اصول الايمان - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتاب و السنة

قسم الكتاب و السنة تعرض فيه جميع ما يتعلق بعلوم الوحيين من أصول التفسير و مصطلح الحديث ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

اصول الايمان

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2019-04-22, 11:05   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B18 اصول الايمان

أُصُول الإيمان (2)
الدَّرسُ الأول (1)
د. فهد بن سعد المقرن
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكُم الله يا شيخ عبد الرحمن، وأسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والإعانة، وأن يكون هذا الفصل بداية خيرٍ للجميع، وأن يرزقنا العلم النَّافع، والعملَ الصَّالح.
{نستأنف في هذا الفصل -بإذن الله- باب "حقوق النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"من متن أصول الإيمان.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب حقوق النبي -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- وقول اللَّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ الآية [النساء: 59]، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وقول اللَّه تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الآية [الحشر: 7].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّها، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». رواه مسلم)}. بسم الله، الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فهذا الباب عقده المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى؛ لبيان أصلٍ مِن أصول الإيمان وهو ما يتعلق بحق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا الأصل مُتفرِّعٌ عن أصلٍ من أصول الإيمان، وهو: الإيمان بالرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- ولهذا فإنَّ الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أوردَ الآيات والأحاديث في الدلالة على ذلك.
تحت هذا الباب وهذه الآيات والأحاديث مسائل يحسُن بنا أن نتعلمها وأن نذكرها:
أولى هذه المسائل: نقول: إنَّ من أركان الإيمان بالله-عزَّ وَجلَّ: ركنُ الإيمان بالرسل، وأركان الإيمان معلومة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
فلاحظ أنَّ الإيمان بالرُّسل أصلٌ من أصول الإيمان، وهذا الأصل لابدَّ فيه من الاعتقاد الجازم بأنَّ لله رُسلًا أرسلهم، نُؤمن برسالتهم، ونُؤمن بأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- أرسلهم وأنزل عليهم الكتب، مُبشرين ومُنذرين، وداعين إلى توحيد الله -عزَّ وَجلَّ، ونؤمن بأنَّ الله تعالى خَتَمَ الرِّسالة بنوَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو آخر الرسل، وخاتم النبيين -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكما أنَّه خاتم الرسل، فما جاء به من الاعتقاد والدِّين هو ختمٌ للرسالات النبويَّة، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وبه ختمت الرسالة، ودينه ناسخٌ للأديان السَّابقة، فلا يَقبل الله -عزَّ وَجلَّ- إِلَّا دين الإسلام، إلا ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والإيمان بنبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تشمل الإيمان بأن الله أرسله للناس جميعًا، للثقلين الإنس والجن، وهذا اعتقاد لازم في الإيمان.
قال الله تعالى في بيان عُموم نُبوة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]؛ إذن "العَالمين" يشمل كل العوالم، ومنه الإنس والجن، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158].
ومن بلاغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه بَلَّغ الجن، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ [الأحقاف: 29].
ومن الإيمان بعموم رسالة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإيمان بأنَّه النَّبي الخاتم -كما أسلفنا- فقد ختمت النُّبوة به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أنَّ الكتاب الذي أنزله الله على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو القرآن العظيم الذي سمَّاه الله تعالى بالفرقان نُسِخَت به الكتب السَّابقة؛ لأنَّ الكتب السَّابقة لم تَسْلَم مِنَ التَّحريف والتغيير والتَّبديل، كما عند اليهود بما يُسمى "التَّوراة" أو بما يُسمى بــ"العهد القديم"، وعند النَّصارى بما يسمى بــ"الإنجيل" أو ما يسمى بــ "العهد الجديد"؛ فهذه كلها دَخَلَها التَّحريف والتَّغيير والتَّبديل في لفظها وفي معناها، وأمَّا الكتاب الذي أنزل الله -عزَّ وَجلَّ- على محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبلَّغه الأمين جبريل -عليه الصَّلاة والسَّلام- للنبيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومِنْ ثَمَّ بَلَّغَه النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأمَّته فهو محفوظ من التَّغيير والتَّبديل، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]؛ فحفظه الله -عزَّ وَجلَّ- وجعله ناسخًا ومهيمنًا بقوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48]، أي: مهيمنًا على الكتب السَّابقة وناسخًا لها، وهذا لابدَّ فيه من الإيمان، ومن اعتقد خلاف ذلك فقد خرج من دين الإسلام بإجماع أهل العلم قاطبة.
ثاني هذه المسائل: هي مسألة مهمة ينبغي لطالب العلم أن يتعلمها وأن يُعَلِّمها النَّاس؛ أنَّ معرفة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُقْبل فيها التَّقليد؛ لأنَّ الله تعالى ذمَّ التقليد في الاعتقاد، قال تعالى عن أهل الشِّرك: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾[الزخرف: 23].
وقد صرَّح العلماء-رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- بأنَّ معرفة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُقبل فيها التقليد، قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين: "كل ما يُطلب فيه الجزم يمتنع التقليد فيه، والأخذ فيه بالظن؛ لأنه لا يُفيده" ، أي: لا يُفيد المعتقد لاعتقاده.
قال الشَّيخ عبد الله بن مطير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "فرض على كل أحد معرفة التَّوحيد وأركان الإسلام بالدَّليل، ولا يجوز التَّقليد في ذلك، والعامِّي إذا كان يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا لا شكَّ فيه فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدَّليل"، يعني: يترجم هذا الاعتقاد بالدَّليل، لا يلزم أن يحفظ الدَّليل، ولكن لابدَّ فيه من الاعتقاد الجازم، لا يقوله تقليدًا.
{هل يُفهم من هذا أنَّ تقليد الصَّحابة أو التَّابعين غير سائغ؟}.
لا، التَّقليد ليس هذا محله، ولكن التأسِّي بأفعال الصَّحابة له باب، والتَّأسِّي لابد أن يكون أصله مشروعًا، فالصَّحابة -رضوان الله عليهم- لا يُتأسَّى إلا بما هو مشروع مما يفعلونه؛ لأنَّ الحجَّة والأسوة في النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولهذا فإنَّأسوةالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاءت بالدَّليل، ولهذا ألَّفَ الشَّيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- رسالة "الأصول الثلاثة"، وهي رسالة عظيمة، ومن ملخصاتها: رسالة "تلقين العامة أصول الدين"، وهذا يدلك على أن دعوة الشيخ المجدد-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- دعوة عمليَّة كما أنَّها دعوة عالميَّة وعلميَّة فهي أيضًا علميَّة نشرت العلم، حتى إنَّ العامِّي من المنتسبين للدعوة يعرف أصول الدين بالدليل ويحفطها، لهذا ألف الشيخ الأصول الثلاثة؛ لأنَّ هذه الأصول مبينة على سؤالات الملكين للمقبور، فحينما يُقبَر الإنسان يُسأل عن هذه الثلاث مسائل: (من ربك؟ من هذا الذي بُعث فيكم -وفي رواية: من نبيك- وما دينك؟)؛ فهذه الأسئلة لا يُقبل فيها التَّقليد، ولهذا فإنَّ الإنسان يجيب عن الاعتقاد الذي كان عليه حال الحياة.
وجاء في رواية عن سؤال الملكين منكر ونكير: قال: فأما المنافق والكافر فيقول: «لها ها َالا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ» ، فدلَّ على أنَّه مُقلِّد، ما قاله عن اعتقاد، ولهذا ألَّفَ الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-"تلقين العامة أصول الدين"، ولهذا كان عامة أهل هذه المنطقة وإن لم يكن يقرأ ويكتب يحفظ هذه الرسالة عن ظهر غيب؛ لأنه لا يُقبل فيها التَّقليد، وقد أدركتُ أنا كبار سنٍّ يحفظونها وهم لا يَقرؤون ولا يكتبون! لأنها من الاعتقاد والاعتقاد لا يُقبل فيه التَّقليد.
وورد في رسالة الأصول الثلاثة وفي رسالة تلقين العامة أصول الدين: (فقل: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، بلده مكة، هاجر إلى المدينة....)، تفاصيل تُنبئ عن أن مَن يسأل عنها يعرفها، وهي جُمَل بسيطة مطلوب من الإنسان أن يحفظها وأن يعرفها؛ لأنها من الدين، فالإنسان يحفظ أشياء كثيرة، ولا يُقال: إن الذي لا يقرأ ولا يكتب لا يحفظ، لا؛ بل إنَّ العامَّة يحفظون أبيات شعر كثيرة، فما بالك بما يتعلَّق بالدِّين؟! فهذا أمر مُهم جدًّا.
ولهذا فإنَّ تعليم العَامِّي معنى مَعرفة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مهمٌّ جدًّا؛ لأنَّ هذه المسألة من المسائل التي يُسأل عنها الميت حينما يدفن في قبره: «من نبيك؟ ما دينك؟»، فدلَّ على أنَّ هذا الاعتقاد دون معرفة، والمعرفة تحصل بالبيان، وهذا يدلُّك على عناية دعوة الشَّيخ الإمام المجدد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بأمر التَّوحيد وأصول الإيمان، ويدلك على وسطية هذه الدعوةفي حق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأمَّا المناوئين للدَّعوة والمشبِّهين والمضلِّين فإنَّهم ينسبون للدَّعوة الكذب والزُّور وأشياء غير صحيحة، أمَّا أهل السُّنة فيعلمون عامتهم اعتقادهم في النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويعلمونهم اسمه ومولده وبما أرسل؛ فدلَّ على أنهم هُم أهل تعظيم للنَّبي وتعزيره وتوقيره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كذلك مما هو متعلِّق بمسائل أصول الإيمان وركن الإيمان بالرُّسل، والإيمان بنبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن تؤمن بهذه الشَّهادة التي هي أحد أركان الإسلام؛ لأن أول أركان الإسلام الشَّهادتان:شهادة أنَّ لا إله إلا الله: وقد تقدم معنا تعريف هذه الشهادة، وأنه لا معبود بحقٍّ إلا الله، وأن توحيد الله -عزَّ وَجلَّ- بألوهيته، وذلك متضمِّن لتوحيده بربوبيَّته وأسمائه وصفاته -كما هو معلوم، وأن تعرف معنى هذه الشَّهادة، فالشَّهادة هي: أن تقرَّ بلسانك، وتعتقد بقلبك هذا الإقرار الذي أقررت به، فلا يتم الإيمان إِلَّا به.
ومعنى أنَّ الإنسان يشهد أنَّ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أن يوافق قوله بلسانه شيئًا من الاعتقاد، فلا يقول ألفاظًا مجردة لا معنى لها، قال أهل العلم: معنى الإقرار بالشهادة: "طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبَد الله -عزَّ وَجلَّ- إلا بما شرع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فهي عبارات موجزة، ولكن تحتمل معانٍ عظيمة، ويلزم من الإقرار الالتزام؛ لأنَّ الدين ليس ألفاظًا مجردةً، بل ألفاظ يتبعها معنًى واعتقاد وعمل، فإذا أقررت بشهاد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيلزم من هذا الإقرار أن يُطاع فلا يُعصَى، وأن يُصدَّق فيما أخبر به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والأنبياء تخبر بما تحار به العقول، لا بما تحيله العقول، فأشياء كثيرة جاء بها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأخبار أشراط السَّاعة، وأخبار الأمم السَّابقة قد تحار العقول فيها، ولكن لا تحيلها، فليزمك أن تصدق بها، وأن تعلم أن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالها، وإذا قالها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيلزمك أن تعتقد بصدقها، فإذا ساورك الشَّكُّ أو الرَّيب فيها فقد أخللت بمقتضى هذه الشهادة التي قلتها بلسانك.
وأما اجتناب ما نهى عنه وزجر؛ فإن الإيمان لا يكمل إلا بهذا.
وأن لا يُعبَد الله -عزَّ وَجلَّ- إلا بما شرعه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الشريعة قد كمُلَت بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، والذي يُخبر عن الإسلام هو محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]، فالتَّأسِّي إنما يكون بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكما قال الإمام مالك: "كلنا رادٌّ ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر"، يعني: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالتَّحاكم إلى كتاب الله، وإلى سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعرف الحق، ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ- في أكثر من موضع من كلامه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[الحجرات: 1]، فلا يتقدَّم الإنسان بعقله أو برأيه على ما أمر الله به، وما أمر به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الله -عزَّ وَجلَّ:﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[الحشر: 7]، فهذا مُقتضى الإيمان والشَّهادة؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء بشريعة تنظِّم العلاقات بين النَّاس، ويُتحاكم النَّاس إليها في كلِّ شيء، في الجنايات، في الدِّيات، في الأحوال الشَّخصية كلها، فهذه شريعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موجودة في القرآن، وفي سنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم لما أنزل الله الشريعة بيَّنَ أنه لا يتم الإيمان إلا بالتَّحاكم إلى هذه الشريعة، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، ومما يُحمد للدولة السعودية في هذا القرن الرابع عشر: "النظام الأساسي في الحكم أنَّ الحكم لكتاب الله ولسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكل نظام يُخالف هذا فهو لاغٍ وباطل"، جاء هذا في المادة السابعة من النِّظام الأساسي للحكم، وهذا عمل بما أمر الله به، وهذا من علامات التَّمكين ومن علامات الخير لهذه البلاد، ونسأل الله -عزَّ وَجلَّ- أن يعم الخير بلاد المسلمين جميعًا؛ لأنه لا راحة للناس ولا أمان ولا استقرار إلا بالتَّحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن تمام الشَّهادة: الانقياد والطَّاعة للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وانتفاء الحرج في القلب، فلا تجد حرجًا في حكم الله -عزَّ وَجلَّ- وحكم رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذكر الشيخ قول الله -عزَّ وَجلَّ- في الآية الأولى وهي خطاب للمؤمنين، قال عبد الله بن مسعود: "إذا سمعت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأرعها سمعك، فإنها إمَّا خير تؤمر به أو شر تُنهى عنه".
قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ الآية [النساء: 59].
هنا ملحظ: أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- عطف طاعة ولي الأمر على طاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال علماء التفسير: "فكرَّرَ الفعلَ في حقه تعالى وفي حق رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يكرره في حق ولاة الأمر؛ لأنَّ أمر الله يُطاع استقلالًا، مع أن الله أمر بطاعته، وليس معنى ذلك أنهم لا يُطاعون؛ بل يطاعون، ولا تنتظم أحوال الناس إلا بطاعة أولي الأمر، ولكن لأن طاعة الله وطاعة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تجب استقلالًا، ولا ينُظر فيها، فإذا جاءك الأمر من الله أو الأمر من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاسمع وأطع، أمَّا طاعة أولي الأمر فهي تبعٌ لطاعة الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيُطاعون كما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المعروف، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن طاعتهم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» ، أي: فيما يُعرف في الشريعة بما لا يُخالف الشريعة، فلا يُطاع في المعصية، فولاة الأمر إن أمروا بمعصية فلا يُطاعون، فكل من له ولاية حتى الوالد والوالدة إذا أمروك بمعصية فلا طاعة لهم!
ولهذا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وطاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استقلالًا، وأولي الأمر يُطاعون في المعروف، وفيما لا نصّ فيه، كتنظيم أحوال النَّاس وترتيبها، والأمر بهذا والمنع من هذا؛ فهذا لا يُخالف الشَّريعة؛ فتجب الطَّاعة لهم فيه؛ لأنَّ أمور النَّاس لا تستقيم إلا بطاعتهم.
وقد ألَّف الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- رسالة من إملائه في مجلسٍ واحدٍ في طاعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد ذكرَ ابن القيم جزءًا منها، فطاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الإيمان، والاستجابة لذلك، وتعظيم أمر الله -عزَّ وَجلَّ.
الآية الثانية: قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، إذن طاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-سبب للرحمة.
قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الآية [الحشر: 7]، إذن في الأمر والنهي يُطاع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أورد الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- حديث أبي هريرة: «أُمِرتُ أَنْ أُقاتِل النَّاسَ...».
تحت هذا الحديث مسائل مهمة جدًّا:
المسألة الأولى: مشروعية الجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله -عزَّ وَجلَّ.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرتُ أَنْ أُقاتِل النَّاسَ»، أمره الله -عزَّ وَجلَّ- بذلك لإعلاء كلمة الله وظهور التوحيد، وهذه شريعة، والجهاد ذروة سنام الإسلام، وهذا الجهاد موجود حتى عند الأمم الأخرى، فكل من كان له اعتقاد لابد أن يكون عنده دفاع عن هذا الاعتقاد ونشرٌ له.
وهذا الجهاد له أحكام في الشريعة كما أنَّ الصَّلاة لها أحكام، فتختلف أحواله باختلاف أحوال المسلمين وقدرتهم، وتمكُّنهم، فجهاد الطلب ليس مشروعًا في كل وقتٍ وكل حينٍ، ويقتضي النظر فيه إلى السِّياسة الشَّرعيَّة، لكنَّه ذروة سنام الإسلام ومن شعائر الدين، فلا أحد يُشكِّك فيه؛ لأنه موجود في القرآن، وإنما شُرِعَ لأجل أمرٍ، وليس لقتال الآخرين والمغالبة على الدنيا ولاستيلاء على الأراضي والسَّيطرة على الشُّعوب، هذا قتال الأمم الأخرى، أمَّا قتال أهل الإسلام المسمَّى بالجهاد فما شُرع لهذا، وإنما شُرع لشيءٍ معيَّنٍ، وهو ظهور التَّوحيد، والنَّاس فيه سواسية، لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتَّقوى، فظهور الشَّريعة فيه الأمان والسَّلامة للنَّاس، ولذا كان الصَّحابة -رضوان الله عليهم- في قتالهم للفرس والروم يقولون: أمرنا بإخراج الناس من عبادة العبادة إلى عبادة ربِّ العباد، فكان جهادهم رحمة للأمم المجاورة، فكان الفرس يستعبدون من تحت أيديهم من شعوبهم، والروم كذلك، وجاء الإسلام ليُحررهم من رق العبودية والاستعباد إلى عبادة الواحد الأحد، وأمنوا في الإسلام وحصل لهم الخير، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]، الفتنة هنا: الشرك.
وهذا القتال والجهاد ملاكه ليس بأيدي الناس والأفراد، ولكن بأيدي مَن ولاهم الله -عزَّ وَجلَّ- الأمر، والناس تبعٌ لهم، فهو تبع لحال المسلمين بحسب القدرة عليه والتَّمكُّن، فلا يُشرَع في كل وقتٍ، أما الدفاع فواجب، فلو أنَّ أمة من الأمم هاجمت بلد من بلدان المسلمين؛ فيجب على أهل الإسلام وأهل تلك البلدة أن يدفعوه، وأَّما جهاد الطلب فهو بحسب القدرة والتَّمكُّن، وليس مشروعًا في كل وقت، وتقريره إنما يكون على ولاة أمر المسلمين وليس لأفراد الرعية.
كذلك من المسائل المهمة في هذا الحديث وهو أصل عظيم من أصول الإسلام: أنَّ الطَّريق الشَّرعي للدخول إلى الإسلام هو النُّطق بالشَّهادتين، وهو أول واجب على المكلف، فأوَّل واجب هو شهادة أنَّ لا إله إلا الله، فكل من يريد أن يدخل في الإسلام ينطق بالشَّهادتين، والنُّطق باللسان يشمل الإقرار والاعتقاد بالقلب لما يقوله بلسانه، ثم يمتثل ويعمل، فالاستسلاملله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله؛ لا يتم إلا بمثل هذا، وهو أول واجب على المكلف. وهذا هو منهج أهل السُّنة والجماعة وعقيدتهم.
أمَّا عقيدة أهل البدعة من الطَّوائف الكلاميَّة: يقولون: إنَّ أوَّل واجبٍ على المكلف هو النَّظر، أو القصد إلى النَّظر، أو الشَّك! وهذا أُخذ من تراث الأمم السَّابقة، ومن زُبالَة أفكار البشر!
وأمَّا ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يأتِ منه أن أوَّلَ واجبٍ النَّظر أو القصد إلى النَّظر او الشَّك؛ إنَّما جاء الأمر بالشَّهادة.
وفي قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرتُ أَنْ أُقاتِل النَّاسَ حتَّى يَقُولُوا لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّه فَمَنْ قَالهَا، فقَدْ عَصَمَ مِنِّي »، يعني: مَن أظهر الإسلام بالنُّطقِ بالشَّهادتين قُبِلَ منه، فمن قال: "أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله" قُبِلَ منه؛ لأنَّ الإقرار القلبي لا يطَّلع عليه إِلا الله -عزَّ وَجلَّ- ولهذا عاتب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسامة بن زيد حينما قتل مَن يُقاتله، فلما سقط منه السيف قال: "لا إله إلا الله" قالها مُتعوِّذًا؛ فعاتبه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ!» .
فمن أظهر النُّطق بالشَّهادتين قُبِلَ منه، ووُكِلَ إلى أمر الله -عزَّ وَجلَّ- ومن أظهر الإسلام يُعامل معاملة المسلمين ما لم يظهر منه ما يُناقض هذه الشهادة؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إلا بحق الإسلام»، فمناقضة هذه الشَّهادة يكون بارتكاب نواقض الإيمان، ونواقض الإيمان كثيرة جدًّا ومذكورة في كتب أهل العلم من فقهاء المالكيَّة والشَّافعيَّة والحنفيَّة والحنابلة، مثل: المغني، المجموع للنَّووي، مختصر خليل، الهداية من كتب الحنفيَّة، وبدائع الصنائع، وتجد كتاب "المرتد" لتوضيح نواقض الإيمان.
فالشَّهادة كما أنها إقرار فإنَّ لها نواقض، فمن لم يُظهر نواقض هذه يُقبَل منه.
كذلك من الأمور المهمَّة التي ينبغي أن يُلفت النظر إليها: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إلا بحق الإسلام»، وفي رواية: «إلا بحقها»، أفاد هذا أنَّ من ارتكب فعلًا يُبيحُ دمه فإنَّه يؤخَذ به، فمن قتل فإنه يُقتل، ومن زنى بعد إحصانٍ فإنه يُقتل رجمًا كما جاء في الشريعة، وكذا من ارتدَّ عن دين الإسلام، ولهذا جاء في بعض الروايات: «والتاركُ لدِينِهِالمفارِقُ للجماعةِ» ، فإنه يُقتَل، وقد ذُكر هذا في باب أحكام المرتد.
إذن نواقض الإيمان ونواقض الإسلام ليست عند الشَّيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وحده؛ بل عند الفقهاء كلهم، حتى إنَّ بعض فقهاء الحنفيَّة يُشدِّدون في مسألة الألفاظ الكفريَّة، فيُكفِّرون بمجرَّد الألفاظ، وهذا لاشك محل نظر، لكن نبيِّن لك أن الشِّيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما انفرد بهذا، ولم ينفرد فقهاء الحنابلة بذلك؛ بل عموم أهل المذاهب، حتى يُعلم أنَّ الإسلام كما أنه يُقبَل فيه الظَّاهر، وأنَّ الإنسان يدخل في الإسلام بكلمة؛ فإنَّه يخرج بكلمة.
وهذا مذكور في القرآن في مسألة الاستهزاء بالله وبرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصَّة الذي استهزؤوا بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصحابة وقالوا: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء..."؛ أنزل الله-عزَّ وَجلَّ- قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ﴾ [التوبة: 65]، هناك قواعد وثوابت وقع عليها إجماع أهل العلم، حتى يُعلم أن الشَّريعة لم تدع شيئًا إلا وقد بيَّنته وفصَّلته، وأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد بلَّغ البلاغ المبين، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، الحجَّة في كلام الله، وفي كلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأمَّا ما عدا ذلك فهو محل نظر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولهما عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
ولهما عنه مرفوعا: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»)}.
قولهولهما)، يعني: البخاري ومسلم من حديث أنس.
وتحت هذا الحديث مسائل:
أول هذه المسائل: أن يُعلم أن حُبَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجب أن يكون أعظم حبٍّ بعدَ حبِّ الله -عزَّ وَجلَّ- وهو تابعٌ لمحبَّةِ الله -عزَّ وَجلَّ- ولازمٌ لهذه المحبَّة، والله -عزَّ وَجلَّ- بيَّنَ التلازم في سورة آل عمران، فقال تعالى:﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[آل عمران: 31]، فمحبة الله يستلزم منها محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطاعة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومحبَّة الله ومحبَّة الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي طريق الجنَّة وإن قصُرَ بالعبد العلم، فقد يكون العبد لديه قصور في العمل، فأعظم ما يتقرَّب إلى الله -عزَّ وَجلَّ- به هو محبته، ومحبة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد جاءت البشرى لأهل الإيمان وأهل التَّوحيد، ولمن يحب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويعظمه حق تعظيمه، قال تعالى:﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾[الفتح: 9]، فتعزير النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتوقيره من لوازم الإيمان، فقد جاء رجل إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "متى الساعة؟". فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أعْدَدَتَّ لَهَا؟». قال الرجل: "ما أعددتُ لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة"، أي ما عندي شي كثير من الأعمال، وكأنه استقلَّ عمله، وهذا من طبيعة أهل الخير، قال: "ولكنني أحبالله ورسوله". فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» ، فاستبشر الصحابة بهذا الحديث، لأنهم يُحبون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه بشرى لمن جاء بعده، فمن كان يحب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسبيل محبته مرافقته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الجنان، وهذه نعمة، فإنَّ الإنسان قد يقصر به العمل فيبلغ بالاعتقاد القلبي ما لا يبلغه بالعمل، ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ- عن أهل الإيمان: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الطور: 21]، فدلَّ ذلك على أن الإنسان يبلغ منازلًا في الجنة، لأن الجنةمنازل متفاوتة، منازل عليا بسبب الاعتقاد القلبي ومحبة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو بشفاعة الصَّالحين، أو بأن يلحقه الله -عزَّ وَجلَّ- بأبويه وهما أعلا منه منزلةً.
المسألة الثَّانية: أنَّ محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها مظاهر، يُعرف بها إن كانت المحبَّة صادقة أو كاذبة؛ لأنَّ كل يدَّعي هذه المحبَّة، وإنما الشَّأن ليس بالدَّعوى، وإنما موافقة الدَّعوى العمل.
كيف أعرف أني أحبُّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
المحبة عمل قلبي، وليست بعمل ظاهر، وأعمال القلوب لا يطلع عليها إلا علَّام الغيوب -سبحانه وتعالى- ولكن لها شواهد ومظاهر تظهر في الجوارح، ومن أعظم مظاهر محبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طاعته، واتباعه، والتَّأسِّي به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أفعاله، وأن تحافظ على سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القوليَّة والعمليَّة؛ فهذا دليل على أنك مُحبٌّ للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن أحبَّ تأسَّى وأطاع، قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُطاع استقلالًا ويُتأسَّى به استقلالًا؛ بينما غيره فإنَّه محل نظر، يُنظَر في فعله ويكون قدوة، لكن قدوته باتِّباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه قد يفعل من الصحابة أفعالًا تخالف ما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجتهادًا، فلا يكون أُسوة، وهذا يتعلق بالسُّؤال السَّابق عن تلقيد الصحابة.
إذن الذي يُقلَّد استقلالًا ويُطاع استقلالًا ويُتأسَّى به هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأما ما عداه فيُنظر هل وافق الشريعة فيُقبل، أو خالف الشريعة فيُرَد، ويُعتذَر له، كأن يفعله عن اجتهاد.
مثلًا: ثبت عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومرَّ عليكم في كتاب الوضوء: أنه كان يُطيل الغرَّةوالتَّحجيل في الوضوء تأوُّلًا في الفضل الذي جاء أن المؤمن يبلغ به الحلية مبلغ الوضوء؛ فيُجاوز الحد!
وهذا اجتهاد منه لا يُوافق عليه؛ لأنه يُخالف النَّص الذي جاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مثل هذا.
ومثل ما نُقل عن عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنَّه كان يُدخل الماء في عينيه في الوضوء!
وهذا أيضًا مخالف لما جاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه لم يُنقل عنه أنَّ هذه أفعاله، وأفعال الصَّحابي هذه يُعتَذر لها؛ لأنَّ هذه أفعال اجتهاد منه، وليست موضع تأسٍّ واقتداء.
وكذلك من مظاهر محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشواهدها: التَّحاكم إلى سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلى شريعته والرِّضا بذلك، ولا يجد في قلبه حرج، فإذا جاءه الأمر عن الله وعن رسوله قال: سمعنا وأطعنا.
ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، ولهذا لما اعترض ابن الخويصرة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ؟!» ، واختصم الزبير بن العوام ورجل من الأنصار في شراج الحرَّة، فلما تحاكما إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلزُّبَيْرِ «أَسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ:"أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ" فأغلظ على النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله وأساء! والواجب أنه إذا حكم النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُلتزم بحكمه.
ومن مظاهر هذه المحبة: الذَّب عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قالةِ السُّوء، ولازال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُطعَن فيه ويُتكلَّم فيه من أعداء الدين والملة من المتقدِّمين والمتأخِّرين، وشواهد هذا في العصر الحديث!
فمن يُحب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذبُّ عنه ويدافع عن سنَّته من تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وهذا من محبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يكون الدِّين الذي جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما جاء دون غلو أو جفاء.
كذلك من المسائل المتعلِّقة بمحبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّ محبَّته هي الوسطيَّة، فكلٌّ يدَّعي محبته؛ ولكن هذه المحبة بين الغلو والجفاء.
ومِن الغاليين في محبة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طوائف، مثل: الصوفيَّة الطُّرقيَّة، بأشكالهم وألوانهم وطرقهم المتنوعة!
وقد نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الغلو في حقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا موضع مهم جدًّا؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الغلو فيه.
ومن غلو النصارى في عيسى بن مريم أنهم قالوا: إنه ابن الله، قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30]، فهذا من الغلو في عيسى بن مريم، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا، ولهذا فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»، فحذر من الغلو في حقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي حقِّ الصالحين أيضًا، فقال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ، يُحذر مما صنعوا.
فالنصارى ادَّعوا أنَّ المسيح ابن الله، ومن ثَمَّ دَعوه من دون الله، والنَّصارى الآن يدعون عيسى ويؤمنون به أنَّه المخلص، ويدعونه وأمَّه من دون الله، ويوم القيامة يُحضَر الناس ويُبيَّن أن عيسى لم يأتِ بهذَا، قال تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ﴾[المائدة: 116]، فعيسى جاء بالتَّوحيد، وما جاء بالشرك، ولهذا فإن مَن غلا في حق عيسى فقد أطراه، والذي حملهم على ذلك هو الغلو في المحبَّة، فالمحبَّة مطلوبة، ولكن من يغلو في المحبة فقد تجاوز الحدود الشَّرعيَّة، وكما أنَّ النَّصارى غلت في عيسى أخبر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ هذه الأمَّة سيقع منها الغلو؛ لأنه قال: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» ، لأنَّ ما أحد يدخل جحر الضَّبِّ؛ لأنه مكان غير صالح للدخول، ولا حتى أن تدخل يدك فيه!
قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟!. قال: «فَمَنْ؟!»، إذن الأمة تتابع اليهود والنَّصارى،وهذا إخبار من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسنة وكونيَّة وقعت بالأمَّة، فقد أطروا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغلو فيه بزعمهم أنَّهم يحبونه، فأحذث الصُّوفيَّة الطرقيَّة مولدًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي لم يحتفل به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا الصَّحابة ولا التَّابعين، وما زالوا يشبهون على النَّاس كما فعلت النَّصارى في الاحتفال بميلاد المسيح ابن مريم، والذي لا يصح أصلًا من جهة هذا ولكنهم يفعلونه، فضاهت هذه الأمَّة بعض ما وقع في اليهود والنصارى من جهة الغلو، وكما أنَّ اليهود غلت في عُزير فقالت: إنه ابن الله.
ومن الإطراء: أن يُدَّعَى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم الغيب، أو أنَّه يُستغاث به من دون الله، أو يُعتَقَد أنه يتصرَّف في الكون، البوصيري صاحب القصيدة المشهوة "البردة"، هذه القصيدة فيها ثلاثة أبيات -نسأل الله السلامة والعافية!
يقول قاصدًا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَالَي مَنْ أَلُوذُ بِهِ *** سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ
العياذة والاستعاذة لا تكون إلا بالله، ولا تكون بغير الله -عزَّ وَجلَّ-، فلا تكون بملكٍ مقرب ولا بنبيٍّ مرسل بإجماع أهل العلم.
يقول:
إِنْ لَم تَكُنْ آخِذًا يَوْمَ الْمَعَاِد يَدِي *** عَفْوًا وَإِلَّا فَقُل: يَا زَلَّةَ الْقَدَمِ
وغلا في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصيدته، فقال:
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضُرَّتَهَا *** وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ
فهذا ادِّعاءٌ أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم الغيب، وقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188]، وهذا خطاب الله -عزَّ وَجلَّ- للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما نقرأ القرآن! ما نتعلم ما في القرآن! ما نرجع لكلام أهل العلم! فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعلم الغيب إلا ما أعلمه الله، قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل: 65]، وقال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ﴾[الأنعام: 59]، فهذا كله لا يعلمه إلا الله -عزَّ وَجلَّ. فهم يعتقدون أن من علوم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم اللوح والقلم!!
والنَّبي لا يعلم إلا ما أعلمه الله به، فلا يعلم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا إذا جاء جبريل بالوحي وأخبره، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُزِمَ أصحابه يوم أحد، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثبَتَ، وكُسرَت رَباعيَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشُجَّ رأسه، ودخلَت حلقتين من حِلَق المغفر في وجنتيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسالَ الدَّمُ منه، فلو كان يعلم الغيب ما مسَّه السُّوء -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدلَّ هذا على أنه لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله تعالى به، ويجري عليه ما يجري على البشر من الألم والمرض، فاللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه.
وهذه هي محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المحبَّة الحقيقيَّة التي تُبيِّن وسطيَّة أهل السُّنَّة في هذا، أمَّا مَن يُخالف هذا ويعتقد أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو مَن دون النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم الغيب؛ فلا شكَّ أنَّ هذا ضالٌّ منحرف.
ومن المسائل المهمَّة: أنَّ الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب ضمَّن في أصول الإيمان حقوق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي هذا أبلغ الرَّد على من يُناوئ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فزعمغلاة المتصوفة، وشبَّهوا على الناس بالأكاذيب والضلالات أن محمد بن عبد الوهاب يتنقَّص النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويقول: عصاي هذا أنفع لي من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! وأنه يُحرِّم الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
إلى آخر هذه الأكاذيب التي تردها كتب الشيخ التي تشهد بخلاف ذلك، ويكفي في ذلك ما عرضه من حقوق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الموجودة في كتبه التيبينَ أيدينا، وهو من المعظِّمين للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّعظيم الذي جاء به الشريعة.
والشَّيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- اختصر سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كتابه، والشيخ-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يرى أن الصَّلاة على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ركنٌ من أركان الصَّلاة، لا تصح الصَّلاة إلا بها، بخلاف قول غيره من فقهاء الحنفيَّة والمالكيَّة الذين يرون أنَّها سنَّة؛ فكيف يُقال أن محمد بن عبد الوهاب يُعادي!!
ولكن الله -عزَّ وَجلَّ- قد كتب لكل أصحاب الحق العداوة، الأنبياء ما سلموا من العداوة، قال تعالى:﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾[الفرقان: 31]، وينبغي على الإنسان ألا يصدق الأكاذيب والتُّرهات، يقول أبو كِلابة الجُرمي-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "يا أهل السنَّة لا تهولنكم الألقاب"، تسمية دعوة الشيخ بأنها "وهابيَّة" أو كذا...، فهذه ألقاب، كما أن أهل السنة في وقت المعتزلة والجهميَّة كانوا يسمون الإمام أحمد وسفيان الثَّوري وسفيان بن عيينة والشَّافعي وغيرهم من أهل السُّنن "حشويَّة، نوابت، حملة أسفار"، فهذه شِنْشِنةٌ معروفةٌ من أهلِ الباطل، ما تهولنا الألقابُ، وإنما ننظر إلى الحقائق، فإذا قيلت الدَّعوة فلينظر الإنسان بالبينة والمعرفة لمثل هذا.
هذا ما يتعلق ببعض هذه المسائل، ولعل الله -سبحانه وتعالى- ييسر أن نكمل الأسبوع القادم -إن شاء الله- ما يتعلق بالمسائل التَّابعة لهذا الحديث، والله أعلم، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
منقول ....البناء العلمي









 


