الرحلــة الثانيـة مــن رحــــــلات الأستــاذ إبـراهيم بـن ســـــاسي
ولاية تمنراست أو تمنغست أو بلاد الهقار ، من البلاد الجزائرية التي طالما تشوقت لرؤيتها لِما بلغني من سحرها وجمال ومناخها وتضاريس أرضها ومقاومة أهلها ، وازددت حِرصاً على زيارتها للتعرف أكثر على ثلةٍ من الأعلام والعلماء الذين رفعوا راية العقيدة الإسلامية ووقـفوا مجابهين ومتصدّين لحملات التنـصير والتضليل ، وعلى رأس هؤلاء الموفـقـين الشيخ أحمد الفـلاني المتوفى سنة 1952 ، والشيخ محمد يـحـظـيه السملالي الشنقـيـطي المتوفى سنة 1954 بأبلسة ، والشيخ محمد الخرشي والذي يعرف في ديار ورقلة بالشيخ عبد الله الشـنـقيطي حيث قضى بها مدة من الزمن تتـلمذ عليه معظم شيوخها ، غير أن الإستدمار الفرنسي ضايقه ليهاجر مباشرة لأبلسة التي توفي بها سنة 1931م ، وتـتـرّبع ولاية تمنراست عل مساحة خمسمائة ألف كلم مربع ، بما يضاهي مساحة فرنسا تقريبا ، حيث تبعد عن العاصمة الجزائرية بحوالي 2000 كلم و1600 كلم عن ورقلة في الجنوب الشرقي .
كان السفر إلى بلاد الهـقار ضربا من المغامرة والمخاطرة لقلة وسائل السفر ووعرة الطريق ووحشتـها ، بـينما تضاعفت اليوم وكالات السفر البري بحافلاتها الحديثة والمكيـفـة ، وكذا الجسر الجوي الذي يربط تمــنراست بالعاصمة وكبرى المدن الجزائرية .
كم كانت الفرصة طيبة ومناسبة حين تلـقيت دعوة من أخي الدكتور محمد يحظيه السملالي وهو إطار تربوي وإداري في جامعة ورقلة لحضور ملتقى علمي حول أعلام ومشايخ أبلسة في دائرة سيلت ، وهي أول تظاهرة علمية في هذا الشأن لغرض التعريف والتـنـويه بقافلة العلماء الذين قصدوا هذه الديار حاملين لواء العلم والقرآن ، فكانت آثارهم الطيـبة المباركة ، وهذا الملتقى أُريـدَ له أن يضع حدّاُ لسلسلة الولائم التي كانت تـنـظم لهؤلاء المشايخ على مدار شهر تـقـريبا بمعدل وليمة كل أسبوع ، فكانت المبادرة من المجلس الشعبي البلدي لتحول هذه الجلسات إلى ملتـقى علمي ، وهو ما وجد قبولا واستحساناً وثناء وشكراً يستحق كل تـشجيع وتـنـويه .
خرجت بعد الفجر من ورقلة صحبة الدكتور السملالي بسيارته الـفاخرة التي انطلـقت تطوي الأرض طـيّا ، وبعد دعاء السفر وتلاوة المأثورات وأذكار الصباح كان حديـثنا ثـنائيا وشاملا ، وبعد سبعين دقـيـقة من السير وصلنا مفـترق الطرق بين ورقلة وغرداية ومتليلي حيث وجدنا الدكتور أحمد بلالي في انتـظارنا لنشق الطريق سـويا إلى المنيعة مرورا بالمنصورة وحاسي الفحل ، لنصل بعـد ثلاث ساعات وربع إلى مشارف المنـيعة ، هذه اللـؤلؤة الصحرواية الفريدة ، جميلة بواحات نخيلها وكثبانها الرملية الذهبية وكرم سكانها الذين سكنت الإبـتسامة محياهم ، وتعتبر دائرة المنيعة من أقدم الدوائر إذ يعود تأسيسها إلى آخر تقسيم إداري فرنسي بالجزائر ، وقد ظلت معاناتها مع كل تقـسيم إداري ، حيث ضمت إلى ولاية تمنراست وأدرار وورقلة وغرداية ممّا أخرّ عجلة التـنـمية بـها وهي الدائرة التي تمتلـك مؤهلات تجعلها بحق جوهرة نفـيسة ، فبالإضافة لمناخها المميز وخصوبة تربتـها ومياهها المعدنية الشهيرة EL GOLEA فإن رمالها الذهبية الساحرة غـنّية بمادة الزجاج ، وتتوفـر المنيعة على حضائر سياحية ومعالم أثرية كقصر بدرّيان العـتيق
كما تزخر بالطاقات العلمية والتاريخية التي أثرت الحياة السياسية والعلمية والمعرفية في هذه الربوع ، كالشيخ أحمد بوحامدي ووالده رحمهما الله والشيخ الطالب الكحل والشيخ محمد بلحاج ، والعلامة الشيخ محمد علان وهو شريف من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر مع إخوته إلى مصر ومنها إلى تونس والصحراء الإفريقية ليحط رحاله في هذه الديار تاركا آثارا وتلاميذا وقد توفي بها سنة 1943 .
