مقدّمة:
"تبدأ الفلسفة بالدّهشة" إنّه لقول مأثور لأفلاطون. وأيّة دهشة هي هذه؟ إنّها دهشة العقل إزاء معنى الوجود، وأسرار الموجودات! فعندما ينظر المرء إلى جمالات الكون بعين الفكر، ويسمع صوت الحياة بأذن الحكمة، ويؤمن بواجب الوجود وعلّة العلل إيمانا ذكيّا، آنئذ تبدأ الفلسفة، وما أروعها! ويغدو كلّ شيء في الحياة فلسفة.
حبّ الحكمة هي، وإن لم تكن موجودة لكان يجب علينا إيجادها! فالبحث عنها هو أيضا فلسفة، على ما يقول أرسطو، ذاك الفيلسوف اليونانيّ الكبير الذي فتنت أفكارُه رُشدَ "ابن رشد" فسمّاه "الإنسان الأكثر كمالاً "، وكرّس سنيّ عمره لتلخيص مؤلّفاته وشرحها بلسان عربيّ مبين، فاندمجت خواطر الفيلسوف اليونانيّ بأفكار فيلسوفالأندلس، إلى أن وجد نفسه حائرا بين العقل والإيمان، فقرّر مقاربتهما للتّوفيق بينهما، ولم لا؟ فالفلسفة لا تخلو من الإيمان والإيمان لا يخلو من الفلسفة، هذا ما أراد إثباته ابن رشد في "كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشّريعة من الاتّصال"، إذ حاول فيه التّوفيق بين شريعة الحكمة وحكمة الشّريعة؛ وهذا ما شئنا تبيانه في بحثناالمقتضب والمتواضع، عبر الغور بإيجاز، في سيرة أبي الوليد، وأعماله الكبيرة، وفكره الفلسفيّ الذي تجاوز صداه حدود الأندلس والمشرق العربيّ، إلى أن ضجّت به أروقة الغرب الفلسفيّة، ناقلا فكرا عربيّا مطعّما بفكر يونانيّ، وما الضّير في ذلك، فالفلسفة ليست حكرا على أحد.
ومن خلال هذه المقدمة الوجيزة فقد تبادرت إلي ذهني التساؤلات التالية :
1- من هو ابن رشد وماهي أهم آثاره ؟
2- إلي أي مدي تمكن ابن رشد في التوفيق بين العقل(الفلسفة) و النقل(الشريعة)؟
\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\ \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\ \\\\\\\
الفصل الاول: ابن رشد
المطلب الاول: التعريف بإبن رشد
ولد أبو الوليد محمّد بن أحمد بن محمّد بن رشد المعروف في الغرب بِ،Averroes في مدينة قرطبةعاصمة الثّقافة العربيّة في الأندلس، عام 1162 م، وآان ينتمي إلى أسرة عريقة يُشهد لها بالفضل والعلم والفقه والقضاء. والده أبو القاسم أحمد بن رشد قاضي قرطبة.
نشأ ابن رشد في بيئة زاخرة بالعلم والفضيلة، فانخرط في صفوف طلاب جامعة قرطبة حيث نهل من علومها المتنوعة ومعارفها الواسعة،فدرس ما يدرسه أبناء زمانه من أصول الدين والفقه والحقوق والصرف والنحو والادب وعلم الكلام.
مكث ابن رشد في مراكش حتى مات عبد المؤمن وخلفه على عرش المغرب ولده أبو يعقوب يوسف.
سماه الخليفة قاضيا على اشبيلية عام 1169م ثم نقله الخليفة إلى منصب القضاء في قرطبة سنة1171م ، حيث انصرف إلى تلخيص كتب أرسطو بناءا على طلب الخليفة نفسه،إذ كانت الاعمال الفلسفية قد نقلت إلى العربية بفضل بعض الكتاب والعلماء اليهود والمسيحيين السريان والكلدان والنساطرة في العصر العباسي .
ولمّا حلّ عام 1182 م،استدعاه الخليفة أبو يعقوب إلى مراكش وجعله على رأس أطبائه بدلا من ابن طفيل.