رد مع اقتباس
قديم 2019-04-23, 13:37   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أصول الإيمان (2)
الدرس الثاني (2)
د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{سنبتدئ في هذه الحلقة -بإذن الله- من عند قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (ولهما عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
ولهما عنه مرفوعا: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»)}.
أحسنت، بارك الله فيك.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شَريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
لازال الاستكمال في بحثِ المسائلِ المتعلِّقة بهذا الباب، ومنه حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ومِن المسائل التي يجدرُ بنا أن نتدارسها: ما ذكره النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الخِصَال التي يجد بها المؤمن حلاوةَ الإيمان، فدلَّ على أنَّ للإيمان حلاوةٌ وطعمٌ ولذَّةٌ يجدها الإنسان المؤمن، فهذه الحلاوة وهذه اللذائذ التي يجدها المؤمن يجدها في قلبه، ولهذا قال في بعض الرِّوايات: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ» ، فتارة يُعبر بــ "الحلاوة" وتارة بــ "طعم" الإيمان، فقال: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا».
وكما ذكرنا أنَّ هذه الحلاوة يجدها العبد في قلبِهِ، وهذه الحلاوة وهي من بشائر المؤمن، ومن النَّعيم الذي يُعطيه الله -عزَّ وَجلَّ- في الدُّنيا؛ ولأجلها يتحمَّل المشاقّ والصِّعاب، ومن خلال هذه المشاق والصِّعاب يُميز الله -عزَّ وَجلَّ- بين الصَّادق والكاذب في الإيمان، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَï´¾ [العنكبوت:1–3]، فالصادق في محبته لله ولرسوله يجد هذه الحلاوة في قلبه.
ولهذا قال بعض العُبَّاد ممَّن كابدَ التَّعبُّد لله -عزَّ وَجلَّ- والطَّاعة وأَلِفَ ذلك: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها ولم يذوقوا منها أحلى ما فيها". قيل: وما أحلى ما فيها. قال: "محبة الله" . هذا عبدٌ ذاق طعم محبَّة الله -عزَّ وَجلَّ.
وذُكر عن تقي الدِّين شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّه قال: "إنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةَ" .
ونُقل عن بعضِ الصَّالحين والعبَّاد أنَّه قال: "إنَّنا في لّذَّة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسُّيوف".
هذه اللَّذة هي حلاة الإيمان، وهذه يجدها المؤمن، ولهذا كما قالَ بعض العباد: "لذة الطاعة عند أهلها ألذُّ من لذَّة المعصية عند أهلها"، وذلك لأنَّهم ألِفُوا هذه الطَّاعات، فوجدوا حلاوة هذه الطَّاعة في قلوبهم وتلذَّذُوا بها، فذاقوا طعمَ الإيمان الذي به تسْلُو الحياة، ويُتحمَّل لأجلهِ المشاقّ، فليس المحبوس ولا المأسور ولا المنغَّص مَن كان في بلاء، ولكن من حُبسَ عن طاعة الله -عزَّ وَجلَّ- وعن الإيمان بالله -عزَّ وَجلَّ- فهذا هو المنغَّص وهذا هو المنكَّد، وهذا صاحب المعيشة الضَّنك الذي قال الله عنها: ï´؟وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًاï´¾ [طه: 124].
وهذه الحلاوة لا تُنالُ إلا بالمجاهدة، ولهذا قال ثابت البناني -رَحَمَهُ اللهُ- أحد شيوخ البخاري: "كابدتُّ الصَّلاة عشرين عامًا، وتنعمت بها فيما بقي"، أي: فيما بقي من عمره، فدلَّ هذا على أنها مجاهدة.
ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ- مُخبرًا أنَّ هذه الأمور لا تُنال إلا بجهادِ النَّفسِ والشَّيطان والهوى: ï´؟وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا غڑ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَï´¾ [العنكبوت: 69].
وإمام الأتقياء وخاتم المرسلين كان يقول في أمر الصلاة: «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ» ، فدلَّ على أنَّ هذه الأمور يُتلذَّذُ بها.
ولذَّةُ الإيمانِ إنَّما تكون بإصلاحِ السَّريرة، فمَن أصلَحَ سريرتَه أصلَحَ الله علانيته -كما كان يقول السلف- ومَن أصلَح ما بينه وبينَ الله أصلَحَ الله ما بينه وبينَ النَّاس.
إذن هذه اللذة تُنال بالمجاهدة والتَّقرُّبِ والتَّعبُّدِ والخضوعِ والإنابةِ، وهذه مرتبةٌ من مراتب الإيمان، ومن لذائذ الإيمان، ومن عاجلِ بشرى أهلِ الإيمان.
قال: (ولهما عنه مرفوعا)، يعني: عن أنسٍ مرفوعًا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ، وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
هذا الحديث تحته مسائل:
المسألة الأولى: المقصود بالإيمان هنا في هذا الحديث: الإيمان الكامل، يعني: لا يؤمنُ الإيمان الكامل إلا أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه من ولده ووالده والنَّاس أجمعين، فلا يبلغ حقيقة الإيمان وأعلَى درجاتِ الإيمان إِلَّا بهذه المنزلة.
المسألة الثَّانية: مَن لم يكن الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحب إليه من ولده ووالده والنَّاس أجمعين؛ فعليه أن يُراجع نفسَه، ويستكمل مِن الإيمان؛ لأنَّه لم يصِلْ إلى المرتبة التي يُحمَد لأجلها، فدلَّ على أن إيمانه ناقص.
المسألة الثالثة: مَن قدَّم محبَّةَ غيرِ الله تعالى ومحبَّةَ غيرِ الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على محبَّةِ الله ورسوله دلَّ ذلك على نقصٍ في إيمانه، فعليه أن يُراجع نفسَه، وأن يستكمل هذا الإيمان، حتى يكون له الإيمان الكامل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وعن المقدام بن معدِيكرِب الكِندِي - رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَذِّبَنِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ». رواه الترمذي وابن ماجه)}.
هذا الحديث حديثٌ عظيم، وأحسنَ المؤلف صنعًا حينما أورده بعد الحديث الذي قبله، ليبيِّن المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- حجيَّة السُّنَّة، وأنَّ الاتباع مطلوب لكتاب الله ولسنَّة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ الكتاب والسُّنَّة من الوحي، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْï´¾ [آل عمران: 31]، فدلَّ على أنَّ أمر الله وأمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من جهة الامتثال والطَّاعة يجب أن يمتثل النَّاس جميعًا لأمر الله ولأمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن المسائل المهمَّة التي ينبغي أن تُذكر في هذا الحديث: أنَّه من دلائل نبوَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر أنَّه سيقع، وهذا وقعَ ولا يزال يقع، فمِن أشراط السَّاعة ومِن علامات قُربها هو التَّغيير في أحوالِ المسلمين، وأن تَظهَرَ طائفة تدَّعي مثل هذه المقالة، ولهذا وصفهم النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّهم يقولونها على وجه التَّساهل وذلك في قوله: «مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي»، وهذا وقع ولا يزال يقع!
ولازالت أمثال هذه الطَّوائف المنحرفة تظهر بين فترة وأخرى، فقد ظهرت طائفة من المنتسبين للإسلام يدَّعون مثل هذه المقالة:
- إمَّا تصريحًا، فيصرِّحون بذلك ويقولون: لا نلتزم إلا للكتاب، وأمَّا السنَّة فلا، كما في الطَّائفة التي سمَّت نفسها بالقرآنيين، وهذه الطَّائفة ظهرت متأخرًا.
- أو موافقةً لبعض هذه المقالة، كمَن يقول في بعض أجزائها، فيقولون: إنَّ أخبار الآحاد لا يُحتجُّ بها في العقائد! وهذه مخالفة لأمر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- أو بنظرٍ في نصوص السُّنَّة النَّبويَّة بطريقة مَن يسمُّون أنفسهم في العصور المتأخرة بــ "العقلانيين" وسلفهم المعتزلة الطَّاعنين في سنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء؛ فهؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالعقلانيين أو المدرسة العقليَّة الحديثة، أو ما شاكل ذلك؛ فهم سلف للمعتزلة وورثتهم -كما ذكرنا.
وقد ألَّفوا المؤلفات في التَّشكيك في حُجيَّة السُّنَّة من أوجه، لا يلزم إنكار السُّنَّة بالكليَّة، كما أنَّ بعضهم ألَّف مؤلفًا سماه: "السُّنَّة النَّبويَّة بينَ أهلِ الفقهِ والحديثِ" وهو يقصد بأهلِ الفقه أهل الاعتزال والذين يُحكِّمونَ عقولَهم القاصرة في أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما حصل من إنكار حديث الذباب، وأحاديث من أشراط الساعة، وسجود الشَّمس إذا غربت، إلى غير ذلك...، فيُعمِلون عقولهم فيما جاء عن الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنَّته، مع أنَّ الإسناد صحيح.
وبعضهم ألَّف مؤلفًا -وكأنَّ الأمَّة كانت غافلة حتى ينبهها- فسمَّى مؤلَّفه "كيفَ نتعامل مع الأحاديث النَّبويَّة"، وكأنَّ أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضالَّةٌ أربعةَ عشر قرنًا حتى يأتي هذا الذي هو من الأصاغر لينبهها ويعرِّفها الطَّريق الصَّحيح للتَّعامل مع سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أمَّا الطَّائفة المسمَّاة بالقرآنيين فهؤلاء جاءت الرُّدود مِن أهلِ العلم عليهم، وأوَّل ما ظهرت هذه البدعة كانت في بلاد الهند بدعم من الدُّول الاستعماريَّة؛ لأنَّها إنكار لسُّنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا شكَّ أنَّ ذلك يعني إسقاطٌ للدِّينِ، وإن كانت هذه المقالة قديمة، ولكن لازال مَن يبعثها ويحييها، لأنها ظهرت قديمًا على يدِ الزَّنادقةِ في العصورِ الأولى للإسلام، والأئمَّة -رَحَمَهُم اللهُ- ردُّوا على هؤلاء، وبيَّنوا مخالفتهم لِمَا جاء عن الله وما جاء عن رسوله، ومخالَفتهم لما جاء في القرآن، ولهذا فإن الإمام الشافعي -رَحَمَهُ اللهُ- في رسالته المشهورة بــ"الرِّسالة" ضمَّنها الرَّد على الطَّاعنين في سُنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولازالت الدَّعاوى مستمرَّة، فجملةٌ من المستشرقينَ الذين درسوا الإسلام شكَّكوا في حُجيَّة سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي أخبارِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ذكرت لكم ممَّا يتعلَّق بأنَّ هذه الدعوى لها جزئيات، ولازال التَّشكيك باقٍ على أيدي بعض المعاصرين من المفكِّرين الذين يشكِّكونَ في أحاديث صحيحة، ويزعمون أنَّ الميزان في القبول والرَّد لهذه السُّنَّة هو القرآن، وهذا يعود إلى إنكار السنَّة، وبعضهم يشكِّك في جزئيات السُّنَّة النَّبويَّة، كأن يُشكِّك في رواية أحاديث أبي هريرة كما ظهر أحد المعاصرين قبل ثلاثين أو أربعين سنة، وأنكر الأحاديث التي رواها الصحابي الجليل أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وزعم أنَّها ليست من سُنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشكَّكَ في هذا؛ فردَّ عليه العلماء، كالشَّيخ المعلي -رَحَمَهُ اللهُ- في "الأنوار الكاشفة" وبيَّن أنَّ هذا مخالفٌ لأقوالِ أهلِ السُّنَّة، ولأقوال أهلِ العلم وإجماعهم؛ فكلُّ هذه الأقوال تعود إلى التَّشكيك في هذا الأصل من أصول الإسلام، وهو السُّنَّة النَّبويَّة.
وهذا يبعث على أنَّ أهل الإيمان يحتاجون أن يستديروا على هؤلاء بالأدلة التي تُبيِّن أنَّ السُّنَّة النَّبويَّة جاء ذكرها في القرآن من وجوهٍ متعدِّدةٍ، منها:
- أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- قال: ï´؟مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَï´¾ [النساء: 80]، فدلَّ على أنَّ طاعة الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي اتِّباع سنته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- ومنها قول الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَï´¾ [الأحزاب: 21]، فدلَّ على أنَّ التَّأسِّي لا يكونُ إلا باتِّباع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ السُّنَّة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي السُّنن القوليَّة والفعليَّة والتَّقريريَّة.
- وقال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْï´¾ [النساء: 59]، فدلَّ على أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُطاع استقلالًا.
وحذَّر الله تعالى مِن معصية النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعصية النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تكون بعدم الإيمان بما جاء عن سنَّته وما جاء عنه من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِï´¾، أي: أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال:ï´؟أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌï´¾ [النور: 63].
ولهذا قال إمام أهل السُّنَّة في زمانه -الإمام أحمد- ليُحذِّر الإنسان الحذرَ البالغ أن يردَّ أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو يُشكك فيها: "لعل إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيغ فيهلك"، يعني: إذا ردَّ قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعقله.
والصَّحابي الجليل عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وعَنْ أبِيهِ- لَمَّا تكلَّم أحدُ أبنائه في حديثٍ؛ غضِبَ عليه غضبًا شديدًا، وقال: "أراني أحدثك عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتقول كذا وكذا..."، وكذلك نُقل عن عبد الله بن مسعود، وغيره من أصحابِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عمران بن حصين لَمَّا دخلَ عليه جماعة ومعهم رجلٌ ممَّن يقرأ في كتبِ المتقدِّمينَ، فلمَّا حدَّثهم عُمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بحديثِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ». أَو قَالَ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ» ، فقال ذلك الرجل: "إنَّا نجد في بعض الكتب أنَّ منه سكينةٌ ووقار"، ويظهر مِن هذا أنَّ الرَّجلَ كان قارئًا لكتبِ المتقدِّمين وكتبِ الثَّقافَات الأخرى! فلمَّا قالَ هذا غضِبَ عليه عمران بن حصين وقال له: "أحدثك عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتُراجع فيه!".
فلا يجوز للإنسان إذا جاءه الأمر مِن الله ومن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُعمل فيه عقلَه السَّقيم وفَهمَه السَّقيم، بل عليه الامتثال، وما يُشكِل عليك في ذهنك فعليك أن تسأل عنه أهل العلم.
ولهذا أجمعَ أهلُ العلم والأئمَّة قاطبة على حُجيَّة السُّنَّة، كالإمام الشَّافعي، وأحمد، ومالك، وقبلهم أبي حنيفة؛ فهذا إجماع لا يسع الإنسان أن يخرجَ عنه.
وإنَّ إنكارَ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ وإنكارَ حُجيَّتها فيه إبطالٌ للشَّريعة، ووجه ذلك: أنَّ فرائض الإسلام وشرائعه إنَّما جاءت عن طريق سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلاة الظُّهر أربع والمغرب ثلاث، وأوقات الصَّلوات، ودخول الشَّهر وخروجه في صيام رمضان، ونصاب الزَّكاة؛ فكلُّ هذه الأحكام مِن أركان الإسلام جاءت عن سُنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يُمكن للإنسان أن يَستقل بفهم الإسلام دون فهم سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا فكل مَن خالفَ سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقعَ في البدعة، فأهلُ البدع ليسوا هم أهل السُّنَّة؛ بل هم مُفارِقون للسُّنَّة، فمَن الفِرَق التي خالَفت أهلَ السُّنَّة والجماعَة في حجيَّة السُّنَّة النَّبويَّة فضَلُّوا عن الصِّراط المستقيم واتَّبعوا غير سبيل المؤمنين طوائف من الشِّيعة الذين يعتمدون على مصادر غيرَ مصادر السُّنَّة المعروفة، كروايات "الكافي" و"بحار الأنوار" وما شاكل ذلك مماَّ لا إسنادَ له، وإنَّما هي منسوبة للأئمَّة الاثني عشر، وكل هذا مُخالفٌ لسنَّة النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهذه عندهم هي السُّنَّة المرويَّة، ولا إسناد لهم، وإنَّما بدأ تدوين هذه الرِّوايات تقريبًا في المائتين والتِّسعين بعد هجرة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأوَّل مَن جعلَ هذه الآثار والروايات هو أبو جعفر القُمِّي.
وكذلك رواياتهم عن آل البيت دون سندٍ، وإن وُجد هذا السَّند فيكون من المجاهيل! وهذا بخلاف الرِّواية عند أهل السُّنَّة، فالرِّواية عند أهلِ السُّنَّة بالإسنادِ الثَّابت، فلو نظرتَ في صحيح البخاري وصحيح مسلم؛ تجد مثلًا أنَّ الإمام البخاري لا يقبل أيَّ حديث، فيشترط المعاصرة وثبوت اللُّقي بين الشَّيخِ والتِّلميذ، وينظر في الإسناد وضبط الحديث، وكتب الجرح والتَّعديل تراث عظيم لأمَّة الإسلام، لا نظير له في تاريخ البشريَّة، كلُّ ذلك حفظًا لسُنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّه لا يُمكن أن يُفهَم القرآن إلا بسنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو مِن حفظ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لدينه، قال تعالى: ï´؟إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَï´¾ [الحجر: 9].
فكل هؤلاء مُفارقون لسُنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّ هؤلاء الذين يعتمدون على رواية أهل البيت طَعنُوا في أصحابِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا بضعُ نفرٍ، والرِّواية عندهم عن الإمام المعصوم الذي يُنتَظَر خروجه.
ولهذا -بحمد الله- أهلُ الإيمان وأهلُ السُّنَّة صارت لهم في العصور المتأخرة مجامع علميَّة، ولهذا صارت فتاوى في الرَّد على منكري السُّنَّة النَّبويَّة، فمجمع الأزهر في مصر أفتوا بأنَّ مَن أنكرَ سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو خارج عن دائرة الإسلام، وهذه فتوى رسميَّة، وكذلك المجمع الفقهي الإسلامي حكم بأنَّ مَن أنكر سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد وقع في الرِّدَّة، وكذلك هيئة كبار العلماء واللَّجنة الدَّائمَة للإفتاء؛ وكل هذا يدلُّ على أنَّ أهل الإسلام بالاتفاق يرون أنَّ السُّنَّةَ حجَّةٌ، وأنَّهم يُفارقون أهل البدع فيها، وهذا هو الفَيْصَل بينَ أهلِ السُّنَّة وبينَ غيرهم.
كذلك نالت مَقولة إنكار حُجيَّة السُّنَّة النبويَّة والتَّكشيك فيها هذه العناية من الأئمَّة، وهذا شيءٌ عظيمٌ جدًّا في تنقية أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الدَّخيل من جهةِ الإسناد ومن جهة المتن، حتى جاءت لنا السُّنَّة وحديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأنَّه قاله بالأمس، واضحٌ وبيِّنٌ ومحفوظٌ.
وتكلَّمنا عن طائفةٍ من أهلِ البدعِ، والطَّائفة الأخرى هم المعتزلة، فإنَّهم في خانة مَن يشكِّك في بعض حُجيَّة السُّنَّة النَّبويَّة من وجوه:
فمثلًا المعتزلة لا يَقبلون مِن السُّنَّة إلا ما وَافقَ عَقولهم، فميزان القَبولِ والرَّد عندهم ليس هو الإسناد، فأهلُ السُّنَّة عندهم ميزان القبول والرَّد في الحديث المروي عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الإسناد والمتن، أن يكون الإسناد خالي من الشُّذوذ والعلَّة، والمتن كذلك، والإسناد ثابت، فكل رجال السَّند عندهم قاعدة، أنَّه إذا صحَّ الحديث قالوا به.
أمَّا المعتزلة فلا ينظرون لإسنادٍ ولا لمتنٍ؛ إنما ينظرون إلى عُقولهم في القبول والرَّدِّ، ولأجلِ هذا قالوا بتقديم العقل على النَّقل، وألَّفَ شيخ الإسلام ابن تيمية كتاب "درء تعارض العقل والنقل"، فالعقلُ الصَّريحُ لا ينافي النَّقلَّ الصَّحيح، بل يوافقه، فهم قدَّموا العقلَ وجعلوه الأصلَ وحكَّموا عقولهم في سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّ صحَّة النَّقل عندهُم وصِدق الرِّسالةِ إنَّما ثبتَ بالعقلِ، فهم جعلوا العقلَ هو الأصل، فلا يعود على أصلِهِ بالإبطالِ، وهذا أصلٌ متَّفقٌ عليه بينَ أهل الكلام جميعًا.
ومرَّ معكم هذا في شرح "العقيدة الطَّحاوية" الدَّليلُ العقلي المسمَّى بدليلِ حدوثِ الأجسام والأعراض، الذي ورثَه أهلُ الكلام من المنطق الأرسطي، ومن الثَّقافات السَّابقة من الفلسفات اليُونانيَّة وجعلوه أصلًا في صدق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأجله فارقوا السُّنَّة وقالوا بهذه المحدثات البدعيَّة، وترتَّب على ذلك إيجاب النَّظر، أنَّ أوَّل واجب هو القصد إلى النَّظر أو الشَّك، إلى غيرِ ذلكَ ممَّا يُخالف سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهؤلاء مفارقون لما يجب عليهم تجاه سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويصدق عليهم بعض ما أخبر به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كذلك الفِرَق الكلاميَّة لهم موقف، كالأشاعريَّة والماترديَّة، ويعبِّر شيخ الإسلام في صفتهم بــ "الصِّفاتيَّة"، فأهل الحديث يقولون: إنَّ من الحديث ما هو متواترٌ ومنه ما هو آحادٌ، مثل حديث عمر بن الخطاب: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، فهذا عند أهل الحديث يُسمَّى آحادًا، يعني: واحدًا يرويه عن واحد عن واحد، ثم يحصل انتشار للحديث، فإذا جاءت أحاديث الآحاد في العقائد فإنَّ الأشاعرة والماترديَّة لا يقبلونَها، فلو جاء حديث آحاد فيه وصف الله -عزَّ وَجلَّ- بوصف فلا يُقبل عندهم، وهذا في الحقيقة غلطٌ وانحرافٌ في قبول أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا شكَّ أنَّنا نُفرِّق من جهةِ الإسناد، أنَّ هذا حديثٌ متواترٌ وهذا حديث آحاد، ولكن من جهةِ القبولِ والرَّدِ لا يجوز لنا أن نُفرِّق؛ لأنَّ الصَّحابةَ ما فرَّقوا، ولا يُعرف هذا التَّفريق، وإنَّما حدث بعد المائة الثَّالثة كما قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة، بل إنَّ أهل قباء لما بلغهم تغيير القِبلةِ وهم يصلُّون انحرفوا، مع أنَّ المُخبر لهم واحد، فكذا أخبار الآحاد.
وهذا التَّفريق أوقعهم في تناقض، وتسلَّط عليهم المعتزلة بسببِ ذلك وألزموهم بإلزامات، وهذا كلُّه أنكارٌ لجزءٍ من السُّنَّة النَّبويَّة ومن حجَّتِها.
وكذلك لازال التَّشكيك في ثوابت الإسلام قائم من الطَّوائف المتأخِّرة، وهذه المدافعة من سنَّة الله -عزَّ وَجلَّ، ولا يزال هناك مَن يُلقي الشُّبهات على أهلِ الإيمان وأهلِ التَّوحيدِ، ولكن واجبَ أهلِ الإيمان وأهلِ التَّوحيد أن يردُّوا هذه المتشابهات إلى العلم، فأهلُ العلم يكشفون هذه الشُّبهة، فهناك مَن يُشكِّك في صحيحِ البخاري وفيما جاء فيه من الأحاديث، مع أنَّ الأمَّة تلَّقت الصَّحيحين بالقبول، وها ممَّا أجمعت عليه الأمَّة، على اختلافهم بين المشارقة والمغاربة في تقديم أحدهما على الآخر من جهةِ الصَّنعةِ الحديثيَّةِ لا من جهةِ القبولِ والرَّدِ، ومع ذلك هناك من يُشكِّك!
وواجب على أهلِ الإيمانِ أن ينصرفوا عن هذه الدَّعاوى، وأن يردُّوا على هؤلاء المشكِّكين الذين يُشككون في سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا يحصُل الإيمان حتى تكون الطَّاعة لله ولِرسولِه، كما جاء عن الله وما جاء عن رسوله، فهؤلاء الذين أخبر عنهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: «بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ»، فالتَّنازع لا يُرد إلا للكتابِ عندهم، والقرآن لا يُمكن أن يُفهم إلا بالسُّنَّة النبويَّة، فكيف نفهم كلام الله -عزَّ وَجلَّ!
وهذا -والعياذ بالله- يعود على الإسلام بالإبطال، حتى أتت الفلسفات وأتت الأقوال الشَّاذَّة والمخالفة لِما أجمعَ عليه أهل العلم لما يُقال بمثل هذا القول أنَّ الحجَّة إنَّما هي في القرآن، وأمَّا السًّنَّة فلا، فهذا يعود على الإسلام بالإبطال، ومعنى ذلك أنَّ الشَّريعة تُنسَخ وتُغيَّر، فيكونُ الإنسان بذلك على غيرِ الجادَّةِ السَّليمَةِ، ومخالفٌ لِما أجمعَ عليه أهل العلم، كلُّ هذه أخطارٌ ينبغي على أهلِ الإسلام أن يحذروها، وإنَّ ما حرَّم الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل ما حرم الله -عزَّ وَجلَّ- لأنَّ السُّنَّة هي الوحي الثَّاني، قال الله تعالى عن نبيِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ï´؟وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىظ° * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىظ°ï´¾ [النجم: 3]، فالسُّنَّة وحي آخر، ولهذا فإنَّ من السُّنَّة ما أخبره النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ربِّه -سبحانه وتعالى- ويُسمِّيه العلماء بالحديث القدسي.
فلا شك أنَّ هذا مِن الأخطارِ التي ينبغي للمسلمِ أن يحذرَها، وألا يدلِفَ هذا الباب الذي -بحمد الله- أُغلق، وأنَّه إذا رأى هؤلاء الذين يشكِّكونَ في حديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يحذرهم كما قال بعض السَّلف: "إذا رأيتم مَن يتَّبع المتشابه؛ فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم"، فكل مَن يُشكِّك في حديث النِّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا من جهة القبول التَّام، فيشكك في قبول السنَّة بالكليَّة أو في جزئياتها؛ فعلَى المسلم أن يحذر هؤلاء وأن يبتَعِدَ عنهم ولا يسلك مسلكهم.
{شيخنا أحسن الله إليك.
ما موقف العامِّي أو طالب العلم المبتدئ من هذه المقالات، هل يقرأها ويدخل المواقع الإلكترونيَّة الخاصة بها، أو أنه يبتعد عنها؟}.
الإنسان العامِّي وأنصاف المتعلِّمين وغيرِ المتخصِّصينَ في العلومِ الشَّرعيَّة عليهم بالمُحكَمَات، فالمُحكَم هو أنَّ القرآن والسُّنَّة حُجَّة، قال تعالى: ï´؟إِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِï´¾ [النساء: 59]، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» ، فالرَّد عن التَّنازع يكون للكتاب والسُّنَّة، ومَن يشكِّك في هذا فهو يشكِّك في أصلِ الإسلام، فلا يجوزُ للإنسان أن يُجالس هؤلاء؛ لأنَّه لا يؤمَن أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيغ فيهلك، وكما قال السلف -رحمهم الله: "الشُّبهات خطَّافة"، وإنَّما سُمي القلبُ قلبًا لتقلُّبِهِ، والحيُّ لا تؤمَن عليه الفِتنة، والإنسان -بحمد الله- آمنَ على يقينٍ وبيِّنةٍ، ولا يجوز له أن يزعْزِعَ هذا اليقين بالشُّبهات، فيحذر من مجالسة هؤلاء ومجادلتهم في مثل هذا؛ لأنَّ هذا -كما ذكرت لكم- إجماع للمسلمين قاطبة، فهذا يُشكك في الإجماع، فما يُقبَل قوله، ولا تُقبَل الشُّبهات التي يُدلي بها، وأنَّ هؤلاء مصيرهم ومقاصدهم التَّشكيك في الإسلام، والعود على الإسلام بالإبطال، ولا يزال المعادين للإسلام منذ بُعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والعداوة باقية، قال تعالى: ï´؟وَكَذَظ°لِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ غ— وَكَفَىظ° بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًاï´¾ [الفرقان: 31]، وقال: ï´؟وَكَذَظ°لِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىظ° بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا غڑ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُï´¾ [الأنعام: 112]، ولكن حكمةً وامتحانًا مِن الله -عزَّ وَجلَّ- أن تظهرَ هذه الأقوال حتى تُدفَع، فينبغي أن يكونَ الإنسان على يقينٍ وعلى صريحِ الإيمان، وأن يحذرَ هذه الشُّبهات، خاصَّة أن شبكات التَّواصل الآن حافلة بمثل هؤلاء المشكِّكين، وباب التَّشكيك بحرٌ لا ساحلَ له، سيشكِّكونَكَ في دينكَ، وفي سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعضهم يشكِّك في القرآن -نسأل الله السَّلامة والعافية- ويشكِّكونَكَ في وجودِ الله -عزَّ وَجلَّ- فالتَّشكيك بحرٌ لا ساحلَ له، والشَّيطان لايزال يقودهم إلى هذا التَّشكيك، فالوسوس بضاعة التَّشكيك، والوسوسة تارةً تكون شيطانيَّة من جهة القَلبِ، وتارةً تكون وسوسة إنسيَّة؛ لأنَّ هذه بضاعتهم التي يُنفقونها، ولهذا ينبغي للإنسان أَلَّا يُضيع وقته مع هؤلاء، وأن يتعلَّم العِلمَ النَّافعَ، فالعلم النَّافع هو ما جاء عن الله وجاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولن تجد أمثلَ من قراءة كلام الله -عزَّ وَجلَّ- بتدبُّرٍ لصرفِ هذه الأهواء عن قلبكَ وهذه الوساوس، فإذا أقبلَ الإنسان على ربِّه وهذا القرآن وهذا الوحي أزالَ اللهُ عنه هؤلاء المشكِّكين، والتزم الصَّراط المستقيم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (باب تَحْرِيضِه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم على لُزُومِ السُّنَّة والتَّرغيبِ فِي ذَلِكَ وترك البِدعِ والتفرقِ والاخْتلافِ والتحذيرِ من ذلك)}.
هذا هو الباب الثَّامن، وسيورد المؤلف الآيات الدَّالة على ذلك، وسنعلق عليها.
قال المؤلف: (باب تَحْرِيضِه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم)، التحريض: هو الحثُّ، ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَï´¾ [النساء: 84].
قال: (على لزوم السنة)، اللزوم: هو الثَّبات والإقامة، فبعد أن أورد المؤلف حُجيَّة السُّنَّة وثبات ذلك، ذكر له ما جاء عن الله وما جاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أنَّه يجب عليكَ أن تلتزم هذه السُّنَّة، ورغَّبكَ في ذلك؛ لأنَّ لزوم السُّنَّة يُقابله الإحداث والبدعة، فإذا لم تلزم السُّنَّة وقعتَ في البدعة، وإنَّما إحياء السُّنن إماتة للبدعة، وإماتة البدعة هي إحياءٌ للسُّنَّة.
والسُّنَّة في عبارة المؤلِّف تشملُ الاعتقاد، وتشملُ متابعة النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العبادة، قال تعالى: ï´؟لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌï´¾ [الأحزاب: 21]، وفي الأمر والنَّهي فيما جاء عن أمرِ الله وجاءَ عن أمرِ ونهي رسولِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا كلَّه من السُّنَّة.
فيُعبَّر بالسُّنَّة: تارةً بالتَّوحيدِ، أي أنَّ السُّنَّةَ هي الاعتقاد، مسائل توحيد الرُّبوبيَّة، وتوحيد الألوهيَّة، وتوحيد الأسماء والصِّفات، ولهذا صنَّفَ العلماء كتبًا ورسائل في السُّنَّة، وأوردوا مسائل الاعتقاد، ككتاب "السُّنَّة" لعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، و"السُّنَّة" للبربهاري، و"أصول السُّنَّة" للخلَّال تلميذ الإمام أحمد، و"شرح أصول السُّنَّة" للالكائي، و"شرح الإبانة في أصول السنة" لابن أبي بطَّة، إلى غيرِ ذلك من المصنَّفات، فدلَّ هذا على أنَّ السُّنَّة هي مسائل الاعتقاد.
وتارة يُعبَّر بها عند الفقهاء: بما قابل الواجب، يعني: هو ما حُثَّ على فعلِه على غيرِ وجه الإلزام.
والسُّنَّة عندَ الأصوليين: هي ما أُضيفَ إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، وهكذا عند المحدِّثين. فتُعرَّف السُّنَّة بحسبِ اختصاص مَن يبحث في السُّنَّة النَّبويَّة.
والمرادُ هنا من كلام المؤلِّف: هو لزوم ما كان عليه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الهدي الظَّاهرِ والاعتقادِ والعملِ، ويشمل المسائل العلميَّة والمسائل العمليَّة، فكلُّ مخالفةٍ لسُنَّةِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن هذا الوجه هو مخالفةٌ للسُّنَّة؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين» على سبيل الحثِّ، وقال الله تعالى: ï´؟لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًاï´¾ [الأحزاب: 21]، ولهذا قال المؤلِّف: (باب تحريضه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم على لزوم السنة والترغيب في ذلك)، فحرَّضَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على لزومِ السُّنَّة، فدلَّ ذلك على أنَّ الإنسان لا يُفارق هذا، لأنَّ اللزوم هو عدم المفارقة، وعلى ألا يرغب عنها؛ بل يرغب في البقاء على ذلك.
ثم ذكر المؤلِّف أمرًا مهمًّا، وهو ترك البدع، والبدع هي الإحداث في دين الله، لأنَّ الدِّين كامل، هذه تقريرات لقواعد مهمَّة قبل أن نُفصِّل.
فالدِّينٌ كاملٌ، وشرائع الإسلام كاملة، لا تحتاج لأن يكمِّلها أحد، قال الله تعالى: ï´؟الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًاï´¾ [المائدة: 3]، ولمَّا أنزلت هذه الآية حسدَنا عليها اليهود مِن أهلِ الكتاب، لأنَّ الدِّين تام، فمِن ثوابت الشَّريعة أنَّ الدِّين ما يحتاج أن يُكمَّل، فكمال الدين بأنَّ الله أتمَّه بالإسلام، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال عن نفسه: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» ، فهذه قواعد مُهمَّة لابدَّ للإنسان أن يعرفها، قال الصحابي: "ما ترك النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا إلا وأخبرنا عنه"، فمَا مِن طائرٍ يقلِّبُ جناحيه إلَّا وأخبرنا الله عنه، حتى أخبرهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأخبار التي ستقع مِن شدَّة شَفقَتهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه الأمَّة، فبلَّغَ البلاغ المبين.
إذن البدع: هي الإحداث على ما هو تامٌّ ومكمل.
فالمُحدث والمبتدع ينسب للدِّين -أو يُحدِث في الدِّين- ما ليسَ منه، ولهذا فإنَّ الله أغلق هذا الباب على لسانِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث عائشة، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» ، أي: من أحدث في هذا الدِّين ما ليس منه فهو مردود، ولهذا ما يشبه أحد بالمتشابه من الآيات والأحاديث على أنَّ البدعة فيها حسنة وفيها سيئة؛ بل إنَّ البدعَ كلَّها سيئةٌ؛ لأنَّ الدِّينَ كاملٌ، ولا يحتاجُ أحدًا ليكمله.
قال: (وترك البِدعِ والتفرقِ)، دلَّ على أنَّ البدعة يتبعها الفُرقَة، فيحدث الاختلاف أولًا ثم تحدث الفُرقَة.
والفُرقَة: هي الافتراق، ولهذا أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خبرًا واقعًا لا محالة، ولكن على سبيل التَّحذير، قال: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» . قالوا: يا رسول الله من هي؟ قال: «ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي» ، فالميزان هو لزوم السُّنَّة، وترك المحدثات والابتداع في دين الله -عزَّ وَجلَّ.
إذن يحدث الاختلاف في الدِّين، ثم بعد ذلك يحدث الافتراق، وهذا وقع في الأمَّة، فالفِرَق موجودة ولا زالت تُفارق هذا السَّبيل، قال تعالى: ï´؟وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىظ° وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىظ° وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ غ– وَسَاءَتْ مَصِيرًاï´¾ [النساء: 115].
إذن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حرَّضَ على لُزومِ سنَّته ورغَّبَ في ذلك، وحذَّرَ من إيقاع البدع، وأخبر أنَّ سبيل البدع هو الاختلاف والافتراق، والافتراق لا يكون بعده اجتماع، وهذا خلاف ما أمر الله به وما أمر به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال تعالى: ï´؟وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواï´¾ [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ï´؟وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِï´¾ [الأنعام: 153]، فهذه السُّبُل هي الإحداثِ والافتراقِ.
والمؤمنُ في كلِّ صلاةٍ وفي كلِّ ركعةٍ يقول: ï´؟اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَï´¾ [الفاتحة: 6]، وعلَّمنَا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نقولَ: «للَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
نسأل الله -عزَّ وَجلَّ- أن يهدينا الصِّراطَ المستقيمَ، وأن يُلزمنا السُّنَّة، وأن يتوفَّانا على التَّوحيدِ والسُّنَّة غيرَ مبدِّلين ولا مُحدِثين، وصلَّى الله وسلم علَى نبينا محمد.

{وفي الختامِ نشكركم فضيلةَ الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:19   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أُصُولُ الإيمانِ (2)
الدَّرسُ الثَّالِثُ (3)
فضيلة الشَّيخ/ د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ.