وقد بعث الشيخ علان عدّة رسائل لإخوته يدعوهم للالتحاق به في المنـيـعة حين توزعوا في الصحراء ، ومن تلـك الرسائل قـصيدة بليغة يقول في بعض أبياتهـا :
أنــخ سائق الأظــغـان ركبك آمنا بديار تحـيـيكم بساحتها البشرى
بدار بــها روض البشاشة يــانــع إلى بـينكم يهدي الرياحين والزّهرا
فأما اسم تـلـك الـدار فـهو مـنـيعة ودار أمان لن يـرى أهلها شــرا
تـفضّـل إلـهي واجمع الشمل عاجـلا أغث آل علان وصل واجبر الكسرا
ومن روائع ما قرأت في وصف هذه البلدة وأهلها هذه الأبيات لأخيـنا عمران بلحاج وهو أحد العلماء الشباب :
خـلال فـي رجال كـأنـــمــا خلالهم الأنهـار والبـحر والودق
وفـن لـه الأزهار ســور معـطر وماء زلالٌ في المجاري لـه ذوق
فلـيتك تـدنو مـن مشارف أرضـنا فـتعلم أن ما أقـول هو الصـدق
وصـدق القائل ، فـقد وجدنا راحتـنا في بيت الأخ بن حود ببلدية حاسي القارة حيث نـزلنا ضيوفا عنده وأكرمنا بإحضار بعض معارفه وخلاّنه فكانت جلسة مباركة ، وبعد غذاء وقيلولة ودعنا تلك الديار متجـهين صوب مدينة عين صالح في حدود الخامسة مساءا
كانت سرعـتنا بيـن 120/130 كلم في الساعة ، طريق طويلة مستقيمة مقـفـرة وموحشـة ، وبعد أقل من أربع ساعات تراءت لنا أضواء متـلئلة خافـتة ، فما لبثنا أن وجدنا أنفـسنا في مدينة عين صالح ، البنايات أرضية مضاءة الحركة الليلية قـليلة ، لم نرد إحراج أحد فاتجهنا صوب المطعم الوحيد الذي لا يزال يستـقبل الزبائن ولتأخرنا لم تكن لنا فرصة اختيـار طعام معين باعتـبارنا آخر الزائرين ، بعدها توجهنا مباشرة إلى بلدة الساهلة حيث أخونا بوجمعة بوحمدو الذي أحسن استقبالنا وقبل أن يهيأ لنا مكان المبـيت اقـتـرح علينا مواساة أحد الإخوان فـقد أمه فكان علينا تأدية واجب العزاء .