أما في عهد الخليفة المنصور فلقي ابن رشد بادئ ذي بدء، مالقيه عند والده أبي يعقوب من حظوة وتكريم ، ولكن سرعان ما نقم عليه المنصور بسبب بعض الحاسدين الناقمين الذين أوغروا صدره على الفيلسوف،من جهة،وبسبب تبدل نظرة الخليفة إلى الفلاسفة من جهة أخري ،ونقمته عليهم ونفيهم جميعا ،وحرقه لكتب المنطق والحكمة في بلاد الاندلس وعليه عزل المنصورُ ابنَ رشد من منصبه ونفاه إلى اليسانة وهي بلدة يهودية قريبة من قرطبة حوالي عام 1195م، إلى أن عاد ورضي عنه فيما بعد ، واستقدمه إليه،وأعاده إلى سالف مقامه ومجده ، حتى وافته المنية فى مراكش سنة 1198،وله من العمر اثنان وسبعون سنة .
المطلب الثاني:آثاره
ترك ابن رشد مؤلّفات كثيرة في الفلسفة والفلك والطبيعة والطب والنفس ، والاخلاق والفقه والاصول والكلام واللغة والادب حيث بلغ عددها ثمانية وسبعون مصنفا ، لكن بقي معظمها فى تعداد المخطوطات وتمت طباعة النُزر القليل منها.
نذكر من مؤلّفاته في الفلسفة وإلالهيّات: كتاب تهافت التّهافت، كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال،كتاب جوامع كتب أرسطوطاليس فى الطبيعيات والالهيات،كتاب الجوامع فى الفلسفة،جوامع ما بعد الطبيعة،شرح كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو طاليس ،تلخيص كتاب لما بعد الطبيعة لأرسطو طاليس،مسألة فى الزمان، مسائل فى الحكمة،مسألة فى أن الله تبارك وتعالى يعلم الجزئيات،تلخيص الالهيات ليونقولاوس،كتاب كشف عن المناهج الأدلة فى عقائد الملة، رسالة فى التوحيد والفلسفة.
كتب المنطق ونذكر منها:
كتاب الضروري فى المنطق،تلخيص كتاب البرهان لأرسطوطاليس،شرح الكتاب البرهان لأرسطو طاليس
،تلخيص كتاب المقولات،مقالة فى جهة لزوم النتائج للمقاييس.
كتب الفلك والطبيعيات وأهمها:
شرح كتاب السماء والعالم لأرسطو طاليس،مقالة فى العقل، شرح مقالة السكندر فى العقل،جوامع الحس والمحسوس،الذكر والتذكر،النوم واليقظة والاحلام وتعبير الرؤيا،تلخيص كتاب النفس،مقالة فى علم النفس.
كتب الاخلاق والسياسة:
تلخيص كتاب الاخلاق لأرسطو طاليس،جوامع سياسة أفلاطون.
كتب الفقه والاصول والكلام:
كتاب التحصيل،كتاب المقدمات،كتاب نهاية المجتهد وبداية المقتصد،شرح عقيدة الامام المهدي،مختصر كتاب المصطفي الغزالي.
المطلب الثالث:منهاجه الفلسفي
انتهج ابن رشد أسلوبا فلسفيّا خاصّا به، تميّز بثلاث عناصر:
1-. التّرتيب، أي تتابع الأفكار للوصول إلى الهدف المنشود؛
2-. تجنّب جميع أنواع التّعظيم والتّهويل والمبالغة؛
3- موضوعيّة البحث والكتابة.
وقد أخذ على الفلاسفة الذين سبقوه، مواطن الضّعف والخطأ بكلّ صدق وبساطة؛ وبالرّغم من كثرة إحترامه لأرسطو وشغفه بفلسفته، لم يستسرسل فيلسوف قرطبة، بتبنّي كلّ آرائه من دون إمعان النّظر فيها وتمحيصها بدقّة وذكاء، بل أخذ منها ما اعتبره موافقا للحقيقة، قائلا:" ننظر في الذي قالوه (أرسطو وتلامذته) وأثبتوه في
كتبهم، فما كان موافقا للحقّ قبلناه وسررنا به وشكرناهم عليه، وماكان منها غير موافق للحقّ نبّهنا عليه وحذّرنا منه وعذرناهم".