{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام محمد بن عبد الوهاب -رَحَمَهُ اللهُ- في كتاب "أصول الإيمان" (باب تحريضه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على لزوم السنة والترغيب في ذلك وترك البِدعِ والتفرقِ والاخْتلافِ والتحذيرِ من ذلك)}.
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تكلَّمنا في المحاضرة السَّابقة عمَّا يتعلَّق بالعنوان، وأنَّه في غاية الأهميَّة، وبيَّنَّا معنى السُّنَّة، ومُراد المؤلِّف -رَحَمَهُ اللهُ- بالسُّنَّة، وتوقَّفنا على بعض المسائل المتعلِّقة بهذا العنوان، والتي يحسُن أن نذكرَها، وأن نُبيِّنَ مُفردات الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تعالى- فيها؛ لأنَّها توضِّح ما سوفَ يستدلُّ به -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالى- من الآيات والأحاديث.
وَلَمَّا تكلمنا عن السُّنَّة؛ لَزِم من ذلك أن نتكلَّم عن البدعة؛ لأنَّ الشيخ قال: (وترك البِدعِ).
البدعة لغة: مادة "بدع" هي الاختراع على غيرِ مثالٍ سابقٍ.
قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِï´¾ [البقرة: 117]، أي: مَن اخترعهما وفطرهما وأنشأهما على غيرِ مِثالٍ سابقٍ، فكل مَن أحدثَ شيئًا على غير مِثالٍ يَسبقه سُميَ بدعة من جهة اللغة.
أمَّا البدعة اصطلاحًا -أو المعنى الشَّرعي لها- فقد عُرِّفَت بتعاريف مُتعدِّدَة، ولعلَّ أجمع هذه التَّعاريف: أنَّها طريقةٌ في الدِّين يُضاهَى بها الطَّريقة الشَّرعيَّة، بغرض التَّعبُّد لله تَعالى.
وقد ذكر الله -عزَّ وَجلَّ- أصل هذه البدع في مَواضع مِن كتابه، ومن أجمل ما يُذكر في هذا ما قاله الله -عزَّ وَجلَّ- عَن أهلِ الكتابِ وعن النَّصارى: ï´؟وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْï´¾ [الحديد: 27]؛ فدلَّ على أنَّ الابتداع في الدِّين هو الإحداث.
وهذا يجرُّنا إلى المسألة التي بعدها، وهي: أنَّ بعضَ مَن زيَّنَ لهم الشَّيطان الوقوع في البدع يزعمون أنَّ البدع منها ما هو حسنٌ ومنها ما هو سيئ، فالحسن منها مَقبول، والسَّيئ منها مردود، ويُشبِّهونَ على النَّاس بقول عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- لما جمع النَّاسَ في صلاة التَّراويح على إمامٍ واحدٍ؛ فلمَّا رأى اجتماعهم قال: "نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ" .
أو يُشبِّهونَ على النَّاس بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» .
ولأهل العلم طريقة في الجواب المجمل والجواب المفصَّل؛ وهو ما سار عليه الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في رسالته المشهورة بــ "كشف الشُّبهات" في الرَّد على شُبهات مَن يَقعون في الشِّرك ويُزينونه للنَّاس بأن ثمَّ جوابٌ مُجمل وثَمَّ جَواب مُفصَّل.
فالجواب المجمل لكثيرٍ من الشُّبهات أن نقول: إنَّ عُمدةَ أهل الهواء وأهل البدع هو الاستدلال بالمتشابه -ولابدَّ لطالب العلم أن يكون على ذكرٍ وفَهم لهذا المعنى- كما ذكر الله تعالى عنهم ووصفهم، فقال -عزَّ وَجلَّ- كما في سورة آل عمران: ï´؟فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ غ— وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ غ— وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَاï´¾ [آل عمران: 7]. وكما ورد في مسلم: «إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» .
فهذا هو الجواب المجمل عن هذه الشُّبهة، وتبعٌ لذلك أنَّ الإنسان لابدَّ أن يستمسك بهذا الجواب إذا لم يعرف الرَّد بالتَّفصيل على الشُّبهة.
والمُحكم في هذا -وقد قرَّرناه- في مسائل مُتعدِّدة: أنَّ البدعة مَردودة؛ لأنَّ الله قال: ï´؟الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًاï´¾ [المائدة: 3]، فدلَّ على أنَّ الدِّين كامل لا يحتاج إلى مَن يُكمله بهذه المحدَثات.
ويدلُّ على ذلك قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما روت عائشة عنه، وهو مُخرَّج في الصَّحيحين: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، فهذه مُحكمات.
وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبته: «وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»، وَ"كُلُّ" مِن ألفاظ العموم، فدلَّ على أنَّ البدع في الأصل مَذمومة، وأنها مَردودة.
فهذا هو الجواب المُجمَل الذي يُردُّ به على أهل البدع الذين يزعمون أنَّ البدع منها ما هو حسنٌ ومنها ما هو سيئٌ.
وأمَّا في الجواب المفصل على هؤلاء فنقول:
قول عمر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: "نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ" يُريد بها البدعة مِن جهة اللُّغة، ويدلُّك هذا على أنَّ التَّراويح ليست بِدعة في الدِّين؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلَّاها يومًا أو يومين أو ثلاثة -كما نُقل- ثم تركَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك، فكان يُقرِّهم على فِعلها في المساجد، ثُمَّ ترك ذلك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد جاء ذلك مُصرَّحًا به في الأحاديث خشيةَ أن تُفرَض على أمَّتهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رحمةً بهم، فلمَّا زالَ المقتضِي صلَّاها الصَّحابةُ -رضوان الله عليهم- في عهدِ أبي بكرٍ وفي عهدِ عمر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- ولكن عُمر جمعهم على إمامٍ واحدٍ، وقد قد كانوا يُصلُّون أفرادًا.
فظهر لك أنَّ هذه ليست بدعة، فقول عُمر يُراد به المعنى اللغوي للبدعة، وحاشاه -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أن يبتدع في دين الله -عزَّ وَجلَّ ما ليس منه.
وأمَّا حديث « مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً...»، فالحديث له مُناسبة توضِّحه وتُبيِّن المراد منه، وهو أنَّ أُناسًا من الأعراب جاؤوا إلى المدينة وقد لحقتهم الفاقة والجوع، فحثَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه على الصَّدقة عليهم، فحصلَ مِن بعضِ النَّاس أن تباطؤوا في الجُود والعطاءِ لهم، فجاء رجلٌ من الأنصارِ بِصُرَّةٍ من وَرِق -أي: فضة- ثُمَّ لَمَّا رآه النَّاس تتابعوا بالصَّدقة، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقالته تلك.
وأيضًا ظهر للإنسان أنَّ هذه الأمور التي يُشبِّهون بها ليس لها حظٌّ، ولكن هذه طريقة أهل الأهواء والبدع أنهم يُشبِّهون على النَّاس بهذه البدع.
المسألة التَّالية التي تتعلَّق بالعنوان الذي ذكرَه المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- مِن جهة معنى التَّفرُّق والاختلاف؛ لأنَّ الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال في العنوان: (وترك البِدعِ والتفرقِ والاخْتلافِ).
نقول: تحذير الله -عزَّ وَجلَّ- من الافتراق في الدِّين جاء في نُصوصٍ مُتعدِّدَة، فقال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُï´¾ [آل عمران: 105]، يُخبرنا الله -عزَّ وَجلَّ- عن الأمم السَّابقة.
وقال -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواï´¾ [آل عمران: 103]، وقال: ï´؟وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِï´¾ [الأنعام: 153]؛ فدلَّ على أنَّ ثَمَّ افتراق واختلاف يحدث في دين الله -عزَّ وَجلَّ- وهذه سُنَّة كونيَّة أخبر الله تعالى بها، فلابدَّ من وقوعها؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَستَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كلها في النار إلا واحدة» ، فدلَّ على أنَّ ثَمَّ افتراق، وقلنا: إن هذه سُنَّة كونيَّة لكونها قدر الله -عزَّ وَجلَّ.
أمَّا السُّنَّة الشَّرعيَّة فقد أمرتنا بالالتزام بالاجتماع، قال الله تعالى مُحذِّرًا من هذا السبيل: ï´؟إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍï´¾ [الأنعام: 159]، فدلَّ على أنَّ الواجب هو لُزوم الصِّراط المستقيم، الذي يسأله المسلم في كلِّ ركعةٍ من ركعات الصَّلوات، ï´؟صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَï´¾ [الفاتحة: 6].
وهذا المعنى أشار إليه الإمام أحمد إمام أهل السُّنَّة في مُقدمة كتابه "الرَّد على الزَّنادقة والجهميَّة" حينما وفهم فقال: "عقدوا ألْوِية البدعة، وأطلقوا عقال الفتْنة، فهم مُختلفون في الكتاب، مُخالفون للكتاب، مُجمعون على مفارَقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بِغَيْر علْم، يتكلَّمون بالمُتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّال النَّاس بما يشبهون عليْهم، فنعوذ بالله من فِتَن المُضلِّين"، فهم يُخرجون هذه الأمور من جراب المتشابه، ويتركون المُحكَم، ولهذا فإنَّ عبارة الإمام أحمد بليغة جدًّا "ويخدعون جُهَّال الناس بما يُشبهون عليهم"، من هذه الشُّبَة التي تملأ الفضائيات وتملأ حياة الناس وشبكات التَّواصل؛ فهذه كله من التَّشبيه.
فهؤلاء مُفارقون لجماعة الدين التي أمرنا الله -عزَّ وَجلَّ- بلزومها، وأخبر أنها من أسباب السَّلامة والنَّجاة من النَّار، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىظ° وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ غ– وَسَاءَتْ مَصِيرًاï´¾ [النساء: 115]، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرنا بلزم جماعة الدين، فقال: «عليكم بالجماعة -أي جماعة الدين- فإن يد الله مع الجماعة» .
وقال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟شَرَعَ لَكُمْï´¾ أي: يا أمة محمد. ï´؟مِنَ الدِّينِï´¾، أي: من الاعتقاد. ï´؟مَا وَصَّىظ° بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىظ° وَعِيسَىظ° غ– أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِï´¾ [الشورى: 13]، فأهلُ الجماعة هم أهل السُّنَّة والجماعة الذين لزموا سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العقيدة والعمل، وهذه عقيدة الأئمَّة الأربعة، وعقيدة السَّلف الصَّالح، فمَن أراد الهداية إلى الصِّراط المستقيم عليه أن يلزمَ طريقَتَهم ومنهَجَهم حتى يكون له هذا الاهتداء.
ولهذا فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حذَّرنا من الخروج عن هذه الجادَّة، والمؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- سيورد الآيات في ذلك، والتي تُبيِّن هذا المنهج القويم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقول اللَّه تعالى: ï´؟لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًاï´¾)}.
هذه الآية أصل كبير في التَّأسِّي بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أقوالِهِ وأفعالِهِ وأحوالِهِ، واستدلَّ الأصوليُّون بهذه الآية على الاحتجاج بأفعالِ الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّ الأصل أنَّ أمَّته يتأسَّون به في الأحكام، إِلَّا مَا دلَّ الدَّليلُ على اختصاصِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مَسائل مَعدودة، ويُصرِّح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بها، أو يُصرِّح الله -عزَّ وَجلَّ- بها، كما في تجاوز عددِ الأربعة في النِّكاح، فقال تعالى: ï´؟خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَï´¾ [الأحزاب: 50]، في أنَّ المرأة قد تهب نفسها للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي خصائص مُعيَّنة ذكرها أهل العلم وصنَّفوا فيها المصنَّفات.
إذن هذه الآية تُبيِّن أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- أمرنا أن نلزمَ وأن نتأسَّى بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما عدا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو ليسَ بمعصومٍ، والأسوة في النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكلها مُتعلقة بمسائل سنذكرها -إن شاء الله.
{قال: (ï´؟إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍï´¾ الآية [الأنعام: 159])}.
هذه الآية تُبيِّن أنَّ الله أمرنا كأمَّة كَمَا أَمَرَ الأُمَمَ السَّابقة بالاجتماع في الدِّين، ونهى عن التَّفرَّق، وهذا يصدُق على اليهود والنَّصارى الذين تفرقوا في دينهم، وكان تفرقهم مِن حينِ أن بُعثَ فيهم الأنبياء، ولا يَزالون مُختلفين، ولا يزالون مُتفرِّقينَ إلى قيام السَّاعة، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بريء من هذه الطَّريقة، وحذَّر أمَّتَه من سلوكِ هذا المَسلَك -أي: الاختلاف في الدِّين- وأن يتحزَّب الإنسان على غيرِ هُدًى وعلى غيرِ ما اجتمع عليه أهل الإسلام وأهل السنَّة والجماعة، وعلى غير عقيدةٍ مُرضيَّة، وهذه هي الجماعة التي أُمرَ النَّاس بلزومها والاجتماع عليها، وأمَّا ما عداها فكما بَيَّنَ الله -عزَّ وَجلَّ- "شيعٌ وأحزابٌ" والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بريء منهم.
{(وقوله تعالى: ï´؟شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِï´¾ الآية [الشورى: 13])}.
إذن وصية الله -عزَّ وَجلَّ- للأنبياء والرُّسل واحدة من لدُن نوح -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهو أوَّل الرسل إلى نبينا محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي إقامة الدِّين وترك التَّفرُّق فيه، ولهذا فإنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- جعل دين الإسلام أفضل الأديان، وناسخُ الأديان التي قبله، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَï´¾ [آل عمران: 85]، وهو ما شرعه الله لنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن ذلك الاجتماع في العقيدة الواحدة، والاجتماع في الشَّعائر التي لا تكمل إِلَّا بالاجتماع، فهذا من الاجتماع على الدِّين، كالصَّلوات الخمس، والحجِّ والصِّيام؛ فهذا يدلُّ على أنَّ إظهار هذه الشَّرائع من الاجتماع على الدِّين.
ومن الاجتماع على الدِّين أيضًا: الاجتماع على العقيدة الواحدة، فلا يُمكن أن تجمع النَّاس على غير الاعتقاد الصَّحيح؛ لأنَّه إذا جُمِعَ النَّاس على غير هذا الاعتقاد حصل لهم التَّفرُّق؛ لأنَّ الاعتقاد الصَّحيح يأمر الناس بالاجتماع، وينهاهم عن الاختلاف والتَّفرُّق، وأمَّا الاعتقاد المخالف لما جاء عن الله وما جاء عن رسوله؛ فهو يحمل في مضامينه التَّفرُّق، لأنَّ المرجعيَّة والرَّد فيه إلى أهواء الناس، وأمَّا الرَّدُّ في منهج أهل الإيمان ومنهج أهل السنة والجماعة إلى مَا يكون به الاهتداء، وما تحقَّقَت فيه السَّلامة والعصمة، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِï´¾ [النساء: 59]، وقال: ï´؟وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواï´¾ [آل عمران: 103]، فالرَّدُّ في منهج أهل الإيمان يكون إلى كتاب الله، وإلى سُنَّةِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِفقَ فهم الصَّحابة والتَّابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، إذا هذا المنهج واضحُ المعاني.
وهناك مسائل متعلقة بهذا:
ما الجماعة التي أُمرَ النَّاس بالالتزام بها؟
لسائل أن يَسال: أريد أن ألزم سبيل المؤمنين، أريد أن ألزم جماعة الدِّين، أريد أن ألزم الجماعة التي تسلك الصِّراط المستقيم! فكلٌّ يدَّعي أنَّه هو الجماعة وأنَّه هو حِزب الله؛ فهل لهذه الجماعة معالم؟ هل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّنَها وجلَّاها؟ أم أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تركها غير واضحة؟
بلا شكٍّ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّنها؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّن البيان، فلا يُمكن أن يكون هذا الصِّراط المستقيم وهذه الجماعة مجهولة أو خفيَّة؛ لأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- قال: ï´؟وَأَنَّ هَظ°ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُï´¾ [الأنعام: 153]، فأمرنا الله باتِّباع منهجٍ واحدٍ وطريقٍ واحدٍ، وجماعةٍ واحدةٍ -لا جماعات- ولهذا لا يُمكن أن يكون المسلمين جماعات؛ بل يلزم أن يكونوا جماعة واحدة في الدِّين.
إذن جماعة الدِّين: هي الاجتماع على العقيدة، وعلى أصولِ الإيمان، وعلى أركان الإيمان، والشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- كتب هذه الرسالة في "أصول الإيمان"؛ فهذا الدِّين هو دين الأنبياء جميعًا، وهذا الدين اجتمعت عليه الرُّسل.
ومن فَضل الله على أهل الإيمان الذين لزموا جماعة الدِّين أن يعرفوا أنَّ ما هُم عليه من الاعتقاد هو اعتقاد الأنبياء من لدُن آدم إلى نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا اعتقاد عيسى واعتقاد موسى، واعتقاد محمد -عليهم الصلاة والسلام.
فأنت تأخذ بهذا الاعتقاد؛ لأنَّ هذا الدِّين اجتمعت عليه الأمم؛ فالأخذ بأصول الاعتقاد هو اجتماع على الدِّين.
هل الجماعة واحدة أم جماعات؟
الله -عزَّ وَجلَّ- حذَّرَ من هذه التَّفرقة، فقال: ï´؟أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِï´¾ [الشورى: 13]، وقال: ï´؟وَأَنَّ هَظ°ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُï´¾ [الأنعام: 153]، فدلَّ على أنَّها جماعة واحدة، وإن تباعدت في الزَّمان، وإن تعدَّدت أقطارها، فهي جماعة واحدة التي أخذت بالاعتقاد الصَّحيح، ولا يُمكن أن تكون جماعتين، وهي الجماعة التي تأخذ بمنهج الصَّحابة والتَّابعين، لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سأله الصَّحابة عن الجماعة؛ قالوا: مَن هُم يا رسول الله؟ قال: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . ووردت في روايات متعددة، فجلَّاها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمَن أراد أن يلزم الجماعة فعليه أن يلزم ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابة، فهي ليس لها قطر واحد؛ فقد تكون في أقطار مُتعددة، فجماعة الدِّين هُم جماعة أهل السُّنة.
وهذه الجماعة هي الطائفة المنصورة من جهة الحجَّة والبُرهان، فلا يُمكن أن يُدالَ عليها من جهة الحجَّة والبُرهان، فظهورها في كل زمانٍ ومكان؛ لأنَّها تنزع إلى الوحيين -الكتاب والسنة- وتفهمهما بفهم الصَّحابة والتَّابعين، فكان لهم هذا الظُّهور، وهذا من رحمة الله -عزَّ وَجلَّ- أنَّ الحقَّ باقٍ فيها، ولن يُدالَ عليه، ولهذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ» ، فهم لا يَزالونَ مَنصورون، قال: «لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»، دلَّ على أنَّ ثَمَّ مُخذِّل وثمَّ مخالف إلى القيام الساعة، وقد جاءت الأحاديث مصرِّحة «إِلى قُرب قيام الساعة»، حينما يبعث الله -عزَّ وَجلَّ- ريحًا تقبضُ أرواحَ المؤمنين، فلا تقوم السَّاعة إلا على شرار الخلق.
إذن هذه الطائفة منصورة بالحجَّة والبرهان، وقد تكون منصورة بالتَّمكين، ولكن نصرها المتحقِّق في كل زمانٍ ومكانٍ بالحجَّة والبرهان.
ولا يعني وصفها بأنَّها ناجية أنَّ ثَمَّ جماعتان؛ بل هي جماعة واحدة، ولكن وصفها بأنها منصورة إنما يكون في الدُّنيا، ووصفها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنها ناجية؛ لأنَّ أهل العلم في كتب الملل والنِّحَل والفِرَق يصفون الفِرَق المخالفة بالفرق الوعيديَّة؛ لأنَّها متوعَّدة بالنار؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «كلها في النار»، فهي فرق وعيدية
ويُقال الفرقة الوعيدية: الفرقة الناجية، فوصفها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك فقال: «كلها في النار إلا واحدة».
هل لها مسميات؟
ليس لها اسم، فهي في كل زمان قد تأخذ اسمًا، والأسماء لا تُغيِّر الحقائق، فهم أهل الحديث، وأهل الأثر، والسَّلفيون، والغرباء، والنُّزَّاع من القبائل؛ أمَّا الألقاب التي يُلقيها من ناوأ السُّنَّة فهي كثيرة، فكان المعتزلة يُسمونهم: "حشوية، نوابت، حوامل أسفار"، إلى غير ذلك، ولا يزالون...، ولهذا يقول أبو قلابة الجرمي -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو من فُقهاء التَّابعين: "يا أهل السنة لا تهولكم الألقاب"؛ لأنَّ الألقاب لا تُغير الحقائق، فلا تنفر من الألقاب، وانظر إلى ما تحت هذه الألقاب، فإذا كان حقٌّ ومنهج قويم على طريقة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابة؛ فالزم هذا الطريق حتى تتحقق لك النَّجاة.
هل ثَمَّ وصفٌ لجماعة الدين؟
مِنَ الْمُهم عند أهل العلم أنَّ النُّصوص تُستقَرأ وتُفهم وتُجمع بعضها إلى بعضٍ؛ فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لُزوم جماعة الدين -أي: في الاعتقاد- وجاء بلزوم جماعة الأبدان، ولهذا نقول: إنَّنا أُمرنا بلزوم جماعة الدين ولزوم جماعة الأبدان.
ما هي جماعة الأبدان؟
هذا سؤال مُهم جدًّا!: هي الجماعة المسلمة التي يتولى عليها حاكم مسلم وإن تعدَّدت أقطارها، فدلَّ على أنَّ الجماعة المسلمة يُمكن أن تتباعد، كما هو واقع المسلمين في يومنا هذا، فكل حَاكم مُسلم يتولى على بلدٍ فهي جماعة للمسلمين، ويجب على أهل البلد أن يسمعوا ويُطيعوا لهذا الإمام في المعروف -كما هي دلالة النُّصوص.
قد يسأل سائل ويقول: أليس المطلوب من المسلمين أن يكونوا على إمام واحدٍ؟
نقول: نعم، يجب أن يجتمع المسلمون على إمام واحدٍ، ولكن لو قُدِّرَ أنَّه لم يحصل هذا؛ فجاز تعدُّد الأئمَّة، فيكون لكلِّ بلدٍ إمام، وهذا صرَّح به أهل العلم، بل حكوا الإجماع على جواز تعدُّد الأئمة، وأن أحكامهم نافذة، وأنه يُسمَع ويُطاع لهم في المعروف.
وهذا له دلالة تاريخيَّة، فبعد سقوط الدولة الأمويَّة في العراق، قامت الدولة العباسة -كما هو معلوم- ثم بعد أكثر من أربع سنوات قامت الدولة الأمويَّة في الأندلس على يد عبد عبد الرحمن بن هشام بن عبد الملك، المسمى بعبد الرحمن الداخل، والذي يُلقَّب بــ"صقر قريش"، فقامت الدولة الأموية في الأندلس، وصارت دولته من عام 138من الهجرة، ولم يقل أحد من أهل العلم أنه لا يجوز إلا طاعة إمام واحد وهو الإمام الخليفة العباسي، وحكى الاتفاق على هذا الشَّوكاني وغيره من أهل العلم، وقيل: إنه قبل زمان الإمام أحمد، وذكر الإمام أحمد الاتفاق على هذا. فهذه هي الجماعة المرادة، وهي المراد بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَة، وَخَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، فَمَاتَ فَمِيتَتَهُ جَاهِلِية».
فهذه هي جماعة الأبدان، إذن إذا تولى الحاكم المسلم على جماعة فيلزم أهل تلك البلد السمع والطاعة له، ولا يُمكن أن تكون جماعة أبدان مسلمة إلا بإمامةٍ، كما هو مُقرَّرٌ وصرَّحَ به أهل العلم، ونُقل عن الصَّحابة، ولا إمامة إلا بسمعٍ وطاعةٍ.
فالخلاصة ممَّا تقدَّمَ: أنَّ النُّصوص تأمر بلزوم جماعة الدِّين تارةً، وتأمر تارةً بلزوم جماعة الأبدان، وقد يتحقق في الدَّولة المسلمة أن تكون هي جماعة الدِّين وجماعة الأبدان، فيجتمع فيها ذلك، ولا شكَّ أنَّ لزوم هذه الجماعة آكد، وقد يتخلَّف عنها هذا الوصف، فلله الأمر من قبل ومن بعد، والنَّاس في إقبال وإدبار لمثل هذه الأمور، وقد يتخلَّف عنها وصف جماعة الدِّين، كأن تكون الدولة على غير اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة، ومع ذلك يلزم رعيَّة تلك البلد السَّمع والطَّاعة في المعروف، ولا يجوز لهم الخروج على إمامهم -كما هو مُقرر عند أهل العلم.
كذلك من المسائل المهمَّة المتعلِّقة بهذه الآيات: لابدَّ أن يَعلم المسلم أنَّ السُّنَّة مُلازمة للجماعة، فتعرف أنَّ اجتماع الناس لا يكون إلا بالسُّنَّة، وأنَّ البدعة مُلازمة للفرقة، فإذا أردنا أن نجمع الناس؛ فعلينا أن نجمعهم على السنَّة والاعتقاد الصَّحيح؛ لأنَّ مَن خالف الاعتقاد الصَّحيح فهو مُفارق للجماعة، ولهذا لو نظرتَ في أحوال المسلمين وتتبَّعتَ تاريخ المسلمين؛ لوجدتَّ أنَّ الفُرقة مُلازمة لأهل البدعة.
يقول أبو قِلابة الجرمي -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- مِن فُقَهاء التَّابعين عن أهل الأهواء: "افترقت بهم الأهواء، واجتمعوا على السَّيف"؛ لماذا ؟
لأنَّ البدعة مُلازمة للفرقة، فلابدَّ كما أنَّهم فارقوا الاعتقاد الصَّحيح في دينهم، وفارقوا جماعة الدِّين، فحتمًا سيُفارقون جماعة الأبدان، كما قال الإمام أحمد: "مُفارقون للكتاب مخالفون للكتاب"، فالبدعة ملازمة للفرقة.
وهذه وصيَّةٌ لأهل الإيمان ولأهل الإسلام، ولحُكَّام المسلمين وعامَّتهم؛ أنَّهم إذا أرادوا الاجتماع فعليهم أن يجتمعوا على كتاب الله وعلى سُنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى فهم السَّلف الصَّالح؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ» .
إذن الافتراق مُلازم لأهل البدعة، ولو تتبعتَ تاريخ أهل البدع والفُرقة لوجدتَّ أنَّهم أهلَ خروجٍ بدءًا من الخوارج، ونهايةً بالمُرجئة، مع أنَّ المرجئة يقولون: "لا يضر مع الإيمان ذنب"، ومع ذلك فهم أهل سيفٍ؛ لأنَّ البدعة تتبعها الفرقة، فإذا أردنا أن نجمع الناس فعلينا أن نجمعهم على كتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا ما يُميِّز هذه البلاد -وفَّقَ الله حكَّامها إلى كل خيرٍ- أنَّهم جمعوا النَّاس على كتابِ الله وعلى سُنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يكون اجتماع إلا على هذين، وإلا فترك هذين الأصلين وعدم التَّحاكُم لهما سببٌ للفُرقَة ولانكسار الشَّوكَة -نسأل الله السَّلامة والعافية- ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ»، وهذا الحديث أخرجه أهل السُّنن بسندٍ صحيح.
ولم تتفرَّق الأمَّة في أبدانها إِلَّا لَمَّا تفرَّقت في العلميَّات، وَإِلَّا فما الذي أوجب للخوارج التَّفرق ومُنابذة أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل ومقاتلة الصَّحابة؛ إِلَّا أنَّهم افترقوا عنهم في الاعتقاد، ولم يقع هذا في هذه الأمة الإسلامية فحسب؛ بل وقع في الأمم السَّابقة كما قصَّ الله تعالى علينا في مُحكَم كتابه، قال الله تعالى: ï´؟وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْï´¾ [آل عمران: 19]، فقد يكون الافتراق بعد العلم، فالبغي في العِلم سببٌ من أسباب الافتراق، والآية تُبيِّن أنَّ الخلاف في العلميَّات أي: في الاعتقاد- أوجبَ تفرُّقَهم واختلافهم، ولا يزالون إلى يومنا هذا.
ومن هنا نعلم أنَّه لا يُمكن أن يجتمع النَّاس إلا على الاعتقاد الصَّحيح، وعلى التَّوحيد، وعلى ما وصَّى الله تعالى به نوحًا وما وصَّى به محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من إقامة الدِّينِ وإقامة التَّوحيد، ونبذ الشِّرك، والاعتقاد الصَّحيح في توحيده في ألوهيَّته وفي ربوبيَّته وفي أسمائه وصفاته، فلا يُمكن أن تجتمع الأمَّة على الشِّعارات وعلى الأيدلوجيا المصنوعة من قبل البشر، والتَّاريخ والواقع يشهدان بذلك، فإنَّ مصيرهم إلى الافتراق والاختلاف والمنابذة، وأما إذا اجتمعوا على الدين فإنَّهم وإن حصل خلاف بينهم؛ فإنهم ينزعون إلى الاجتماع، لأن أصولهم ومرجعيَّتهم واحدةٌ، وتحاكمهم إلى كتاب الله وإلى سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا هي وصايا الأنبياء، ووصايا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأمَّتهِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن العِرباض بن سارية -رضي اللَّه عنه- قال: وَعَظَنَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوعظةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رسولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُه إِلَينَا؟ فَقَال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثيرًا، فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ». رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه.
وفي رواية له: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ...». ثم ذكره بمعناه)}.
هذا الحديث البليغ العظيم تحته مسائل مُهمَّة، وهي مِن وَصايا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي ينبغي لكل مسلمٍ أن يحفظها وأن يعمل بها، وبخاصَّةٍ في زمن المتغيِّرات وزمن الفتن، فإنَّ لوزم وصايا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سببٌ للنَّجاة، نسأل الله أن يُوفقنا للتفقُّه والتَّعلم من هَديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن ينفعنا.
المسألة الأولى التي يحسنُ أن نبحثها: أنَّ في الحديث الإشارة إلى موعظة في قوله: (وَعَظَنَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوعظةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ)، فدلَّ على أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يَعظهم.
ومن المهمِّ جدًّا أن نُبيِّنَ أنَّ مَواعظ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانت مُوجزة وبليغة، ويُراعي فيها أحوال السَّامعين وقلوبَهم، قال عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وهو من فُقهاء الصحابة: "كانَ يَتخَوَّلُنا بالموْعِظَةِ في الأيَّامِ؛ كراهِيَةَ السَّآمةِ عليْنا" ، فهذه وصية للدُّعاة ولأهل الخير؛ أنهم يتحيَّنون الأوقات المناسبة، وأن تكون الموعظة وجيزة، ولهذا فإنَّ عائشة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- تقول: "كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ" ، وهذا يدلُّ على أنَّ الواعظ ومُعلم النَّاس الخير لابد له أن يحرص على أن يكون كلامه واضحًا وبيِّنًا ومُوجزًا وفَصيحًا يَفهمه النَّاس جميعًا، ولا يتنطَّع في حديثه.
وقول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: "أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكُنْ يسرِدُ الحديثَ سرْدَكم" ، يدلُّ على أنَّ النَّاس بدأ فيهم التَّغيُّر على ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانت -رَضِيَ اللهُ عَنْها- تُرشدهم إلى هذا.
ومن خصائص مَواعظ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومَن أراد أن ينتفع بها فهي مَوجودة، صحيح أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماتَ؛ ولكن سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيَّة، فينتفع للإنسان بها ويسمعها ويتأملها ويتدبرها، فمن خصائصه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه أُعطيَ جوامع الكلم، فيتكلم بالكلام الوجيز البليغ العظيم النَّفع، ولهذا جاء في الحديث: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» ، وهذا يدلك على أنَّ الموعظة من منهج الأنبياء والمرسلين، ومن منهج نبينا محمدٍ؛ والترغيب فيما عند الله -عزَّ وَجلَّ- والترهيب من عذاب الله -عزَّ وَجلَّ، فإنَّ الأصل في كلام الأنبياء هو الوعظ والبشارة والنذارة، قال تعالى: ï´؟رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَï´¾ [النساء: 165]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ï´؟يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَظ°ذَا غڑ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىظ° أَنفُسِنَا غ– وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىظ° أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَï´¾ [الأنعام: 130]، دلَّ على أنَّ الأنبياء يعظون أقوامهم.
قال تعالى: ï´؟وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا غ™ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًاï´¾ [الأعراف: 164]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ï´؟فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍï´¾ [الغاشية: 21]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىظ° تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَï´¾ [الذاريات: 55]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ï´؟يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَï´¾ [البقرة: 9]، وقال: ï´؟ادْعُ إِلَىظ° سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ غ– وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُï´¾ [النحل: 125].
إذن؛ الوعظ هو هَدي الأنبياء، وما أحوج النَّاس إلى الوعظِ والتَّذكير والتَّبشير والنِّذارة؛ فيكون الإنسان على وسطية من جهة البشارة، ومن جهة التنذير؛ لأن بعض الناس يُغلب جانب الوعيد ويترك جانب الوعد! بل إن الجمع بينهم أن يحذرهم من النار ويرغبهم في موعود الله -عزَّ وَجلَّ- بالجنَّة، فيبشرهم ويُنذرهم، كما هو هدي النبياء.
وهذا يستدعي منَّا سؤال: ما هي الموعظة؟ كيف لي أن أعظ الناس؟ وما هي أبلغ المواعظ؟ هل المواعظ بالقصص التي يتناقلها الناس، أو بالمؤثرات؟ أو بالألحان؟ أو بالسَّماع وما شاكل ذلك؟
أعظم موعظة في القرآن الكريم، فالله سمَّاه موعظة، قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَï´¾ [يونس: 57]، فتأمل قول الله "موعظة" و"شفاء"، فهو شفاء لمراض القلوب، لأن القلوب تمرض كما أنَّ الأبدان تمرض، فلا علاج لها إلا بتدبُّر القرآن، وأن يعظ الإنسان نفسه، وأن يعظ المؤمن إخوانه بهذا القرآن العظيم، فكل موعظة لا تستند على كتاب الله وعلى سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنفعها ضعيف؛ لأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- يقول لنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ï´؟فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِï´¾ [ق: 45]، فالأصل في الذكرى والوعظ هو التَّذكير بالقُرآن، وبقوارع التَّنزيل ليفهما الناس، فيُقبلُوا على ربِّهم، وينتهوا عمَّا حرَّمَ الله -عزَّ وَجلَّ.
قال الله -عزَّ وَجلَّ- في مواضع كثيرة: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...ï´¾، ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ...ï´¾، كلها مواعظ ونداء من الله -عزَّ وَجلَّ- وهذا ابن مسعود يقول: "إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ï´؟يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواï´¾، فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ"
فالمطلوب من أهل الإيمان أن يتَّعظوا بما في القرآن من مواعظ، وأن يُحيوا قلوبهم، لأنَّ لا حياة لقلوب الناس إلا بالقرآن العظيم، فأثر القرآن عظيم، فما أحوج الأمَّة إلى مراجعة كلام الله -عزَّ وَجلَّ- وقراءة القرآن بالتَّدبُّر، فمن لا يتدبر القرآن يضعف انتفاعه به، والله خاطبَ وعاتبَ أهلَ الإيمان الذين لا تعظون بقوارع التَّنزيل، فقد سمَّاها العلماء "قوارع التَّنزيل"، قال تعالى: ï´؟أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ï´¾ [الحديد: 16]، نسأل الله السلامة والعافية.
فإذن؛ الناس في زمنٍ شبكات التَّواصل، وزمن الانفتاح والفضائيات والمثيرات؛ ما أحوجهم إلى المواعظ، ولكن تُتَحيَّن الأوقات المناسبة، والأسلوب الطيب الحكيم، حتى يكون للإنسان أثر، والوعظ ليسَ حكرًا على فئةٍ مُعيَّنة، فالمطلوب التبليغ، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» ، تبليغ الناس بالخير ودعوتهم إلى الخير، ووعظ الأبناء والبنات والأزواج بالمواعظ التي تنفع.
من خلاصة ما تقدَّم يتبيَّن لنا: أنَّ شرط الموعظة الحسنة التي توافق هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو التَّخوُّل بها، لا تُكرَّر ولا يُطوَّل فيها؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما كان يُطيل خشية السآمة، مع أنَّ كلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعظم الكلام وأنفعه، ومع أنَّ الخطبة في الجمعة عبادة، ومع ذلك نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الإطالة، وأثنى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على مَن لا يُطيل في خُطبة الجمعة فقال: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ»، كأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: الفقيه مَن لا يُطيل الخطبة، وهذه دعوة لكل خُطباء المسلمين، أن يُراعوا أحوال السَّامعين ولا يُطيلوا الخطبة، وليس ثَمَّ عذر، لأنَّ كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واضح وبيِّن، فلا يُطيل عليهم، وإن كانت الإطالة نسبيَّةٌ لكنَّها معلومة، فمن عرف معنى الإطالة وفهم وقرأ عمل بذلك، وإذا تجاوز الرُّبع ساعة أو الثلث ساعة فهو طول!
ومن لهم عناية بعلوم النَّفس يَقولون: العشر دقائق الأول في الحديث هي التي يكون فيها السَّامعين مُنصتين لك، ثُمَّ بعد ذلك ربما تجري بهم الهواجس!
ومنه توفيق الله -عزَّ وَجلَّ- لهذه البلاد ولأئمة الدَّعوة وتلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومَن سلكَ هذا المنهج أنَّهم جروا على عادةٍ طيِّبةٍ في تحديث النَّاس بعد صلاة العصر بحديثٍ أو بحديثين؛ فكل هذا من المواعظ؛ لأنَّ أعظم ما يُوعَظ النَّاس به هو كلام الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فيا عبد الله! إن أردتَّ الانتفاع وحياة القلب؛ فأقبل على كلام الله، وأقبل على كلام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستعن بكل ما يُفسِّر لك كلام الله، وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّ هذا هو سبب النَّجاة، وسبب حياة القلوب.
أسأل الله أن يوقفنا للعلم النافع، والعمل الصَّالح، وأن يُحيي قلوبنا، وأن يتوفانا مُسلمين غير خزايا ولا مفتونين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا مُحدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:45   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أُصول الإيمان (2)
الدَّرسُ الرَّابِعُ (4)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{سنبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- من حديث العِرباض بن سارية، وقد شرعنا في بعض مسائله في الحلقة الماضية.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وعن العِرباض بن سارية -رضي اللَّه عنه- قال: وَعَظَنَا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوعظةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رسولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُه إِلَينَا؟ فَقَال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثيرًا، فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ». رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه.
وفي رواية له: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ...». ثم ذكره بمعناه)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا وبعد:
فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وأن يرزقنا الانتفاع بمواعظ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن هذه الموعظة وهذه الوصيَّة؛ وصية النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في حديث العرباض، وفيه مسائل مهمَّة:
- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (وَعَظَنَا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوعظةً بَليغَةً)، ولا شكَّ أنَّ موعظة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تذكرهم بالآخرة، وَتُزَهِدُهم في الدنيا، ووصفت هذه الموعظة بأنها بليغة؛ لكونها أثَّرَت في نفوس أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذكر أنها ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، وهذا هو المقصود من الموعظة، وقد تحقق.
ولهذا فإنَّ الصَّحابة لمَّا رأوا هذا الأمر من الموعظة أحسُّوا أنها موعظة مُودِّع -أي: أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُفارِق لهم، وأنَّ أَجَلَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد قاربَ؛ فانتهزوا الفرصة لطلب الوصيَّة، ومَن يُودِّع الحياة لا شكَّ أنَّه يُوصي، والوصيَّة كالموعظة ستكون بليغة، وسيقتصر فيها على المهمَّات، وعلى ما يحصل به العِصمة مِن الزَّلل، ولهذا كانت وصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه؛ فأوصى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتقوى الله، وتقوى الله هي وصية الله -عزَّ وَجلَّ- لأهل الإيمان، وهي وصية أهل الإيمان بعضهم لبعضٍ.
ثم السَّمع والطَّاعة لمَن تولَّى أمر المسلمين، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ»، فهو يُخاطب السَّامعين بما يعرفون، والعرب كانوا يأنفون من إمامة مَن لحقه الرِّق، فلا يُتصوَّر من المملوك استقامة النَّاس له؛ فلا شكَّ أنَّ النَّاس يأنفونَ، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال وإن فقدَ شيئًا من الأهليَّة -وهو كونه مملوكًا.
وهذا يجرنا إلى مسألة الإمامة بِمَ تكون، وإذا بُحِثَت مسألة الإمامة بُحِثَت مسألة السَّمع والطَّاعة لمَن تكون.
والإمامة عند أهل الإسلام تنقسم إلى نوعين:
• ولاية اختيار، وهي الأصل في الولاية.
• ولاية التَّغلُّب.
وكلها واقعة في أهل الإسلام.
الولاية الأولى: ولاية الاختيار؛ هي اجتماع أهل الحل والعَقد وأهل الشَّوكة على اختيار إمامٍ تتوافر فيه شروط الإمامة المعتبرة شرعًا، وهي مَشهورة ومذكروة في كتب أهل العلم:
• أن يكون قرشيًّا؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ» .
• سلامة الحواس من الآفات.
مثال ولاية الاختيار: كما فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- لما توفي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبايعوا أبا بكرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهي ولاية شرعيَّة ولا شكّ.
الولاية الثانية: ولاية التَّغلُّب، وهذه وقعت في الصَّدر الأوَّل في الإسلام، وقعت ولازالت تقع، وهذه كذلك ولاية شرعيَّة ويجب فيها السَّمع والطَّاعة لمن تولَّى أمرَ المسلمين، وهي التي أشار إليها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث العرباض: «وَإنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ».
وولاية التَّغلب: هي أن يتغلَّب الإمام على النَّاس بأيِّ نوعٍ من أنواع التَّغلُّب، سواء بالسيف والقهر، أو بغيره من الأسباب، ويكون مَقصوده التَّغلُّب والقهر، وبعض أهل العلم يقول: "التغلب والقهر" تعبير واحد إشارة إلى هذه الولاية التي قد لا تكون عن اختيار، وإنما عن اضطرار وعن واقع يقع الناس عليه؛ فيجب عليهم السَّمع والطَّاعة.
وهنا يُشير إلى مسألة مهمَّة! أنَّه ينبغي أن يُفهم ويُعرَف في مسائل الإمامة أنَّه قد يكون من التكييف الفقهي والشَّرعي أن التَّغلب قد يُسمَّى في النِّظام الدِّيموقراطي بالعمليَّة الانتخابيَّة، فبعض النَّاس يتصوَّر أن التَّغلُّب إنَّما يكون بالسَّيف فقط؛ بل قد تكون العمليَّة الانتخابيَّة من ولاية التَّغلُّب؛ لأنَّ المنتخب تغلَّبَ على الآخر بصوته، فهي مِن أنواع الإمام المتغلِّب، حتى لا يُزايد بعضُ مَن يقع في الزَّلل، ويتكلَّم في ولاية المتغلِّب؛ لأنَّ الانتخابات ليست على اختيار كاملٍ؛ بل على اختيار بعضِ النَّاس دون بعض؛ فهذا مُتغلبٌ بسيفه وذاك متغلبٌ بصوته.
المقصود أنَّ الإمام المتغلِّب قد لا تجتمع فيه شروط الولاية كما جاءت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنَّه تغلَّبَ؛ فيجب له السَّمع والطَّاعة في المعروف، وهذا مُقرَّرٌ في الشَّريعة، وهذا الذي أشار إليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمر فيه بالسَّمعِ والطَّاعةِ، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ»، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُمكن أن يوصِي الأمَّة إلا بما فيه خيرٌ للأمَّة في مصالح دينها ودنياها.
ولهذا جاء في بعض الروايات: «وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ» ، وفي رواية: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» .
المسألة الثانية والتي أشار إليها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث العرباض؛ قال: «وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثيرًا، فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ».
فالاختلاف الكثير الذي أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو أنَّ مَن يَعش مِنَ الصَّحابة وتطول به الحياة فسيراه؛ ولذا جاء في بعض روايات الحديث «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ»؛ فالمقصود هو الاختلاف في أصول الدين وفروعه، في الأعمال الأقوال والاعتقادات؛ فإن الأمر اختلف!
ومن المسائل التي قد تَرِد: متى بدأ الاختلاف في الأمة وبدأ التغيُّر والنَّقص؟
الجواب: من حين وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدأ النقص، ولايزال حتى وقعت الفتنة في زمن عُثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وظهر هذا الأمر، ولهذا نُقل عن أنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: "لما قُبض رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، فما هي بالقلوب التي نعرف" .
فبدأ النَّقص والاختلاف في الأمَّة بعدَ وفاته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم ظهر واضحًا وبدا للنَّاس بعد مقتل عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي ولاية عثمان صار التَّشغيب على عثمان والكلام في الوالي، والمجاهرة بالإنكار على ولي الأمر وقد وقع من آحاد الناس، ولهذا جاء في أثرٍ عن حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في صحيح البخاري، لما سألَه عمر عن الفتن؛ فقال حذيفة: "لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا" ، يقصد عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ لأنه في ولايته كان هو الذي يُمثِّل الباب.
فقال عمر: " أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟". فقال حذيفة: "بَلْ يُكْسَرُ".
وحذيفة بن اليمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو صاحب سِرِّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو مَن حَفِظَ أحاديث الفتن. فقال عمر: "إذن لا يُغلق أبدًا".
ثم ظهر أمر التفرق بمقتل عثمان -كما هو معلوم- ووقعت الفتنة، ووقعت دلالة من دلالات النُّبوَّة وَصِدْقُ ما أخبر به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي الحديث: «وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، نسأل الله السلامة والعافية!
بعد ذلك ظهرت الخوارج والفِرَق الوعيديَّة، ولا يزال الاختلاف والتَّنقُّص في الأمَّة باقٍ!
كذلك من الاختلاف والتَّنقُّص الذي حصل في الأمَّة فيما يتعلق أمر الولاية والصَّلاة؛ وقد أدركه أواخر الصَّحابة -رضوان الله عليهم- فأنس بن مالك من أواخر من مات من الصحابة في العراق وعاصر الفتن ومن ذلك فتنة الحججَّاج بن يوسف الثقفي، وقد نُقل عنه أنه قال: "لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيِّعَتْ" ، يعني: حصل فيها التَّنقُّص، فلا يعرفها كما كانت في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمقصود مما أشار إليه أنس في مسألة تضييع الصَّلاة؛ أي: تأخير الصَّلاة عن وقتها، فكان الحجاج من نواب ولاة بني أميَّة، وكان بنو أمية يؤمُّونَ النَّاس للصلاة؛ فكانوا يؤخِّرون الصَّلاة، فبعض العلماء قال: إنَّهم كانوا يؤخِّرون الصَّلاة عن وقتها الاختياري إلى وقتها الاضطراري، وقيل: إنهم كانوا يؤخرونها عن وقتها حتى يخرج الوقت، كما صرَّحَ بذلك ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ- فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ». قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» ، فإذن أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالصَّلاةِ على وقتها.
وهذا من علامات الاختلاف والتَّنقُّص.
والمقصود من كل هذا الكلام المتقدِّم: هو بيان الاختلاف الكثير الذي أشار إليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث العرباض بن سارية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ومن المسائل التي يحسن أن تُبحَث وأن تُعرَف في حديث العرباض، وهو حديث عظيم وفيه مسائل عظيمة جدًّا ينبغي لأهل الإسلام أن يتعلموها، وأن يعلموها غيرهم؛ قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ من بعدِي، تمسَّكُوا بها، وعَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ»، النواجذ: هي أواخر الأضراس.
والمراد: شدَّة التَّمسُّك بها.
والمراد بسنَّة الخلفاء الراشدين هنا: هي طريقة الخلفاء الرَّاشدين التي توافق سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سياسة الناس، وفي أمر الدين والدنيا.
وليس معنى هذا الحديث: أنهم يُحدِثون أشياء في الدين، فبعض النَّاس يتصور أنَّ الخلفاء الراشدون لهم أن يُحدثوا؛ حاشاهم من ذلك وهم يسمعون قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .
وممَّا يذكره أهل العلم من التَّمثيل على سنَّة الخلفاء الرَّاشدين: سنَّة قتال أبي بكر لأهل الرِّدَّة، وجمع عثمان للمصحف، والأذان الأول لصلاة الجمعة، وجمع عمر الناس على إمام واحدٍ في صلاة التراويح -كما مرَّ معنا- فكل هذه مِن سُنن الخلفاء الراشدين المهديين الذين حثَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على سلوك طريقتهم، فهو القرن الأول الذي ينبغي للناس أن يقتدوا به، وأن يفعل كما فعلوا في أمور سياسة الدين والدنيا.
ثم جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد هذه الوصايا البليغة محذرًا، فقال: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»، والمحدثات في أمر الدِّين هي المقصودة هنا في الحديث، وليس المقصود هو المحدثات في أمر الدُّنيا؛ لأن المحدثات في أمور الدنيا الأصل فيها الإباحة، والإحداث فيه ممَّا يتعلَّق بمصالح الناس، والشَّريعة جاءت بترتيب أصوله لا فروعه والكلام فيه.
فهذا ما يتعلق بهذا الحديث العظيم الذي أخبر فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه سيقع الاختلاف، وأمر بالسمع والطاعة؛ لأن وصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث العرباض شملت أمر الدِّينِ والدُّنيا، أمر الدين من جهة أنه أوصى بتقوى الله -عزَّ وَجلَّ؛ لأنَّ تقوى الله -عزَّ وَجلَّ- بها صلاح الآخرة الدِّين، وصلاح الدُّنيا بالسَّمع والطَّاعة لولاة الأمر في المعروف، والفتنة والخروج على ولاة الأمر من أسباب ضياع أمر الدنيا، فكانت هذه الموعظة من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصية بليغة، فإذا أراد الناس السَّلامة لدينهم فعليهم بتقوى الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وإذا أرادوا السلامة لدنياهم فعليهم أن يسمعوا ويُطيعوا في المعروف، وليس معنى ذلك إقرار الحاكم على المعصية أو ما يقع منه، لأن الإصلاح له باب آخر وجاء في أحاديث أخرى، وهي أن يكون النُّصح سرًّا لا علانية كما جاء في الأحاديث المصرَّح بها، ولعلَّ -إن شاء الله- يأتي البيان لذلك.
{أحسن الله إليكم..
رواية: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا....»}.
يعني أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما من شيءٍ إلا وقد وضَّحه، فلم يبقَ شيء، فلهذا قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ»، وفي بعض الروايات: «المحجَّة البيضاء» وليس لها إسناد مشهور أو معروف.
ولكن رواية «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ»، يعني: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما ترك شيئًا من الدِّينِ إلَّا وقد بيَّنه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (ولمسلم عن جابرٍ - رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: «أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ».
وللبخاري عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قال: «قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».
ولهما عن أنسٍ -رضي اللَّه عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- يسألون عن عبادة النبي -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها فقالوا أين نحن من النبي -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- قد غفِر له ما تقدم من ذنبهِ وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء النبي -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما واللَّه إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني»)}.
هذه الأحاديث التي أوردها المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- في تقرير طاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد تقدَّم الكلام عن معنى طاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحدُّها وتعريفها: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر؛ فهذا طابطٌ يُعرَف به حد الطاعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه الطاعة لاشكَّ انَّ فيها الرِّاد كما أخبر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكما جاء بذلك مصرَّحًا به في النُّصوص، ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواï´¾ [النور: 54]، ï´؟وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواï´¾ [الحشر: 7]، ï´؟فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌï´¾ [النور: 63]، قال الإمام أحمد: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشِّرك، لعلَّه إذا ردَّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيغ فيهلك" ، يعني: إذا ردَّ قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا من الوعيد العظيم.
وصور معارضة أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صور كثيرة جدًّا، وقد مرَّ معنا في الدَّرس السَّابق في الكلام على موقف الإنسان من النَّص الشَّرعي نماذج كثيرة جدًّا، ومن ذلك معارضة أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقياس العقلي، وبالتَّصورات العقليَّة السَّقيمة، هذا يصح أو هذا لا يصح، ومن ذلك التَّشكيك فيما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في القبول والرَّد؛ فكلها من المعارضات.
ثم الحديث الذي يليه، وهو حديث عظيم كذلك، حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وتحته مسائل مهمَّة:
المسألة الأولى: هذا الحديث يؤصِّل إلى مسألةٍ مهمَّةٍ جدًّا، وهي أنَّ الاقتداء والتَّأسِّي هو بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا هو الأصل، لقوله تعالى: ï´؟لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَï´¾ [الأحزاب: 21]، إلا ما جاء به النَّصُّ أنَّه خاصٌّ بالنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولهذا فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث أثبتَ أنَّه هو الأسوة، فهو يصومُ ويُفطِر، ويقوم الليل وينام، ويتزوَّج النساء؛ كما أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه هو الأسوة.
المسألة الثَّانية: أنَّ الباعثَ الصَّحيحَ والنيَّةَ الطَّيِّبَةَ الصَّالحةَ لا تكفي في قبولِ العملِ؛ فلابدَّ أن يُعلَم الصَّواب، فبعضُ الناس يقول إنه يُريد الخير! فلا يكفي أن تريد الخير، أو أن تريد ما عند الله -عزَّ وَجلَّ- لأنَّ شرطا قبول العمل: الإخلاص والمتابعة.
الإخلاص لله -عزَّ وَجلَّ- هذه هي النِّيَّة الصَّالحة، تريد بها وجه الله -عزَّ وَجلَّ-، ولكن لا يكفي في قبول العمل الإخلاص؛ بل لابدَّ من المتابعة، وهي التَّأسِّي بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أمر الدِّينِ، فليس لك أن تُحدِث عبادة لم ترِد عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ هذا ابتداع في دين الله، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، أي: مردودٌ على صاحبه، لأنه لو فتح هذا الباب لصار الدين تبعٌ لآراء الناس، ولكن الدين محفوظ.
المسألة الثالثة: أنَّ نَازِعة الغلو والتَّطرُّف من طبائع الحياة البشريَّة؛ لأنَّك لو نظرتَ في أحوال الناس تجد أنَّ بعض النَّاس مِن طبعه أن ينزع للإفراط في الشَّيء، فإمَّا إفراطٌ وإمَّا تفريطٌ، وإمَّا الغلو والجفاء!
فلمَّا بلغَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غلو بعض أصحابه والميل إلى مثل هذا؛ سارع إلى الإنكار والبيان، ولهذا قال: «أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
المسألة الرابعة: أنَّ الله رفعَ عن هذه الأمَّة الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السَّابقة من جهة التَّكاليف، في أمر النَّجاسة، وفي أمر العبادة، وفي أمور كثيرة؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعثَ بالحنيفيَّة السَّمحة، ولهذا بيَّنَ الله -عزَّ وَجلَّ- أنَّ أهلَ الكتابِ وقعُوا في الغلوِّ، ونهانا عن الغلو والتَّنطُّع؛ كما أخبر الله -عزَّ وَجلَّ- عن أهل الكتاب من النَّصارى، فقال تعالى: ï´؟وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْï´¾ [الحديد: 27]، فثَمَّ ابتداء رهبانيَّة النَّصارى، وكلَّفوا أنفسهم ما لم يكلفهم الله به -عزَّ وَجلَّ، فالرَّهبانيَّة تُصادم الفِطَر، ولهذا لاتزال تسمع بينَ الفَينة والأخرى ما يندى له الجبين بسبب هذا المنهج الرَّهباني وإن كان في طائفة دون أخرى، تعرف طوائف النَّصارى من الكاثوليك أو البروتوستانت أو الأرثوذكس وغيرهم من الطوائف، فمثلا الكاثوليك عندهم هذه الرَّهابنيَّة، ولكن البروتوستانت لهم منهج آخر يُخالفهم، ومن رهبانيتهم ترك التَّزوُّج، وأنت تسمع من التعديات في هذه الأمور؛ لأن تركهم للزواج مُصادم للفِطَر، فديننا ليس فيه رهبانية، كما أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه تزوَّج النساء.
ونهانا الله -عزَّ وَجلَّ- عن الغلو، لأنَّه أخبرَ أنَّ أهلَ الكتاب وقعوا في الغلو، فما يُحذرنا الله -عزَّ وَجلَّ- من فعل أهل الكتاب إلا لأنَّه يُريد تحذير هذه الأمَّة من الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب، فقال تعالى: ï´؟قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّï´¾ [المائدة: 77]، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» ، إلى غيره من الأحاديث التي حذَّر فيها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الغلو ومن الجفاء، لأنَّ دين الإسلام دين وسطيٌّ.
وكذلك من المسائل التي تُبحَث والتي أشار إليها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّ أكمل الهدي وأحسنه هو هدي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن زاغ عن سبيله فقد ضلَّ، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتي فَلَيسَ مِنِّي»، وقد تبرأ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من هذه الطَّائفة الغالية ومن منهجهم.
وكذلك من المسائل التي تُبحَث وبخاصَّة في هذا الزَّمان، ولابدَّ لأهل الإسلام أن يُشهروا ذلك وأن يعرفوا الناس به لأنه من شريعة الإسلام: أنَّ الإسلام بشرائعه وأحكامه يُحقق التَّوازن بينَ الجسدِ والرُّوح، وهذا التوازن ليس بالعمليَّةِ اليسيرة، ولن تجده إلا في شريعة الإسلام، وأمَّا الأديان الأخرى فقد وقع فيها التَّحريف والتَّبديل والابتداع، ولهذا لا يوجد في الشَّرائع كلها هذا التَّوازن إلا في الإسلام الذي أتمَّ الله تعالى به على النَّاسِ النِّعمَة، لأنَّ الإسلام ليس دينُ جنسٍ ولا قوميَّة؛ بل دين الناس جميعًا، قال تعالى: ï´؟الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًاï´¾ [المائدة: 3]، فأتمَّ الله -عزَّ وَجلَّ- به النِّعمة.
ونعني بالتَّوازن: هو التَّوازن بين مُتطلِّبات الرُّوح والجسد وموافقة الفطرة، فالإسلام ليس في شرائعه ما يُخالف الفطرة، ولهذا جاء في بعض أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإنَّ المُنْبَتُّ لا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى». والغالي في الأمور لابد أن ينقطع، والمقتصد هو الذي يسير.
وجاء في الحديث: «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» وفيه أحاديث كثيرة جدًّا في إخبار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما يتعلق بالمنهج الوسطي والتَّوازن، وهذا لن تجده إلا في شريعة الإسلام، التي تصلح في كل زمانٍ ومكانٍ.
ومن المسائل التي تُعتبر من مُلَحِ العلم والتي قد يسأل عنها بعض الطلاب: من هم هؤلاء النَّفر من الصَّحابة الذين كانوا من شباب الصَّحابة الذين كان فيهم الحرص على التَّعبُّد؟
جاء في مراسيل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق الصنعاني: أنَّ الثلاثة: علي بن أبي طالب، عبد الله بن عمرو بن العاص، عثمان بن مظعون -رضي الله عنهم- فكانوا من شباب الصحابة، وكان فيهم حرص على التَّعبُّد، وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص كان له مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمور فيما يتعلق بالتَّعبُّد، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوصيه بالقصد، فقال له «القصدَ القصدَ».
ومن المسائل التي يحسُن أن تُبحَث كذلك: ما الشُّبهة التي حملتهم على الزِّيادة على هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
هي شبهة قريبة من شبهة الذين يقعون في البدع في زماننا هذا، وهي أن عَرَضَ لهم الشيطان فقال لهم: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد غُفر له من ذنبه وما تأخر، وهذا قد جاء به مصرح في قوله تعالى: ï´؟إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًاï´¾ [الفتح 1، 2]، وهي من خصائصه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي لا يُشاركه فيها أحد، أنَّه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك فكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقوم من الليل ويصلِّي ويقيم الليل، ومع ذلك في مقام التشريع وضَّحَ لهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه كان يقوم من الليل وينام -كما جاء في الحديث.
ودائمًا نجد أنَّ منهج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعلَّق بالاعتدال والوسطيَّة، فكثيرًا ما يُرفع هذا الشِّعار الاعتدال والوسطيَّة- ولكن لابدَّ أن يُنظَر في مضمونه؛ لأنَّ الأمر ليس بالدَّعاوى ولا بالشِّعارات، ودائمًا جملة من هذه الشعارات المرفوعة تكون خادعة، فالأمر ليس بالألقاب، كما مرَّ معنا في أثر أبي قلابة الجرني "لَا تَغُرَّنَّكُمُ الأَلْقَاب"، فليس الأمر بالشعارات، ولكن بالمضامين، فالاعتدال والوسطية إنما يكون باتباع منهج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي بيَّنَه في هذا الحديث وفي غيره من أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد قال: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ» ، فالعمل لن يدخلك الجنة، وإنما هو سبب، ولكن دخول الجنة يكون بفضل الله -عزَّ وَجلَّ- رحمته، ولابدَّ أن تعرف هذا!
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» ، وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمله ديمة، فهذه وصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للناس جميعًا، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا عمل عملًا استدامه، وأخبرَ الأمَّة أنَّ خيرَ الأعمالِ أدومها وإن قلَّ، فهذا هو الاعتدال، وهو المحافظة على الفرائض، واجتناب المحارم، فهذا هو الاعتدال والوسطية.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرشدَ الناس إلى العمل الذي يكون قليلًا ويُستدام عليه؛ لأنَّ من طبيعة النفس البشريَّة أن يكون لها إقبال وإدبار، فلمَّا تأخذ من العمل القليل وتستديم هذا العمل؛ فلا شكَّ أنَّه بهذا القليل يحصل الخير الكثير، وهذا هو منهج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه هي شرائع الإسلام، وهذا هو اعتدال الإسلام، فموافقة سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مطلوبة، ومنها ما أرشد إليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من سنَّة النِّكاح، فأن يترك الناس النكاح فليس هذا من شريعة الإسلام؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وأتزوج النساء»، والزواج وقيام والأسرة من العبادات بالنسبة للمسلم، ويحصل به الخير الكثير؛ ولأنَّ التَّأثير الذي يأتي من الغرب على بلاد المسلمين يُزهِّد في مثل هذه الشَّرائع، ومن سنَّة النكاح؛ وهي سنَّة المرسلين، فلابدَّ الإنسان أن يعرف هذا، وأن يكون موافقًا لهدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أراد لنفسه الصَّلاح وأراد لأمَّته كذلك، فما تركَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من خيرٍ إلا وبيَّنه لهذه الأمَّة، وما تركَ من شرٍّ إلا وَحَذَّرَ الأمَّة منه، فهذه هي وصيَّة الإسلام، وهدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومَن أرادَ لهذه الأمَّة السَّلامة والارتفاع والنُّهوض والتَّقدُّم فعليه بهدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا لا يكون تبعًا للهوى ولا للشِّهار؛ لأنَّ الأمرَ يُردُّ إلى كتاب الله، وإلى سنة نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأنَّ اللهَ -عزَّ وَجلَّ- أرشدَ والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرشدَ أنَّه مَن تمسَّكَ بكتاب الله وبسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد أفلح، وهذا التَّمسُّك لا يكون عن هوى ولا عن فهم ذاتي، وإنما هو طريقة المرسلين والعلماء، ومنهج أهل السُّنَّة والجماعة في التَّلقِّي لهذا العلم وهذا الهدي النَّبوي، لأنَّ مَن يُبيِّن لك هذا الهدي وأنَّه موافق للسُّنَّة أو مخالف لها هم العلماء، لأنَّهم هم هُداةُ النَّاس، فليسَ الأمر للأفراد أو عوام المسلمين، فثَمَّ مَن يقول إنه يفهم هدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكذا أو يفهم النصوص بكذا؛ فهذه فوضى لا يحصل بها الاهتداء.
فمَن أرادَ الاهتداء فعليه بأخذ العلم عن أهله فيما يتعلَّق بأصول الدِّين وفي فروعه؛ لأنَّ التَّشكيك لأهل الإسلام طالَ حتَّى أصول الدِّين وفروعه، فكل شيءٍ داخل في منظومة التَّشكيك التي يُراد بها التَّنفير عن هذا الدِّين القويم، فالله -عزَّ وَجلَّ- أرسل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رحمةً للعالمين، فنقلةُ هذا الدين هم العلماء، وهم الذين يُفسِّرون النُّصوص، وبحمد الله لم يُترك هذا العلم لكل أحد، فليس هو فهمًا لدنيًّا، أو فهمًا يصدر من العقول فقط؛ بل هو منقول ومحفوظ في كتب أهل العلم، ويُراجَع ويُعرَف، فهذا فيما يتعلق بمنهج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه الأحاديث العظيمة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وعن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - أن رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- قال: «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». رواه مسلم)}.
هذا الحديث تحته مسائل كثيرة جدًّا، ولكن نشرع في بدياته، ثم نكمل -إن شاء الله- في الحلقة القادمة.
فهذا الحديث فيه إخبار من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ الإسلام في أوَّلِ أمرهِ بدأ قليلًا، ثمَّ كثُر، ولا يزال يكثُر حتى كما ترى، فهذا ما يتعلَّق ببداية الإسلام، وأنَّه سيعود غريبًا كما بدأَ، وهذه الغرابة تشمل أصول الدين وفروعه، وهذه من دلائل نبوَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّه يُخبر بأشياء، وهذه الأشياء تقع كما أخبر بها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد أخبر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأشراط السَّاعة، وهي علامات السَّاعة، ومنها علامات صغرى وعلامات كبرى، كما ذكر هذه الأقسام أهل العلم.
أمَّا العلامات الصُّغرى؛ فأكثرها قد وقعَ. وأمَّا العلامات الكبرى؛: فهي لم تقع بعد، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عليها.
فما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- به الأشراط منها قد وقع، وهي كثيرة جدًّا، وقد صُنِّفَت فيها مصنَّفات تتعلَّق بأشراطِ السَّاعة وأحوال الفتن، كما جاء في الأحاديث السَّابقة.
ومن دلائل النُّبوَّة: أنَّه وقع ما أخبرَه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيما يتعلَّق بأحاديث الفتن وأشراط السَّاعة وما هو واقعٌ إلى آخر الزَّمان؛ قام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقامًا طويلًا كما جاء في بعض الأحاديث أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (صلَّى الفجر وارتقى المنبر، فقام من صلاة الفجر حتى غربت الشمس، لا يحول بين كلامه وإخباره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا أوقات الصَّلوات)، وهذا نقله جمعٌ من الصَّحابة في روايات متعدِّدَة. قال الراوي: (حتى أدخل أهل الجنة الجنة، وأدخل أهل النار النار، وسمَّاهم؛ بل سمَّى عرفاء الفتن، وأمراء الفتنة، فكان أعلمنا بهذا هو أحفظنا بما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
فهذا ممَّا يتعلق بإخبار النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا يدلُّك على ما ذكرناه من حديث: «تركتم على البيضاء»، ومن البيضاء: أنَّه أخبرَ بكلِّ شيءٍ واقع.
وفيما يتعلق بتبليغ الدِّين: فهذا حفظه الصَّحابة -رضوان الله عليهم- ونقلوه للأمَّة.
أمَّا ما يتعلَّق بإخبار النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأشراط السَّاعة أخبرَ به العموميَّات.
وأمَّا ما يتعلَّق بأمراء الفتنة والخلفاء وما سيقع: فبعض الصَّحابة رأى المصلحة في عدم الإخبار به، ولهذا نُقلَ عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه قال: "حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ" -وهو ما يتعلَّق بالدِّين والبلاغ- "وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ" ، ومنها تسمية بعض أُمراء الفتنة، وما وقع في خلفاء بني أميَّة.
وأمَّا ما يتعلق بأمر الدِّين فقد بَلَّغَه الصحابة، ومنه ما أخبر به حذيفة وما جاء في أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ»، وهذا من الأمارات التي وقعت في بني أميَّة، فكانوا مشهورين بتأخير أوقات الصَّلاة -كما بيَّنا- فما ترك شيئًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا وأخبر به.
ومن هذه الأشراط: إخبار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنَّ الإسلام كما بدأ سيعود غريبًا كما بدأ، وذكرنا أنَّ التَّنقُّص والنَّقص بدأ بوفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبوفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حصل التَّنقُّص في القلوب، فما هي بالقلوب التي كانوا يعرفونها، ووفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي أعظم مصاب لأهل الإسلام، لأنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما كان بينَ أظهرهم كان يُحلل لهم المعضلات، ويكشف لهم ما يتعلق بما يُشكِل عليهم؛ فبوفاته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انقطع الوحي، ولا شكَّ أنَّ انقطاع الوحي بالنِّسبة للصَّحابة مُصيبة عظيمة، ولا شكَّ أنَّ نزول الوحي من أعظم ما يحصل به ثبات الإيمان وقوَّته، فبدأ التَّنقُّص ولا زال..
ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ، ويقول بعض أهل العلم: إنَّها القرون المفضَّلة.
ولا يزال الناس يتنقَّصون ويقل الخير، ولمَّا شكر بعض الناس إلى أنس بن مالك -عزَّ وَجلَّ- ظلم الحجَّاج الذي كان من ولاة بني أميَّة الذين كانوا يؤخرون الصلاة؛ فقال أنس: "اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ. سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ، فما زال التَّنقُّص في الناس! وهذا من دلائل نبوَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمقصود هو عموم أهل الإسلام، ولكن قد يقع في بقعةٍ من البُقَع أنَّ الإسلام يقوَى ويظهر، وأما أصل الدين فهو محفوظ حتى يرث الله الأرض ومَن عليها؛ لأنَّ الغرباء لا يزالون لهم بقيَّة، وسيأتي تفصيل هذه المسائل -إن شاء الله- في الحلقة القادمة، وأحببنا أن نعطي بداية لهذا الحديث فيما يتعلق بمسائله.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- لي ولكم التوفيق، والعمل النَّافع، والعمل الصَّالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا مُحدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:46   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أُصول الإيمان (2)
الدَّرسُ الخامس (5)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{نقرأ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "أصول الإيمان" للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله.
قال: (وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى للغُرَبَاءِ». رواه مسلم)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين.
جرى الحديث في توطئة الحلقة السابقة عن معنى الغُربَة العام، ويحسُنُ بنا أن نُبيِّنَ المسائل التَّابعة لهذا الحديث، ونُبيِّن بعض موضوعات هذا الحديث.
فأول سؤال قد يرد إلى الذِّهن: ما المراد بالغُربة في بداية أمر الإسلام؟ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً».
والغربة المرادة هنا هي: قلَّة مَن يُؤمن بهذا الدين في أول بدايته، وكان هذا في الصدر الأول من الإسلام، حينما بُعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومَن معه في نفرٍ قليل من أصحابه غرباء في قومهم، وهذا هو بدء الإسلام، وهذا هو وصف أهل الإيمان وأهل الإسلام، كما أخبر الله بذلك -عزَّ وَجلَّ- في كُتبه السَّابقة في التَّوراة والإنجيل، وذكر الله -عزَّ وَجلَّ- ذلك في قوله تعالى: ï´؟مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ غڑ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ غ– تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا غ– سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ غڑ ذَظ°لِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ غڑ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىظ° عَلَىظ° سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ غ— وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًاï´¾ [الفتح:29].
فوصفَ الله أهل الإيمان في الإنجيل بأنهم لا يزالون يكثرون بعدَ قلَّةٍ كما يكثر الزَّرع عند أوَّلِ ظهوره، فهذا الزَّرع يبدأ شيئًا قليلًا، ثم يستغلظ، ثم يكون كاملًا ويستوي على سُوقه، فأهل الإسلام في أوَّلِ أمرهم كانوا قلَّة، ثم لا يزالون يتكاثرون حتى حصل الظهور للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنواتٍ مَعدودة.
ويشهد لهذا سؤالات هرقل عظيم الروم لأبي سفيان بعد صُلح الحديبية، حينما ذهبَ أبو سفيان إلى الشام، وكان هرقل نصرانيًّا وعنده أثارة من علم من الكتاب، فسأل أبا سفيان عن أهل الإسلام: أيزيدون أم ينقصون؟
فدلَّ على أنَّ الإنجيل قد بيَّن أنَّهم لا يزالون يزيدون، كما ذكر الله -عزَّ وَجلَّ- في خبرهم في سورة محمد.
قال أبو سفيان: بل يزيدون.
وهذا هو الشاهد، وهذا هو وجه وصف الإسلام بالغُربة في بدايته.
المسألة التالية: المراد بالغُربة في الحديث.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً»، هذه الغُربة التي لحقت الإسلام في أوله، وستلحق الإسلام فيما بعد.
قيل: الغربة التي تلحق أهل الإسلام في آخر الزمان، كما أنها لحقت أهل الإسلام في أول الإسلام.
وقيل: الغربة هي الغربة التي سببها التَّنقُّص الذي يلحق أهل الإسلام، ويكون الذي جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الدِّين لا يزال الناس في نقصٍ حتى يكون غريبًا، لتنقُّص أمر الدين عندهم.
ويشهد لهذا ما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا: الحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ: الصَّلَاةُ»، رواه ابن حبان، وأهل السنن بسندٍ حسن.
ويشهد لهذا قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْهُ الصَّلَاةُ» .
فهذا وجه الغربة التي قد تلحق أهل الإسلام، مِن جهة أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً».
المسألة الثالثة: مَن هُم الغُرباء؟ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أثنى عليهم فقال: «فَطُوبَى للغُرَبَاءِ».
جاء في روايات مُتعددة بيان ماهية هؤلاء الغرباء، فجاء: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» ، يعني: في كل قبيلةٍ عدد.
وفي بعض الروايات: «الذين يُصْلِحونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ» ، وفي رواية: «اَلَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ اَلنَّاسُ» .
وفي رواية: «قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» .
وجاء في بعض الروايات: «الْفَرَّارونَ بِدِينِهِم مِنَ اَلْفتَنْ» .
إذن؛ يجمع وصف الغُرَبَاء أنهم هم أهل الحق الذين أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يزالون في الأمَّة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورة، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُم وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَة» كما هو مصرحٌ به في الأحاديث، فهم أهل السنة والجماعة.
{أحسن الله إليكم...
تقع أزمان في الأمَّة، ونجد من يقول: إنَّ هذا هو زمن الغربة، فهل تكون غُربة جزئية أو غُربة عامَّة؟}.
الغُربة هي أن يكون الإنسان مُتمسِّك بالحق والأكثر على خلافه في الاعتقاد وفي العمل، وفي أمورٍ كثيرةٍ جدًّا، والغُربة تضعُف وتقوَى بحسب المكان والزَّمان، وقد تكون الغربة في مكانٍ، ولا تكون في مكانٍ آخر، فقد يتحقق هذا الوصف في مكانٍ وزمانٍ مُعيَّنٍ دونَ مكانٍ وزمانٍ آخر، فالمطوب هو معنى الغُربة، وهو أنَّ يكون الإنسان مقيمًا على الحق.
إذن؛ الغربة عامَّة وخاصة وجزئيَّة، وتختلف باختلاف الزمان والمكان.
قال سفيان الثوري عن هؤلاء الغرباء: "اسْتَوْصُوا بِأَهْلِ السُّنَّةِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ غُرَبَاءُ".
وهؤلاء الغرباء هم الفِرقَة النَّاجية، والطائفة المنصورة في كل زمان ومكان، وكما تقدم في الحديث من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُم وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ»؛ لأنهم مُقيمون على الحق، مَنصورون به في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وهؤلاء هُم أهلُ الجهاد بالحق والحُجَّة والبرهان، ويدعون الناس إليه.
وصفهم الإمام أحمد في رسالته الماتعة "الرد على الزنادقة والجهميَّة"، فقال في مُقدمته: "يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ" ، كلمة بليغة تبيِّن أوصاف هؤلاء الغُرباء الذين يُقيمون على الحق، ويُدافعون عنه، ويعتصمون بكتاب الله، وبسنَّةِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفق منهج السَّلف الصالح، فهو منهج مأثور على سلسلةٍ وعلى طريقةٍ علميَّةٍ معروفةٍ، أسانيدهم ثابتةٌ، وتلقيهم للعلم معروف، وهم أهل الحق، وهؤلاء هم الغرباء.
المسألة الرابعة: فضل هذه الغربة.
في الحديث الذي قرأنا: «فَطُوبَى للغُرَبَاءِ».
«فَطُوبَى»: مِن الطِّيب.
وفي بعض الروايات: «لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» ، هذا الخطاب للصَّحابة، ولاشك أنَّه كلما تزداد غربة الدين على أهل الإيمان؛ يكون الثَّواب مُضاعَفًا، وهذا عظيم فضلِ من يستمسك بالدِّين عند تخلِّي الناس عنه في زمانٍ أو مكان.
هل الغربة تلازمها الوحشَة، أم أنَّ الغربة هي الطُّمأنينية؟
لأنَّ الغريب دائمًا يكون مستوحشًا، فيقول ابن القيم -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في مدارج السَّالكين: "فَهَذِهِ الْغُرْبَةُ لَا وَحْشَةَ عَلَى صَاحِبِهَا، بَلْ وَآنَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اسْتَوْحَشَ النَّاسُ، وَأَشَدُّ مَا تَكُونُ وَحْشَتُهُ إِذَا اسْتَأْنَسُوا، فَوَلِيُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَإِنْ عَادَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَفَوْهُ" .
وأبلغ من هذا الكلام؛ قوله تعالى: ï´؟الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَظ°ئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَï´¾ [الأنعام: 82]، فهم أهل التوحيد وأهل الحق، المقيمون على ما أقام عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه -رضوان الله عليهم.
ابن رجب -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو من أهل العلم والفضل، وله عناية بشرح الأحاديث؛ وله رسالة ماتعة أنصح المشاهدين والمشاهدات أن يقرؤوها، وهي رسالة: "كشف الكربَة في وصف حال أهل الغربة"، شرح فيها هذا الحديث، وهو ممَّن يُفصِّل ويُطيل في الكلام، وحاجة الناس لفهم هذا، حتى لا يستوحش الإنسان في طريقه إلى الله -عزَّ وَجلَّ- من قِلَّةِ السَّالكينَ؛ لأن الاستيحاش لا ينبغي أن يكون لأهل الحق، فهو آنسُ ما يكون؛ لأنَّه يعرف أنَّ ما هو عليه إنَّما هو منهج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابة، وأنَّ الناس لا يزالون في تنقص كما جاء في صحيح البخاري من حديث أنسٍ حينما شكوا إلى انس ظلم الحجَّاج، فقال أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "اصْبِروا فإِنه لا يأْتي زمانٌ إلاَّ والَّذي بعْده شَرٌ مِنهُ حتَّى تلقَوا ربَّكُمْ" سمعتُه منْ نبيِّكُمْ" .
وجاء في الحديث: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ، فالخيريَّة كلَّما بعُدَت عن عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلما حصل التَّنقُّص، ولا يزال الناس في نقصٍ، وهذا في العموم الأغلب، ولكن قد يكون في زمانٍ أو مكان تغيَّر هذه النِّسبيَّة.
والمقصود: هو حثُّ أهل الإيمان والإسلام على الاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعدم المبالاة بمَن ينتقد مثل هذه الأمور أو يُعرِضَ عنها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِن أَحَدكُمْ حَتَّى يَكُون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ». رواه البغوي في "شرح السنةِ" وصححه النووي)}.
هذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، وصححه النووي -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قال الشيخ ابن باز-رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في تعليقه على هذا الحديث: "في إسناده ضعف، ولكن معناه صحيح".
قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِن»، يُفيد أنَّ الإيمان المنفي هو كمال الإيمان، كما تقدم في غير هذا من الأحاديث.
وأشار النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث إلى الهوى، فما هيَّة هذا الهوى؟
الهوى: هو الميل إلى خلاف الحق، وقد جاء ذَمُّه في النُّصوص، قال الله -عزَّ وَجلَّ- في وصيته لداود: ï´؟وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىظ° فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ غڑ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِï´¾ [ص:26]. وقال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىï´¾ [النازعات:40].
فالهوى يهوي بالإنسان إلى الميل عن الحقِّ.
فلابد أن يكون هوى الإنسان تبعًا لمَا جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
متى يكون اتِّباع الهوى مذمومًا؟
الإنسان لا يخلو من هذا الهوى، والمطلوب أن يكون الهوى وفق ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويكون الهوى مَذمومًا حينما يكون المكلف مُتَّبعًا له مُنقادًا له، وهذا هو الضَّابط.
فالمطلوب من الإنسان أن يكون مُراده ملازمًا لما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعل كلام ابن تيمية يُفسر هذا، فيقول -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: "فَإِنَّ أَصْلَ الْهَوَى مَحَبَّةُ النَّفْسِ وَيَتْبَعُ ذَلِكَ بُغْضُهَا وَنَفْسُ الْهَوَى -وَهُوَ الْحَبُّ وَالْبُغْضُ الَّذِي فِي النَّفْسِ- لَا يُلَامُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يُمْلَكُ وَإِنَّمَا يُلَامُ عَلَى اتِّبَاعِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهï´¾ [ص:26]" .
فالمطلوب هو أن يكون هوى الإنسان تبعًا لما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وموافقة ما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سواء كان مرادٌ لذات النفس وهواها، أو خلاف ذلك.
الشيخ المعلمي -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- له لطيفة في هذا الموضوع، فيقول: "فلم يُكلَّف العالِم والإنسان بأن لا يكون له هوى، فإنَّ هذا خارج الوسع، وإنما الواجب على العالم وطالب العلم والإنسان أن يُفتِّشَ في نفسه عن هواها، ثم يتحرَّز منه".
لماذا؟ لأنَّ الهوى يميل بك إلى اتِّبَاع خلاف الحق، والهوى المذموم هو الميل عن الحق، وهذا الأعم الأغلب.
ومغالبة الهوى من الجهاد الذي يُثاب عليه المؤمن، قال الله تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا غڑ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَï´¾ [العنكبوت: 69].
فإذن؛ المطلوب من العبد أن يُغالب هواه ويُفتّش عنه؛ لأنَّ الهوى قد يأمرك بقطيعة الأرحام، وقد يأمرك بالحَيْف والظَّلم على مَن أساء إليك، وإذا أطعته فقد أطعتَ هواك، والله -عزَّ وَجلَّ- نهى وحرَّم الظُّلم.
فالإنسان يُفتِّش عن هذا الهوى ويتحرَّز منه، ويجعل ما تهواه نفسه تبعًا لما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فليس الميزان أن تهوى نفسك هذا الشيء؛ وإنما الميزن هو مُوافقة ما جاء به عن محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالنصوص قاضية على هواك، والنصوص والتكاليف في أعمِّها الأغلب جاءت بمخالفة الهوى.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعنه أيضا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».رواه الترمذي)}.
جاء ذكر بني إسرائيل في مواضع، فهم ذريَّة نبي الله يعقوب -عليه الصلاة والسلام.
وجاء الخبر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوقوع تقليد الأمم السابقة في أكثر من حديث، وهو من باب الإخبار به على وجه التحذير، لا من باب التَّشريع أو الحث.
وجاء في رواية أخرى للحديث: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ» -وفي رواية سُنن- «مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ»، وفي بعض الروايات: «حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ»، وفي بعض الروايات: «حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّة».
فالمقصود: المشابهة من كل وجه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شبرًا بشبر، وذراعًا وبذراع»، يعني: المشابهة من كلِّ وجهٍ.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، وفي بعض الروايات «لَدَخَلْتُمُوهُ». قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فمَنْ؟!».
ووجه قوله: «في جُحْرَ ضَبٍّ»؛ لأنَّ مَن أدخلَ يده في جحر الضَّبِّ فلا يأمن من الهوام التي تُلازم هذا الجحر.
فإذن جاء الخبر على وجه التَّحذير، وحينما قال: «لا تَقومُ السّاعَةُ حَتّى تَأْخُذَ أُمَّتي بِأَخْذِ القُرونِ قَبْلَها، شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِراعاً بِذِراعٍ»، وهي مِن سنَّة الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- التي تقع على الأمة.
وعلى أفراد الأمَّةِ وآحادها أن تجتنب هذا المسلك؛ لأنَّ مخالفة اليهود والنصارى من مقاصد الشريعة، ومما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كثير من أمور الشريعة، ومع ذلك فإن المشابهة تقع في هذه الأمة، والواقع والتاريخ يشهدان بذلك.
ولهذا فإنَّ المخالفة في شريعة الإسلام تكون في الأمور الظاهرة، فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا على سبيل المثال: «إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ» ، وجاء في مسألة اللحية وقص الشَّارب، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة في التشريع.
فمخالفة اليهود والنصارى وترك مُشابهتهم سببٌ لصلاحِ القلوب واستقامتها، ومخالفتهم في جميع الشؤون مَقصودةٌ للشَّارع، وهذه المخالفة عامَّة في عاداتهم وأخلاقهم وسلوكهم وآدابهم، وإنك لتستغرب ممَّن يدعو إلى مشابهة أهل الكتاب والأمم السابقة في أمور كثيرة، وقد جاءت النصوص بمخالفتهم، وبالنهي عن مُتابعتهم، والنَّهي عن أن يُتَّخَذون بطانةً من دونِ المؤمنين، قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُï´¾ [آل عمران: 118]، إلى غير ذلك من الآيات مطلوبٌ شرعيٌّ، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ» إذن ستكون هذه المشابهة حتى فيما وقعت فيه الأمم السَّابقة وهم بنو إسرائيل في أمور تَنْفر منها الفِطَر السَّليمَة؛ لأنَّ مَن أتى أُمَّه علانيَّة لا شكَّ أنَّ الفِطَر السَّليمة تنفر من هذا؛ ومع ذلك سيقع في هذه الأمَّة مِثلما وقع في بني إسرائيل، ولا شكَّ أنَّ هذا واجبٌ على أهل الإيمان أن يحذروا من مُشابهة هؤلاء، ومن متابعتهم.
ولمَّا سأل الصَّحابة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اليهود والنَّصارى؟) قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ؟».
إذن تأثُّر المسلمين باليهود والنَّصارى هو ممَّا جاء النَّهي عنه، وهو ما جاء الإخبار به عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فواجب الأمَّة أن تحذر مسلك اليهود ومسلك النصارى، ويكفيك في بيان تحذير الله -عزَّ وَجلَّ- أن المسلم في كل ركعةٍ من ركعات صلاته يتعوَّذ بالله من طريق اليهود ومن طريق النصارى، وذلك في قوله تعالى: ï´؟غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَï´¾ [الفاتحة: 7]، فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضَّالُّون هم النَّصارى، فلا يُمكن أن يكون هناك اتِّفاق بينَ دين اليهود والنَّصارى وبين دين الإسلام الذينَ ختم الله -عزَّ وَجلَّ- بدينهم الأديان، قال تعالى: ï´؟وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَï´¾ [آل عمران:85]، وقال: ï´؟إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُï´¾ [آل عمران: 19].
{أحسن الله إليكم يا شيخنا...
ما الضابط الذي يقع به مُشابهة اليهود والنَّصارى -أو الكفار عمومًا؟}.
ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" بحث موضوع التَّشبُّه بحثًا عظيمًا جليًّا، وذكر في أفراد المسائل ضوابط كثيرة جدًّا، وأهل العلم نصُّوا على أنَّ التَّشبُّه يقع فيما هو من طريقة أهل الكتاب ويكون خاصًّا بهم، سواء كان في مَلبسهم أو هيئتهم، أو في أديانهم؛ فكل ما هو خاص بهم فلا يجوز للمسلم أن يتشبهم بهم فيه.
والنُّصوص تُحذر من المشابهة حتى في مسألة الزيِّ الظَّاهر، أو صبغ اللحى، أو الشَّعر، ففي أشياء كثيرة جاء نصوص في التحذير منه، وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» ، وهذا يخص أهل الكتاب -اليهود والنَّصارى.
ومن أعظم ما يقع به التَّشبُّه: كما يقع الآن في أفعال بعض المسلمين -هداهم الله إلى الحق- من الاحتفال بأعيادهم؛ فلاشكَّ أنَّ هذا من صور التَّشبه.
والآن تشاهد المجتمعات الإسلاميَّة في خضمِّ هذه الانفتاحات التقنيَّة؛ حتى صارَ أهل اسلام يحتفلون بأعياد اليهود والنَّصارى؛ فلا شكَّ أنَّ هذا من صور التشبه، ومن الوقوع فيما حذر منه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولمسلم عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعا: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أوزارهم شَيْئًا»)}.
هذا الحديث رواه الإمام مسلم، وتحته مسائل:
المسألة الأولى: مناسبة الحديث للباب.
المناسبة واضحة للقارئ وللمشاهدين وللمشاهدات إذا تمعَّنوا، في بيان فضل الدعوة إلى السُّنَّة، وأنَّ أجر من هُدي يعودُ لمن تسبَّبَ في هذه الهداية، ï´؟ذَظ°لِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ غڑ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِï´¾ [الحديد:21].
ودلَّ على هذا قول الله -عزَّ وَجلَّ- في سورة يس: ï´؟إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍï´¾ [يس: 12]، فلا يضيع من عمل الإنسان شيءٌ، وقد يعمل الإنسان أعمالًا فيكون لها أثر، ثم يموت ولا يعرف الأثر، ولكن الأثر لا ينقطع، وذلك فضل الله.
فالمطلوب من أهل الإيمان أن يكونوا دعاة إلى الحق وإلى الخير، وألا يحقروا من المعروف شيئًا، وألا يحقروا كلمة خيرٍ في الدَّعوةِ إلى هذا الدين القويم الذي جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الذي يدعو إلى كل فضيلةٍ وإلى كل خيرٍ.
المسألة الثانية: أفاد الحديث أنَّ الدَّاعي إلى الهُدى يكون له أجر مَن تبعه ممَّن هداهم الله -عزَّ وَجلَّ- بسببه، وهذا ترغيب لأهل الإيمان، وهو أن يكون الإنسان داعيًا إلى الخير، ولا يحقر شيئًا من الخير في دعوة الناس إليه، ولا يحقر تبليغ شيءٍ من الحق الذي بلغه إذا علم أنَّه حق، فإنَّ بعض الناس يستخدم وسائل التواصل في نشر ما لم يتحقق في كونه خير، فلابد أن يتحقق بعلم أن هذا خير، وأنه حق وموافق لما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيسعَى في نشره وبيانه بينَ الناس، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وترغيبًا لأهل الإيمان في الدعوة إلى الحق: «واللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم» ، وحمر النَّعم هي أَنْفَسُ الأموالِ عِندَ العَرَبِ.
المسألة الثالثة: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» .
إذن؛ ثَمَّ مغنم وثَمَّ مغرم، فهناك ترغيب، وهنا ترهيبٌ شديدٌ أن يدعو المرء إلى ضلالةٍ، أو أن يسُنَّ سنن الجاهلية في الإسلام ويدعو إليها، وقد لا يشعر الإنسان باقواله ولا بأفعاله؛ فيكون عليه الوزر، وربما يتكلَّم بكلمةٍ تُوبقه -نسأل الله السلامة والعافية- قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» ، فينبغي للإنسان أن يكون على حذر، فكما أنَّه يحرص على أن يكون داعيًا للخير؛ يحرص كذلك ويكون على حذرٍ من أن يكون داعيًا إلى الشَّرِّ وهو لا يشعر، يفتح على الناس باب شرٍّ، ولهذا جاء في الحديث: «وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» .
وفي قصة قابيل وهابيل عبرة، قال تعالى: ï´؟وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَï´¾ [المائدة:27] الآيات، فقتله فكان عليه كفل كل مَن قُتِلَ؛ لأنَّه أوَّ من سنَّ القتل في بني آدم، فانظر إلى عظيم الوزر! نسأل الله السلامة والعافية.
إذن؛ يُشير الحديث إلى أنَّ الإنسان وأنَّ الداعي إذا أراد أن يدعو؛ لابدَّ أن ينظر ويتأمَّل فيما يدعو إليه، هل هو حقٌّ وهديٌّ أم ضلالة، هل هو حق وهدى وموافق لما جاء عن الله وجاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم أنه ضلالة؛ لأنَّ الداعي قد يدعو إلى ضلالة وهو لا يشعر -كما قدمنا.
وفي هذا حاجة الناس المجتمع والأفراد إلى تعلم العلم النافع، القائم على البيان، وعلى سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي يكون به التَّمييز بينَ الهُدى والضلالة، لأنَّ الله أخبرَ أنَّ أهل الباطل يرونَ ما عندهم من البطل أنَّه حقٌّ، ويرونَ أنفسَم على الحق؛ لأنَّ التَّزيين وقع من الله عقوبةً لهم، قال تعالى: ï´؟فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْï´¾ [الصف:5]، وقال تعالى: ï´؟أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًاï´¾ [فاطر: 8]، فقد يُزَيَّن للإنسان الباطل فيراه حسنًا.
ولهذا فإنَّ الخوارج يرون أعظم المنكر هو أعظم المعروف، فانقلب الميزان والمفهوم لديهم -نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا التَّزيين إمَّا أن يكون في اتِّباع الشُّبهات واتِّباع الهوى، أو في اتِّباع المعاصي والشَّهوات، ولهذا جاء في وصف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهذه الحالة من كون الإنسان يألَف الباطل، وتتغير عنده المقايس، ويصير القبيح في عينه مليح، ويصير الشَّينُ زينٌ في عينه؛ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا...» ، إلى أن قال عن القلب الشديد السواد: «كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»، الميزان عنده مقلوب!
فيجب على الإنسان أن يكونَ قوَّامًا على نفسه في النَّظر والتَّمحيص، والبيان والمراجعة، حتى يرى هل هو سائر على الصراط المستقيم أم على خلاف ذلك؟
المسألة الرابعة: وجوب الحذر من فتح الباطل على الناس، أو افتتاح سنن الجاهلية وأبواب الشر؛ لأنَّ هذا لا يكون وزره فقط وزرٌ مقصورٌ عليه؛ بل إثمه متعدٍّ، فكما أنَّ الأجر لا ينقطع فكذلك الإثم لا ينقطع.
ويشهد لهذا قوله تعالى: ï´؟لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَï´¾ [النحل: 25].
بلغَ عبد الله بن مسعود الخبر عن أُناسٍ يجلسون حلقًا في المسجد، ويعدُّون التَّسبيح والتَّهليل والتَّحميد بحصًى عندهم، فجاءهم عبد الله بن مسعود ونهاهم، وأمرهم بلزوم السُّنة، وقال في تحذيره لهم: "أوَ مفتتحوا باب ضلالة؟!"، وذلك مصداق قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ».
فحريٌّ بطالب العلم وبالنَّاس جميعًا فيما يتكلمون في أمرِ الدين ألا يتكلموا في مسألة إلا ولهم فيها إمام، وأن يتركوا تفريعات المسائل في الدين للعلماء، حتى يكونوا على منهج أهل السُّنة والجماعة في تلقي العلم وفي تعليمه، فإنَّ السُّنن إذا كانت على ضلالٍ فإنَّ الإنسان يكون عليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، وهذا بحرٌ لا ساحلَ له، ولا عصمة إلا لمن عصمه الله -عزَّ وَجلَّ- ولهذا نقول دائمًا: ربنا اهدنا الصراط المستقيم، وثبتنا على السُّنة حتى نلقاك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وله عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أُبْدِعَ بِي فَاحْمِلْنِي، فَقَالَ: «مَا عِنْدِي»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»)}.
هذا الحديث مثلما سبقه من الأحاديث في الدلالة على أنَّ الإنسان إذا دلَّ عل خيرٍ فإنَّ له مثل أجر مَن فعلَ ذلك الخير، وإذا رغَّبَ في خير فإنَّ له أجر مَن فعل ذلك، وهذه بشارةٌ لأهل الإيمان في أن يكون الإنسان داعيًا للخيرِ، وداعيًا إلى كل فضيلة، وفي كل أمرٍ يأمر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الداعين إلى إقامة الصلاة، المؤذنون، الأئمَّة، المرغِّبون في الخير، المذكرون للنِّاسِ بذكر الله -عزَّ وَجلَّ- والساعين في الإصلاح بينَ النَّاس؛ كل هذا ثوابه لا ينقطع عن الإنسان، والإنسان قد لا يُباشر العمل ولكن يُكتَب له.
وفيما نُقل عن السلف من المعنى ومن الأقوال: "نِيَّةُ المؤمِنِ أَبْلَغُ مِن عَمَلِهِ" .
فالإنسان قد يعمل أعمالًا وهو لا يشعر وتُكتَب له بسبب هذه النِّيَّة الصَّالحة، فالمطلوب هو التَّرغيب في الخير، والتَّنفير عن الشَّرِّ، والدَّعوة إلى الله -عزَّ وَجلَّ- وما زال أهل الإيمان والمجتمَع المسلم بحاجةٍ إلى هؤلاء الدَّاعين إلى الخير والمرغِّبين في الخير بالحكمة، وبالتي هي أحسن، وبالأسلوب اللطيف وبالرفق، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه ، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلَّا شانَه» ، فوظيفة المؤمن هي الدلالة على الخير، فيدل الناس على الخير، ويرغبهم فيه.
ومن وظيفة المؤمن ومن عمله الذي ينبغي ألا ينفك عنه: الدعوة إلى سبيل الله -عزَّ وَجلَّ- وإلى الخير.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن عمرو بن عوفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعا: «مَن أحيا سنَّةً من سنَّتي، -قد أُميتَت بَعدي- فعملَ بِها النَّاسُ، كانَ لَهُ مثلُ أجرِ من عَمِلَ بِها، لا يَنقصُ مِن أجورِهِم شيئًا، «وَمَنْ ابتَدَعَ بِدْعَةً لَا يَرضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُه، فَعَمِلَ بِها، كانَ عليهِ أوزارُ مَن عملَ بِها، لا ينقُصُ مِن أوزارِ من عملَ بِها من الناس شيئًا». رواه الترمِذِي وحسنه وابن ماجه، وهذا لفظه)}.
هذا الحديث في معنى الأحاديث السَّابقة، وفيه معنًى زائد في مسألة إحياء سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّه قال: «مَن أحيا سنَّةً من سنَّتي قد أُميتَت بَعدي»، ولهذا كان السلف -رحمهم الله- يقولون: "إحياء السنة إماتة للبدعة، وإحياء البدع موتٌ للسنن".
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنَّته القوليَّة والفعليَّة أشياء كثيرة جدًّا ثابتة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا تعد ولا تحصى، فقد ورد عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في طعامه وفي شرابه، وفي تعامله مع أهل بيته، وفي تعامله مع النَّاس، وفي عبادات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَمَّ أذكار وأوراد؛ فهذا الدِّين الذي جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحصل له في بعض الأزمان أو في بعض الأماكن أن يكون عليه شيء من الاندراس والخفاء، وقد يموت، ومعنى الموت هنا: أنه لا يجد من يُحيي السُّنَّة.
فالمطلوب من أهل الإسلام: إحياء هذه السُّنن، ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن أحيا سنَّةً من سنَّتي قد أُميتَت بَعدي»، وسنن كثيرة جدًّا من سنن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حصلَ لها الاندراس، وفي الحديث ترغيب لأهل الإيمان أن يُحيوا سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن لا يكون إحياء السنة إلا بعد العلم بها، فإذا علم أنَّها سنَّة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورأى في مكانٍ أو زمان قد جُهِلَت هذه السُّنَّ فليُعلمها النَّاس، وليَدْعُ الناس إليها، ولْيُطبِّقها ويُظهرها حتى يألف الناس هذه السنَّة؛ فيكون له مثل أجر من عمل بها من الناس.
وهذا فضل عظيم جدًّا، أن يحيي الإنسان سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُسمع الناس ويُخبر النَّاس بها، لأن كل مَن عمل بهذه السُّنَة بعد الإماتة كان له الأجر.
إذن باب الخير وأجر المؤمن عليه لا ينقطع إلى يومِ القيامة، فكم من أهل العلم وأهل الفضل أعمالهم لم تنقطع بسبب إحياء سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين الناس!
فالواجب على أهل الإسلام وأهل الإيمان أن يُراعوا هذه المقاصد الشَّرعيَّة، وأن يحرصوا على تعلُّم سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّ مَن أحبَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعلَّمَ سنَّته القوليَّة وافعليَّة، وأذكار النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي كان يذكرها، قيامه لليل، أوراده التي كان يذكرها كاستفتاحات الصَّلاة، فكم من استفتاحات النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للصَّلاة جهلها النَّاس، فإذا أحياها المؤمن وعلَّمها للنَّاس كان له أجرهم، وكأذكار الرُّكوع والسُّجود، وسنن كثيرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُلِّفَت فيها المؤلفات، ودُوِّنَت فيها الدَّواوين، فالواجب أن يسعى الإنسان في إحياء سنَّةَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم جاء في الحديث: «وَمَنْ ابتَدَعَ بِدْعَةً لَا يَرضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُه».
البدعة: إحداث في الدين.
وملازمٌ للبدعة أنَّها ضلالة؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» ، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ ابتَدَعَ بِدْعَةً لَا يَرضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُه»؛ فهذا وصفٌ ملازمٌ لها ولا ينفك عنها. وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ إِثْمِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنَ النَّاسِ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِ النَّاسِ شَيْئًا» ، فهذا التحذير لأهل الإيمان، ألا يبتدعوا بدعةً في دين الله -عزَّ وَجلَّ- وألا يقولوا على الله بغير علم، قال تعالى: ï´؟وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًاï´¾ [الإسراء:36].
إذن؛ ثَمَّ مغنمٌ وثَمَّ مغرَمٌ، فانتبه يا عبد الله، وانتبهي يا أمة الله؛ أن يدعو الرجل إلى بدعةٍ وهو لا يشعر!
والواجب هو التَّحقق من وصف العمل هل هو موافق للسنَّة، وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإسناد صحيح أو لا؛ والآن بحمد الله العلم مُيسَّر.
والحذر من نشر الأحاديث الموضوعة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ينتشر الآن بين الناس في وسائل التواصل "أستحلفك بالله نشر هذه الرسالة..."، فكل هذه من البدع التي لا يجوز لأهل الإيمان أن يفعلوها، ولا أن يستخدموا هذا الأسلوب، فالإنسان يكون وقَّافًا على كتاب الله، وعلى سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{هل لو جاءت الرسالة "أستحلفك بالله نشر هذه الرسالة..."، وعلم الإنسان أنها حديث ضعيف، فهل يجوز نشرها}.
لا يجوز له أن ينشر حديثًا وهو لا يعرف صحَّته، فأحيانًا الحديث الضَّعيف قد يقوى، ولكن قد يكون الحديث موضوعًا، مثل: حديث "مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي"، فهذا حديث موضوع، فتجد مَن ينشره ويقول: "الحاج الذي لم يذهب إلى قبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه كذا وكذا...، ويستدل بهذا الحديث، فهذا داعٍ إلى بدعة، فمن عمل بها فعليه وزره إلى يوم القيامة.
فالواجب على أهل الإيمان أن يقفوا على وفق ما جاءت به النُّصوص حتى يحصل لهم السَّلامة، فإنَّ السَّلامة لا يعدلها شيء، فكما أنَّ ثَمَّ مغنم فثَمَّ مغرم، فالإنسان يتبيَّن في أموره كلها، وبخاصَّة في أمر الدَّين، لأنَّه لا تكفي النِّيَّة الطَّيبة؛ لأنَّ شَرطَا قبول العمل: الإخلاص والمتابعة، أي متابعة ما جاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والله أعلم، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:46   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أُصول الإيمان (2)
الدَّرسُ السادس (6)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن، نسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والعلم النَّافع والعمل الصَّالح.
{نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "أصول الإيمان" للإمام الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- عند قوله: (وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّه قَالَ: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ، يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ الْكَبِيرُ، وَتُتَخَّذُ سُنَّةٌ مُبْتَدَعَةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا النَّاسُ، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ، قِيلَ: قَدْ غُيِّرَتِ السُّنَّةُ"، قِيلَ: مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: "إِذَا كَثُرَ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ". رواه الدارِمي)}.
هذا الأثر عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- موقوفًا عليه، وهو صحيح الإسناد عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وهذا الأثر لا يُقال من جهة الرأي؛ لأنَّ فيه إخبارٌ بأمارات السَّاعةِ، فهو في مجمله له حكم الرفع من وجه، وهو يحكي واقع النقص الذي يجري على الأمَّة المحمَّديَّة، وأنَّ الفتن تقع على هذه الأمَّة أفرادًا وجماعاتٍ، وقد وقعَ ما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشاهد الصَّحابة -رضوان الله عليهم- دلائل ذلك، وهذه من دلائل نبوَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن علامات النُّبوَّة أنَّه يُخبر بالمغيَّبات التي يراها الناس وتقع.
وسبق حديث البخاري في الكلام عليه عرضًا حينما شكى الناس ظلم الحجَّاج في زمن أنس بن مالك –رضي الله عنه- فقال لهم: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ»؛ سمعته من نبيِّكم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فهذا الأثر يدل على واقع النَّقص في الأمَّة، وأنَّ الأمَّة في مجموعها لا يزال النَّقص يتتابع فيها.
وهذا الأثر كذلك يصف الحالة التي سيكون الناس عليها حينما تتغيَّر الأحوال، فقال: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ، يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ الْكَبِيرُ"، والمقصود: أنَّ زمنَ الفتنة يطول على الأمَّة، وهذه الفتنة متنوِّعة تصيب النَّاس في تصوراتهم وفي عقائدهم، وفي سلوكهم؛ فلطول زمنِ الفتنةِ وحصول الإلف من النَّاس لها وعدم إنكارها يكون المُنكر هو إنكار هذا الزلل وهذا الغلط ومخالفة السُّنَّة، مثل البدع التي يألفها الناس، ويتَّخذونها سنَّة؛ وهي على غير هَدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا هو حال أهل الغربة في كل زمانٍ ومكانٍ؛ أنَّهم يكونون غرباء لتمسُّكهم بالسُّنَّة.
ولهذا لما سُئل عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن زمانها ومكانها؛ متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟
لم يذكر الزَّمان، وإنَّما ذكرَ أوصاف حال النَّاس في هذه الفتنة؛ لأنَّ وقوع هذه الفتن وهذه التَّغيُّرات، واختلاط الأمور على الناس، واستبدال السنَّة بالبدعة مرتبطٌ بحال أهل الإسلام والإيمان، ولهذا قال: "إِذَا كَثُرَ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ".
ففي هذا الأثر: كثرة القراءة وشيوعها، وكثرة القُراء ليست على وجه المديح، وإنَّما لكون كثرة القراءة هذه لا بدَّ أن يصحبها الفقه والعلم، ولكن مجرَّد القراءة لا تعني شيئا، ولهذا قال: "وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ"، أي: الفقهاء بدين الله -عزَّ وجلَّ- وبالحلال والحرام وبالواجب والمحرم، وبما هو أولى، وبخير الخيرين وشر الشَّرين، فهؤلاء هُم الفُقهاء.
وكذلك تضعف الأمانة في واقع النَّاس، وتُطلَب الدُّنيا بأعمال الآخرة، فيُتعلَّم علم الشَّريعة لا لأجل تعليم النَّاس ونفع النَّاس، ولا لأجل الثَّواب والأجر؛ وإنَّما لأجل حُبِّ الرِّياسات وحبِّ التَّصدُّر، وحب الظُّهور وحب العلو على النَّاس؛ وكلُّها معانٍ مذمومة في طلب العلم ونفع النَّاس، وقد وقع في أزمنةٍ مختلفة، وفي زماننا هذا جملة من هذه الصِّفات، هذا الزَّمان الذي يشهد انتشار التَّعلُّم والقراءة، فكثُرَ القراء، وقَلَّ الفقهاء، أي: أهل البصيرة وأهل العلم الشَّرعي والفهم للشَّريعة، وقلَّتهم إشعارٌ بقربِ خراب هذا العالم وقيام السَّاعة؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الآخر الذي رواه البُخاري أشار إلى أنَّ قلَّة العلماء والفقهاء من علامات فساد النَّاس وقيام السَّاعة؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ»، أي: العلم بالشَّريعة والفقه في الشريعة، قال: «انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَيُسْأَلُوا، فأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»، وهذا واقع، وقد يقع في أحوال الأمَّة، وهو التَّصدُّر للفتوى لمَن ليس أهلًا ، والتَّكلُّم في أمرِ العقائد والدِّين والتَّشكيك في الثَّوابت من قِبَلِ هؤلاء الذين يُصدَّرون للأمَّة، ويصير الناس إليهم يردون ويُصدرون؛ فهذا من علامات الخطر على الأمَّة.
ولهذا فكلما كثُرَ أهل العلم وانتشرَ خيرهم؛ فهذا من علامات الضَّمانات وبقاء الأمَّة وسلامتها؛ لأنَّ سلامة الأمَّة مرهونٌ بوجود العلماء؛ لأنَّ العلماء هم الهُداة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدَّثنا بقصَّة مَن قتلَ تسعًا وتسعين نفسًا؛ وهذا يدلُّ على فضل العالم، قال صلى الله عليه وسلم: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟»، وهذا الرَّاهبُ قد يكونُ قارئًا وليس بعالمٍ، والرَّاهب عابد؛ «فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ»، فالعالم أفتاه وأرشدَه.
وهكذا الأفراد والمجتمعات بحاجة إلى العلماء؛ لأنَّهم هم الهُداة الذينَ يُبلِّغونَ كلام الله -عزَّ وجلَّ- وفقَ فهم الصَّحابة والتَّابعين، يُبلِّغون كلام الله -عزَّ وجلَّ- وكلام رسوله، وهم الضَّمان للأمَّة؛ لأنَّهم -بإذن الله- صمَّام أمن للبلد، كلما كثُرَ العلماء وكلما كان أهل الحل والعقد يردون إليهم ويصدرون عن آرائهم في أمور الدين وأمور كثيرة؛ كلما كان هذا ضمانٌ للأمَّة، فلزوم غرز العلماء هذا ممَّا جاءت به السُّنَّة النَّبويَّة، وجاءت الوصايا من قِبَلِ الصَّحابة والتَّابعين على هذا النَّهج، ولهذا أشار في الحديث وقال: "وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ أُمَنَاؤُكُمْ"، فهذا واقع النَّاس إلا مَن رحم الله -عزَّ وجلَّ- في المجتمعات!
فالأمانة قليلة، وكما مرَّ معنا في الحديث قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ»، وجاء في بعض الروايات: «أَنَّ الأَمانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ»، فدلَّ على أنَّ الأمانة من الدين، وإذا ضعفت هذه الأمانة وقلَّت وفُقِدَ الأمين -كما هو حال الناس الآن- فإنَّ هذه علامات الفتنة.
قال: "وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ"، أي: شيوع المال، فالآن المال كثير، ولكن البركة قليلة، والناس كأنَّهم لا يجدون قوت يومهم! وكأنَّهم في حالِ نهمٍ عظيمٍ!
فتجد قطيعة الأرحام، والبغي، والظلم، والكذب، واليمين الغموس؛ كلها لأجل دراهم معدودة، وهذه من العلامات الخطيرة التي إذا وقعت في الأمَّة فهي علامة على أنَّ هذه الأمَّة مهدَّدة بالعقوبة العاجلة والزَّوال -نسأل الله السَّلامة والعافية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: "هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟" قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: "يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ" رواه الدارمي أيضا) }.
هذا الأثر صحيح عن عمر.
وموضوع هذا الأثر: أورده الإمام المجدد -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لبيان ما يكون به هدم الدِّين في قلوب النَّاس؛ لأنَّ الدِّين إذا هُدم في قلوب الناس دلَّ على أنَّ أحوالهم الدِّينيَّة صارت عُرضَة لشَّتاتِ وظهور البدعة وكثرة الهرج، إلى غير ذلك؛ وإلا فالدِّين محفوظٌ من جهةِ أصله بحفظ الله -عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الله قد تكفَّل بحفظه وحفظ كتابه، فقال الله -عزَّ وجلَّ: ï´؟إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَï´¾ [الحجر:9].
وتحت هذا الأثر مسائل لابدَّ أن نُبيِّنها:
قول عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ("يهدِمه زلة العالِم")، أي: يهدم الدين زلة العالم.
ما المراد بزلَّة العالم؟ هل المراد ألا يكون من العالم خطأ؟ أو أنَّه خطأ في مسائل مُعيَّنة؟
المقصود بزلَّة العالم: هي خطؤه وغلطه في أصول الدين وقواعده، أمَّا فروع المسائل والفقهيات والفرعيَّات؛ فالخطأ فيها مغفور؛ لأنَّه من موارد الاجتهاد، كأن يرى أنَّ هذا مكروهٌ أو مُحرَّمٌ في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، فالكلام على الخلاف أو الخطأ في أصول الدين فيما يتعلق بتوحيد الله -عزَّ وجلَّ- في ربوبيَّته وأسمائه وصفاته وهذه المسائل الثَّابتة التي لا يسوغ فيها الخلاف، فإذا انحرف العالم وقال برأيه، وتبعَه فئامٌ من النَّاس على هذا الخطأ؛ قيل إنَّ هذا من أسباب ما يقع به هدم الدِّين في قلوب الناس.
وقيل: زلَّة العالِم زلَّة العالَم؛ ولهذا فإنَّ عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو من فُقَهاء الصَّحابة قال: "ويلٌ للأتباع من عثرات العالم"؛ لأنَّ العالم متبوع، فإذا عثر تبعه في عثرته فئامٌ من النَّاس.
ومن قواعد الشَّريعة أنَّ العالم إذا أخطأَ في أصول الدِّين فإنَّه لا يُتابَع على ذلك، وإن كان ما قاله -أو غلط فيه- مغفورٌ له إذا كان من اجتهاد، أو شذَّ في فرعٍ من أصول الدَّين، أمَّا في الأصول فإنَّه يُبدَّع إذا قامَت عليهِ الحُجَّة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس لأحدٍ أن يتبع زلَّات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم الإيمان إلا بما هم له أهل"، يعني: واجب الأدب ممَّن كانت له سابقة في العلم، وإذا عُلِمَ منه إرادة الخير والثبات على السُّنَّة، فقد يقع في فرعيَّات المسائل، فخطأه مغفورٌ إن كان قد قال ذلك باجتهاد، كما وقع في مسائل مُتعدِّدَة من التَّابعين، وممَّن جاء بعدهم، فإذا وقعَ الخطأ في فرعٍ لأصلٍ فإنَّه مغفورٌ له ولا يُتابَع عليه؛ لأنَّه ليس له العصمة.
المقصود: أنَّ زلَّة العالم لا يُتابَعُ عليها، وأنَّ المراد بهذه الزَّلَّة الخطأ في مسائل أصول الدِّين دون فرعيَّات المسائل، حتى يُفهَم هذا على وجهه.
ثم قال في الأثر: ("وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ") ، مصطلح "منافق" هذا هو الاسم الشَّرعي الذي جاء في النُّصوص، وهذا يشمل كل مَن يُشكِّك في ثوابت الدِّين، أو مَن يعتقد أنَّ الإسلام قد ولَّى زمانه، أو يعتقد أنَّ الأفكار الغربيَّة هي السَّبيل لنهضة الأمَّة؛ فهؤلاء يدخلون في هذا المسمَّى؛ لأنَّ هذا من علامات النِّفاق، ولأجل أن يُشكِّك المنافق النَّاس في أمور دينهم أو ليهدم الدِّين في قلوب النَّاس؛ فإنَّه يعمَد إلى كلام الله -عزَّ وجلَّ- فيضرب بعضَه ببعض، والهدف هو تشكيك النَّاس؛ لأنَّ عُمدة أهل النِّفاق والريب هو اتِّباع المتشابه والإعراض عن المُحكَم كما قال الله -عزَّ وجلَّ- في وصفهم، فقال: ï´؟فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِï´¾ [آل عمران:7]، أي أنَّ الذين في قلوبهم الضلال والمرض، أو الانحراف والشكّ؛ ابتغاء فتنة النَّاس في دينهم، وهذا هو جدال المنافق بالكتاب، فأعداء الدِّين كلهم على هذا النَّحو، من اليهود والنًّصارَى ومَن عاونهم وناصرهم، فكلهم يرجعون إلى دواوين الإسلام، وإلى كتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلى البخاري ومسلم -كما يفعل بعض المستشرقين في دراساتهم- لأجلِ صَرفِ النَّاس عن هذا الدِّينِ القويم، ويقع من بعض النَّاس تلقُّف لهذه الأفكار ومن ثَمَّ استجابة لهم؛ لأنَّ الله أخبرنا أنَّ أهلَ النِّفاق والشَّكِّ والرَّيب يُوجد في الأمَّة مَن يستمع لمقالتهم، قال الله -عزَّ وجلَّ: ï´؟وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْï´¾ [التوبة:47] ، فدلَّ على أنَّ هؤلاء المنافقين في الأمَّة مَن يسمع لهم، وهذا السَّماع يُسبِّب الشَّك وهدم الدِّين في قلبه -نسأل الله السَّلامَة والعَافية.
فهؤلاء هم أهل النِّفاق، ومَن عادى الدِّين من اليهود والنَّصارى، وهنا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نصَّ على المنافق؛ لأنَّه أشدُّ خطرًا؛ ولأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- حذرنا من المنافقين فقال: ï´؟هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْï´¾ [المنافقون:4]؛ لأنَّهم في دائرة الأمَّة المسلمة، ويتكلمون بألسنتنا، ويلبسون لباسنا، ويزعمون أنَّهم مُريدون للخيرِ، ومُريدون للإصلاح، فشعاراتهم برَّاقَة، وحديثهم له قبول، ومناظرهم حسَنة، قال الله -عزَّ وجلَّ: ï´؟وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَï´¾ [المنافقون:4]، فأوصاف المنافقين محل دراسة وتأمُّل، ولهذا جاء التَّحذير من قِبَل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من النِّفاق ومن أهله، ومن ذلك تحذير الصَّحابة -رضوان الله عليهم- فيما يحصل به هدم الدِّين، فذكرَ أولًا زلَّة العالم، وأنَّه لا يُتابَع عليها، وذكر جدال المنافق بالكتاب.
ثم ذكر ممَّا يهدم الدِّين في قلوب النَّاس، قال: ("وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ")، ومَن كانت لهم الإمامة والسُّلطَة، وتاريخ الإسلام موجود بشخصيات كثيرة جدًّا حصل منها تشكيك النَّاس في دينهم، حينما يُقبِل النَّاس على الدُّنيا، ويُبارزون الله -عزَّ وجلَّ- بالمعاصِي يبتليهم الله -عزَّ وجلَّ- بأئمة وحكَّام مُضلين، فيحكمونهم ويتسلطونَ عليهم في أمرِ دينهم، وذلك بحملهم على الفجور والمعاصي، وإشاعة البدع فيهم -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا وقع في تاريخ الأمَّة ولا يزال، فيكون في ذلك هدم الإسلام في قُلوبهم، وما زال التاريخ يشهد بشخصيات كذلك، كمَن يتولَّى على بعض البلدان الإسلاميَّة، كالدولة العُبيديَّة التي تُسمَّي نفسها زورًا: "الفاطميَّة" وغيرهم من الشَّخصيات التي كان في حكمها سبب لهدمِ الدِّين -نسأل الله السَّلامَة والعافية من هذه الأمور.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ حُذَيْفَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَعَبَّدُوهَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ مَقَالًا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ، وَخُذُوا بِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". رواه أبو داود)}.
الأثر بهذا اللفظ ليس في سنن أبي داود، وإنَّما الذي في سنن أبي داود بلفظٍ آخر وهو: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا".
وموضوع الأثر الذي بهذا اللفظ أو بذاك؛ واحد، وهو التَّمسُّك بأمرِ السُّنَّة في التَّعبُّد وعدم التَّجاوز، فأصحاب محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هم نقلةُ هذا الدِّين، فكل عبادةٍ لم يفعلها الصَّحابَة -رضوان الله عليهم- فلا ريب أنَّها إحداثٌ في الدِّين، وقد جاء النَّص من المعصوم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ الإحداث مذموم ومردود، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث عائشة المتَّفق على صحَّته: «مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»؛ ولأنَّ الدين ليس بحاجةٍ إلى تكميل ما فيه، فهو كاملٌ بذاته وبه تشريعاته، فالله -عزَّ وجلَّ- قال: ï´؟الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًاï´¾ [المائدة:3].
فواجب الأمَّة أن تقف حيثُ وقف الصَّحابة -رضوان الله عليهم- وهذا يُشير إلى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر أنَّ الفرقَة النَّاجية هي ما وافق الصَّحابَة في تعبُّدهم؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، فالنَّجاة في لزوم هدي الصَّحابة -رضوان الله عليهم- في التَّعبُّد، ولهذا فإنَّ إجماع الصَّحابة في مسألةٍ حُجَّة، فينبغي أن يُعتَنَى بهذا ويُفهَم هذا لمَن أرادَ النَّجاة من الابتداع في دين الله -عزَّ وجلَّ- فإذا حصَلَ من أحدٍ أن أظهرَ عبادة أو أظهرَ شيئًا سُئِلَ: هل فعلها الصَّحابة -رضوان الله عليهم؟ حتى يُعلَم من قرائن الأحوال أنَّها إحداثٌ في دين الله -عزَّ وجلَّ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ -رضي اللهُ عنه- قَالَ: "مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانُوا أفْضَلَ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَبَّرَهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلإقامةِ دِينِهِ، فَاعرِفُوا لَهُم فَضلَهُم وَاتَّبِعُوهُم عَلَى آثَارِهِم وَتَمَسَّكُوا بِمَا استَطَعتُم مِن أَخلَاقِهِم وَسِيَرِهِم فَإِنَّهُم كَانُوا عَلَى الهُدَى المُستَقِيمِ"، رواه رَزِيْنٌ)}.
هذا الأثر فيه ضعفٌ ولكن معناه صحيح وبليغ.
موضوع الأثر: أنَّ الاقتداء في العمل والاتباع الموافق للسُّنَّة هو بالميِّتِ دون الحي، فإنَّ "الحي لا تؤمَن عليه الفتنَة" ، كما قال ابن مسعود، والفتنة هنا: هي المتغيرات.
فخير مَن يُقتَدى بهم هم الصَّحابة -رضوان الله عليهم- وهم قد ماتوا، فهم الذين عاصروا التَّنزيل، وشاهدوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجاهدوا معه وماتوا على ذلك، ولهذا أشار ابن مسعود إلى ذلك بوصفهم بهذه الأوصاف البليغة، وهم أصحاب القلوب البرَّة، وأهلُ السَّماحة الاعتدال، فهذه وصيَّةٌ عظيمةٌ من صحابي جليل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من فقهاء الصَّحابة، وبلزوم هذه الوصيَّة يُعرَف السُّنِّي من البدعي ممَّن يُعنَى بآثارِ الصَّحابةِ وسلوكهم وأقوالهم، فإذا كان على هذا النَّحوِ فاعلَم أنَّ الله أراد به خيرًا، وهذا ما أوصى به عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: ("فَاعرِفُوا لَهُم فَضلَهُم وَاتَّبِعُوهُم عَلَى آثَارِهِم وَتَمَسَّكُوا بِمَا استَطَعتُم مِن أَخلَاقِهِم وَسِيَرِهِم")؛ لأنَّ الصَّحابَة -رضوان الله عليهم- في سِيَرِهم وفي أقوالهم أعمالهم الموافقة للسُّنَّة لا شكَّ أنَّها موضع اقتداء، وهذا ما يسميه علماء التَّربية بــ "القدوة"، فهؤلاء أهل القدوَة، فإذا أردتَّ أن تقتدي فاقتدي بالرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبصحابته -رضوان الله عليهم- لأنَّهم كانوا هُم أهل الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهم أهل الهُدَى المستقيم، فالزم طريقتهم ومنهجهم في الاعتقاد وفي الفقه وفي السُّلوك حتى تحصل لك النَّجاة من الفتن والمتغيرات -نسأل الله السلامة والعافية منها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَوْمًا يَتَدَارَءُونَ بِالقُرْآَنِ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نزل كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلا تَضْرِبُوا بَعْضَهُ بَعْضًا، مَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا لا ، فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ". رواه أحمد وابن ماجه)}.
هذا الحديث مشهور، وحكم أهل العلم على سنده بأنَّه حسنٌ.
وقوله: ("يَتَدَارَءُونَ بِالقُرْآَنِ")، يعني: التَّخاصم والتَّرافع بالقُرآن، والمراء في القرآن قد بيَّنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنَّه ضربُ الكتاب بعضه ببعض.
والمراء في القرآن مذموم، وقد بدأ المراء في القرآن في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصَّة عمر مع هذا الرَّجل الذي قال لعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "كيف تقرأها وأنا سمعتها من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على نحو خلاف ذلك"، أي: من جهة القراءة؛ لأنَّ القرآن أُنزِلَ على سبعةِ أحرفٍ، وكان هذا من التيسير للأمَّة حتى جمع عثمان بن عفان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الأمَّة على حرفٍ واحدٍ، والقراءات العشر من ضمن الحرف الواحد الذي جمعهم عليه، فكان هذا من الأسباب التي نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأجلها عن المراء في القرآن.
ويدخل في المراء في القرآن حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» ، أي: كفرٌ أصغر، وهو: المجادلة والخصام الذي يتضمَّن الشَّك في ذلك.
وأصل المراء في القرآن فيه نقض التَّسليم لله -عزَّ وجلَّ، فينبغي أن يُصَان كتاب الله -عزَّ وجلَّ- عن أن يكون فيه مراء وجدال، وأن يقول: قال الله كذا...، ويُعارضه الثَّاني على وجه الدال والمراء، وإنَّما الذي ينبغي هو تصديق الكتاب بكلِّ مافيه، وما يستشكله المكلَّف عليه أن يبحث عن تفسيره في كلام أهل العلم، أمَّا أن ذاكَ ينزَع بآية وذاكَ ينزَع بآية فهذا ممَّا جاء الذَّم فيه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وممَّا بينه الحديث: أنَّ المطلوب هو ردُّ المتشابه إلى المُحكَم، فالمتشابَه إمَّا أن يُفسَّر بردِّه للمُحكَم فيُعلَم وجه الإشكال ويُزال، كأن يُشكل في معنى آيتين بمخالفة إحدهما للأخرى، فيُكشَف هذا بتفسير أهل العلم وكلامهم، وللعلماء في تفاسيرهم أجوبة كثيرة جدًّا، وبعض العلماء المعاصرين ألَّفَ مؤلَّفًا فيما يُشكِل من ذلك وهو: "دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب" للشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى رحمةً واسعة.
فالمطلوب: أنَّ المتشابه إمَّا ان يُفسَّر، أو يؤمَن به ويُفوَّض إلى عالمه، فقد لا يكون عند الإنسان جوابًا لهذا المتشابه، وربما سبق معنا في الدروس السابقة ما يتعلق بالجواب المجمَل والجواب المفصَّل عن المتشابه، فهذا الحديث يدل على هذا الأصل الذي ذكرناه في هذا المعنى.
{شيخنا، أحسن الله إليك، قد يرد سؤال، هل يكون المتشابه في الأحكام الشَّرعية، فبعضهم يبحث عن مسببات الحكم، ويُحاول أن يجد علَّة أو حِكمَة من الحكم الشَّرعي، فعلى سبيل المثال تجدهم يبحثون عن علَّة قطع يد السَّارق؛ فهل هذا يدخل في المراء في القرآن؟}.
ذكر أهل العلم في مباحث الأصول أنَّ الأصل في الأحكام الشَّرعيَّة هو التَّعبُّد، وإذا ظهرَت الحكمَة للمكلَّف فهي ممَّا يُذكر ولكن لا يُجزَم به؛ لأنَّ الأصل في الأحكام الشَّرعيَّة هو التَّعبُّد؛ ولأنَّ الاستغراق في البحث عن الحكم قد يُفهَم منه مُنافاة التسليم لله -عزَّ وجلَّ- لأنَّ الإسلام كما هو معروف هو الاستسلام لله بالتَّوحيد، والانقياد له بالطَّاعة، والبراءة من الشِّرك وأهله.
فلابدَّ أن يعرف أهل الإسلام ومَن يدخل في هذا الدِّين أنَّ الإسلام قائم على الاستسلام، وهذا الاستسلام لا يعني إلغاء العقل، ولكن لا يتعمَّق في بحث مسائل العلل بعقله المجرَّد دون أثرٍ ودونَ إمامٍ متَّبَع في هذه المسائل؛ ولأنَّ هذا التَّسلسل قد يُدخل الإنسان في دوَّامة من هذه الأسئلة التي قد لا يجد فيها جوابًا؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو العليم الخبير.
فلو قيل: ما الحكمة من صلاة الظهر أربع والمغرب ثلاث؟! فيصير ديدنُ الإنسان في بيان الأحكام التَّعليل! فينبغي أن يُربَّى النَّاس على أنَّ الأصل هو التَّسليم لله -عزَّ وجلَّ.
وتذكرون القاعدة التي ذكرناها في مسائل الأسماء والصِّفات وما يتعلق بأنَّ التَّسليم عند أهل السَّنَّة يُنافي التَّسليم عند غيرهم من العقائد المحرَّفَة كما هو عند اليهوديَّة والنَّصرانيَّة؛ فمبحث التَّسليم لديهم مختَلف؛ لأنَّ عندهم التسليم هو إلغاء العقل، وإنَّما عند أهل السُّنَّة أنَّ التَّسليم لا يلغي العقل؛ بل يُعطي العقل حظَّه في النَّظر والاعتبار، وقد أمر الله -عزَّ وجلَّ- بالاعتبار فقال: ï´؟فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأبْصَارِï´¾ [الحشر:2].
وكما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- القاعدة بأنَّ الشَّريعة والنُّصوص تأتي بما تُحار به العقول لا بما تُحيلُ العقول"، يعني: أنَّ التسليم بمعنى الإحالة، وإلا فإنَّ العقل له اعتبار في الشَّريعة، والباحث عن دقائق هذه الحِكَم ينبغي أن يُربَّى النَّاس على التَّسليم لله -عزَّ وجلَّ- وأنَّ هذا تعبُّدٌ وطاعة، فلو فتحت هذا الباب لماذا نفعل كذا؟...، لماذا نفعل كذا؟...؛ فهذا من مداخل الشَّيطان على قلب العبد.
{بعض الناس يا شيخ قد يفهم الحكمة، ولكن عموم الناس الأصل فيهم التسليم وقد لا يفهم الحكمة؟.
نعم، فإنَّ الدين قائم على التَّسليم، وَصَدَّق بما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القُرآن والسُّنَّة قامت عليه البراهين، فهذا ثابت، ودلائل النُّبوَّة تدل على أنَّ كل ما جاء عن الله وعن رسوله حق، فإذا ثبت لك أنَّه حقٌّ فلماذا تسأل عن تفاصيله؟!
فإنَّ هذه التعليلات قد يُفهم منها أنَّها تُنافي التَّسليم، وينبغي لأهل الإيمان أن يكونوا حريصين على سلامة قُلوبهم من هذه الأمور، ومن التَّسلسل في هذه المسائل.
{(بَابُ التَّحريضِ عَلَى طَلَبِ العِلْم وَكَيفيةِ الطَّلبِ.
وفيه حديث "الصحيحين" في فتنة القبر «أن المؤمن يقول: جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، وأمَّا المعذب يقول: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ» !
مناسبة هذا الباب لما قبله: لعلَّ الشَّيخ لمَّا ذكرَ الإيمان بالقرآن والإيمان بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ناسبَ أن يذكر السَّبيل القويم لتلك المعرفة، فلا سبيلَ ولا طريقَ إلا بطلبِ العلمِ النَّافع، فمن حُسنِ تصنيفِ الإمام المجدِّد -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّه دمجَ بين هذا وبين ذاك، فهو الآن يُريد أن يُبيِّنَ سبيلَ طلبِ العلم، والأمور التي ينبغي لطالبِ العلم أن يُراعيها حتى يُحصِّل العلم النَّافع؛ لأنَّ العلم منه ما هو نافعٌ ومنه ما ليس بنافع، فالعلم هو ما جاء عن الله وعن رسوله بفهم الصَّحابة -رضوان الله عليهم- والتَّابعين، وأمَّا ما عداه فإنَّه علمٌ وبالٌ على صاحبه، وإنَّما يورثه الشَّك والحيرة، أو يصده عن السبيل المستقيم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فيه حديث الصَّحيحين في فتنة القَبْرِ أنَّ الْمُنَعَّم يَقُولُ: «جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، وأمَّا المعذب يقول: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ»}.
هذه إشارة من الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لسؤالات القبر، فالمؤمن يُجيب بهذه الإجابة، فدلَّ على أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء بالبيانات، والبينات: جمعُ بيِّنة، وهي الحجَّة والواضحة.
قال: (بالبينات والهدى)، فدلَّ على أنَّ الطريق إلى العلم النَّافع إنَّما يكون بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفيهما عن معاوية -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسولَ اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»)}.
هنا إشارة من الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- إلى أنَّ الفقه في الدِّين مطلوب، وأنَّه من إرادة الخير لله -عزَّ وجلَّ- للعبد توفيقه للفقه في الدِّين.
الفقه في الدِّين: هو الفَهم، ومعرفةُ طُرقِ استِنبَاطِ الأحكَامِ من الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ، والعِلم بقواعد الإسلام العِظَام، وبأصول الإسلام وثوابته، والعلمُ بالحلالِ والحرامِ.
والفقه يشمل: فقه الأصول وفقه الفروع، وكله من الفقه في الدِّين، ولهذا فإنَّ الإمام أبا حنيفة سمَّى كتابه في الاعتقاد: "الفقه الأكبر"، فدلَّ على أنَّه من الفقه.
ودلَّ الحديث على أنَّ مَن أرادَ الله به خيرًا رزقه الله -عزَّ وجلَّ- الفقه في الدين، ولابدَّ مه التَّفقُّه في الدِّين من العمل بهذا الفقه، ولا سبيل لهذا الفقه إلا بطريق العلم، وهو أوَّل الواجبات على المكلف، وهو أن يعلم قبل أن يعمل، ولهذا أشار الله -عزَّ وجلَّ- إلى ذلك فقال: ï´؟فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَï´¾ [محمد: 19]، وقال الإمام البخاري -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: "باب العِلْمِ قَبْلَ القَولِ والعَمَل"، وهذا يدلُّك على أهميَّة العلم في الإسلام، وأنَّه مِن الأمورِ التي ينبغي أن يُعنَى بها طالب العلم، بل إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- فرَّقَ بينَ الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فقال: ï´؟قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَï´¾ [الزمر: 9]، ففضَّلَ الله أهل العلم ورغَّبَ فيه، ودين الإسلام يحثُّ ويحضُّ على العلمِ والتَّعلُّم.
والواجب على المسلمين جميعًا التَّعلُّم والتَّفقُّه في الدِّين، وطريق ذلك بتعلُّم ما في الكتاب والسُّنَّة، ولهذا فمن عجز عن ذلك فإنَّه يسأل أهل العلم، قال تعالى: ï´؟فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَï´¾ [النحل: 43]، وذلك حتى يؤدِّي ما كلَّفَه الله -عزَّ وجلَّ- على الواجه الذي يرضاه -سبحانه وتعالى.
ومن العلم ما هو فرضُ عينٍ، ومن العلم ما هو فرضُ كفايةٍ، فمثلًا علمُ العبد والأَمَة المؤمنة بأمر الصَّلاة وأصول الدِّين من الواجب، فلا يُمكن للإنسان أن يصلِّي حتى يتعلَّم، ولهذا فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا رأى المُسيء صلاته قال له: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ»، ولم يعلم المسلمون كيف صلَّى رسول الله أو كيف حجَّ إلا بالتَّعلُّم، فلابدَّ للإنسان أن يتعلَّم، فيتعلَّم المؤمن والمؤمن ما يُؤدِّي به ما فرضه الله -عزَّ وجلَّ- عليه من الفرائض، ويتعلَّم ما نهى الله عنه حتى ينتهي عن المحرمات على وجه الإجمال.
ومسائل فروض الأعيان يسميها بعض العلماء "ما لا يسع المكلف جهله"، والشَّيخ ابن باز -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- ألف رسالة ماتعة ولطيفة وصغيرة سمَّاها "الدُّروس المهمَّة لعامَّة الأمَّة"، وفيها جملة من هذا العلم العيني على الإنسان، فلابدَّ إذن من التَّعلُّم والتَّفقُّه في دينِ الله -عزَّ وجلَّ- حتى يحصل للإنسان أن يؤدِّي هذه العبادات وهذه الشَّعائر على النَّحوِ الذي يرضاه الله -عزَّ وجلَّ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفيهما عن أبي موسى -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَل مَا بعَثني اللَّه بِهِ منَ الْهُدَى والْعلْمِ كَمَثَلَ غَيْثٍ أَصَاب أَرْضاً فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ، قبِلَتِ الْمَاءَ فأَنْبَتتِ الْكلأَ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس فَشَربُوا مِنْهَا وسَقَوْا وَزَرَعَوا. وأَصَابَ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينَ اللَّه، وَنَفَعَه بمَا بعَثَنِي اللَّه بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمثلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً وِلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»)}.
هذا الحديث مُخرَّج في الصَّحيحين -البخاري ومسلم- من حديث أبي موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيه مثلٌ ضَرَبَه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومن هدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه يضرب الأمثال، والأمثال النَّبويَّة صُنِّفَت فيها مصنَّفات، وضرب المثل من طرق التَّعلُّم، بل من أحسن الوسائل في فهم العلم وثباته، ولهذا كان النَّبي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يستخدمها ويذكرها في أحاديثه، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ؛ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ, تُفِيئُهَا الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ»، وأحاديث كثيرة جدًّا في الأمثال النَّبويَّة.
كذلك القرآن فيه ذكر الأمثال، وأمثال القرآن مُتعددة، فذكر الله -عزَّ وجلَّ- أمثال كثيرة جدًّا، ومن المناسب أن نذكر المثل الذي ذكره الله -عزَّ وجلَّ- عن اليهود في حمل العلم؛ لأنَّه مناسب لهذا الحديث، قال الله -عزَّ وجلَّ- عن اليهود: ï´؟مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًاï´¾ [الجمعة: 5]، شبَّه اللهُ -عزَّ وجلَّ- اليهودَ بالحمارِ الذي يكون عليه كتبٌ وهو لا يفقهها ولا يعرف ما فيها، لأنَّهم حُمِّلوا هذه التَّوارة وحَمَلُوها وحَفِظُوها، ولكنهم لم يعملوا بها ولم يتفقَّهوا فيها؛ بل أدخلوا التَّحريفَ والتَّغييرَ فيها، فصَاروا لهم مثلَ السَّوءِ، وهو الحمار الذي يحملُ الكتبَ ولا ينتفع بها -نسأل الله السلامة والعافية.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:47   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أُصول الإيمان (2)
الدَّرسُ السَّابِعُ (7)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن، وأحيِّي الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "أصول الإيمان" من قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَل مَا بعَثني اللَّه بِهِ منَ الْهُدَى والْعلْمِ كَمَثَلَ غَيْثٍ أَصَاب أَرْضًا فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ، قبِلَتِ الْمَاءَ فأَنْبَتتِ الْكلأَ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس فَشَربُوا مِنْهَا وسَقَوْا وَزَرَعَوا. وأَصَابَ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينَ اللَّه، وَنَفَعَه بمَا بعَثَنِي اللَّه بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمثلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْسًا وِلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»)}.
بسم الله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، مرَّ معنا في الحلقة السَّابقة أنَّ من هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضرب الأمثال، والأمثال من أحسن وسائل التَّعلُّم، ومن أحسن وسائل فهم العلم، والقرآن الكريم حافلٌ بالأمثالِ التي ضربها الله -عزَّ وجلَّ- ومن المناسب أن نقول: إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- مثَّلَ الذين يحفظون العلم ولا يعملون به كمثل الحمار كما قال تعالى عن الطَّائفة الغضبيَّة -المغضوب عليهم- وهم اليهود، قال -عزَّ وجلَّ: ï´؟مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا غڑ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ غڑ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَï´¾ [الجمعة: 5].
وأمثال السُّنَّة مُتعدِّدَةٌ وكثيرةٌ جدًّا، وقد صُنِّفَت فيها مُصنَّفات، ويهمُّنا هنا المثل الذي ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مَوقف النَّاس من الوحي؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شبَّهَ ما جاء به من الهُدَى -ويشمل هذا كلام الله- لأنَّه كلُّه وحي؛ فشبَّه الوحي بالماء الذي تحصل به الحياة، فكما أنَّ الماء الذي ينزل من السَّماء تحصل به حياة الأرض، وتتغيَّر به أحوال الأرض من الجَدَب إلى أن تزهو وتبتهج بكلِّ لونٍ؛ فكذلك الوحي إذا نزلَ على القلوب وانتفعت القلوب به فيحصل لها هذا الذي يحصل للأرض حينما يُصيبها الماء الذي من السَّماء.
وهذا المثل يصف به أحوال الناس في تقبُّلِ ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العِلم والقرآن، وهذه القسمة ثلاثيَّة:
الطَّائفة الأولى: قال: «كَمَثَلَ غَيْثٍ أَصَاب أَرْضًا فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ، قبِلَتِ الْمَاءَ»، هذه الطَّائفة هي الطَّائفة الطِّيبة، فهي التي قَبِلَت هذا الوحي وانتفعت به عِلمًا وعَملًا، وهي مِن قبل هذا العلم الذي جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا الوحي وعلَّمَه، فهي أرضٌ أنبتت الكلأ الكثير الذي انتفع به الإنسانُ والحيوانُ، وابتهج به الإنسان والحيوان؛ فأحيا الله به هذا القلب الميت، وأحيا به قلوب الآخرين؛ لأنَّ الله قال عن الوحي: ï´؟أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَاï´¾ [الأنعام: 122]، فالوحي هو حياة القلوب، وزينة القلوب وبهجتها، والوحي هو تعلُّم ما جاء عن الله وما جاء عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإذا أردنا الحياة لقلوبنا فعلينا أن نحييها بالقرآن وبسنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبفهم الصَّحابة والتَّابعين لمعاني القرآن، ومعاني سنَّة النَّبي الكريم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذه هي الطَّائفة الأولى التي مثَّل لها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأرض الطَّيِّبة.
أمَّا الطَّائفة الثَّانية: فضرب لها مثلًا يُشاهده الناس في حياتهم، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخاطب النَّاس بما يناسب بيئتهم وبما يُشاهدون، فضرب لهم مثلًا بالأجادب، وهي الأرض الصُّلبة التي يُصب عليها الماء فتحفظه، ومثَّل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك بمن حفظ العلم وتعلَّمَه، ولكنَّه لم يعمل به العمل الكامل، فهو حفظَه ولم يَتَفقَّه فيه التَّفقُّه الواجب، وهو داخل ثناء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقوله: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» ، فهو قد حفظ العلم ونقله للناس ولكن لم يتفقَّه فيه التَّفقُّه المطلوب؛ لأنَّ الشَّأن هو العلم والتَّعلُّم، والعلم مع الفقه؛ فهو سالمٌ من الذَّمِّ من وجهٍ، وإن كان يقع عليه التَّقصير من وجهٍ، قال تعالى: ï´؟لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاï´¾ [البقرة: 286].
الطَّائفة الثَّالثة: مثَّل لها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقيعان، وهي أرضٌ مُستوية لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، فإنَّ الله تعالى جعل الناس أصنافًا كأصناف الأرض؛ لأنَّ الأرض ليست على مستوًى واحد، فبعض الأراضي ينصب عليها الماء فلا تمسكه، وإنما تجذبه لسافل الأرض ولا تحفظه، كأنَّها لم ينزل عليها الغيث، وَمَثَّلَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك الذي لم يرفع رأسه للعلم، ولم يعمل ولم يتعلَّم؛ بل مرَّ عليه العلم والوحي دونَ أن ينتفع به، ولهذا كان السَّلف -رحمهم الله- يقولون: "اغدُ عالمًا أو مُتعلِّمًا، ولا تكن الثَّالث فتهلك" ، فعلى طالب العلم وعلى العامِّي أن ينظر في حاله في أي فئةٍ هو، وتبليغ العلم ونشر الخير ليس مقصودًا على طلاب العلم؛ بل هو على كلِّ أحدٍ بشرط أن يعلمَ أنَّ ما ينشره بينَ النَّاس حقٌّ وموافقٌ لهدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيُبلِّغ هذا الدين بالعلم أو بالظَّنِّ الغالب.
فهذه أحوال النَّاس في نشر الخير، ونشر ما جاء عن الله، وما جاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مثل هذه الأمور.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَائشَة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنَّها قالت: "فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ")}.
هذا الأثر مخرَّج في الصَّحيحين من كلام عائشة في شأنِ مَن يتَّبع المتشابه، وهذا الأثر سبقَ الكلام عليه، وهو أنَّ من علامات أهل البدع والشَّكِّ والرَّيب والإيقاع في أهل الإيمان أن يتَّبعون المتشابه؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قال عنهم: ï´؟فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِï´¾ [آل عمران: 7]، وقد ذكرنا أنَّ هذه طريقتهم في كلِّ زمانٍ ومكانٍ على اختلافِ أنواعهم؛ لأنَّ هذا يشمل الذين يتَّبعون المتشابه من اليهود والنَّصارى وأهل الشِّرك وأهل النِّفاق -كما مرَّ معنا في الآثار السَّابقة.
وعلاقة هذا الحديث الذي أورده الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- بالباب في طلب العلم علاقةٌ وثيقةٌ؛ لأنَّ طالبَ العلمِ عليه بالمحكم في طلب العلم، وقد بيَّنَّا أنَّ المُحكَّم هو القواعد الثَّوابت الواضحات البيِّنات التي يحصل بها فهم أصول الدِّين وأصول العلم في أبواب العلم، وفي أجناسه المختلفة، فثَمَّ أشياء محكمات على طالب العلم أن يتعلَّمها.
قال تعالى: ï´؟وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ، وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَï´¾ [آل عمران:79]، وجاء عن ابن عباس أنَّ الرَّبَّاني هو: "الذي يُعلِّم النَّاس بصغار العلم قبل كباره" ، يعني: بمحكمه قبل متشابهه، فطالب العلم إذا أراد أن يطلب العلم عليه بالمُحكَم، ولا يصير ديدنه السؤال عن الحكمَة، أو السُّؤال عن المُشكل في العلم وهو لم يعرف أصول العلم؛ لأنَّه إذا لم يعرف أصول العلم لا يستطيع إذا جاءت المسائل المشكلة أن يفهمها على وجهها الصَّحيح، وإذا وقعت النَّوازل فإذا لم يكن عنده فهمٌ ودرايةٌ لقواعد الإسلام وأصوله الكبرى حصل له الزلل في أصول الدين وفي فروعه، وهذا لا ينبغي أن يكون عليه طالب العلم.
وممَّا يُعين الإنسان في ضبطِ هذه الأمور: أن يتعلَّم العِلم عن أهله؛ لأنَّ ابن سيرين قال: "إنَّ هَذَا العِلْمُ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأخُذُون دِينَكُم" .
وجاء في الحديث: أنَّ من علامات السَّاعة: «أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الأَصَاغِرِ» ، وجاء في تفسير كلمة «الأَصَاغِرِ» كلام كثيرٌ جدًّا، أنَّهم أهل البدع، أو مَن ليسوا أهلًا أن يُؤخَذ عنهم العلم، فلابدَّ للإنسان أن يأخذ العلم عن العُلماء، وخاصَّةً فيما يُشكل؛ فيسأل أهل العلم ويرجع إليهم، وأن يلزم طريقة أهل العلم في التَّفقُّه وفي التَّعلُّم وفي التَّعليم، حتى يحصل له السلامة من الزَّلل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ»)}.
هذا الحديث في صحيح مسلم عن ابن مسعود، وفيه مسائل لابدَّ أن نشير إليها؛ لأنَّه حديثٌ عظيمٌ:
المسألة الأولى: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِىٍّ»، الحُكم هنا على الأعم الأغلَب من الأنبياء، وإلَّا فقد يوجَد في الأنبياء مَن ليس له تابعٌ كما في الحديث: «عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ، وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ» ، وهذا قد يقع، فإذن الحكم هنا للغالب.
المسألة الثانية: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَوَارِيُّونَ»، وهم الخُلَّص من أتباعهم، فكل نبيٍّ له خُلَّص من أتباعه، كما كان لعيسى بن مريم حواريُّون.
المسألة الثالثة: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ»، الخُلُوف: جمع خلَف -بفتح اللام- وبسكونها خلْف، مثل قول الله -عزَّ وجلَّ: ï´؟فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِï´¾ [مريم: 59].
ومعناه هنا: القرن من الناس، ومَن يأتي بعدُ من الأتباع من الأبناء والأحفاد؛ فكلُّ هؤلاء يعتبرون خلفٌ وخلوف.
والمراد بالحديث: أن الخلوف يكون فيهم التَّغيير والإحداث في الدِّين بصفتين:
• إحداث القول وترك العمل.
• وتجاوز الحدود الشَّرعية بفعل ما لم يُؤمرُوا.
فقال في الحديث: «يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ»، فدلَّ على أنَّ عندهم قولٌ وليس عندهم عمل.
قال: «وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ»، يعني: يتجاوزون الحدود الشَّرعيَّة بأن يفعلوا ما لم يُؤمَروا به، فكل هذا من التَّجاوز، ويدخل في ذلك الابتداع في دين الله -عزَّ وجلَّ- فكل هذا داخلٌ في هؤلاء الخلوف.
والواجب على أهل العلم وطلَّاب أن يردُّوا النَّاس إلى الحق وإلى الهدى بمجاهدة هؤلاء الخُلُوف الذين لابدَّ أن يُجاهَدوا؛ لأنَّهم يحصل عندهم التَّغيير، فالواجب المجاهدة لهم حسب الوسع والقدرة، قال تعالى: ï´؟لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاï´¾ [البقرة: 286]، وقال تعالى: ï´؟لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَاï´¾ [الطلاق: 7]، وقال: ï´؟فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْï´¾ [التغابن: 16].
وهؤلاء الخُلُوف قد يكونوا أمراءً، كما حدث في خلفاء بني أميَّة الذين حصل منهم التَّغيير، فإن كانوا أمراء وجب النُّصح لهم في السِّرِّ وعدمِ الإعلان بالنَّصيحة، والصَّبرِ على جورهم، وإقامة السُّنَّة؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا»، قالها للصحابة!
قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: «صَلُّوا الصَّلاة لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلاتكُمْ مَعَهُ نَافِلَة» ، وليس معنى ذلك إقرارهم؛ بل واجب النَّصيحة؛ لأنَّ الدِّين النَّصيحة، وفي حديث عياض: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَةً، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ» ، فيُناصحون سرًّا ويُكاتَبونه.
وقد يكون هؤلاء الخُلُوف علماء سوء؛ وحينئذٍ يجب الرَّد عليهم، وبيان ما هم عليه من الباطل، وهذا ديدن أهل الإسلام، فإنَّ دواوين الإسلام ومصنَّفات المسلمين كلها في الرَّدِّ على هؤلاء الذين يحصل منهم التَّغيير والتَّبديل.
فحاصل هذا: أنَّ طالب العلم عليه أن يشتغل بالتَّبيلغ والمجاهدة، والمطلوب من الأمَّة المجاهدة بمراتب الجهاد الشَّرعيَّة، باليد، ثم اللسان، ثم القلب، ولا يُعذَر أحدٌ في الإنكار القلبي كما هو معلومٌ من الشَّريعة.
فهذا هو وجه مناسبة الحديث لِمَا قبله من الأحاديث، ومناسبته للباب الذي عقده الإمام المجدِّد -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ عُمَرَ أَتَاهُ ، فَقَالَ : إِنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ مِنَ الْيَهُودِ تُعْجِبُنَا أَفَتَرَى أَنْ نَكْتُبَ بَعْضَهَا؟ فَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ والنَّصَارَى؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا اتِّبَاعِي» رواهُ أحمد)}.
هذا حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في قصَّة عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه وجدَ صُحُفًا لليهود؛ والحاصل أنَّ الحديث بهذا الإسناد حسنٌ.
وتحت هذا الحديث مسائل مهمَّة:
المسألة الأولى: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ»، التَّهوُّك هو: التَّحيُّر، يعني: أمتحيِّرٌ في شريعة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يا عمر حتى تأتي بهذه الصُّحف وتقرأها؟!
فيلزم من التَّسليم للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا ينظر في هذه الكتب التي حصل فيها التَّغيير والتَّبديل؛ لأنَّ مطالعتها تورثكَ التَّحيُّر، ولا شكَّ أنَّ هذا من أمراض القلوب، وهذا أوردَه الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- ليُبيِّن أن طالبَ العلم عليه أن يقرأ العلم النَّافع، وأن يُعرض عن العلوم التي لا تنفع، مثل العلوم التي لا فائدة منها، والعلوم التي تورث الشَّك، مثل: علم الكلام والتَّعمُّق فيه، فلا شكَّ أنَّ هذا لا يُناصر طالب العلم.
المسألة الثانية: لماذا غضب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
جاءت بعض الرِّوايات تفسِّر السَّبب لهذا الغضب، فجاء قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ» ؛ لأنَّ كتبهم دخلها التَّحريف والتَّغيير، ولبسِ الحقِّ بالباطل، فمطالعتها سببٌ للحيرة، وسببٌ لتكذيبِ ما هو حق أو تصديق ما هو باطل، مع هذا الخوض واللَّبس في هذا الأمر اللهُ تعالى أوجدَ لكَ المَعين الصَّافي الزُّلال السَّالم من الباطل، وهو كتاب الله الذي أشار إليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: «لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً» ، فلو خُيِّرَ الإنسان بينَ جدول ماءٍ صافٍ عذبٍ وبينَ جدولِ ماءٍ مُكدَّرٍ؛ فأيُّهما يشرب؟ لا شكَّ أنَّه سيشرب من الماء الزُّلال الذي لم يحصل فيه الكدر؛ لأنَّ فطرته تدل على ذلك.
كذلك من المسائل التي تُبحَث في هذا الحديث: أنَّ في الحديث إشارة إلى أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أخذَ العهدَ على الأنبياء باتِّباع محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا اتِّبَاعِي»؛ لأنَّ ما من نبيٍّ بعثه الله -عزَّ وجلَّ- إلَّا وقد أخذَ الله عليه الميثاق أنَّه إنْ بُعث محمدٌ في زمانكَ أن تُؤمن به، قال تعالى: ï´؟وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُï´¾، الإيمان والنُّصرَة. قال: ï´؟قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىظ° ذَظ°لِكُمْ إِصْرِي غ– قَالُوا أَقْرَرْنَاï´¾، الإصر: هو أشدُّ العهد. قال: ï´؟قَالُوا أَقْرَرْنَا غڑ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَï´¾ [آل عمران: 81]، وكفى بالله شهيدًا!
فلا يسع المكلَّف إلا أن يعلم أنَّ ماء جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شاملٌ على كلِّ الحقِّ والهُدَى والخير الذي جاء في الكتب السَّابقة، إذ أنَّه لو بُعث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في زمن ذلك النبي ما وسعَه إلا أن يتَّبع محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن علامات القيامة في آخر الزَّمان نُزول عيسى بن مريم، وأنَّه سيحكم بشريعة محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ، غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا».حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»)}.
هذان الحديثنا بمعنًى واحدٍ، فأمَّا حديث أبي ثعلبَة الخشني فمِن جوامع كلمِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومعنى "جوامع الكلم": أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأتي بالكلام المختصر الذي يشمل معانٍ عظيمة.
وقد جمع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث أصول الفرائض والحدود والمُحرَّمات والمسكوت عنه، ويسدلُّ الأصوليُّون بحديث أبي ثعلبَة الخشني -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في مبحث يُسمَّى "البراءة الأصليَّة" وهي خلوُّ الذِّمَّةِ عن الاشتغالِ بالحُكمِ الشَّرعيِّ، وهو ما يُعبَّر به في بعضِ الأحايين بأنَّ الأصل هو الإباحة، وهذا في شأنِ المعاملات وشأنِ إشغال الذِّمَم، فالبراءة الأصليَّة هو سلامَة الذِّمَّة من الحُكم التَّكليفي.
وأمَّا في العبادات: فقد قرَّرَ أهل العلم -كما دلَّت على ذلك الأحاديث- أنَّ الأصل فيها التَّوقيف، أي: يُتوقَّف في إثبات العبادَة على مَا جاء به النَّص، فليس الأصل فيها الإباحة أن يبتدع الإنسان ويُحدِث، فهذا حكمٌ وذاكَ حكمٌ آخر.
كذلك في حديث أبي ثعلبة وحديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- إشارة إلى مسائل:
ففي حديث ثعلبة قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا»، وفي حديث أبي هريرة قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ».
موضع الشَّاهد أنَّ كثرَة المسائل التي يحصل بها التَّشويش والتَّعلُّق بذلك، كأن يكون ديدن الإنسان هذه الاستشكالات؛ فهذا قد لا يُفيد طالب العلم في طلبه للعلم، ولذا فعليه التَّعلُّم قبل إثارة الإشكالات والاستفهامات التي تمنعه من تعلُّم العلم النَّافع.
وابن القيم لَمَّا صاحبَ الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- استقامَت له أحوالٌ كثيرة، وكان قبل ذلك عنده شيءٌ من عدم ضبطِ مسائل الدِّين، فانتفع بشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- انتفاعًا عظيمًا، وأذكر قصَّة لابن القيم -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمَّا أكثر من إيراد الاستشكالات على ابن تيمية، فقال له: "لا تَجعل قَلْبَك للإيرَادات والشُّبُهَات مثل الإسفنجة فَيَتَشَرّبها، فلا يَنْضَح إلاَّ بها، ولكن اجْعَله كالزُّجَاجة الْمُصْمَتَة تَمُرّ الشُّبُهات بِظاهرها ولا تَسْتَقِرّ فيها، فَيَرَاها بِصَفائه".
فهكذا ينبغي أن يكون طالب العلم في طلبه للعلم، وهذا مناسبة أنَّ المؤلِّف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- والإمام المُجدِّد أورَده، فطالب العلم لا يحتاج إلى إثارة الإشكالات والاستفهامات أو أغلوطات المسائل، كما سيورده المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{أحسن الله إليكم شيخنا..
هل المراد بكثرة المسائل، هو كثرة الأسئلة عمومًا؟}.
المراد هو السؤال الذي يُنافي التَّسليم، أو السُّؤال الذي مبعثه الشَّك والرَّيب، أمَّا الاستفهام يُثنَى عليه، ولهذا كان ابن عباس وغيره من الصَّحابة يستفهمون من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذكر عن ابن عباس أنَّه لَمَّا سُئِلَ بِما أدركتَ العِلم، قال: "بلِسانٍ سَؤول، وقَلْبٍ عَقُول، وفُؤادٍ غيرِ مَلُول، وكَفٍّ بَذُول، وبَدَنٍ في السَّراء والضَّراء صَبُور" ، فلابدَّ من السؤال، ولكن السؤال المذموم هو السؤال الذي مبعثه الشَّك والرَّيب والتَّعنُّت الذي يُنافي التَّسليم، أو السُّؤال الذي يُراد به حِرمان النَّاس من علم المعلم بكثرة الاستشكالات لأغراضٍ متعدِّدَة، فقد يكون غرضه إحراج المعلم، وقد يكون غرضه التَّشويش على الطُّلاب؛ فكل هذا من الأسئلة المذمومة التي تُنافي طلب العلم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امرًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلاثٌ لا يَغُلُّ عَلَيْهِنَّ: قَلْبٌ مُسْلِمٌ، إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَائِهِمْ». رواه الشَّافِعي والبيْهَقِي في "المدخل" ورواه أحمد وابن ماجه والدارِمي عن زيد بن ثابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)}.
حديث ابن مسعود هذا إسناده صحيح، وتحته مسائل:
المسألة الأولى: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَضَّرَ اللَّهُ»، هذا دعاء بالنَّضارة، وهي الحسنُ والبهاءُ في الوجه، وفيه فضل حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتبليغ هذه الأحاديث للأمَّة، وليس من شرطِ الرَّواي أن يفقَهَ الحديثَ وأن يعرفَ معناه، فعلى طالب العلم أن يحفَظ أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى تصيبَه هذه النَّضارَة، ويُبلِّغه إلى مَن هو أفقه منه.
المسألة الثانية: في الحديث فضل التَّفقُّه، والسُّؤال عن معاني أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما يُشكل منها من غريبِ ألفاظها ومعانيها والفقه في ذلك فهمًا يورثه الله -عزَّ وجلَّ- مَن يشاء ويوفقه لمن يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
المسألة الثَّالثة: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»؛ لأنَّ النَّاس يتفاوتون في التَّفقُّه، والله -عزَّ وجلَّ- يُفرِّق بينَ النَّاس، ويهبُ لمن يشاء هذا الفقه في الدِّين، فالواجب هو السُّؤال والبحث والتَّفقُّه.
ثم أردفَ هذا بقوله: «ثَلاثٌ لا يَغُلُّ»، الغل: هو الحق والشَّحناء، والمعنى هو النَّهي عن أن ينطوي قلب الإنسان عليها.
وجاء في بعض الرِّوايات: «لَا يَغلُّ»، من الوغول وهو الدُّخول في الشَّرِّ.
وفي رواية: «لَا يُغِلُّ»، من الإغلال وهي الخيانة في كل شيء.
فكل هذه من الروايات المختلفة، والحاصل: أنَّ قلب المؤمن لا ينطوي على غشٍّ في مثل هذه الثَّلاث؛ لأنَّ هذه الثَّلاث مهمَّة جدًّا لأنَّه من أسباب صلاح القلوب، فلا ينبغي لمؤمن أن يكون فيه غشٌّ في مثل هذه الأمور، وهي أنفع ما يكون لطالب العلم الشَّرعي.
أولًا: الإخلاص لله -عزَّ وجلَّ.
ثانيًا: النَّصيحة للمسلمين، فطالب العلم يحتاج أن يكون مخلصًا في طلبه للعلم، فلا ينبغي للمؤمن أن ينطوي على غشٍّ في مثل هذه الأمور، فينبغي أن يُريد وجه الله -عزَّ وجلَّ- في تعلُّمه وفي علمه، والنَّصيحَة للأمَّة؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث تميم قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» ، فينصح للمسلمين، وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: "بايعتُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على النُّصح لكل مسلم"، فواجب المسلمين أن يتناصحوا، وأن ينصح بعضهم لبعض، وأن يحب الخير بعضهم لبعضٍ، وبه يكون التَّوادُّ والتَّراحم لهذه الأمَّة.
ثالثًا: لزوم الجماعة، فإنَّ تخلُّف طالب العلم عن هذه الخصال يوقعه في المحظور، ويُخرجه من رحمةِ الجماعَة؛ لأنَّ الجماعة رحمَة، والفُرقَة عذاب.
قال في الحديث: «فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَائِهِمْ»، فإنَّ لزوم هذه الخصال الثلاث تورثه البركة.
والمعنى: إنَّ تحقق الإخلاص في القلب، والنُّصح للمسلمين، ولزوم الجماعة؛ كلُّ هذه أسبابٌ في إجابة الدُّعاء ودفع الشُّرور، وهذا يحصل في عباداتٍ كدعاء القنوت في رمضان، ودعاء الخطيب يوم الجمعة، ودعاء المسلمين بعضهم لبعضٍ، كقولنا: "اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات"، الذي ينبغي أن يكون ورد المسلم؛ لأنَّه بهذا الدُّعاء يحمل الرَّحمة للأمَّة، ودعاء بعضهم لبعضٍ بأن الله -عزَّ وجلَّ- يُصلح أحوال المسلمين، وأن يصرف عنهم الشُّرور فيه سببٌ للإجابة، وفيه ترغيب لأهل الإيمان بالدُّعاء العام؛ لأنَّ الدعاء منه دعاء عامٌّ ومنه دعاء خاص؛ فينبغي للأمَّة أن يكون لها حق من دعائك، فالأمَّة على عمومها، وأعيان الأمَّة وعلمائها وأمرائها؛ لابدَّ أن يكون للإنسان من ورده الدُّعاء لهم بأن الله يوفقهم ويسددهم وأن يصلحهم، وأن ينصر بهم الدين، فهذا معنى: «فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَائِهِمْ»، يعني: سبب لإجابة الدُّعاء، وسبب للحوط والحفظ، فربما دعوة تخرج من أحدهم يفتح الله -عزَّ وجلَّ- لها باب الإجابة، فيحصل بذلك الخير العظيم، ولهذا نقل عن بعض السَّلف أنَّه قال: "لو كان لي دعوة مجابة لصرفتها للسُّلطان" ؛ لأنَّ بصلاحه صلاح الأمَّة.
ومن علامات أهل السُّنَّة أنَّهم يدعونَ لحكَّامهم وسلاطينهم بالتَّوفيق والسَّداد، فهذا ممَّا جاء التَّرغيب فيه، وجاء به الشَّريعة، وعليه عمل السَّلف.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن عبد اللَّه بن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِلْمُ ثَلَاثٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» رواه الدارِمي وأبو داود)}.
هذا الحديث إسناده فيه ضعفٌ، ولكن معناه صحيحٌ، وما زال أهل العلم يستشهدون به في كتبهم.
المسألة الأولى التي ينبغي لها ان تُبحَث تحت هذا الحديث: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آيَةٌ مُحْكَمَةٌ»، والمقصود بها: المحكَم من القرآن، وهي قواعد الإسلام الكُبرَى.
المسألة الثَّانية: قوله: «أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ»، وهي السُّنَن التي درَجَت عليها الأمَّة من زمن الصَّحابة والتَّابعين ومَن تبعهم، وهم السلف الصالح الذي يُشير إليهم الترمذي -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- بقوله في كتابه "جامع الترمذي: "وعليه العمل"، ويقال: "وليس عليه العمل عند أهل العلم"، واستثنى في كتابه الجامع حديثين ليس عليهما العمل: حديث ابن عباس في (الجمع بينَ الظهر والعصر من غير خوفٍ ولا سفر)، وحديث (قتل الشَّارب في الرَّابعة).
فهذه المسائل هي التي يُشير إليها كذلك الإمام ابن المنذر في كتابه "الإجماع"، فينظر إلى ما عليه العمل من القرون المضَّلَة.
إذن؛ الآية المحكَمة هي: القرآن.
والسُّنَّة القائمة: هي ما يُنقَل عليه العمل، وعليه الاتفاق.
المسألة الثالثة: قوله: «أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ»، وهي علم الفرائض؛ لأنَّ الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- بيَّنَ لطالب العلم أبواب العلم النَّافع، وقد وردَ بسندٍ ضعيف عند ابن ماجه أنَّ «أوَّل علمٍ يُرفَع هو عِلم الفرائض»، ولكن الحديث فيه مقال.
وفائدة الحديث لطالب العلم: الحرص على حفظ القرآن، وتعلُّم السُّنَّة، وتعلم السُّنن القائمة التي كان عليها العمل، ومواضع الاتفاق في مسائل الدِّين؛ لأنَّ طالب العلم إذا لم يتعلم هذه المسائل يحصل عنده الشُّذوذ في العلم، فيتبنى غرائب المسائل، ويقع في الشُّذوذات من المسائل، ولكن إذا تعلَّمَ السُّنَّة القائمة يحصل له السَّلامَة من أن يشذَّ عن طريقة السَّلفِ في التَّفقُّهِ والعلمِ. وكذلك الفرائض التي أشار إليها في هذا الحديث.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي القُرآنِ بِرأيِهِ، فَلْيَتَبوأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». رواه التِّرمذي. وفي رواية: «مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» رواه التِّرمذي)}.
هذا الحديثان أسانيدها فيها ضعف ولا تسلم من المقال، ولكن لعلها تَقوَى بمجموع طرقها.
ومناسبة ذكر الإمام المجدد -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- هذين الحديثين من باب الوصيَّة لطالب العلم في التَّحذير من القول على الله بغير علم، والقول على الله بغير علم من الكبائر، بل هو قرين الشِّرك في قوله -عزَّ وجلَّ: ï´؟قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمونï´¾ [الأعراف: 33]، وقال: ï´؟ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاï´¾ [الإسراء: 36].
ومن أعظم الجرم أن يقولَ الإنسانُ في كلام الله -عزَّ وجلَّ- ما ليسَ به علم، ولهذا لمَّا سُئل أبو بكرٍ الصِّديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن قوله تعالى ï´؟وفاكهة وأباï´¾ [عبس: 31]، فهو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جهل معنى هذا الغريب من القرآن، فقال: "أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ!"، مع أنَّ غيره من الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- علم معنى الأبِّ وهو: المأكول للأنعام، فالفاكهة مأكولُ الإنسانِ، والأبِّ مأكول الأنعام من العلف وما شاكل ذلك، كما نُقل عن ابن عباس وجماعة.
موضع الشَّاهد: أنَّ أبا بكرٍ الصِّديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يتجاسر أن يفسِّر لفظةً لا يعرفُ معناها في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- وهذا يدلُّكَ على أنَّ طالب العلم بحاجة إلى أن يكون وقَّافًا، فما يُشكل عليه من المسائل فالواجب عليه أن يقول: لا أعلم، ولا أدري.
وقال السَّلفُ -رحمهم الله: "نصفُ العِلمِ: لا أَدْرِي"، وسئُل الإمام مالك -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في مسائل معدودة ومذكورة في المصنَّفات؛ فأجاب في نصفها بــ "لا أدري، ولا أعلم". فلا يَعِبْ طالب العلم أن يقول: "لا أدري ولا أعلم" فيما لا يعرفه.
ومن المُلَح أن يُذكر أنَّ من العلماء االمعاصرين الشيخ ابن باز -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى وأجزل له المثوبة- في برنامجه الماتع والنَّافع "نورٌ على الدَّربِ" الذي تجاوز الألف حلقة؛ سُجِّلَت له مسائل معدودة ومذكورة؛ فكان السَّائل إذا سأل قال الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: "لا أعلم، ولا أدري" وربَّما انتشرَت في مقاطع عبرَ شبكات التَّواصل، وهذا يدلُّك على أنَّ من العلم أن تقول لِمَا لا تعلَم "لا أدري" ولا يضيرك في ذلك، فلكَ سلفٌ في هذا، وأمَّا ما علمتَ فعليكَ أن تُبيِّنَه.
فالإنسان يحذر من وساوس الشَّيطان ومن هذه المزالق في أن يتكلَّم وهو لا يعلم -نسأل الله السلامة والعافية.
وما أحوج طلَّاب العلم لمثل هذا، ولا يَعِبْ طالب العلم أنَّه يجهل بعض المسائل، قال تعالى: ï´؟والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاï´¾ [النحل: 78].
وقول الإنسان فيما لا يعلمه "لا أعلم" دليل على حرصه وإتقانه في أنَّه لا يتكلَّم إلا بعلم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: «مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ، وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ». رواه أبو داود)}.
هذا الحديث في معنى الحديث الذي قبلَهُ، في أنَّه لا يجوز للإنسان أن يتكلَّم بغير علم، والإثم على مَن أفتاه.
وقوله: «وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ»؛ لأنَّ هذا يُخالف نصيحة المسلم للمسلم.
وفي الحديث تحذيرٌ من الفتوى بغير علم، التي يتجاسر عليها فئامٌ من النَّاس، وبعض المسائل من النَّوزال يُحتَاجُ فيها إلى المجامع العلميَّة، ويُحتاج فيها إلى التأمُّل والتَّريُّث، فتجد بعض الناس يُطلق الكلام ويتكلَّم! وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من الإنحراف عن منهج السَّلف في مسائل الإتاء ومسائل العلم؛ لأنَّ طالب العلم لابدَّ أن يكونَ سلفيًّا أثريًّا في تعلُّمه وفي تعليمه وفي فتواه، ولا يعتبر بصنيع الناس أو بواقع الناس، وبخاصة املسائل الكبار، والمسائل التي تحتاج إلى نظرٍ وتأمُّلٍ، فينبغي للإنسانِ ألا يتكلَّم فيها إلا بعلمٍ، فالصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كانوا يتدافعون الفتوى، وفي الزَّمن السَّابق كان النَّاس يرونَ الفتوى تكليف، ولكن في الأزمنة المتأخِّرَة ربَّما ظنَّ بعضُ النَّاسِ أنَّ الفتوى تشريف! وهذا من الخلل في الفهمِ، وثَمَّ بونٌ شاسعُ بينَ منهج السَّلف -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- في الفقه وبينَ منهح بعض المتأخرين، لا نقول: الكل؛ ولكن بعض المتأخرين لهم هذا المنهج -نسأل الله السلامة والعافية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن مُعَاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الغُلُوطَاتِ» . رواه أبو داود - أيضًا)}.
هذا الحديث في سنده ضعفٌ، ولكن يحسُن بنا البيان لهذه اللفظة الغريبة، فالأُغْلُوطَات: قيل هي المسائل التي يُراد بها غَلَط المسؤول من معلِّمٍ أو مُفتِي لإظهار فضل السَّائل، أو إغلاط السَّائل لبيان أنَّه دونَ المستوى المطلوب؛ وهذا يُخالف ما جاءت به الشَّريعة من النَّهي عن هذه المسائل، وأنَّ هذا من التَّكلُّف ومن التَّنطُّع المذموم في الشَّريعة.
وقيل إنَّ الأُغْلُوطَات هي: المسائل التي لم تقع؛ وهي من التَّكلُّف المذموم، ولهذا فإنَّ بعضَ المفتيين يسأل المستفتي: هل وقعت أو لم تقع؟ فإذا كانت مسألة متكلَّفة قال: لا تسأل إلا عمَّا وقعَ؛ فإنَّ طلبَ العافية ألا تسأل إلا على ما وقع.
وقيل إنَّ الأُغْلُوطَات هي: المسائل المُشكِلَة التي لا ينبغي لا للعالم ولا للمتعلِّمِ أن يُثيرها؛ لأنَّ إثارتها بلبلةٌ على طالب العلم، وإشكالٌ على المعلم، فطلَّاب العلم يحتاجون أن يُربُّوا بصغار العلم قبل كباره، وإنَّ عليمهم هذه الأغلوطات من المسائل قد يسبب لهم الانقطاع عن التَّعلُّم لأنَّها مسائل مشكلة، فيكون إثارة هذه المسائل فيها قطعٌ لهم في سبيل العلم.
وعلى كلِّ حالٍ؛ هذه وصايا نافعة للمعلِّم وللمتعلِّم، ولهذا أوردها الإمام المجدِّد -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذا الباب النَّافع، وأسأل الله -سبحانه وتعالى -للجمع التَّوفيق والفقه في الدِّين، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:47   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أصول الإيمان (2)
الدرس الثَّامن (8)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ: الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{ما زلنا في كتاب أصول الإيمان في أحاديث تابعةِ لباب التَّحريضِ على طلبِ العلم.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ: إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي، أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ، قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». رواه أحمد والدارِمي وأبو داود والترمذي وابن ماجه)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين.
وبعدُ؛ فأسأل الله -سبحانه وتعالى- لنا ولكم العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وأن يرزقنا العملَ بما علمنَا، وأن يجعل العِلم حُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا.
هذا الحديث العظيم إسناده صحيح كما ترونَ من رواية أهل السُّنن له.
وموضوع هذا الحديث وفائدته كما أورده المصنف: لبيان فضلِ طَلبِ العلمِ.
وهذا الحديث اشتملَ على فضائل لطالبِ العلم، وكما تبيَّن مِن خلال هذا الحديث أنَّ السَّائل لأبي الدَّرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي قد صحِبَ ورحلَ إلى دمشق، وجاءه هذا الرَّجل من المدينة إلى دمشق، وهي مسيرة شهرين بسير الإبل، ولا شكَّ أنَّ تلك مَسيرة طويلة، ولكن الرِّحلة في طلب العلم سُنَّة مَأثورة عن أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي الحديثِ -كما ذكرتُ- فضائل عظيمة لطلبِ العلم وللتَّعلُّم، وهذه بشرى لكل مَن طلب العلم وحرص على أن يحضر دُروس العلم وأن يَستفيد، وأن يُقيِّدَ هذا العلم، وأن يُتابع فيه، ومن ذلك مثل هذه الأكاديمية المباركة، فإنَّا نرجوا -إن شاء الله تعالى- إذا صلُحَت النِّيَّة أنَّها مجالس عِلم، وَمِنْ طَلَب العِلم الذي له نَفْعٌ مُتعدٍّ في حقِّ طلَّاب هذا العلم.
مِن فضائل طلب العلم الواردة في هذا الحديث: أنَّ طريق الجنَّة عن طريق طلب العلم سهل الوصول، ولهذا جاء في الحديث «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ»، وفي رواية: «سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
وكذلك الملائكة تحضر حلقات العلم، وذنبُ طالب العلم مَغفور في طلبه للعلم وفي تحصيله له؛ لأنَّ الملائكة تستغفر له.
ومن فضائل العلم: أنَّ نفعه متعدٍّ، ولهذا فإنَّ الحيتان في الماء تستغفر له، ولا شكَّ أنَّ ذلك أدعى لمغفرة ذنبه.
ومن فضائله: أنَّ فضلَ العالمِ وطالبِ العِلمِ على العابدِ فضلٌ عظيم، كالقمر في الإضاءة والنَّفع؛ لأنَّه يُشعُّ على مَن حولَه بالخيرِ، ولهذا شرَّفَ الله -عزَّ وَجَلَّ- طلَّاب العِلم والعُلماء بأنَّهم هم ورثة الأنبياء، ونصيبُ طالب العلم في تحصيله لا شكَّ أنَّه هو النَّصيبُ الوافر، وقد جاء في الحديث: «فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
ولا ينبغي لطالب العلم أن يُسيء الظَّنَّ في طلب العلم؛ بل عليه أن يعلم أنَّه في فضيلةٍ عظيمةٍ كما قال السَّلف: "اغدُ عالمًا أو متعلمًا، ولا تكن الثَّالث فتهلك".
فكلُّ هذه فضائلٌ عظيمة في طلب العلم.
{أحسن الله إليكم يا شيخ.
قوله: «وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ»، هل وضع الملائكة لأجنحتها على سبيل المجاز أو على سبيل الحقيقة؟}.
هو حقيقة، ووضع الملائكة لأجنحتها عُلِّلَ في الحديث بقوله: «رِضًا»، أي: على وجه الرضا بما يصنع، وقيل: إنَّ الملائكة تنزل على حِلَقِ العلم، وهذا هو المقصود بوضع أجنحتها، فتستقر في تلك الحلق، فما ظنُّكَ بحلقٍ تعمُرها الملائكة! فلا شكَّ أنَّها حِلَقٌ مباركة مغفورٌ لأصحابها إذا صلُحَت نيَّاتهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفُوعًا أنَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا». رواه الترمذي - وقال: غريب - وابن ماجه)}.
طرق هذا الحديث أكثرها ضعيفة، ولا يقوَى هذا الحديث لأن يكون حسنًا، فهو لا يخرج عن دائرة الضَّعيف.
وأفاد هذا الحديث: أنَّ المؤمن أولى بالحكمةِ من غيره.
وقيل في تعريف الحكمة: أنَّها وضع الشَّيء في موضعه.
وقيل: هي وضع الأمور في مواضعها الموافِقَة للغايات المحمودةِ منها.
ولا شكَّ ولا ريبَ أنَّ أعلى الحكمة ما وُجدَ في سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّ أقوالَه وأفعالَه مُتوافقةٌ مع الحكمَةِ من كلِّ وجهٍ، ثم يتلُو ذلك هَدْيُ أصحابِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلهذا أوردَ المؤلف هذا الحديث من جهةِ أنَّ سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُعَدُّ مِنَ الحِكمَةِ وأنَّ المؤمن أولى بها مِن غيره، وهكذا ينبغي أن يكون طالب العلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِنَّ الْفَقِيهَ حَقَّ الْفَقِيهِ، مَنْ لَمْ يُقَنِّطْ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَعْ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَلَا عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ، وَلَا قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا")}.
هذا الأثر الموقوف على عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في سنده انقطاع، ولكن معناه صحيحٌ.
والفقيه: هو الذي يَفهم مُراد الله ومُراد رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا فإنَّ الفقيه الذي يَفهم مُراد الله ومُراد رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون خطابه خطاب الشَّارع؛ فالفقيه هو الذي يملك توجيه المجتمع ووعظهم وإرشادهم؛ لابدَّ أن يكون في وعظهم وإرشادهم وتعليمهم بينَ الرَّجاءِ والخوفِ، وهذا هو الخطاب الشَّرعيِّ المطلوب الذي وردت النُّصوص به، قال الله -عزَّ وَجَلَّ: ï´؟نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُï´¾ [الحجر: 49]، فلاحظ -يا رعاكَ الله- أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- جمعَ بينَ التَّخويف والرَّجاء.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمَعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»، رواه البخاري ومسلم.
إذن يكون الخطاب بينَ الخوفِ والرَّجاء، فيكون خائفٌ وراجٍ، وهذا هو دينُ الله -عزَّ وَجَلَّ- لأنَّ الخوف والرجاء من أركان العبادة، فإنَّ أركان العبادة ثلاثة: المحبَّة والخوف والرَّجاء.
وكما ذكر ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ الخوف والرجاء كالجناحين للطائر، والمحبَّة هي رأسُ ذلك الطَّائر، ودينُ الله بينَ الخوف والرَّجاء، قال الله -عزَّ وَجَلَّ- عن أصفيائه وأوليائه: ï´؟أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًاï´¾ [الإسراء: 57]، يعني: هُم يَرجون الرَّحمةَ ويخافونَ العذاب، ولهذا فإنَّ الطَّائفة التي تُغلِّب جانبَ الرَّجاء طائفة ضالَّة وهي المرجئة، والطَّائفة التي تغلِّب جانب الخوف في خطابها فهذه كذلك طائفةٌ ضالَّةٌ عن منهج أهل السُّنَّة وهم الخوارج.
وأمَّا أهل السُّنَّة في مقام العبوديَّة هم أهل الوسط، ووسطيَّتهم إنَّما جاءت لموافقتهم النَّص الشَّرعي، فهم بينَ الخوفِ والرَّجاء، كما أنَّ الخوفَ مُستلزمٌ للرَّجاء، والرَّجاء مُستلزمٌ للخوفِ، فالرجاء في مَوضعه حسنٌ مع العمل، فلا يُمكن للإنسان أن يكونَ راجيًا ربَّه وهو لم يعمل، والخوف في موضعه حسنٌ مع التَّقصيرِ والذَّنب، فيكون الإنسان خائفًا، ولابدَّ من الجمعِ بينهما؛ لأنَّ المؤمن لا ينفكُّ عن الذَّنب، ولا ينفكُّ عن العمل بالطَّاعة، ولكن يكون بينَ الخوف والرَّجاء، وإن كان في حال الصِّحَّة يُغلِّب جانب الخوف -كما ذكر أهل العلم- ولكن لا يُغلِّب هذا الجانب حتى يقطعه عن العمل؛ لأنَّه إذا غلَّبه التَّغليب الغالي وقع في القنوط من رحمةِ الله، ولكن يُغلِّب التَّغليب الذي يحدُوه إلى السَّيرِ في طريقه إلى الله -عزَّ وَجَلَّ- فإنَّ النَّفس في حالِ الصِّحَّةِ والسَّلامَة تحتاج لأن يكون جانب الخوف أغلب من جانب الرَّجاء، حتى يكون منه العمل.
وذكر أهل العلم أنَّه يُغلِّب جانب الرَّجاء في موضعٍ آخر وهو: حال قُربِ الأجل ونزول الموت لنصوصٍ واردة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .
ومن حسن الظَّنِّ بالرَّبِّ أن يُغلِّب جانب الرَّجاء إذا كان الإنسان في حالِ قربِ الأجل، لما وردَ في الحديث القدسي أنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- يقول: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» ، فلا يظنَّ الإنسان بربِّه إلَّا خيرًا، ولهذا نُقلَ عن بعضِ السَّلفِ أنَّهم في حالِ الاحتضار وإحساسهم بِقُربِ الأجل ونزول الموت فكانوا يُستحبون أن تُقرَأ عليهم أحاديث الرَّجاء الواردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يَغلب عليهم الرَّجاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ». رواهما الدارِمِي)}.
هذا الأثر ضعيف، وهو من مراسيل الحسَن، وفي إسناده إلى الحسن مجاهيل، وكما ترى قد خرَّجه الدَّارمي وغيره، وفيه التَّرغيبُ في طلب العلم، ولكنَّ هذا الأثر لا يصح عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والفضل الذي فيه يُتوقَّف في ثبوته على ثبوتِ هذا الحديث، وكما رأيتَ فهو لا يثبت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن يَرويه أهلُ العلم ويَذكرونه في كُتب الفضائل، وفي الصَّحيح من الأحاديث غُنيةٌ عنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ قبضِ العلمِ.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ». رواه الترمذِي.
عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ: «ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ؟ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا». رواه أحمد وابن ماجه)}.
هذا الحديثان إسنادهما صحيحٌ عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصحَّحهما جمعٌ من أهل العلم.
والحديثان فيهما مسائل مهمَّة:
المسألة الأولى: أنَّ المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عقدَ هذا الباب وسمَّاه: "بابُ قبضِ العلمِ" من باب التَّرغيب في طلب العلم، وأن يكون طالب العلم على حِرصٍ في تحصيله وتعلُّمه قبل أن يُقبض؛ لأنَّ قبض العلم أمر غيبي لا نعلم متى يقع، ولا زال النَّاس في أواخر الزَّمان، فالعلم قد يُقبض، وقد يجري على الإنسان وهو حي أن يقبض العلم وهو يرى ذلك، ولهذا ينبغي أن يكون طالب العلم على حرصٍ في تحصيله.
المسألة الثانية: وردت أحاديث غير هذين الحديثين في بيان أن العلم يُقبَض، وأنَّ ذلك من علامات السَّاعة الصُّغرَى، فقد جاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه البخاري ومسلم وقد مرَّ معنا قبل ذلك: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمِ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَيُسْأَلُوا، فأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
إذن هذا الحديث يدل على ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صريحٌ في أنَّ العلم يُقبَض.
المسألة الثالثة: من علامات فسادِ الزَّمان أنَّ العلماء يُقبَضون، وهذا يُفيد طالب العلم في معرفة الفرق بينَ العالم وبينَ القارئ؛ لأنَّه ليس كل قارئ أو مُتكلِّم أو مُتحدِّث أو خَطيب يكون عَالمًا؛ فالعالم نوعٌ آخر غير القُرَّاء والفُصَحاء وأهل البيان والأدب، فقد يكثر القُرَّاء، ولكن العلماء هُم الفقهاء، العالمون بمرادِ الله ومرادِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم أهلُ خشيته، وهم المتابعون لِمَا جاء عن الله وجاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الآخذين بسنَّته قولًا وعملًا.
المسألة الرابعة: أنَّ أوَّلَ قبض العِلم يكون بموت العلماء، وآخر أوان قبضِ العلم أنَّه يُقبَض بقبضِ القرآن؛ لأنَّه صحَّ عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وموقوفًا عليه -ومثله لا يُقال بالرَّأي- أنَّه قال: "وَلَيُنْتَزَعَنَّ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، يُسْرَى عَلَيْهِ لَيْلا، فَيُذْهَبُ بِهِ مِنْ أَجْوَافِ الرِّجَالِ، فَلا يَبْقَى مِنْهُ شَيءٌ"، وورد في الأحاديث كذلك: «يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا»
{أحسن الله إليك..
قوله: «أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا»، هل يدلُّ على أن ترك العَمل بالعلم من قبض العلم؟}.
لا شكَّ! فقد وردَ في الآثار أنَّ أوَّلَ عِلمٍ يُقبَض هو: الخَشية، ونُقل ذلك عن جَمْعٍ من أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوقوفًا عليهم، فدلَّ على أنَّ مِن العِلم ثَمَّ شيءٌ ظاهر وَثَمَّ شيءٌ باطنٌ وهو الخشية، ولهذا كان السَّلف -رَحِمَهُم اللهُ- يَرون أنَّ رأسَ العلم هو الخشية، ولهذا لَمَّا تُكلِّم في مَعْرُوفُ الْكَرْخِيُّ في مجلس الإمام أحمد بن جنبل -رَحِمَهُ اللهُ- إمام أهل السنَّة، قال: "رأسُ العلم الخشية" .
وقد قدَّمنا فيما سبق أنَّ العُلماء هُم الآخذين بِسُنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قولًا وعملًا، فلابدَّ من العمل، وهؤلاء لَمَّا ذكر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اليهود والنَّصارى ذكرَ أنَّهم رُفع عنهم العلم؛ لأنَّهم لم يعملوا به، فما فائدة العلم إذا لم يكن يُصاحبه العمل؟!
وهذا يُفيد طالب العلم أنَّ العمل بالعلم تثبيتًا له، فمَن لم يعمل بما علم فهذا يعني أنَّ عِلمَه سيزول مِن قَلبه، فلابدَّ من العِلم والعمل، والعِلم سابقٌ عَن العمل، وكما نُقل في بعض الآثار التي ذكرها الخطيب البغدادي في بيان فَضل العلم في رسالته عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ عَنْهُ".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ، عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ" رواه الدارِميُّ بنحوِهِ)}.
هذا الأثر عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أثرٌ بليغ، ولكن في سنده انقطاع، وهذا الانقطاع لا يضر، فالأثر مُرسلٌ صالحٌ وله وشاهدٌ يقوَى به أنَّه منقولٌ عن عبد الله بن مسعودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وفي الأثر مسائل:
المسألة الأولى: أشارَ في الأثرِ إلى قبضِ العلم، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذه المسألة، وأنَّ العلم يُقبَض، وأنَّه يمرُّ بمراحل:
المرحلة الأولى: قبض العلماء.
والمرحلة الأخيرة: خاتمة قبضه هي رفع القرآن.
المسألة الثَّانية: أنَّ طالب العلم في طلبه قد يرَى في حينٍ من الأحيان استغناء النَّاس عنه بتوافر العلماء، لكنَّ العُلماء تجري عليهم أقدار الله -عزَّ وَجَلَّ- فلا يُسيء الظَّن بما عنده من العلم؛ لأنَّه قد يُحتَاج إليه، وهذا وَقَعَ لبعض أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
المسألة الثالثة: في الأثر عظيم الموعظة لطلَّاب العلم، وكون المطلوب منه هو تحصيل العلم وجمعه والعمل به، وقد لا يكون له في أوَّلِ أمره حاجة، ثم يُحتَاج إليه.
قال عبد الله بن عبَّاس وكان من صغار الصَّحابة كما لا يخفى: "قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَا فُلانُ هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، فَقَالَ: وَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ تَرَى، فَتَرَكَ ذَلِكَ"، ثم ذكر ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قصَّة طلبه للعلم فقال: "وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْفِي الرِّيحُ عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ".
ثم قال ابن عباس: "فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي وَقَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ"، وهذا حدث في مدَّةٍ وجيزة، فقد توفي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان عمر ابن عباس اثنا عشرة سنة، فما مكث إلا قليلًا حتَّى حصَّلَ العلم واحتاجَ النَّاس إليه، ولهذا كان عمر بن الخطَّاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُقدِّم ابن عباس ويجعله مع كبار الصَّحابة من أشياخ بدرٍ مَعَ صِغر سنَّه، وأظهر عُمر -رضي الله عنه- أمامهم قدرته وفهمه وتحصيله للعلم.
فيقول الأنصاري: "كَانَ هَذَا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي"، وكان كلاهما لم يتجاوز مرحلة الشَّباب، ولكن ابن عباس حصَّلَ العلم وصَحِبَ أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذَ عنهم العلم، لأنَّ العلم والتَّعلُّم وحفظ الأحاديث ربَّما يزول من جهة العلم إذا لم يؤخَذ عنه، وابن عباس أخذَ العلم وجمعه من حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن غيره من المسائل والفنون ممَّا يتعلق بالفتيا وما نُقل عن أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المسألة الرابعة: قوله: "إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ" فيه التَّحذير لطالب العلم، وأنَّه لا يغتر بالشِّعارات؛ بل لابدَّ أن ينظر في مَضامين تلك الشِّعارات هل هي حقٌّ أم باطل؟
وفي الأثر: أنَّ الظَّاهر قد يُخالف الباطن؛ فينبغي للإنسانِ أن ينتبه لمثل هذه المزالق، ولهذا قال: "يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ"، فواضح أنَّ الظَّاهر هُو الدَّعوة إلى كِتابِ الله، وفي حقيقة الأمر نَبَذُوه وَرَاء ظُهُورِهِم.
المسألة الخامسة: أنَّ وصايا عبد الله بن مسعود وصايا عظيمة:
أول هذه الوصايا، قوله: "عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ"، أي: عليكم بطلب العلم وتحصيله.
ثانيها: قوله: "وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ"، أي: الابتداع في دين الله -عزَّ وَجَلَّ.
ثالثها: قوله: "وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ"، والتَّنطُّع هو التَّكلُّف، وقد جاء النَّهي عنه في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» ، وأهل التَّنطُّع هم أهل الغلو في العبادة والدِّين، وهذا يصدُق على طائفةٍ خرجَت في عهدِ أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم الخوارج، لأنَّهم أهلُ تنطُّعٍ وأهلُ تعمُّقٍ، وهذا التَّنطُّع وهذا التَّعمُّق عندهم واضحٌ، وقد سألت امرأةٌ عائشةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فقالت: "مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ؟ فَقالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟"، والخوارج يرونَ أنَّ المرأة إذا حاضت فإنَّها تقضي الصَّلاة كما تقضي الصَّوم، وهذا مَظهرٌ مِن مَظَاهِر الغلو عندهم.
رابع الوصايا: قوله: "وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ" والتَّعمُّق هو المبالغة والتَّجاوز، وهو في معنَى التَّنطُّع، ولعلَّ التَّعمُّق أشدُّ من التَّنطُّع وإن كان في معناه، فهم في مرحلةٌ متقدِّمَة في التَّنطُّع.
خامس الوصايا: قوله: "وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ"، العتيق يعني: القديم، وهو: الأمر الأوَّل الذي كانَ عليه السَّلف والصَّحابة قبلَ وقوع المحدَثات والبدَع، ولهذا في قصَّة عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مع الحِلَق ذكر قوله: "عَلَيْكُم بِمَا مَاتَ عَلَيه أَصْحَابُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم عليه متوافرون" ؛ لأنه لازال يحدث النَّقص والإحداث.
فممَّا جاء الحثُّ عليه هو لُزوم الأمر العتيق، أي: الأمر العتيق من الدِّين، وهذا يصدُق على ما كان عليه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابَة، وهذا هو هَدي الفرقة النَّاجية المنصورة، أنَّه لَمَّا سُئل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنها قال: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».
{قوله: "إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ" لو ذكرتم لنا يا شيخ مَظاهر بعض أهل البدع؛ لأنَّه يكثر في هذا الزَّمان مَن يزعم أنَّه على الكتاب والسُّنَّة؛ بل يزعمون أنَّهم مِن أهل السُّنَّة والجماعة}.
لا شكَّ أنَّ أهلَ الباطلِ الذين يُروِّجونَ لباطلهم أنَّهم يُزيِّنونَ هذا الباطل بشيءٍ من الحقِّ كما قال الله -عزَّ وَجَلَّ: ï´؟زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًاï´¾ فهم يزخرفون هذا بالدَّعوة بالشِّعارات البرَّاقةِ -كما قد أسلفنا- فكلُّ طائفةٍ لا تُظهِر المعارضَةِ لكتاب الله ولا لسُنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن تزعم أنَّهم أنصارُ الله وأنَّهم حزبُ اللهِ، وأنَّهم القائمون بشريعةِ اللهِ، ومَن لا علمَ عندَع يغترُّ!
فعلى طالب العلم أن يعرف ويُميِّز، والميزان الذي توزَن به أقوال الناس وأفعالهم هو الوحي، وهو ما جاء عن الله وجاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بفهمِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، فهذا ميزانٌ دقيقٌ نستطيع أن نُميِّز به بينَ كلِّ دعوةٍ وأخرى فنعلم أنَّ هذه على الحقِّ وتلك على الباطل، ولكن المطلوب من طلاب العلم أن يستَظهِروا من هذا الخير ومن هذا الوحي حفظًا لكلام الله، وتدبُّرًا لمعانيه، وحفظًا لسُنَّةِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتدبُّرًا لمعاني ما جاء فيها من الحكمَة، ومعرفَة لِمَا كان عليه الصَّحابةِ، ولما كان عليه هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فبه يُميِّز الإنسان، ويردَّ الباطل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَن عبد اللَّه بن عمر قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقُول: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمِ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَيُسْأَلُوا،فأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»)}.
سبق الكلام عن مَضامن هذا الحديث في أحاديث سابقة، وأفاد هذا الحديث أنَّ قبضَ العلمِ يكون بقبضِ مَن يحمله وهم العُلماء، وأفاد أنَّ النَّاس بحاجة إلى مَن يُرشدهم ويدلهم، فإذا قُبضَ العلماء يحتاج النَّاس إلى هُداة؛ لأنَّ العلماء هم الهُداة، كأنَّ النَّاس يسيرون في طريقٍ ويسترشدون بالهُدَاة، فالعلماء هُم الهُداة، فإذا قُبِضَ العلماء احتاج النَّاس إلى هؤلاء الهُداة؛ لأنَّه إذا لم يوجد عالم اتَّخذَ النَّاس مَن ليس أهلًا في العلم، ويُتَّخذُ رأسًا، والرأسُ هو الذي يُصدَر عن قولِهِ وعن رأيه؛ فلهذا يصدرون عن هؤلاء الجُهَّال، ولا شكَّ أنَّ هؤلاء لم يتعلَّموا العلم، فسيجيبون ويتكلَّمونَ بما يُخالف ما جاء عن الله وما جاء عن رسوله!
وهذا يُفيدك خطر اتَّخاذ النَّاس مَن ليس أهلًا للفتوى مُفتيًا وهاديًا، ويدلُّك على أنَّ العامَّة قد يَقعون فريسةً لهؤلاء، فإنَّهم هُداة ضلالةٍ وليسوا هُداة رشاد، فإنَّهم سيتكلَّمون ويقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم كما قال الإمام أحمد، وهذا بسبب الضَّلال، ولهذا قال: «فَضَلُّوا»؛ لأنَّهم أفتوا بغير علمٍ «وَأَضَلُّوا» لأنَّهم أرشدوهم إلى غيرِ الطَّريقِ.
ولهذا فإنَّكَ تسمع في هذا الزَّمان أشياء منكرة من الفتاوى ومن مخالفةِ الإجماع بدعوى الوسطيَّة وبدعوى شعارات برَّاقةٍ، فعليكَ أن تكونَ على ذكرٍ من هذا الحديث الوارد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي لا ينطق عن الهوَى، وهو من دلائل نبوَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَبْقَى مِنَ الإِسْلامِ إِلا اسْمُهُ، وَلا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ إِلا رَسْمُهُ، مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ، وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى، عُلَمَاؤُهُمْ أَشَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، مِنْ عِنْدِهِمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ، وَفِيهِمْ تَعُودُ» رواه البيهقِي في شعبِ الإيمانِ)}.
هذا الحديث لا يصحُّ رفعه إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ- قال: "معناه صحيح، فإنَّ الأمور في آخر الزَّمان تتغيَّر، ولا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه؛ لأنَّهم لا يعملونَ به، ثمَّ يُرفَع إذا لم يبقَ إلا رسمه كما جاء أثر عبد الله بن مسعود.
وفي هذا الحديث قال: «مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ»، وهذا يصدق على طوائف من أهل البدع، أحدثوا في بيوت الله -عزَّ وَجَلَّ- البدع، فلم يعمروها بالقرآن ولا بالصَّلاة ولا بالذِّكر الشَّرعي، وإنَّما عمروها بالذِّكر البدعي وبالرَّقصِ في بيوت الله -عزَّ وَجَلَّ- بزعمهم أنَّ قُربَةٌ إلى الله -عزَّ وَجَلَّ.
وكذلك يصدق في قوله: «مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ» بناء المساجد على القبور، فهي عامرةٌ بالشِّركِ، والواجب أن تكون عامرةً بالتَّوحيدٍ كما أمرَ الله -عزَّ وَجَلَّ- بذلك في قوله: ï´؟وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًاï´¾ [الجن: 18]، ولهذا فإنَّ طُرُق الصُّوفيَّة مساجدهم عامرة بالرَّقص في بيوت الله -عزَّ وَجَلَّ- ويحسبون أنَّ ذلك من ذكرِ الله، وهكذا طوائف من أهل البدع الذين يعمرون مساجدهم بالشِّرك وبدعاءِ غير الله -عزَّ وَجَلَّ- ولا شكَّ إنَّها إذا كانت هذه حالتها فهي خرابٌ من الهُدَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باب التشديد في طلب العلم للمراء والجدال.
عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ»)}.
هذا الباب فيه أهمِّيَّة باب النِّيَّة في طلب العلم، وذكر هذا الحديث عن كعبِ بن مالك وإسناده حسنٌ.
وهذا يدعو إلى سؤال: بماذا تكون النِّيَّة الصَّالحة؟
وقد يسأل سائل: أنا أطلب العلم، فكيف لي أن أنوي الخير وأن أنوي نيَّةً صالحة؟
النِّيَّة تكون بأمور:
أولًا: أن ينوي طالب العلم بطلبه للعلم أن يعبد الله تعالى على علم؛ لأنَّ العبادة بغير علمٍ طريقةٌ غير مُرضيَّة، قال الله -عزَّ وَجَلَّ: ï´؟قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِيï´¾ [يوسف: 108]، فالدُّعاء إلى بصيرةٍ هو الدُّعاء بعلمٍ، والدَّعوة إلى الله -عزَّ وَجَلَّ- بعلمٍ، وهكذا.
ثانيًا: أنَّ طالب العلم يتعبَّد الله تَعالى بطلبه للعلم، لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما تقدَّم قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغي فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
ثالثًا: أنَّ طالب العلم يطلب العلم ليورثَه خشيةَ الله -عزَّ وَجَلَّ- لأنَّ الخشيَةَ بحسبِ العلم، ولهذا يتفاوت النَّاس في خشيتهم بحسبِ علمهم، فمَن كانَ باللهِ أعرف وأعلم كانَ لله أخشَى، والله -عزَّ وَجَلَّ- ذكر هذا في مُحكم كتابه حينما قال: ï´؟إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُï´¾ [فاطر: 28].
رابعًا: أنَّ طالب العلم يوي بطلب العلم أن يرفع الجهل عن نفسه؛ لأنَّ الإنسان لا ينفك عن الجهل، وقد أخرجه الله -عزَّ وَجَلَّ- لا يعلم شيئًا، قال -عزَّ وَجَلَّ: ï´؟وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَï´¾ [النحل: 78]، فالإنسان يحتاج لأن يتعلَّم، والله -عزَّ وَجَلَّ- فضَّل أهل العلم فقال: ï´؟قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَï´¾ [الزمر: 9]، وهذا فضيلة لطالب العلم.
وممَّا يُذكَر في هذا المجال: أنَّ الإمام أحمد سُئِلَ عن النِّيَّة في طلب العلم فقال: "أنْ تَنْويِ رَفْعَ الْجَهلَ عَنْ نَفْسِك"، وقال في موضع آخر: "العِلمُ لَا يَعْدِلهُ شَيٌء لِمَنْ صَحَّت نيَّته".
وفي الحديث: تحذير من خطرِ طلبِ العلم لحظوظ الدُّنيا، وذكر في الحديث ثلاث نيَّاتٍ فاسدَة، أو ثلاثَ آفاتٍ قد تَعرِض لطالب العلم:
ïƒک الآفة الأولى: أن يطلب العلم لمجارة العلماء على وجه التَّباهي به عليهم.
ïƒک الآفة الثَّانية: مماراة السُّفهاء، يعني مجادلة السُّفهاء من النَّاس والظُّهور عليهم بعلمه.
ïƒک الآفة الثَّالثة: أن يريد طالب العلم صرفَ وجوه النَّاس إليه ليُقال عالم، ولا شكَّ أنَّ هذه أخطار تتهدَّد طالب العلم.
ولهذا فإنَّ أوَّل ما يُقضى به بينَ الخلائق كما جاء عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة «وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ إِنَّكَ عَالِمٌ، وَقَدْ قِيلَ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ»، نسأل الله السَّلامة والعافية!
كذلك في حديث آخر عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلانُ! مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» .
وهذا يدلُّ دلالة عظيمة على أنَّ طالبَ العلمِ بحاجةٍ إلى النِّيَّة الصَّالحةِ، وأن يحذَرَ من هذه النِّيَّة الفاسدة، وأنَّه بحاجة إلى العمل بما علمَ، حتى يورثَه الله -عزَّ وَجَلَّ- علم ما لم يعلم.
ونسأل الله لنا ولكم وللإخوة والأخوات من المشاهدين والمشاهدات العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:48   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أُصُول الإيمان (2)
الدَّرسُ التَّاسِع (9)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من حديث أبي أمامة الباهلي في باب "التَّشديد في طلب العلم للمراء والجدال".
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن أبي أمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعا: «ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أوتوا الجدَلَ» ثمَّ تَلَا قَولَه تعالى: ï´؟مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَï´¾. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا غله إلَّا الله وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، بلَّغَ البلاغَ المبينَ، وتركَ هذه الأمَّة على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزغُ عنها إلَّا هالكٌ.
وهذا الحديث من الوصايا النَّفيسَة لأمَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وإسناده حسنٌ من جهة الصِّناعة الحديثيَّة.
وهذا الحديث العظيم يُفيدُ طالبَ العلم ويبين أنَّ مقصود العلم هو الانتفاع، وليس المقصود من التَّعلُّم والتَّعليم هو المماراة والجدال، والظُّهور على الآخرين بعلوِّ العلم، ولهذا فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّنَ في هذا الحديث أنَّه ما ضلَّ قومٌ بعد هدًى، وهذا يجعل الإنسان في وجل وفي خوفٍ من الضَّلال، فإنَّ من أسباب الضَّلال للأمم السَّابقة بعدَ أن منحهم الله تعالى الهُدَى والنُّور والبيان؛ أنَّهم تسلَّطَ عليهم الشَّيطان بأن أوقع فيهم الجدال، ولهذا فإنَّ الجدل والمراء ليسا من صفات أهل الإسلام، ولا من أهل الإيمان؛ بل هو مَذموم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا تَلا هذه الآية ذَكَرَ أنَّ من صفات المشركين وهذا في زمن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المجادلة والمخاصمَة لا لمعرفة الحق، ولكن لأجل المعارضة فقط، فهم لا يهدفون إلى التَّعلُّمِ ولا إلى معرفة الحق، والله تعالى عالمٌ بما في النُّفوس وبما في النِّيَّات، ولهذا كان منهم المجادلة في أمر عيسى بن مريم؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أنزل قوله: ï´؟إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَï´¾ [الأنبياء:98]، يعني: أنتم والذين تعبدونَ ، فــ "ما" هنا موصولة؛ فجادلَ أهلُ الشِّركِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: عيسى بن مريم تعبده النَّصارى، فقد رضينا أن يكون مع معبوداتنا اللات والعزَّى في النَّار؛ جدالًا وخصامًا، وإلَّا فهم يَعرفون أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- اختصَّ عيسى بن مريم، ولم يأتِ عيسَى بأن يُعبَد، بل أتى بأن يُعبدَ الله وحده.
والمقصود أنَّهم فعلوا ذلك مجرد مُعارضة، فأنزل الله تعالى الاستثناء في ردِّ كلامهم: ï´؟إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىظ° أُولَظ°ئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا غ– وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَï´¾ [الأنبياء:101]، الآيات.
وهذا يُفيد طالب العلم أن يحذر من الجدال والمراء، وألا يكون ديدنه في طلبه للعلم وفي مجالسه المجادلة والمراءاة، ولهذا ينبغي أن يكون الحرص كل الحرص على التَّعلُّم والانتفاع، وإذا لحَظَ ممَّن يحصل بينه وبينهم الحوار أنَّه يُجادل؛ فعليه أن يُنبهه أنَّ مقصوده هو معرفة الحق ومعرفة الأمر على وجهه وليس المجادلة؛ لأنَّ المجادلة مذمومة كما ذكر الله -عزَّ وجلَّ- وهي داخلة في المراء.
ومن المسائل المتعلقة بهذا الحديث: أنَّه ينبغي أن يُفرَّق بين الجدل، فمنه ما هو محمود، ولكنَّه في نطاقٍ ضيِّق، ومنه ما هو مذموم.
أمَّا المذموم فهو كما تقدَّم: هو الذي يكون فيه تعالٍ على الخصم، كأن يُظهر في جداله تفوَّقَه العلميِّ على الآخرينَ، ولهذا فإنَّ بعض طلاب العلم قد يُثير مسألة من المسائل لأجل أنَّ عنده محفوظ فيها، والله -عزَّ وجلَّ- أعلم بالنِّيَّات، فينبغي للإنسان أن يحذر من هذا، ومن إبطال الشَّيطان لعمله، كذلك أن يسعَى في إبطال قول الخصم الذي يُجادله لمجدر تهوينه من الرَّأي ولإظهار أنَّه متعالٍ عليه في الفَهمِ والمعرفةِ؛ فكل هذا من الجدال المذموم.
أما الجدال المحمود فهو مُقيَّدٌ في النَّص الشَّرعي بأن يكون بالتي هي أحسن، وهو أمر الله -عزَّ وجلَّ- لأنَّ الإنسان قد يحتاج إلى الجدال، وهو الحوار والمناقشَة.
قال -عزَّ وجلَّ: ï´؟ادْعُ إِلَىظ° سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ غ– وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُï´¾ [النحل:125]، يعني: اختَر في حواركَ معهم وفي مناقشتك لهم الطَّريقة الحُسنَى، وهي أن يكون من تحاوره يعلم منك، وتُظهر له أنَّ مرادكَ الوصول إلى الحق.
كذلك من الجدال المحمود: أن تحترم مَن تناقشه في مسألة أو تحاوره فيها، وألا تُسفِّهَ رأيه، وقد جاءت أخرى ولكنَّها تتعلق بأهل الكتاب، لأنَّ أهل الكتاب عندهم بقيَّةٌ من علم، قال الله -عزَّ وجلَّ: ï´؟وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُï´¾ [العنكبوت:46].
والجدال وسيلةٌ للوصول إلى الحقِّ، ويُحتَاجُ إليه، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ- في مُحكَمِ كتابِهِ عن نبيه نوح: ï´؟وا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَاï´¾ [هود:32]، إذن الأنبياء يحتاجون إلى الجدال، ويحتاجون إلى المناظرة والمناقشة، وهذا وقع من أنبياءِ الله، وما وقع من نوحٍ وقع من إبراهيم في حواره مع ذاك الطَّاغية الذي أنزل الله -عزَّ وجلَّ- فيه آيات تُتلَى: ï´؟أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ غ– قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ غ— وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَï´¾ [البقرة:258]، فهذا حوار وجدال، ولكن جدالٌ بالتي هي أحسن، وحصل بهذا الجدال والحوار ظهور الحقِّ عل الباطل، فهذا المدَّعي للربوبيَّة أحله نبي الله إبراهيم إلى سنَّةٍ كونيَّةٍ لا يستطيعُ أن يُغيِّرها، وأنَّ الشَّمس تطلع من المشرق ثم تغرب من المغرب، فقال: إن كان لك التَّصرُّف والتَّدبير فلتُغيِّر هذه السُّنَّة، فبُهِتَ الذي كفر، وهذا من أحسنِ ما يكون من الجدال.
إذن الجدل المذموم واقعٌ من الكفَّار بعدَ ظهور دلائل الإيمان، والله -عزَّ وجلَّ- أخبرَ عن أهل الشِّركِ أنَّهم في مجادلتهم مع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّما يُخاصمون ويُجادلون، وإلَّا فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أقام البراهين والدَّلائل على أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو المستحق للعبوديَّة، وهو المستحق لأن يُعبَدَ وحده، وعلى بطلان هذه الآلهة، وجادلهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأدلَّة الشَّرعيَّة، وبالبراعين العقليَّة، وبالفطرَة السَّليمَة، وبواقعهم وحالهم -كما تقدم- في براهين الألوهيَّة.
وهذا يدعونا إلى ان نعرف أنَّ الجدال وسيلة من وسائل ظهور الحق، ولهذا قد يحتاج الإنسان لجدالٍ على المخالفين لأهل السُّنَّة والجماعة، وهم مَن يسميهم السلف بــ "أهل الأهواء"، وهذا الجدال مُقيَّد بأهل الأهواء بأن يكون المقصود منه ظهور الحق على الباطل، وأن يُحتَاج إليه، فقد يُحتاج إليه في زمنٍ دونَ زمنٍ، وأغلب ما نُقل عن السَّلف -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- النَّهي عن جدال هؤلاء؛ لأنَّ حقائق السُّنَّة وبراهين السُّنَّة لا تحتاج إلى جدال، فالحق واضحٌ وبيِّنٌ لمَن أراد أن يضربَه، ولأنَّ منهج التَّلقِّي عند أهل الأهواء يختلف عن منهج التَّلقِّي عند أهل السُّنَّة والجماعة، فإذن ما الفائدة المرجوة ممَّن يُخالفك في أصلك الذي أنت تدينُ الله -عزَّ وجلَّ- به!
فأهلُ السُّنَّة يدينون لله بأنَّ النَّقل حاكمٌ على العقل، وأهل الأهواء يدينون بأنَّ العقل حاكمٌ على النَّقل؛ فهذا اختلافٌ في منهج التَّلقِّي، وهذا الذي يجعل جُملة مِنَ السَّلف ينهونَ عن مجادلة أهل الأهواء، كما قال عمر بن عبد العزيز: "مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ" .
وفي زماننا هذا تعلَّمنَا من مشايخنا ومن اهل العلم أنَّهم إذا دُعُوا إلى المناظرات والمجادلات لا يكون منهم هذا، وإنَّما الحق ظاهر، فإنَّما تحتاج إلى المناظرة في أوقاتٍ مُعيَّنَة ، وفي وقت غلبة الباطل على الحق؛ ولهذا فإنَّ الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمَّا دُعيَ إلى مناظرة مع أحد من أهل الأهواء والبدع في زمانه امتنع لهذا الملحظ، فإنَّ السُّنَّة ظاهرة، والعقيدة ظاهرة، وبراهين التوحيد ظاهرة، فما الحاجة إلى المناظرة! هو يُريد أن يُظهر بدعته بهذه المناظرة، وإلَّا لو كان طالبًا للحقِّ فإنَّ الحق موجودٌ بحمد لله في الوحيين، في كتاب الله، وفي سنَّة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ ما الفائدة في أن تُناظِر شخصًا بينك وبينه فرقٌ في منهج التَّلقِّي، فهذا يَدين بمرجعيَّات مختلفَة عن مرجعيَّة أهل السُّنَّة، له مسندٌ خاصٌ به يُشكِّك في داواوين السُّنَّة، ويَقدح في أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما الفائدة من النِّقاش؟!
فليس ثَمَّ عودٌ إلى أصل يُمكن أن يُحتَكم إليه ويُرجع إليه، فما الفائدة من هذه المناظرات إذن؟!
ومن المسائل التي تتعلق بهذا الحديث: أن يُعلم أنَّ من الجدال المذموم ضربُ النُّصوص بعضها ببعضٍ، ولهذا فإنَّ الواجب رَد المتشابه من المسائل إلى المُحكَم.
وقد يكون الجدال من خلال هذا المضمون، وهو التعلُّق بالمشتبهات والإشكال فيها، ولهذا جاء النَّهي من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن المجادلة في هذا، ولهذا خرج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم يتنازعونَ في قراءات القرآن، وَتَعْلَم أنَّ القرآن أُنزل على سبعةِ أحرفٍ، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقرئ أصحابَه على هذه السبعة، فكلٌّ يزعمُ أنَّه سَمِعَ من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكلٌّ يقرأُ على وجهٍ يُخالف الوجه الآخر، فغضب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا احتكموا إليه، وهذا يُلحَظُ في مسألة الجدال.
كذلك من الجدال: التَّنازُع في مسائل باب القضاء والقدر، فقد يُستدل بآية في القدر، ويستدل الآخر بآية أخرى، فهذا من الجدال، وقد حدث هذا في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الجدال، فخرج عليهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم يَتَنَازعون في القدر، والتَّنازع مَبدؤه الاحتكام إلى النُّصوص؛ لأنهم صحابة -رضوان الله عليهم- يَعرفون أنَّ المرجعية في هذه الأمور إنما تكون للنصوص؛ فغضب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: «أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟» ، وظهر في وجهه الغضب وجاء عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ)، غضبًا.
والمطلوب هو التَّسليم، وترك هذا الجدال.
وقد تُدعَى إلى مجلسٍ أو يحصل حوار؛ فتلحظ مِن المخالف في مَسألة مُعيَّنةٍ المجادلة، وأنه ليس مُريدًا للحق، فالواجب على المؤمن عند هذا أن ينتهي عن الجدال، فإنَّ الجدال لا فائدة منه.
ونضرب لك بنصٍّ شرعي يدل على ذلك: حينما يُستدل -مثلًا- بشيءٍ قد كتبه الله -عزَّ وجلَّ- عليك، ويُستند إليه على أنَّه عذر لك في ترك ما أوجب الله عليك، أو في ترك سُنةٍ من السُّنن، أو في ترك فضيلةٍ مِنَ الفضائل، وهذا حدث في عهد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد طُرق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاطمة وعليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- ليلًا، فقال: «أَلَا تُصَلِّيَانِ؟»، فقال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا)، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمرهم بقيام الليل ويحثهم عليه، وكلام علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في هذا الموضع جدلًا، لا شكَّ أنَّ الأنفس بيد الله -عزَّ وجلَّ- ولكن المطلوب هو فِعل السَّببِ في القيام، فلم يُناقشه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يُحاوره، وإنَّما انصرف -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال علي ذلك، وهذا أدب نبوي، فحينما تسمع مِنَ المخالف الاستدلال بمثل هذه الأمور أو غيرها، وأنه قد يحيد؛ لأنَّه ليس بمعصومٍ؛ ولأنَّ مِن طبيعة النفس أن تطلب العذر فيعتذر، وهذا الاعتذار غير مقبول.
قال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: ï´؟وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًاï´¾) . فمن طبيعة النفس طلب المعاذير.
ولهذا فإنَّ الإنسان ينبغي له أن يتنبَّه لمثل هذا، وهذا ما يُسَمَّ في عِلمِ النَّفس "الحيل النفسية"، وهي ثقافة التبرير، تبرير المعصية، تبرير التكاسل عن الطاعة، وأشياء كثيرة جدًّا ينبغي أن يحذرها المسلم؛ لأنَّ هذا مِن مَداخلِ الشيطان.
مِن الأدب النَّبوي أنَّكَ إذا عرفتَ أنَّ الشَّخص الذي تُحاوره يستدلّ عليك بمثل هذه الأمور فعليكَ الانتهاء؛ لأنَّ هذا أسلم، فكم مِن مجادلةٍ وحوارٍ أعقبهما الخصامٌ وتنافرُ القلوب، والسُّكوتُ يكون في ذلك الوقت هو الأولى.
{لعل الانصراف عن المجادلة يُربِّي نفس من يُجادِل أكثر من الدُّخول في المجادلة، كما حصلَ مع عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ}.
صحيح، ولهذا نُقِلَ هذا عن علي وحُفِظَ، ورواه علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من باب تعليم الأمَّة؛ لأنَّ هذا مِن آداب النُّبوَّة، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُمثل الأدبَ والخلُقَ الكريم، قال تعالى: ï´؟وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍï´¾ [القلم: 4].
وهذا الذي ينبغي للإنسان أن يتأسَّى فيه بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبخاصَّة أنَّ النَّفس تُحب العلوَّ، فكون الإنسان يُضعِف أمرَ العلو في النَّفس فهذا شيءٌ عظيمٌ، وهذا من فضائل ومن كريم السَّجايا التي ينبغي للمسلم أن يتخلَّقَ بها؛ بل هي وعدٌ مِن الله -عزَّ وجلَّ- بالخير في الآخرة، قال تعالى: ï´؟تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَï´¾ [القصص:83]، فهذا مَوعود الله -عزَّ وجلَّ- لك في الآخرة، وهو العلو على المخاصم والمُجادِل، فتسكت طلبًا لِمَا عندَ الله -عزَّ وجلَّ، ولهذا وردَ في الأثر: «أَنا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا» ، فقد يتحوَّل الجدال إلى مراء، والمراءُ مِن أنواعِ الجدالِ، فإذا تحوَّل الجدال إلى مِراء فإنَّ الأدبَ النَّبوي حينئذٍ الانتهاء، والانتهاء قد يكون فيه قطعٌ للخصام، فهذه أخلاق النبوَّة، قال تعالى: ï´؟لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌï´¾ [الأحزاب:21]، نسأل الله أن يُوفقنا ويوفق جميع المسلمين إلى التَّأسِّي بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي يُمثِّل الخلق الكريم.
{أحسن الله إليكم..
ذكرتم أنَّ جدال الأنبياء لقومهم مِن طرائق مَعرفة الحقِّ، وذكرتم أيضًا أنَّ الجدال من طرائق أهل الباطل؛ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أوتوا الجدَلَ» ، فكيف نُفرِّق بين جدالِ أهلِ الحقِّ وهم الأنبياء وأتباعهم، وبينَ جدالِ أهلِ الباطل؟}.
أهل السُّنَّة هم خُلاصَة أهل الإسلام، ويُمثِّلونَ الحقَّ لمَن أرادَ الحقَّ، ومرجعيَّتهم إلى هذه النُّصوص، وأمَّا أهل الأهواء فإنَّ الجرابَ الذي ينزعون إليه هو جرابُ الشُّبهاتِ والجدالِ والمناقشَة، ولهذا فهُم يُحبُّونَ أن يُظهِرُوا هذا الجدال؛ لأنَّ أهدافهم وأدبيَّاتهم تقوم على التَّشكيك، إمَّا التَّشكيك في أصلِ الإسلام، وهذا يفعله أهل النِّفاق، وإمَّا التَّشكيك في ثوابت أهل السُّنَّة والجماعة، ولهذا لا تجدهم إلَّا أنَّهم يَستهدفون دواوين السُّنَّة بالتَّشكيك، يَستهدفون القضايا التَّاريخيَّة بالتَّشكيك، يَنزعون إلى أحاديث مُعيَّنة للتَّشكيك، فهذا هو الجراب الذي يُشكِّكونَ به.
ومثال لذلك: تجد الآن أنَّ المناوئين لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قديمًا وحديثًا ينظرون إلى مسائل مُعيَّنةٍ ويُحاولون أن يُثيروا الغبار عليها، دونَ المسلَّمات والقواعد والآثار والنَّتائج العظيمَة التي أثَّرَت في هذه الدَّعوة، فهذا ميدانٌ واسع، وبالتَّالي فالإنسان يعرف أنَّ منهج أهل السنَّة هو ترك الجدال، فالجدال يُحتاج إليه في مواضع وتقارير مُعيَّنَة وله آدابٌ، فالمطلوب هو البلاغ والتَّبيلغ وإظهار الحق، وفرقٌ بينَ الحوار والنِّقاش الذي يُرَادُ فيه ظهور الحق، وبينَ الجدال والمحاورَة التي هدف المتحاوِرَين فيها هُو المغالبة والمُخاصَمة -كما ذكرنا.
ولهذا نهى السَّلفُ عن هذا الجدال المذموم، كما ستأتي الأحاديث -إن شاء الله- بشيءٍ من ذلك.
{ثَمَّة أمرٍ يا شيخ!
بعضُ مَن يكون مُتحمِّسًا لنُصرَة الدِّين، ولا يكون عنده علم شرعي؛ يدخل بعض مواقع الشُّبهات بهدف المجادلة والذَّبِّ عن الدين؛ فهل هذا الأمر محمود؟}.
لا؛ هذا غيرُ محمودٍ، وهذا يُلجأ إليه في مَواضع مُعيَّنة.
ولهذا نقول: إنَّ الإنسان لابدَّ أن يستوعبَ اليقين الذي هو موجود، والاستكثار من اليقين أولى من الاستكثار من الشَّك، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: "مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ".
ولو رجعنا إلى التَّاريخ نجد أنَّ مِن أسباب ضلال الجَهم بن صفوان أنَّه كان يُناظر طائفةً من الدُّهريَّة، ولو رجعتَ إلى رؤوس أهل الأهواء تجد أنَّ جملةً منهم إنَّما جاءهم الأمر من هذه الخصومات، فالإنسان يحتاج أن يستكثرَ مِن اليقين ومِن الوحي، وفي الوحي غُنية عن هذه الخصومات والمجادلات، ولهذا فإنَّ ثقافةَ الحوارات والمناقشات ثقافةٌ واردةٌ على أهل الإسلام وعلى أهل السُّنَّة، فأهلُ الأهواءِ لن ينزعونَ عن أهوائهم إلَّا مَن كان منهم مُريدًا للحقِّ وأراد الله هدايتَه، فينبغي ألَّا يُشغَل النَّاس بمثل هذه الحوارات؛ لأنَّ هذا ليس مِن طريقة السَّلف -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في الجدالِ والخِصَام، فالمطلوبُ هو البلاغ والبيان، ومَن أراد الحق فهذا هو الحق، وإلَّا فإنَّ أهل الباطل لهم موانع، وأهل الكفر والطغيان لهم أسباب مُتعددة في الضَّلال، ولكن الحديثَ أشارَ إلى قضيةٍ؛ وهي أنَّ الجدالَ يقطعُ عن العمل، والمطلوبُ هو العمل وليسَ الجدال، والجدالُ يجعلك تنافح عن القضيَّة التي أنت تُجادل فيها فيقطعك عن العملِ، فدينك فيه واجبات وفضائل، فتنقطع عن هذا بالجدال والحوار، والدَّعوة بابها مفتوح، وأنتَ لستَ بحاجةٍ إلى أن تُجادل في أي قضيةٍ كقضية النَّصارى، وإنَّما عليك البيان والإيضاح، وما لم تعلمه من الجدال فإنَّك تتركه، والحقُّ له قبولٌ وله نورٌ يَقبله كلُّ مُريدٍ له، ودين الله ظاهر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ»، متفق عليهِ)}.
هذا الحديث في الصَّحيحين.
ومعنى قوله: «الْأَلَدُّ»، أي: الأعوَج في الجدال، والذي يُراوغ عن الحقِّ.
وقوله: «الْخَصِمُ»، صفةٌ له، يعني: مُولَع بالخصومَة، وهذا في بيان أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يُبغض هذه الصِّفَة في الرِّجال، وقد جاءت الأحاديث بالتَّحذير من الخصام والجدال.
والألد في خصومته غالبًا يَفْجُر في الخصومَة ويكذب، وهذا من صفات أهل النِّفاق، وقد جاء النَّهي عن هذا، وأنَّ الفجور في الخصومة من علامات النِّفاق، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»، والمخاصمَة نوعٌ من أنواع الجدال، وأبغض الرِّجال إلى الله الألد في الخصام، وهذه صفة تحدُث في بعضِ الأشخاص، وعليه أن يُعالج نفسه.
فاللَّدود هو كثير الخصام والمناقشَة، ما ينفك عن المخاصمَة والمناقشة، كل شيء يُريد أن يُخالف به، وهذه من الأخلاق المذمومَة التي جَاء ذمُّها في النُّصوصِ الشَّرعيَّة، فمَن كانت فيه هذه الخصلة فعليه أن يُعالج نفسه، وقبيحٌ بالإنسان أن يكونَ خَصِمًا لدودًا، فالإسلام والأخلاق الكريمة تنهى عن المخاصمَة والمخالفَة والجدال ومحبَّة المخالفَة في كلِّ شيءٍ والمناقشَة في كل شيء، وسببها عِللُ النَّفس البشريَّة.
ومن المعالجة: أن يعرف أنَّها صِفةٌ مَذمومةٌ فيتخلَّص منها -نسأل الله السَّلامة والعافية.
{أحسن الله إليكم يا شيخ..
بعضهم يقول: انا أطالب بحقي؛ فهل تتنَافى المطالبة بالحقِّ في كلِّ شيء مع النَّهي عن الجدال؟}.
المطالبة بالحق مَطلوبة، ولكن بالتي هي أحسن، قال -عزَّ وجلَّ- في أهل الكهف: ï´؟وَلْيَتَلَطَّفْï´¾ [الكهف:19]، فإذا طالبتَ بحقِّكَ فكن مُتلطِّفًا بالمطالبَة، وعليك بالألفاظ الحسَنة التي تستطيع أن تصل بها إلى الحق، فقد يكون لك حقٌّ ثابتٌ فتُطالب به بطريقة غَيرِ مَقبولة فيكون هذا من سوء الأدب.
وقد حدثنا الشيخ الصالح الأطرم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمَّا كنَّا ندرسُ عليه، أنَّ الشيخ محمد بن إبراهيم مُفتي الدِّيار -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو شيخٌ للشيخ صالح، يقول: إنَّ أحد القضاة جاء إليه في مَسجده، فقال: أنا يا شيخ ما ترقيتُ وأنا كذا وكذا...، وفلان ترقَّى، وفلان ترقَّى!
انظر إلى المشايخ كيف يُعلمون الآداب، وعِلمُ الأخلاق يُستفاد من الأشياخ والجلوس معهم؛ فقال الشَّيخ محمد: يا ولدي، طالب بحقِّكَ وما عليك من النَّاس.
وهذا أدبٌ في المطالبة، وفي المجادَلة والخِصام طالب بحقك، وما عليك من الناس، يعني هذا القاضي ذكر فلانً وفلانًا ليُثير مَن يُطالبه بحقه عليه، كأنَّه مظلوم، وكأنَّه يقول: أنت ظالمني، وأنت كذا...!
فأنت تُطالب بحقك بالتي هي أحسن، وتلطَّف في الخطاب، والله -عزَّ وجلَّ- أمرَ موسى وهارون بالتلطُّف، قال تعالى: ï´؟فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىï´¾ [طه: 44]، فالقول اللَّين خُلقٌ ينبغي للإنسان أن يتخلَّق به، فيُجمِّل ألفاظَه، حتى في الخطابات التي يكتبها الموظَّفين فيما يتعلَّق بحقوقهم يجب عليهم أن يتلطَّفوا في عباراتهم، فأنت لا تعرف أثرَ اللفظِ في نفوس النَّاس، ولا تُقدِّر أثر الخطاب الجيِّد في نفسِ مَن يقرأه، فهذه آداب ينبغي للإنسان أن يتحلَّى بها.
وفي دوائر أهل السنَّة قد تكون فيه مسائل خلافيَّة، ويكون مثلًا الحق معك وثابتٌ بيقينٍ ولكنَّك ما تُحسِنُ إظهارَ الحقِّ بكونك تُسيء الأدب، فيظهر المخالف بأدبه عنك؛ لأنَّ النَّاسَ يُحبِّونَ الخير واللُّطف ويُحبُّونَ الأدب، ويُثنونَ عليهم بالأخلاق والأدب، وإذا ناقشتَ قضيَّةً فكُن كذلك، فكلُّ شخصٍ قال بقولٍ فله أتباع، وأمَّا الخروج عن مجالِ النِّقاش والكلامِ فلا.
ولهذا فإنَّ ممَّا ينبغي أن يعرفه دُعاة الحقِّ أنَّ إبطال الباطل في كثيرٍ من الأحوال لا يحتاج إلى تسميَّات، وفي قليل من الأحيان يحتاج إلى تسميات، والمطلوب هو إيضاح الحق وإبطال الباطل، وهذه طريقة تعلَّمناها مِن مشايخنا ومِن علمائنا، وهذا هو منهجُ أئمَّة الدَّعوة، ففي بعضِ المواضع يُسمَّى فلانٌ، وإلا ففي المواضع الأكثر تجد أنَّه يُحاول أن يبعد عن التَّسميَّات وما شَاكلَ ذلك، فلا تنتصب إلى الدِّفاع وبيان الحقِّ إلَّا وقد تخلَّقتَ بهذه الآداب وعرفتها، والتُّراث الإسلامي حافل بنماذج في الرُّدود والرَّد على المخالف، والرَّد على المخالف، وهو سِمَةُ الأدبِ والحوارِ بالتي هي الأحسن، والله -عزَّ وجلَّ- قال عن أهل الكتاب: ï´؟وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُï´¾ [العنكبوت: 46]، فما بالك بأهل الإسلام! فهم يحتاجون إلى الجدال بالتي هي أحسن.
والله -عزَّ وجلَّ- خاطب الناس جميعًا وليس للمسمين فقط، فقال: ï´؟وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًاï´¾ [البقرة: 83]، وقال: ï´؟وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُï´¾ [الإسراء: 53]، وهذا خطاب لأهل الإيمان أن يكون خطابهم بالتي هي أحسن.
{البعض يستشكل يا شيخ ويقول: بعضهم مُبتدع بدعة غليظة، كيف لا أسمِّيه، وكيف لا أزجر في الألفاظ؟!}.
المطلوب هو الأدب مع كلِّ النَّاس كائنًا مَن كان، وقد يُسمَّى المخالف ولكن في مواضع، بحسب ما يقوم به الشَّخص، وفي بعض الأحيان قد تكون التَّسمية ليس لها حاجة، وهذا ما يُسمُّونَه بالسِّياسة الشَّرعيَّة، والفقه الشَّرعي، فقد تكون التَّسمية ليس لها داعٍ؛ لأنَّ التَّسمية في بعضِ الأحيانِ ربَّما تُظهر البَاطل الذي عنده، فالأصل في خطاب المسلم وغير المسلم المخالف أن تكون بالتي هي أحسن، وليس بالزَّجر، ولا بمثل هذه الأمور، فهذا هو خطاب الشَّريعة، وهذه هي آثار النُّبوَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن أبي وائلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِأَرْبَعٍ، دَخَلَ النَّارَ -أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ- لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ". رواه الدَّارِمي)}.
هذا الأثر إسناده ضعيف عن عبد الله بن مسعود، وهو موقوف عن عبد الله بن مسعود، ولكن الشَّيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول عن هذا الأثر: "مَعْنَاهُ صحيحٌ".
وفيه مسألة مُهمَّةٌ جدًّا، وهي: أهمِّيَّة النِّيَّة الصَّالحة في طلبِ العلم، فقد ذكر عبد الله مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جملةً من النِّيَّات الفاسدة، أو جملةً من آفات طلبِ العلم:
الآفة الأولى: مُباهاة العلماء، أنَّه يُريد أن يُباهي بالعلم، وإنَّما ينبغي لطالب العلم أن لا يتعلَّم العلمَ على وجهِ التَّباهي والتَّفاخر.
الآفة الثَّانية: مماراة السُّفهاء، يعني: يتعلَّم هذا العلم لأجل الممارة، فيُماري ويُجادل ويُخاصم، ويظهر على مَن خالفَه، فهو تعلَّم لا لأجلِ أن يعملَ، ولا لأجلِ أن يرفعَ الجهلَ عن نفسِهِ، وإنَّما تعلَّم ليُماري، وهذا فيه المراء المذموم.
الآفة الثالثة: قوله: "أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ"، يعني طلب العلو ويُشار إليه بالبنان ويُقال عالم، كما جاء في الحديث: «وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ إِنَّكَ عَالِمٌ وَقَدْ قِيلَ»، وفي الحديث: «وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ»، يعني: حظُّك مِنَ الدُّنيا قد حصلَ، ومع ذلك ما ينفعك هذا العلم.
الآفة الرابعة: قوله: "أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ"، أي: لينال القُرْبَ منهم، وكلُّ هذه نيَّات فاسدة، وكم كان ذلك في الزَّمان السَّابق إلى أن تقومَ السَّاعة؛ قد يتعلَّم العلمَ لأجلِ أن يصِلَ إلى منزلةٍ معيَّنةٍ عند الأمراء، أو لينال حظة عند السَّلاطين؛ فكلُّ هذا العلم الذي طلبه وبالٌ عليه -نسأل الله السَّلامة والعَافية.
ولهذا ينبغي أن يُعلَم أنَّ العلم شرفٌ لا يُعادله شرفٌ لمَن صحَّت منه النِّيَّة، وتقدَّم أنَّ النِّيَّة الصَّالحة في العلم أن يَنويَ بالعلمِ أن يرفعَ الجهلَ عن نفسِه، وأن يتعلَّمَ ليعملَ، ويدعو إلى الحقِّ الذي تعلَّمَه، وهذا يحتاج من طالب العلم إلى تعاهدٍ، لأنَّه ربَّما لحقَه شيءٌ من الفساد؛ فلابدَّ من تجديد النِّيَّة والمجاهدَة على ذلك.
وخيرُ ما يُحصَّل به النِّيَّة الصَّالحة هو الدُّعاء؛ فإنَّ طلب ما عند الله -عزَّ وجلَّ- أن يورثه الإخلاص لا شكَّ أنَّه من أسباب توفيق العبد للعم النَّافع.
ونكتفي بهذا القدر، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:48   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أُصُول الإيمان (2)
الدَّرسُ العَاشِر (10)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{ما زلنا في باب: (التَّشديدِ في طَلَبِ العِلمِ للمِرَاءِ والجِدَالِ).
قال المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (وعن ابنِ عباسٍ -رضي اللَّه عنهما- قال لقومٍ سمِعهم يتمارون في الدينِ: "أمَا علِمتم أنَّ لله عبادًا أسكتتهم خشيةُ اللَّه مِن غيرِ صممٍ ولا بكمٍ، وإنَّهم لهم العلماء والفصحاء والطُّلقاء والنُّبلاء؛ العلماء بأيامِ اللَّهِ، غيرَ أنَّهم إذا تذكَّروا عظمة اللَّه طاشَت عقولهم وانكسرتْ قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إِذا استفاقوا مِن ذلك تسَارعوا إلى اللَّهِ بالأعمالِ الزَّاكية، يعدُّونَ أنفسَهم مع المفرِّطين، وإنَّهم لأكياس أقوياء، ومع الضَّالين والخطائِين وإنَّهم لأبرار برءاء، ألا إِنَّهم لا يستكثِرون له الكثير، ولا يرضون له بالقليلِ، ولا يُدِلون عليه بأعمالهم، حيث ما لقيتهم مهتمون مشفِقون، وجِلون خائفون". رواه أبو نعيمٍ.
قال الحسن: وسمِع قومًا يتجادلون: "هؤلاءِ قوم ملُّوا العبادة، وخف عليهِم القول، وقل ورعهم فتكلموا")}.
هذا الأثر فيه ضعف، وليس هذا ثابتًا عن ابن عبَّاس، ولكنَّه مُتضمِّنٌ لمعانٍ صحيحة ينبغي أن يتخلَّقَ بها طالب العلم.
وهذا الأثر يدلُّ على أنَّ العِلم منه ما هو نافعٌ، ومنه ما ليسَ بنافعٍ، وجاء من تعوُّذات النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ» ، وجاء كذلك في الأثر: «وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ» ، وهو العلم الذي يكون حُجَّة على صاحبه، فليس المقصود بالعلم هو جمعُ المعلومات والمعرفة دونَ علمٍ ولا أثرٍ، فعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص في طلب العلم أن يحقِّقَ النيَّة الخالِصَة لله -عزَّ وَجَلَّ- في طلبه للعلم، فقد جاء الوعيد الشَّديد فيمَن طلبَ العلم لينالَ به عرضًا من الدُّنيا، فإنَّه لا يجد رائحة الجنَّة، فهذا وعيدٌ شديد، فانقلب تحصيله وبالًا عليه.
السؤال الأول:
يكون العلم وبالاً على صاحبه إذا لم يخلص فيه النية لله تعالى.
صواب
https://www.youtube.com/embed/5jWHrtinc18

