وضع الشيخ قويدر متاعه على ظهر بغله الأشهب الهرم ،أحكم الوثاق..والتفت الى ابنه:
- هل نسينا شيئا؟
- لا يا سيدي، لم ننسى شيئا، ولكنك قد أكثرت على البغل ، الحمل ثقيل جدا.
- إنه بغل ، لقد خلق للأحمال الثقيلة، ثم انه لم يشتك لك.و... "هكذا والا اكثر".
- حسنا سيدي.هكذا والا اكثر كما قلت.
- هيا لننطلق...يا بسم الله.:!!!
انطلق الشيخ رفقة ابنه الذي يناديه "سيدي"، انطلقا يعبان شعاب الغابة متجهين نحة المدينة التي تبعد عن القرية مسيرة يومين...كان الولد يسير في صمت و عينه على البغل المنهك وقد بدا له ابوه قاسي القلب عديم الرأفة ، بينما الشيخ غير آبه بهما مرددا عبارته " هكذا والا ااكثر"...فجأة توقف البغل...التصق في مكانه...حرن. استدار الشيخ وراءه وركله بكل ما أوتي من قوة دون فائدة...حاول جذبه من اذنيه...دفعه من وسطه...لا مناص، البغل قد قرر ألا يتحرك...تقدم الولد وتحسس قوائم البغل فإذا بإحداها مكسورة و الدم ينز من خلال جرح قد انفتح في أسفلها... انكسرت قائمة البغل الهرم.
- قال الشيخ: ما حجبه الله عنا أعظم يا ولدي ، "هكذا والا اكثر".
تقاسما الحمل بينهما وواصلا الطريق، و الشيخ لا يفتأ يكرر: هكذا والا اكثر ، ما حجبه الله عنا أعظم.
لم يمضيا طويلا و إذا بالشيخ قويدر يتعثر ... يسقط...يحس بألم شديد في كعب رجله...ينحني الأبن يتحسس مكمن آلام أبيه ليجد القدم أ حمراء اللون متورمة... فقد أصيب الشيخ بكسر بدوره.
- ما حجبه الله عنا أعظم يا ولدي ... هكذا والا اكثر.
بلع الولد غصته...لملم الأحمال على ظهره وانطلق يتبعه الشيخ جارا رجله ، مرددا: ما حجبه الله عنا أعظم و "هكذا والا اكثر"...
بلغ التعب من الابن مبلغه...خارت قواه..قال : نرتاح با سيدي ؟
- نرتاح يا ولدي... "هكذا والا اكثر".
أوشكت صرخة احتجاج أن تنفجر من صدر الولد غير انه كتمها داخل ضلوعه ...
واستلقى على ظهره يلتقط انفاسه...أحس بدبيب الراحة يسري في عروقه...لذة الاسترخاء تضفي على أجفانه ثقل النعاس ...فراح في نومة معسولة... وفي غمرة هذه الغفوة تتقدم نحوه أفعى غبية لتلدغه... يفيق صارخا....يشتد صراخه... يطمئنه الشيخ ..."ما تلك إلا أفعى يا غبي"...ويشده من ساقه...ويبدأ مص السم من قدمه مرددا: ما حجبه الله عنا أعظم.. وهكذا والا أكثر.
لم يستطع الابن الصبر أكثر...امتزج في كيانه الالم و الغضب و خزعبلات الشيخ ، فصاح في وجهه:
"ما الشيء الأكثر؟ اتريد أن تخرجني من عقلي؟هل بقي ما هو اعظم مما نحن فيه؟"
سكت الشيخ...التقط خرقة من متاعه و لف ساق ابنه...ولكنه سرعان ما أعاد مقولته : ما حجبه الله عنا اعظم يا ولدي... هكذا والا اكثر.
لم يعقب الابن بكلمة ..فقط مطط شفتيه تعبيرا عن اشمئزازه... واستسلم للنوم وقد بدأت الحمى تفعل فعلها...سهر الشيخ إلى جانبه يرعاه إلى ان اتبلج صبح اليوم الموالي.
واصلا سيرهما..يتقاسمان الحمل إلى ان وصلا المدينة... و يا لهول ما رأيا مما تبقى من المدينة.... ضرب زلزال عنيف المدينة...أباد الأهل و الناس جميعا... لم يترك إلا هيكلا مما يقال له المدينة.
وقف الشيخ عند باب المدينة، مسك يد ابنه المشدوه وقال: الخيرة فيما اختاره الله و ما حجبه عنا أعظم يا ولدي..."هكذا والا اكثر"...لو لم يحدث لنا ما حدث لكنا من ضمن أهل المدينة الهلكى.
*****
* القصة هذه كذلك منقولة من مدونة " يوميات الوجع و الحنين"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "هكذا وإلا أكثر": عبارة تقال على سبيل المواساة للتخفيف من مصيبة أحد، بمعنى إحمد الله على أن لم يصبك أكثر مما أصابك.