في مجلس العزاء كان الجالسون يختمون القرآن يرتـلون نهاية سورة البقرة ، القراءة عادية تجاوب معها الجميع غير أن منظرا غريبا راعني وشدّ انـتـباهي إذ جلس رجلان في حلقة الجلوس الكبرى وقد وضع كل منهما مجموعة من أجزاء القرآن التي تلاها القرّاء على الأرض وأخذ يرّتـبها تصاعديا أو تنازليا حسب الأرقام ، فلم أتمالك وهمست في أذن أحدهم : لماذا يضع هؤلاء القرآن على الأرض ؟ فقال : أمر عادي ألا ترى الفراش ؟ فتأسـفت لهذا الرّد البارد وانتـظرت ختام الجلسة لأتوجه لأكبر الرجلين عمرا وبعد السلام اقـتـربت منه أكثر وتجاذبت معه الحديث همسا وبعد أن عرفته بشخصي بثـثت له بعض مشاعري مؤكدا له أن هذا العمل الذي قد يبدو عند البعض عاديا إلا أنه لا يليق بكتاب رب العزّة الذي أمرنا أن نقدسه ونعظمه ونعلي مقامه ونتأدب معه ، وذكرته بما يفعله الأعاجم نحو هذا الكتاب الخالد ، فـتـقبل الرجل كلامي بصدر رحب واعتذر مستغفرا الله عز وجل ثم شكرني ووعدني أن توضع المصاحف مرة أخرى على مائدة فسررت لهذا التدخل الناجح وحمدت الله على هذا التوفيق .
تركتا عين صالح الساعة الرابعة صباحا متجهين صوب تمنراست عاصمة الولاية في طريق طويلة تمتـد حوالي 800 كلم ، سرنا حوالي أربع ساعات لم نـلتق خلالها غير سيارة واحدة مما يؤكد وحشة الطريق وقساوتها .
رغم ما في الأسفار البرية من تعب ونصب إلا أن المسافر قـد يأنس بآلاف القطع الحديدية من أنابيب الماء الممتدة يمين الطريق على بعد مترين متجهة نحو منجم الذهب في تمنراست والذي بفـضله تغاث هذه المنطقة في أكبر مشروع تـنـموي إفريقي ، هذا الإنجاز الضخم تشرف على تـنـفـيذه شركة صينية ، وأنا أشاهد هذا المخلوق الصيـني الأصفر وتحدّيه لقساوة ظروف الصحراء وحرارة شمسها وخلو الحياة من أي كائن سوى هؤلاء المهندسين والعمال وثـلة معاونيهم من الشباب الجزائري المكافح ، قـلت إن شـعبا بلغ تعداد سكانه المليار ولا يزال يتـحدى العالم باقتصاده وتكنولوجياته بأمثال هؤلاء لقادر على إيصال الماء وحتى الهواء لأي مكان في الوجود .
وصلنا آراك عند الشروق ، ويقال إن تسمية هذه المنطقة مرتبط بأشجار الأراك وعودها المبارك وهو خير ما يستاك به المسلمون قبل الصلاة ، لقوله صلى الله عليه وسلم " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " .
كان المنظر آية في الجمال حين قابلـتـنا جبال آراك في المدخل وقد تلألأت قممها بأشعة
الشمس الذهبية في مشهد رائع بديع ، أما السفوح فكانت بلونها الأخضر الفاتح كنبات خز في مياه متحركة ، وأنا أنظر هنا وهناك تذكرت البـلد الحرام مكة وتضاريسها المماثلة غير أن مكة أصابتها دعوة نبّي الله إبراهيم عليه السلام ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون الآية 37 سورة إبراهيم .