وفي هذا الأثر: ذكرُ آثارٍ لهذا العلم النَّافع، فالعلم النَّافع له آثارٌ حتى يعرف الإنسان من نفسِه أنَّه يُحصِّل علمًا نافعًا، وإذا لم تظهر هذه الآثار فعليه أن يُراجع نفسه في طلبه للعلم.
أوَّلُ هذه الآثار التي ذكرها السَّلف، ومنهم ابن عباس وغيره مِن أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتَّابعين والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ؛ أنَّ العلم النَّافع يحمل صاحبَه على الهربِ من الدُّنيا، فكلما ازدادَ العبد تحصيلًا للعلم ازدادَ عُزوفًا عَن الدُّنيا، وأعظم شهوات الدُّنيا في العِلم حبُّ الرئاسة والشُّهرةِ، وحب أن يُمدَح، والتَّباعد عن ذلك يعد من علامات انتفاع طالب العلم بعلمه، والله -عزَّ وَجَلَّ- يقول: ï´؟تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَï´¾ [القصص:83].
السؤال الثاني:
كلما ازداد العبد تحصيلًا للعلم كلما ازدادَ ......
عُزوفًا عَن الدُّنيا – حبًا وطمعًا في الدنيا – حبًا في الرئاسة والشُّهرةِ
https://www.youtube.com/embed/FNWW5awyyco

