مزاعم النظام المغربي
في الحقوق التاريخية على الصحراء الغربية
إن الحديث عن المطالب الملكية المغربية في الصحراء الغربية , سيقودنا لزاما للبحث في العلاقة التي تربط المغرب الأقصى بالصحراء الغربية تاريخيا , و البحث في هذه العلاقة , هو موضوع شائك في وضع , الوثائق فيه شبه معدومة و مصادر المعلومات شحيحة , و الاستخلاصات التي يمكن أن توفرها المعلومات المثبتة , هي استخلاصا غير محايد ستنقل التاريخ من التأمل في الماضي البعيد إلى راهن زماننا حيث سيكون للتاريخ ها هنا قيمة استثنائية تحدد الكثير من مواطن مشروعية - أو لا مشروعية صراع .
كتاب و مؤرخون عديدون تناولوا هذا الجانب - جانب الوضع التاريخي للصحراء الغربية - موريس باربي الباحث و القانوني الفرنسي تناوله بشئ من التفصيل , فرانسكو فيلار القانوني الإسباني تناوله أيضا , توني هودجز ثبت الكثير من الوثائق في تناوله لكتاب جذور المسألة الصحراوية , أما في اللغة العربية فقليلة هي المراجع و غالبا فهي لا تفي بالغرض , باستثناء بعض الوثائق التي يمكن أن تدعم هذا الموضوع , و ترجمتنا لكثير من الوثائق الأجنبية , وفرت لنا - كماً - من المعلومات , يكفي للقارئ أن يحاكمها ليقف على حقيقة المزاعم المغربية , حول الحقوق التاريخية للمملكة المغربية في الصحراء الغربية .
إن جميع هذه الدراسات , إضافة لما وضع بين أيدي أعضاء هيئة الأمم المتحدة و مجلس الأمن الدولي و منظمة الوحدة الأفريقية , و التي حصلنا على معظمها تقول أنه تحت القرن العشرين , لم يكن المغرب دولة موحدة , بل كان مزيجا من القبائل التي تحكم غالبيتها اسميا من قبل السلطان أو - المخزن - و الأراضي التي كانت محكومة فعليا من قبل السلطنة , هي المدن و السهول و هي التي تعرف بأراضي المخزن , بينما الأراضي التي كانت خارج سيطرته فهي تتكون في معظمها من المناطق صعبة المسالك , كجبال الريف الأطلسية الثلاثة , و قليل من السلاطين المغاربة كانوا قادرين على فرض سيطرتهم على قبائل البربر الجبلية أو فرض الضرائب عليهم , و معظم السلاطين الذين عرفتهم المملكة المغربية كانوا منشغلين بإحباط المؤامرات التي تحيط عروشهم و بقمع الانتفاضات الشعبية التي تبرز بين ظهرانيهم , أما مطامحهم التوسعية , فغالبا ما كانت شاغلا آخر يستنزف اقتصادياتهم , إضافة إلى الوضع الاستعماري الذي كان يجثم على صدورهم , فطيلة القرنين الرابع عشر و الخامس عشر , كانوا منشغلين بالغزوات البرتغالية و الاسبانية و على امتداد القرن السادس عشر وصولا إلى القرن التاسع عشر , كانت الإمبراطورية العثمانية تحكم الساحل الجزائري , حتى بدأت فرنسا احتلالها للجزائر عام (1830) , أما حين كان سلاطين المغرب يعيرون التفاته للصحراء الغربية , فقد كانت تلك الالتفاتة لا ترمي إلى التوحد مع هذا الجزء من المغرب العربي الكبير , و إنما إلى حماية القوافل التجارية التي تعبر الصحراء الغربية باتجاه إفريقيا , أو تحويل الطرق التجارية التي تأتي من إفريقيا باتجاه مدنها , و هذا بطبيعة الحال سيتطلب السيطرة على الوحدات الإستراتيجية , و مناطق الأسواق , و مناجم الملح و الينابيع , التي تعتمد عليها التجارة الصحراوية .
و هكذا , فخلال حكم أقوى السلاطين , كان يستطيع ((المخزن)) أن يسيطر على واحات بعيدة مثل (الغويرات) , أو (توات) , و التي يمتد بخط متواصل من واحات (تافيلالت) في جنوب شرق المغرب , و لمسافة خمسمائة ميل في الصحراء الجزائرية حيث تتجه القوافل من هناك باتجاه وادي النيجر .
إن مناقشة هادئة لهذه الحقيقة التاريخية ستجعلنا نطرح السؤال التالي :
- هل بإمكان المملكة المغربية أن تطالب الآن بالصحراء الجزائرية , بدعوى إنها سيطرت عليها في وقت غابر ؟ و إذا كان من حقها هذه المطالبة , فما معنى أن تصمت ؟! أليس صمتها هذا تفريطا بحقوقها الوطنية وفق مقولاتها التاريخية المعتمدة على منطق السيطرة ؟.
