أقدم لكم هذه المقالات الفلسفية للنظام القديم أرجو منكم أن للا تمرو عليها مرور الكرام أنا أنتظر منكم الرد ولو بشكر ..وفقكم الله وربي ينجحكم إن شاء الله
الطريقة:جدلية الدرس: الطبيعة والثقافة.
الإشكالية: هل الثقافة ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة أم هي ما يقابلها به؟.
نشأ الفرد في أحضان الطبيعة وخضع لمؤثراتها وقوانين التطور الطبيعي وتكيف مع شتى المؤثرات الطبيعية مثل بقية الكائنات الحية ولأن الوجود الإنساني قائم في أساسه على الجدلية بين الثقافة والطبيعة, والإنسان بحكم طبيعته مطالب بتحقيق وجوده من خلال تأثيره على محيطه وهكذا عندما يقذف بالفرد في الجماعة فانه يأخذ في اكتساب ألوان من التصرفات المختلفة بحيث أنه يتصل بالثقافة وتراثها ومن هنا يتبادر إلى أذهاننا الإشكال التالي:هل هذا الاتصال هو عبارة عن أشياء يضيفها الإنسان إلى الطبيعة أم يقابلها به ؟
يرى أنصار الاتجاه الذي ينادي بالإضافة أن الطبيعة ليست الحياة البيولوجية ولا الفيزيولوجية التي يولد عليها الفرد فحسب بل أيضا البيئة الفيزيائية التي يستقر فيها المجتمع، إن الثقافة متعددة المفهوم, فهي في اللغة الفرنسية تعني العناية بالأرض أي بفلاحتها وزراعتها ويفهم من هذا أن الأرض من غير ما يضاف إليها من نشاط إنساني لا تنتج شيئا يستجيب لمطالب الإنسان، فالثقافة إذا هي ما يضاف إلى الطبيعة الجغرافية من نباتات أو أنها تتمثل في منتجات الأرض, وإذا نظرنا نظرة الانثروبلوجيين قلنا بان الثقافة ما تنطوي عليه من لغة وتقنية ومؤسسات اجتماعية كثيرة تبقى مدة طويلة بعد موت الأفراد الذين أنتجوها وفي هذا السياق يقول جوزيف فغتر أن الأفراد يذهبون ويجيئون ولكن الثقافة تبقى مستقرة) وكأن الثقافة كل مستقل بذاته له كيانه وقيمته باعتبار أنها (صفة الكائنات الإنسانية مهما كان المكان الذي يحيون فيه أو أسلوبهم في الحياة ) على حد تعبير هوسكو فيتز، فالفرد زاد على البقعة الجغرافية أشياء يسميها بعضهم بالبيـــئة الاصطناعية وهي التي عملت على تخليده انه خالد في الطبيعة بانتاجاته الفنية ومؤلفاته الأدبية والعلمية ومعتقداته الدينية، إلا أن الثقافة تفقد معناها بانعدام الجنس البشري ونجد مارغريت مد إحدى الأنثروبيولوجيات في أمريكا ترى أن الثقافة عبارة عن (استجابة الإنسان لإشباع حاجاته الأساسية فهي عبارة عن الوسائل التي يلجأ إليها الإنسان ليعيش معيشة مريحة في العالم) إذا فالثقافة تسمح للمكتسب بالتلاؤم مع الوسط الطبيعي وتبقى جزءا أساسيا من الحياة الإنسانية.
إن هذا الرأي رغم كل الحجج والأدلة لم يصمد للنقد لأن الواقع يشهد أن الإنسان لم يترك زمام مصيره للطبيعة بل أراد أن تكون له اليد الطولى في تقرير مصيره واستطاع بذلك الخروج من دور التاريخ الطبيعي إلى دور التاريخ الحضاري.
وعلى عكس الرأي السابق نجد أنصار الاتجاه المنادي بالتضاد بحيث يرون أن الإنسان ما كان ليوجد ذلك الصرح الثقافي إلا من اجل التكيف مع البقعة الجغرافية ومن مظاهر
التكيف الدفاع ضد العوامل الفيزيائية القاسية من برودة وحرارة وجبال وبحار, وكذلك خرق ستار الألغاز الطبيعية وتجاوزها.
إن تطور العلوم وظهور الأديان أعطت السيطرة للإنسان فتطور الفرد ثقافيا واجتماعيا جعله ينفصل شيئا فشيئا من آثار البيئة فهو يحاول دائما ابتداع الكثير من الوسائل التي تمكنه من مغالبة سيطرتها ضمانا لبقائه واستقرارا لحياته وقد استطاعت المجتمعات أن تقهر الطبيعة وتذلل صعوباتها فشقت الأنفاق وجففت البحيرات وعمرت الصحاري وغيرت مجاري الأنهار, وكذلك نجد أن الثقافة تغير الكثير من ميولنا الفطرية وتعدل اتجاهاتنا حتى تتمشى في وفاق مع المجتمع ذلك لان معظم الصفات الطبيعية توجد عند الطفل في شكل قدرات كامنة والبيئة الثقافية هي التي تنميها وتغذيها وقد أمكن لحد كبير التدخل في عامل الوراثة وإخضاعه للرقابة الاجتماعية بفضل ما توفره الثقافة من شروط وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الثقافة تقف في وجه الخصائص البيولوجية الفيزيولوجية كمراقب صارم كأنها تنافس الطبيعة ويجدر بنا إذا أن نقابل الثقافة بالطبيعة وذلك من خلال المنجزات الايجابية التي حققها الإنسان فقد كان اقل من الطبيعة فأصبح أعظم منها, لا يعنيه غضبها ولا رضاها لقد أنقذه الدين من الخوف والعجز العقلي كما أن الفن ساعده على الانفلات من الواقع بفضل الخيال من اجل الترويج على النفس وتسليتها.
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد لأنه لا يمكن نفي الرأي الأول بالإضافة إلى ذلك نجد آن العلاقة تارة في صورة إضافة, وتارة أخرى في صورة مقاومة.
انه من العسير علينا الوقوف على الحد الفاصل بين الثقافة والطبيعة فالتباين الذي يخيل لنا انه موجود بينهما ليس بالتباين المطلق لأن القوانين التي تسيطر على نمو الحياة الطبيعية هي نفسها التي تسيطر على تكوين الحياة الثقافية.
وخلاصة القول يمكننا أن نقول أن الثقافة تبدو علاقتها بالطبيعة تارة في صورة إضافة وتارة أخرى في صورة تضاد وصراع غير انه لا يجب علينا أن نقابل الثقافة بالطبيعة مقابلة مطلقة لأنهما كل متكامل ومتشابك يستعصي التمييز فيه بين الفطري من جهة والمكتسب من جهة أخرى.
قال البروفيسور شاربل عميد كلية الحقوق في جامعة فيينا:<<إن البشرية لتفخر بانتساب محمد إليها ذلك الأمي الذي استطاع أن يأتي بشريعة سنكون نحن الأوربيون اسعد ما نكون, لو وصلنا إلى قمتها بعد ألفي عام >>
يقول مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الثقافة):<< الثقافة هي ذلك الدم في جسم المجتمع يغذي حضارته و يحمل أفكاره (الصفوة)كما يحمل أفكار(العامة)و كل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة والأذواق المتناسبة>>.
الطريقة:جدلية الدرس:العواطف والأهواء
الإشكال:هل مصدر العاطفة الذهن أم الجسم ؟
تعد العاطفة هي تلك الحالة الانفعالية المعقدة الثابتة والمستديمة وغير العنيفة على خلاف الهيجان وهي أنواع كثيرة, وهي كذلك استعداد انفعالي مكتسب ولهذا تتميز عن الميول الفطرية رغم أنها نبتت منها فهي تتأثر بالعوامل الاجتماعية وتنمو وتقوى تحت تأثير التفكير والتأمل والتجارب الانفعالية المختلفة ولأهمية هذا المبحث اختلف الفلاسفة لاختلاف مناهجهم حول إعطاء مصدر حقيقي للعواطف بشتى أنواعها والتساؤل الذي يتبادر إلى أذهاننا.هل يمكن إرجاع العاطفة إلى الذهن آو الجسد؟
يرى الذهنيون ومن بينهم هر برت أن مصدر العواطف هو الاتفاق والاختلاف بين تصوراتنا وأفكارنا والعواطف بالنسبة إلى أفكارنا مثل الاتساقات بالنسبة إلى الأصوات الموسيقية التي نؤلفها مثال ذلك أنني عندما أكون في حالة انتظار صديق فإنني أتصور مجيئه وصدق حديثه فإذا وردت علي منه رسالة تؤكد زيارته فان الفرحة ستغمرني أما إذا أنبأتني الرسالة بعدم قدومه فان هذه الفكرة ستصطدم بالأفكار الأخرى التي كنت أغذيها في نفسي أتوقعها فيشملني الحزن.
إلا أن هذه النظرية لم تصمد للنقد ذلك أنها تفسر عاطفة بعاطفة أخرى لا غير لأن الانتظار الذي يثير السرور هو في الحقيقة رجاء إثارته رابطة الصداقة التي تربطني بالصديق وليس الرجاء والصداقة مجرد فكرة بل هما عاطفتان قد تولدتا أو تكفان عواطف أخرى وكل ما في الأمر أن النظرية تفسر إلى حد ما العواطف الفكرية التي تنشأ على الاتفاق أو الاختلاف بين الأفكار هذا علاوة على أن تهمل التغيرات العضوية التي تصحب ظهور العواطف مصاحبة متراوحة في الشدة.
وعلى عكس الرأي السابق يرى أنصار النظرية الفيزيولوجية وعلى رأسها وليام جيمس أن الاضطرابات العضوية التي تحدث للإنسان في حالة العاطفة خاصة العاطفة الدينية وقد وسع ريبو هذه النظرية وعندئذ وقع الربط بين العاطفة الدينية والقشعريرة التي يشعر بها المتدين كما استدلت هذه النظرية بالاضطرابات العضوية التي تظهر على المتصوفين وقد جاء في القرآن الكريم مصداقا لقوله تعالىمثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ) , وقال أحد الشعراء العرب:
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر
كما أن العاطفة الخلقية في صورة استنكاف تصحبها تغيرات فيزيولولجية و كثيرا ما تصحب العاطفة الجمالية حركات واضحة في الغناء و الرقص ومن العادة أن يذكر بهذا الصدد ما حدث لـ مقبرانش من تسارع في حركة القلب بشكل عنيف عندما كان يقرا كتاب(الإنسان لديكارت)مما جعله مرارا يترك قراءته للتنفس.
إن هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد ذلك أن العاطفة مثل الهيجان لا تنفصل عن الجسم ومهما كانت الاضطرابات العضوية مختلفة في الهيجان, والعاطفة من حيث الدرجة فقط, فان هذا الجانب الفيزيولوجي يبقى دائما عاجزا عن تفسير نوعية العواطف والمعاني الخاصة التي تكتسبها.
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتين أنهما جزأتا العواطف الوجدانية لدى الفرد بحيث طرحت العاطفة الإنسانية بشتى أنواعها, الأولى على النفس والثانية على مستوى الجسم في حين عواطف الفرد مصدرها النفس والجسم معا وبدون توفر هذين الشرطين يصبح لا معنى لعواطفنا وأهوائنا بدون أن ننسى العوامل الاجتماعية.
وفي الأخير وكحوصلة لما سبق فان العاطفة ليست في الجسد ولا في النفس, وإنما في الإنسان كجزء لا يتجزأ,وان كل المحاولات الرامية لفصل الجسد عن الروح أو العكس مآلها الفشل ذلك انه لا يمكننا أن نجد فردا بدون جسد له عواطف سامية أو العكس,فالإنسان ليس ملكا كما انه ليس بشيطان.
الطريقة:جدلية
الهيجان 01
الإشكال:هل نحن نخاف لأننا نضطرب أم أننا نضطرب لأننا نخاف ؟
يقول ريبو الهيجان صدمة مفاجئة شديدة يغلب فيها العنف مصحوبة بازدياد الحركات وانقطاعها.
إن الهيجان هو ذلك الحالة النفسية والجسدية التي تعم الفرد في حالة حدوث اضطرابات حادة كالخوف, الغضب, الفرح, اللذة, الألم, وهذه الحالات تصاحبها اضطرابات سيكولوجية وأخرى فيزيولولجية وهذا ما لا ينكره احد, لكن جمهور الفلاسفة اختلف حول أيهما أسبق حدوثا الاضطراب النفسي أم التغير الفيزيولوجي؟أو بالأحرى نقول:هل الهيجان تغير في الحالة الفيزيولوجية يليه شعور بالحلة النفسية المتغيرة أم العكس؟
يرى أنصار النظرية الفيزيولوجية أن الهيجان إنما هو شعور باضطرابات الأعضاء و وظائف الجسد أي الاضطرابات الموجودة في الأطراف والقلب والشرايين والرئتين والأعضاء الداخلية.وأول من دافع عن هذا المبدأ العالم الأمريكي-ويليام جيمس- في كتابه(الوجيز في علم النفس)،والعالم الدنماركي-كارل لانج-إلا أن هذا الأخير يحصر الاضطرابات في النواحي الحشوية و تغيرات الأوعية الداخلية بتوسعها أو انقباضها بينما يلح –جيمس-على العضلات السطحية المحيطة في الدورة الدموية والتنفس والهضم والحركات الخارجية ونجده يقولإن نظريتي هي أن التغيرات الجسدية تتبع مباشرة إدراك الحقيقة المثيرة وإن شعورنا بهذه التغيرات وهي تحدث هو الهيجان ) ويوضح هذا المعنى قائلاإن الذوق العام يرى أننا نضيع ثروتنا ونحزن ونبكي ونقابل دبا فنخاف و نهرب ويزعجنا خصمنا فنغضب ونضطرب،والأصح أن نقول:أننا نحزن لأننا نبكي،نغضب لأننا نضطرب،نخاف لأننا نرتجف،وليس العكس)...ويدعم جيمس نظريته هذه بحقائق أخرى:
• إذا زالت المظاهر الجسدية للهيجان زال الخوف إذا لكل حالة هيجانية مظاهر فيزيولوجية مناسبة ومميزة لها
• إذا لم يتخذ الإنسان الوضع الخاص بالهيجان فإنه لا يهتاج، فإذا رفع الحزين رأسه بدل أن ينكسه ودفع بصدره إلى الأمام بدل أن ينكمش فإنه لا يشعر بالحزن وفي هذا يقول باسكال إن أحسن وسيلة تخلف فينا الشعور بالهيجان الديني هي أن نقوم بحركات دينية
• قد يحدث الهيجان نتيجة وضعيات جسمية ونفسية مناسبة كتمثيل دور الغضب يؤدي إلى الغضب فعلا.
إن القول بهذه النظرية لم يصمد أمام النقد فقد وجهت لها عدة اعتراضات ذلك أنه إذا حقنا شخصا بمادة الإدريانين التي تسبب تغيرات واسعة الانتشار في الأحشاء و الغدد
كما بين العالم الأمريكي كانون لا ينتج عنه بالضرورة اهتياج كذلك أن بعض الهيجان كالحقد و الغيرة التي ليس لها من تعديل سوى العناصر الذهنية.
وعلى عكس الرأي الأول ظهر اتجاه ثان يرى أن كل هيجان يبدأ أولا بإدراك و تصور الهيئة فإذا أدركنا الخطر استجبنا و كانت النتيجة هرب، و نقدم مثال على ذلك فإذا كنا على متن طائرة و هي تحلق في الجو و أدركنا بأنه طرأ على الطائرة خلل ميكانيكي أدركنا الخوف فنرتجف أو يغمى علينا لأننا تصورنا حالة الخطر،و إذا واجهنا أسد دون قيد فإننا نتصور الموت فنخاف و ينعكس هيجاننا على جسدنا بشكل اضطرابات حشويــة و غددية و عضليــة . و لقد كان على رأس هذه النظرية هربرت ونهالفوسكي حيـث نجد هربرت يقــولإن الانفعالات اللذيذة تستدعي اتفاق وانسجام التصورات بعضها مع البعض أما الانفعالات المؤلمة فإنها تنشأ عن عدم إنتضامها و عدم اتفاقها) و مثل هذا ما ذكرناه سابقا فرؤية الأسد تجعلنا نتصور الموت ثم نخاف وينعكس هذا على جسمنا.وقد اعتمدت هذه النظرية فيما ذهبت إليه على الاستدلال بأن الجسم آلة والنفس مصدر جميع أفعاله.
لكن هذه النظرية تحمل في مضمونها آية بطلانها ذلك أنه ثبت في علم النفس التجريبي عدم فهم الظاهرة النفسية إذا كانت بمعزل عن شروطها البيولوجية، كذلك أن شعورنا بالحالة النفسية فيبعض الأحيان يحدث لاحقا للاضطرابات العضوية، كذلك أن التصورات وحدها لا تكفي لإثارة الهيجان.
إن الهيجان هو استجابة الكائن الحي كوحدة لا تقبل التجزئة فلا هيجان بدون جسد ولا هيجان بدون نفس أو تصورات عقلية،ولقد نفت الدراسات الأخيرة التي قام بها ماسرمان في أمريكا أن يكون للهيجان مراكز معينة وثابتة.والعيب الذي تؤاخذ عليه النظريتين أنهما حاولتا تفسير هذه الظاهرة المعقدة تفسيرا من جانب واحد لكنكان ينبغي النظر في الجانبين وترافقهما عند حدوث الحالة الهيجانية لذلك يقول أرسطوإن الانفعال ليس في الجسم ولا في النفس بل في الإنسان )فهو استجابة الإنسان ككل جزء منه، بالإضافة إلى مساهمة العوامل الاجتماعية التي تساعد الفرد في تحقيق نوع من التكييف مع وسطه.
وخلاصة القول أنه لا يمكننا أن نقول إلا أن الهيجان لا ترجع طبيعته إلى عنصر بسيط ولا جملة من العناصر، وإنما هو حادثة نفسية معقدة تجعلنا نسلم بأنها تعم الجسم والنفس معا فهو يحدث تبعا للتغيرات الفيزيولوجية والتصورات العقلية في آن واحد.
الطريقة:جدلية الدرس:الهيجان2
الإشكال:هل للانفعال الهيجاني دور ايجابي في سلوك الفرد أم أنه مجرد سلوك عشوائي؟
لا ينكر أحد أن الهيجان الفعال حاد يصيب الفرد في سلوكه وحياته النفسية و وظيفته العضوية هذا الانفعال أثار جدلا واسعا بين جمهور الفلاسفة والعلماء حول جوهر حقيقته، وبما أنه سلوك انفعالي ينقل الفرد من حالته الطبيعية إلى حالة اضطراب فهل هذه الأخيرة تعتبر حالة تلاؤم وتأقلم مع الوضع الجديد وبالتالي شيء إيجابي،أم أنه حالة من الفوضى واللاتأقلم وبالتالي حالة عشوائية؟.
يرى أنصار الاتجاه الإيجابي – النظرية الغريزية – وعلى رأسهم جورج دوماس، داروين، كانون، برغسون أن الهيجان ذو طابع إيجابي ذلك أن المصادمة الحقيقية تعمل(من الناحية السيكولوجية)كمنشط بصورة عامة فيقوى النشاط العقلي ويتسع الخيال و يشتد الانتباه وينل على المنفعل شيء من الإلهام فيندفع إلى الابتكار ويتكيف بصورة عجيبة مع المشاكل الطارئة فانفعال الغيرة بين العمال من شأنه أن يدفع إلى المنافسة في العمل والابتكار في الإنتاج والغيرة أيضا بين الدول تدفع المناضل الملتهب حماسا إلى التضحية بنفسه في سبيل السير بوطنه قدما نحو الرفاهية والازدهار وعلى هذا الأساس تكون الهيجانات بمثابة القوة الخالقة على حد تعبير برغسون(إن العلماء الذين يتخيلون الفروض المثمرة والأبطال والقديسين الذين يحددون المفاهيم الأخلاقية لا يبدعون في حالة جمود الدم وإنما يبدعون في جو حماسي وتيار نفسي ديناميكي تتلاطم فيه الأفكار وتتضارب)ونجد برادين الذي يرى أن الهيجان ينشط الخيال والعقل مثلا الخوف يدفعنا إلى الحيطة والحذر وإيجاد الوسائل لحماية النفس والغضب البسيط يدفع الإنسان إلى الثأر لكرامته وتدبير أموره.
للهيجان أهمية كبرى في حفظ حياة الكائن الحي فهو يهيئ البدن للقيام بما تتطلبه المواقف الانفعالية الطارئة من مجهود ونشاط يقول كانونإن زيادة إنتاج الإدريانين في الدم مثلا أو ازدياد مقدار السكر يكسب الجسم مناعة تنشط العضلات لمقاومة التعب وازدياد سرعة خفقان القلب يساعد في سرعة توزيع الدم في جميع أجزاء البدن والأطراف على وجه الخصوص ليمكنها بما تحتاج إليه من نشاط)و يفهم من هذا أن التغيرات الفيزيولوجية في حالة الانفعال أمر ضروري و طبيعي لبقاء الجسم، وإذا كان الهيجان عنصرا ضروريا للنفس والبدن فذلك لمواجهة الظروف الخارجية يقول داروين (إن الهيجان لا يهيئ الكائن الحي لوضع داخلي فقط، إنه وسيلة للتلاؤم مع الظروف الموضوعية المفاجئة)فالقط مثلا عندما يهتاج ينتصب شعره ويتقوس ظهره و تنكشف أظافره، والحشرة تتشبه بلون المحيط الذي تكون فيه.
بالرغم من كل هذه الأدلة إلا أن النظرية لم تصمد للنقد ذلك أن الهيجان لا يحقق دائما النتائج المتوقعة فقد لا يصلح للدفاع وحماية النفس و لا لحماية القيم الأخلاقية التي تفترض رزانة وإقناعا بالحجة كذلك أن الهيجان لا يكفي وحده لأنه يستدعي خبرة ودراية بالأمور أما من ناحية الجسم فهذا ليس صحيحا دائما ذلك أن الحالات الطارئة يشكل فيها الاندفاع تهورا خطيرا.
وعلى عكس الرأي السابق ونظرا للاعتبارات السابقة الذكر فإن العديد من المفكرين ورجال التربية يرون أن الهيجان سلوك فاشل فلو حللنا سلوكا هيجانيا للاحظنا أن الهيجان يشل الفرد من الناحية النفسية الفيزيولوجية ويفقده التلاؤم مع المواقف الطارئة فمن الناحية النفسية يتعطل الفكر عن النشاط العادي ويصعب على الفكر أن يراقب ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، إن الهيجان عاصفة تستبد الإنسان وتجرف كل ما تجده في طريقها فتهدد مقوماته الشخصية، أما من الناحية الفيزيولوجية فالهيجان يحدث في بدن المهتاج عدة تغيرات فيزيولولجية هامة تدل على عشوائية السلوك فمن الناحية الداخلية تحدث تغيرات في الدورة الدموية وفي نشاط المعدة والأمعاء والغدد والعضلات ومن بين العلماء الذين فسروا الهيجان تفسيرا سلبيا بيارجاني إذ يقول (إن الهيجان سلوك أدنى من المستوى المطلوب إنه سلوك فاشل يتميز فيه المثير بالمفاجأة والحدة والعضوية، هنا لا نملك القدرة على المواجهة فيسوء التكيف)ومعنى هذا أن الإنسان ينتقل من حالته الطبيعية إلى حالة تجعله فريسة للسلوك الشاذ، وقد تبين من خلال التجارب على الإنسان أن الهيجان يؤثر في التيارات الكهربائية الدماغية المتولدة عن نشاط الملايين من(النورنات)بحيث يحصل إبطاء في مفعول (ألفا)وظهور موجات بطيئة من نوع(دلتا)وهذه الموجات تعود العلماء على مشاهدتها عند المرضى العقليين والأطفال ومن الناحية الدينية نجد ديننا الإسلامي الحنيف يدعونا إلى عدم الغضب وهذا ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم(لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب، فإن الغضب يأكل الحسنات كما تأكل النار الهشيم).
رغم هذه السلبيات للهيجان إلا أنه لا يمكننا أن ننكر بعض الجوانب الإيجابية التي تنتج عنه ومع هذا وذاك يبقى الهيجان سلوك قابل للتهذيب والتعديل بواسطة التربية فكلما تفادى الفرد وترفع عن السلوكات الانفعالية كان أكثر نجاحا.
إن عملية المد والجزر التي قام بها جمهور الفلاسفة لقيمة الهيجان لا يمكن أن نحكم بمقتضاها على قيمة أثر الهيجان ومردوده في المجالات النفسية والحيوية والاجتماعية والسبب في ذلك أن الناس ليسو متشابهين إطلاقا فالكثير منهم لا يقوى على صناعة شيء من الأعمال السامية إلا بهزات عنيفة من الهيجان في حين أن هناك أناس يتهيجون لأتفه المنبهات فيسقطون في الخمول ويتوقفون عن السعي وبذلك فهو حالة طبيعية عند الفرد لا يمكن استئصالها.
وفي الأخير وإذا أردنا الخروج بحوصلة فإن الهيجان من الناحية السيكولوجية ينزل بنا إلى ما دون الحياة الحيوانية ومن ناحية الوجود الإنساني يطلعنا على حقيقتنا ففي الضعف قوة أو بمعنى أصح الهيجان فرصة تجعلنا نطل على معنى الشخص ومنزلته في الوجود فبدون الإحساسات الوجدانية والانفعالية المختلفة تكون حياتنا بمثابة الجماد الذي لا يحس.
الطريقة:جدلية الدرس:الشعور و اللاشعور.
الإشكال:هل كل ما لا نفهمه من السلوك الشعوري يمكن رده إلى اللاشعور؟
إن القول بأن الإنسان كيان مادي والبحث في ماهيته على هذا الأساس أمر يتعارض والحقيقة حيث أن هناك جانب آخر يجب مراعاته ألا وهو الجانب النفسي فالإنسان ينطوي على كيان داخلي يشعر من خلاله ويعي به تصرفاته، وإذا سلمنا أن الإنسان يعيش حياة نفسية شعورية فإن هذا التسليم يدفعنا إلى التقرير بأن جميع تصرفاته شعورية لاغير ولكن ما هو ملاحظ عند الإنسان العادي أنه يسلك سلوكات في بعض الأحيان ويجهل أسبابها فهل هذا يعني أن الإنسان يعيش حياة نفسية شعورية فقط ؟ أو بالأحرى هل يمكن القول بأن سلوكات الفرد شعورية فقط ؟ وإذا كان العكس فهل هذا يعني أن هناك جانب آخر للحياة النفسية ؟.
إن تصرفات الإنسان جميعها نردها للحياة النفسية الشعورية فقط، كما يزعم أنصار الاتجاه الكلاسيكي الذي ظهر في عصر النهضة الأوربية الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي يقولإن الروح أو الفكر تستطيع تأمل أشياء كثيرة في آن واحد والمثابرة في تفكيرها وبتأمل أفكارها كلما أرادت ذلك، والشعور من ثمة بكل واحدة منها) حيث يرى بأن ما هو عقلي هو بالأساس شعوري، ورفض إمكانية قبول وجود عمليات عقلية غير مشعور بها أي لا واعية مادامت كلمة عقلي تعني شعوري فلا يمكن أن يكون هذا عقلي ولا نشعر به، وقد أخذ بهذا الرأي كل من هوسرل وجون بول ستارت حيث نجد هوسرل يقول في كتابه (تأملات ديكارتية)كل شعور هو شعور بموضوع ما أو شيء من الأشياء بحيث لا يبقى هناك فاصل بين الذات والموضوع).وبمعنى هذا أن التفكير عن الكلاسيكيين هو ما نشعر به ونعيه من عمليات عقلية ولذلك اعتبر ديكارت أن أساس إثبات خلود النفس قائم على الشعور.
ونجد من المسلمين من تطرق لهذا الموضوع هو بن سينا الذي اعتبر أن أساس إثبات خلود النفس هو الشعور وأن الإنسان كما يقول(إذا تجرد عن تفكيره في كل شيء من المحسوسات أو المعقولات حتى عند شعوره ببدنه فلا يمكن أن يتجرد عن تفكيره في أنه موجود وأنه يستطيع أن يفكر)،ومعنى هذا أن الشعور يعتبر أساسا لتفسير وتحديد العالم الخارجي نظرا لما يتضمن من عمليات عقلية متعددة ومتكاملة .
إن الإنسان يدرك ذاته إدراكا مباشرا فهو يدرك تخيلاته و أحاسيسه بنفسه إذا لا يوجد في ساحة النفس إلا الحياة الشعورية .
إن هذا الرأي أثار اعتراضا لدى الكثير من الفلاسفة وعلى رأسهم :فرويد،فرينك لايبنتز، وهذا الأخير يقولإنني أوافق أن الروح تفكر دوما ولكن لا أوافق أنها تشعر دوما بأفكارها).كذلك كيف نفير بعض السلوكات التي تصدر من الإنسان ولا يعي أسبابها كما أننا نتصرف أحيانا تصرفات لا نعي أسبابها ولا يمكننا إدراجها في ساحة الشعور لأننا لا نشعر بها وإذا كانت الحواس غير قادرة على استيعاب العالم الخارجي فالشعور كذلك لا يمكنه احتلال ساحة النفس وحده.
وعلى عكس الرأي السابق نجد أنصار الاتجاه الذي يقر ويثبت اللاشعور وقد تبنى هذا الموقف ما يسمى بفلاسفة ـ مدرسة التحليل النفسي ـ وعلى رأسهم العالم النفساني ذو الأصل النمساوي بسيجموند فرويد وقد استند إلى حجج وبراهين عدة في ذلك منها الحجج النفسية المتعددة الأشكال (زلات القلم،فلتات اللسان،إضاعة الشيء،النسيان المؤقت،مدلول الأحلام،الحب من أول نظرة)ويرى فرويد أنه لا يمكن فهم كل منها بدون التسليم بفكرة اللاشعور ومن الأمثلة التي يستشهد بها والقصص التي يرويها فرويد عن فلتات اللسان افتتاح رئيس مجلس نيابي بقوله:<<أيها السادة أعلن رفع الجلسة>>وبذلك يكون قد عبر لا شعوريا عن عدم ارتياحه لما قد تسفر عنه الجلسة،والخطأ عند فرويد ظاهرة بسيكولوجية تنشأ عن تصادم رغبتين نفسيتين إن لم تكن واضحة ومعروفة لدى الشخص الذي يرتكب الهفوة،ومن أمثلة النسيان(أن شخصا أحب فتاة ولكن لم تبادله حبها وحدث أن تزوجت شخصا آخر،ورغم أن الشخص الخائب كان يعرف الزوج منذ أمد بعيد وكانت تربطهما رابطة العمل فكان كثيرا ما ينسى اسم زميله محاولا عبثا تذكره وكلما أراد مراسلته أخذ يسأل عن اسمه)وتبين لفرويد أن هذا الشخص الذي ينسى اسم صديقه يحمل في نفسه شيئا ضد زميله كرها أو غيرة ويود ألا يفكر فيه أما الأحلام فهي حل وسط ومحاولة من المريض للحد من الصراع النفسي،ويروي المحلل النفسي فرينك: )أن إحدى المريضات تذكر أنها رأت في الحلم أنها تشتري من دكان كبير قبعة جميلة لونها أسود وثمنها غالي جدا)فيكشف المحلل أن للمريضة في حياتها زوجا مسنا يزعج حياتها وتريد التخلص منه وهذا ما يرمز إليه سواد القبعة أي الحداد وهذا ما أظهر لفرويد أن لدى الزوجة رغبة متخفية في التخلص من زوجها الأول،وكذا أنها تعشق رجلا غنيا وجميلا وجمال القبعة يرمز لحاجتها للزينة لفتون المعشوق وثمنها الغالي يعني رغبة الفتاة في الغنى وقد استنتج فرويد من خلال علاجه لبعض الحالات الباثولوجية أنه لابد أن توجد رابطة بين الرغبة المكبوتة في اللاشعور والأغراض المرضية فهي تصيب وظائف الشخص الفيزيولوجية والنفسية ويقدم فرويد مثال ـ الهستيريا ـ فصاحبها لا يعرف أنه مصاب بالهستيريا وهي تنطوي على أعراض كثيرة منها (فقدان البصر،السمع،أوجاع المفاصل والظهر،القرحة المعدية).ولهذا يؤكد فرويد مع بروير هذا الأمر حيث يقول بروير(كلما وجدنا أنفسنا أمام أحد الأعراض وجب علينا أن نستنتج لدى المريض بعض النشاطات اللاشعورية التي تحتوي على مدلول هذا العرض لكنه يجب أيضا أن يكون هذا المدلول لا شعوريا حتى يحدث العرض،فالنشاطات الشعورية لا تولد أعراض عصبية والنشاطات اللاشعورية من ناحية أخرى بمجرد أن تصبح شعورية فإن الأعراض تزول).ويمكن التماس اللاشعور من خلال الحيل التي يستخدمها العقل من دون شعور كتغطية نقص أو فشل،ومن أمثلة التعويض أن فتاة قصيرة القامة تخفف من عقدتها النفسية بانتعالها أعلى النعال أو بميلها إلى الإكثار من مستحضرات التجميل حتى تلفت إليها الأنظار أو تقوم ببعض الألعاب الرياضية أو بلباس بعض الفساتين القصيرة ويرجع الفضل في إظهار عقدة الشعور بالنقص ومحاولة تغطيتها إلى تلميذ فرويد آذلار ومنها ـ التبرير ـ فالشخص الذي لم يتمكن من أخذ تذكرة لحضور مسرحية ما قد يلجأ ل تبرير موقفه بإحصاء عيوب المسرحية.و يضيف فرويد قوله بأنه مادامت حواسنا قاصرة على إدراك معطيات العالم الخارجي فكيف يمكننا القول بأن الشعور كاف لتفسير كل حياتنا النفسية .
رغم كل هذه الحجج والبراهين إلا أن هذا الرأي لم يصمد هو الآخر للنقد حيث ظهرت عدة اعتراضات ضد التحليل النفسي وضد مفهوم اللاشعور خاصة،يقول الطبيب النمساوي ستيكال أنا لا أومن باللاشعور فلقد آمنت به في مرحلته الأولى ولكن بعد تجربتي التي دامت ثلاثين عاما وجدت أن الأفكار المكبوتة إنما هي تحت شعورية وان المرضى دوما يخافون من رؤية الحقيقة).ومعنى هذا أن الأشياء المكبوتة ليست في الواقع غامضة لدى المريض إطلاقا إنه يشعر بها ولكنه يميل إلى تجاهلها خشية إطلاعه على الحقيقة في مظهرها الخام،بالإضافة إلى أن فرويد لم يجر تجاربه على المرضى الذين يخافون من الإطلاع على حقائق مشاكلهم وفي الحالات العادية يصبح كل شيء شعوري كما يقر بروير نفسه في قوله السابق وكذلك أن اللاشعور لا يلاحظ بالملاحظة الخارجية لأنه سيكولوجي ولا الداخلية لأنه لا شعوري،إذَاً لا نلاحظه داخليا أو خارجيا فلا يمكن بالتالي إثباته.
إن الإنسان يقوم في حياته اليومية بعدة سلوكات منها ما هو مدرك ومنها ما هو غير ذلك ومن ثم ندرك أن هناك مكبوتات لا يمكن التعرف عليها إلا بمعرفة أسبابها ولكن أن نرجع كل الحالات للاشعور فهذا ما لا ينبغي.
ونتيجة لما سبق يمكننا أن نقول أن الحياة عند الإنسان شعورية و لا شعورية أن ما لا يمكن فهمه من السلوك الشعوري يمكن فهمه باللاشعور.
حين نتحدث عن اللبيد والجنس فلا مناص من ذكر فرويد فقد كان يوجه اهتمامه لهذه المسألة إلى درجة المبالغة والشذوذ وكل ما كتبه يدور حول الغريزة الجنسية لأنه يجعلها مدار الحياة كلها ومنبع المشاعر البشرية بلا استثناء يصل به الأمر إلى تقرير نظريته إلى حد أن يصبغ كل حركة من حركات الطفل الرضيع بصبغة الجنس الحادة المجنونة فالطفل أثناء رضاعته ـ كما يزعم هذا الأخير ـ يجد لذة جنسية ويلتصق بأمه بدافع الجنس وهو يمص إبهامه بنشوة جنسية،وقد جاء في <<بروتوكولات حكماء صهيون>>(يجب أن نعمل أن تنهار الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا...إن فرويد منا وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس كي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس ويصبح همه رواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنهار أخلاقه).(انظر كتاب المادية والإسلام)(عن كتاب تنظيم الإنسان للمجتمع)
الطريقة:جدلية الدرس:العادة وأثرها على السلوك.
الإشكال:هل العادة مجرد ميل أعمى أم أنها سلوك إيجابي؟
إن حياة الإنسان لا تقتصر على التأثر بل تتعداها إلى التأثير ويتم له ذلك بتعلمه مجموعة من السلوكات بالتكرار وفي أقصر وقت ممكن والتي تصبح فيما بعد عادات أو هي كما يقول أرسطو طبيعة ثابتة وهي وليدة التكرار،إن العادة تحتل جانبا كبيرا في حياة الفرد ولهذا فقد اختلف الفلاسفة في تفسير العادة وأثرها،ومن هنا يتبادر إلى أذهاننا التساؤل التالي:هل اكتساب العادات يجعل من الإنسان مجرد آلة أم أنها تثري حياته؟،أو بالأحرى هل العادة مجرد ميل أعمى أم أنها تمثل سلوك إيجابي في حياة الفرد؟.
يرى أصحاب الرأي الأول(جون جاك روسو،بافلوف،كوندياك).أن للعادة آثار سلبية على حياة الأفراد،فهي تسبب الركود وتقضي على المبادرات الفردية والفاعلية وتستبد بالإرادة فيصير الفرد عبدا لها فسائق السيارة الذي تعود على السير في اليمين يواجه صعوبة كبيرة إذا ما اضطر إلى قيادة سيارته في اليسار ففي مثل هذه الحالة تتعارض العادات القديمة مع العادات الجديدة،كذلك أنها تضعف الحساسية وتقوي الفعالية العفوية على حساب الفعالية الفكرية،فالطبيب يتعود على ألا ينفعل لما يقوم به من تشريحات والمعاينة المستديمة لمشهد البؤس فيما يقول روسو(إن كثرة النظر إلى البؤس تقسي القلوب)،وقد نبه الشاعر الفرنسي سولي برودوم: (أن جميع الذين تستولي عليهم قوة العادة يصبحون بوجوههم بشرا بحركاتهم آلات)ثم إن العادة تقضي على كل تفكير نقدي إنها تقيم في وجه الإنسان عقبة إبستيمولوجية خطيرة فالحقيقة التي أعلن عنها الطبيب هانري حول الدورة الدموية في الإنسان ظل الأطباء يرفضونها نحو أربعين سنة لأنهم اعتادوا على فكرة غير هذه ولقد بين برغسون بأن روتينات الأخلاق المشتركة ما هي سوى المبادرات القديمة التي جاء بها الأبطال والقديسون.وللعادة خطر في المجال الاجتماعي حيث نرى محافظة العقول التقليدية على القديم و الخرافات مع وضوح البراهين على بطلانها إنها تمنع كل تحرر من الأفكار البالية وكل ملاءمة مع الظروف الجديدة ،فالعادة إنما هي رهينة بحدودها الزمنية والمكانية التي ترعرعت فيها وهذا ما جعل روسو يقول(إن خير عادة للطفل هي ألا يعتاد شيئاً).
لكن رغم هذه الحجج لا ينبغي أن نجعل من هذه المساوئ حججاً للقضاء على قيمة العادة فهناك قبل كل شيء ما يدعو إلى التمييز بين نوعين من العادات (العادات المنفعلة والعادات الفاعلة).ففي الحالة الأولى الأمر يتعلق باكتساب حالة أو بمجرد تلاؤم ينجم عن ضعف تدريجي عن الفكر،وفي الحالة الأخرى يتعلق الأمر بالمعنى الصحيح لقيمة للعادة في الجوانب الفكرية والجسمية ولهذا فإن للعادة وجه آخر تصنعه الإيجابيات.
على عكس الرأي الأول فإذا كانت العادة طبيعة ثابتة تقل فيها الفاعلية وتقوى فيها العفوية والرتابة،إلا أن هذه الطبيعة المكتسبة ضرورية لتحقيق التلاؤم والتكيف بين الإنسان وبيئته فلا يمكن لأي شخص أن يعيش ويتكيف مع محيطه دون أن يكتسب عادات معينة ثم أن المجتمع ذاته لا يمكن أن يكون دون أن يفرض على أفراده مجموعة من العادات التي ينبغي أن يكتسبوها كلهم،ومثال ذلك أن يتعلم الضرب أو العزف على آلة موسيقية أخرى وقد بين*آلان*في قولهإن العادة تمنح الجسم الرشاقة والسيولة).وإن تعلم عادة معينة يعني قدرتنا على القيام بها بطريقة آلية لا شعورية وهذا ما يحرر شعورنا وفكرنا للقيام بنشطات أخرى فحين نكتب مثلاً لا ننتبه للكيفية التي نحرك بها أيدينا على الورقة بل نركز جل اهتمامنا على الأفكار،إذاً فإن عاداتنا أسلحة في أيدينا نستعملها لمواجهة الصعوبات والظروف الأخرى،وكذلك نجد من تعلم النظام والعمل المتقن والتفكير العقلاني المنطقي لا يجد صعوبات كبيرة في حياته المهنية على خلاف غيره من الأشخاص وكل هذا يجعلنا نقر بإيجابية العادة.
بالرغم من إيجابيات العادة إلا أنها تشكل خطراً عظيما في بعض الأحيان،وهذا ما نبه إليه رجال الأخلاق الذين لهم تجارب عدة في تبيين سلبيات العادة فنبهوا مراراً على استبداد العادة وطغيانها،فمن تعلم عادة أصبح عبدا لها،وعلى الرغم من الفوائد التي تنطوي عليها فإن لها أخطار جسيمة.
إن العادة تكون إيجابية أو سلبية وفقا لعلاقتها بالأنا،فإذا كانت الأنا مسيطرة عليها فإن العادة في هذه الحالة بمثابة الآلة التي نملكها ونستعملها حينما نكون بحاجة إليها وقت ما نريد،لكن العادة قد تستبد بالأنا(الإرادة) فتكون عندئذ عائقا حقيقيا ومن ثم يكون تأثيرها سلبيا بالضرورة.
وخلاصة القول أن السلوك الإنساني مشروط بمجموعة من العوامل الفطرية والمكتسبة و تشكل العادة أهم جانب من السلوك المكتسب،ولتحقيق التوافق بين الشخص ومطالب حياته المادية و المعنوية أو هي كما يقول شوفاليإن العادة هي أداة الحياة أو الموت حسب استخدام الفكر لها) أو بتعبير أحسن أن يستخدمها الفكر لغاياته أو أن يتركها لنفسها.
الطريقة:جدلية. الدرس:الشخصية1.
الإشكال:يقال<إن الشخصية تكتسب>هل تعتبر هذا القول صحيحا؟
لما كان الإنسان ميالاً بالطبع إلى الحياة مع أمثاله فليس من الغريب أن يكون سلوكه مشبعا بالمكتسبات الاجتماعية مثقلاً بخيرات السنين فهو يكتسب اللغة والأخلاق والعلم و ينمي ملكاته العقلية وبالرغم من أنه وحيد في نوعه وفرد يتميز بالتميز في شخصيته و المقصود بالشخصية هو باختصار الوحدة الكلية والحركية المميزة لسلوك فرد ما شاعر بتميزه عن الغير ولكن السؤال المطروح:هل الشعور بهذا التميز هو من معطيات الولادة أم أنه نتيجة تطور تدريجي؟،أو بكلمة وجيزة هل الشخصية تكتسب؟.
ترى المدرسة الاجتماعية أن الإنسان عجينة في يد المجتمع يشكلها كيفما يشاء فالفرد مرآة عاكسة للمجتمع وفي هذا يقول هربرتالطفل صفحة بيضاء يكتب عليها المربي ما يشاء)،كذلك نجد الغزالي يقولالطفل كالعجين يستطيع المربي أن يكونه كما يشاء)،والشخصية لا تنشأ أو تتشكل دفعة واحدة بل تنشأ بالتدرج يقول ألبورت(لا يولد الطفل بشخصية كاملة بل يبدأ بتكوينها منذ الولادة)،وأيضا يقول فالونإن الشعور بالذات ليس أمراً أوليا بل محصول تطور بعيد لا تبدأ نتائجه بالظهور قبل السنة الثالثة) فالشخصية في تكوينها تمر بمراحل تعد الأساس في تكوينها هي مرحلة اللاتمايز والشعور بالأنا.والإنسان بطبعه اجتماعي كما يقول بن خلدونالناس على دين ملكوهم)،ودوركايم الذي يقولإذا تكلم الضمير فينا فما هو إلا صدى المجتمع)،فهو يتعلم،يكتسب ويتأثر بالعادات والتقاليد والنظم و القوانين(القوالب الاجتماعية) فاللغة هي وسيلة للاندماج والتكيف وكحتمية فإن الحياة الاجتماعية تفرض نمطا سلوكيا معينا على الفرد فهو خاضع لمعايير اجتماعية وفي هذا المعنى يقول فالون(إن الشعور بالذات يتكون بواسطة الآخرين وعلى الرغم من أنهم أسباب للشعور بالشخصية لكنهم أيضا عقبات يجب تجاوزها حتى يتم كامل الشخصية)،وقد استدل أصحاب هذا الاتجاه بأدلة وحقائق تدعم هذا الموقف ويذكرون على سبيل المثال حالة التوأم فلو فصلنا توأمين وأخذنا أحدهما للعيش في مجتمع مختلف عن الثاني فالاختلاف سوف يكون كبيراً(السلوك والمظاهر الفيزيولوجية) والتي تبحث عن طريقة كل منهما في التكيف مع مجتمعه رغم اشتراكهما في الخصائص الوراثية،كذلك حالة إبراز المواهب فكل فرد مزود باستعدادات فطرية ومواهب ذاتية تظل راكدة إذا لم تجد الشروط الاجتماعية الملائمة بالإضافة إلى بعض الخصائص التي لها ارتباط وثيق بالمجتمع.
لا ريب أن للمجتمع فضلا ودوراً كبيرا إلا أن متطلبات المجتمع لا تنسجم مع مقاصد الشخصية،لذا فالشخصية التي تقبل ضغط الأوضاع الاجتماعية ما هي إلا شخصية قاعدية كما يقول كاردينارأي شخصية سطحية مستعارة)،كذلك إن تأثير المجتمع في الإنسان متوقف على مدى قابلية الإنسان،فهو ليس عجينة أو كتلة عضوية حركية فهو يحمل عقلا يسمح له أن يختار ويتخذ من أنظمة المجتمع ما يتلاءم معه ويتوافق مع تفكيره.
ونظراً لما للوراثة من أهمية ذهب العلماء إلى اعتبار الخصائص الوراثية ملامح حقيقية للشخصية ومعنى هذا أن الشخصية تكتسب في حدود معطيات وراثية وما يثبت ذلك في اعتقادهم أن ثمة أطفالاً يولدون أذكياء في حين أن آخرين أغبياء والسبب في ذلك راجع إلى عوامل وراثية،ولقد تقرر لدى الباحثين في مجال الوراثة خاصة مندل ذلك أن المزاج ينتقل من الآباء إلى الأبناء وأن الاستعدادات التي يرثها الطفل ليست استعدادات وسطية حيث تنصهر خصائص كل من الأب والأم،ذلك أن خصائص كل من الأبوين تبقى متمايزة عن طريق كل من الأم فقط أو الأب فقط،على أن ما يرثه الطفل ليس تلك الخصائص التي تعلمها أبويه في حياتهم وإنما تلك القدرات الفيزيولوجية من لون البشرة ولون الشعر،فيما يتعلق بالتركيبة الفيزيولوجية الداخلية لها تأثير كبير في الطبع بول أحد الفيزيولوجيينإننا تحت رحمة غددنا الصماء)،وهو قول يؤيد ما ثبت لدى العلماء من ضعف أو كثرة الإفرازات الغددية الداخلية تفقد الجسم توازنه مما يجعل الشخصية في حالة غير مستقرة،فبالنسبة للغدة الدرقية التي قال عنها هوسكيترإننا ندين لغددنا الصماء بجزء غير يسير مما نحن عليه)،إن لها تأثير على النمو والعمليات الحيوية فإذا زاد إفرازها نشأ عن ذلك نشاط محسوس في الجهاز العصبي وغيره من الأجهزة وقد ينشأ عنه القلق والاضطراب أما إذا نقص إفرازها نشا عن ذلك ضعف عقلي وتباطؤ في الأعمال،أما الغدة النخامية فلإفرازاتها صلة وثيقة بالنمو الجسمي العام فإذا نقص إفرازها عند الطفولة أدى ذلك إلى القزامة،والعملقة وخشونة الجلد والنضج الجنسي المبكر إذا حدث العكس،أما الغدة الإندريانية فزيادة إفرازها تؤدي إلى تضخم خصائص الذكورة عند الرجال وتغلبها عند المرأة مما يؤدي إلى بروز علامات الذكورة عندها(الصوت الغليظ،بروز شعر اللحية...)،ولدى الطفل تؤدي إلى تكبير النضج الجنسي وأخيراً الجملة المسؤولة عن التحكم في كل نشاط الجسم وأي اضطراب في هذه الجملة يؤدي إلى الخلل في السلوك وعدم الاتزان في الشخصية وليس من الغريب إذا اتخذ القدماء التركيب الجسمي أساساً لسلوك الناس وطباعهم يقول أرسطوعن الأنوف أن الغليظة والدسمة والأطراف تدل على أشخاص باردي الأجسام ذوي ميول شهوانية،وإن الجادة مثل الكلاب تدل على الغضوبين السريعي الاهتياج،وأن المستديرة العريضة مثل الأسد تدل على أصحاب الشهامة وأن الرقيق المعقوفة مثل النسر تدل على النبلاء المختالين المترفين المتعجرفين).
على الرغم من كل هذه الحجج والبراهين التي ترجع الشخصية إلى الوراثة إلا أنه لا يمكننا أن نقر إقراراً مطلقاً بدورها في بناء الشخصية وهذا ما يؤكده الواقع وذلك لأن هناك اختلافات كبيرة في سلوك الأفراد رغم تشابههم من حيث النشأة البيئية مثل أفراد الأسرة الواحدة كذلك أن نشاط الغدد لا يتحدد بالوراثة وحدها بل يتأثر بالمواقف الانفعالية الحادة.
إن كل المحاولات التي قام بها جمهور الفلاسفة والعلماء والمفكرين أخفقت في الوقوف على النظرة الحقيقية للشخصية و قضية حصول الشخص عليها ذلك أنهم قاموا بتجزيء الوراثة عن العوامل البيئية والمجتمع في حين أن الأخيرين يستطيع الفرد أن يقومهما ويهذبهما عن طريق التربية،و يشهد على صحة ذلك تاريخ بعض الشخصيات البارزة وما سعت إليه،فلقد قيل قديما عن العالم الفيزيائي فاردي أنه كان طائشا سريع الانفعال لكنه روض نفسه،كذلك نجد الدين الإسلامي سبّق دور التربية ويتجلى ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلمكل مولود يولد على الفطرة فأبوه إما يمجسانه أو يهودانه أو ينصرانه)،بالإضافة إلى عدم ناسي دور الوعي بمعنى الإرادة والعقل يقول غيوميغير اتزان الطبع ويخرج إلى الوجود قوى جديدة)،ولهذا لا نستطيع تسخير إمكانياتنا الملائمة إلاّ إذا سعينا وراء الشخص الذي نمثله.
وخلاصة القول أن اكتساب الشخصية لا يحدده مجرد التقاء المعطيات الفطرية بالشروط الثقافية وإنما يتوقف على الكيفية التي تستخدمهـا في التركيب وقد صدق من قال لا أحد يستطيع أن يكون ما يريد ولكنه لا يصنع إلا ما يستطيع).
الطريقة:جدلية. الدرس: الشخصية2.
الإشكال:هل يستطيع الإنسان أن يكتسب الشخصية التي يتمثلها؟.
تعتبر الشخصية من مسائل علم النفس الأكثر تعقيداً بسبب تداخل عوامل بنائها التي نتج عنها اختلاف في وجهات النظر حول الأهمية التي يحظى بها كل واحد من تلك العوامل في تكوين الشخصية،وقد اختلف الفلاسفة في كيفية تكوين الشخصية لاختلاف مناهجهم فمنهم من قال أن الفرد يولد بكيان عضوي يحمل من الأسلاف صفات تظل تلازمه وهي سمات طبيعية وراثية ،ومنهم من قال أن الفرد يكتسبها من المجتمع ولكن رغم هذه الآراء ألا يمكن للفرد أن يكتسب الشخصية التي يتمثلها في ذهنه؟أم أنه هناك عوائق تحد من ذلك؟.
يرى بعض المفكرين من الاتجاه الحدسي والاتجاه العقلاني أن ما يكسبه الفرد من صفات نابع من إرادته ورغبته فهو يشكل شخصيته عن قراراته التي يتخذها بإرادته الحرة وهذا ما ذهب إليه الوجوديين وعلى رأسهم جون بول سارتر حين قال أنا أختار نفسي)،حيث يرى هذا الأخير أن الإنسان يولد ثم يختار مصيره ويعتمد في نظريته ـ الوجود سابق للجوهر أو الماهية ـ أو بمعنى أصح أن الكيان المادي للإنسان يوجد أولاً ثم يختار مصيره بنفسه [الإضافة إلى كل هذا فكل فرد تصوراته العقلية ولكل فرد ولكل فرد قدراته التي تجعله على اكتساب ما يريد من صفات فالعقل يتصور النموذج الذي الفرد إلى تحقيقه وبذلك يضع هويته كما يريد فبالإرادة نستطيع أن نخلق أن صنع المعجزات ونكتسب شخصيتنا الحقيقية رغم ما للشروط الطبيعية والاجتماعية من وزن،فليست طباعنا هي التي تحدد سلوكنا ومصيرنا وإنما يتوقف الأمر على درجة وعينا لإمكانياتنا وقوة أو ضعف عزائمنا وحق كما قيللا أحد يستطيع أن يكون ما يريد ولكنه لا يصنع إلا ما يستطيع)،وقد شهد التاريخ البشري العديد من هذه النماذج البارزة وما سعت إليه لتحقيق وجودها فلقد قيل قديما عن العالم الفيزيائي فاردي أنه كان طائشا سريع الانفعال لكنه روض نفسه، وحتى ينجح المرء في اكتساب شخصية عميقة بمعنى الكلمة بعيدة عن التقليد لابد قبل كل شيء أن تكون له رغبة في القيام بهذه المهمة وأن يؤمن من كل أعماقه بإمكانية تحقيقها فلقد قيلاثنان يصنعان العجائب رجل يريد ورجل يهوى)،ولابد أن يكون ذا دواعي لأن الدواعي تغير اتزان الطبع وتقر للوجود قوى بديلة.
إذن بالإرادة يستطيع الإنسان أن يصنع من نفسه ما يريد والنموذج الذي يجب،ولكننا لا نستطيع تسخير إمكانياتنا الملائمة إلا إذا سعينا وراء تحقيق الشخص الذي نتمثله.
إلاّ أن القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أن هذه التصورات العقلية لا يكتسبها الفرد بعيدا عن المعطيات الاجتماعية والبيئية فالإرادة التي يتكلم عنها هؤلاء لا تخرج عن كونها إرادة جماعية خاصة بمعايير و أطر يفرضها المجتمع على أفراده ولكل خروج عن هذه الإرادة مآلة الفشل كما أن الفرد مرهون بمعطيات وراثية بالإضافة إلى كل هذا فإن دور القرارات الإرادية محدود أمام العوامل السالفة الذكر.
وعلى عكس الرأي الأول نجد المدرسة الاجتماعية التي ترى أن الإنسان مرهون ومربوط بحتميات لا يمكنه الخروج عنها و باعتبار أن المجتمع هو المكان الوحيد لبروز الشخصية وتكاملها فإن الإنسان في نظرهم عجينة في يد المجتمع وفي هذا يقول هربرتالطفل صفحة بيضاء يكتب عليها المربي ما يشاء)، كذلك نجد الغزالي يقولالطفل كالعجين يستطيع المربي أن يكونه كما يشاء)،والشخصية لا تنشأ أو تتشكل دفعة واحدة بل تنشأ بالتدرج يقول ألبورت(لا يولد الطفل بشخصية كاملة بل يبدأ بتكوينها منذ الولادة)،وأيضا يقول فالونإن الشعور بالذات ليس أمراً أوليا بل محصول تطور بعيد لا تبدأ نتائجه بالظهور قبل السنة الثالثة) فالشخصية في تكوينها تمر بمراحل تعد الأساس في تكوينها هي مرحلة اللاتمايز والشعور بالأنا.والإنسان بطبعه اجتماعي كما يقول بن خلدونالناس على دين ملكوهم)،ودوركايم الذي يقولإذا تكلم الضمير فينا فما هو إلا صدى المجتمع)،فهو يتعلم،يكتسب ويتأثر بالعادات والتقاليد والنظم و القوانين(القوالب الاجتماعية) فاللغة هي وسيلة للاندماج والتكيف وكحتمية فإن الحياة الاجتماعية تفرض نمطا سلوكيا معينا على الفرد فهو خاضع لمعايير اجتماعية وفي هذا المعنى يقول فالون(إن الشعور بالذات يتكون بواسطة الآخرين وعلى الرغم من أنهم أسباب للشعور بالشخصية لكنهم أيضا عقبات يجب تجاوزها حتى يتم كامل الشخصية)،ونجد من الفلاسفة من ذهب على شاكلة هذا الطرح ومن بينهم هالفاكس الذي يقولإن الشخصية هي حصيلة الحياة الاجتماعية)،و يقول سبينزاأعطني دما ولحما وعظما – جنينا-أعطيك ما تريد)،وقد استدل أصحاب هذا الرأي بأدلة وحقائق تدعم هذا الموقف فلو فصلنا توأمين وأخذنا أحدهما للعيش في مجتمع مختلف عن الثاني فالاختلاف سوف يكون كبيراً(السلوك والمظاهر الفيزيولوجية) والتي تبحث عن طريقة كل منهما في التكيف مع مجتمعه رغم اشتراكها في الخصائص الوراثية،كذلك حالة إبراز المواهب فكل فرد مزود باستعدادات فطرية ومواهب ذاتية تظل راكدة إذا لم تجد الشروط الاجتماعية الملائمة بالإضافة إلى بعض الخصائص النفسية مثل الشجاعة والكرم والبخل...
لا ريب أن للمجتمع فضلاً ودوراً بارزاً في تكوين الشخصية إلا أن متطلبات المجتمع لا تنسجم مع مقاصد الشخصية،فالشخصية التي تقبل ضغط الأوضاع الاجتماعية ما هي إلاّ شخصية قاعدية كما يقول كاردينارأي شخصية سطحية مستعارة)،كذلك إن تأثير المجتمع في الإنسان متوقف على مدى قابلية الإنسان فهو ليس عجينة أو كتلة عضوية حركية فهو يحمل عقلاً يسمح له أن يختار أو يتخذ من أنظمة المجتمع ما يتلاءم مع معه و يوافق تفكيره.
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتين هو أنهما طرحتا مشكلة الشخصية على جانب واحد وذلك لاختلاف مناهجهم إلاّ أن شخصية الفرد لا يمكن أن تتكون إلاّ من جانب إنساني وذلك من خلال المجتمع بالإضافة إلى كل هذا فإن الإرادة تلعب دوراً بارزاً وأساسياً مع هذه التفاعلات لا يمكننا أن ننسى دور الجانب الفطري الوراثي الذي يطبع الشخصية بطابعه المميز.
وفي الأخير وكحوصلة لما سبق فإن الفرد يكتسب الشخصية السي يريدها وفي إطار الحتميات الحسية والنفسية والاجتماعية وبهذا يمكن للشخص أن يوجد الشخصية التي يتمثلها في ذهنه إذا لم تتعارض مع الواقع فقد صدق من قاللا أحد يستطيع أن يكون ما يريد لكنه لا يصنع إلا ما يريد).
بسم الله الرحمن الرحيم
الطريقة:جدلية. الدرس: الحرية والتحرر.
الإشكال: هل الإنســان حر؟.
إن كلمة الحرية هي من أكثر الكلمات غموضا والتباساً فالشعوب تكافح من أجل حريتها والأفراد لا يتحملون أي حجز على حريتهم الشخصية ومما لاشك فيه أن الحرية هي من أقدم المشكلات الفلسفية وأعقدها فقد واجهت الباحثين من قديم الزمان وما زالت تواجههم إلى يومنا هذا فهي من أكثر المبادئ الفلسفية اتصالاً بنا بعد الطبيعة فضلاً عن صلتها بالأخلاق والسياسة والاجتماع وقد تناول العديد من الفلاسفة والمفكرين هذا المبحث فمنذ وعي الإنسان لنفسه سعى إلى تحقيق حريته بشتى الوسائل والطرق ولكن جمهور الفلاسفة اختلف في الإشكالية التالية:هل الإنسان حر أم أن هناك قيود وعوائق تقييد حريته؟.
يرى بعض الفلاسفة الذين يقرون بأن الإنسان حر وهم يستندون في هذا إلى عدة حجج أهمها الحجة النفسية و الذين يرون بأن الشعور بالحرية دليل كاف على إثباتها فمثلاً ويليام جيمس يرى أن الحرية هي قوام الوجود الإنساني الذي مراده الإدارة الحرة الفعالة فلا نشعر بحريتنا إلاّ ونحن قادرون فعلاً على الفعل والتأثير أما ديكارت فيقولإننا لا نختبر حرية إلاّ عن طريق شعورنا المباشر)،فهو يرى أننا ندرك الحرية بلا برهان وهو يقول في هذاإننا واثقون من حريقا لأننا ندركها إدراكاً مباشراً فلا نحتاج إلى برهان بل نحدسها حدساً)،بحيث يرى أن إحساس الإنسان الداخلي بالحرية *الواضح والمتميز* دليل كاف على ذلك ويقول لوسينكلما في نفسي عن القوة التي تقيدني كلما أشعر أنه ليست لي أية قوة عدا إرادتي ومن هنا أشعر شعورا واضحا بحريتي)،أما من الفرق الإسلامية التي تثبت ذلك فالمعتزلة يرون أن تجربة الشعور الداخلية كافية على أننا أحرار يقول الشهر الستانيالإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن)،ومعناه أن الأفعال التي يقوم بها إنما يمارسها بإرادته وحسب الظروف التي تلائمه بالإضافة إلى هذا نجد برغسون الذي يميز بين مستويين من الأنا فالأنا السطحي بالنسبة له يمثل ردود الفعل و الاستجابات العفوية والعادات التي يقوم بها الإنسان تحت تأثير العوامل الخارجية،أما الأنا العميق فهو مصدر الحرية الحقيقي الذي تشعر به عندما نلتزم بإرادتنا واختيار بعيد عن الحتميات لذا نجسد حريتنا بعيدا عندما نقف من أنفسنا مواقف نقد وتقييم واعية وبهذه الصورة الواعية تسمع صدى الحرية الهافت الذي يسري كديمومة مفصلة لا تتوقف،أما أصحاب الحجة الاجتماعية فهم يرون أن الحرية ممارسة فعلية تتجسد في الحياة الاجتماعية فالآخر هو سبب وجودها ويمكن أن يكون عائقا لها فبدون المجتمع لا يمكن أن توجد قوانين عادلة تحمي الحريات الفردية فتصبح الحرية مسؤولية لذا فإن كل المجتمعات تعاقب أفرادها عند مخالفة قوانينها ولا تعاقب الأفعال التي لا قدرة لهم عليها وهذا يعني قدرة الإنسان على الاختيار و بهذا يمكن التكلم عن شخصية بدون مقومات اجتماعية ولا الحديث عن حرية الإنسان المغترب يقول مونيكوالحرية الفعل وفق ما تجيزه القوانين الاجتماعية)،فبدون المجتمع لا يمكن أن نتحدث عن المسؤولية بدون حرية الاختيار،أما أصحاب الحجة الأخلاقية فهي حسب كانط أساس تأسيس أو تحديد الأخلاق فالواجب الأخلاقي يتطلب قدرة للقيام به يقول كانطإذا كان يجب عليك فأنت تستطيع)،ويقولإن إرادة الكائن العاقل لا يمكن أن تكون إرادته إلا تحت فكر الحرية)،أما أصحاب الحجة الميتافيزيقية فروادها المعتزلة وهم يرون أن الإنسان حر ويوردون حججاً من القرآن الكريم تنسب إلى الإنسان حريته في اختيار أفعاله يقول الله تعالىفمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)،وقوله تعالىفمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)،فهو بذلك أو ذاك حر مخير،واعتمدوا أيضاً على مبدأ التكيف يقول الله تعالىلا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها)،فالتكيف يكون هنا سفها إذا كان(اعمل يا من لا قدرة له على العمل)،ولكن بصيغة(اعمل يا من تستطيع أن تعمل)،وبالتالي إمكانية صدور الفعل أو عدمه فهو الاختيار وما يبرز هذا هو الثواب والعقاب والجنة والنار فالله لا يحاسبنا على الأفعال التي لا نكون مسئولين عنها يقول تعالىوما ربك بظلام للعبيد)،ولا معنى للثواب وللعقاب إذا كان المرء مجبراً مكرهاً.
لكن رغم هذه الأدلة والبراهين لم يصمد هذا الرأي للنقد ذلك أنه ما من شك غير كاف كذلك أنه يمكن أن يكون وهما وخداعا لأننا نقوم بأعمال معينة مع شعورنا بحريتنا إلاّ أننا مقيدون بعدة أسباب كذلك أن البرهان الاجتماعي نائم على الشعور بالحرية أثناء عقد القوانين وقيام الأنظمة الاجتماعية فالشعور يكفي للتدليل بها فهو يثبتها كما يثبت الحتمية ولا معنى للقانون والنظام ما لم يعمل به أصحابه وشروطه،أما أصحاب الحجة الأخلاقية فهي قائمة على التسليم بالحرية حتى لا تتهدم وفكرة التسليم لا تكفي للبرهنة عليها لأننا نستطيع التسليم بعدم وجودها كما سلمنا بوجودها أما بحث المعتزلة فقد باء منصبا أكثر على الإنسان المثالي المجرد المتصور عقلاً لذلك وضع الحرية في زمن الفعل في حين أن مشكلة حرية الإنسان الواقعي ومطروحة على مستوى الفعل و مواقف الحياة التي تواجهها واعتمادهم على آيات هذا صحيح.
وعلى عكس الرأي السابق نجد من ينفي الحرية فهم يعتبرون الحرية وهماً لا يمكن تحقيقه وإن وجدت فوجودها ميتافيزيقي لا علاقة له بحياة الأفراد وذاك لما يقيدهم من حتميات داخلية وخارجية،فأصحاب الحتمية النفسية ومن بينهم المدرسة السلوكية الأمريكية وعلى رأسها والن يرون أن السلوك عبارة عن الاستجابات التي تتحكم فيها منبهات داخلية وخارجية كالرغبات والميولات والدوافع الفطرية والعوامل الخارجية التي تشكل مصدراً هاماً لأفعالنا،أما مدرسة التحليل النفسي فتفسر السلوك بدوافع لا شعورية أساسها الكبت يقول نتشهإن إرادة تجاوز ميل ما ليست إلا إرادة آدميون أخرى)،ويقول أحد الفلاسفةكل قرار هو مأساة تتضمن التضحية برغبة على مدرج رغبة أخرى)،أما أصحاب الحتمية البيولوجية ونقصد به مبدأ العلمية القائل انه إذا توفرت نفس الأسباب فستؤدي إلى نفس النتائج ومن ثم توسيع هذا المبدأ على الإنسان باعتباره جزءا من الطبيعة فهو حامل منذ ولادته لمعطيات وراثية وخصائص ثابتة والطبع في رأيهم تحديد فطري و البنية البيولوجية تنمو وتتكامل حسب قانون معين فهو يخضع لجملة من القوانين حيث نجد الروانيون وكذلك بيسنوزا الذي يقولإن الحرية لا تكون إلا حيث نكون مقيدين لا بعامل القوى والضغوط ولكن بعوامل الدوافع والمبررات العقلية...وعندما نجهل دوافع تصرفنا فنحن على يقين بأننا لم نتصرف تصرفا حراً)،أما أصحاب الحتمية الاجتماعية فهم يؤكدون أن الإنسان مجرد فرد يخضع للجماعة كالعجينة يشكله المجتمع كما يريد وذلك عن طريق التربية والتعليم والتجارب الاجتماعية فلا وجود للحرية الفردية داخل الحتميات الاجتماعية *ثقافية،اقتصادية* والتي لا يمكنه أن يغير فيها مهما حاول ذلك يقول بن خلدونالناس على دين ملوكهم)،ويقول دوركايمإذا تكلم الضمير فما هو إلا صدى المجتمع)،ويقول أيضاًلست مجبراً على استخدام اللغة الفرنسية لكن لا أستطيع التكلم إلا بها ولو حاولت التخلص من هذه الضرورة لباءت محاولتي بالفشل)،أما أصحاب الحجة الميتافيزيقية فنسبهم إلى جهم بن صفوانلا فعل لأحد في الحقيقة إلاّ لله وحده وإنه هو الفاعل و أن الناس دائماً تنسب إليهم أعمالهم على المجاز كان يقال تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس وإنما يفعل ذلك بالشجرة والشمس و الفلك الله سبحانه وتعالى)،ويقول أيضاًلا قدرة للعبد أصلاً لا مؤثرة ولا كابسة بل هو بمنزلة الجماد فيما يوجد منها)، إن هذا الرأي عندهم مبني على أصل عقائدي هو أن الله مطلق القدرة خلق العبد وأفعاله هو يعلمها قبل صدورها من العبد بعلمه المطلق ،بالإضافة إلى هذا نجد لايبنتز الذي يرى أن الإنسان عبارة عن جوهر روماني سماه المنادة يستمد كل مقوماته من ذاته التي أعدت بكيفية آلية مسبقة مثل الساعة،ولما كان الخير والشر مقدر على الإنسان في طبيعته تركيب روحي فهل بقي ما نسميه اختيار يقول لايبنتزالله مصدر جميع أفعال الإنسان بخيرها وشرها وكل شيء مسطر في سجل الكون الأبدي)،أما أنصار الحتمية الطبيعية فقد اعتبروا أن سلوك الإنسان متدرج فمن سلسلة الحوادث الطبيعية كونه كائن حي كبقية الكائنات الحية وعلى أساس أن الظواهر الطبيعية تخضع لقوانين وحتميات فيزيائية وكيميائية وتؤدي في نفس الوقت إلى نفس النتائج فسلوك الإنسان باعتباره جزءاً منها يخضع لهذه الحتمية حيث يرى بيسنوزا أن الشعور بالحرية ليس وهماً راجع إلى جهلنا بالحتميات كالحجر الساقط يتوهم أنه حر لو كان له شعور لكنه في الواقع خاضع لقانون الجاذبية يقول بيسنوزاإن الناس يخدعون أنفسهم بأنهم أحرار لكنهم في الحقيقة يحملون الأسباب الحقيقية التي تحدد سلوكهم)،ويرى البعض أن فعل الإنسان ليس تعبيراً عن الباحث الأقوى يقول لايبنتزالإرادة إذ نختار تميل مع إحدى القوى أو البواعث أثر في النفس كما تميل إبرة الميزان إلى جهة الثقل).
إن هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد فبالنسبة للحتمية النفسية فإن الإنسان ليس مجرد حزمة من الغرائز والدوافع فهو قادر على التحكم فيها كما هو ملاحظ في الواقع وبإمكانه تنظيمها وفق نتائج مرغوبة ومقصودة وبدون هذه الرغبات والعادات يصبح لا معنى لأفعالنا فالحرية رغبة وميل ينبثق من كل إنسان أما الحتمية البيولوجية فالإنسان ليس جسما ولا شيئاً من أشياء الطبيعة ولا يرجع سلوكاته إلى التغيرات الفيزيولوجية وحدها فهو قادر على التحكم في سلوكه وطبعه ولا يمكن التنبؤ بمستقبل سلوكه أما بالنسبة للحتمية الاجتماعية فالإنسان ليس مجرد عجينة في يد المجتمع فهناك مجالات واسعة بوجودها المجتمع الفرد كي يتمكن من الاختيار الحر لحرية مضمونة في القوانين الاجتماعية ولا قيمة لها خارج المجتمع ونلاحظ أن بعض العلماء والزعماء من أثروا في المجتمع ودفعوه إلى التغيير وليس العكس،أما بالنسبة للحتمية الميتافيزيقية فإن دعواهم أمر مظلل فهي أساس دعوة للكسل والخمول مع وظيفة الإنسان في الكون فهو مخير لا مسير وهذا استناداً لقوله تعالىلا يغير الله ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم)،أما الحتمية الطبيعية فإن علاقة الإنسان بالطبيعة ليست علاقة تبعية بل بالعكس علاقة جدلية يؤثر فيها ويتأثر بها ويتخذ فيها الأسباب الأساسية لحياته ومن إمكانياتها مصدر تنافس وتفاوت بينه وبين الأفراد كذلك أن الفعل الحر لا ينفي السببية لأنه هو نفسه معول بعلة الإنسان.
إن هذه الآراء وجميع الحجج والأدلة المعتمدة لنفي الحرية باسم الحتمية أو إثبات الحرية عن طريق ما نعيشه أو على أساس قوى مفارقة للطبيعة لا يمكن أن تكون كافية، ذلك أن الحتمية لا تنفي الحرية إلاّ ظاهرياً أما جوهرها فهو أساس الحرية وشرط من شروط الحرية الحقة وفي هذا يقول أحد الفلاسفةلا علم بلا حتمية ولا حرية بدون علم إذن لا حرية بدون حتمية)،فلا تحرر إلاّ بمعرفة الحتميات والعراقيل وفي هذا يقول مونيإن كل حتمية جديدة يكتشفها العالم تعد نوطة تزداد إلى سلم أنغام حريتنا).
وخلاصة القول فإننا نصل إلى نتيجة هي أنه لا يوجد تعارض بين الحرية والحتمية فلولا وجود هذه الحتميات ما كان للحرية معنى لما ثقفه الإنسان عبر التاريخ لنفسه وبني جنسه فالحتمية أساس وشرط ضروري لتحقيق الحرية.
الطريقة:جدلية. الدرس:الحرية والتحرر.
الإشكال:هل الحرية حالة شعورية أم هي عمل التحرر؟.
يرى بعض المفكرين أن الحرية هي تجاوز أي إكراه داخلي أو خارجي،داخلي يتمثل في الرغبات والشهوات والميول والحاجات النفسية البيولوجية وخارجي يتمثل في الحتميات الطبيعية والاجتماعية لذا نتساءل هل يكفي المرء أن يشعر أنه حر ليكون حراً حقاً أم أن الحرية ممارسة وفعل في الواقع اليومي؟.
بالنسبة لبعض الفلاسفة إن تجربتنا الشعورية الداخلية دليل كاف على أننا أحرار ففي رأي المعتزلة(أن الإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن)،ومعناه أن الأفعال التي يقوم بها إنما يمارسها بإرادته الحرة حسب الظروف التي تلامسه وفي هذا يقول ديكارتإننا واثقون من حريتنا لأننا ندركها إدراكا مباشراً بل نحدسها حدساً)،حيث يرى أن إحساس الإنسان الداخلي بالحرية ـ الواضحة والمتميزة ـ دليل كاف على حريته يقول لوسينكلما أبحث في نفسي عن القوة التي تقيدني كلما أشعر أنه ليست لدي أية قوة غير إرادتي ومن هنا أشعر شعوراً واضحاً بحريتي)،ولكن مثل هذا القول لا يمكن أن يصمد للنقد ذلك أن الإرادة من الناحية الفلسفية باعتبارها العلة الأولى قوة سحرية والأخذ بها فيه كثير من المبالغة كذلك أن الشعور وحده يمكن أن يكون وهما خداعا لأننا نجهل الحتميات التي نخضع لها خضوعا داخليا أو خارجيا سواء كانت نفسية أو طبيعية أو اجتماعية وهذا تكفل بسيادة عدد كبير من المفكرين في العصر الحديث.
لقد حاول بعض الفلاسفة من الذين أدركوا المشكلة أن يزيحوا النقاب عن سر اللغز فالرواقيون يرون أن العالم يخضع لقوانين ثابتة أي أنه يسير حتما بمقتضى العلة والمعلول،وأن الكائن الإنساني الموجود في هذا العالم ليس حر لأنه لا يمكن أن يكون حراً بالإرادة في عالم مجبر غير أن الإنسان ذو طبيعة عاقلة و إذا أراد التحرر والسعادة فلا بد أن يعيش على وفاق الطبيعة بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان أي على وفاق مع قانون الطبيعة الذي يسيّر العالم ويعيش حسب طبيعته العاقلة فيسير المرء في حدود ما يرشد إليه العقل خاضعا لقوانين الكون المعقول فالقضية هي قضية حرب بين العقل والشهوات فينتصر العقل إذن الحرية ليست معطى أولي ولا فضل من الطبيعة إنها تكتسب على ضوء ما تملي به الطبيعة الإنسانية الحقيقية وتحررنا يقاس بضعف أو قوة أعمالنا وإنجازاتنا و مجهوداتنا المبذولة فلا بد من قبول الضرورة إذن،كما تقبل الأسطوانة الدوران وفي نفس الاتجاه يرى سبينوزا أن أفعال الإنسان مجرد ظواهر آلية إذن فهو ليس حراً ولكن ليس معنى ذلك أن فيلسوفنا يلغي الحرية وإنما يرى الحجة في قبول النظام الرياضي للكون والقوانين العقلية المسيرة للحوادث فكلما ازداد العقل علما كما يقول ازداد فهما لقوانين النظام الطبيعية وهو يقرر هنا أن العقل يجب أن يضع قانونا ينظم رغبات الإنسان المتنافرة وبهذا يمكنه التحكم في مستقبله وتحرير نفسه من أغلال العواطف العمياء وإذا أراد الفرد أن يكون كاملاً لا ينبغي أن يتحرر من قيود المجتمع ونظامه لأن سموّ المرء إنما هو في التحرر من ضرورة الغرائز وعليه أن يتقبل القوانين الطبيعية والإلهية بسرور لأن الإنسان الذي يرى الأشياء تسير وفقا لنواميس الله لن يستاء أو يتذمر مع أنه قد يقاوم وذلك فإنه يرتفع من لذات الأهواء إلى صفاء الفكر والعقل وفي هذا يقول نتشهإن الأمر الضروري لا يضرني لأن حب القدرة نواة طبيعي)،ولكن لأغلب الناس لم يدركوا الضرورة ولذلك وجد عبر التاريخ السيد والمسود وإذا أراد الإنسان التحرر من هذه الجدلية فلا بد أن يقدم على اكتشاف القوانين الموضوعية لتطور الطبيعة والمجتمع والفكر،وبهذا نتمكن من تحويل العالم تحويلاً ثورياً بدلاً من تأمله،فلا بد أن يعمل قبل كل شيء على إسقاط الرأسمالية وعلى قيام المجتمع بدون طبقات لذلك قال ماركسإن الفلاسفة لم يعملوا لحد الآن إلاّ على تفسير العالم في حين حان وقت تغيره)، والتحرر الذي يسمح ببناء الإنسانية يعتبر إحدى الغايات التي ينشدها الشخصانيون وتعد فلسفتهم نداء لجميع الناس من أجل بناء نهضة جديدة حيث تزدهر القيم والمثل العليا ولا يتسنى ذلك إلاّ بالقضاء على كل الحواجز موضوعية كانت أو ذاتية لابد مثلا أن يتحرر من شهواته العمياء ويتجاوز الميول البيولوجية المغلقة ثم يتحرر من ضرورة الطبيعة بوسائل العلم وفي هذا يقول مونيإن كل حتمية جديدة يكتشفها العالم تعد نوطة تزداد إلى سلم أنغام حريتنا)،وكذلك نجد باكونين يقول لست حرا إلا يوم تكون الكائنات التي تحيط بي رجالا ونساء وأطفالا حرة أيضا فأنا لا أصير حرا إلا بحرية الآخرين)،وقد لاحظ الشخصانيون أن إنسانية البرجوازية مؤسسة بالدرجة الأولى على انفصال الفكر عن المادة أو إبعاد الفكر عن العمل.
وتقويما لهذا الموقف يمكن القول على وجه الخصوص أنه لا يجب أن ننكر الأهداف السامية التي ترمي إليها الماركسية والشخصانية وروح العدالة،فماركس يدعو لتغيير العالم وتغييره وتحويله تحويلا ثوريا إلا أن التاريخ يخضع لحتمية مطلقة وفي نظره أن المجتمع الشيوعي هو الذي سيغير التاريخ و بالتالي إنكاره كل محاولة أو مبادرة حرة،أما الشخصانيون رغم أنهم اعتبروا الحرية جهدا فرديا مستمرا إلا أن ندائهم يبقى نداءا مثالياً كذلك أن ربط الحرية بالتحرر قد يجعل المرء يتجاوز الكثير من الحدود ظنا منه أنه يتحرر فتنقلب أفعاله إلى نوع من الفوضى قد يشكل خطرا عليه وعلى من حوله لذا لابد من الوعي الدقيق.
وأخيرا فالحرية ليست مجرد شعور نفسي بل هي عمل مستمر للتحرر يتجلى كلما برزت أمام المرء العوائق والحواجز التي تجعله يبذل جهودا ملائمة لتجاوزها فيتحرر من ضغوطها وبهذا فليست الحرية شيئا جاهزا نجده أو نقتنيه بل هي ممارسة يومية على المستوى النفسي والاجتماعي والفيزيائي وقد صدق من قالينال المرء دائما الحرية التي هو أهل لها والتي هو قادر عليها).
الطريقة:جدلية. الدرس:المسؤولية والجزاء.
الإشكال:هل العقاب وحده كاف لتقويم سلوك الإنسان والحد من الجريمة؟
تعد المسئولية قبل كل شيء إنسانية إذ لا يعقل أن يتحمل غير الإنسان أي مسئولية لذلك لم ينحصر النظر فيها في دائرة الفلاسفة وحدهم بل شاركهم في ذلك ذوي الاختصاص من علماء النفس و الاجتماع و رجال القانون و المنشغلين بعلم الإجرام , و منشأ هذا الاهتمام علاقة المسئولية بالجزاء و أثر هذا الأخير في نفوس الأفراد و في تحقيق التنظيم الاجتماعي و من هنا فقد اختلف جمهور الفلاسفة في إبراز دور العقوبة و مدى تنظيمها لسلوك الأفراد و من هنا يتبادر إلى أذهاننا الإشكال التالي هل العقاب أسلوب ناجع في تنظيم المجتمع ؟ أو بعبارة أصح هل العقوبة تحد من الجريمة و تقوم سلوك الأفراد ؟
يرى أنصار النزعة العقلية أن الجزاء ضروري لتقويم سلوك الفرد لأن هذا الأخير حر و عاقل و بإمكانه الاختيار و اختياره لفعل ما تنتج عنه مسئوليته فهو مسئول باختياره و بهذا الصدد يرى أفلاطون في الكتاب العاشر من جمهوريته في صورة أسطورة فحواها
أن (آر) الجندي الذي قتل في ساحة الشرف يعود إلى الحياة من جديد بصورة لا تخلو من المعجزات فيروي لأصدقائه الأشياء التي تمكن من رؤيتها في الجحيم حيث أن الأموات يطالبون بأن يختاروا
ء و هم المسئولون عن اختيارهم الحر) و في نفس التيار يرى كانط بأن صاحب السوء هو الذي يكون قد اختار بكل حرية تصرفه منذ الأزل بقطع النظر عن الزمن و الطباع فشرور الفاشية في العالم إنما هي نتيجة حرية اختيار يقول كانطإن الشرير يختار فعله بإرادته بعيدا عن تأثير الأسباب و البواعث فهو بحريته مسئول ويجب أن يجاز على أفعاله) ولقد أخذ الوجوديون بموقف مماثل إذ أن وجود الإنسان في رأيهم سابق لماهيته أي أن الفرد يولد أولا ويكون ما يريد بعد ذلك ما يريد وقد نضرت الديانات السماوية في إشكالية العقاب و من بينها الإسلام الذي مثلته فرقة المعتزلة التي تؤكد على قدرة خلق الإنسان لأفعاله لأنه قادر بعقله على التمييز بين الخير و الشر و بالتالي هو مكلف و مسئول عن أفعاله وترى هذه النظرية بدورها أن الغرض من الجزاء و العقاب عن فعل ما ليس تحقيق منفعة للمجتمع أو بتقليل عدد المجرمين بقدر ما هو التكفير عن الذنب الذي لوث به المجرم قيمة العدل و عكر صفوها و هو أيضا تطهير للنفس من الدنس الذي لحق بها نتيجة الأفعال السيئة و في هذا يقول لايبنتزهناك من العدالة ليس غرضه إصلاح الشعور و إنما التكفير عن الفعل السيئ)،ويقول كذلك مالبرانشإن الذي يريد من الله أن لا يعاقب الظالم لا يحب الله) وفي هذا الصدد نذكر المرأة التي جاءت إلى رسول الله (ص) قائلةيا رسول الله إني زنيت فطهرني و إني أريد أن ألقى الله و أنا طاهرة بريئة من ذنبي) وهي تقصد هنا أن يطهرها بإقامة الحد عليها (الرجم) العقاب هنا هو نتيجة للماضي لا إلى ما عسى أن يحدث في المستقبل ونجد أن هذه النزعة تدعو إلى وجود قوانين وعقوبات صارمة تجزر المجرم حتى لا يكرر فعلته في المجتمع بالإضافة إلى إقرار الديانات السماوية بتنفيذ العقوبة بشكل علني وقد انتشرت هذه الفكرة في المجتمعات البدائية و المعاصرة فهي إذا مطلب حضاري .
بالرغم من كل هذه الحجج و الأدلة إلا أن هذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أن حرية الفرد تخضع لبعض الحتميات كذلك أنها اعتبرت المسئولية فردية بطبيعتها و هذا ليس صحيحا لأن الأبحاث الاجتماعية أكدت أن المسئولية بدأت جماعية ثم تحولت إلى فردية بعد تطور طويل في حياة البشر الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية فالفرد قديما كان ذائبا في قبيلته و حين يقوم بفعل شيء ضد قبيلة أخرى لا يعاقب وحده بل تعاقب القبيلة أما الآن فالعقاب فردي يسلط على الفاعل مباشرة كذلك أنها تربط الجزاء بالماضي و هذا لا يؤكد إلا نصف الحقيقة فالجزاء لا بد أن يكون موجها أيضا للمستقبل لحماية المجتمع كذلك أن هذه النظرية تتجاهل الدوافع و الأسباب التي تحد من تصرفاتنا و مسئولياتنا و في هذا يقول لاشونهيإن الفعل الذي يحدث عن حرية مطلقة يعد فعلا مستقلا عن أي أسلوب فطري أو مكتسب و على هذا يعد غريبا عن كل ما يؤلف طبعنا الشخصي و ليس لنا أي مبرر لننسبه إلينا أو لنعتبر أنفسنا مسئولين عنه) كذلك غيو يقولهل نحن نمحي السيئات التي ارتكبها المذنب بتعذيبه؟ إنما ما حدث قد حدث!! )
و على عكس الرأي السابق نجد أنصار النزعة الوضعية الذين يرون بأنه لا يمكننا معاقبة المجرم لأن العقوبة في نظرهم وسيلة تقليدية غير مناسبة فالإجرام حسبهم فعل لا يتعلق بالإرادة بل ينشأ آليا إما بتأثير العوامل الوراثية أو الاجتماعية أو النفسية و أبرز رواد هذه النزعة الإيطالي لومبروزوا و مواطنه فيري و عالم النفس النمساوي فرويد ؛ أما لومبروزوا فيرى أن الإجرام له علاقة بصفات المجرم الوراثية و يقدم إحصائيات لأسر معظم أفرادها من مجرمي المافيا و يعدد تلامذته (50)خمسين مطلوبا للعدالة في أسرة الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون و لومبروزوا يصنف المجرمين إلى أصناف هي كالتالي:مجرمين بالفطرة>بالطبع<, مجرمين مجانين ,مجرمين بالعادة , مجرمين بالعاطفة,و هؤلاء يستهويهم الإجرام,و مجرمين بالمصادفة و يؤكد لومبروزوا أن كل هذه الأصناف قابلة للإصلاح ما عدى الأول الذي يجب مساعدته على الفناء و لو كان طفلا لأن في إفنائه وقاية للمجتمع,أما فيري متأثر بأوغست كونت في العلوم الاجتماعية يرى أن الإنسان لا يولد مجرما و لكن تصنع منه ظروف بيئته الاجتماعية الفاسدة مجرما و لقد أثبت أن العوامل الاجتماعية هي التي تلعب الدور الأساسي في ظهور السلوك الإجرامي و في رأيه أن الإجرام نتيجة حتمية لمجموعة من المؤثرات لا بد عند توفرها من وقوع السلوك الإجرامي , و أخيرا نجد عالم التحليل النفسي فرويد الذي يرى أن بعض السلوكات الإجرامية مردها إلى قوى لا شعورية تتمثل في بعض الدوافع و الميول و الذكريات المكبوتة في لا شعور الإنسان منذ أيام الطفولة فيمكن أن نفسر مثلا السرقة كمحاولة لاسترجاع ما أخذ من الشخص في الماضي , كما يمكن تفسير الخروج عن القانون و مختلف أشكال التمرد و الثورة كثورة الطفل ضد الأب الذي يمثل السلطة عند الطفل أي أنه شكل من أشكال إرضاء الغريزة العدوانية التي استحال تصعيدها و من هنا رصده سلطة الأب القاهرة التي تمنعه من إشباع رغباته كلها و بهذا الصدد يقدمون كذلك إحصائيات لعدد كبير من المجرمين المتخلفين عقليا و المرضى نفسيا و قد دعا هؤلاء إلى ضرورة إصلاح الفرد لا معاقبته و مساعدته على الاندماج في المجتمع,و إلى ضرورة التخلص من المجرمين غير القابلين للإصلاح و الجزاء عندهم هو وقاية للمجتمع من تكرار أفعال الإجرام وهذا يتطلب إصلاح المجرم .
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد ذلك أنهم يرفعون المسئولية عن الفرد ذلك أنه خاضع لعوامل و دوافع أخرى و قي ذلك تشجيع للإجرام,أما بالنسبة للومبروزوا الذي يرى أن للجريمة صبغ خاص بها و هذا أمر لم يثبته العلم بالإضافة إلى ذلك يجب أن يكون العمل الإصلاحي مكملا للعقوبة لا بديلا لها كذلك أن الملاحظة البسيطة تؤكد أنه ليس كل المرضى النفسيين مجرمين بل أن معظمهم مسالمين و إنطوائيين .
ما من إنسان على وجه المعمورة إلا و له عيوب و مساوئ و ما من مجتمع إلا و يعاني ظواهر الشذوذ و الانحراف و في كل الأحوال ما دمنا نعاقب فإننا نعترف بحرية المجرم و بالتالي مسئوليته عن أفعاله و عليه يجب أن يكون الألم الناتج عن العقاب أكبر من اللذة الحاصلة بالجريمة حتى لا يعود إليها في المستقبل و ليس الغرض من العقاب هو الانتقام من المجرم بل ردعه و المحافظة على أمن و سلامة المجتمع , يقول عز وجلو لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) و إذا رأينا في الموقفين السابقين بعض العيوب و النقائص فالموقف الإسلامي يبقى هو الأمثل حيث يحافظ على نقاء النفس و طهارتها و ضمان أمن المجتمع و سلامته دون أن ينسى ظروف الفاعل و ألا يهمل الفعل ذاته.
و هكذا يمكننا أن نستنتج أن العقاب لا يكون وحده دائما هو العلاج الأمثل لأمراض النفوس و عللها إنما يجب النظر في وسائل الوقاية و هذا لا يكون إلا بتوفير كل الشروط الصالحة لتكوين الفرد فبالقضاء على البطالة و أسباب الظلم و الجهل و التخلف نقضي على مصدر الجريمة و بالتالي يصبح المجتمع الإنساني فاضلا لا يحتاج لا لقضاء أو قضاة و هذا ما حدث بالفعل في الدولة الإسلامية الأمر الذي جعل عمر بن الخطاب يقدم استقالته من منصب القضاء في عهد الصديق قائلا يا أمير المؤمنين ...لي عامين في سدة القضاء و لم يتقدم إلي متخاصمين ).
يقول عباس محمود العقاد لا يكفي أن تكون في النور لكي ترى بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه )
الطريقة:جدلية. الدرس: المشكل الأخلاقي 2.
الإشكال:هل يمكن أن نتصور فعلا أخلاقيا يكون فاعله مجبر عليه؟.
لقد اختلف فلاسفة الأخلاق في تأطير هم للسلوك و كل ذلك ابتغاء تأطيره و الحكم عليه ساعين من خلال عمليهما إلى تحديد العناصر التي تجعله ذا قيمة و دلالة أخلاقية , و هذا من خلال ما يضفون عليه من قيم إنسانية ينشدها الفرد في فعله فإذا كان الإنسان من خلال قيامه بالفعل الأخلاقي يلتزم بمعايير و قيم أخلاقية معينة فهل أساس هذا الفعل و قوامه أن يكون فاعله مجبرا عليه ؟.
يرى النفعيون و على رأسهم أرستيب القورينظي والذي يعتبر المؤسس الأول لمذهب اللذة الفردية فهو يرى أن اللذة هي مقياس العمل الخلقي , فالعمل خير بمقدار ما فيه من لذات و شر بمقدار ما فيه من آلام و اللذة عي الباعث للعمل و في هذا يقول أي عمل لا يخضع للذة و الألم و أي شيء غير اللذة لا يمكن أن يكون باعثا على العمل , اللذة هي الخير الأعظم و هي مقياس القيم جميعا هذا هو صوت الطبيعة فلا خجل و لا حياء و ما القيود و الحدود إلا من وضع العرف ) _ ثم إن هذه اللذة التي تحملنا متع الدنيا و القناعة باللحظة الحاضرة تجعلنا في مستوى واحد مع الحيوان ـ و لعل هذا ما جعل أبيقور يطور هذا المذهب من اللذة إلى المنفعة لكنه مع ذلك يبقى مخلصا للمذهب السابق فهو يرى أن الإنسان يوجه أعماله للحصول على اللذة غير أنه يختلف معه في القول بأن هناك لذات أفضل من لذات عكس أرستيب الذي لا يفرق بين لذة وأخرى، إذن فما دامت هناك لذات أفضل فإنه يجب أن نمسك بزمام شهواتنا فنرفض اللذة إذا كانت متبوعة بألم أكبر منها، ونتحمل الألم إذا كان متبوعا بلذة أكبر منه فاقتلاع الضرس المسوس على الرغم مما فيه من ألم أفضل من تركه ولكي يسهل علينا اقتناء اللذات الأنفع يمدنا ببعض القواعد أولها أن إلى اللذات التي لا يعقبها أي ألم،وثانيها أن نبتعد عن الألم الذي لا يولد شيئا من اللذات،وثالثها أن نجتنب اللذة التي تفقدنا لذة أعظم منها،وأخيرا أن نقبل بالألم الذي يضمن لنا لذة أرجح من ذلك الألم أو يخلصنا من ألم أعظم منه،وقد ذهب وعلى شاملة هذا الطرح وبعد عشرين قرنا هوبز(1588-1697م) فهو يرى مثل أبيقور أن اللذة الشخصية هي المقياس الخلقي،وأن الإنسان الطبيعي لا يعرف إلا أنانية محضة فإن أي إنسان بطبيعته لا يبعثه على الفعل إلا حبه لنفسه وليس له أي باعث آخر إنه أناني بطبعه لا يطلب إلا خيرا لنفسه،ونجد كذلك الفيلسوف الإنجليزي بينتام (1748-1832) أنه يجب أن يكون في المنفعة العامة لا الشخصية فاللذة التي نسعى إليها ليست لذة العامل وحده بل لذة كل من لهم علاقة بالعمل لذلك يجب علينا أن نحكم على الأعمال بالخيرية أو الشريرة أن ننظر فيما ينتجه العمل من اللذات و الآلام لا لأنفسنا فحسب بل للنوع البشري كله فالقاضي مثلا عندما يقبل الرشوة تعد رذيلة حتى وإن انتفع بها هذا الأخير لأنها تؤدي إلى حالة من الفوضى فتكثر المظالم وتضيع حقوق الناس يقول بينتامالمنفعة خاصية الشيء الذي تجعله ينتج فائدة أو لذة أو خيرا أو سعادة وخاصية الشيء التي تجعله يحمي السعادة من الشقاء والألم والشر والبؤس بالنسبة للشخص الذي تتعلق به المنفعة)،ولقد وضع بينتام صفات محددة للمنفعة هي كالتالي: الشدة، الخصب ،الدوام ،الصفاء ،القرب و الاتساع . وأخيرا جون ستوارت ميل (1806-1873) الذي يختلف مع أستاذه بينتام فهو يرى أن تقدير اللذات يجب أن يعود إلى مشورة أناس خبراء لا إلى الفرد و قد أقام ميل قاعدة السلوك الأخلاقي هي أن نعمل من أجل الآخرين ما ينبغي أن يفعلوه من أجلنا .
الواقع أن بناء الأخلاق على الطبيعة البشرية يلغي كل إلزام وكل مشروعية لها لأنه ما دام من طبيعة الفرد أن يسعى إلى ما يسره وينفعه فإنه لا يمكن أن نطلب منفعة غيره وإن كانت هذه الأخلاق تدعي الواقعية فإنها فقدت وظيفتها في تقييم السلوك و السمو به نحو المثل العليا يقول غولبرإن تقدير قيم اللذات على الرغم من اختلاف طبيعتها و نوعها وقربها بالإسناد إلى حساب شدتها وامتدادها وقربها وقد يوصلنا إلى قائمة طويلة من الأرقام لكنها أرقام تعسفية لا تخضع إلاّ للعبث و الأهواء).
وعلى عكس الرأي السابق يرى أنصار الاتجاه العقلي أن هذا الأخير هو مصدر القيمة الأخلاقية فهو تلك الماهية الخالدة التي لا تتأثر لا بالزمان و لا بالمكان فبه نحكم على الأشياء و نقومها وبه نهتدي في تصرفاتنا يقول ديكارتالعقل هو أعدل الأشياء توزيعا بين الناس) ،فالعمل الأخلاقي هو كل ما يصدر عن اقتناع واختيار ومعرفة لذلك فإن أحكامه ضرورية تصلح لتقويم السلوك فالعقل هو أداة الإدراك و التبرير ولا يتم التمييز بين الخير و الشر إلاّ بالعقل فإنه ينطوي على مبدأ عدم التناقض يقول الدكتور محمد بدوي في كتابه (الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع) هناك قوة كامنة في نفس الإنسان لا تهيئ له النصح و تضيء له السبيل فحسب بل إنها تحدد له ما يجب عمله وما يجب تحاشيه ،هذه السلطة الكامنة التي تسيطر على قدراتنا وعلى غرائزنا السفلى وهي أسمى جزء في نفوسنا هي العقل فخارج ما يأمرنا به العقل لا تكون هناك قاعدة أو سلوك له ما يبرره وسلطة العقل هي السلطة الشرعية الوحيدة). وعلى شاكلة هذا الطرح نجد كانط يجعل من العقل مصدرا للحياة الأخلاقية ليقطع به الطريق أمام العواطف المندفعة فيحتكم الناس إلى صرامته ونزاهته فهو يصدر من الإرادة خيرا فالإرادة الخيّرة هي التي تعمل بدافع الواجب لا طبقا للواجب فقط لأن هناك بعض الأعمال يمكن أن تتمة طبقا للواجب لكن بدافع المنفعة لا بدافع الواجب إذا فالإرادة الخيرة هي التي يكون الدافع إليها هو شعور الاحترام الذي يولده فينا مجرد تصور القانون ،إذاً فالإنسان الأخلاقي يؤدي فعله كممثل للإنسانية برمتها.
بما لأن الفعل الأخلاقي لا يمكن أن يكون أخلاقيا وهو خال من الأهواء خاضعا للعقل و للإرادة الخيرة فإن السلوك الأخلاقي هو السلوك الصادر عن الإنسان الواقعي الذي تتجاذبه الأهواء و الرغبات و الذي بإمكانه أن يؤدي أن يؤدي فعلاً خلقيا يكون ناتجاً عن حكمة في التصرف قوامها بناء سلوك ما تكون فيه الأهواء و الرغبات تعمل وفق ما يمليه العقل .
على ضوء ما سبق ذكره نصل إلى أن الجزاء أمر ضروري باعتباره عامل ضغط خارجي يحدد السلوك و يقيمه لكنه غير كاف يحتاج إلى أمر مقابل يتمثل في الضغط الداخلي أو التأثير الذي يحدثه العقل قبيل وأثناء القيام بالسلوك .
الطريقة:جدلية. الدرس: إشكالية العدل.
الإشكال:هل يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية في ظل الفروق الفردية ؟.
إن مفهوم العدل لم يصبح مفهوما شائعا في عصرنا الحاضر إلا بعد الثورات الكبرى التي أرقيت فيها الدماء و أزهقت فيها الأرواح البشرية و التي بها ثائرون متعطشون إلى الإخاء ضد الاستبداد و الطبقية و الاستغلال و صار مفهوم العدل كثيرا ما يقرن بمفهوم المساواة و يعتقد أن العدل في المساواة و الظلم في التفاوت و لكن أليس المساواة المطلقة ظلما ؟ لقد اختلف المفكرون في الإجابة عن هذا السؤال فمنهم من قال بالمساواة لأنها عدل و منهم من رفضها لأنها ظلم و حتى نصل إلى الرأي الذي يبدو لنا صحيحا و نأخذ به لابد من عرض الموقفين:
يرى أصحاب التفاوت أن العدل يتأسس على احترام الفوارق الموجودة و يوردون حججا تتعلق بالفوارق الطبيعية و الفوارق الاجتماعية فهم يرون أن الأفراد منذ ولادتهم يتميزون عن بعضهم البعض فلكل منهم قدراته و مواهبه الجسمية و العقلية الخاصة به فمنهم الضعيف و منهم القوي , منهم الذكي و منهم الغبي , فمن الظلم أن تمنح الغبي و غير الكفء منصبا إداريا ممتازا , لقد كان هذا رأي أرسطو فهو يزعم أن التفاوت قانون الطبيعة فهو يعترف بأن استغراق البعض للبعض الآخر هو ضرورة طبيعية و مادام الناس مختلفين من حيث الخصائص العقلية و الفيزيولوجية فلا بد فيما يرون من توسيع شقة الاختلاف بينهم يقول كاريل أليكس*عالم فيزيولوجي و جراح فرنسي*فبدلا من أن نحول تحقيق المساواة عبر اللامساواة العضوية و العقلية يجب أن نوسع دائرة هذه الاختلافات و ننشئ رجالا) و هو يوضح القول قائلاإن تقسيم سكان البلاد الحرة إلى طبقات مختلفة لا يرجع إلى المصادفة أو العرف الاجتماعي و إنما هو مؤسس على قواعد بيولوجية صلبة و كذلك على قدرات الأفراد الفيزيولوجية و العقلية) ففي المجتمع الديمقراطي كما ترى *فرنسا , بريطانيا* استطاع كل شخص أن يجد فرصته خلال القرن (19م) ليرتفع إلى المركز الذي مكنته مقدرته من بلوغه , لكن اليوم عامة الشعب يدينون بمراكزهم إلى الضعف الوراثي لأعضائهم و عقولهم بالإضافة إلى هذا الرأي فقد تبنى هذا الموقف بعض الأديان القديمة (الإبراهيمية) و التي بادروها بتقسيم الناس إلى أربع طوائف أعلاها الكهنة و البراهمة و أدناها السفلة و الأنجاس , و حديثا نجد اليهود الذين زاعمو أنهم وحدهم شعب الله المختار بالإضافة إلى الحركة النازية التي قسمت الجنس البشري إلى طبقات أسماها الآري ولقد علل أنصار هذا الضرب من الفوارق الاجتماعية منها و الطبيعية بأنها كحافز يدفع الأفراد إلى السعي و النشاط ذلك بأن الإنسان بطبعه مفطور على أن يسعى وراء آماله الواسعة و محاولة تحقيقها، فحياة بعض الناس في الرفاهية وتمتعهم بالكماليات يثير فيمن هم دونهم رغبة أقوى في العمل قصد الوصول إلى طموحاتهم فهو ينكر وجود تفاوت بين الناس في مكانتهم وقدراتهم وهذا لا يعني عدم مساواتهم أمام العدالة في أن أي تفاوت يتحول إلى ظلم.
إلاً أن هذه النزاعات تشبه إلى حد ما المبادئ التي انطلق منها التوسع الاستثماري الحديث يدّعون أن القوي له الحق بل ومن العدل أن يحتل الضعيف ويسير شؤونه المختلفة ويثبت العلماء أن العرق الصافي من المستحيل وجوده أي أن كل بلاد العالم مزيج من العروق حتى أن الدم الذي تفتخر به ألمانيا نفسها هو دم هجين إلى حد بعيد أكثر من غيره لا بل إن الواقع يؤكد أن الدم الهجين باعث على التقدم و الحيوية .
وعلى عكس الرأي الأول ظهر اتجاه ثان يرى بأن الناس خلقوا متساوين وفي هذا المعنى يقول شيشرون الخطيب الروماني(الناس سواء وليس أشبه من الإنسان بالإنسان لنا جميعا عقل ولنا حواس وإن اختلفنا في العلم فنحن متساوين في القدرة على التعلم)، وهو يقصد بهذا أن الناس سواسية لا من حيث ملكاتهم العقلية وكفاءاتهم وإنما لهم طبيعة بشرية واحدة أنهم سيختلفون فيما سيحصلون عليه أثناء عملهم وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول تنويها بالمساواة العادلةمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)، أي متساوين في جميع الحقوق كحق الحرية وحق الحياة و المعاملة ، و أن الناس لم يولدوا منقسمين إلى طبقة أسياد وطبقة عبيد وليس لأحد حق السيادة على الآخرين بسبب ما يجري في عروقه من دم أرستقراطي، إنما خلق الناس طبقة واحدة وكتب توماس جيفرس في إعلان الاستقلال الأمريكي (إن جميع الناس قد خلقوا متساوين) كما يقول أن العدل هو احترام الكرامة الإنسانية مهما كان الأشخاص ومهما كانت الظروف الطبيعية و الاجتماعية التي تتعرض له فلابد من تجاوزها) ، ويرى أيضا (العدل في أسمى معانيه هو تجاوز الحدود و الفوارق الاجتماعية).
بالرغم من أنه لا يمكن إنكار أهمية المساواة و ضرورتها للمجتمع و الأفراد إلاّ أنه لا يمكن من مستوى الحقوق و الواجبات إلى مستوى يتعارض فيه الناس على حسب إمكانياتهم فلكل واحد إمكانياته الخاصة به بالإضافة إلى أنه لو ساوينا كل الناس في جميع المستويات العقلية و الجسدية و العلمية فكيف يحد من بعضهم بعضاً .
إن العدل معناه إزالة الفوارق المصطنعة و المظالم والفروق الواسعة التي نشأت بطرق غير مشروعة ولابد من فتح الطرق أمام الجميع و تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في جميع المجالات وإذا كان لا فضل لعربي عل عجمي إلاّ بالتقوى فإن الله سبحانه وتعالى يقول ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات) ولكن هذا لا يعني أن العدل معناه المساواة المطلقة بل إعطاء كل ذي حق حقه وفق جهده و عمله .
وإذا أردنا الخروج بحوصلة فإن العدل ليس مساواة مطلقة و ليس كل تسمى بلا حدود ولا قيود فهناك فروق لا حيلة لنا فيها كالفروق الطبيعية .
إذا فالعدل هو الاحترام الصارم للحقوق لكل ذي كرامة وهو حرب ضد كل العمليات الاحتيالية أي العمليات التي من شأنها أن توفر المساواة .
الطريقة: الجدلية الدرس : الشغل و التنظيم الاقتصادي
الإشكال:هل النظام الرأسمالي كفيل بتحقيق حياة اقتصادية مزدهرة أم النظام الاشتراكي ؟
تختلف النظم الاقتصادية ماضيا باختلاف موقعها من الملكية وما يصل بها من حيث النوع والحقوق و الواجبات فهناك من حيث النوع قسمان ،ملكية فردية وهي التي يكون فيها المالك معنيا ، وملكية جماعية وهي التي يكون فيها المالك معنويا أي معين في شخص بعينه كالدولة و العشيرة و القبيلة ومن هنا فقد اختلف جمهور الفلاسفة في تحديد النظام الاقتصادي الذي يحقق ازدهاراً اقتصادياً و بالتالي نتساءل : هل النظام الرأسمالي كفيل بتحقيق حياة اقتصادية مزدهرة أم أن هناك نظاما آخر كفيل بذلك ؟ .
يرى أنصار النظام الليبرالي ـ الرأسمالي ـ أن هذا الأخير كفيل بتحقيق حياة اقتصادية مزدهرة و يستندون في ذلك إلى حجج و براهين بحيث يعتمد على مبادئ تعد الركيزة الأساسية التي يستند إليها في تعامله ومن أهمها الملكية الفردية لوسائل الإنتاج و كذا المنافسة الحرة التي تضمن النوعية و الكمية و الجودة بالإضافة إلى عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية و كذلك نجد قانون العرض و الطلب وهو قانون طبيعي يحدد الأسعار و الأجور فإذا زاد الطلب قل العرض و العكس ، ومن كل هذا نستنتج أن فلسفة النظام الرأسمالي تقوم على مسلمة واحدة و أساسية هي أن سبب كل المشاكل الاقتصادية يرجع إلى تدخل الدولة في تحديد الأسعار و الأجور و الإنتاج ، فلا يزدهر الاقتصاد إلاّ إذا تحرر من كل القيود و القوى التي تعيق تطوره وفي هذا يقول آدم سميث أحد منظري الليبراليةدعه يعمل أتركه يمر)، و إذا كان تدخل الدولة يعمل على تجميد وشل حركة الاقتصاد فإن التنافس الحر بين المنتجين يعتبر الوقود المحرك للآلة الاقتصادية فالحرية الاقتصادية تفتح آفاقا واسعة للمبادرات الفردية الخلاقة بحيث أن كل المتعاملين يبذلون قصارى جهدهم لإنتاج ما هو أحسن وأفضل وبكمية أكبر و بتكلفة أقل ولا خوف في خضم هذا النشاط على حركة الأجور و الأسعار لأن قانون العرض و الطلب يقوم بتنظيم هاتين الحركتين و في هذا يرى آدم سميث أن سعر البضاعة يساوي ثمن التكلفة زائد ربح معقول ، لكن إذا حدث بسبب ندرة بضاعة معينة أن ارتفع سعر بضاعة ما فوق سعرها الطبيعي فإن هذه البضاعة تصبح مربحة في السوق الأمر الذي يؤدي بمنتجيها إلى المزيد من إنتاجها فيرتفع العرض و هذا يؤدي بدوره إلى انخفاض ثمنها و إذا زاد العرض عن الطلب بالنسبة لسلعة ما فإن منتجيها يتوقفون عن إنتاجها أو يقللون منه لأنها غير مربحة و هذا يؤدي آليا إلى انخفاض العرض ومن ثمة ارتفاع الأسعار من جديد يقول آدم سميث إن كل بضاعة معروضة في السوق تتناسب من تلقاء نفسها بصفة طبيعية مع الطلب الفعلي ) ، وما يميز هذا النظام أنه لا يتسامح مع الضعفاء و المتهاونين والمتكاسلين ، و الملكية الخاصة و حب الناس للثروة هو الحافز الأول و الأساسي للإنتاج ، لذلك فإن أكثر الناس حرصا على السير الحسن للعمل لأية وحدة إنتاجية هو مالكها ، بالإضافة إلى أن هذا النظام يحقق نوعا من العدالة الاجتماعية على أساس أنه ليس من المعقول ومن العدل أن يحرم الفرد حيازته على شيء شقا وتعب كثيراً من أجله ، فبأي حق نمنع فردا من امتلاك ثمرة عمله وجهده ؟ .
أن قيمة النظام الرأسمالي إذا نظرنا إليها من زاوية النجاح الاقتصادي لا يمكن أن توضع موضع الشك و التقدم الصناعي و التكنولوجي و العلمي الذي حققته الدول الرأسمالية دليل على ذلك ، ولكن هذا الرأي لم يصمد للنقد وذلك من خلال الانتقادات التي وجهها الاشتراكيون بقيادة كارل ماكس التي يمكن تلخيصها فيما يلي : أولاها أن النظام الرأسمالي لا إنساني لأنه يعتبر الإنسان مجرد سلعة كباقي السلع وثانيها أن النظام الرأسمالي يكثر من التوترات والحروب من أجل بيع أسلحته التي تعتبر سلعة مربحة و الدليل على هذا دول العالم الثالث وفي هذا يقول جوريسكا إن الرأسمالي تحمل الحروب كما يحمل السحاب المطر) ، كذلك يقول تشومبيتر الرأسمالية مذهب وجد ليدمر) ، وثالثها أن النظام الرأسمالي أدى إلى ظهور الطبقية ـ برجوازية وكادحة ـ كما أه نظام لا يعرف فيه الإنسان الاستقرار النفسي بسبب طغيان الجانب المادي على الجانب الروحي كما أن هذا النظام أدى إلى ظهور الإمبريالية العالمية بالإضافة إلى أنه يوجد ظاهرة البطالة وكذا التمييز العنصري في شكل لا يعرف حداً وهذا النظام بدوره يقضي على الرأسماليين الصغار ، وأخيرا فإنه لا يوجد تناسب فيما يخص الأجور وساعات العمل يقول ماركس إن الرأسمالية تحمل في طياتها بذور فنائها) .
وعلى عكس الرأي السابق نجد أنصار النظام الاشتراكي الذي ظهر على أنقاض الرأسمالية وأهم رواده كارل ماكس وزميله انجلز في كتابه ـ رأس المال ـ ويرى ماركس أن المادية الجدلية هي المحرك الأساسي للتاريخ فالنظام الاشتراكي يسعى من خلال توطين الشروط المادية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وحياة اقتصادية مزدهرة وهذا من خلال مبادئ و أسس أهمها : الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج ـ الأرض لمن يزرعها والمصانع للعمال ـ وكذلك التخطيط المركزي بالإضافة إلى اعتماد نظام التعاونيات في الإطار الفلاحي وفتح المجال أمام النشاط النقابي لحماية حقوق العمال وحل مشكلة فائض الإنتاج والصراع الطبقي وكذا اعتماد مبدأ تكافؤ الفرص ، فالنظام الاشتراكي يعتمد كلية على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وذلك للقضاء على الظلم و استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وبث الروح الجماعية والمسؤولية الجماعية في العمل وتعتبر الدولة هي الرأس المدبر و المخطط الأول و الأخير وهذا للقضاء على التنافس الذي يؤدي إلى الصراع وتحكم الفئة الثرية في المؤسسات الاقتصادية بحكم تعارض المصالح كما فتحت الدولة المجال أمام نظام النقابات وذلك لحماية حقوق العمال وللاشتراكية صور متعددة ما هو شبيه بالرأسمالية ومنها من يقترب من النظام الشيوعي ومنها ما هو وسط بين الطرفين .
لاشك أن النظام الاشتراكي استفاد من بعض عيوب الرأسمالية لكنه لم يستفد من نقاطه أو جوانبه الإيجابية بل رفضه جملة وتفصيلاً وهذا الخطأ الذي ارتكبه المنظرون الاشتراكيون ضف إلى ذلك أنه بالرغم من الغايات الإنسانية التي يسعى إليها النظام الاشتراكي فقد أوجد جملة من السلبيات أهمها أنه فشل في إيجاد حلول لظاهرة التسيب و الإهمال و اللامبالاة وروح الاتكال كذلك أنه أوجد نوعا من التسيير البيروقراطي الإداري بالإضافة إلى ظهور المحسوبية و الرشوة وضعف الإنتاج في ظل غياب المنافسة وكثرة البطالة هذا بالإضافة إلى الخيال النظري الشيوعي الذي أدى إلى سوء تقدير الواقع و النتائج الاقتصادية ، كما أن توجه الدول الاشتراكية في انتهاج سياسة اقتصاد السوق و الانفتاح على العالم وهذا ما يؤكده الواقع المعاش ـ الجزائر ـ .
إن النظامين الاقتصاديين السابقين وإن اختلفا في المبادئ و الغايات الاقتصادية إلاّ أنهما مع ذلك لهما أساس علمي واحد يجمع بينهما فكلاهما ينظر للحياة الاقتصادية نظرة مادية ويقيمها على شروط موضوعية وهذا لا يعني أنهما تجردا من القيم الإنسانية ، غير أن فلسفة الاقتصاد في الإسلام تنظر إلى الحياة الاقتصادية نظرة أكثر شمولاً و تعتني بالنواحي الإنسانية عناية خاصة فقد تضمنت فلسفة الاقتصاد في الإسلام مبادئ وقواعد عامة لتنظيم الحياة الاقتصادية تنظيما أخلاقيا من أجل تحقيق حياة متوازنة بين الفرد و المجتمع وعلى هذا الأساس منحت الإنسان الحرية من الملكية لقولهمن عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها )، وقوله أيضاً من أحي أرضا ميتة فهي له)، ولكن قيدها بالمصلحة العامة حتى لا تكون أداة لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان وجعلها ملكية نسبية(حيث كل شيء لله)، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الإسلام حرم كل أنواع الربا و الغش و الاحتكار وكل ضروب الاستغلال .
وفي الأخير وكحوصلة لما سبق فإن الاقتصاد الحر لا يحقق لا الحياة المزدهرة ولا العدالة الاجتماعية لأنها منبع المصائب والأزمات أما الاشتراكية فإنها رغم فضحها لعيوب الرأسمالية لم يتسن لها تحقيق روح العدل ومن هنا فالنظام الذي يحقق الحياة المزدهرة إنما هو النظام الذي يجمع بين عنصري الاقتصاد و الأخلاق في آن واحد ألا وهو النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يجعل من المال كوسيلة وليس كغاية يقول تعالى المال و البنون زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا )
الطريقة: الجدلية الدرس : الشغل و التنظيم الاقتصادي
الإشكال: هل يعمل الإنسان لإشباع حاجاته البيولوجية فقط؟ يعد الشغل بالنسبة للإنسان نشاط فعال يسمح له بتغيير الطبيعة وإعطائها صورة مرغوب فيها فهو خاصية وامتداد للفكر وفاعلية إنسانية موجهة لإنتاج أثر نافع وباعتبار أن الإنسان يشترك مع غيره من أنواع الحيوان في جوانب عديدة ولأن هذا الكائنات نشأت كلها في الطبيعة ومن ثمَّ فهي ثمرة من ثمراتها وإذا كان هناك فرق بين الإنسان والحيوان فهل يكون هذا الفرق في الدرجة أم في النوع؟وسواء أكان الاختلاف في هذا أو ذاك فلماذا يكد الإنسان ويشقى ولا يعرف الراحة والسكون ؟ هل لحاجة بيولوجية أم هناك مبررات أخرى لذلك؟ .
يرى أصحاب الاتجاه الطبيعي أن جذور الإنسان متأصلة في الطبيعة وأن ظروف الحياة هي التي ألجأت الإنسان إلى الكد والعمل لسد الحاجات الحيوية من أكل وشرب وملبس ومسكن فالإنسان في نظرهم كالحيوان يخضع لمنطق الحياة العضوية ،وضرورات الغرائز الحيوانية فهو لا يخرج عن كونه >مخلوقا طبيعيا< أو موجودا بيولوجيا صرفا يعمل على تسخير الطبيعة والسيطرة عليها وكل هذا من أجل تحقيق الوجود والعمل من أجل الاستمرار على وجه هذه المعمورة وهم يدعمون رأيهم بأدلة فهم يرون بأنه لو كانت المنتجات الطبيعية كافية لما اشتغل كما هو الحال بالنسبة للإنسان الأول وتاريخ الحضارات القديمة يثبت أن الشغل في بعض المجتمعات كانت تنهض به فئة أخرى فالعمل الجسمي بصفة عامة في الفلسفة اليونانية يحط من قيمة الفرد وقد جاءت العقيدة المسيحية تؤكد على هذه النظرة إلى حد ما على أساس أن العمل نوع من العقاب الذي يعانيه المذنب.
إن هذا الموقف ينطوي على مغالاة فلو كان صحيحا لأقتصر الشغل على تلبية الحاجات البيولوجية وما تجاوز العمل الإنسان إلى المستوى الحضاري والاجتماعي هذا من جهة ومن جهة أخرى لو كان ذلك صحيحا لسمينا نشاط الحيوان شغلا رغم أنه لا ينطوي على عقل .
وعلى عكس الرأي الأول السابق يرى الاجتماعيون أن الشغل ضرورة اجتماعية ونجد أول من نظر في العمل نظرة فلسفية هيغل في أوائل القرن التاسع عشر 19م بإقامته جدليته الشهيرة بين السيد والعبد وهو يرى أن العمل منبثق للحرية أما عند برغسون فهو منبثق للعقل لأن الإنسان الحكيم هو قبل كل شيء إنسان صانع إذ ليس العقل-كما يرى برغسون- إلا (القدرة على صنع أشياء صناعية ولاسيما الأدوات التي تستخدم في صنع أدوات وفي تنويع الصنع تنويعا غير محدود) كذلك نجد ماركس يرى أن العامل عندما يؤثر في الطبيعة الخارجية ويغيرها فإنه يغير بذلك أيضا طبيعته هو نفسه وينمي ملكاته الذهنية الكامنة فيه بالإضافة إلى كل هذا فقد حاول بعض المفكرين أن يعطوا لعمل معنى ميتافيزيقيا وبالتالي معنى أخلاقيا إذ العمل في نظرهم هو تجسيم للقيم في الواقع وقد قال ماركس (بالعمل يحقق الإنسان إنسانيته) كذلك أن العمل ينتزع من نفسه ويحرره من الدائرة الذاتية التي كثيرا ما تأخذ شكل الاجترار الذاتي وقد دلت التجارب على أن كثيرا من المصابين بالأمراض العقلية تخف اضطراباتهم عندما يكلفون ببعض الأعمال الخفيفة مما يثبت أن العمل يعد إحدى دعائم الصحة العقلية فالذي لا يعمل لا يعرف للوجود نظاما ولا للوقت انتظاما واتصالا ولا للحياة اتزانا هذا من الناحية السيكولوجية أما من الناحية الاجتماعية فإن الكسل والبطالة غالبا ما تكونان مطيتين للانحراف والإجرام وقد حثت الديانات السماوية على العمل ومن بينها الإسلام وقد جاء في الأثر (ما أكل أحد طعام قط خيرا من أن يأكل من عمل يده ) وقوله تعالى (فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض واذكروا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)
على الرغم من كل هذه الحجج إلا أن هذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أن من الناس ممن يزالون يعملون لسد حاجاتهم الضرورية فقط كالأكل والمسكن والملبس كذلك أن البعد الاجتماعي للشغل غير كاف لأنه لم يكن دائما ضرورة اجتماعية وواجبا على جميع الأفراد بل اقتصر في حقبة من التاريخ على العبيد.