ولنا أُسوةٌ حَسنةٌ في أئمَّة السَّلف -رَحِمَهُم اللهُ- فمِن حِرصهم العظيم على تركِ الولايات، وهروبهم من الرئاسات، ومن ذلك هُروبهم من القضاء، ومن كراهيتهم بأن يُمدَحوا، ومن كراهيتهم للشُّهرةِ والظُّهورِ على النَّاس، ها هو الإمام الشَّافعي كان يقول: "وَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ يَتَعَلَّمُونَ هَذَا الْعِلْمَ، وَلا يُنْسَبُ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ" ، انظروا إلى آثار العلم! وما كان ذلك منه -رَحِمَهُ اللهُ- إلَّا ببركةِ النِّيَّة الصَّالحة.
وكان الإمام أحمد يقول: "طوبى لمن أخملَ الله ذكرَه" ، وفي عُرف هذا الزَّمان صارت الشُّهرة مطلبًا، وحبُّ الظَّهورِ والمخالفةِ ومبدأ خالف تُذكَر؛ ما كان موجودًا في عُرف السَّلف.
وكان الإمام أحمد يقول: "إنِّي ابتُليتُ بالشُّهرةِ"، لوقوفه أمام الجهميَّة المعتزلة في مسألةِ القول بخلق القرآن، ولهذا لَمَّا أظهرَ الله به السَّنَّةَ صارَ الناس يرحلونَ إليه مِن المشارقِ والمغاربِ لطلبِ العلم؛ ولأن يتعلَّموا عقيدة السَّلف.
السؤال الثالث:
قائل هذه العبارة: "إنِّي ابتُليتُ بالشُّهرةِ" لوقوفه أمام الجهميَّة المعتزلة في مسألةِ القول بخلق القرآن هو .....
الإمام الشافعي – الإمام أحمد – الإمام مالك
https://www.youtube.com/embed/3wkhQL2EDXE

