"حزب الله" يقصف حيفا في الزبداني
ظلّ "حزب الله" وأمينه العام حسن نصر الله يهدّد بقصف حيفا وما بعد حيفا منذ حرب تموز 2006 التي سوّقها كانتصارات، رغم كل الدمار الذي جلبه إلى لبنان من أجل إيران، وأيضاً دخول قوات أممية "اليونيفيل" وتمركزها في الجنوب، ومن خلالها وضعت الدولة العبرية حدودها في أمان حقيقي من تسلّل عناصر المقاومة الفلسطينية، على غرار جبهة الجولان الآمنة منذ وصول عائلة الأسد لسدة الحكم في سوريا.
نصرالله ظل في كل مرّة يخاطب أتباعه مباشرة وليس تسجيلاً كما قد يتوهّم البعض، ولأكثر من ساعة عبر شاشات وأقمار صناعية يسهل على "الموساد" تحديد إحداثيات مكانه في ثوانٍ معدودة وقصفه خلال دقائق، إن كانوا يستهدفونه فعلاً كما يزعمون، وهو ما لم يحدث رغم مرور ما يقارب عشرية كاملة على حرب تموز.
أطلق زعيم ما يسمى "حزب الله" الكثير من التهديدات ضد الكيان العبري، غير أنه لم ينفّذ أيّ تهديد ولو كان صغيراً، وهو أمر طبيعي ومتوقع لدى الخبراء الاستراتيجيين والسياسيين والباحثين والمتابعين لتطورات الأحداث في لبنان والمنطقة.
الدارس للوضع يدرك أنه لا يستطيع فعل أي شيء خارج إطار ما تريده "إسرائيل" نفسها، وسيبقى يردّد الشعارات المدغدغة للمشاعر والخادمة لتل أبيب التي اقترفت جرائم حرب وضد الإنسانية في لبنان خلال حرب 2006، ثم تنصّلت كعادتها من مسؤوليتها الجنائية الدولية عبر التسويق لهزيمة افتراضية، وهو الأمر نفسه الذي فعلته أمريكا مع الفيتنام التي جربت فيها كل أنواع الأسلحة وأبادت الفيتناميين، ثم سوّقت لهزيمتها لطي صفحة أخرى من سجلها الحقوقي الأسود.
لكنه في مقابل تهديدات لم تتجاوز حنجرته، خاض عدّة معارك مع غير "إسرائيل" ووصل به الأمر حتى إلى اجتياح بيروت، وها هو الآن يعطل مسار السلطة في البلاد من أجل مصالح إيرانية في سوريا وغيرها.
بلا شكّ أن نصرالله عبر تسويق إعلامي فضائي محكم ومدروس، نجح بأن يشغل بال الكثيرين من العوام في العالم الإسلامي، وعلى مدار سنوات صار ذلك البطل القومي الذي لن يتكرر، وهو الأمر نفسه مع كل من "يتجرأ" على "إسرائيل" رغم أنه ورّط بلاده في حرب غير متكافئة أدّت إلى دمار استهدف المناهضين له ومعاقله الوهمية بدل الحقيقية المعروفة.
الحرب الوحيدة التي خاضها "حزب الله" خارج بلاده، هي التي تجري الآن في سوريا، حيث دخلت قواته وصارت تقاتل مع نظام بشار الأسد بأمر من مرشد الثورة الخمينية في إيران، وقد فقد الحزب الكثير من جنوده وقادته النخبويين في معارك كثيرة ورط نفسه فيها، وعلى جبهات متعددة ضد الشعب السوري.
منذ اندلاع الأزمة السورية اصطفّ نصرالله باستماتة وتطرّف وغلو مع السفاح الأسد، واعتبر ما يحدث مؤامرة على "المقاومة"، رغم أن ما يجري حينها كان عبارة عن مظاهرات سلمية مطالبها محدّدة قوبلت بالقمع والقتل والتنكيل.
بلا شكّ أن هذا الاصطفاف طائفي بحت ليس له أيّ علاقة بالمؤامرة المزعومة ولا غير ذلك؛ لأنه لم يصدر عن الشعب السوري ما يدل على أنه سيصير عميلاً للصهاينة، بل حملت المظاهرات شعارات تطالب بتحرير الجولان، وتتهم نظام الأسد بالعمالة للصهيونية وقوى إمبريالية عالمية.
كما أن ديدن "حزب الله" هذه الطائفية الممجوجة، فقد اصطف مع الشيعة في البحرين واعتبر حراكهم ثورة شعبية، واصطف مع الحوثيين واعتبر تمرّدهم ثورة شعبية، في حين يقاتل الشعب السوري لأن أغلبيتهم سنّية.
لكن التساؤل العجيب يتعلّق بأسباب هذا الاصطفاف بين "حزب الله" الذي جلب قوات "اليونيفيل" لتحلّ بمواقعه في الجنوب اللبناني وتبعده عن المناطق المحتلّة، ونظام الأسد الذي بدوره لم يطلق رصاصة واحدة تجاه الجولان المحتل والمحمي بدوره من قوات حفظ سلام دولية، في حين قصف شعبه بالكيماوي وصواريخ سكود وبراميل متفجرة واقترف المجازر التي للأسف لم يند لها جبين العالم المتبجح بالحقوق والحريات والديمقراطية العابرة للأوطان!