وصلنا منطقة إيـنـكر عند الضحى ، نفس التضاريس أراضي صحراوية جرداء عليها هـضبات صخرية تتخللها مساحات رملية قليلة الكثبان ، وبيـنما كنا نحن الثلاثة في حديث حول خصوصيات المنطقة توقـفت السيارة فـجأة إلى اليمين أمام جبل عظيم ممتـد عبر الآفاق اسمه إيـنـكر وأول ما استرعاني عند النزول لافتة كتب عليها عبارة " لا تـقـترب خطر " بخط ملون فتملكني خوف رهيب ، أجل إنه مكان للموت فعلا ذلك أن الإستعمار الفرنسي وهو يضع بنود إتـفـاقيات إيفــيان مع ممثلي جبهة التحرير الوطني سنة 1962 أكدّ على ضرورة البقاء في هذا المكان بضعة سنوات لإجراء بعض التجارب العلمية ، وهنا في هذا الجبل الشاهد فعلت فرنسا فعلتها فـقامت بعدة تجارب نووية قاتلة وتحت رماله وصخوره أخـفت سوءتها وسارعت لدفن كل الوسائل والمعدات والمواد الكيماوية الفـتاكة غير آبهة للمخاطر الناتجة عن ذلك متحدّية الأعراف الدولية والقوانين التي تضبط مثل هذه الأعمال ، فكانت الحصيلة ثقيلة جداّ ، مئات القتلى وآلاف المشوهين والمرضى بسبب الإشعاعات التي لا تزال تنبعث من هذا المكان إلى يومنا ، وقـد رُويت لي قصص وحوادث مروعة حدثت راح ضحيتها عمال ورعاة ومسافرين والقائمة لا تزال مفتوحة لأن المنطقة لا تزال مصدر خطر وقلق والجميل هنا إن السلطات المحلية حاولت الحد من هذه الحوادث حين أنشأت سوراً إسمنـتيا مسلحا أحاطت به الجبل تعدى طوله 10 كلم حتى لا يتعدّاه إنسان أو حيوان .
وسيظل جـبل إينكـر بمهابـتـه شاهدا حـيا وآية ناطقـة لجرائم المستعمر وجبروته وهـو الذي يـتـمتع اليوم بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ، وقد علمت وأنا في تمنراست أنا قائمة تعد لضحايا هذه المأساة قصد تعويض مادي بعد اعتراف فرنسي صريح بهذا العمل الإجرامي الخطير .
وصلنا مدينة تمنراست قبيل الظهر ومع ذلك كان الجو رائعا شمس فاترة ونسيم يبعث الأنس البنايات في معظمها أرضية ممتدة عبر سهول صخرية تتخللها كتل وهضبات سوداء وتتراءى الجبال الشاهقة من كل جهة وأهمها جبل أدريان ، كـما تـطل قمم جبال أهران المعروفة من وسط المدينة شمالا ، الطرق الداخلية معبدة ومنارة ، ومشكلة تمنراست تكمن في انعدام الماء والنـقـل وهو ما يعرّض المنطقة لعدة مشاكل تعيـق عجلة التـنـمية إذ تختـفي بعض المواد الإستهلاكية وترتـفع أسعارها ، ومن حيث الإدارة لا تزال مدينة تمنراست تحت إدارة بلدية واحدة وسكانها يتعدى الخمسين ألف نسمة معظمهم من الوافدين خصوصا من أقاليم توات قورارة تدكلت ، وإضافة للسكان الأصلـيـين من قبائل جميع ولايات القطر الجزائري بنسب مختلفة ، ولا مجال للحديث عن الأفارقـة فمدينة تمنراست تعتبر أهم مدخل لهم للعالم العربي والغربي فالمدينة مركز عبور وربما استـقرت بها عدّة عائلات إفريـقية ووجدت لها نشاطات وهي اليوم تحتل مساحة في هذا الشأن والإحصائيات تقول إن الأفارقة في تمنراست يمثلون 26 جنسية إفريقية لذا سارعت السلطات المحلية والأمنية باستحداث برامج إذاعية من خلال إذاعة الهقار لمخاطبة هؤلاء الأفارقة باللهجات كالبمبارة والهاوسة من أجل التوجيه الإداري والقـانوني وإعطاء بعض التوجيهات الصحية والديـنـية ، وقد تفاعلت الجاليات الإفريقية مع الإذاعة ويعود الفـضل للأستاذ محمد الزبدة مدير الإذاعة الذي كان له تـنـسيق مع السلطات المحلية في هذا الشأن .
الأراضي الزراعية في تمنراست خصبة وصالحة لكثير من الخضر والفواكه بدليل تواجد بعض الفواكه مثل العنب الجيد وحتى الحبوب وهي في انتـظار المشروع الجديد الذي سينعـش الفلاحة بالمنطقة والمتعـلق بنقـل الماء من عين صالح إلى تمنراست ، أما النشاط الرعوي فخاضع لتواجد الكلأ الذي يعتمد على الأمطار صيفا وخريفا ، ومنسوب الماء في الأودية ضعيف ، وأهم الأشجار في المنطقة الطلح بأنواعه إضافة لأشجار أخرى إبرية وشوكية .
