ا ن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومنسيئات أعمالنامن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك لهوأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
" ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"
" ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاكثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا"
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفرلكم ذنوبكم * ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما"
أما بعد :
{...فالعلماء لهم المنزلة اللائقة بهم ، فقد رفعهم الله تعالى وميزهم عن غيرهم ، فقال سبحانه "يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلو درجات والله بما تعلموا خبير"المجادلة * وقال تعالى " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب" الزمر* ، واستشهد سبحانه بأولي العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده ،فقال "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم"آل عمران* .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله طريقا إلى الجنة ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء خير ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر(1) " .
وقال ابن القيم : " قوله :- " إن العلماء ورثة الأنبياء " هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله ، فورثتهم خير الخلق بعدهم ، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته ، إذ هم الذين يقمون مقامة من بعده ، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء ، كانوا أحق الناس بميراثهم ، وفي هذا تنبيه على أنهم اقرب الناس إليهم ، فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث ، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدرهم والدينار ، فكذالك هو في ميراث النبوة ، والله يختص برحمته من يشاء ، وفيه أيضا إرشاد وأمر للأمة بطاعتهم واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم وإجلالهم ... وفيه تنبيه على أن محبتهم من الدين وبغضهم مناف للدين ، كما هو ثابت لموروثهم ، وكذالك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو لموروثهم ، قال علي رضي الله عنه :- محبة العلماء دين يدان به(2).
ومما قاله ابن رجب في شرح حديث أبي الدرداء – والذي سبق ذكره - :- " إنما يبغض المؤمن والعالم عصاة الثقلين ؛ لأن معصيتهم لله اقتضت تقديم أهوائهم على محبة الله وطاعته ، فكرهوا طاعة الله وأهل طاعته ، وما أحب الله وأحب طاعته ، أحب أهل طاعته ، وخصوصا من دعا إلى طاعته وأمر الناس بها ، وأيضا فإن العلم إذا ظهر في الأرض وعمل به درت البركات ، ونزلت الأرزاق ، فيعيش أهل الأرض كلهم ، حتى النملة وغيرها من الحيوانات ببركته ...
وقد ظهر بهذا أن محبة العلماء العاملين من الدين ، وفي الأثر المعروف :- "كن عالما ، أو متعلما ، أو مستمعا ، أو محبا لهم ، ولاتكن الخامسة فتهلك." (3)
قال بعض السلف : سبحان الله ! لقد جعل الله لهم مخرجا ، يعني أنه لا يخرج عن هذا الأربعة الممدوحة إلا الخامس الهالك ، وهو من ليس بعالم ، ولا متعلم ، ولا مستمع ، ولا محب لأهل العلم وهو الهالك ، فإن من أبغض أهل العلم ، أحب هلاكهم ، ومن أحب هلاكهم فقد أحب أن يطفأ نور الله في الأرض ، ويظهر فيها المعاصي والفساد ، فيخشى أن لا يرفع له مع ذلك عمل ، كما قال سفيان الثوري وغيره من السلف .(4)
واحترام العلماء وتوقيرهم هو إجلال لله تعالى كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :- ولا الجافي عنه ، وإكرام ذي السلطان المقسط .(5)
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :- " ليس منا من لم يجل كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه ".(6)
وقال طاووس رحمه الله :- "من السنة أن يوقر العالم"(7).
