَّحيل و كأنه خيوط ضوء قد تختفي حالما تلمسها ، و ضهرك الواسعة رغم أنها جلد على عضم ، كنت تنزل الدرجات بتأنِّ و ثقة و تحمل بين يديك صندوقا ورقيا متوسط الحجم ، أسرعت لأمسكه عنك و أشرت علي أن أضعه على طاولة البهو و أفتحه ، بينما جلستَ على آخر درجات السلم تنظر إلي
كان الصندوق مليئا بالغبار و نسيج العنكبوت و مكتوب عليه ( عام 1975) أي ثلاث سنوات بعد ميلادي
فتحته و أنا أسعل و أحك عيني التي امتلأت بالغبار ، ولم أتمكن من استيعاب ما وجدته داخله إلا بعد بُرهة
كان مليئا بلوحات رسم من الحجم الصغير و المتوسط، فيها بديع اللوحات الزيتية عن الطبيعة و البحر
أخذت أتفقدها الواحدة تلوى الأخرى بصمت ، كنت أعشق الرسم و أردت التخصص فيه عندما كنت صغيرا، بدت اللوحات ناطقة و حيَّة رغم اصفرارها على الأطراف ، كان ظاهرا للعيان موهبة صاحبها و دقة فنِّه و احساسه ،
و استوقفتني فجأة لوحة ليست كغيرها،
إنها صورة لطِفل صغير بعمر الثالثة، يُمسك بيَدِه مصاصة لُعبة و يَتمسَّك بحافة المائدة في غرفة الجلوس،
كانت لوحة رائعة جدا لي و أنا صغير و ملامحي فيها تكاد تكون حيَّة
نظرت إليك مندهشا لا أدري ماذا أسألك أو بماذا أُعلِّق، دارت في عقلي آلاف الأسئلة و الكلمات و لم تخرج منها ولا واحدة
إبتسمتَ من جديد و تقدمت نحوي ، "يُشبهك كثيرا أليس كذلك"
قلت لك إنَّه أنا و ليس يشبهني فقط، من رسمها ؟
قُلْت : أنا ...
بقيت مدهوشا لا أنطق بحرف أجول بنظراتي بينك و بين اللوحة : حَقَّا ... كيف ؟ و بقيت اللوحات لك أيضا ؟
قُلتَ: نعم ... كنت أحب الرسم مثلك عندما كنت في سِنِّك و أردت أن أنشئ معرضا ...
بقيت كلمة "مثلك" تدور في عقلي ذهابا و إيابا، مثلك..؟ ، إذا الجينات الوراثية لا تُورث الأمراض فقط ؟
سألتك بعفوية: ولم توقفت يا أبي ؟
نظرت لي بعين تفيض منها المحبة و الحنان "لأن الرسم لا يشتري الخبز يا بني ، ليس في بلادنا على الأقل، وكانت هذه آخر لوحاتي أردتها أن تكون لك "
انقبض صدري و كاد يتوقف نفسي من ثقل العِبارة ، أحسست و كأنك تقرأ ما في قلبي و تعلم ما أفكر به ، و كأنك تخبرني أن في حياتك لم يكن هناك المرض فقط و أنك في عمري كنت تعيش حياتك لك و لي
ساد الصمت بيننا لبرهة و لم أتمكن من اخراج كلمة شُكرا لك حينها ، بقيت حبيسة صدري الضيِّق
حملتُ الصندوق و توجهنا الى السيارة عائدين
لم نتحدث طوال الطريق إلى أن سألتني : لم لا تعود للرسم يا بُني ؟ لا أريدك أن تندم مثلي على مالم تفعل في حياتك ، لا أحد يدري كم يملك من العُمر يا بُني ، قد تعيش طويلا و قد تموت غدا ، فكر بما تريد أن تفعله حتى لا تندم
شعرت لوهلة أنك تسخر مني، قد أعيش طويلا ؟ من أين تأتي بكل هذا الأمل الفارغ
و عدنا إلى الصمت
وبعد أيام قليلة اشتد مرضك و لم تخرج بعدها من العيادة إلّا على الأكتاف
لست أدري بعد، هل كنت تعلم أنها رحلتنا الأخيرة معا، أو هل كعادتك تقوم بكل ما يخطر ببالك "حتى لا تندم"
لكن بعد وفاتك يا أبي بقيت تلك الذكرى تُؤرقني و تعبث بمشاعري طويلا ، ووجدتني كلما أفتح الصندوق أغرق في البكاء و النَّحيب و لا أدري ما السَّبب
أنا أندم اليوم كثيرا يا أبي
لأنني لم أَعرف كيف أحبك كما أحببتني و لا كيف أقدرك كما ينبغي
أنا لم أعد خائفا ، وكـأنني استهلكت كل مخزوني من الخوف و القلق خلال خمس عشرة سنة
بقيت قلقا و مهموما ، ولم أعرف كيف أعيش
بعد وفاتك كنت ضائعا و احتجت أن أسألك كثيرا و أحدثك كثيرا
شعرت أنني رجل بالغ يتيم ، يتيم كبير و أحمق
و عرفت معنى النَّدم الشديد و الحسرة ، على كل لحظة لُمْتُك فيها على ما ليس بيدك بدل أن أقضيها إلى جوارك
على كل يوم قضيته بالغضب و السخط على عمري الضائع و لم أعشها و لم أغتنمها لا في دنياي و لا في آخرتي
على كل أفكاري الغبية التي لا يتقبلها عقل سليم
أنا يتيم اليوم يا أبي
و لا أملك منك إلا لوحاتك الزيتية
و ذكريات الأملْ
يوم:31/03/2016
23:52