رغم كونها منطقة نائية إلا أن تمنراست لا تزال قـبلة كثير من السواح خصوصا من أوروبا ، فـالمدينة بـها مواقع سياحية مصـنفة عالميا كحضير الأهقار التي تزخر جبالها وهضابـها بالرسومات والكتابات والنقـوش ، وتـزين بعض قمم جبالها مساحات خضراء كما في منطقة تمكرست ، وتنشط في المجال السياحي عدة وكالات سفر وسياحة مزودة بسيارات فخمة وطاقم بشري مساعد .
طبيعة سكان تمنراست البساطة والهدوء والتسامح أما اللهجات المتداولة فأهمها تمهـاق وكذا العربـية التي يحسنها الجميع .
أول بيت نزلـنا به في تمنراست كان بيـت الحاج السني سملالي وهو إطار تربوي متقـاعد ، وعلى عادة أهل البلد قدم لنا طبق التمر واللبن ، والحاج السني هو نجل الشيخ محمد يحظيه السملالي الذي قدم إلى بلاد الهـقار بعد رحلة طويلة قادته إلى مـصر والشام طالبا للعلم والعمل وقد توفي رحمه الله ببلدة أبلسة سنة 1954 م ، وبعد غذاء وقـيلولة استـأذنت أهل البـيت لأتوجه مباشرة إلى أبناء عمومتي من عائلة حمـودي القاطنين بلدة تمنراست منذ ثلاث عقود تـقـريبا ولهم نشاط إقـتـصادي مميز كنقل البضائع إلى بلاد إفريـقيا في مالي والنيجر وغيرها ، كما استضافنا الأخوان أحمد بلالي وعبد الله الأنصاري وهذا الأخير له مع إخوته تجارة في تمنراست ويحضى بالاحترام والتـقدير لتعامله السمح وهو خريج الجامعة الإسلامية بأدرار .
من الجلسات التي تركت أثرا طـيبا في نفسي تلك التي جمعتـني بالشيخ أحمد سلامة وهو إمام معلم للقرآن يشرف لوحده على ثلاث مدارس له في إحداها طلبة داخليون كانت لي فرصة اللقاء بهـم والإستماع لهم ، فبالإضافة لحفظ القرآن وترتيله بـالأحكام لهم حفظ وإلمام بعلوم الترتيل وعلوم القرآن وأصول الحديث والسيرة والتراجـم وكل من الطلبة يحفظون كتبا في هذه المواد وهو أمر واقعي لا مبالغة فيه ، فالرجل يبذل جهدا مباركا له ثماره حفظه الله ورعاه .
يعـتبر الأستاذ المنـتج في الإذاعـة صالح بلال أحد أبرز الوجوه الإعلامية في الهـقار وقد كان يـنتظر اللقاء بي وبمجرد وصولي اتصـل بي واتـفـقنا على موعد صباحي لنكون في الإذاعة ، وهناك أمطرني بوابل من الأسئلة في الأدب والتراجم والرحلات وغيرها من المواضيع .
أبـلسة إقليم تارقي أمازيـغي بمعنى تهدم أطراف الموارد المائية ، ويقال إنه اسم لأحد إخوة الملكة تـين هنان .
وقد أنشـأت بلدية أبلسة بمقـتضى الأمر 84/09 المؤرخ في 09/02/1984 وتـبعد عن الولاية حوالي 100 كلم توجهنا إلى هذه البلدية قـبيل المغرب فكانت صورا رائعة جميلة لقـرص الشمس وهو يتهاوى بـين قمم الجبال وسفوحها في منظر جميل يدعوك للرهبة والخـشوع أمام آية عـظيمة كهذه فيها عظيم التدبر ، وقبل الوصول كانت لنا وقـفة لصـلاة المغرب .