أمّا من حيث المبنى والشّكل، فقد أخذ البعض على فيلسوف قرطبة، جفاف إنشائه، واضطرابه أحيانا، وافتقاره إلى متانة نصوص ابن سينا، وعذوبة إنشاء ابن طفيل؛ فهو لم يبالِ بتجميل عباراته وزخرفة جمله، وتزيين إنشائه بالصّور البيانيّة والمحسّنات البديعيّة.
آما اعتمد في تلخيصه لكتب أرسطو ثلاثة أمور:
1- الاقتصار على آراء أرسطو الضّروريّة في حصول الكمال الإنسانيّ؛
2-حذف الآراء التي يمكن أن تُعدّ شكوكا على أقاوليه؛
4- الاقتصار على المشهور من الآراء في زمن ابن رشد وحذف تاريخ المذاهب .
أمّا في شرحه لفلسفة أرسطو، فقد أتّبع ثلاث طرق:
1- الشّرح الكبير: يقتبس خلاله كلّ خاطرة ذكرها أرسطو ويحدّدها بقوله:"قال أرسطو"؛ ثمّ يستفيض بشرحها شرحا عميقا وافيا.
2- الشّرح الأوسط: يذكر عبره في متن كلّ فصل بضع كلمات من أرسطو ثمّ ينطلق في الشّرح فيختلط قوله بأفكار أرسطو.
1- الشّرح الصّغير: وهو عبارة عن تحليلات وجيزة .
الفصل الثاني:أضواء على فلسفته ومحاولة التّوفيق بين الحكمة والشّريعة
المطلب الاول:النظر الفلسفي مأمور به فى الشرع
تساءل ابن رشد في البداية عمّا إذا كان النّظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح في الشّرع. فاستنتج أنّ غرض الفلسفة في الأساس هو النّظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصّانع. وبما أنّ الشّرع يحثّ على النّظر في الموجودات وهي إشارة : واعتبارها في العقل كما ورد في القرآن: "يا أولي الأبصار" (2:59)،
صريحة إلى وجوب استعمال القياس العقليّ، أو العقليّ والفقهيّ معا؛ إذ جاء في القرآن أيضا: "ويتفكّرون في خلق السّماوات والأرض" (191:3) ممّا يؤكد أنّ:
الشّرع يحضّ على النّظر في الموجودات، والله يأمر بالبحث عن الحقيقة في العلم ولكن الفيلسوف وحده يكنه حقيقة الدّين .
وبما أنّ "الاعتبار" في هذا السّياق، ليس إلاّ استنباط المجهول من المعلوم وهو القياس العقليّ، وجب علينا أن نجعل نظرنا في الموجودات مبنيّا على هذه الطّريقة،وهو أكمل أنواع القياس، المسمّى برهانا.
لذا، يجب على من يطلب الوصول إلى معرفة الله وسائر الموجودات، إتقان أنواع البراهين وشروطها، وأنواع القياس وأجزائه ومقدّماته، لأنّ نسبة هذه الأمور إلى النّظر كنسبة الآلة إلى العمل.
فبناءً على ما تقدّم، اعتبر ابن رشد أنّ كلاًّ من القياسين العقليّ والفقهيّ، واجب في الشّرع.
المطلب الثاني : وجوب الاستعانة بما قاله القدماء
شدّد ابن رشد على ضرورة الاستعانة بما قاله السّابقون في هذا الشّأن، أسواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين؛ إذ ينبغي أوّلا التمعّن بأقوالهم، فإن كانت صوابا يؤخذ بها، وإن كانت على خطأ، تُترك جانبا، فيُنبَّه عليها ويُحذَّر منها.
كما أنّ النّظر في آتب القدماء واجب في الشّرع، وإن كان بعض الذين يخوضون في كتب الفلسفة قد يضلّون سواء السّبيل، فهذا لا يجب أن يُتّخذ ذريعة لمنع هذه الكتب عن الذي هو أهل للنّظر فيها.
