العقود الإدارية
التصرفات القانونية التي تجريها لإدارة وتقصد بها إلى أحداث الآراء القانونية , أما أن تتمثل بالتصرفات التي تقوم بها الإدارة من جانب واحد وبإرادتها المنفردة وتشمل القرارات والأوامر الإدارية التي أوضحناها سابقاً .
وأما أن تتمثل بالأعمال القانونية الصادرة عن الإدارة بالاشتراك مع بعض الأفراد بحيث تتوافق الإدارتان وتتجهان نحو أحداث أثر قانوني معين و لجأ الإدارة إلى إتباع هذا الأسلوب لتحقيق هدفها في إشباع الحاجات العامة , وفق ما يمكن تسميته بعقود الإدارة .
والعقود التي تبرمها الإدارة لا تخضع لنظام قانوني واحد , فهي على نوعين : الأول عقود الإدارة التي تخضع للقانون الخاص والتي تماثل العقود التي يبرمها الأفراد في نطاق القانون الخاص , والنوع الثاني هو العقود الإدارية التي تخضع لقانون العام والتي تبرمها الإدارة باعتبارها سلطة عامة تستهدف تنظيم مرفق عام أو تشغيله , وفي هذا الجزء من الدراسة نبين موضوع العقود الإدارية في خمسة فصول كما يلي :
العقود التي تبرمها الإدارة لا تخضع لنظام قانوني واحد ، فهي على نوعين: الأول عقود الإدارة التي تخضع للقانون الخاص والتي تماثل العقود التي يبرمها الأفراد في نطاق القانون الخاص ، والنوع الثاني هي العقود الإدارية التي تخضع للقانون العام والتي تبرمها الإدارة باعتبارها سلطة عامة تستهدف تنظيم مرفق عام أو تشغيله .
تمت تقسيم هذا الباب إلى خمسة فصول كما يلي :-
الفصل الأول: ظهور فكرة العقود الإدارية.
الفصل الثاني: معيار تمييز العقد الإداري .
الفصل الثالث: إبرام العقود الإدارية .
الفصل الرابع: الحقوق والالتزامات الناشئة عن العقد الإداري .
الفصل الخامس: نهاية العقود الإدارية .
الفصل الأول
ظهور فكرة العقود الإدارية
لم تظهر فكرة العقود الإدارية ألا في تاريخ متأخر لا يتجاوز مطلع القرن العشرين , وقد مر تحديد مفهوم نظرية العقود الإدارية وأسسها العامة بتطور استغرق حقبة طويلة من الزمن .
وفي هذا الفصل نتناول بالدراسة نشأة نظرية العقود الإدارية , ثم نبحث في استقلال هذه النظرية والتعريف بالعقد الإداري .
المبحث الأول
نشأة العقود الإدارية
حظيت مشكلة تحديد نشاط السلطة العامة باهتمام كبير من رجال القانون والإدارة، واختلف هذا الاهتمام تبعاً للأفكار السياسية التي يؤمن بها كل منهم .
ولعل أبرز مذهبين كان لهما التأثير في هذا المجال هما المذهب الفردي الحر والمذهب التدخلي المعاصر ، حيث وضع كل منهما أسلوباً محدداً لدور الدولة ووظيفتها في مختلف المجالات وفقاً للفلسفة السياسية التي يؤمن بها .
وكان لانتصار مفهوم الدولة التدخلية وتوسيع مجال نشاط السلطة العامة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وانتشار المرافق العامة المهنية والاقتصادية الفضل في خلق مبادئ قانونية جديدة هي مبادئ القانون الإداري تتميز عن قواعد القانون الخاص وتتماشى مع طبيعة نشاط الإدارة وهدفها ولا تغفل في الوقت نفسه حقوق الأفراد وحرياتهم ، وساهم في ذلك بشكل كبير مجلس الدولة الفرنسي الذي يعود له الفضل في تأسيس العديد من نظريات القانون الإداري ومنها نظرية العقود الإدارية .
وقد طبقت مصر أحكام العقود الإدارية عقب إنشاء مجلس الدولة في عام 1964 واختص مجلس الدولة بنظر منازعات العقود الإدارية بصدور القانون رقم 9 لسنة 1949.