وكان -رَحِمَهُ اللهُ- يمشي في السُّوق فإذا رأى أحدًا يَكتُب عنه شيئًا ينهاه ويأمره أن يمحو ما كتبَ، وهذا ما كان منه -رَحِمَهُ اللهُ- إلَّا لعظيم الإخلاص الذي وقعَ في قلبه، فينهى من يَكتُب عنه ومع ذلك كتبوا مسائل الإمام أحمد من رواية أبي هانئ ورواية عبد الله، وهي موجودة إلى يومنا، وهي المسائل التي حلف عليها أحمد، مع أنَّه كان ينهى أن يُكتَب عنه، وهذا ببركة الإخلاص الذي كان موجودًا عنده -رَحِمَهُ اللهُ.
من علامات العلم النافع: أنَّ العلمَ يَعقبُه العمل، فإذا رأى طالب العلم أنَّه يزداد من العمل فليعلَم أنَّه مُنتفعٌ بعلمه، وإذا رأى مِن نفسِه أنَّه يتباعَد فعليه أن يُراجع نفسَه، وأن يُراجع نيَّتَه.
كذلك من علامات العلم النَّافع -كما قال ابن عباس: إنَّهم أهلُ الخشية لله -عزَّ وَجَلَّ- وقد أشارَ الله إلى ذلك في قوله: ï´؟إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُï´¾ [فاطر:28]، فالعلم ثمرته الخشية، ورأسُ العلمِ الخَشيَة، وإنَّما يُرادُ العلم لذلك، وأوَّلُ علمٍ يُرفَع -كما نُقل عن السَّلف- هو الخشوع.
ولَمَّا تُكلِّمَ في مَعروفٍ في مجلس الإمام أحمد ولُمِزَ بقلَّةِ العلمِ؛ قال الإمام أحمد: "معروف الكرخي معه رأسُ العلم، الخشية" ، فإنَّما يُراد العِلَم لأجل الخشية.
السؤال الرابع:
اتفقت الكلمة على أنه ليس ثَمَّ علاقة بين العلم وخشية الرحمن.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/zNUxWxoNFGc