من المشاهدات التي تركت لدي انطباعا حسنا أثناء سفرنا إلى أبلسة توقـف كل السيارات بعد دخول وقـت المغرب لأداة الصلاة جماعيا وهو ما يوحي بتمسك هذا الشعب بديـنـه والمحافظة على شعائره فلم تـنل منه محاولات المنصرين ليظل رافعا لواء ديـنـه في عزة وشموخ .
أخذت هذه المدينة زيـنـتـها وتحلت بالأعلام واللافـتات مرحبة بضيوفها بمناسبة الملتقى السنوي لمشايخ أبلسة تحت شعار " مستـقـبلنا بعلمائنا وأصالتـنـا بتراثـنا " وقد كان الاستقبال رائعا ، كان في مقدمة المستـقـبلين الأستاذ محمد لقـنج رئيس المجلس الشعبي البلدي وبعض الإطارات وبعد جلسة ترحـيـبية قـصيرة خرجنا لساحة واسعة أمام المسجد حيث جلس جمهور الحاضرين في صفوف منـتـظمة يتابعون درسا للـشيخ
مولاي أحمد الطاهري مركزا على التربية وفن التعامل مع الناس وقد ختم بالرد على الأسئلة المخـتلفة ، وبعد العشاء كانت لنا جلسة مع الدكتور عبد المجيد قـدي من جامعة الجزائر وهو إضافة لـتـخصصه في الإقـتـصاد له بحوث في تاريخ المنطقة وتراثـها ومع زمرة من المثـقـفين منهم الأستاذ ناجم وأحمد بلالي وآخرون .
أول عمل في هذا اليوم الحافل كان زيارة صباحية لمقبرة أبلسة حيث يرقد كبار العلماء والعارفـين وعلى رأسهم الشيخ سي محمد عبد الله الخـرثي والشيخ السملالي . القـبور في أبلسة لها نـفس النمط تحدها أحجار صخرية سوداء قليلة الكتابات وحتى العلامات .
وفي حدود الساعة التاسعة صباحا كان المسجد غاصا بالجالسين ، حفل الافـتتاح ميزته كلمات للسادة رئيس المجلس الشعبي البلدي وممثل الشؤون الدينية ورئيس الدائرة وكلمة السيد الوالي الذي أعلن عن افـتـتاح المـلتـقى .
وبعد جلسة تناول فيها الجميع تمرا ولبنا بدأت المحاضرات ، الأستاذ أحمد بن مالك مدير المعهد الإسلامي بعين صالح تحدث عن موضوع تجارب التعليم القرآني بالمنطقة ، الشيخ أحمد القـلاني نموذجا .
المحاضرة الثـانية للأستاذ إبراهيم بن ساسي حول جهود العلماء في نشـر التعليم القرآني بالمنطقة .
الأستاذ الدكتور عبد المجيد قدّي تحدث عن دور المشايخ في المحافظة على هوية المجتمع وثقافته ، وبعد المحاضرات كانت الأسئلة ، ثـم توزيع الجوائز على الطلبة الناجـحين بعدها تـُلـِيَ المصحـف على روح هؤلاء العلماء ، ثم ختم اللقاء بكلمة معتمد الشؤون الدينية ودعاء وفاتحة للشيخ مولاي أحمد ، ليـتـناول الجميع الغذاء ، وكما هي العـادة فـقد كانت شركة سونلغاز حاضرة من خلال تقـطعات التيـار الكهربائي مرات عديدة .
دخـلت السوق صحبة الشيخ حمودي وهو من أقاربي الذين استوطنوا هذه الديار قبل ربع قـرن ، البـضائع متنوعة من ألبسة وأثاث ومعدات منـزلية إلى العطور والدهون ومواد التجمـيل والأحذية ، وأغلـبها مستـوردة من الدول الإفـريقـية القـريبة ويكاد أبناء الجاليات الإفريقية يمتلكون السوق كله ، وقد رأيت في أغلبهم دماثة وخلـقا طيـبا وتعاملا حسنا ، وربما ورثوا ذلك من التجار العرب الذين ساهموا في نشر الإسلام في دول إفريقيا وآسيا بفـضل تعاملهم السـمح .
