التابعي إذا قال:من السنة كذا، أو قيل عن التابعي: يرفعه، أو يبلغ به، أو يمنيه، أو نحو هذا، أو قال قولاً مثله لا يقال بالرأي، فهل هذا كله يعتبر مرفوعاً مرسلاً، أم يعتبر موقوفاً على بعض الصحابة؟ سبق في السؤال (36) أنني رجحت في المسألة الأولى: أنَّ له حكم الوقف، والمعتمد ما سأ؛رره هنا – إن شاء الله تعالى – فأقول:
قول التابعي: «من السنة كذا»، اختلف فيه العلماء، فصحح الوقف النووي كما في «شرح مسلم» (1/30-31) في فصول له قبل مقدمة «صحيح مسلم»، وكذا في «المجموع» (1/60) في فصول له في مقدمة الكتاب.
وذكر النووي أن بعض الشافعية خالفوا في ذلك، فذهبوا إلى أنَّه في حكم المرفوع المرسل، وجزم ابن الصباغ في «العدة» بأنه مرسل، انظر «التدريب» (1/211-212)، وصرح الحافظ ابن كثير بأنه مرسل، فقال في إرشاد الفقيه (1/207) في باب صلاة العيدين:
وقول التابعي: «من السنة كذا» أن يُنزل منزلة إرساله، إن قلنا: إن ذلكمنالصحابي مرفوع، كذا صرح به بعض العلماء، اهـ.
وفي «النكت» (2/524-525) نقل عن الشافعي: رَوَىَ في «الأم» عن سفيان عن أبي الزناد قال: سئل سعيد بن المسيب عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال: يفرق بينهما، قال أبو الزناد: فقلت: سنة؟ فقال سعيد: سنة، قال الشعفي الذي يشبه قول سعيد: «سنة»، أن يكون أراد سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ.
وذكر الحافظ أثناء كلامه على قول الصحابي: «من السنة كذا»، أنّ! إسناد ذلك إلى سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو المتبادر إلى الفهم، فكان الحمل عليه أولى، وأنَّ سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصل، وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنته، وأنَّ مقصود الصحابي بيان الشريعة ونقلها، فكان إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع اهـ ملخصاً.
وكل هذا يصح أن يقال في التابعي – على الراجح – مع وجود بعض الفرق في ذلك بين الصحابي والتابعي.
ثم قال الحافظ: ومما يؤيد مذهب الجمهور – أي: فيجعل قول الصحابي من السنة كذا مرفوعاً – ما رواه البخاري في صحيحه – وهو في ك/ الحج، ب/ الجمع بين الصلاتين بعرفة برقم (1662) (3/513) مع «الفتح» – وفيه: وقال الليث: حدثني عقيل: عن ابن شهاب قال أخبرني سالم أن الحجاج بن يوسف عام نزل بابن الزبير – رضي الله عنهما -، سأل عبدالله – أي: ابن عمر رضي الله عنه -،: كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنتَ تريد السنة فهجِّر بالصلاة يوم عرفة، قال عبدالله بن عمر: صَدَق، إنَّهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة فقلت – أي: الزهري -، لسالم: أفَعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال سالم: وهل يتّبعون – وفي رواية: يبتغون – بذلك إلا سنته؟ اهـ. وقد نقلت السند واللفظ من «الصحيح».
وقد ذكر الحافظ من أسند هذا الأثر، فانظر «الفتح».
فهذا سالم – وهو تابعي – أطلق السنة، وأراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل صرح بأنَّهم لا يبتغون بذلك إلا سنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وذهب الجد ابن تيمية إلى أن هذا القول من التابعي بمنزلة المرسل، ثم قال: وقد نقل أبو النضر العجلي عن أحمد في جراحات النساء مثل جراحات الرجال حتى تبلغ الثلث، فإذا زاد فهو على النصف من جراحات الرجال، قال: وهو قول زيد بن ثابت، وقول عليِّ؟ قال لأنَّ هذا – يعني قول زيد – ليس بقياس، قال: قال سعيد بن المسيب: هو السنة، قال القاضي: وهذا يقتضي أن قول التابعي:منالسنة، أنها سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنَّه قدّم قول زيد على قول عليّ، لأنه وافق قول سعيد: إنّما هي السنة، وبيّن أنَّه ليس بقياس، قال: وقد رأيت هذا لبعض أصحابنا...
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: قلت: ويغلب على ظني أن هذا الضرب – يعني قول الصحابي:منالسنة ومن باب أولى قول التابعي – لم يذكره أحمد في الحديث المسند، فلا يكون عنده مرفوعاً، اهـ من المسودة (ص: 294-295).