من علامات العلم النَّافع: أنَّ صاحبَه لا يتكبَّر على الخلقِ، ويعودُ على نفسِه بإساءة الظَّنِّ.
وقد جاء في الأثر: (أسكتتهم الخشيَة، وانكسرت قلوبهم، يعدُّونَ أنفسَهم من المفرِّطين وإنَّهم لأكياسٌ أقوياء، ومع الضَّالِّينَ والخطَّائين وإنَّهم لأبرارٌ برءاء)، فهؤلاء عرفوا عظيمَ حقِّ الله -عزَّ وَجَلَّ- وإذا عرفَ الإنسانُ فضلَ اللهِ عليه عادَ على نفسِه باللَّومِ، فإنَّه عاجزٌ عن شكرِ نِعَمهِ -سبحانه وتعالى- وليعلم أنَّه مَهمَا عَمِلَ فإنَّه مُقصِّرٌ في حقِّ ربِّه وما أولاه من النِّعَم التي يعجز الإنسان عن شكر نعمه -سبحانه وتعالى.
فإساءةٌ الظَّنِّ بالنفس منهجٌ للسَّلفِ، ولا يرونَ أنفسَهم شيئًا، وكان بعضُ السَّلفِ يقول: "لو كان للذُّنوب رائحة ما قرُبَ منِّي أحدٌ"، وهذا لا يقولونَه تكثُّرًا، وإنَّما يقولونه لِمَا يجدونه في قلوبهم من التَّقصير في حق الله -عزَّ وَجَلَّ-، وهذا من علامات العِلم النَّافع.
السؤال الخامس:
التكبر على الخلق يعد علامة من علامات العلم النافع.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/_p5Ll8HkbIc

ومن علاماتِ العلم النَّافع: ترك الجدالِ والمراءِ مع النَّاس فيما لا فائدة فيه، قال: (وإنَّهم لهم العلماء والفصحاء والطُّلقاء والنُّبلاء)، فدلَّ على أنَّهم أهلُ الفصَاحةِ والعلمِ، ولكن أسكتَتهم خشية الله -عزَّ وَجَلَّ- فكانت هذه الآثار الحميدة لهم، وكانَ هذا الأثر منهم على النَّاس؛ فمَا أحوج المجتمع لهذه النَّماذج مِن العُلماء، هؤلاء الذين يصنَعون التَّاريخ ويُعيدون للأمَّةِ أمجادها، فالأمَّة الآن لحقها من الضَّعفِ والهوانِ وتكالب الأمم عليها والناس يحتاجون إلى علماء يسوسونهم، ويقومون بالحقِّ الذي يجب لهم، نسأل الله أن يُحيي ما اندرسَ من السُّنن ومن الخير في أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السؤال السادس:
ترك الجدالِ والمراءِ مع النَّاس فيما لا فائدة فيه يعد علامة من علامات العلم النافع.
صواب
https://www.youtube.com/embed/5znyxEu9jiQ

الأثر الذي بعده هو قول الحسن البصري، وهو في باب ذمِّ الجدال، والحسن البصري له أقوال وآثار وحِكَم ينقلها الوعَّاظ والخطباء لعظيمِ نفعها، ولهذا كانَ بعضُ السَّلفِ يقول عن كلام الحسن البصري: "إنَّ كلام الحسن يُشبه كلام الأنبياء"، وهو خريج مدرسة أمَّهات المؤمنين وبيت النُّبوَّة، وفي زمن الحسن ظهرَ أهلُ الأهواء، فظهرت المعتزلة فيما نقله أهل المقالات، وهم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بين عبيد، وكانوا في أوَّلِ أمرهم يتتلمذون على الحسن، ثم اعتزلوا حلقة الحسن البصري، وذكرَ أهلُ المقالات أنَّ سببَ تسمية المعتزلة بذلك؛ لأنَّهم اعتزلوا مجلسَ الحسن البصري بسببِ مسألة الفاسق الملِّي، وأنَّ مُرتكب الكبيرة له حُكمٌ عندهم، فهم يُخالفون عقيدة أهل السُّنَّة.
وقول الحسن عظيم النَّفع، وهذا القول مِن أبلغِ ما يكونُ من الكلام، والكشف لحالِ النَّاس مع العلم، يقول: (هؤلاءِ قوم ملُّوا العبادة)، وهذا يدلُّ على أنَّ المراد الأوَّل للعلم هو العمل، لا المجادلَة والمخاصمَة، وهذا الكلام المنقول عن الحسن فيه كشف لحالةٍ نفسيَّة وآفَة نفسيَّة تصيب طالبَ العلم، وهذا الدَّاء يدخلُ عليه من حيثُ لا يشعر، وبيَّنَ أنَّ الدَّاء الذي يُصيب طالب العلم هو أن يملَّ العمل، وهذا مِن أدواء النُّفوس؛ فينصرف عن العمل، ويتعلَّق بالمجادلَةِ والمناظرةِ؛ لأنَّ الجدال والمناظرة أخفُّ على النَّفس مِن العمل، فلهذا يتعلَّق به، وهذا يدلُّك على نَهي السَّلف عن الجدالِ والمناظرةِ؛ ولأنَّ المناظرات والمجادلات والمناقشات فيما لا فائدة فيه سبب لتقلُّب القلب كما ذكرنا في الأثر عن عمر بن عبد العزيز؛ ولأنَّ الشُّبهات خطَّافة، وإنَّما سُمِّيَ القلب قلبًا لتقلُّبه، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسنٍ: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلاةٍ» ، فالقلوب تتقلَّب وتتحرَّك، قال: «ولا أثبت للقلب من العمل»، يعني: ليس ثَمَّ شيءٌ يُثبِّت القلب مثل العمل، بخلاف القول والكلام فإنَّه خفيف على النَّفس.
السؤال السابع:
قائل هذه العباره: (هؤلاءِ قوم ملُّوا العبادة) هو .....
إبراهيم النخعي – إبراهيم بن أدهم – الحسن البصري
https://www.youtube.com/embed/K7f1gyxx7ns

وهذا مِن أحسنِ الوصَايا التي أوردَها المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ- في باب طلبِ العلم، فإذا أراد طالبُ العلم أن يُثبِّتَ العلم الذي لديه فعليه بالعملِ، ومِن العمل: تعلُّم العلمِ النَّافع، ومدارسَة القرآن، ومدارسة سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والعملِ بما جاء فيهما؛ لأنَّه بالعملِ يثبت العلم، وبدون عملٍ يكون هذا العلم حُجَّة على الإنسان، والنَّاس ينظرون إلى طالب العلم، وإلى أثر هذا العلم عليه، فإذا لم يظهر هذا الأثر عليه كأن يُزهِّد النَّاس في الدُّنيا وهو أوَّل المسابقين للأبواب الدُّنيا والحريصين عليها؛ فيجدون أنَّ الأثر ضعيفٌ، ولا شكَّ أنَّ مواعظَه لا تكون مُؤثِّرَة؛ لأنَّ النَّاسَ لهم عيونٌ ولهم بصيرةٌ، فهم ينظرون إلى قولك، إن رأوا أنَّ قولَ الواعظ وطالب العلم والموجِّه يُوافق عمله ازدادوا يقينًا بما عنده، فهو يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وهو لا يُخالف ذلك!!
وجاء في الحديث في الصَّحيحين: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَقَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ»، وهذا يدلُّكَ على أنَّهم مِن أوائل مَن تُسعَّر بهم نار جهنَّم، وأنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- يفضحهم على رؤوسِ الخَلائقِ.
إذن؛ هذه آثار العلم، وهذه علامات العلم النَّافع لمَن أراد أن يعرفَ مِن نفسِهِ أنَّه مُنتفعٌ بعلمه، وإلَّا فحسنُ الكلامِ والظُّهورِ والرئاساتِ والشُّهرَةِ قد تكونُ من حظِّ الدُّنيا الذي يعطيه الله -عزَّ وَجَلَّ- مَن يشاء، ولكن الأثر الباقي هو أنَّ هذه الأمور إنَّما هي من الدُّنيا، وهي أمور وقتيَّة، ولو نظرتَ في تاريخ الأمَّة وجدت أنَّ مَن لهم بصمة مؤثرة في تاريخ الأمَّة هم أهل الخشية وأهل العلم النَّافع، وأمَّا ما عداهم فمهما حصلَ لهم من رئاسات فإنَّما هي سنوات ثم يُنسَى ويُنسى الأثر الذي قاله وتكلمه.
ولمَّا قيل للإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ فلانًا أَلَّفَ كتابًا ليُنافِس الموطَّأ، قال: "مَا كَانَ للهِ يَبْقَى"؛ فدائمًا ما كان لله -عزَّ وَجَلَّ- فإنَّه يبقى، وما كانَ لغيرهِ فلا يبقى، ولو بقيَ فإنَّه لا ينفع.
وانظر إلى بركة النِّيَّة الصَّالحة في المؤلَّفات، فمثلًا النَّووي -رَحِمَهُ اللهُ- توفي وهو لم يبلغ السَّبعة والأربعين سنة، ومع ذلك فله مُؤلَّفات نافعة عظيم، كالأذكار للنووي، ورياض الصَّالحين.
السؤال الثامن:
..... هو إمام عظيم له مؤلفات نافعة، منها رياض الصالحين، وقد توفي قبل أن يُتِمَّ السابعة والأربعين من عمره.
البخاري – مسلم - النووي
https://www.youtube.com/embed/jq5qDCmfJE8
ويذكر مشايخنا أن مِن بركة النِّيَّة الصَّالحة مُؤلَّف "رياض الصَّالحين" للإمام النَّووي، فهو -والله أعلم- كانت نيَّته عظيمة صالحة، فهذا الكتاب نفعَ الله به المسلمين مِن سنوات طويلة جدًّا، وهو عُمدةٌ لأهلِ الإسلامِ، ولهذا فإنَّ الإنسان لا يستقل مِن العمل شيئًا، فالإمام النَّووي -رَحِمَهُ اللهُ- في وجود البخاري ومسلم ودواوين السُّنَّة أراد أن ينفع العباد وأن ينفع عوام المسلمين بكتاب "رياض الصَّالحين" وهو على اسمه، وخاصَّة في هذا الزَّمان وهذه البلاد من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وفيما بعد في المائة سنة الماضية صارَ أئمة المساجد يقرؤون "رياض الصالحين" بعدَ صلاة العصر، وهذا من بركة هذه النِّيَّة الصَّالحة، ومن المتأخرين مَن عمد إلى شرحه مثل: الشيخ ابن عثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- وهو مُسجل ومكتوب ومطبوع، ومن البشرى لطلَّاب العلم أنَّ شرح "رياض الصَّالحين" والذي شرح بعد صلاة العصر، وهو شرحٌ موفَّق، ومن توفيق الله -عزَّ وَجَلَّ- مؤسَّسة العنود طبعت هذا الشَّرح في أربع مجلَّدات، وهو شرح نفيس جدًّا، فرحمَ الله الشيخ وأجزل له المثوبة.
فكتاب "رياض الصَّالحين" من بركة النِّيَّة الصَّالحة، ولهذا فإنَّ طالب العلم يسأل الله الإخلاص؛ لأنَّ الإخلاص هو الذي يجعل العمل الصَّغير كبيرًا، نسأل الله الإخلاص والتَّوفيق.
{أحسن الله إليكم يا شيخنا..
ذكرتم أنَّ من أحسنِ ما يُبِّت العلم هو العمل به، كيف يجمع الإنسان بينَ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، خاصَّة ما ذكرتم من الحديث: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ.... »، وبينَ أنَّه أحيانًا يَرى منكرًا يُريد إنكاره، وهو أصلًا واقعٌ في هذا المنكر، أو يُريد الأمرَ بالمعروفِ أو تذكيرًا بالخيرِ وهو ما يتَّسمُ فيه كثيرٌ ممَّا يأمرُ به؛ فكيف الجمع بينهما؟}.
الجمعُ بينهما أن نقول: إنَّ الحالةَ مُنفصلةٌ، قال أهل العلم: إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر واجب على كلِّ مُسلم حسب القدرة بالمراتب المعلومة المذكورة في حديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: إنَّ على مَن كانَ مُتلبِّسًا بالمنكرِ أن يُنكِرَ المنكرَ، فثَمَّ انفصالٌ، فكون الإنسان لا يُنكر المنكَر فهذا لا يعني أنَّه يقع فيه، فيقول: كيف أنا واقعٌ فيه وأنهى عنه! إذن أنا مُتناقض!
نقول: لا، المطلوب منك أن تنهى عن المنكر؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر هو من إنكارك على نفسك ومن التَّخلُّص من هذا المنكر؛ لأنَّ الإنسان يُصيبه الألم النَّفسي حينما يُنكر المنكر على النَّاس، فيدلُّ على أنَّه كارهٌ له، ويسأل الله العافية منه، بخلاف ما إذا سكتَ عن هذا وقال أنا واقع في المنكر؛ فهذا مِن حيلِ الشَّيطانِ، بخلاف ذاك الذي كان يأمرُ ومتعمِّدًا لِما يفعله من المنكر، فكان يأمرهم لأجلِ حظوظ الدُّنيا، وقد استمرأ قلبه هذا المنكر، وإنَّما كان يفعل ذلك مصانعة ولحظوظ الدُّنيا كما يفعل بعض الناس من جعل بعض الأمور وظيفة له للتَّحصيل وما شاكلَ ذلك، وقلبه منعقدٌ على استمراء هذه المنكرات، ففرقٌ بينَ وذاك، هذا مُبتلًى بالمنكر فيسأل الله العافية ويستتر، وذاك أَلِفَ قلبُه هذه المنكرات والمعاصي، فكان يُصانع النَّاس مجردَ مصانعة؛ فبينهما اختلافٌ كبيرٌ جدًّا، وذكر أهل العلم هذه المسألة في مراتب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
السؤال التاسع:
اتفق الفقهاء على عدم جواز إنكار المنكر ممن هو قد ابتُلي به.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/MjtdeqVK8hE

{أحسن الله إليكم يا شيخنا..
هل يتبيَّن ممَّا سبق دراسته أنَّ مَن يُواقع المعاصي لا يُطلَق عليه اسم عالم حتى وإن كان عنده مَعلومات معرفة؟}.
ينبغي للنَّاس أن يفرِّقوا بين مَن يكون عنده المعرفة والعلم، فهذا عنده علم بالحِجَاج والمناقشَة، وهذا العلم وبالٌ عليه، ولهذا فإنَّ علماء السُّوء والضَّلال قد يكون عندهم علوم في الشَّريعة، وقد يكونوا يحفظون كلام الله -عزَّ وَجَلَّ- بل ويحفظون سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُزيِّنونَ للنَّاس البَاطل والبدع والضَّلالات؛ فهؤلاء عُلماء السُّوء الذين يصرفونَ النَّاس عن الحقِّ، فهؤلاء عِلمهم وبالٌ عليهم، وهم يُعَدُّون مِن أسبابِ الضَّلالِ؛ لأنَّهم يُزيِّنونَ للنَّاس الباطلَ، ولا يزالُ في الأمَّةِ من هؤلاء، ولعلَّ قصَّة باعوراء تأتي، وما جاء من قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ï´؟وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَظ°كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِï´¾ [الأعراف:175]، فمعنى قوله: ï´؟أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِï´¾ يعني: طلبَ الدُّنيا، ولا يزالُ في أهل الإسلام مَن يُصانع ومَن يقول الباطل وهو يعلم أنَّه باطلٌ ولكن لأجل عَرضٍ من الدنيا -نسأل الله السلامة والعافية- فهذه فتن للقلوب، قال تعالى: ï´؟أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَï´¾ [العنكبوت:2]، وما زالت الأمَّة تُفتَن، والتَّاريخُ حافلٌ بفتنٍ وقعَت في الأمَّة في دينها ودنياها، ومن أبرزِ الفتنِ ما مرَّ معنا من فتنة القول بخلق القرآن.
وقال الإمام أحمد: "لا تقع الفتنة وما زالت القلوب مُنكرة لها"، يعني: إذا كانت القلوب مُنكِرَةٌ للفتنة فلن تعمَّ؛ ولكن إذا ألفَت القلوب هذه الفتنة فهذه مُصيبة!
وإذا كانَ النَّاسُ يهربون من الأمراض والعلل؛ فإنهم يحتاجون إلى أن يهربوا من هذه الفتن ومن القولِ على الله بغير علمٍ، ومِن طلب الرئاسات، وطلبِ عرضِ الدُّنيا لأجلِ كلمة تُملَى عليه ليقولها وينال بها درجةً أو منزلةً؛ فهذا إثمُه -والعياذ بالله- عظيمٌ -نسأل الله السَّلامة والعافية- فإنَّ العافية لا يعدلها شيء! ولهذا يُشرَع للمسلمِ أن يسأل الله العافية، لأنَّه قد يُبتلَى.
{ما الذي يُنصَح به تجاه ما يُسمَع مِن هذه الأخبار وهذه القصص في الفتن؟}.
لا شكَّ أنَّ طالبَ العلمِ عليه أن يقرأ سِيَر السَّلف؛ لأنَّها مِن أسباب الثَّبات، وعليه أن يقرأ كلامَ الله -عزَّ وَجَلَّ- ويخلو معه ويعرض نفسَه على هذا الكتاب؛ لأنَّ القلوب تمرَض، ولا شفاء لأمراض القلوب إلَّا بعرضها على كلام الله -عزَّ وَجَلَّ-؛ لأنَّ مَن لا يقرأ القرآن بتدبُّرٍ ولا يقرأ هذا الوحي ليُشفَى به من أمراض القلوب؛ حصلت له الفتن، والآن ناسٌ كثُر تعرِف وتنكر ولكنَّهم مرضَى قلوب، ولو صُدِّرُ وأُعلِنَ شأنَّهم فإنَّهم مرضَى قلوب إمَّا بحبِّ الدُّنيا أو بحب الرئاسة والظُّهور، أو حب أن يصنع لنفسه شهرةً؛ فهذه أمراض إذا لم يُعالجها تفتك في قلبه، والدنيا زائلةٌ وليس لها أي قيمَة، ولا تساوي شيئًا!
وإنَّما يُرادُ هذا العلم لأجلِ الآخرة، فمَن أرادَه لدنيا فقد خابَ وخسِرَ، وإنَّما يُراد لِمَا عند الله -عزَّ وَجَلَّ- وطالب العلم لابدَّ أن يكونَ عليه أثر هذا العلم، في مجتمعه ونفسِه وفي عبادته وصلاحه، وتستغرب أنَّ تجدَ أهل الصَّلاح وأهل الخير متأخرين في ميادين الخير.
وأضرب له مثالًا: التَّبكير لصلاةِ الجمعة؛ فيقبُح بطلاب العلمِ وأهلِ الخير أن تجدهم يأتون بعدَ حضور الإمام، وإذا انتُقِضَ على عوامِّ المسلمين أنَّهم يتأخَّرون، فكيف يتأخَّر طالب العلم عن خطبةِ الجُمُعة، ويكون هذا ديدنه!
وصلاة الجماعة التي هي ميزانٌ عظيمٌ؛ فيُرى طالب العلم من المتأخرين عن صلاة الجماعة! فهذا يحتاج مراجعة؛ لأنَّ ما عنده علَّة، فالعلم إنَّما يُراد للعمل، فكيف تكون طالبَ علمٍ وتدرس حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعلم النَّاس صلاة الجماعة والتَّبكير لصلاة الجماعة وأنتَ من المتخلِّفين عنها!!
السؤال العاشر:
كُلما عظم العلم في قلوب أتباعه كلما كانوا للعمل به أعظم.
صواب
https://www.youtube.com/embed/IRM96MThk7g

