ربما لا يدرك من يفتي عظم المسؤولية التي سوف يتحملها يوم القيامة، بعد أن وجدنا من يفتي بما لا يحل لمسلم أن يفتي به؛ فتجده يتساهل في البحث عن الدليل، أو بطلب الرخصة وتأول الشبه. وفي ذلك إساءة للإسلام، ومبادئه...
.....وشريعته، حيث فهمت تلك الفتوى على وجه غير صحيح، واستغلت من قبل من يريد إثارة الفتن بين المسلمين.
إن الله عندما حرم القول عليه بغير علم، جعله أشد تحريماً من الشرك؛ فقال - جل في علاه -: ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ?؛ فتأمل كيف بدأ الله بالأخف من الذنوب، ثم تدرج إلى الأعظم منها، وتوعد من فعل ذلك بالعذاب الأليم؛ فقال - سبحانه -: ?وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?.
فالفتوى هي الإخبار بالحكم الشرعي لمَن سأل عنه، وعلى هذا فالمفتي بمثابة الموقع عن رب العالمين. ولا بد - حينئذ - أن يكون المفتي عالماً بالأحكام الشرعية، وعارفاً بالوقائع والنوازل، وقادراً - بعد ذلك - على إنزال الأحكام الشرعية على الوقائع والنوازل.
إن فتح الباب على مصراعيه - هكذا -، دون النظر إلى مؤهلات من يفتي، ومدى سعة علمه، أمر ينطوي على خطر حقيقي، يكمن ذلك في الاستهانة بخطورة الفتوى، وتداولها، وما يترتب عليها من تشويه القيم والمعتقدات، وترويج أنساق وأنماط اجتماعية مغايرة لأخلاقياتنا، وهذا هو الأثر السلبي الذي ستتركه الفتوى في نفوس المتلقين، ولا سيما إذا كانت الفتوى غير مؤصلة من الناحية العلمية، وتتناول شريحة واسعة من المجتمع. وقد أجمل الإمام الشافعي - رحمه الله - الشروط الذي يجب توافرها في المفتي، فقال: «لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به. ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن. ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا. فإذا كان هكذا، فله أن يتكلم في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا، فليس له أن يفتي».
وأضاف الحافظ الخطيب البغدادي - رحمه الله - إلى هذه الشروط، إضافات أخرى أوجب توفرها في المفتي، وقد فصلها بقوله: «وينبغي أن يكون قوي الاستنباط جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخا استثبات، وترك عجلة، بصيراً بما فيه المصلحة، مستوقفاً بالمشاورة، حافظاً لدينه، مشفقاً على أهل ملته، مواظباً على مروءته، حريصاً على استطابة مأكله، فإن ذلك أول أسباب التوفيق، متورعاً عن الشبهات، صادقاً عن فاسد التأويلات، صليباً في الحق، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى وطرق الاجتهاد، ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة، واعتوره دوام السهر، ولا موصوفاً بقلة الضبط، منعوتاً بنقص الفهم، معروفاً بالاختلال، يجيب عما يسنح له، ويفتي بما يخفى عليه».
إنني أدعو إلى تأصيل مسائل الإفتاء، وبحث شؤونها، ووضع ضوابط عملية للفتوى، والمشكلات التي تتعرض لها الفتوى في العصر الحاضر. كما أن نشر الفتاوى المبنية على أدلة فقهية صحيحة، مع مراعاتها مقاصد الشريعة وقواعدها العامة، وكذا مراعاتها الحال والزمان والمكان، والتجرد من الهوى، ستعكس - بلا شك - أثر الفتوى في تأكيد وسطية هذه الأمة، والتصدي للغلو والتطرف.
وصفوة القول: إذا كنا نحذر من الفتاوى الضالة المضلة، التي تدعو إلى سفك الدماء المعصومة بغير حق، فإننا في نفس الوقت نحذر من الفتاوى الشاذة؛ للوصول إلى استباحة المحرمات في الشريعة، من خلال مفتين شغلوا مساحات واسعة من المحطات الفضائية، والإنترنت، وغيرها من وسائل الإعلام، حتى يطمئن الناس إلى ما يصدر من علمائهم من فتاوى. وهو تأكيد لما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، حين تحدث عن دور العلماء، فقال: «ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق، ويبطل الباطل».