أرخسنا أنفسنا بعدم الترك؟
تقول القاعدة الإسلامية.. "إذا غلا الشيء أرخسه بالترك"، أما القاعدة عندنا فإننا دائما نرخّس أنفسنا بعدم ترك الأشياء وهي تذلنا بغلاء فاحش. وتقول القاعدة المادية الدنيوية.. "الحاجة أم الاختراع"، أما القاعدة عندنا فإننا دائما ندفع غيرنا لاختراع حاجياتنا، وفي الحالتين نضيّع ديننا بصيام اللهفة ودنيانا بعدم تمكننا من ابتكار حاجياتنا، وفي الحالتين أيضا يتوقف ديننا ودنيانا عند جهاز هضم تتعامل معه السلطة بالطريقة البافلوفية، خاصة في المواسم الدينية الكبرى مثل شهر رمضان المعظم.
لا يوجد أسهل من الصوم في الحياة، فقد كُتب علينا كما كُتب على الأمم الذين من قبلنا منذ بداية الإنسان، وهو وسيلة لتحقيق غاية التقوى، ولكننا عقّدنا هاته الفريضة بأزمات استهلاكية من لحوم وحليب وحلويات إلى درجة أن الحكومة تنسى مشاكل البطالة والسكن والجامعة والنقل - حتى وإن كانت تنساها طوال العام - وتنفق جهدها ومالها ووقتها لأجل توفير الخبز والبيض لمواطن ينسى عقله وقلبه ويتحوّل كله إلى جهاز هضمي يأكل وهو غير جائع، وإذا أكل بلغ التخمة. ونحس بالألم عندما نسمع أن استعجالات مختلف المستشفيات تعلن حالة الطوارئ لاستقبال المتخمين من أفراد من المفترض أنهم صائمون، ومصالح الأمن تعلن الاستنفار في شهر تكاد الجرائم فيه تفوق عددا وبشاعة جرائم العام بأكمله .
ماذا لو صمنا هذه المرة إيمانا واحتسابا فأرخسنا بتركنا كل ما غلا من كماليات وضروريات وأرغمنا الجشعين والمرابين والمطففين والمحتكرين على أن يصفّدوا رفقة الشياطين، وماذا لو جعلناه صوم رحمة فأطعمنا الجياع وكفلنا الأيتام فكفيناهم طوابير قفة رمضان وإحراجات مطاعم الرحمة؟ وماذا لو جعلناه شهر العمل والاجتهاد الذي منه نبدأ صيامنا الأبدي على النوم والكسل وفيه نحقق ما عجزنا عن تحقيقه خلال الأشهر والسنوات الماضية من علم وعمل يراه الله ورسوله والمؤمنون، وماذا لو تعاملنا الدولة ولو في هذا الشهر فقط على أننا كيان كامل فيه عقل وقلب وليس جهازا هضميا تستورد له الحليب من هولندا واللحم من الهند والزبيب من إيران والكيوي والموز من أمريكا اللاتينية؟ وماذا لو علّمتنا دولتنا كيف نصطاد السمكة في رمضان بدلا من أن ترسل بواخرها لأجل استيراد السمك المجمد الذي يملأ بطوننا ويشل عقولنا ويحجر قلوبنا؟ .. ماذا لو نتحد لأول مرة شعبا وسلطة، لأن نصوم إيمانا واحتسابا؟