بـينما كنت في أحد المحلات هاتـفني الأخ أحمد بـلبني وهو إطار في مديرية الشؤون الديـنية وأخبرني بوفاة الأخ بوجمعة بوحمدو الذي آوانا في عين صالح إذ فارق الحـياة إثـر نوبة قلبـية بمدينة المنيعة أين كان يستعد للعودة بأهله إلى عين صالح بعد قضاء أيام هناك ، وقـد ترك الخبر أثرا بالغا في نـفسي ولا يسع المؤمن في مثل هذه الحالات إلا أن يسلم الأمر لله تعالى ويرضى بقضائه فكل شيء هالك إلا وجهه " إنا لله وإنا إليه راجعون " .
ويعتبر أخونا بـوجمعة وهو في الخمسينات من عمره راية من رايات الدعوة الإسلامية في ربوع عين صالح وراحلة من الرواحل ترك أثـراً إيجـابيا في العمل الاجتماعي الخيري تـقـبل الله منا ومنه صالح الأعمال وأسكنه فـسيح الجنان مع النبـيـين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفـيقا .
لقـد ربطت مدينة تمنراست بعشرات الحافلات المتـجهة جميعها نحو عين صالح ومنها إلى اتجاهات مختلفة وكلها مزودة بوسائل الراحة والترويح وقد تستهويك بأسمائها الغريبة مثل : الجـرو ، المعنقـر وغير ذلك من الأسماء .
رحلة العودة كانت مع إحدى حافلات الجرو وقـد انطلقت في حدود الساعة الرابعة صباحا بعد تسعـين دقـيقة من الانتظار ، كنت متخوفا من ضياع ساعات الفجر الذهبـية مع حلقات مسلسل عمي لخضر الاجتماعي ومشاكل أهل عمارته وفكاهاته المضحكة المبكية التي وجدت تجاوب الركاب في رحلة الذهاب ( غرداية – عين صالح ) وهي حلقات تـفـتـقر للمنهجية والأهداف التربوية والاجتماعية خالية من أي ربط أو تـشويق سوى ما كان من ديكور وألفاظ عمي لخضر الغريبة ، غير أن السائق في هذه الرحلة اسـتـفـتح مباشرة بعد خروجه من محطة المسافرين بالقرآن الكريم فكانت متعة حقـيـقـية ومائدة إيمانية بصوت الشيخ الغامدي وحنجرته اللؤلـؤية النادرة فـقد ظـل القرآن يتـلى مدة أربع ساعات كاملة من بداية سورة البقرة إلى منـتصف سورة التوبة ومع أن أغـلب الركـاب استسلم لعالم الأحلام غارقا في سبات عميق إلا أن ثلة من الشباب ظلت مـتـيقظة تواكب آيات القرآن متـفاعلة معها ، وقد تهللت أساوير أفـئـدتها وهي ترهف السمع لهذه الأنوار المباركة متمثلة قول بارئها وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
صدق الله العــظيم
فجزى الله خيرا أخانا السائق وهو من آل عسال بديار بامنديل في ورقلة هذا العطاء وشكر الله له جميل صنـعه فـقد أتاح لنا أن نعـيش لحظات أنس روحانية وإيمانية ، وهي لعمري خير زاد المسافر يـغتـنم بها ساعات سفره فالوقت هو الحياة ، وصدق الشاعر
الإمام الداعية الدكتور يوسف القرضاوي حين يقول في هذا المقام :
والوقـت كالناس منه ما يموت وما يحيا فطوبى لمن بالذكـر أحياه
وكـلهم بات بالـقرآن مـندمـجا كـأنه الدم يسري في خلايـاه
فالأذن سامعة والعـين دامـعـة والروح خاشعة والـقـلب أواه .