ثم ذكر جامع «المسودة» مسألة في قول التابعي: «من السنة»، فقال
فإن قال التابعي ذلك، فكذلك – أي: أن حكمه حكم الصحابي – إلا أنه يكون بمنزلة المرسل، وقد أومأ أحمد إلى ذلك، ثم نقل والد شيخ الإسلام، فقال: قال المقدسي: وقول التابعي والصحابي في ذلك سواء، إلا أن الاحتمال في قول الصحابي أظهر...، اهـ. (ص:295).
فالذي يظهر لي: أنَّ قول التابعي: «من السنة»، أن له حكم المرفوع المرسل، واحتمال أنَّه أراد بذلك سنة أحد الخلفاء، أو سنة أهل بلد معين، أن نحو ذلك، خلاف الظاهر المتبادر إلى الفهم، كما قال الحافظ – يرحمه الله -.
ومع ذلك فالمسألة تحتاج إلى مزيد استقراء، فتجمع المواضع التي ذُكر فيها هذا القول، ويُعرف الأشهر في الاستعمال، فتطمئن النفس إليه، وسواء قلنا بالرفع مع الإرسال أو بالوقف، فكلاهما يصلح أن يستشهد به، أما المرسل فقد سبق الكلام عليه، وأما الموقوف فيستشهد به ما لم يكن هناك من بخالفهمنالصحابة، وقد صرح الشافعي رحمه الله بالاستشهاد بالموقوف، وهو محمول على هذا القيد، ولم أذكر الآن أحداً قال بهذا القيد، لكن هو الذي تميل إليه نفسي، ومع ذلك فهذا الشرط عندي محل استقراء وتوسع، والله أعلم.
· وأما قولمنبعد التابعي حاكياً صنيع التابعي: (ينميه) أو «يرفعه» أو «يبلغ به» أو «رواية» أو نحو ذلك، فله حكم الرفع مع الإرسال، قاله السخاوي، كما في الغاية (1/265)، بل قد قال في «فتح المغيث» (1/146): فمرسل مرفوع بلا خلاف، اهـ وهذا هو الراجح، والله أعلم.
· وإذا قال التابعي: «أمرنا بكذا» فالاحتمال في حقه أكبر من الصحابي إذا قال هذا القول، والنفس لا تطمئن إلى رفعه.
· وإذا قال التابعي قولاً ليس للاجتهاد فيه مدخل، ومثله لا يقال بالرأي، فقد صرح الحافظ بأن له حكم المرسل:
· ففي «نتائج الأفكار» (1/392/80) ذكر الحافظ ابن حجر قول عطاء بن أبي رياح: تفتح أبواب السماء عند ثلاث خلال، فتحرروا فيهن الدعاء... الأثر.
· ثم قال الحافظ: وهو مقطوع جيد، له حكم المرسل، لأنَّ مثله لا يقال من قبل الرأي، اهـ.
· وذكر السخاوي في «فتح المغيث» (1/152):
أنَّ ابن العربي ألحق بالصحابة التابعيين، فيما لا مجال فيه للرأي، على أن يكون في حكم المرفوع، وادعى أن مذهب مالك، قال: قال: ولهذا أدخل عن سعيد بن المسيب: صلاة الملائكة خلف المصلي، انتهى.
قال السخاوي: وقد يكون ابن المسيب اختص بذلك عن التابعين، كما اختص دونهم بالحكم في قوله: «من السنة»، «وأمرنا»، والاحتجاج بمراسيله، كما تقرر في أماكنه، ولكن الظاهر أنَّ مذهب مالك – هنا – التعميم، قال وبهذا الحكم أجيب من أعترض في إدخال المقطوع والموقوف في علوم الحديث، كما أشرت إليه في المقطوع، اهـ.
ومعلوم أن ذِكر القول الذي لا يقال بالرأي، إن كان من صحابي، فيشترط فيه أن يكون الصحابي متحرزاً عن الأخذ عن أهل الكتاب، فليكن ذلك في حق التابعيمنباب أولى.
على أن السخاوي – يرحمه الله – نازع كثيراً في «فتح المغيث» (1/148-152) في الفرع السادس بعد المرفوع والمقطوع، وما ذكره يحتاج إلى بحث في الأسانيد التي نقل بها أقوال الصحابة وغيرهم، والله تعالى أعلم.
هذا ما تيسر ذِكْره في قول التابعي ما لا مجال للاجتهاد فيه، والمقام يحتاج إلى مزيد توسع واستقراء، والعلم عند الله تعالى.
الشيخ ابو الحسن الماربي