بيت القصيد في المعادلة كلّها هي إيران، و"حزب الله" هو مجرد ذراع عسكري إيراني يخضع ببيعة مطلقة لـ"الولي الفقيه" علي خامنئي، وقد تلقّى نصرالله الأمر في البداية للوقوف مع نظام الأسد الأقرب عقدياً إلى الشيعة الاثني عشرية التي اعترفت لأسباب سياسية بالنصيرية بعدما كانت من قبل تعتقد بكفرها وضلالها.
دون الخوض في الأبعاد الدينية نجد أن دخول "حزب الله" للقتال في سوريا هدف استراتيجي لأجل وضع المنطقة برمّتها في صراعات نجسة ودموية طويلة المدى، تدمر كيان الدول العربية في إطار تصدير الخراب الذي دأب عليه حكام إيران منذ بلوغ الخميني لسدة الحكم.
فرضية "المقاومة" أو "الممانعة" التي يتغنى بها "حزب الله" وسادته، لا أساس لها بالمطلق، بل تحولت إلى مقاولة ومماتعة واضحة الأهداف والمنطلقات؛ لأنه لو كان الأسد يشكل أدنى خطر على "إسرائيل" لاستغل قادتها هذه الفرصة الذهبية للانقضاض عليه مع هذه الثورة الشعبية على نظامه.
والأمر كذلك بالنسبة لـ"حزب الله" لو كان بالفعل يهدد الصهاينة، فإنها فرصتهم ثمينة بعد دخوله بحرب بعيدة عن معاقله في لبنان. رغم أن المعلومات المتوفرة تثبت أن دخول الحزب في حرب سوريا جاء بموافقة من قوى كبرى التي يتحكم فيها اللوبي الصهيوني في كل أنحاء العالم.
الأمور غير ما تسوّق لها إيران أو حزبها في لبنان أو نظامها في دمشق، فكل ما حدث على مدار سنوات يؤكد أن "إسرائيل" رغم ضرباتها العابرة والمشبوهة في لبنان وسوريا، ترفض رفضاً مطلقاً سقوط نظام الأسد أو استئصال "حزب الله" المدرج في بعض قوائم الإرهاب الدولي؛ لأنها عاشت مع الأسد أماناً حقيقياً على مدار نصف قرن، وحققت ما تصبو إليه مع "حزب الله" الذي لولاه ما وجدت قوات سلام دولية تسهر على أمن "إسرائيل" وعلى حساب خزينة الأمم المتحدة.
من الجانب الاستراتيجي يعتبر سقوط نظام الأسد قطعاً فعلياً للحبل السرّي الإيراني عن "حزب الله" بما ينهي وجوده، ويقضي على نفوذ طهران في لبنان والمنطقة، وخاصة أنه منذ بداية الثورة اصطفّ بطريقة طائفية بحتة في مواجهة الشعب السوري، ولذلك نراه يقاتل في سوريا ليس دفاعاً عن اللبنانيين بقرى شيعية في حمص، ومن الممكن جداً ترحيلهم إلى لبنان ما دام جيش الأسد عجز عن الدفاع عنهم. ولا لحماية مقدسات دينية شيعية مهدّدة رغم أن النظام نفسه لم يحترم المساجد ولا الكنائس، ولا من أجل الحفاظ على كيان المقاومة التي لم تعد تحارب "إسرائيل" ولا صواريخها تصل إلى حيفا وما بعد حيفا، بل تقطع أعناق السوريين في مدن كثيرة وآخرها الزبداني التي صار طريق القدس يمرّ عليها كما يزعم نصر الله، بل يحارب في سوريا من أجل خدمة دولة "إسرائيل" الممتدة من الفرات إلى النيل والتي لن تتحقق إلا بتخريب كيانات الدول الموجودة داخل حدود افتراضية لهذه الدولة الحلم لليهود الصهاينة.
معارك "حزب الله" في الزبداني استغرقت أكثر من شهرين، وخسر فيها الحزب الكثير من جنوده وقادته، ولم يتمكّن من حسم المعركة رغم الحرب الشاملة التي يشنّها على المدنيين قبل العسكريين، وهذا يفرض على حسن نصر الله أن يعلن هزيمته ما دام قد انتصر في حرب 2006 لأنه "صمد" لمدة شهر.
هناك حقيقة ثابتة لا يمكن أن يكون غيرها وستتأكد مستقبلاً بلا أدنى شك، أن وجود مليشيات "حزب الله" في سوريا جاءت بموافقة سرية دولية وبضوء أخضر إسرائيلي، من أجل إنقاذ نظام الأسد من التهاوي بعد تفكّك جيشه بسبب الانشقاقات وضربات المعارضة المسلحة، وهذه أكبر خدمة ستتحقق للكيان العبري خلال هذه المرحلة الجديدة من عمر فلسطين.
لقد صار الحزب مخيّراً بين نهايتين حتميتين لا ثالثة لهما؛ إما بقطع حبله السري مع طهران عن طريق دمشق أو القتال حتى تحقيق بدائل أخرى غير "حزب الله" الذي صارت ورقته محروقة فيما يتعلق بأمن "إسرائيل" ومشروع تصدير الثورة الإيرانية، وهذا ما سيكشفه المستقبل من خلال مسار الثورة في سوريا وغيرها.