المطلب الثالث:التأويل وأصوله
التّأويل إذاً، ضروريّ للتّوفيق بين ظاهر الشّرع وباطنه، كما هو ضروريّ للتوّفيق بين الدّين والفلسفة. ولكن ماهو تحديد هذا التّأويل؟ يحدّده أبو الوليد باستخراج دلالة اللفظ من الدّلالة الحقيقيّة إلى الدّلالة المجازيّة؛ لأنّ الكثير من ألفاظ الشّرع، إذا لم تؤَّل تأويلا صحيحا، وحملت فقط على ظاهرها، قد تتعارض مع ما أدّى إليه البرهان العقليّ. أمّا إن كان هناك إجماع بطريقة يقينيّة حول بعض المسائل في الشّرع، فلا
يصحّ التّأويل؛ ولكن إذا تمّ ذلك الإجماع بطريقة ظنّيّة، يصحّ عندئذ التّاويل. وكلّ ما يتطرّق إليه التّأويل لا يدرك إلاّ بالبرهان.
وفي السّيّاق عينه، قسم ابن رشد النّاس إلى ثلاثة أصناف:
1-الخطابيوّن، وهم ليسوا من أهل البرهان؛
2- الجدليّون، وهم من أهل التّأويل الجدليّ؛
3- البرهانيّون؛ وهم من أهل صناعة الحكمة.
وعليه، لا يجب أن يصرّح بالتّأويل اليقينيّ للخطابييّن وأهل الجدل، لأنّه قد يفضي بهم إلى الكفر.
وهكذا شجب ابن رشد طريقة الأشعريّة والمعتزلة في التّأويل لأنّها حسب رأيه لا تتضمّن التّنبيه على الحقّ و لا هي حقّ.
الفصل الثالث:نظرة ابن رشد للوجود
المطلب الاول:الله
إنّ الله بالنّسبة إلى ابن رشد، هو الخالق والصّانع، وصفاته الحكم والقدرة والمعرفة، غير أنّ هذا الخالق لا يحيط علما بجزئيات الأمور في الكون بل تقتصر معرفته على الكلّيّات. فحكم الكون يشبه حكم المدينة، حيث حاكم المدينة هو المصدر الأعلى لكلّ ما ينفّذ، ولكن تفاصيل حوادثها لا تصدر عنه مباشرة وعلمه بها غير محتّم. وهذا ما ينطبق على الخالق بنظر أبي الوليد؛ إنّه محور الكون ومصدر القوّة التي تديره وإن لم تكن له علاقة مباشرة في جزء من الحوادث والأمور.
ورأى بعضُ الباحثين، أنّ مذهب ابن رشد في عدم معرفة الله للجزّئيّات ليس واضحا كلّ الوضوح، فهو تارةً يحاول أن يثبت هذه النّظريّة بكلّ ما أوتي من براهين عقليّة، وطورا يقول بأنّ الله يعرف جزئيّات الأمور ولكن بطريقة سامية لا يمكننا فهمها أوتصّورها . ربّما لم يكن ابن رشد واضحا تماما بالنّسبة إلى هذه الإشكاليّة، غير أنّ ما جعله يتردّد في ذلك حسب اعتقادنا هو عزمه على التّوفيق بين فلسفته وأحكامالشّرع.
المطلب الثاني:مسألة قدم العالم
إنّ العالم بنظر ابن رشد أزليّ التغيّر، والموجودات التي في الكون والفساد مركبة من مادّة وصورة، لا تنفصل أحدهما عن الأخرى؛ والمادّة والصّورة أزليّتان. فلا يصحّ القول بأنّ وراء كلّ مادّة مادّة إلى ما لا نهاية، كما لا يصحّ القول بأنّ وراء كلّ صورة صورة إلى ما لانهاية.
فالله موجود، وهو لم يكن من شيء و لا عن شيء، ولا تقدّمه زمان، فهو قديم.والأجسام التي ندرك تكوّنها بالحسّ، كالماء والهواء والأرض والحيوان والنّبات هي موجودة عن شيء ومن شيء، والزّمان متقدّم عليها، وهي محدثة.
وأمّا العالم من جهة ما هو كلّ، فهو موجود، لم يكن من شيء، ولا تقدّمه زمان، ولكنّه موجود عن شيءأي عن فاعل قديم. وعليه، فالعالم ليس محدثا حقيقيّا ولا قديما حقيقيّا، لأنّ المحدث الحقيقيّ فاسد ضرورة، والقديم الحقيقيّ لا علّة له.