المبحث الثاني
استقلال نظرية العقود الإدارية
نشأ الكثير من الجدل حول الطبيعة القانونية للعقود التي تبرمها الدولة مع الغير ، وقد دار هذا النقاش بين قدسية الالتزامات التعاقدية وبين امتيازات الدولة التشريعية والإدارية التي تمارس من خلال أجهزتها لتحقيق المصلحة العامة .( )
ولا شك أن العقد الإداري ناتج عن توافق ارادتين على إنشاء الالتزام شأنه شأن عقود القانون الخاص وفي هذا المعنى يتضح أن العناصر الأساسية في كلا العقدين واحدة، فيجب أن يتوافر الرضا ويجب أن يكون صحيحاً وصادراً من الجهة الإدارية المختصة ، وسليماً من العيوب.
ألا فيما يتعلق بالأهلية ، فأحكامها في العقد الإداري ليست كما هي عليه في العقد المدني لاختلاف أهلية الإدارة عن أهلية الشخص الطبيعي في الحكم .( )
كما يتميز العقد الإداري في أن الإدارة تكون دائماً طرفاً فيه ، وأن تكوينه وأن كان يتم بتوافق إدراتين لا يكون بمجرد إفصاح فرد معين من أعضاء السلطة الإدارية عن أرادته و إنما يتكون من عدة أعمال قانونية ، يشترك فيها أكثر من عضو من أعضاء السلطة الإدارية ، لأن الاختصاصات الإدارية لا ترتكز في يد واحدة. ( )
كذلك يجب أن يتوافر السبب في العقود الإدارية مثلما هو الحال بالنسبة لعقود القانون الخاص مع ضرورة أن يكون الباعث الدافع في العقود الإدارية هو تحقيق المصلحة العامة .
وكما هو الشأن في عقود القانون الخاص يجب أن يكون السبب موجوداً ومشروعاً وألا عد العقد باطلاً . من جهة أخرى يشترط في محل العقد الإداري أن يكون محدداً أو قابلاً للتحديد ومشروعاً . ( )
والمحل يتمثل في الحقوق والالتزامات التي ينشئها العقد على طرفيه كما هو الحال في عقود القانون الخاص مع ضرورة الذكر بأن محل العقد الإداري يتميز بمرونة خاصة توفرها الامتيازات الممنوحة لجهة الإدارة والتي تخولها تعديل التزامات المتعاقدين في بعض الأحيان تحقيقاً للمصلحة العامة .
وبسبب التشابه الكبير بين الأركان في هذين العقدين ، لم يتفق الشراح على موقف واحد إزاء استقلال نظرية العقد الإداري عن النظرية التقليدية لعقود القانون الخاص ، وقد برز اتجاهان :
الاتجاه الأول :
ذهب الأستاذ Dugit إلى أنه لا يوجد فرق أساسي بين العقد المدني والعقد الإداري لأنهما متفقان في عناصرهما الجوهرية فالعقد الإداري يتمتع دائماً بالخصائص نفسها والآثار عينها .
وعلى هذا الأساس لا يوجد عقد إداري متميز عن العقود التي تبرم بين الأفراد ولكن يوجد اختلاف في الاختصاص القضائي فقط إذ يرفع النزاع أمام القضاء الإداري لأن الإدارة تبرز في العقد بصفتها سلطة عامة وبقصد تسيير مرفق عام وإدارته . والفرق بين هذه العقود والعقود المدنية يشبه تماما الفرق بين العقد المدني والعقود التجارية التي تخضع للمحاكم التـجارية لاستهدفها أغراضـا تجارية . ( )
الاتجاه الثاني:
يمثل هذا الاتجاه الذي يختلف عن السابق طائفـة من الفقـهاء منهم الأستاذ . Jeze ( ) و de laubadere .( ) اللذان ذهبا إلى أن النظام القضائي في القانون الإداري نظام خاص مستقل عن نظام القانون الخاص لاختلاف منابعهما ومصادرهما القانونية الأساسية ، كما أن العقود الإدارية تختلف هي أيضاً عن عقود القانون الخاص من حيث نظام منازعاتها والقواعد الأساسية التي تختلف بصورة عامة عن قواعد القانون المدني وتناقضها أحياناً ، وهذه الخصوصية تمليها متطلبات المصلحة العامة التي تهدف العقود الإدارية إلى تحقيقها .
والحق أنه لا يمكننا التسليم بما ذهب إليه الاتجاه الأول وأن كان ينطوي على حقيقة مفادها وجود نقاط توافق كبيرة بين العقود الإدارية وعقود القانون الخاص ، ألا أن هذا التوافق لا ينفي وجود نظام قانوني متميز يخضع له العقد الإداري ، ينبذ الفكرة القائلة بوحدة العقد سواء إبرام بين الأفراد أم بينهم وبين الدولة.