وما أجمل ما كتبه الآجري في وصف العلماء حيث قال رحمه الله :-
" إن الله عز وجل وتقدست أسماؤه اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان ، كما اختص من سائر المؤمنين من أحب ، فتفضل عليهم ، فعلمهم الكتاب والحكمة ، وفقههم في الدين ، وعلمهم التأويل ، وفضلهم على سائر المؤمنين ، وذلك في كل زمان وأوان ، رفهم بالعلم وزينتهم بالحلم ، بهم يعرف الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، فضلهم عظيم ، وخطرهم(8) جزيل ، ورثة الأنبياء ، وقرة عين الأولياء حياتهم غنيمة ، وموتهم مصيبة ، يذكرون الغافل ، ويعلمون الجاهل ، ولا يتوقع لهم بائقة ، ولا يخاف عنهم غائلة ، جميع الخلق إلى علمهم غيظ الشيطان ، بهم تحيا قلوب أهل الحق ، وتموت قلوب أهل الزيغ ، مثلهم في الأرض كثمل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، إذا انطمست النجوم تحيروا ، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا .(9)
وبهذا يعلم أن الواجب تجاه العلماء هو محبتهم ومودتهم ، وتوقيرهم وإجلالهم ، كما جاءت به الشريعة ، دون غلو ولا إفراط
ولا شك أن الإستهزاء بالعلماء يضاد محبتهم وإجلالهم ، فالاستهزاء بالعلماء يعني السخرية بهم والاستخفاف بهم .
قال الآلوسي :-" الاستهزاء : الاستخفاف والسخرية ، وذكر الغزالي أن الاستهزاء الاستخفاف والاستهانة والتنبيه على عيوب والنقائص على وجه يضحك منه ، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول ، وبالإشارة ولإيماء ... وأصل هذه المادة الخفة ، يقال : ناقة تهزأ به أي : تسرع وتخف "(10).
إن الاستهزاء بأهل العلم صفة من صفات الكافرين ، وخصلة من خصال المنافقين ، كما قال أصدق القائلين جلا في علا في سورة البقرة الآية 212 " زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب ".
وقال سبحانه " ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهو فيها كالحون * ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين * ربنا اخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسؤا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري زكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون " سورة المؤمنون آية 103-111.
وقال جل شأنه " إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انتقلبوا إلى اهليهم انقبلوا فاكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلآء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين " سورة المطففين .
وقال تعالى في شأن المنافقين :- " وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون " القرة آية 14-15.
وقال " الذين يلمزون المطوِعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب اليم " التوبة ، آية 79.
ولقد حرص اعداء الإسلام من اليهود والنصارى وأذنابهم من منافقي هذا الزمان على تشويه سمعة العلماء ، وزعزعة مكانتهم في نفوس الأمة المسلمة .
فمما جاء في البروتوكول السابع عشر من برتوكولات اليهود :-
" وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأميين ( غير اليهود ) في أعين الناس ، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤودا في طريقنا ، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يومافيوما "(11).
وسعى هؤلاء في سبيل ذلك سعياً حثيثاً ، فشنوا الحملات المسعورة ، وأعدوا المخططات الرهيبة من أجل الكيد لهذا الدين والصدّ عنه ، عن طريق الطعن في حملة الإسلام ودعاته وعلمائه ، وقد آتت هذه المؤامرت ثمارها النكدة كما هو مشاهد في واقع الأمة ، وتولت وسائل الأعلام في بلاد المسلمين وغيرها كبر هذه الهجمة الشرسة على علماء الأمة (12) فظهر الاستهزاء بالعلماء والصالحين على وسائل الإعلام المختلفة ، وتطاول الأقزام من أهل الشبهات والشهوات على مقامات أهل العلم والصلاح باسم حرية الرأي والفكر ! ، واستهزاء بأهل الصلاح والديانة تحت مظلة محاربة التطرف والتشديد !
وساعد على استفحال هذا المنكر أسباب كثيرة ، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره ، نذكر – أيضاً – من تلك الأسباب :-
غلبة الجهل بدين الله تعالى بين المسلمين ، سواءً كان الجهلُ بحرمة المسلم وعظيم حقه ومنزلته ، أو الجهلُ بحكم الاستهزاء باهل العلم والصلاح . وسبب ذلك آخر وهو تنحية شرع الله تعالى في بلاد المسلمين ... فلو أن حد الردة –مثلاً- اقيم على من يستحقه ... فلن يتطاول سفيه على فتاوى اهل العلم ، كما هو واقعنا الآن ، وان يسخر مريض قلب من استقامة أهل الديانة وطهرهم ، والله حسبنا ونعم الوكيل .
إن الاستهزاء بالعلماء ... على ضربين :-
أحدهما :- الاستهزاء بأشخاصهم ، كمن يستهزئ بأوصافهم الخَلْقية أو الخُلُقية ، وهذا محرم لقوله تعالى " يأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم * ولا نسآء من نسآء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تتنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فاولئك هم الظالمون " الحجرات ، آية 11.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية :- " ينهى تعالى عن السخرية بالناس ، وهو احتقارهم ولاستهزاء بهم ن –ويروى- وغمط الناس (13) ".
والمراد من ذلك احتقاهم واستصغارهم ، وهذا حرام ، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى ، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ...(14) ".
والضرب الآخير :- الاستهزاء بالعلماء لكونهم علماء ، ومن اجل ما هم عليه من العلم الشرعي ، فهذا كفر ؛ لأنه استهزاء بدين الله تعالى ، وكذا الاستهزاء بأهل الصلاح من أجل استقامتهم على الديانة ، واتباعهم للسنة ، فالاستهزاء –هاهنا- متوجه على الدين والسنة .
ومن المناسب هاهنا أن نورد تعقباً لا بن حجر الهيتمي على ما قاله احد علماء الأحناف –عند ذكره لنواقض الإيمان- فقال هذا الحنفي (15) :-
" أو قال :- إيش مجلس الوعظ ، أو العلم لايثرد (16) ، أو وعظ على سبيل الاستهزاء ، أو ضحك على وعظ العلم ، أو قال : إيش هذا القبيح الذي خففت شاربك ، أو قال بئسما أخرجت السنة .(17) " أه كلامه .
فعقب أبن حجر قائلاً :- " ما ذكره في إيش مجلس الوعظ .. الخ ، إنما يتجه إن أراد الاستهزاء ، وكذا إن أطلق على احتمال قوي فيه لظهور هذا اللفظ في الاستخفاف بمجلس الوعظ والعلم .
وما ذكره في الوعظ استهزاء بالوعظ ، أو بكلماته ، لا من حيث كونه واعظاً فلا يتجه الكفر حينئذ ، وكذا يقال في الضحك على الوعظ .(18) "
ولما كان الاستهزاء بالعلماء والصالحين متحملاً للضربين المذكورين آنفاً ، صار محلاً للخلاف (19) ، وبهذا التفريق بينهما يزول الإشكال ، ويرتفع الخلاف .
وأما وجه كون هذا الاستهزاء يناقض الإيمان ، فلما يلي :-
أن الله عز وجل جعل الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى اله عليه وسلم (20) ، فقال تبارك وتعالى :-
" قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " التوبة ، آية 69،66.
فقد جاء في سبب نزول هذه الآيات عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأينا هؤلاء أرغب بطوناً(21) ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء ، فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبران رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن . قال عبدالله بن عمر : فأنا رأيته متعلقاً بحقب (22) ناقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تنكبه الحجارة ، وهو يقول :- يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :- " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم (23) ".
ونورد جملة من كلام أهل العلم في بيان ذلك :-
يقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب –رحمهم الله- في هذا الشأن " وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها ، أو بعمل يعمل به ...ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله (24)" .
وسئل الشيخ حمد عتيق –رحمه الله- عن معنى قول الفقهاء : من قال يا فقيّه بالتصغير يكفر .. فكان من جوابه :- "اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزاء بالله ، أو رسوله ، أو كتابه فهو كافر ، وكذا إذا أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء ، واستدلوا بقوله تعالى :- "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " التوبة ، آية 65،66.
وسبب النزول مشهور، وأما قول القائل: فقيه، أو عويلم، أو مطيويع ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل، أو الاستهزاء بالفقه أو العلم أو الطاعة، فهذا كفر أيضاً ينقل عن الملة فيستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً.(24) "
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم : - " قوله تعالى: - " أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ.." الآيات أي فليس لكم عذر؛ لأن هذا لا يدخله الخوض واللعب، وإنما تحترم هذه الأشياء وتعظم ويخشع عندها إيماناً بالله ورسوله، وتعظيماً لآياته، وتصديقاً وتوقيراً، والخائض واللاعب منتقص لها، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله، وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله.(25) "
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة ما يلي:-
" سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة، والاستهزاء بالمتمسك بها نظراً لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة، هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر، فإن أصر بعد العلم فهو كافر، قال الله تعالى: - " قُل ْأَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ*لاَتَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " التوبة، آية 65، 66 .(26) "
ذكر الله عز وجل أن الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين سبب في دخول نار جهنم، وعدم الخروج منها.
فعندما ينادي أهل النار قائلين:- " رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَافَإِن َّاظَالِمُونَ " المؤمنون، آية 107.
يقول الله تعالى جواباً عنهم:- "قَال َاخْسَؤُوا فِيهَا وَلاتُكَلِّمُونِ*إِنَّه ُكَانَ فَرِيق ٌمِّن ْعِبَادِي يَقُولُون َرَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْلَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنت َخَيْرُ الرَّاحِمِينَ* فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُم ْذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُم ْتَضْحَكُونَ " المؤمنون، آية 108،– 110.
وتوضيحاً لذلك نسوق أقوال بعض المفسرين لهذه الآيات
فمما قاله أبو السعود رحمه الله: - " وقوله تعالى: - {إنه} تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي أن الشأن {كَانَ فَرِيقٌ مِّن ْعِبَادِي} [وهم المؤمنون.. {يقولون} في الدنيا {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْلَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنت َخَيْرُالرحمين * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ؛ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم ربنا آمنا الخ، وتتشاغلون باستهزائهم " حتى أنسوكم " أي الاستهزاء بهم {ذكري} من فرط اشتغالكم باستهزائهم {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} وذلك غاية الاستهزاء(27).
ويقول الآلوسي: - قيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتكم؛ لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم.
وقيل: - خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون، فتشاغلتم بهم ساخرين، واستمر تشاغلكم باستـهزائهم إلى أن جركم إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم.
وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم، كما نبه عليه أولاً في قوله تعالى {مِّنْ عِبَادِي} وختمه بقوله تعالى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ} إلى قوله تعالى: - {هُمُ الْفَائِزُونَ}(28) .
ومما سطـره الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآيات: - {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ..} إلى قوله تعالى {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} حيث قال رحمه الله:-
" قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته، وقوله في هذه الآية " إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي " الآيتين. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة على أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: - "رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْلَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ " فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار...
وحتى في قوله: "حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي.. " حروف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار والعياذ بالله.(28) "
أن الاستهزاء بالعلماء والصالحين لأجل ما هم عليه من العلم الشرعي، واتباعهم للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، هو في حقيقته استهزاء بآيات الله تعالى، وسخرية بشرائع دين الله عز وجل، ولا شك أن هذا الاستهزاء كفـر يناقض الإيمان، يقول الله تعالى: - " وَإِذَاعَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًااتَّخَذَهَا هُزُوًاأُوْلَئِكَ لَهُم ْعَذَابٌ مُّهِينٌ " الجاثية، آية 9، ولم يجيء إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار.(29) "
يقول ابن حزم: - " صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآيـة من القـرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر.(30) "
4- ونختم هذا المبحث بجملة من أقوال العلماء في تلك المسألة.
يقول القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: - {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا..} الآية {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اشتغلتم بالاستهزاء عند ذكري {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين؛ لأنهم كانوا سبباً لاشتغالهم عن ذكره، وتعدى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم..
ويستفيد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء، والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل.(31) "
وجاء في الفتاوى البزازية: - " والاستخفاف بالعلماء لكونهم علماء استخفاف بالعلم، والعلم صفة الله تعالى منحه فضلاً على خيار عباده ليدلوا خلقه على شريعته نيابة عن رسله، فاستخفافه بهذا يعلم أنه إلى من يعود.(32) "
وجاء أيضاً:- " رجل يجلس على مكان مرتفع أو لا يجلس عليه، لكن يسألونه عن مسائل بطريق الاستهزاء، ويضربونه بما شاؤا وهم يضحكون كفروا.(33) "
" ويقول ابن نجيم: - " ويكفر بجلوسه على مكان مرتفع والتشبه بالمذكرين ومعه جماعة يسألون من المسائل ويضحكون منه، ثم يضربونه بالمخراق (34)، وكذا يكفر الجميع لاستخفافهم بالشرع، وكذا لو لم يجلس على مكان
مرتفع، ولكن يستهزئ بالمذكورين ويتمشى والقوم يضحكون، وبقوله لا تذهب وإن ذهبت تطلق امرأتك استهزاء بالعلم والعلماء جواباً لمن قال إلى مجلس العلم، جواباً أين تذهب(35) "
ويقول أيضاً:- " ولو صغر الفقيه أو العلوي قاصداً الاستخفاف بالدين كفر، لا إن لم يقصده.(36) "
ويقول – في كتاب آخر -: - " الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر.(37) "
ويقول ملا علي قاري: - " وفي الظهيرية من قال لفقيه أخذ شاربه: ما أشد قبحاً قص الشارب ولف طرف العمامة تحت الذقن يكفر؛ لأنه استخفاف بالعلماء يعني وهو مستلزم لاستخفاف الأنبياء عليهم السلام؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام، وقص الشارب من سنن الأنبياء عليهم السلام فتقبيحه كفر بلا اختلاف بين العلماء.
وفي الخلاصة من قال: قصصت شاربك وألقيت العمامة على العاتق استخفافاً يعني بالعالم أو بعلمه فذلك كفر.
ونقل عن الأستاذ نجم الدين الكندي بسمرقند أن من تشبه بالمعلم على وجه السخرية، وأخذ الخشبة، وضرب الصبيان كفر، يعني لأن معلم القرآن من جملة علماء الشريعة فلاستهزاء به وبمعلمه يكون كفراً.
وفي المحيط ذكر أن فقيهاً وضع كتابه في دكان وذهب، ثم مر على ذلك الدكان، فقال صاحب الدكان: ههنا نسيت المنشار، فقال الفقيه عندك كتاب لا منشار، فقال صاحب الدكان: النجار بالمنشار يقطع الخشب، وأنتم تقطعون به حلق الناس، أو قال حق الناس، فشكى الفقيه إلى الإمام الفضلي يعني الشيخ محمد بن الفضل، فأمر بقتل ذلك الرجل؛ لأنه كفر باستخفاف كتب الفقه.
وفي التتمة: من أهان الشريعة أو المسائل التي لا بد منها كفر، ومن ضحك من المتيمم كفر. (38) "
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن بعض الناس يسخرون بالملتزمين بدين الله ويستهزئون بهم فما حكم هؤلاء؟
فأجاب: - " هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق، فإن الله قال عن المنافقين: - " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَيَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَاللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " التوبة، آية 79.
ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم، وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفـرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزىء بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله لكنهم على خطر عظيم. (39)" }.
( من كتاب نواقض الإيمان القولية والعملية / طباعة دار الوطن )
تأليف . ذ. عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف
_
(1)أخرجه أحمد 2/407 وأبو داود (3641) والترمذي (2646) وابن ماجه (223) ، وحسنه الألباني [رحمه الله] في صحيح الترهيب والترغيب للمنذري 1/33 .
(2)مفتاح دار السعادة 1/66 بإختصار.
(3)قال الهيثمي :- :أخره الطبراني في الثلاثة والبزار ، "ورجاله موثقون" انظر : مجمع الزوائد (1/123)
(4)شرح حديث أبي الدرداء ص 30-32 بإختصار.
(5)أخرجه أبو داود (4843) وحسنه الألباني [رحمه الله] في صحيح الترغيب والترهيب 1/44 .
(6)أخرجه الحاكم في المستدرك (1/122) ، وحسنه الألباني [رحمه الله] .
(7)جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/129.
(8)خطرهم : أي شرفهم وقدرهم –( انظر مصباح المنير ص 208 ، ومختار الصحاح ص 180.
(9)أخلاق العلماء ص 81-83 بإختصار .
(10)انظر لسان العرب 1/183 ، والمصباح المنير ص 787.
(11)بروتوكلات حكماء صهيون / ترجمة محمد خليفة التونسي ص 187.
(12)انظر :- المشايخ والإستعمار لحسني عثمان ، والقول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين لعبد السلام بن برجس آل عبدالكريم ، والاستهزاء بالدين وأهله لمحمد القحطاني .
(13)أخرجه مسلم كتاب الإيمان (1/93)
(14)تفسير ابن كثير 4/213.
(15)لم يذكر ابن حجر الهيتمي أسم هذا الحنفي.
(16)لا يثرد من قولهم : ثرد الخبز : أي فتّه ثم بله بمرق (انظر اللسان 3/102) ، وظاهر العبادة السابقة : العلم لا يثرد ... الاستهزاء بالعلم واحتقاره .
(17)الإعلام لابن حجر ص 372،373.
(18)الإعلام لابن حجر ص 372،373
(19)انظر روضة الطالبين للنووي 10/68 ، والإعلام لابن حجر ص 361.
(20)أنظر فتاوى اللجنة الدائمة 2/14،15.
(21)أي : أوسع بطوناً ، انظر : الفائق في غريب الحديث للزمخشري 2/69.
(22)الحقب : حبل يشدّ به رحل البعير إلى بطنه . انظر المرجع السابق 1/300.
(23)أخرجه الطبري في تفسيره 10/104 ، وانظر الصحيح المسند من أسباب النزول لمقبل الوادعي [رحمه الله] ص 77 .
(24)قرة عين الموحدين : ص 217.
(25) حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد ، ص 323 .
(26)فتاوى اللجنة الدائمة 1/256 ، 257 .
(27)تفسير أبي السعود 4/87 = باختصار يسير .
(28)أضواء البيان 5/827 ، 828 = باختصار .
(29)انظر الصارم المسلول لابن تيمية ص 52 .
(30)الفصل 3/299 ، وانظر المحلى 13/00 5 – 502 .
(31) تفسير القرطبي 12/154 = باختصار .
(32)الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى العالمكيرية) 6/336 .
(33) المرجع السابق 6/337 .
(34) المرجع السابق 6/337 .
(35)البحر الرايق 5/132 .
(36) المرجع السابق 5/134 .
(37) الأشباه والنظائر ص 191.
(38) شرح الفقه الأكبر ص 260 – 262 = باختصار ، وانظر تهذيب ألفاظ الكفر لمحمد اسماعيل الرشيد ص 26
(39)المجموع الثمين 1/65 ، وانظر الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للدوسري ص 63 ، والمنافقون في القرآن لعبدالعزيز الحميدي ص 384 .
* الترك يعد فعلاً وعملاً ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، قال تعالى : " " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الأثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " " المائدة ، آية 63 فسمى الله عز وجل عدم نهي الربانيين والأحبار لهم صنيعاً ، والصنع فعل . وقال تعالى : " " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " " فسمى عدم تناهيهم عن المنكر فعلاً . وقال صلى الله عليه وسلم : " عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها ، فوجدت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق ، ووجدت في مساويء أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن " أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب النهي عن البصاق في المسجد ، في الصلاة وغيرها 1/390 ، رقم الحديث (553) .
انظر تفصيل هذه المسألة : - روضة الناظر لابن قدامة ص 54 ، والموافقات للشاطبي 4/58، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 42، والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص 62، وشرح الروضة للشنقيطي ص 38، وأفعال الرسول لمحمد الأشقر 2/47-50.