حسنا .. إن إجابات أكثر من قاطعة سنعثر عليها في تقصي هذا الموضوع .
(( إن المخزن فعليا , استأثر بنفوذ محدود, و لبعض الوقت على الثغور الجنوبية للمملكة المغربية كالواحات و مناطق الأسواق في واد نون , و في منطقة ما قبل الصحراء للمرور و التبادل بين عالمي الزارعين مقابل الأطلس , و بدو الصحراء الغربية , و في بعض الأوقات كان يحكم هذه المناطق حكام معينون من قبل السلطان , و كانت تقام الحاميات هناك و لكن ثمة فترات طويلة تمتد لعقود كان فيها السلاطين عاجزين عن توسل البيعة أو التبعية - كمناطق الأطلس و جبال الريف- بينما كانوا قادرين على ممارسة السيطرة على بعض القرى و المناطق ذات السكان المقيمين , و لكن في جنوب ((درعا)) في المنطقة المحاطة بالصحراء , و التي هي الصحراء الغربية اليوم , و التي تصل إلى ((إدرار)) في شمال موريتانيا , فلم يكن هناك واحات هامة , و لا مستوطنات من أي نوع - إلا في ((تندوف)) , حيث بنى الطاجكانت مدينتهم الجزائرية عام (1852) - و كانت هذه المناطق مسيطرا عليها في المقام الأول من قبل البدو , مربي الإبل ((أبناء الغيوم)) , الذين لم يكن بإمكان السلطان إخضاعهم ... هؤلاء كانوا حذرين من السلاطين المغاربة , و كانت علاقاتهم بالسلاطين قائمة على سببين :
فإما أنهم يعملون بحماية القوافل التجارية التي تمر بأراضيهم مقابل أجور , و هذه الخدمات التي كانوا يقومون بها , بمثابة ((ترانزيت)) يضاف إليها ((الخوات)) (الضرائب القصرية) , و إما أنهم كانوا يعقدون تحالفات مؤقتة مع السلطنة , و بكامل إرادتهم بإنجاز أهداف تجارية مقابل أخذهم للمساعدة ضد أعدائهم القبليين , أما أهم القبائل الصحراوية و أكثرها انتشارا فهي لا تعترف بسيادة السلطان عليها .. و لقد عاشوا في هذه الصحراء منذ أن سكنوها , محافظين على استقلاليتهم عن السلطنة و أضافت لكل هذا و ذاك فإن النية السياسية لمجتمع الصحراء و التدابير الاجتماعية و الإدارية التي اتخذها هذا المجتمع , مستقلة و مغايرة تاريخيا للمملكة المغربية , ففيما تحكم القبائل المغربية من قبل الوالي أو الملك , يحكم المجتمع الصحراوي مجالس مستقلة , منتخبة من القبائل , هي مجالس أيدي الأربعين - أو آية الابعين - و هي تشكل نموذجا خاصا و نادرا في إدارة المجتمعات , و بالإضافة لهذا أيضا فليس ثمة إشارة تاريخية تقول إن واحدا من سلاطين المغرب تجرأ على حكم أو فرض ضرائب على هذه القبائل , فهذا المر كان دائما بحكم المستحيل كون هذه القبائل لا تخضع لسلطانه , و كونها تتوزع جماعات في صحراء مترامية الأطراف , و ليس من اليسير على السلطنة وضعهم داخل هيمنته , سواء بالغزو أو بالتحالف , أما الاستعمار الأوروبي بإمكاناته الهائلة , و آلته العسكرية المتطورة , فقد استطاع ليسيطر بصعوبة بالغة و لوقت قصير جدا بالقياس مع الأقطار المجاورة للصحراء و ذلك في مطلع القرن العشرين اثنان فقط من الحكام المغاربة استطاع أن يلعب دورا محدودا في الصحراء الغربية و هما من سلالة السعديين : محمد الشيخ (1548- 1557) , و أحمد المنصور (1578- 1603) : فقد شقا طريقهما إلى السلطنة خلال النصف الأول من القرن السادس عشر , بواسطة مقاومتهم للغزوات الأوربية على سواحل الأطلسي , و في ظرف كان فيه السعديون يحاولون توطيد هيمنتهم على طول وادي النيجر في نهاية القرن الخامس عشر , و هدفهم كان السيطرة على تجارة القوافل , و لذا فقد هاجموا المواقع البرتغالية على طول الساحل الأطلسي , و من ضمنها البساطات البرتغالية التي كانت تحتل بعض سواحل أغادير , حتى احتلوها عام (1541) , ثم عادوا إلى مخرجهم البحري التجاري في سوسا .
أهم المشاكل التي يواجهها هؤلاء هي أن التجارة القادمة من النيجر , كان عليها أن تمر بالمغرب تماما , و بهذا تضمن السلطنة ضرائب المرور و تنشط وضعها التجاري , غير أن الأمور كانت تسير بما لا تشتهيه السلطنة فقد كان يحدث عكس المطلوب , فهذه القوافل كانت تتدفق من النيجر باتجاه المدن الجزائرية , التي يسيطر عليها الأتراك مثل التلمسان عبر واحات ((توات)) و بالإضافة إلى ذلك فقد كانت الممالح الرئيسية تقع في شمال غربي مالي , و كان سلاطين المغرب يطمحون إلى السيطرة على هذه الممالح , و منذ وقت مبكر طالبت السلطنة بحقوقها بالسيطرة على هذه الممالح و فشلت مساعيها إلى أن قام السلطان محمد الشيخ بمهاجمة الممالح على رأس حملة توجهت إلى الصحراء الغربية , ووصلت على مدينة ((ودان)) قرب أدرار في موريتانيا , إلا أنه انسحب حيث علم أن أفارقة النيجر قد هبوا لملاقات حملته و مقاتلتها , و تكررت هذه المحاولة على يد ابنه الثالث أحمد , فعهد هذا السلطان , كان عهدا قويا بالقياس مع عهود أسلافه و بخاصة بعد انتصاره عام (1578) في معركة الملوك الثلاثة التي قتل فيها ملك البرتغال((سيبا سيتا)) ففي عهده حررت المغرب من السيطرة الخارجية و صارت قوة يحسب حسابها سواء من قبل الأوربيين , أو العثمانيين , إذا أخذ هذا السلطان لقب أحمد المنصور الذهبي , و هو السلطان الأكثر قوة من بين السلاطين الأحد عشر الذين سبقوه و الذين مات منهم ثمانية باغتيالات مختلفة , مما أعطى سلطانه , وضعا مستقرا على المستويين الداخلي و الخارجي.
لقد كانت مطامح هذا السلطان , السيطرة على السعديين في واحات ((أدرار)) في موريتانيا و ((توات)) في الجزائر لذلك فقد أرسل عام (1584) , قوة على النيجر عن طريق أدرار , و هذه المحاولة أخفقت في الوصول إلى غايتها بعد أن أنفق جنود حملته من الجوع و العطش في الصحراء و بطريقهم إلى النيجر , إلا أنه كرر المحاولة ثانيتا بهدف السيطرة على المراكز التجارية في النيجر , فوجه حملته إليها بقيادة عسكري إسباني و ذلك عام (1590) .. بعد قطع الحملة لمسافة تبلغ (1300) ميلا في الصحراء .. استطاعت أن تهزم المقاتلين النيجريين المسلحين بالرماح , و بذلك بفعل التسليح المطور الذي امتلكته الحملة - و بطبيعة الحال فالسلاح الناري يعتبر متطورا بالقياس إلى الأسلحة البادائية التي كان يستخدمها النيجريون - و بعد سيطرة الحملة على النيجر , اتخذ السلطان أحمد المنصور من ((غاوا)) عاصمة لمستعمرته , و بدأت قوافل الذهب و العبيد تصل إلى المغرب على قوافل تمر عبر الصحراء الغربية .
بالنسبة إلى أحمد المنصور , كانت الصحراء بحرا لا بد من عبوره للوصول إلى مستعمرته الجديدة حيث مناجم الملح التي تعتمد عليها التجارة السلطانية بما يجعل أهميتها مساوية لأهمية الذهب, و لم يكن لأحمد المنصور ما يكفي من الدوافع لاحتلال الصحراء , فكان يكفيه أن يقيم تحالفات مع القبائل الصحراوية , و كان عليه أن يدفع ضرائب مرور على قوافله التجارية المارة بالصحراء مقابل حماية القبائل الصحراوية المحاربة لهذه القوافل , فقوافله التي تمر سواء إلى مناجم الأملاح أو إلى جبال الذهب في النيجر , كانت الصحراء بالنسبة لها ممرا إجباريا لا بد من دفع الضريبة لسكانها مقابل مرور هذه القوافل , و الضريبة مقابل خدمتين :
الأولى : عدم ممانعة القبائل لهذه القوافل .
و الثانية : حماية هذه القوافل , و لكن من هاتين الخدمتين أجور مختلفة .
إن فكرة الإستلاء على الصحراء الغربية , لم تكن إلا ضربا من الحماقة و تحقيقها بحكم المستحيل , و لذلك فلم يحاول هذا السلطان الإقدام على مثل هذه المحاولة , و أسباب الاستحالة تتلخص في :
أولا : الوضع الاستقلالي لقبائل الصحراء الغربية و استقلاليتها التاريخية عن السلطنة .
ثانيا : الامتدادات البعيدة للصحراء , و انتشار القبائل في كل مكان منها , بحيث تصبح فكرة غزوها محض جنونية, عواقبها وخيمة على السلطنة .
ثالثا : عدم دراية جيوش السلطنة بالجغرافية الصحراوية فهي متاهة كبيرة بالنسبة لهما , فمجرد المرور بها باتجاه النيجر فكان يكلفهم مئات الضحايا , فكيف حال احتلالها ؟
إن هذا العهد , عهد أحمد المنصور , شهد إرادة سلطانية في التوسع نحو الجنوب , و قد انتصرت هذه الإرادة في بعض ملامحها , فاحتلت قواته مناجم الملح في ((تمبكتو)) شمال غرب مالي , و هي المادة التي تمكنه من شراء الذهب و الفضة و العبيد من السودان (مالي حاليا) فاندمج الناس الذين أوجدهم أحمد المنصور في تمبكتو , و قد دفع هذا الشعب الضريبة للمغرب مدة قرن , أي حتى عام (1727), و لكن الأمر تعلق فقط بالعلاقات التجارية , أي أن الحدود المغربية لم ((تتمدد)) نحو الجنوب كما تدعي حكومة الحسن اليوم .. و في القرن التاسع عشر , إذا ابتدأت الغزوات الأوربية إلى سواحل الأطلسي , لم يكن المغرب الأقصى يمتلك حدوده الحالية , فقد كان المغرب مؤلفا من جزئيين فقط :
- المنطقة الصحراوية , التي لها فاس و مراكش كمراكز , و المناطق الجبلية (الريف أساسا) و الحدود الجنوبية لهذه المنطقة من المغرب و هي لا تتعدى و لم تتعد قط وادي درعا , و تجدر الملاحظة أن الحدود الشمالية الأصلية للصحراء الغربية تقع على هذا الخط , و هذا ما تثبته معاهدة تطوان من النص العربي, (و لكن الذين صاغو النص بالإسبانية كانوا حريصين على مد حدوده إلى الجنوب تحت وطأة إرغام فرنسا لإسبانية على التخلي عن مناجم الملح , في المنطقة الجنوبية الشرقية من الصحراء الغربية , و هي الحالة التي تمت تسويتها في 1904 بعد أن أصبحت فرنسا حرة التصرف في المغرب , إذ تركت لاسبانية رسم الحدود بسهل سوس ) .. و في السنوات التالية استمرت فرنسا كقوة ذات نفوذ في شمال غرب أفريقيا , و في عام (1912) تمكنت من السيطرة على الجزء الجنوبي من المغرب , و بموجب معاهدة ((أوكافيون)) (1958) تخلت إسبانية للمغرب عن منطقة طرفاية شمال الصحراء الغربية .
إن العودة إلى نهاية عهد أحمد المنصور الذي استمر حتى عام 1603 تقول أنه على أثر موت هذا السلطان , ظهرت الشقاقات في مملكة السعديين و باتت المملكة مملكتين , واحدة في مراكش , و الثانية في فاس , و ظهرت دويلات صغيرة في أمكنة أخرى , و بات الخطر الإسباني يتهدد تخوم المملكة , أما عن المستعمرة المغربية في النيجر , ففي واقع الحال استقلت عن السلطنة , و تركت مقاليد السلطة فيها لفاتحيها , الذي تزاوجوا مع النيجريين , و بقيت هذه المستعمرة تحت سيطرة القوات الفاتحة المستقلة عن المخزن .. حملة واحدة حاولت السلطنة السعدية القيام بها باتجاه النجر عام (1618) و أخفقت .. شراذم المملكة توزعت على هيئة دويلات , فظهرت في جنوب المغرب دويلات قوضت سلطة السعديين على تجارة المرور عبر الصحراء الغربية .. بينما سيطر على هذه الأجزاء مرابط يدعى ((أبو محلي)) , و أصبح حاكما نافذا فيما بعد .. إن هذا سيطر على جزء كبير من التجارة بين جنوب المغرب , و أفريقيا السوداء , حتى موته عام (1614) فعمل السعديون على أن يحكم هذه المنطقة مرابط آخر هو ((يحيى بن عبد الله)) ,الذي أصبح بدوره حاكما مستقلا لمنطقة ((سوسا)) و قد قوض حكمه أبو حسين السملالي , الذي أسس إمارة مستقلة في ((تزاروالت)) مقابل الأطلسي , و في ميناء حاسي , الذي كان يلتقي فيه تجار الصحراء بالسفن القادمة من أوروبا.
و بعد موت سملالي (1659) , فقدت تازاروات استقلالها , فقد صعد إلى السلطة مولاي رشيد (أقدم أسلاف الحسن الثاني من السلاطين) , و هو من سلالة تعرف جيدا تجارة القوافل مثلهم مثل السعديين .
منقول