ففي الوقت الذي تكون فيه المصالح متكافئة والمتعاقدان متساويين في عقود القانون الخاص نجد أن المصلحة العامة في ظل عقود القانون العام تتميز بالأولوية إذ تقدم المصلحة العامة للإدارة على المصلحة الخاصة للأفراد .( )
والإدارة بهذه الحال وبوصفها قائمة على تحقيق المصلحة العامة تتمتع بحقوق و امتيازات لا يتمتع بها المتعاقد معها تخولها حق مراقبة تنفيذ العقد وتوجيه المتعاقد نحو الأسلوب الأصلح في التنفيذ ، وحق تعديل شروط العقد بإرادتها المنفردة ، دون أن يستطيع المتعاقد أن يتمسك بقاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين يضاف إلى ذلك بعض الحقوق و الامتيازات الأخرى التي لا مثيل لها في عقود القانون الخاص ، التي لا تهدر مصلحة المتعاقد وإنما تجعل مصلحته ثانوية بالنسبة للمصلحة العامة .( )
المبحث الثالث
التعريف بالعقد الإداري
اختلف القضاء و الفقه في وضع تعريف محدد للعقود الإدارية، وقد حاول القضاء الإداري في فرنسا ومصر والعراق حسم هذا الخلاف بتحديد المبادئ الرئيسية للعقود الإدارية.
وفي ذلك عرفت المحكمة الإدارية العليا في مصر العقد الإداري بأنه" العقد الذي يبرمه شخص معنوي من أشخاص القانون العام بقصد إدارة مرفق عام أو بمناسبة تسييره، وأن تظهر نيته في الأخذ بأسلوب القانون العام، وذلك بتضمين العقد شرطاً أو شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص".( )
وقد أيد جانب كبير من الفقهاء في مصر هذا الاتجاه، منهم الدكتور سليمان محمد الطماوي، الذي ذهب إلى أن العقد الإداري" هو العقد الذي يبرمه شخص معنوي عام بقصد تسيير مرفق عام أو تنظيمه، وتظهر في نية الإدارة في الأخذ بأحكام القانون العام، وآية ذلك أن يتضمن شروطاً استثنائية وغير مألوفة في القانون الخاص أو يخول المتعاقد مع الإدارة الاشتراك مباشرة في تسيير المرفق العام" . ( )
ويبدو أن الرأي الغالب سواء في مصر أم العراق قد أستقر على أن العقد يكتسب صفته الإدارية إذا توافرت فيه ثلاثة عناصر هي :
1- أن يكون أحد طرفي العقد شخصاً معنوياً.
2- أن يتصل هذا العقد بمرفق عام .
3- أن تختار الإدارة وسائل القانون العام .
الفصل الثاني
المعيار المميز للعقد الإداري
مر تمييز العقد الإداري عن عقود الإدارة الأخرى بمراحل زمنية متعاقبة بدأت بمحاولة المشرع تمييز عقود الإدارة بإرادته، وفق ما يسمى في نظرية العقد الإداري بمرحلة العقود الإدارية بتحديد القانون ثم أعقبت ذلك مرحلة أخرى وضع فيها القضاء الإداري عدة معايير للتمييز سميت بمرحلة التمييز القضائي للعقود الإدارية .
وفي هذا الفصل نبحث هاتين المرحلتين من مراحل تمييز العقود الإدارية .
المبحث الأول
العقود الإدارية بتحديد القانون
ContratsAdministratif par Determination delaloi
يلجأ المشرع في بعض الأحيان – وعندما يجد أن تطبيق نظام القانون العام أكثر ملائمة لحل المنازعات المعروضة من القانون الخاص – إلى إضفاء الصفة الإدارية على بعض العقود ويقرر اختصاص القاضي الإداري بالنظر فيما تثيره من منازعات ويطلق على هذه العقود، العقود الإدارية بتحديد القانون. ( )
وقد ظهر هذا التحديد أول مرة في نص المشرع الفرنسي في بداية عهد الثورة الفرنسية عندما وصف بعض العقود بأنها إدارية وخص مجلس الدولة فيما تثيره من منازعات سعياً منها لتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات بمنع القضاء العادي من التصدي لأعمال الإدارة، فجعل اختصاص النظر في المنازعات في شأن بعض العقود لمجلس الدولة .
