بدأ الابن يسترسل فيقول : كان أبي معلما .. رأيته يقطع رحلة العمر يحمل"الطبااشير" في الصباح والقلم الأحمر في المساء ، وكم شاهدته يلهث مع شرو! ! وق الشمس ليعود لااهثاً يئن تحت ثقل الكراسات التي يحملها ليصححها على ضوء مصباح شاحب تتراقص ذبالته مع نسمات الليل ؛ ومن أجل ذلك راحت زجاجات نضاراته تزداد سُمكاً مع الأيام . وكثيرا ما كنت أتساءل في استنكاار : هل يعطونك ما يقابل هذا الجهد الجهيد ؟؟؟
! ! فكان يبتسم ويقول في هدوء: لا تتوقع من الحياة أن تعطيك مقابل ما تبذل .. ثم إنني لست بائعا ولا عطارا لأنتظر المقابل ولكني على ثقة من أن لجهدي ثمنا غير منظور .. إني أؤمن أن التعليم ليس وظيفة ولا مهنة ولا عملا بل هو رسالة وحياة
ويواصل الابن ...... ومضت به الأيام وهو يعطي دائما من نفسه وروحه ودمه معلما وناصحا وموجها ومؤدبا وقائدا وقدوة يتصرف على سجيته ، دون تصنع أو كبرياء .. متوازن بين الجدية والمسؤولية ، بين التسامح والنظام بين الود والحزم .! ! في أبوة ورحمة وإنسانية غير متمسك بأهداب الهيبة الفارغة . لم يبخل يوما على رسالته بأي جهد .. وحدث ما كان متوقعاً إذ سقط مريضاً .. فاصطحبته إلى العاصمة إلى طبيب كبير وأستاذ جامعي تجاوزت شهرته حدود البلاد .. وبعد دفع ثمن الكشف الباهظ .. وانتظار ليس بالقصير ، دخلنا إلى الطبيب الذي استقبل أبي بأدب ولهفة وترحاب غامر فظننت أنها عادة اكتسبها بالمران ، وأدهشني الفحص الذي استغرق وقتا طويلاً . ثم أخذ بعدها يلقي على أبي كثيرا من الأسئلة أغلبها شخصي ولا يمت للمرض بصلة بل إنه سأل عني أيضا .. ثم أخبرنا بضرورة بقاء أبي تحت الرعاية في المستشفى واقترح أن يكون ذلك في مستشفاه الخاص .. فوجدت أبي يوافق متورطاً ! ! فلا قِبل له بنفقات مستشفاه .
أخذ الطبيب ورقة وسجل فيها بغض الأشياء التي يستلزم على والدي إحضارها معه كما سجل عنوانه . ومضينا وفكرة الاستغلاااال تطوف برأسي حول هذا الط! ! بيب .
طوى الطبيب الورقة وسلمها لوالدي ورافقنا إلى الباب بحفاوة عظيمه . وتحسس ابي الورقة ففتحها فإذا بأجرة الكشف داخل الورقة .. فارتفع صوت أبي وهو يسأل :
- ماهذا يا دكتور؟
-هذه قيمة الكشف يا أستاذ يوسف .
- لماذا تعيدها ؟
هنا ملأت الابتسامة الرائعة وجه الطبيب وامتدت يده تحتضن يد أبي الذي مازالت ممسكة بالورقة و! ! قال :
- سأكون شاكراً لك لو قبلتها ، وممتناً لو تقبل الجلوس معي بعض الوقت لأشرح لك الأمر .
وعدنا للجلوس ..
تهدج صوت الطبيب العالمي الكبير وهو يقول : لا أحسبك يا أستاذي تذكرني ... أما أنا فلم أنسك يوماً أنا أحد أبنائك .. واحداً من تلاميذك .. وأعلم أنه ليس من السهل أن تذكر ألوفا من الذين مروا بك ينهلون من علمك وقد كبروا .. أما هم فإن صورتك لم تبارح أذهانهم .. ولقد عشت أنا شخصياً كل هذه السنين أنتظر هذا اللقاء ، فأنت وراء كل خطوة ناجحة خطوتها في حياتي ..
وصوت الطبيب يزداد تأثراً وعمقاً وهو يقول : إني هنا في مكتبي ما زلت أحتفظ بكراسة الإنشاء التي كتبت لي فيها بخطك الكريم عبارة فرشت دربي نووراً . وأخرج دفترا أنيقا بالرغم من قدمه ، وكانت العباره واضحة بخط أحمر : " ليتك تصبح طبيباً إنسانا ، كذلك الذي صورته في موضوعك ... هذا أملي فيك ... هل تحققه ؟؟
وهنا نطق والدي الذي طال صمته :
- الحمد لله .. ال! ! حمد لله .. كنت أظن أني ضيعت عمري هدراً .
وخرجت الكلمات على شفتي الطبيب مندفعة :
- أنت ضيعت عمرك هدراً ؟؟؟ لقد صنعت ( حياة ) الآخرين . ل! ! قد استطعت أن تبني ( بشراً ) . أنتم المعلمون الصناع الحقيقيون في مصانع تنتج الأطباء والمهندسون والصحفيون والمحاموون وكل الناجحين في الحياة .. أنتم الأساس .. إنكم تخلقون أبطالا وقادة وتعيشون جنوداً مجهولين .. ولكن ثق أن فضلكم في قلوب أبنائكم .
ودمعت عينا أبي وهو يتمتم :
- لقد عشت عمري كله معلماً من أجل لحظة كهذه .
وهنا أدركت نفسي إذ نسيت أنني لست وحدي أدركت ذلك عندما شعرت بدموع امتلأت بها عيناي من فرط تأثري بتلك الشخصية العظيمه وما رزقت من إيثا! ! رٍ للهدف وتحقيقه وما وفقت له من إخلاص .. وحتى لا أثير دهشة تلميذاتي أو جزعهن ؛ أدرت ظهري لهن لأخفي دموعا لا يليق إظهارها أمامهن إذ لا ينبغي إلا أن اكون قوية أمامهن والدموع ضعف . ولكنها في تلك اللحظة لم تكن كذلك .. بل كانت قوة دافعة نحو الأمام قدما نحو ! ! العزيمة والهمة والإصرار بروحٍ عامرة وقلب مفعم بالأمل يواجه بابتسامة رضى ً كل ما يلقى من الصعاب في مشوار التعليم الطويل .
اللهم ارزقنا الإخلاص في العمل .. اللهم اجعلنا قدوة في طريق الخير والصلاح واجعلنا هداة مهتدين وقوي عزائمنا وعلي هممنا وارض اللهم عنا
اللهم آآآمين اللهم آآآمين اللهم آآآمين منقـــــــــــــــــــــــول