وبما أنّ غاية ابن رشد هي التّوفيق بين الحكمة والشّريعة، في مسألتي القدم والحدوث، رأى أنّ ليس في الشّرع إشارة واضحة إلى الحدوث والقدم.
لكنّ الأمر الثّابت بالنّسبة إليه، هو أنّ العالم مصنوع، وله صانع؛ والعقل يستدلّ على وجود هذا الصّانع بما يجده في مصنوعاته من نظام ضروريّ، لا يمكن أن يوجد أتقن منه ولا أتمّ منه. وخير طريقة للبرهان على وجود الصّانع طريقة الشّرع، وهي تنحصر في دليلين: دليل العناية ودليل الاختراع.
فدليل العناية، مبنيّ على غائيّة الأشياء، وله أصلان: أحدهما أنّ جميع الموجودات التي ههنا موافقة لوجود الانسان، والأصل الثّاني أنّ هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ ليس من الممكن أن تكون هذه الموافقة بالاتّفاق. ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله المعرفة التّامة أن يفحص عن منافع الموجودات.
وأمّا دليل الاختراع فهو مبنيّ على ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء كاختراع الحياة في الجماد والحسّ والعقل في الكائنات الحيّة، ممّا يدلّ على أنّ للجواهر مخترعا. فمن أراد معرفة المخترع وهو الله يجب أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقيّ في جميع الموجودات .
حاول ابن رشد بإيجاز، أن يقول إنّ نظريّة أقدميّة العالم في أي حال، لا تتعارض مع القرآن والشّرع ؛ وما الضّير إن كانت مادّة العالم أزليّة، فالخلق يبقى هو تلك
الحركة الاضطراريّة في هذه المادّة التي تنشأ عنها الكائنات وتتولّد بعضها من بعض، أمّا الخالق فهو المحرّك. وبما أنّ المادّة أزليّة فجميع المخلوقات النّاجمة عنها مشاركة لها في الأزليّة، والله الخالق هو الذي ينظّمها ولهذا السّبب تتطور المادّة وتتكيّف بطريقة مستمرّة، وهكذا فإنّ العالم المصنوع هو أزليّ النّشوء، دائم الحدوث،بينما أنّ الله أزليّ بدون سبب . وعليه، فإنّ أقدميّة العالم ليست آأزليّة الله، بل ليسالعالم محدثا حقيقيّا، ولا قديما حقيقيّا.
المطلب الثالث:مسألة السببية
إنّ العالم في نظر ابن رشد خاضع بجميع ما فيه لنظام لا يمكن أن يوجد أتقن منه. وبما أنّ علاقة الله بالعالم، علاقة العلّة بالمعلول، وجب أن يكون كلّ شيء فيه مقيّدا بنظام وترتيب. فالله هو الصّانع الحكيم ويعتني بمخلوقاته، ومن شأن الصّانع أن يرتّب الجواهر والأعراض ترتيبا محكما.
ويعتقد ابن رشد أنّ الموجودات قسمان: جواهر وأعراض. فالجواهر لا يصنعها إلاّ الله، وأمّا الأعراض فتتولّد من الأسباب الطّبيعيّة المقترنة بالجواهر. إنّ الله مثلا يخلق السّنبلة، والزّارع يفلح الأرض، ويعدّها لتلقي البذار.ولهذه السّببيّة الطبيعيّة، أساسان: طبيعة العقل، وحكمة الله وعنايته.