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مهتمون مشفِقون، وجِلون خائفون)، فهل مَن يتَّصف بعكس هذه الصِّفات ليس من أهل العلم حتى لو كان عالمًا؟}.
لا شكَّ؛ إنَّما يُراد العلم للخشيةِ، وهذا علمه علم اللسان، وعلم القلب هو الخَشية، فإنَّ العلم علمان كما ذكر العلماء:
ïƒک علم اللسان: وهو حجَّةٌ عليك.
ïƒک وعلم الخشية.
وكلَّما ازددتَّ مِن العلم لم يكن نافعًا لك إلَّا إذا ازددت مِن الخشيَةِ لله -عزَّ وَجَلَّ- وإذا لم تزدَدْ من الخشيَةِ فهذا وبالٌ عليك وحجَّةٌ عليك، وذكرنا أنَّ علماء الضَّلال يصرفونَ النَّاس عن الحقِّ والتَّوحيدِ بسببِ هذه الأمور -نسأل الله السَّلامة والعافية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باب التجوز في القول وترك التكلف والتنطع
وعن أبي أمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعا: «الحيَاءُ وَالعِيُّ شُعْبَتان مِنَ الإيمان، وَالبَذَاءُ والبَيَان شُعْبَتان مِنَ النِّفاق». رواه الترمذي)}.
هذا الباب هو آخر بابٍ في الكتاب، وحاجة طالب العلم لطلب العلم حاجة ماسَّة، وهو في تعليم العلم يحتاج إلى هذا الأدب، وقد بُعثَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالحنيفيَّة السَّمحةِ، وسماحة الإسلام تَبعَثُ على هذه الخصال التي ذكرها المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في جامعه، وذكر فيه صفات أهل الإيمان، ومن صفاتهم: الحَياءُ والعيُّ.
نُبيِّنُ هذه الصِّفات فنقول: هذه صفات ممدوحة، ولكن في ظاهرها مذمومَة عند عامَّة النَّاس، ولكن جاء الوحي وهو ماجاء عن رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى مدحَ هذه الصِّفات، والبيان أن ما يبعث على هذه الصفات ما وقر من الإيمان في القلب، وهذا يدلُّكَ على أنَّ الإسلام جاء بمكارم الأخلاق، وأنَّ بعض الصِّفات قد تكون في أذهان النَّاس مذمومة كما هذه الصفات، وهي على خلاف ذلك.
الصفة الأولى وهي من علامات الإيمان: ما جاء في الحديث «وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ».
والحياء ممَّا تواتر عن الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- الوصيَّة به، فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه البخاري من حديث عقبة بن عمرو الأنصاري: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت»، وهذا على سبيل الوعيد والتَّحير، مثل قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ï´؟فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْï´¾ [الكهف:29]، فهذا وعيدٌ، وبعضُ الناس يفهم هذه الآية على غير وجهها، على أنَّه حريَّة التَّديُّن لا على وجه الوعيد، وهذا الحديث من هذا الباب، أي: إن لم تستحِ فاصنَع ما تشاء؛ لأنَّكَ مجزيٌّ به.
وجاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أو «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»؛ ولهذا فإنَّ عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمَّا جاءه بعضُ أصحابه فقالوا: حدَّثنا عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحدَّثهم بهذا الحديث «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أو «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»، وهو في صحيح مسلم؛ فقال بعضُ مَن حضرَ: يا أبا نجيد إنَّنا نجد في بعض الحكمة -يعني: الكتب السابقة والثقافات الأخرى، وهذا يبدو أنه قارئ- قال: إنَّ من الحياء من هو سَكينةٌ ووقارٌ، ومنه ما هو ضعفٌ؛ والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ»، فغضب عمران وقال: "أراني أحدِّثكَ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتُراجع فيه؟!".
وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه رأى شخصًا يعظُ أخاه في الحياء، كأنَّه يلومه على الحياء، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ».
وأحسن ما قيل في تعريف الحياء: الحياء خُلقٌ يبعثُ صاحبَه على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حقِّ ذي الحق.
فالحياء يبعثُ الإنسان على اجتناب القبائح، فيستحي من الناس، ويستحي أن يُرى بهذا؛ فيحمله الحياء على الخير وعلى لزوم الحق.
ولعلَّنا -إن شاء الله- نُكمل الصفة الثانية وهي صفة العِيِّ في الدرس القادم.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-07, 07:48   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أصول الإيمان (2)
الدَّرسُ الحادي عَشَر (11)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سعد المقرن
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حياكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب التَّجوُّز في القول وترك التَّكلُّفِ والتَّنطُّع.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي أُمَامَة -رضي اللَّه عنه- مَرْفُوعًا: «الحيَاءُ وَالعِيُّ شُعْبَتان مِنَ الإِيمَان، وَالبَذَاءُ والبَيَانُ شُعْبَتان مِنَ النِّفاق». رواه الترمذي)}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
قد شرعنا في الحلقة السابقة في بيان هذه الصفات وذكرنا أنَّ أوَّل هذه الصفات التي أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها من صفات أهل اللإيمان؛ هو الحيــاء.
وقدَّمنا أنَّ هذا الخلق الكريم جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» ، وقال: «الحَياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أو «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»، فذكرنا أنَّ الحياء خُلقٌ يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في دين الحق، فالحياء دائمًا آثاره حميدة، وفيما يظهر للنَّاس أنَّه يمنع من تحصيل الحق، ويمنع من المطالبة بالحقوق، والصَّواب على خلاف ما يفهمه الناس، فالحياء خيرٌ كلُّه، والمطالبة بالحقِّ وما شاكل ذلك ليس موضعه الحياء؛ لأنَّ الإنسان مطلوبٌ منه أن يدفع عن نفسه الشَّرِّ ويُحصل الخير، وهذا غير خلق الحياء؛ فالحياء هذا خلق يلازم الإنسان، والله -عزَّ وجل- يُفطر النُّفوس على هذا الخلق، فيكون هذا من فضل الله -عزَّ وجل.
الخلق الثاني الذي ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي: العِيُّ.
وقدَّمنا أنَّه في عُرف النَّاس يُعَدُّ من الصِّفات المذمومة، والعِيُّ هنا بكسر العين، والأصل في العِيِّ أن يُقال فيه: عِيٌّ عن الكلام، أي: العجز عن الكلام، ولكن هذا غير مُراد في الحديث النبوي؛ لأنَّ العِيِّ بمعنى العجز عن الكلام أمر مذموم، وهو من الآفات التي تصيب اللسان، فقد يعجز عن الإفصاح عن مكنونات نفسه، وهذا بخلاف المقصود في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يُمكن، وإنما المراد بالعِيِّ في الحديث: السكوت عمَّا فيه إثمٌ، أو يوصف بالعِيِّ لكونه يحترزُ في كلامه عن الكلام القبيح، ويتورَّع عن الخوض في فضول الكلام؛ فيظنُّ الظَّانُّ أنَّ به عيٌّ وعجز، وما به ذاك، وإنما أسكتتهم خشية الله والخوف منه -عزَّ وجل- كما في أثر ابن عباس.
وقيل: العِيُّ هو قلَّة الكلام وعدم التوسع فيه، وإنما يكتفي في الكلام ما يُحتاج إليه، وعلى كل حالٍ هو بهذا المعنى من علامات الإيمان، ولهذا فإنَّ من آداب أهل الإيمان ومن الأمور التي يُحمَد فيها الإنسان ترك فضول الكلام؛ لأنَّ الكلام والخوض مظنة الوقوع في المحذور، والذي يحترز في كلامه لا شكَّ أنَّ ذلك باعثه الإيمان، كما أنَّ الحياء مَبعثه الإيمان؛ فكذلك العِيُّ، فظاهره أنَّه به عي وليس به عي؛ فهذه من صفات أهل الإيمان، أو من شُعَب الإيمان، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شُعْبَتان مِنَ الإِيمَان».
أمَّا الصِّفتان المذمومتان على لسان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهما:
الصفة الأولى: البذاء، وهو فُحش الكلام، وهو بخلاف الحياء، فلا يتنزَّه في كلامه عن الألفاظ التي يَستحي أهل الحياء عن ذكرها، فهو لعَّانٌ طعَّانٌ همَّازٌ؛ فهذه صفات النِّفاق، وليست صفات أهل الإيمان، وعند وجود هذه الخصلة يحتاج الإنسان أن يراجع نفسه، ولهذا فإنّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» ، تجد النَّاس يتقونه لأنه بذيء اللسان، لا يُكلَّم ولا يُخاصَم ولا يُحاوَر ولا يُناقَش لأنَّه بذيء اللسان، فهذه من صفات النفاق، وهذا مكروه عند الناس، فيقولوا اتركوه ودعوه فإنَّك إن تكلَّمتَ معه سمعتَ منه ما يسوؤك؛ لأنَّه لا يتحرَّز في الكلام ولا يُفرِّق بين ما يُقال في المجلس العام والمجلس الخاص؛ فيُتَّقى لأنَّ هذا مِن علامات النِّفاق، وينبغي للمسلم أن يتنزَّه عن هذه الصِّفة المذمومة.
الصفة الثانية: البيـــان، وهو التَّملُّق والتَّنطُّع وإظهار الفصاحة في الكلام، والتَّشبُّع بما لم يُعطَ، وإظهار العلو على الناس في كلامه، واستخدام المهجور من الكلام لأجل أن يُشار إليه بالبنان ويُلتفت إليه، وقلنا: إنَّ أهل الإيمان كلامهم على وجه السَّماحة والبساطة يفهمه كل أحد، ولهذا فإن الله -عزَّ وجل- ذكر من صفات أهل النفاق أنهم يُعنون بزخرفة كلامهم، وبإسماع قولهم لمن يخاطبونه، قال الله -عزَّ وجل- عنهم: ï´؟وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْï´¾ [المنافقون:4]، فلهم عناية بالفصاحة، والمطلوب هو الحد الذي يحصل به فَهم الكلام، يفهمه أواسط النَّاس، أمَّا أن يتعالى الإنسان على النَّاسِ بفصاحته وباستخدامه للمهجور من الكلام فهذا لا يليق، ولهذا فإنَّ الوعَّاظ والخطباء ومُوجهي النَّاس عليهم أن يُخاطبوا الناس بالبسيط من الكلام الذي يفهمه كل أحدٍ.
{ذكرتم أحسن الله إليكم، أنَّ البذاء هو من يُتَّقَى ويُخشَى بسبب فُحشه في كلامه، وهذا يعده بعض الناس مفخرة، أنَّه سليط اللسان، فهل من توجيه لهذا؟}.
حينما يحتكم الناس إلى أهوائهم وإلى أذهانهم يحصل هناك تغير في المفاهيم، فقد يُرى أبطل الباطل أنه هو الحق، بحسب فساد الناس وأوضاع الناس، وليس الحجَّة في أفعال الناس ولا عندهم ما يزكو وما لا يزكو؛ فالحجَّة في خطاب من لا ينطق عن الهوى، وأخلاق النبوة، فالبذاء مذموم، وينبغي للناس أن يتجنبوا الفحش من الكلام والبذاء، ومن استحكمت فيه هذه الخصلة فعليه أن يُراجع نفسه، لأن هذا خلق مذموم لا ينبغي لأهل الإيمان أن يكونوا عليه، ولهذا تجد الشباب يصدرون اللعان والسباب؛ فهذا فحش الكلام وبذاءة، وهذا من علامات النفاق، فكيف أن الإنسان مؤمن بالله -عزَّ وجل- ويرى في نفسه صفة من صفات النفاق ولا يتخلص منها! فيتقي الله -عزَّ وجل- ويراجع نفسه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعن أبي ثعلبة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم قال: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ». رواه البيهقي في شعبِ الإِيمانِ، والترمذي نحوه عن جابرٍ -رضي اللَّه عنه)}.
هذا حديث حسن، وهو حديث عظيم، وأفاد أنَّ منازل أهل الإيمان بحسب أعمالهم وأخلاقهم، ولهذا لابدَّ أن يُعلم أن الجنَّة منازل، وأنَّ أصحاب الجنة يتراءون مَنازل الجنة كما يتراءى أحدكم الكوكب الدري في الأفق الغابر، منازل عظيمة، وأعلى الناس منزلة هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو سيد ولد آدم، وهو أعلى الناس، ولهذا جاء في دعاء المؤمن بعد الأذان: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ» ، أمَّا لفظ: «والدَّرَجَة الرَّفِيعَة» فضعيفة، ولكن معناها صحيح، ولا شك أنَّ الدرجة الرفيعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي المنزلة العالية في الجنَّة.
وفي الحديث: الثناء على حُسْن الْخُلُقِ، وجاءت أحاديثٌ كثيرةٌ في بيان أنَّ حُسْن الْخُلُقِ عملٌ صالحٌ يُثقَّل به الميزان، فقد يكون الإنسان قليل العمل من جهة التَّعبُّد، ما عنده كثير صلاة، ولا كثير صيام، ولا كثير صدقة، إنَّما هو من أواسط النَّاس، فحُسْنُ الْخُلُقِ قد يبلغ به منزلة من هو كثير العبادة، ويدلُّك على ذلك أحاديث عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومنها الحديث الذي رواه أبو داود «مَا مِنْ شَيءٍ أَثْقَلُ في ميزَانِ المُؤمِنِ يَومَ القِيامة مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ» .
إذن حُسْنُ الْخُلُقِ شيءٌ مَعنويٌ يتصف به الإنسان يَقْلِبْه الله -عزَّ وجل- يوم القيامة عَرضًا فيكون ثقيلًا جدًّا في الميزان، وهذا يدلك على أهمية حُسْن الْخُلُقِ، وعلى أنَّ حُسْن الْخُلُقِ من العمل الصالح الذي قد يغفل عنه فئامٌ من النَّاس، تجد أنَّ الوعاظ وأهل الخير يحرصون على العمل الصَّالح، يستكثرون من الصيام والصَّلاة، والأعمال الصالحة، وأعمال البر، وهذا حسنٌ، ولكن هُناك عمل قد يغفل عنه الإنسان، وهو عملٌ يسيرٌ وسهلٌ على مَن يسَّر الله تعالى له ووفقه الله -عزَّ وجل- له، وهو حُسْنُ الْخُلُقِ.
وجاء في حُسْن الْخُلُقِ تعريف جميل جدًّا عن الحسن البصري، يقول: "حُسْنُ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ".
والإنسان لا يشعر أنه بحسن خلقه يُدرك منزلة مَن يُكثر من الصَّلاة والصِّيام والزَّكاة، وله أعمال كثيرةٌ جدًّا، ولهذا جاء في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَات قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ» ، فهو ما عنده كثير عبادة، ولكنه يُدرك، إذن هو عمل يسير ولكنَّه في الميزان ثقيل، وجاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيان أنَّ الإنسان الفقيه من عباد الله -عزَّ وجل- مَن يحرص على أن يُثقل ميزانه بالعمل الصالح، وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قوله: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» .
كذلك مما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان أن يُعوِّد نفسَه على حُسْنُ الْخُلُقِ في قوله وفي عمله، وفي تعامله مع الناس، فيتحلَّى بحُسْن الْخُلُقِ، فيسأل العبدُ ربَّه أن يبلغه هذه المنزلة، وأن يُجاهد نفسه على هذا، فالأمر يحتاج مجاهدة، ويحتاج تأسٍّ بهؤلاء الذين يُرى فيهم حُسْنُ الْخُلُقِ، وهو يسير على مَن يسَّره الله -عزَّ وجل- عليه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ»، فسيء الخلق بعيد من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم القيامة.
ثُمَّ ذكر بعضًا من صفات مَن هُم مُتَّصفين بسوءِ الخلق، فقال: «الثَّرْثَارُونَ»، وهم الذين يُكثرون من الكلام تكلُّفًا، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ» ، بعض الناس عنده هوسٌ بقيل وقال، وعنده هوس بمتابعة أخبار الناس، وفضول كبير جدًّا في تتبُّع أحوال الناس وقيل وقال، فهذه آفة، وهؤلاء هم الثَّرثارون.
ثم ذكر صفة أخرى فقال: «وَالْمُتَشَدِّقُونَ»، ذكر شراح الحديث أنَّ التَّشدُّق هو التَّوسع في الكلام من غير احتياط ولا احتراز، ويصدق هذا على المتطاول على النَّاسِ بكلامه.
قال: «والْمُتَفَيْهِقُونَ»، هم المتكلفون في كلامهم، من يدَّعي التَّفقُّه والتَّوسُّع على وجه الكبر والاستعلاء على الناس، واستخدام المهجور والوحشي من الألفاظ ليُظهر أنه فصيحٌ وبليغ، وهذا قد يقع فيه فئام من الناس -نسأل الله السالمة.
وتأمل -يا رعاك الله- هذه التوجيهات النَّبوية مِن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي تذم آفات اللسان، فكلها في اللسان، الثرثرة، التشدق، التفيهق، كلها مصدرها اللسان، ولهذا نقل عن السلف: "مَا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجَ إِلَى طُولِ سِجْنٍ مِنْ لِسَانٍ" .
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قال له معاذ: "وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟" قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!» ، وهذا يتوافق مع التَّوجيهات السابقة.
وروى البزار من حديث أبي ذر أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَطُولِ الصَّمْتِ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا تَجَمَّلَ الْخَلائِقُ بِمِثْلِهِمَا» ، الصمت وعدم كثرة الكلام، وترك كل هذه الآفات؛ فالإنسان يحتاج إلى أن يكون صموتًا، الآن في هذا الزمن ما في صمت، كل الواقع الآن من شبكات التواصل تدعو الناس إلى الكلام، وكم وقع في النَّاس من المشاكل بسبب الكلام.
{بل إنَّ مواقع التواصل تُجَرِّئ النَّاس على الكلام، يعني: لو كان في مجلس لحسب لهذا الكلام الذي يقوله}.
نعم صحيح، ولهذا كان يُقال: رُبَّ كلمة قالت لصاحبها دعني! وهذا يصدق على شبكات التواصل، وهذا الحدث الآن تجده من بعض الناس ممن ابتلي بالشهرة وظنَّ أنَّه يملك توجيه الأمَّة صار لابد له من تعليق على حدثٍ، فيُعلِّق على كل حدث! وهذا يُسمونه في العرف الحاضر الشجاعة الأدبية، يعني: أنَّ شبكات التواصل أعطت الناس ما يسمى بالشجاعة الأدبية، ولكن هي شجاعة غير حقيقية، فهو عنده شجاعة ولكن لا يستطيع أن ينطق بها إلا من خلال الكواليس ومن خلال هذه الشبكات، وبعد أحداث حدثت ولازالت تحدث تجد في شبكات التواصل -خاصة فيما يتعلق بتويتر وما شاكل ذلك- بعض الناس يغردون تغريدات، ثم بعد فترة يسحبونها!
فالإنسان عليه أن يتأمَّل، ربَّما يقول كلمة ولا يعقل مآلها حتى الآن في الجروبات تجد أنَّ كل حدث يُعلَّق عليه، وتحدث خصومات ومناقشات، فالناس بحاجة إلى الصمت وإلى السكوت، وإلى أن ينشروا الحق والخير، ويتركوا هذه المخاصمات والمناقشات، فإن هذا مما ابتليت به الأمَّة الآن للأسف! وأنا لستُ بمكثرٍ من هذه الجروبات، ولكن أرى أن الناس يتشكُّون منها، فالإنسان ينتبه لمثل هذه الأمور ويحرص عليها، ويتخلق بالأخلاق الحسنة.
{إذا كان الإنسان يخشى من ملاحقة قانونية جراء كتابة تغريدة أو ما شابه؛ فكيف بهذا الكلام الذي يتكلمه سيكون هناك محاسبة أمام الله -عزَّ وجل!}.
وهناك قضايا منظورة في المحاكم بسبب رسائل واتس آب، وهناك قضايا منظورة في المحاكم بسبب تغريدة في تويتر، وناس يقضون أحكامًا في هذا.
إذن؛ الإنسان بحاجة إلى الصَّمت والسكوت، فمن صمتَ نجا، وسبحان الله! هذا مرض، تجد فئام من الناس ابتلي بأنه لا بد أن يكون له حديث على كل حدثٍ، وهذا ليس بصحيح، فالأمور تُرجَع إلى أهلها، والإنسان دائمًا يراجع نفسه فيما يكتب، يكتب الشيء ثم يُعيد النظر ويتأمل حتى يستوعب دراسة أثر هذا الكلام، ثم يكتب.
{ويتأمل الإنسان حادثة الإفك التي حصلت لأم المؤمنين عائشة، ما تكلم من الصحابة إلا ثلاثة..}.
قال تعالى: ï´؟إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْï´¾، التَّلقي هذا يعني: قيل وقال، ونقل كذا...، فسبحان الله! فالإسلام آدابه عظيمة، ولكن مَن يتخلق بهذه الآداب، فإن فيها سلامة الدين والدنيا!
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوصيك بأن تكون متأنٍّ فيما تقول وما تفعل، وكون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحذِّرُكَ أنَّ من أسباب دخول النار حصائد الألسنة، فكيف تسمح لنفسك بمثل هذا؟! وإذا كان الناس يؤاخذونك ويعاتبونك على كلمة وربما تتراجع عنها وتسحبها؛ فكيفَ بربِّ العالمين؟!
والغريب يا شيخ؛ أنك في عافية ما لم يُدوَّن ما كتبت، الآن ما تكتبه في ظل الحفظ المعلوماتي مكتوبٌ عليك، تموت والنَّاس سيقرؤونه؛ أليس هذا يدعوك لأن تكون على حرص ألا تكتب إلا ما يرضي الله -عزَّ وجل- في الآخرة، وما يكون عندك ثقيل في الميزان، أو تسكت، اتَّهم رأيك يا أخي، والله المستعان.
وهذه الأحاديث العظيمة التي ذكر فيها «الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ» كلها تصدق على واقع هذا الزَّمن والله المستعان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَمَا تَأْكُلُ الْبَقَرَةُ بِأَلْسِنَتِهَا». رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبو داود والترمذي.
وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- مرفوعا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ» رواه الترمذي وأبو داود)}.
الحديث الأول عن سعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إسناده صحيح، وحديث عبد الله بن عمرو فيه ضعف، ولكن يشهد له الحديث الذي قبله.
وتحت الحديث الأول مسائل:
- في الحديث إخبار من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشرطٍ من أشراط الساعة وعلامة من علاماتها، ووقع ما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي من دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأشراط الساعة -كما تقدم- منها أشراط صغرى ومنها أشراط كبرى، وهذه من أشراط الساعة الصغرى.
والحديث فيه صورة من صور التشبيه البليغ، وتشبيه الإنسان بأفعال الحيوانات؛ فهؤلاء الذين يتكلمون ويأكلون بألسنتهم فهم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقرة العلف بلسانها، ولا شكَّ أن التشبيه بليغ، فأكل البقرة للعلف ظاهرٌ لكل أحدٍ من وجهين:
الوجه الأول: أنَّه مما يُستقذَر، فإذا رأيتَ البقرة وهي تأكل تستقذر طريقة أكلها، فهذا على وجه الذَّمِّ لفعلهم شبَّهم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بطريقة أكل البقرة.
الوجه الثاني: أنهم يتكلمون ليأكلوا شيئًا من المال لكلامهم، فهم يتكلمون لأجل النوال، كما أنَّ البقرة تأكل بلسانها فهم يأكلون بألسنتهم.
الوجه الثالث: أنَّ البقرة تأكل بلسانها بخلاف الحيوانات كالبعير مثلًا، أمَّا البقرة فلا تأكل العلف إلا بلفه بلسانها.
الوجه الرابع: أنَّ البقرة لا تميز فيما تأكله، بل هي تأكل كل ما وقعت عليه، فحال هؤلاء لأجل أنهم لا يُميِّزون في كلامهم فهم يتكلمون ليأكلون كما تأكل البقرة كل شيء.
فهذه أوصاف عظيمة من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أبلغ ما يكون التشبيه والكلام.
وفي الحديث مسألة مهمَّة: أنَّه قد جاءت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدَّة أحاديث فيها خطر الكلام لأجل عرض الدنيا، منها أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وعيده قال: «وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِنْ سَخَطِ اللَّه» وفي بعض الروايات: «لا يُلْقي لهَا بَالًا يهِوي بهَا في النَّار سبعين خريفًا» ، يعني: سبعين سنة يُحبس الإنسان في النَّار بسبب كلمة، وهذا يدلك على أنَّه ينبغي للإنسان أن يتبصَّر بالكلام الذي يخرجُ بينَ شفتيه، ويجعله في الميزان حتى لا يقع، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ»، فهم يتكلمون لأجل النَّوال، ويسمون هذا بأسماء لا تغير الحقائق، فينبغي للإنسان أن يعرف هذا، وأن يقدر أمانة هذه الكلمة ومسؤوليَّة هذه الكلمة، يحسب لها حساب، ولينظر فيما يقدم، وليعلم أنَّه مُؤاخذ بما تَكَلَّم به.
ومن المسائل التي ذكرت في هذا الحديث: إثبات صفة من الصفات الفعلية لله -عزَّ وجل- وهي أنَّ الله -عزَّ وجل- يُحب ويُبغض، وصفة الحب والبغض من الصفات المتعلقة بمشيئته -سبحانه وتعالى- وحبُّه وبغضه -سبحانه وتعالى- ليس كحب المبغضين ولا كبغض المخلوقين، فصفة البُغض من صفاته -سبحانه وتعالى- التي لا مُماثلة فيها بوجهٍ مِنَ الوُجوه، فإذا كان هذا الأمر مما يُبغضه الله -عزَّ وجل- ولذا ينبغي للمسلم أن يتجنَّب هذا الخلق الرذيل.
{أحسن الله إليكم شيخنا..
التَّكسُّب باللسان مَقصورٌ على مَن يشتغل بالعلم الشرعي؟ أو كل من يتكسَّب بلسانه من الشعراء؟}.
لا شكَّ أنَّه إذا وقع في المحظور ومدح الشَّين وَذَمَّ الزَّين والكذب؛ فلا شكَّ أنَّه يصدق فيه هذا الوصف، فالكلمة لها مسؤوليَّة، فينبغي للإنسان أَلَّا يمدح من لا يستحق المديح، ويُغيِّر الواقع، ويُبالغ في المديح؛ لأنَّ الأنسان مؤاخذٌ بما يفعل، فعليه أن يعتبر وأن يحذر غاية الحذر من مثل هذه الأمور.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوِ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلا» رواه أبو داود)}.
الحديث فيه ضعفٌ، ولكن الأحاديث التي قبله تشهد إلى معناه.
قوله: «صَرْفَ الْكَلامِ»، يعني: تصاريف الكلام والتَّعمُّق فيه لأجل أن يُؤثر في النَّاس ويصرف وجوه النَّاس إليه، فهو تعلَّم للتَّأثير؛ لأنه قال: «لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوِ النَّاسِ»، فدلَّ على أنَّ هذا التَّعلُّم لهدف، وهذا الهدف مذموم؛ لأنَّه يُراد به التأثير في النَّاس لا لأجل أن يؤثر في الناس لاتباع الحق، وإنَّما ليكون مُؤثرًا في النَّاس في تغيير أفكارهم وآرائهم والتَّكسُّب بذلك، لأنَّه مؤثِّر.
قال: «لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلا».
الصرف في كلام أهل العلم وعند شرَّاح الحديث: هو النَّافلة.
والعدل: هو الفريضة.
يعني: لا يقبل الله تعالى منه عملًا، وهذا أورده المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ- للدلالة على أهميَّة الإخلاص في التَّعلُّم والتَّعليم والتَّوجيه، وعلى طالب العلم أن يكون على حذرٍ من هذه الآفات المهلكة، فالآن بعض الناس يتعلم الخطابة ويتعلم العبارات لأجل أن يُؤثر في الناس ليُستخدَم في تسويق صنعة أو سلعة أو ما شاكل ذلك للتَّأكُّل، ولا يهمُّه مُوافقة الحق، كما تعرف الآن من التَّسويق والدِّعايات؛ كل هذه لأجل عرض الدنيا، ومُشتمل على الكذب وعلى الدَّجل، وسيطرة الحياة المادية على الناس حتى صاروا يَطلبون هذه الأمور، وهذه -نسأل الله العافية- من الآفات ومن المهلكات التي عمَّت وطمَّت، وألفها الناس حتى صاروا لا يُنكرونها، وهذه أخلاق مذمومة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: «كَانَ كَلامُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلاماً فَصْلا يفْهَمُهُ كُلُّ مَن يَسْمَعُهُ»، وقالت: «كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ»، وقالت: «لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ». روى أبو داود بعضه)}.
هذه الأحاديث التي أوردها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- الإمام محمد بن عبد الوهاب إنما أرادها لأجل أن يتخلق بها طالب العلم، لأن طالب العلم أسوته في خطابه وفي تعليمه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ï´؟لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌï´¾ [الأحزاب:21]، فالأسوة في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا يستدعي الحديث عن صفات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكلام، وهديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكلام، ومن أجمل المؤلفات التي ألفت في هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتاب ابن قيم الجوزية المسمى "زاد المعاد في هدي خير العباد" فهذا من أنفع الكتب، ويسميه أهل العلم الهدي النبوي، وألفه الإمام ابن القيم في سفره، وهو كتاب عظيم النَّفع.
ومما ذكره الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- صفة كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أعظمها وهي من خصائص كلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يُمكن أن يكون لغيره، وهذا ليس موضع أسوة؛ لأنَّ هذا مما ختصَّ به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه أوتي جوامع الكلم، يعني: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتكلم بالكلام القليل عظيم النفع، وهذا من عظيم البلاغة؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُبلِّغ، ولهذا أعطاه الله -عزَّ وجل- هذه الخاصيَّة.
ومما يذكره أهل العلم في جوامع الكلم الذي أوتيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ، فهذه العبارة تشمل عن معانٍ عظيمة جدًّا.
ومما ذكر في كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه كان يُحدِّثُ حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه، تقول عائشة: «لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ»، وفي بعض الروايات «كَانَ يُعيدُ الكَلام ثَلاثًا؛ ليُعقل عنه»؛ لأنَّه مُبلِّغ.
ومن صفات كلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يتكلم بكلامٍ فصلٍ، يعني: لا يُوالي بين كلامه؛ بل يفصل بينه ليُفهَم عنه، ولهذا إذا فصل المتكلم في كلامه كان ذلك أوعى وأبلغ في الانتفاع، وفي الحفظ والسماع.
ومن صفات كلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قول عائشة: «لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ»، وهذه الصفات لكلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبعث على الإنسان أن يقرُب من هذه الصفات وإن كانت من خصائصه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيُعنَى بالإيجاز، ولهذا الإمام المصنِّف قال: (باب التجوز في الكلام)، يعني: الإيجاز في كلامه؛ لأنَّ مهمَّة طالب العلم التعليم، فيكون في خطبته وفي وعظه كما قالت عائشة: "إذا وعظتَ فأوجِز"، وقال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "خير الكلام ما قلَّ ودلَّ ولم يُطَلْ فيُمَلْ".
وتستغرب أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ»، يعني: من علامة فقه الرجل أن يكون قصير الخطبة طويل الصلاة.
وأنا أدعو الخطباء أن يعنوا بهدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يتخلقوا بأخلاق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الإيجاز في الخطبة؛ لأن هذا أنفع ما يكون للناس، وأن تكون الخطبة مشتملة على الآثار والأحاديث النبوية، وهذا الذي كنَّا نعرفه من مشايخنا، ولو نظرتَ في خطب أئمة الدعوة وخطب المشايخ تجد أنها موجزة، وما نقل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنته في خطبته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يوجز، وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ بالأعلى والغاشية، والجمعة والمافقون، والجمعة والغاشية؛ فهذا طول صلاة، فعلى الخطباء أن يتمثَّلوا بهذا الهدي النبيو.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-07, 07:49   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

أُصُولُ الإيمانِ (2)
الدَّرسُ الثَّانِي عَشَر (12)
فضيلة الشَّيخ/ د. فهد بن سعد المقرن

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله يا شيخ عبد الرحمن.
{لازلنا في أحاديثَ تابعةٍ لبابِ "التَّجوُّزِ في القولِ وتركِ التَّكلُّفِ والتَّنطُّعِ".
قال المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَبدَ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ، فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُلَقَّى الْحِكْمَةَ». رواه البيهقِي في شعبِ الإيمانِ)}.
بسم الله، الحمدُ للهِ، وأشهدُ ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه من خَلقِهِ، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
وبعد؛ فنسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع العِلم النَّافع والعمل الصَّالح، وأن يُوفِّقنا إلى الانتفاع بهذا العلم.
هذا الحديث في سنده ضعفٌ، ولكن له شواهد من أحاديث أُخر تدلُّ على معنَى هذا الحديث.
وهذا الحديث يُفيد أنَّ مَن زَهَد في الدُّنيا، وظَهَرَ زهدُه في قلَّة مَنطقه وتباعده عن الدُّنيا؛ فإنَّ من آثارِ هذا على قلبه أنه يُوفَّق للسَّداد والصَّوابِ والحكمةِ، وهذا من الآثار المباركة في الزُّهد في الدُّنيا، فإنَّ الطَّامع في الدُّنيا لا يُوفق للحكمة ولا للسَّداد؛ لأنَّ مُراده دنيوي، فهو يطلب عرضًا من الدُّنيا فهو قد أخلدَ إلى الأرض، بخلاف الزَّاهد فيها المقبل على ربِّه، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- إذا أشكلت عليه مسألة من المسائل يُكثر من الاستغفار؛ لعلمه -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ ما يحول بين الوصول إلى الصَّواب والإصابة هو هذه الذُّنوب التي قد تمنع من تحقيق الصَّواب.
السؤال الأول:
كل طامعٍ في الدنيًا حريصٍ عليها بقلبه وجوارحه؛ وُفق للسَّداد والصَّوابِ والحكمةِ فيها.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/tJvX5TIOfZo

كذلك يشهد لهذا الحديث الذي رواه أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ما رواه الترمذي -وفيه ضعف أيضًا- قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ» ، ولهذا لو نظرتَ في كلامِ أهلِ العلم وفي عباراتهم لوجدتَّ أنَّهم يوفَّقون بالكلامِ القليل إلى الكلام النَّافع الذي ينتفع به النَّاس، وهذا مرَّ معنا في كلام الحسن البصري -رَحِمَهُ اللهُ- لما نقل مِن أنَّ كلامه يشبه كلام الأنبياء، ومن هذه المشكاة؛ فإن العبد إذا أقبل على ربِّه وتجافى عن دار الغرور؛ فإنه يُلقَى الحكمة ويُوفَّق للصَّواب، وتكون مواعظُه نافعة، ومصنَّفاته نافعة، أحاديثه نافعة، بخلاف مَن كان يطلب الدُّنيا؛ فإنَّ مواعظه لا ينتفع النَّاس بها، وعلومه لا يكون لها أثر، واعتبِرْ بعلماء الإسلام من المتقدِّمين المعاصرين ومِن المتأخِّرين، وانظرْ كيف أنَّ العالم ببركة علمه وزهده يُوفَّق للصَّواب، وينتفع النَّاس بمقالاته وبكتِبِهِ وبعلومِهِ، وهذا هو الواجب.
إذن؛ مدارُ الأمورِ على ما في القلبِ، فإنَّ العبدَ إذا أقبلَ على الله تعالى فإنَّه يُوفَّق للسَّداد والصَّواب، وإنَّما يُراد هذا العلم لِمَا يُبتغى به وجه الله -عزَّ وجَلَّ- فمَن ابتغى به عرضَ الدُّنيا فإنَّه لا يُفلِح ولا يوفَّق ولا يُسدَّد، وهو وبالٌ عليه وحجَّةٌ عليه يوم القيامة، فلابدَّ أن يكون هناك تلازم بينَ العلمِ والعملِ، وأن يكونَ أثرُ العلم في قلبِ العبدِ.
وأمَّا إذا صارَ هذا العلم يستخدمه لمماراة السُّفهاء ومباهاة العلماء، أو لصَرفِ وجوه النَّاس إليه؛ فإنَّه لا يُوفَّق إلى خيرٍ، ولا ينتفع النَّاس بمواعظه ولا بعلومه، وليست العبرة بكثرة المحفوظ ولا بالتَّباهي ولا بالتَّباهي بسردِ الحديث والتَّطاول على النَّاس بالحفظِ والفَصَاحةِ وغريبِ الألفاظِ؛ بل إنَّ العلمَ إذا ما خرجَ من قلبٍ خاشعٍ ووافقَ الحقَّ والصَّواب، والعلم فقهٌ في شريعة الله -عزَّ وجَلَّ- فربَّما يتكلَّم العالم بكلمات بسيطةٍ، ولكن بكلماته البسيطة ينفع الله بها وتُطفئ فتن، والعالم يصنع التاريخ، ووجود العلماء الخاشعين الرَّاسخين في العلم سببٌ من أسباب الأمان للأمَّة، فهذا هو صمَّام الأمان للأممِ وللشُّعوبِ وللبلدان وللمجتمعات.
ولهذا فإنَّ الواجب على حكَّام المسلمينَ وعلى طلَّاب العلم أن يعنوا بالعلمِ وبالعلماء، وبتوقيرِ العلماء، والاستماعِ إلى نصائحهم وتوجيهاتهم؛ فإنَّهم إن كانوا من أهل العلم المخلصين فإنَّهم لا يريدون إلا وجه الله -عزَّ وجَلَّ- ونصائحهم مُباركة، وهم موفَّقون، وكما قيل: إذا أقبلت الفتنة فلا يعرفها إلَّا العلماء؛ فهم أهلُ البصائر، والله -عزَّ وجَلَّ- أعطاهم من الحفظ لكلامه ولسنَّة نبيِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يستطيعونَ به أن يميِّزوا بين الحقِّ والباطل، ولهذا فإنَّ تسفيه علماء أهل السنَّة وأهل الخشية، وتسفيه آرائهم، ولمزهم بالألقاب أنهم لا يعرفون ما يصير في هذا العالم؛ فهذا تجهيلٌ لهم، وهم ليسوا بأهلِ جهلٍ؛ بل هم أهل علم؛ لأنَّ مِن قرأ القرآنَ وعلِمَ السُّنَّة استطاع أن يعرفَ كيف تُدار الأمور، والعالم يكون عنده من الفهم والسِّياسَة الشَّرعيَّة والإحاطة بالأمور كلها ممَّا هو موجودٌ في كتابِ الله -عزَّ وجَلَّ- وفي سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السؤال الثاني
تسفيه أهل السنَّة وأهل الخشية في آرائهم، ولمزهم بالألقاب يُعد من التجهيل.
صواب
https://www.youtube.com/embed/Ht5rxKI0UXE

{أحسن الله لكم يا شيخنا..
ذكرتم أنَّه ينبغي توقير العلماء واحترامهم، ولكن بعضهم يقول: إنَّ هؤلاء العلماء بشر يُصيبون ويُخطئون؛ وقد يفهم البعض أن توقيرهم واحترامهم هو رفعٌ لهم فوق منزلتهم}.
التَّوقير والاحترام والصُّدور عن رأي العلماء يختلف عن هذا؛ لأنَّ كل أمَّة لها قادة، ومن بزوغ فجر الإسلام إلى يومنا هذا يقود الدول المسلمة الأمراء والعلماء، ولهذا جاء في تفسير قوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْï´¾ [النساء:59]، أنَّ أولي الأمر: العلماء والأمراء؛ لأن الأمراء يُدبرون سياسة الناس، والعلماء يسوسون النَّاس في أمورِ دينهم، فثَمَّ تلازمٌ بينَ الإمارةِ وبينَ العلمِ، إذا حصلَ انفصالٌ بينَ الأمراءِ والعلماءِ فهذا انفصالٌ لأمنِ الدَّولةِ وحقيقتها، والحمد لله فإنَّ دول المسلمين ما زالت على هذا النَّحو، فأهلُ العلمِ هم الذين يسوسون النَّاس، وهم أخبرُ وأعلمُ بمصالحِ المجتمعِ وما يُحقِّق الصَّالحَ، وهم أهلُ البصائرِ.
ولو نظرتَ فيما ينزلُ على النَّاس مِن نوازلٍ، ثَمَّ أمورٌ مُعيَّنة يكون للعلماء فيها فتوى وموقف قد يُستَغرَب منها، تجد أنَّ فتاواهم موجودة، ثم بعدَ سنوات إذا نظرتَ للأمرِ بكليَّةٍ وشموليَّةٍ وجدتَّ أنَّ فتاوى أهل العلم كانت مِن أسباب الأمانِ، وأنَّ اتَّخاذ هذا القرار لاعتبارٍ معيَّنٍ لا يصبُّ في مصلحة الدَّولة ولا في سياسة الرَّعية، إذن العلماء هم أهل البصائر، ولهذا فهم يسوسون أمرَ الناس في دينهم، والأمراء يسوسون أمرَ الناس في دنياهم، وثَمَّ تلازمٌ بينَ الدِّين والدُّنيا، ما في فصل في الإسلام بينَ الدِّين والدُّنيا، وهذا الفصل موجود عند العلمانيَّة، أمَّا عند المسلمين ففيه تلازم بين الدِّين والدُّنيا، فالدُّول الإسلاميَّة عليها أن تصدر عن علمائها، وأن تأخذ برأي العلماء، لأنَّ هذا -بإذن الله- سبب لتجنيب الأمَّة الفتن والاختلاف والشِّقاق، وأعداء المسلمين لا يريدون بهذه الأمَّة خير، هم يريدون التشكيك في العلماء، ويريدون النِّزاع بين السُّلطة السِّياسيَّة والسُّلطة الدِّنيَّة -إن صحَّت العبارة- حتى يختلف الرأي، فأهل العلم يحرصون على جمع الكلمة، لأنَّهم يعرفون أنَّه من ثوابت الدِّين لزوم الجماعة، فهذا يدلُّ عليه الأحاديث والنصوص المتكاثرة في هذا الجانب.
{قال في الحديث «وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ، فَاقْتَرِبُوا مِنْه»، هل نأخذ بمفهوم المخالفة أنَّ من يتفَاحَص يبتعد عنه؟}.
ذكرت النُّصوص أنَّ الإنسان لا يتكلَّم إلَّا فيما يُحتَاج إليه، وذكرنا هدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكلام، ولا شكَّ أنَّ كثرة الكلامِ وفضولهِ ممَّا لا ينبغي، حتى في الفتوى تجد العلماء لهم مصنَّفات في آداب الفتوى والاستفتاء، فالمفتي عليه أن يُفتي العامِّي بما يُحقِّق إفادَته في الجواز، يسأله هل يجوز أو لا يجوز، فيُخبره أنَّ هذا لا يجوز، ويُخبره إجمالًا بالدَّليل؛ لأنَّ العامِّي لا يحتاج التَّفصيلِ، فهذا هو منهجُ أهلِ العلمِ في فتاواهم، بخلاف مقام الدَّرس والتَّعليم لطلاب العلم، وذلك حتى ينتفع الناس، فكثرة الكلام -كما مرَّ معنا في الأحاديث- مما جاء ذمُّه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: ( وعن بريدة - رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم يقول: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا ، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حكْمًا، وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالاً»)}.
الجزء الأول من الحديث «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا»، أخرجه البخاري في كتاب الطِّبِّ، وأمَّا تمام الحديث بهذه الرواية ففيها ضعفٌ.
ولعلَّنا نقفُ وقفاتٍ مع هذه العبارات التي وردت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أولًا حديث البخاري: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا»، سبب ورود الحديث -كما جاء في البخاري- أنَّه قَدِمَ رجلانِ من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا».
والمقصود بالسحر هنا: أنَّ البيان والبلاغة يفعل كفعل السِّحر في تصريف العقول والعدول بها من رأيٍ إلى رأيٍ، وهذا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على وجه الإخبار لا على وجه المدح ولا على وجه الذَّمِّ، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ» ، ولهذا قد يكون الإنسان صاحب الحق ضعيف المنطق، وليس عنده قدرة على الإفصاح، فيحتاج إلى أن ينتبه إلى هذا الأمر، فإذا كنتَ ليس عندك بيانٌ في الخصام وخصمُك أقوى منك في البيان -لا في الحجَّة- فقد يكون عندك حجَّة ولكن ما عندك بيان؛ فعليك أن تستعين بآخر، والله -عزَّ وجَلَّ- قال عن النساء: ï´؟أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍï´¾ [الزخرف:18]، وهذه سنَّة كونيَّة، فلا تغترَّ أنَّ بعض النساء الآن ربما صرن يُقلدنَ الرجال في المواجهات والكلام، ولكن فطرة المرأة أنَّها لا تُبين في الخصام، ولهذا إذا وقعت مشكلة فإنها تحتاج إلى الرجل، حتى في الدول التي تنتخب النساء تعرف هذا الأمر، فقد يكون فيه شذوذات ولكن العادة المطَّردة لا تتغير، فينبغي أن يُنتبه لهذا.
السؤال الثالث:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» فيه دلالة على ذَمِّ البيان مطلقًا.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/pzr9WBpfvfE

وهل يُفهم من الحديث أنَّ فيه ذمٌّ للبيان؟
الظَّاهر أنَّ هذا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إخبارٌ كما ذكرنا، أنَّ البيان والبلاغة سببٌ لاستمالة قلوب الناس، فإذا وُضع في موضعه فهو حسنٌ، وإلَّا فهو مذمومٌ، وهذا مثل قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»، فهذا إخبارٌ، فهذا من جملة أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي تبيِّن أنَّ الناس يحتاجون إلى أن يتعلموا البيان حتى يُؤثِّروا في النَّاس، فيتعلَّم القدرة على الإلقاء، والقدرة على الإفصاح لِمَا عنده من الحق، حتى يعلو الحقُّ على الباطلِ بهذه النيَّة.
السؤال الرابع:
على من أراد أن يؤثر في الناس أن يتعلم القدرة على الإلقاء والإفصاح.
صواب
https://www.youtube.com/embed/WZ2AXkjvkEU

ولعلَّ هذا يلفت أنظارنا إلى ما يُفعل الآن من البيان، فإن الإعلام الآن من البيان، فصار الإعلام الآن من الأسلحة المؤثِّرة في الأمم وفي المجتمعات، بل إنَّ الصِّراع بين القوى المختلفة يقوم على الإعلام، ولهذا صدق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وصفه بالسِّحر؛ لأنَّك تجد الإعلام في قضيَّة مُعيَّنة يقلبها رأسًا على عقب، ويجعل الباطل حقًّا والحق باطلًا بسبب هذا البيان، فهذه هي صناعة الإعلام، وهذا خطرٌ على المسلمين، وخطرٌ على أهلِ الحق، وعلى النَّاسِ أن ينتبهوا إلى الإعلام؛ لأنَّه سلاحٌ عظيم، وهو الآن مُتاح على المسلمين أن يستقوا منه قدر المستطاع، فعلى طلاب العلم وعامَّة المسلمين والدُّعاة أن ينتبهوا إلى مسألة الإعلام، وأن يكون هذا الإعلام نافذ، وأن يتعلموا هذه الأسلحة لإظهار الحقِّ.
فهذا تحذير لطالب العلم، أنَّ عليه أن يعمل بعلمه، وأن يكون هذا العلم حُجَّة له لا عليه، حتى لا يكون له مَثل هذا السوء.
السؤال الخامس:
ليس للإعلام أية أدوار مُؤثرة في الأمم والمجتمعات، وعلى هذا لا يجب الانتباه إليه.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/_micmB8wblI

قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حكْمًا»، فمازال النَّاس يحفظون مِن أشعار الحِكَمِ، ويستشهدون بذلك، وهذا هو الشعر النَّافع، أمَّا شعر الهجاء وشعر المفاخرة بعادات الجاهليَّة فهذا شِعرٌ مذمومٌ لا يستفيد منه صاحبه، ولهذا فإنَّ الإنسان الذي يُعطيه الله -عزَّ وجَلَّ- القدرة على نظمِ الشِّعر فليعلم أنَّ هذه هبةٌ من الله -عزَّ وجَلَّ- وعليه أن يستخدمها في نفعِ النَّاس؛ فإنَّ النَّاسَ ينتفعون بهذه الحِكَم، وما زال النَّاس يحفظون مِن شعرِ الحكمةِ ويتداولونه.
على سيبل المثال: مِن العلماء الذين لهم سبقٌ في الشِّعر الإمام الشَّافعي -رَحِمَهُ اللهُ- وما زال النَّاس يتداولون أبياتَ الشَّافعي، وهي من علِمِه الذي ينفع؛ لأنَّه من شعر الحكمة.
السؤال السادس:
قوله: «وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حكْمًا» يدل على أنَّ الشعر كله نافع.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/Crwt1Mr-t7c

ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالاً»، يعني: بعض القول قد يكون لا فائدة فيه، وهو أن تُلقي المقال على مَن لا ينتفع به، أو من لا يُريد الاستماع إليه، وهذا يصدق على بعض الناس الذي يتكلَّم في مواضع لا يحسُن فيها الكلام ولا الوعظ ولا التوجيه؛ فلكلِّ مقامٍ مقال، فينبغي أن يُراعي المتكلِّم أحوال النَّاس فيما يتكلَّم، وهل قوله سيكون له نفع وإفادة وإصابة، وإلَّا يُعرض عنه، فإنَّ من القول عيالًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه- أنَّه قَالَ يومًا وقامَ رجلٌ فأكثرَ القولَ فقال عمرو: لَوْ قَصَدَ في قَوْلِهِ لكَانَ خيرًا له؛ سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- يقول: «لَقَدْ رَأَيْتُ -أَوْ أُمِرْتُ- أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ». رواهما أبو داود)}.
الحديث فيه ضعفٌ، ويدلُّ على أصلٍ مُهمٍّ، وهو الإجمال والتَّجوُّز في المواعظ والكلام والحديث، فإنَّ الجواز خيرٌ للناس جميعًا وخيرٌ للسَّامعين، ومرَّ معنا في الحديث «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ» ، وجاء عن جابر بن سمرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النبيِّ ï·؛ الصَّلَوَاتِ، فَكَانَتْ صلاتُهُ قَصداً وخُطْبَتُه قَصْدًا" ، فكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقتصد، وعن جابر قال: "كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات"، وجاء عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان يتخولنا بالموعظة خشية السَّآمة علينا".
السؤال السابع:
التجوزُ في المواعظ والحديث خير للسامع فقط دون المتكلم.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/g2zWxWadxI8

وهذا توجيهٌ ختم به المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- كتاب أصول الإيمان لبيان أنَّ الناس يحتاجون إلى الموعظة والبيان، فإنَّ من البيان لسحرًا، ويحتاجون إلى التَّجوُّز، فالإنسان لا ينبغي له أن يُطيل في الكلام والتفصيل، بل يتجوَّز قي ذلك، وحتى الآن العلوم المتعلقة بمسألة التأثير مثل الإعلام وما شاكل ذلك يرون أنَّ التَّجوُّز هو أنفع ما يكون؛ بل يرون أنَّ الملقي إذا تكلَّم أو خطبَ خطبةً أو أراد أن يُبيِّن فإنَّ السَّامعين يستمعونَ له وينصتون له في عشر دقائق، فإذا تجاوز العشر دقائق فإنَّ السَّامعين يحصل لهم الملل والسَّآمة وعدم الانتباه، فينبغي لأهلِ العلمِ ولأهلِ الخيرِ ولمَن أولاهم الله -عزَّ وجَلَّ- البيانَ والكلامَ أن يتجوَّزوا.
والنَّاس الآن يحتاجون إلى التَّجوُّز في الكلام في اللقاءات، والاقتصاد في الكلام وعدم الإطالة، فنحن في زمان يتأثر فيه النَّاس بالكلام المختصر والبليغ في مواعظهم، ولهذا فعلى إمام المسجد أو مَن يُريد موعظة النَّاس أن يقتصِدَ في كلامِه حتى يكونَ الكلامُ نافعًا، وهذا مِن سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو التَّجوُّز في الكلام وعدم الإطالة.
وقد ذكرنا أثر علي بن طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "خير الكلام ما قلَّ ودلَّ ولم يُطل فيمل".
إذن الكلامُ الطَّويلُ مملٌّ ولا ينفع، فعلى مَن له عناية بمثل هذا الأمر أن ينتبه لهذه المقاصد، والبلاغة ليست في كثرة الكلام ولا في التَّفصيل، حتى في أحاديث النَّاس تجد بعضهم إذا أراد أن يشرح قضيَّة يُطيل الكلام فيسأم الناس حديثَه لأنه يطيل، وطبيعة النفس ما تريد الإطالة؛ بل تريد الاختصار في كل العلوم، فالاقتصاد أنفع في كلِّ الأمور، والإطالة مذمومة، ولهذا فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الإطالة حتى في الصلاة، فلمَّا أطل معاذ بن جبل في صلاة العشاء على الناس؛ قال له: «أفتان أنت يا معاذ؟!»، وهذا يدلُّ على أنَّ من طبيعة النَّفس البشريَّة أنها تحب الاقتصار والاختصار، وهكذا ينبغي لأهل العلم ولطلاب العلم والمعلمين والمعلمات أن يعنوا بالاقتصاد والتَّجوُّز، وهذا من مُراعاة أحوال الناس؛ لأنَّ الإسلام جاء بمراعاة أحوال السَّامعين، ومُراعاة المجتمع الذي يُحيطُ بك، فهو دين الرَّحمة، ألا ترى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا سمع بكاء الصَّبي في صلاته تجوَّزَ -أي: اختصر- فكيف يكون الإنسان في محفلٍ ويُطلب منه كلمة؛ فيُلقي كلمة طويلة، وبعض الأحيان يأخذ عشرين دقيقة، وهو يُراد منه خطاب مختصر!
السؤال الثامن:
على الإمام في الصلاة أن يطيل الصلاة تحقيقًا لسنة النبي دون مراعاة لأحوال المأمومين خلفه.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/Klp4wt0MDG8

فإذا أردتَّ أن تنفع فاختصر، وإذا أردتَّ أن يكونَ له أثر في نفوس السَّامعين فانتقِ من الألفاظ أحسنها واختصر، واضبط الوقت ولا تتوسَّع، فإذا طُلبَ منك البيان فلا تتوسَّع، وكُنْ مقتصدًا على الوقت الذي حُدِّدَ واختصر قدرَ الإمكان، حتى يكون لكلامك النَّفع، واعلم أنَّك مهما كانَ عندكَ من الكلام ومن المعلومات وإرادة الخير للناس؛ فإنَّهم يُحبُّون الاقتصاد، ولا يُحبُّونَ التَّطويل، حتَّى لطلاب العلم فالاقتصاد والاختصار مطلوب، وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا.
فهذا أمرُ اللهِ، وأمرُ رسولهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه سُنن أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا دينُ الإسلام، فعلى النَّاس جميعًا أن يحرصوا كلَّ الحرص على مثلِ هذه المعاني.
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا للعم النافع والعمل الصَّالح، وهذا أوان ختم هذا الباب، وختم هذا الكتاب؛ فنحمد الله -عزَّ وجَلَّ- أن يسَّرَ تمامَ هذا الشَّرح، ونسأل الله أن يجعله حجَّةً لنا لا حجَّةً علينا، وأن ينفع به مَن شاهده، وأن يجعله ذخرًا لنا إلى يومِ الدِّين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد.
{وفي ختامِ هذا الفصل أسأل الله أن يجزيكم خير الجزاء شيخنا على ما قدَّمتموه، وأن يكتبه في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-15, 14:33   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
الرائد
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك أخي وأحسن الله إليك










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-19, 07:26   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الرائد مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك أخي وأحسن الله إليك
وإياكم اخي









رد مع اقتباس
قديم 2019-05-22, 10:51   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
تسويق اون لاين
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

جزاك الله كل خير










رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 09:37

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc