( فصل )
ومن محاسن الفراسة : أن الرشيد رأى في داره حزمة خيزران ، فقال لوزيره الفضل بن الربيع : ما هذه ؟ قال عروق الرماح يا أمير المؤمنين ، ولم يقل الخيزران لموافقة اسم أمه .
ونظير هذا : أن بعض الخلفاء سأل ولده - وفي يده مسواك - ما جمع هذا ؟ قال : ضدّ محاسنك يا أمير المؤمنين . وهذا من الفراسة في تحسين اللفظ .
وهو باب عظيم ، اعتنى به الأكابر والعلماء . وله شواهد كثيرة في السنة وهو من خاصية العقل والفطنة .
فقد روينا عن عمر رضي الله عنه : أنه خرج يعس المدينة بالليل ، فرأى نارا موقدة في خباء ، فوقف وقال : " يا أهل الضوء " . وكره أن يقول : يا أهل النار . وسأل رجلا عن شيء : " هل كان ؟ " قال : لا . أطال الله بقاءك ، فقال : " قد علمتم فلم تتعلموا ، هلا قلت : لا ، وأطال الله بقاءك ؟ " .
وسئل العباس : أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : هو أكبر مني ، وأنا ولدت قبله . وسئل عن ذلك قباث بن أشيم ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني ، وأنا أسن منه .
وكان لبعض القضاة جليس أعمى ، وكان إذا أراد أن ينهض يقول : يا غلام ، اذهب مع أبي محمد ، ولا يقول : خذ بيده ، قال : والله ما أخل بها مرة .
ومن ألطف ما يحكى في ذلك : أن بعض الخلفاء سأل رجلا عن اسمه ؟ فقال : سعد يا أمير المؤمنين فقال : أي السعود أنت ؟ قال : سعد السعود لك يا أمير المؤمنين ، وسعد الذابح لأعدائك ، وسعد بلع على سماطك ، وسعد الأخبية لسرك ، فأعجبه ذلك . ويشبه هذا : أن معن بن زائدة دخل على المنصور ، فقارب في خطوه . فقال له المنصور : كبرت [ ص: 41 ] سنك يا معن ، قال : في طاعتك يا أمير المؤمنين . قال : إنك لجلد . قال : على أعدائك ، قال : وإن فيك لبقية ، قال : هي لك .
وأصل هذا الباب : قوله تعالى : { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . إن الشيطان ينزغ بينهم } فالشيطان ينزغ بينهم إذا كلم بعضهم بعضا بغير التي هي أحسن ، فرب حرب وقودها جثث وهام ، أهاجها القبيح من الكلام .
وفي " الصحيحين " من حديث سهل بن حنيف ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يقولن أحدكم : خبثت نفسي ، ولكن ليقل : لقست نفسي )) وخبثت ولقست وغثت متقاربة المعنى .
فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ " الخبث " لبشاعته ، وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه ، وإن كان بمعناه تعليما للأدب في المنطق ، وإرشادا إلى استعمال الحسن ، وهجر القبيح من الأقوال ، كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال .
من كتب الطرق الحكمية لابن القيم ( ص : 108 . 111 )
ط : دار عالم الفوائد