الدكتور محمد بن بريكة اسم لامع في سماء التصوف، ووجه بارز في الحركة الصوفية المعاصرة، يمثل رفقة ثلة من العلماء والمشائخ ـ الشيخ المأمون القاسمي، الشيخ خالد بن تونس، الشيخ عبد القادر العثماني.... ـ، سدا منيعا ضد كل التيارات المنحرفة التي تحاول ضرب الإسلام من الداخل، فهم يجمعون بين العلم والعمل، ويتميزون بالوسطية والاعتدال، والتمسك بالأصالة مع الانفتاح على الآخر، ورفض المناصب والدرجات.
نشأ الدكتور في بيئة دينية محافظة، فهو ينتمي إلى أسرة دينية ترجع أصولها إلى بيت النبوة الكريم، حفظ القرآن الكريم صغيرا والصحاح الست، والمتون العلمية المعروفة، ثم انتقل إلى الجمع بين الطرق الكلاسيكية والطرق الحديثة، فنال شهادة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة الجزائر.
عرف بأبحاثه ودراساته الأكاديمية في علم التصوف، وكنا قد أخذنا عنه هذا أيام الطلب في الجامعة في الثمانينيات من القرن الماضي، فهو "الذي شرح لنا كثيرا مما تعذر علينا فهمه (في التصوف الإسلامي) وفسر لنا مبهمه وأجلى لنا غامضه، فأصبح التصوف عنده مادة علمية محببة إلى النفس تختزل أفكار وآراء واجتهادات عقول إسلامية جبارة... فأصبحنا بفضل الله وبفضل تلك المحاضرات القيمة ننظر إلى التصوف نظرة إجلال وإكبار نظرة تقدير واحترام، نظرة محبة وإخلاص...". . وما يزال نفس الحكم قائما، فما زلنا نستفيد من مقالاته ومحاضراته والتي كان آخرها الحصة الخاصة بالذكر في سلسلة الدروس المحمدية التي أتحفتنا بها التلفزة الجزائرية بداية شهر رمضان المعظم.
ومما تميز به أستاذنا الفاضل في هذا الميدان:
أنه يقدم هذا الاتجاه الفكري ـ التصوف ـ بصورة واضحة دقيقة، وبشكل علمي موضوعي، يجمع بين العلوم الشرعية والعلوم المعاصرة والفلسفات الحديثة، وذلك بما يملك من وسائل الإقناع والحوار: علم واف، خلق صاف، سعة أفق، ثقافة موسوعية، يضاف إليها أسلوب طلي سهل ممتنع.
الاطلاع الواسع والعميق على غرر التصوف ودقائقه، تفاصيله وجزئياته: أصوله، نشأته، مدارسه، أعلامه، طرقه، مصطلحاته، أدبياته.... مما يمكنه من الحديث في الموضوع حديث مختص عارف.
الاطلاع على الفلسفة الغربية ونظريات المفكرين الأجانب حول التصوف والفلسفة الروحية في العالم. إذ أنه يجيد عدة لغات ـ فرنسية إنكليزية إسبانية إيطالية ـ مكنته من الإطلالة على الثقافات الأخرى في مصادرها الأساسية. والتصوف كما هو معلوم ليس خاصا بالدين الإسلامي فقط، إذ وجد مع بداية وجود الإنسان على سطح الأرض وعرف في كافة الديانات الأخرى.
اهتمامه الشديد بكل ما يتعلق بالتصوف سواء داخل القطر أو خارجه، يشارك في النقاشات الدائرة هنا وهناك حوله، وفي العالمين الغربي والعربي، من أندونيسيا إلى الولايات المتحدة، فهو خبير دولي في التصوف وهي شهادة لا تمنح إلا لمن شارك بأبحاث علمية عالية المستوى في الموضوع، معترف بها من الجامعات الأجنبية.
الحضور القوي في مختلف الندوات والملتقيات العلمية وكان قد قطع عهدا على نفسه ألا يشارك إلا في الملتقيات الجادة التي تنظمها الجامعات أو المعاهد: ملتقى التصوف أدرار 2000، ملتقى الهاشمي الشريف بالوادي 2003، ملتقى الخطاب الصوفي جامعة الجلفة 2006، مؤتمر حوار الأديان الدوحة 2007، ودعي إليه أكاديميون وعلماء ورجال دين من 40 دولة، وكانت الجلسة التي أدارها الدكتور من أثرى وأهم الجلسات في المؤتمر إذ دارت حول التصوف وأهميته في الأديان السماوية المختلفة ...
العمل بمفرده ((كان إبراهيم أمة وحده))، فهو لا يؤمن بعمل المخابر ومراكز البحث، وفلسفته في ذلك هي الحرية والانطلاق نحو الآفاق البعيدة والمبدعة، فهو يشتغل الآن على إعداد موسوعة الحبيب في التصوف، تقع في ثلاثة مجلدات كبيرة تعرض علم التصوف ومصطلحاته وأعلامه وأمهات الطرق الصوفية في العالم، وهو ما لا تستطيع القيام به فرق بحث متخصصة فما بالك بشخص بمفرده.
دفاعه الشديد والمستميت عن القيم والثوابت الدينية والحفاظ على الهوية والشخصية والوحدة الوطنية للشعب الجزائري وثقافته ومرجعيته ـ وإن كنا نختلف معه في مسألة غياب المرجعية الدينية في الجزائر وضعف جهاز المناعة الثقافي ـ. والمتابع للساحة الثقافية والإعلامية يلاحظ هذا الحضور والتتبع الدائم.
التواضع الجم فقد يقف مع محدثه الساعات الطوال مستمعا ومرشدا، مجيبا عن أسئلة وتساؤلات من غير ملل أو كلل ولا كبر أو ترفع، وهو ما شهد له به القريب والبعيد، وقد عايشنا ذلك أيام الجامعة، فقد كان مكلفا بالدراسات بالمعهد العالي لأصول الدين، وكان يعاملنا معاملة الصديق مع الصديق، وليس معاملة العميد مع الطالب.
هذه بعض الوقفات ـ على حد تعبير السادة الصوفية ـ مع شخصية الدكتور بن بريكة يمكن اعتبارها مفاتيح بحث في فكر الرجل نرجع إليها مستقبلا ـ بحول الله ـ بالتفصيل والشرح وفي فضاءات أوسع وأرحب. نسأل الله أن تكون هذه الشهادة خالصة لوجه الله وأنا لا نزكي على الله أحدا وأنها من باب الاعتراف بالجميل فلا يشكر الله من لم يشكر الناس.