جلس إلى جواري مـجمـوعة من شباب الدرك الوطني المكافـح وقد أنست بها فكان الحديث راقـيا رائعا ينمُّ عن شعورٍ بالمسؤولية تجاه الدين والوطن ، وحين فـتحنا النقاش حول موضوع الجزائر واتساع رقـعتها وطول حدودها مع دول الصحراء أخرج أحد هؤلاء الشباب هاتـفه ومكنـنـي من متـابعة صور مرئية حديثة لثـلة من الشباب الإفـريقي المهاجر عبر صحراء مالي وقد كانت نهايتهم المؤسفـة عطشا ، إنها صورا مريعة مرعبة لجثـث ترامت في قـلب الصحراء تحت أشعة الشمس اللافحة واللافت في هذه الصور أن أحد هؤلاء الموتى أكرمه الله بالخاتمة الحـسنة إذ فارق الحياة وهو ساجد لله تعالى وبـقي مسمراً مـشدودا إلى الأرض برجليه وركبـتـيه وجبهته وقـد ركزت الصور على هذه الوضعية المـتجهة نحو القـبلة ، إن وضعية كهذه تعتبر نادرة أو مستحيلة للظروف الصعبة التي يمر بها العطشان قبل وفاته إلا أن ثلة من الأخيار ولعل هذا واحد منهم يهـبهـم الله الخاتمة الحسنة بهما كانت وضعياتهم في الحياة ، فاللهم إنا نسألك الخاتمة الحسنة .
لم يكن لمن يجوب صحراء الجزيرة العربية وما حولها قـبل قرون أن يأنس بغير قـطعان الإبل الهائمة وسط الرمال متحملة كل حرّ وقرٍّ ، وهذه وحدها آية تدعو لمزيدِ تدبر وتـفكر إضافة لما لهذا المخلوق من عجائب وأسرار يدرك بعضها البشر لما لهـم من صلة بـه وقد سخره الله لهـم ، قال الله تعالى ولكم فيها جمال حيـن تريحون وحين تستريحون وتحمل أثـقـالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفـس إن ربكم لرءوف رحيم وقـد جاءت الدعوة من الله جل وعلا أن نـتـدبر أسرار الكون وبديع صنع الله ، قال تعالى أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت الغاشية 17 - 20 .
وستظل آية الإبل هذه إشارات الهبة نستـلهم منها معاني الصبر وروح المقاومة ، فالجمال بما وهبها الله من طاقـات تتحدّى الظروف لـتـصنع الحياة ، غير أنها اليوم عندنا آلة أخرى لحصاد الأرواح من خلال عشرات الطرق الـتي تـشق الصحراء والتي عرّضت هذا الحيوان للموت ومعه خلق كثير خصوصا في فـترات الليـل كما يـحدث في الطرق بـين مدن المنيعة ، غرداية ، ورقلة ، توقرت . وما أكثر ما تـقابلك جثث الجمال المتـنـاثرة فـي حوادث قـلّ أن ينـجو منها البشر ، يقع هذا أمام كل التحذيرات والإشارات إلا أن نسبة الضحايا في تزايد مستمر وهـو ما يدعو لتكاثـف الجهود للحدّ من هذه الكـوارث التي بـاتت تهدّد حياة الإنسان ومعه هذه الثروة الحيوانية الهائلة .
وفي نهاية الدرّة لا يسعني إلا أن أوجه أسمى آيات الشكر والعرفان لأهالي بلدة أبـلسة على استـقـبالهم وإكرامهم وعلى رأسهم رئيس وأعضاء المجلس الشعبي البلدي على دعوتهم لي لحضور هذه المــأدبة العلمية الفـاخرة ، كما أخص بالشكر عائـلة السملالي في مدينة تمنراست منهـا العم السـنّي وابن أخيه الدكتور محمد يحـظيه السملالي هذا الأخير الذي كان بعد الله سببا في هذه الرحلة المباركة ودون أن أنسى الأخوين بلالي والأخ الفـاضل أحمد بلبـني إطار في الشؤون الدينية وكذا الأخ عبد الله الأنصاري وأبناء العم الشيخ وصالح وأبناء الحاج محمد حـمـودي على ترحيـبهم وإكرامهم فاللهم تـقـبل منا ومنهم صــالح الأعــمال .
- البريد الإلكتروني حذف من قبل الإدارة (غير مسموح بكتابة البريد) -