الخاتمة:
بعدما استعرضنا بعض أفكار ابن رشد الفلسفيّة، في محاولة إلقاء الضّوء على سيرته ومؤلّفاته ومذهبه الفلسفيّ، فإنّنا لا نشاطر رأي من يقول عنه، بأنّه مجرّد شارح لأفكار أرسطو ونظريّاته؛ بل يظهر لنا جليّا من خلال تلك الإضافات الفكريّة والومضات الفلسفيّة التي أضافها على ما لخّص وشرح، بأنّ ابن رشد هو فيلسوف عقلانيّ وجوديّ؛ وفي الواقع، عُرف أبو الوليد عند العرب بفيلسوف العقل، لكنّه بالرّغم من شغفه بأرسطو واعتقاده بالحتميّة، وبأنّ العلم مقيّد بنظام ثابت ولا يمكن أن يوجد أتمّ منه، آمن في الوقت نفسه بالشّريعة التي تحوي أمورا آثيرة يعجز العقل عن معرفتها بنفسه، وهي أمور ضروريّة لحياة الإنسان وسعادته. وهكذا، طأطأت حكمةُ فيلسوف الأندلس رأسها أمام قدسيّة الشّريعة، واختار لنفسه خطّا فلسفيّا توفيقيّا، حاول بواسطته الجمع بين العقل والإيمان، والفلسفة والدّين، والحكمة والشّريعة، والظّاهر والباطن.. فنجح أحيانا وباء بالفشل أحيانا أخرى، إذ فُهمت بعض أفكاره وتأويلاته بطريقة تتناقض مع بعض العقائد الدّينيّة، كمسألة أزليّة العالم، وإنكاره لآدم، ووحدة العقل الإنسانيّ وتأويل مسألة قيامة الأجسام، وعدم خلود النّفس الفرديّة وعدم معرفة الله بالجزئيّات مباشرة، ممّا أثار غضب بعض رجال الدّين، فحملوا عليه حملة شديدة، ودعوه بالزّنديق، وأضرموا صدر الشّعب ضدّه، فنفاه الخليفة كما رأيناوحرق كتبه الفلسفيّة.
ولكن من يقرأ ابن رشد، قراءة فلسفيّة عميقة وموضوعيّة مجرّدة، لا يمكنه إلا الاقرار بصدقيّة هذا الفليسوف في محاولته التّوفيقيّة بين الحكمة والشّريعة، لأنّه آمن بالله الخالق بصدق عميق، ولم يشكّ يوما بوجوده، بل كان اسمه تحت قلمه في جلّ عبارة، وكلّ خاطرة، يستغفره، ويستجيره، ويستعين به. غير أنّ ابن رشد آمن أيضا بالعقل، وأراد الوصول إلى معرفة الله على ضوء العقل؛ فلا بُدّ من الدّين ولا غنى للشّعب المسلم عن الشّرع، أمّا الفلاسفة فدين العقل دينهم. لذا، آان إيمان فيلسوف قرطبة في نظرنا إيمانا ذكيا، تحررّ من عاطفيّة النّظرة التّقليديّة السّطحيّة مع الخالق، ونزح إلى العمق والمعنى والجوهر، حاملا سراج العقل، من غير أن يؤلّه العقل، بلأقرّ بقصوره أحيانا، واعترف بمحدوديّته. وهذا ليس بغريب عن الفيلسوف، فالفلسفة متواضعة، لأنّها صادقة في بحثها عن الحقيقة.
لكنّ مشكلة ابن رشد، تكمن في عدم فهم الآخرين، لفكره كما ينبغي. وإنّما هذا لأمر طبيعيّ واقعيّ، فليس جميع النّاس فلاسفة.
ومهما قيل فيه، يبقى ابن رشد في نظرنا، فيلسوفا مؤمنا رفع شأن الفلسفة العربيّة. بل كيف يمكن لمن حارب الدّهرييّن لنكرانهم وجود الله أن يكون زنديقا أو كافرا من قال في خاتمة كتابه "فصل المقال": "إنّ الحكمة هي صاحبة الشّريعة، والأخت الرّضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابّتان بالجوهر والغريزة".
يبقى هذا البحث الصّغير قاصرا عن الولوج في يمّ فكر ابن رشد البعيد الأغوار، لكنّه محاولة متواضعة هدفه تكوين فكرّة شاملة عن سيرة هذا الفيلسوف الكبير، وأعماله وفلسفته التّوفيقيّة بين الحكمة والشّريعة.
قائمة المصادر والمراجع:
- جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية ، دار الكتاب اللبناني ،الطبعة الثانية،بيروت 1970م
Cf. E. MONTET, L’Islam, Payot, Paris 1923,-
-جرجي زيدان، تاريخ التّمدّن الإسلاميّ، ج.3، مطبعة الهلال بالفجالة، مصر 1904
-أحمد فؤاد الأهوانيّ، تلخيص آتاب النّفس لأبي الوليد بن رشد، مكتبة النّهضة المصريّة، القاهرة 1950
Cf. L. GARDET, L’Islam Religion et Commuauté, Desclée de Brouwer, Paris 1967-
-كتاب الكليات