هل يمكن دراسة البيولوجيا دراسة علمية ؟؟؟
مقدمة و طرح المشكلة
الانسان مرتبط بالطبيعة ايما ارتباط فهو يؤثر فيها و يتأثر بها , لكن في بعض الاحيان تحدث في الطبيعة بعض الظواهر التي يعجز عن تفسيرها , علما أن الانسان اعتمد منذ القدم في تفسير ما يحيط به عدة وسائل و طرق , فمن التفسير الخرافي الى الاسطوري الى الاهوني الى الفلسفي ثم العقلي , و قد لعبت الفلسفة دورا هاما في تقديم تفسير عام للوجود و تفسير شامل للعالم الخارجي و لما يحيط بالانسان من ظواهر , و أصبحت مع مرور الوقت عبارة عن أداة تفتح باستمرار مسائل جديدة امام الفكر البشري , ما أسهم في استقلال العديد من مجالات المعرفة فيها في شكل علوم مستقلة اتبعت منهجها التأملي العقلي و لغتها المعتمدة على الوصف و معتمدة على المنهج التجريبي الذي يقوم على الملاحظة , الفرضية و التجربة , كانفصال الفيزياء على يد نيوتن و الكيمياء على يد لافوازييه . و يعتبر فرنسيس بيكون اول من وضع اسس المنهج التجريبي و قد اقامه على المادة الجامدة , و قد شهدت العلوم الفيزيائية و الكيميائية تطورا كبيرا بفضل اعتمادها على هذا المنهج , ما دفع بعلماء البيولوجيا الى محاولة تطبيق نفس المنهج على مادتهم الحية .
لكن اختلاف المادة الحية عن الجامدة من حيث طبيعتها المعقدة و التشابك الحاصل في تركيبتها دفع بالبعض الى القول انه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية بنفس خطوات تطبيقه على المادة الجامدة . بينما هناك من يرى ان المادة الحية كالجامدة يمكن دراستها دراسة علمية . و من هذا و ذاك ظهر جدل واسع بين الفلاسفة و المفكرين , و نحن امام هذا نطرح المشكلة الجلية الآتية : هل يمكن اخضاع البيــــولوجيــا للمنهج التجريبي ؟؟؟
الموقف الاول :
يرى انصار الاتجاه الكلاسيكي انه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي الذي وضع اساسا لدراسة المادة الجامدة على المادة الحية , نظرا لجملة من الصعوبات و العوائق الابيتيمولوجية التي تعترض علماء المادة الحية في ذلك في ذلك .
إن المادة الحية شديدة التعقيد مقارنة بالمادة الجامدة فلا يمكن تقسيمها الى اجزاء (كما هو الحال في المادة الجامدة) لانها تشكل وحدة عضوية , فلو اردنا فصل احد اعضاء الجسم فاننا نفسد بنيتة اي وظيفتة , اي لا يمكن دراستها دراسة فردية , و في هذا الصدد يقول كوفييف , الفيلسوف و الفيزيولوجي الفرنسي : ’’ إن محاولة فصل أي عضو عن الجسم هو موت الجسم ’’ . فالتشابك بين وظائف أعضاء الجسم يقلل من امكانية دراسة كل منها على حدة زو يصعب من عملية فصلها , فالكائن الحي يقوم بجملة من الوظائف بواسطة عدة اعضاء بحيث يتخصص كل عضو بوظيفة معينة , فإذا اختل هذا العضو اختلت الوظيفة بطبيعة الحال , و لا يمكن لعضو آخر أن يؤديها , و يقول كوفييه أيضا في هذا الصدد : ’’ إن سائر أعضاء الجسم مرتبطة فيما بينها فهي لا تتحرك الا بقدر ماتتحرك كلها معا و الرغبة في فصل الجزء عن الكل معناه نقله من الذوات الحية الى الذوات الميتة و معناه ايضا تبديل ماهية الشيئ تبديلا تاما ’’ . و نعلم أنه من خطوات و اساسيات المنهج التجريبي الملاحظة التي من شروطها االدقة و الشمولية , لكن ذلك يبدو صعبا جدا في المادة الحية ,لأنه لا يمكن ملاحظة العضو ككل نظرا لتشابك و تعقيد و تداخل تركيبته مما يحول دومن ملاحظته ملاحظة علمية خاصة عند حركته أو قيامه بوظيفته , كما لا يمكن ملاحظة العضو منفصلا عن الكل الذي ينتمي اليه لان بذلك تكون الملاحظة ناقصة غير شاملة , و يطرح ايضا عائق التجريب مشاكل كثير و كبيرة , حيث أن الكائن الحي يتأثر بتغيير الوسط الذي هو فيه , فإذا كان يتصرف بطريقة عادية في الوسط الطبيعي فإنه يبدي غير ذلك تماما في الوسط الاصطناعي نظرا لتعريضه لجملة من التأثيرات كالتخدير مثلا , ز مثال ذلك الواضح هو دراسة البكتيريا بعد قتلها و تلوينها أو وسمها إشعاعيا ...
و تقتضي التجربة أيضا تكرار الظاهرة من أجل تأكيد الفرضيات و الملاحظات المطروحة , ولما كان ذلك يتسن للباحث في ميدان المادة الجامدة فإنه يتعذر على البيولوجي , لأن تكرارها لا يؤدي الى نفس النتائج رغم الانطلاق من نفس الاسباب و المقدمات , إظافة الى ما سبق نذكر عائق التعميم و التنبؤ , حيث يستند علماء المادة الحية الى التنبؤ رغم ان ذلك يستحيل على مستوى البيولوجيا كون الكائن الحي في تطور و تغير مستمر فتكون المرحلة التي يعيشها الكائن الحي نتيجة مرحلة سابقة و سبب المرحلة القادمة أي انه اليوم يختلف عن الغد , كما يتم اعتماد التعميم في شكل استقراء ناقص لانه لا يخضع لمبدأ الحتمية , و يظهر ذلك من خلال تجربة لويس أغاسيز على الاصداف ,حيث وجد صدفتين غير متشابهتين من أصل 27000 صدفة , كما أن التعميم قد يوقع في الخطر نظرا لاختلاف العضوية من جنس لآخر أو حتى بين ابناء الجنس الواحد , و من هنا تظهر مشكلة أخرى و هي مشكلة التصنيف , فإذا كان ذلك ممكنا في المادة الجامدة فإننا نجد خلافه في المادة الحية بسبب الخصائص التي ينفرد بها كل كائن عن غيره , بالإضافة الى كل هذا فإنها تتدخل في هذا الامر مشاكل و حدود أخلاقية و دينية كتحريم التشريح أو منعه دفاعا عن كرامة الانسان أو ماشابه .
الموقف الثاني :
خلافا لأنصار الاتجاه الكلاسيكي يرى علماء المادة الحية انه يمكن تطبيق خطوات المنهج التجريبي من ملاحظة , فرضية و تجربة على البيولوجيا , لكن حسب ما تسمح به طبيعة المادة الحية , فالمادة الحية كالجامدة من حيث مكوناتها حيث انها تتكون من نفس العناصر المشكلة للمادة الجامدة كالكربون , البوتاسيوم , الهيدروجين ... و بالتالي من الممكن بل من الضروري تفسير الظواهر الحية بقوانين المادة الجامدة الخاضعة للمنهج التجريبي , و بفضل تطور الوسائل صار بالامكان ملاحظة العضوية ملاحظة دقيقة دون فصل الاعضاء عن بعضها , و خاصة بعد ظهور الاشعة و المجهر الالكتروني ... , حيث انه يمكن ملاحظة و تتبع مراحل نمو الجنين في رحم أمه دوك الحاق أي ضرر به .
و حتى ان تم فصل العصو عن الكل فإنه يمكن الابقاء عليه حيا لمدة من الزمن و ذلك بوضعة في اوساط فيزيولوجية و محاليل كيميائية خاصة , و هذا ما يمكن من إعادة التجربة عدة مرات , و قد أخذ علم الاحياء يتطور خاصة بعد التجارب العديدة التي قام بها لويس باستور على المادة الحية , و بات من الأكيد ا أن تطبيق هذا المنهج يصلح في مثل الظواهر , و الدليل على ذلك ما وصل إليه علم الوراثة , الطب ... , و في هذا السياق يمكن ذكر تجربقة برنارد كلود الشهيرة على الارانب , حيث بدأها بملاحظة ان بول الارانب الموجودة في المخبر حامضي رغم انها آكلات أعشاب , فصاغ فرضية على أن آكلات الاعشاب تستهلك بروتين جسمها في حال الجوع , ثم قام بتجويع الارانب للحصول على البول الحامضي , فكان ذلك ما حدث , فأعاد التجربة عدة مرات مستندا الى قاعدة التلازم في الحضور و الغياب , فكانت النتائج متوافقة مع افتراضه , ثم أعاد نفس التجربة على حيوان عشبي آخر و ه و الحصان فحصل على النتيجة نفسها , فصاغ برنارد القانون القائل ان آكلات الاعشاب إذا ما جاعت تتغذى على بروتين جسمها , هذا بالإضافة الى اكتشاف علم الجينات لعنصر dna و تطور زرع الاعضاء و علم الجينات ... , كما أن طرق الملاحظة و التجريب الحديثة دقيقة آمنة و واضحة , و الواقع خير دليل على ذلكثم ان التعميم في علم المادة الحية ممكن لكن فيه يء من النسبية و هذا أمر موجود و مسلم به حتى في المادة الجامدة , فكيف لنا أن لا نقبله في البيولوجيا ؟ . من كل ما سبق يتوضح لنا ان تلك الصعوبات المطروحة لم تبقى كذلك بل تمكن البيولوجيون من تجاوزها .
نقد الموقف الثاني :
مع ذلك فإنه لا يمكن موافقة اصحاب هذه النظرية في كون الظواهر البيولوجية مماثلو لظواهر المادة الجامدة , فالزواقع و الابحاث تؤكد الاختلاف بينهما , حيث تتميز المادة الحية عن الجامدة بالتعقيد و التشابك و عدم القدرة على التعميم و التنبؤ إظافة الى المشكل الاخلاقي و و غيرها .
و هذا ما يفسر عدم القدرة على معرفة و تحليل بعض الظواهر الحية , فلا يجب المبالغة في إباحة التجريب حتى لا تدخل في إطار المحضور اخلاقيا و قانونيا .
التركيب :
إن حجج و براهين و ادلة و الطريحين و الانتقادات الموجهة لكليهما ادت الى ظهور موقف ثالث يركب بينهما و القائل انه يمكن تطبيق خطوات المنهج التجريبيب على المادة الحية لكن في حدود المعقول , أي مع مراعاة خصوصياتها , و لعل هذا ما يسمى بتهذيب المنهج التجريبي ليتلاءم مع المادة الحية , فيمكن دراسة البيولوجيا دراسة علمية لكن مع الاحتفاظ بطبيعتها و خصائصها , يقول برنارد كلود في هذا الصدد . ’’ لابد لعلم البيولوجيا ان يأخد من الفيزياء و الكيمياء المنهج التجريبي لكن مع الاحتفاظ ببحوادثه و قوانينه الخاصة ’’
الخاتمة :
نستنتج مما سبق ان الاشكالية المطروحة حول تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية تأخذ عدة أبعاد , فيمكن تطبيقه لأن العلم المعاصر ساعد على تطور البيولوجيا و الدراسات اصبحت موضوعية و دقيقة , و لا يمكن التعصب لمنهج على حساب آخر , فالمهم هو تطوير هذه العلوم و فق متطلبات العصر , , لكن التجريب محدود مقارنة بالعلوم الفيزيائية و الكيميائية لاعتبارات اخلاقية ... . و يبقى الهم هو البحث عن طرق و علوم جديدة تتماشى و طبيعة المادة المدروسة , لذا لابد من تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية .
تم بحمد الله تبارك و تعالى
دعواتـــــــكم