وقد تمثلت النصوص التي عقدت الاختصاص فيما تثيره من منازعات لمجلس الأقاليم بموجب قانون (28) بلفوز " السنة الثامنة للثورة".( )
وكذلك المرسوم الصادر في 11-6-1806 المتعلق بعقود التوريد و القانون الصادر في 17-7-1790 و 26-9-1793 المتعلق بعقود القروض العامة وعقود بيع أملاك الدولة و المرسوم بقانون الصادر في 17-6-1930 عد كل عقد يتضمن شغلا لمال عام عقدا إدارياً في كل الحالات أياً كان شكله أو تسميته وسواء أبرمته الإدارة المركزية أم جهاز لا مركزي إقليمي أو مرفقي أو ملتزم لمرفق عام.( )
أما في مصر فقد حدد المشرع في المادة العاشرة من القانون (74) لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة، العقود الإدارية التي يختص مجلس الدولة بنظر المنازعات الناشئة عنها بالنص "تختص محاكم مجلس الدولة دون غيرها بالفصل في المسائل الآتية : حادي عشر : المنازعات الخاصة بعقود الالتزام أو الأشغال العامة أو التوريد أو بأي عقد أخر."
وقد تعرضت فكرة التحديد القانوني للعقود الإدارية لكثير من النقد لأسباب ترجع إلى طبيعة بعض العقود التي قد لا تتلائم مع التكييف الذي يضفيه عليها المشرع، وفي الحالات التي ينسجم فيها هذا التكييف مع طبيعة العقد ومضمونة فإن تحديد المشرع له يكون كاشفاً فقط.
لذلك نعتقد أن ترك تحديد العقود الإدارية للقضاء لا شك أقدر على كشف الطبيعة القانونية لها، خاصة إذا كان هذا القضاء إدارياً متخصصاً.
المبحث الثاني
التمييز القضائي للعقود الإدارية
إزاء الانتقادات الموجهة لتحديد المشرع للعقود الإدارية و سعي القضاء نحو توسيع اختصاصه ليشمل عقوداً أخرى لسد ما في التشريع من نقص – تكفل القضاء بالبحث في الطبيعة القانونية للعقد وفق معايير محددة من قبل، وفي حالة توفرها يكون العقد إدارياً ويعكسه يبقي العقد ضمن دائرة القانون الخاص.
وقد ظهرت هذه المعايير نتيجة لتطور قضائي طويل انتقلت فيه غلبة كل معيار على الأخر تباعاً .
وسنتكلم فيما يأتي عن المعايير التي اعتمدها القضاء و الفقه الإداريان في تمييز العقود الإدارية.
أولاً :- أن تكون الإدارة طرف في العقد
من المسلم به أن العقد الذي لا تكون الإدارة طرفاً فيه لا يعد عقداً إدارياً، وهذا الشرط تستلزمه المبادئ العامة للقانون الإداري الذي وجد ليحكم نشاط السلطات الإدارية أما العقود التي تبرم بين الأفراد أو أشخاص القانون الخاص الأخرى فأنها تعد من عقود القانون الخاص ولو أبرمت لتحقيق المصلحة العامة .
وأشخاص القانون العام تتمثل بالدولة و الوزارات و المؤسسات الإدارية التابعة لها فضلاً عن الأشخاص العامة المحلية من محافظات ومدن وأحياء يضفي القانون عليها الشخصية المعنوية .
وفي هذا السبيل فقد استقر الرأي على استبعاد عقود القانون الخاص ولو حققت مصلحة عامة إلا في أحوال معينة بالقياس إلى العقود التي تبرم باسم الإدارة ولحسابها، وقد ذهب القضاء الإداري في فرنسا ومصر إلى أن العقود التي تبرمها الإدارة مع أشخاص القانون الخاص تعد إدارية إذا ما ظهر أن أحد المتعاقدين قد تعاقد باسم الإدارة ولحسابها متى توفرت الشروط الأخرى من اتصال العقد بالمرفق العام وتضمينه شروطاً استثنائية .
وقد طبقت محكمة التنازع هذا الاتجاه في حكم له بشأن عقد أبرمته إحدى شركات الاقتصاد المختلط مع منشأة خاصة وتتلخص وقائع هذه القضية في أن شركة الاقتصاد المختلط التي كانت ملتزمة بتسوية وتمهيد لقريتي " ماسي و انتوني " بالتعاقد مع منشأة خاصة