إن الشغل بالنسبة للإنسان كالقلب للجسم أو بمثابة الجسد للروح فلا يمكن أن يستغني عنه فمن الناحية البيولوجية فهو يسد حاجياته الحيوية ومن الناحية الاجتماعية فالإنسان كائن اجتماعي حضاري يعمل ليحقق وجوده في وسط المجتمع بكل قيمته وكرامته .
وأخيرا وكحوصلة فأن الشغل وسيلة لا غنى عنها لسد ضرورات العيش لكن الإنسان ليس كائنا بيولوجيا فقط بل له أيضا كرامة وقيمة وروح التسامي تقتضي منه أن يشتغـــل .
الطريقة: الجدلية الدرس: المشكل الأخلاقي 3
الإشكال:يقول الأشاعرة : إرادة الله مطلقة ولا اختيار لإرادة الإنسان أمام إرادة الله ؟ .
تعتبر الديانات السماوية عموما أهم منابع القيم الأخلاقية ومن بينها الإسلام الذي تنص تعاليمه على ضرورة الالتزام بالقيم الأخلاقية مستمدين ذلك من القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة، ولذلك فإن لكل فريضة غاية أخلاقية فالدين معاملة ، ومن ثم وجب علينا أن نبحث عن أسس مفارقة تتجاوز المنفعة والعقل والمجتمع، وقد كان لعلماء الكلام دورا هاما في هذا المجال وخاصة المعتزلة والأشاعرة، و التساؤل المطروح ما هو الاتجاه الأصح ؟ .
يرى الأشاعرة أن الأعمال الأخلاقية مصدرها الشرع فهم يرون أنه لا شيء حسن ذاته أو قبيح ذاته وإنما الحسن ما حسّنه الشرع و القبيح ما قبّحه الشرع ولذلك فالعقل عندهم لا يملك القدرة على التمييز بين الخير والشر، فالخير والشر مصدرهما الدين عن طريق ما أمر به الله أو نهى عنه ، ولهذا يرى الأشعري أن الواجبات كلها مسموعة ويستدلون بآيات من القرآن الكريم في قوله تعالىافعل ما تؤمر) ، ومما استدل به الأشاعرة أيضاً لو كان الحسن والقبيح ذاتيين لكانا دائمين في الأشياء والأفعال دون أي شرط في حين أننا نرى الشيء الواحد قد يكون حسنا في موضع ويكون قبيحا في مواضع أخرى فالقتل يكون حسنا إذا كان قصاصاً ويكون قبيحا إذا كان ظلما والشيء قد يكون حسنا في زمن ولا يكون كذلك في زمن آخر ، كما قد تأتي شريعة بتحسين شيء ثم تأتي شريعة أخرى فتجعل الشيء نفسه قبيحا) ، فالنسخ دليل على تعبئة الحسن القبح لأمر الشرع ونهيه .
لا يمكن إنكار ما ذهبوا إليه إذ بينوا أن حدود العقل لا يمكن تجاوزها ولكن رأيهم لم يصمد للنقد ذلك أنهم أهملوا دور العقل في معرفة الفعل الأخلاقي عن الفعل اللأخلاقي ويتضح هذا في اتجاهات العلماء في تمييز الفضائل عن الرذائل والعكس تبعا للمستجدات التي تطرأ في الحياة .
وعلى عكس رأي الأشاعرة نجد المعتزلة الذين ينادون بالعقل فهم يرون أن جميع الأعمال التي نعدها حسنة كالعدل والصدق والإحسان ذلك أننا نحكم عليها بالحسن بالاعتماد على إدراكنا لها وإذا حكمنا كذلك على بعض الصفات من ظلم وكذب وبخل فلأننا اعتمدنا على إدراكنا لها ، ومعنى هذا أن العقل قادر بذاته على اكتشاف ما في الأشياء و الأفعال من حسن أو قبح ومن فساد أو صلاح ، وأمر الشرع بأشياء كالأمانة والعدل ونهيه عن أشياء كالسرقة والقتل تابع لما فيها من حسن وقبح وهو بهذا يخبر عن القيمة ولا يثبتها و العقل يدركها ولا ينشئها ، وللمعتزلة حجج شتى على هذا الموقف فمن الثابت تاريخيا أن الناس قبل وجود الشرائع كانوا يحتكمون للعقل فيما ينشأ بينهم من خلاف وسند العقل في ذلك ما يراه بذاته في الأفعال من حسن وقبيح ذاتيين دون استناد إلى الشرع إذ لم توجد بعد أي شريعة وكان العقلاء آنذاك يستحسنون مثلاً الحفاظ على الأنفس ويستقبحون العدوان، ومن الحجج المنطقية قولهم لو لم تجب المعرفة إلاّ بالشرع للزم إفحام الرسل ولم تكن لبعثتهم فائدة ووجه اللزوم إلى الرسول إذ قال لأحد: أنظر في نبوتي ومعجزتي كي يظهر صدقي لديك ، فله أن يقول : لا يجب علي النظر في نبوتك ومعجزتك إلاّ بالشرع ولا يثبت الشرع ما دمت لم أنظر أن ثبوت الشرع نظري لا ضروري وبهذا يفحم الرسول وتبطل دعوته وهذا غير صحيح ، ويثبت بهذا أن القبح والحسن ذاتيان في الأشياء يدركهما العقل قبل ورود الشرائع بالإضافة إلى هذا يوردون هاته الحجة التي مفادها أنه لو كان الحسن والقبح مكتسبين من الشرع لما أمكن استعمال العقل في المسائل التي لم يرد فيها نص شرعي ولأمتنع التعليل لأن التعليل قائم على ما في الأشياء و الأفعال من صفات قائمة فيها وفي امتناع التعليل سد لباب القياس وتعطيل للأحكام على الوقائع المستحدثة .
إن العقل قادر على التمييز بين الخير و الشر والإرادة تختار الفعل الممكن لكن قد يخطأ أي شخص مثلاً فلا يدفع تذكرة سفر إلاّ إذا أدرك أن هذا الفعل سرقة والسرقة حرام إذاً هذا ما يقوله المعتزلة ، إذاً هل يمكن أن تحل عاطفة الخوف من الله محل عاطفة الاحترام وهل يخاف الله جميع الناس ؟ .
أن الخلاف القائم بين هاتين الفرقتين لا يقتصر فقط على الجانب الأخلاقي بل يعتبر خلافا مذهبيا عاما يتعلق أساسا بمسألة الترجيح بين العقل والنقل ولتفادي الوقوع في هذا الخلاف نعتبر أن الأخلاق الإسلامية تجمع بين الجانبين بحيث يجب الالتزام بالنصوص من القرآن و السنة مع إمكانية عرضها على العقل لنعرف ما وراء المحرم من مضار وما وراء الحلال من منافع ويتم ذلك بإدراك المعاني و المقاصد .
وإذا أردنا الخروج بحوصلة لما سبق فإن الإسلام راع في مسألة الأخلاق ثنائية الإنسان (العقل والطبيعة البشرية) بحيث نجد الإسلام يرفع بالأخلاق ولم يعتمد في بنائها على مبدأ واحد كاللذة أو العقل أو المجتمع واتخاذها كقاعدة عامة توجه أفعالنا فالإسلام يدعونا إلى طاعة أوامر الله واجتناب نواهيه وفي نفس الوقت التوفيق بين متطلبات الواقع والجانب الخلفي للإنسان فالإنسان ليس ملكا كما أنه ليس بشيطان .
الطريقة: الجدلية الدرس: اللغة و التواصل
الإشكال:إذا كانت اللغة تشكل عائقا للفكر فهل يجب رفضها ؟ يتبادل الناس الأفكار كما يتبادلون الأشياء ،ووسيلة هذا التبادل وطريقة هذا التواصل هي اللغة التي يعرفها الجرجاني (هي كل ما يعبر به قوم عن أغراضهم)فلا ينحصر الفكر في الكلام فقط.والفكر في جوهره نشاط عقلي يعتمد في أداء وظيفته على استخدام المعاني وما يقابلها في اللغة من رموز والتفكير كما يقول كوندايك (يرتد إلى فن إتقان الكلام) وهذا يعني أن اللغة والفكر مرتبطان أشد الارتباط غير أن بعض المفكرين والفلاسفة يشكون من تقصير اللغة وعجزها عن التعبير عن كامل أفكارنا وبعبارة أصح :هل نستطيع أن نفكر فيما نعجز عن قوله؟
يرى أصحاب الاتجاه الثنائي أن اللغة باعتبارها أداة عامة للتواصل بين الأفكار لا تخرج عن كونها ألفاظا عادية ساكنة تقف في وجه الفكر وتقيم له عقبة فاللغة كما يلاحظ جيسبيرسن(بمفرداتها وصيغتها الثابتة قد أجبرت الفكر على أن يسلك سبلا مطروقة حتى أنهم اضطروا إلى اقتفاء أثر الأولين وآل بهم الأمر إلى أن يكون تفكيرهم أشبه بتفكير من سبقهم)،وقد ذهب على شاكلة هذا الطرح برغسون ،حيث يرى بأن الفكر مستقل عن اللغة وأن اللغة تقيد الفكر وتستعبده ،كما يرى أيضا أنه لا يوجد تناسب بين ما نملكه من أفكار وما نملكه من ألفاظ ،فالألفاظ محدودة ،والأفكار غير محدودة فكيف يمكن للمحدود أن يستوعب اللامحدود يقول برغسون(إن كلماتي من جليد فكيف تحمل بداخلها النيران وإن المعاني تموت عند سجنها في القوالب اللغوية)؛وفي هذا يقول ( الألفاظ قبور المعاني)،ويرجع أصحاب هذا الموقف عدم التناسب إلى كون اللغة واحدة منذ القدم لم تتطور بينما الأفكار تتطور كل يوم ،بالإضافة إلى كل هذا فإن الفكر تتجاوز دلالة الألفاظ ؛ حيث أن اللفظ لا يعبر إلا عما اصطلح وتعارف عليه المجتمع كذلك أننا في حياتنا اليومية يستعصي علينا التعبير عن بعض المعاني (كما كان يحدث مع الصوفية الذين يرون صعوبة التعبير عن تجاربهم النفسية >من ذاق عرف<يطلبون منا أن نعاني تجربتهم لنذوق ما ذاقوا) وكذلك أن الفكر متصل والألفاظ منفصلة حيث تتدفق المعاني ككل متصل يجعل الألفاظ عاجزة على أن تسعه وقد جاء هذا في القرآن الكريم في بعض الآيات في قوله تعالى (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) ،وقوله أيضا (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) بالإضافة إلى كل هذا يمكن التعبير عن الألفاظ والمعاني دون استخدام اللغة مثل الرسم والموسيقى و إشارات الصم والبكم .
إن هذا القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أننا لا نستطيع أن نجزم باستغلال الفكر عن اللغة إذ كيف يمكن أن نتمثل في الذهن تصورات لا اسم لها ، ومهما ألح برغسون على عجز اللغة ومخاطرها فهو يطالب بإخضاع اللغة هذه إلى تعديلات عميقة وشاملة حتى تؤدي دورها يقول(إن اللغة يجب أن تكون على درجة من السيولة والمرونة مما يجعلها قادرة على متابعة الفكر الحي في سيولته وتدفقه المستمر) وكيف تتمايز الأفكار فيما بينها لولا اندراجها في قوالب لغوية .
إن هذا الموقف السلبي يوحي بأمرين :1-إن الفكر قد يوجد في صورة عالية عن الألفاظ .2-أن اللغة يجب ألا تستعبد الفكر الحر .
وعلى عكس الرأي الأول نجد من يقول بالتلاحم بين الفكر واللغة وبين المعاني والألفاظ فمعظم الفلاسفة اللغويين يؤكدون وجود وحدة بين اللغة والفكر وشبه هاملتون اللغة بورقة وجهها الفكر وظهرها الصوت ويشبه ماكس موليير ذلك التداخل بين اللغة والفكر بقطعة نقد الفكر وجهها واللغة ظهرها يقول (ليس ما ندعوه فكرا إلا وجها من وجهي قطعة النقد والوجه الآخر هو الصوت المسموع والقطعة شيء واحد غير قابل التجزئة فليس ثمة فكر ولا صوت ولكن كلمات). وقد شبهت اللغة بالقلم والفكر بالمداد أو الجسد والروح ،فالفكر واللغة شيء واحد ذلك أننا نفكر باللغة ونتكلم بالفكر وأن الكلام غير المنظم فكريا ليس لغة بل ثرثرة لا طائل منها ونجد دو لاكروا يقول (إن الفكر يصنع اللغة وهي تصنعه) ،ويقال أن ما ندركه جيدا نعبر عنه بوضوح كذلك يقول واطسن ( التفكير ضرب من الكلام الصامت ) ويؤكد ذلك كوندياك حيث يرى أن فن التفكير يرتد إلى فن إتقان الكلام ،إذا فلا تمييز بين الفكر واللغة ويقول هيغل (إن الرغبة في التفكير بدون كلمات محاولة عديمة الجدوى لأن الكلمة تعطي للفكر وجوده الأسمى ) ويقول ستالين (مهما كانت الأفكار التي تجئ إلى فكر الإنسان فإنها لا تستطيع أن تنشأ وتوجد إلا على أساس مادة اللغة) ،ويقول هاملتون (إن المعاني شبيهة بشرارة النار ما إن تومض فإنها سرعان ما تنطفئ ولا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ)؛إن هذا الرأي يقوم على أنه لا وجود لمعنى إلا إذا تمايز عن غيره من المعاني بإشارة تسمح للغير بإدراكها ،فعلم النفس المعاصر كشف على أن تكوين المعاني لدى الأطفال يتقدم مع تقدم اكتسابهم للغة وزيادة رصيدهم اللغوي وأن الطفل بتعلمه اللغة يتعلم التفكير ويسير في ارتقائه اللغوي وفقا لارتقاء فهمه وقد لوحظ أن فقدان اللغة يلازمه اختلال في المقومات الذهنية ،كذلك أن افتراض معان عصية عن الألفاظ وافتراض خيالي إذ لا يكون لهذه المعاني وجود واقعي ما لم تحددها الألفاظ كما أن الأفكار التي لا تضبط بكلمات سرعان ما تزول وتندحر وفي هذا يقول هاملتون (الألفاظ حصون المعانــــــي) .
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد حيث أنه مهما وافقنا على وجود تطابق بين الأفكار والألفاظ فإنه يجب أن نعترف بوجود تفاوت بينهما إذ نجد في أنفسنا عدم التناسب بين قدرتنا على الفهم وقدرتنا على الأداء وهذا يعني أن الإنسان يفهم معاني اللغة أكثر مما يحسن ألفاظها >نفهم اللغة الأجنبية أكثر مما نتقن التكلم بها، ومع كل هذا فإننا نعترف بأنه كلما كانت لغتنا سليمة كنا أقدر للتعبير عن أفكارنا وفي هذا يقول كوندياك (نحن لا نفكر بصورة حسنة أو سيئة إلا لأن لغتنا مصنوعة صناعة حسنة أو سيئة) ،فبقدر ما تكون اللغة في أمة من الأمم متطورة بقدر ما تتاح الفرصة لهم لتملك زمام الحضارة الإنسانية والمعرفة العلميـــــــــة .
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتان هو أنهما جزأتا اللغة عن الفكر والفكر عن اللغة إلا أن هذين الأخيرين بمثابة الجسد للروح لا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر ولا يمكن له أن يستمر في الوجود دون وجود الثاني كذلك أنه توجد علاقة بين الفكر واللغة على مستوى التأثير المتبادل ويمكن الاستدلال على ذلك حيث أن علم النفس الفيزيولوجي أثبت أن للدماغ البشري مراكز خاصة باللغة (مراكز :الكلام ، الرؤية ،السمع …) ؛وهناك مراكز خاصة بالعمليات العقلية كالتفكير والذاكرة والذكاء ,وإذا ما تعرض مركز من هذه المراكز لخلل بسبب صدمة مثل حالة معطوبي الحرب يكون له انعكاس على التفكــــــير .
وإذا أردنا الخروج بحوصلة فإن اللغة حقا لا تعبر إلا عن قليل من مضمون الفكر ،ولكن لا ينبغي رفضها لأن الفكر بأوسع معانيه بحاجة إليها فهي بالنسبة له أداة تنظيم وتوضيح ونمو والعجز الذي يصيب اللغة لا يجب أن يوحي برفضها كوسيلة للتواصل ،وإن التخلي عنها يعني إنكار الفكر وهذا ضرب من الحلم الكاذب .
الطريقة :جدلية الدرس : التفكير الرياضي
الإشكال:هل ترى أن المفاهيم الرياضية في تطورها نابعة من التجربة أم من العقل ؟
لقد انقسم المفكرون في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية إلى نزعتين ،نزعة عقلية أو مثالية يرى أصحابها أن المفاهيم الرياضية من ابتكار العقل دون التجربة ،ونزعة تجريبية أو حسية يذهب أنصارها إلى أن المفاهيم الرياضية مهما بلغت من التجريد العقلي فإنها ليست من العقل في شي وليست فطرية ؛بل يكتسبها الإنسان عن طريق تجاربه الحسية فما حقيقة الأمر ؟فهل المفاهيم الرياضية في نموها انبثقت من التجربة أم من العقل ؟
يرى أصحاب الاتجاه المثالي أو العقلي أن المفاهيم الرياضية نابعة من العقل وموجودة فيه قبليا فهي توجد في العقل قبل الحس أي أن العقل لم يفتقر في البداية إلى مشاهدة العالم الخارجي حتى يتمكن من تصور مفاهيمه وإبداعها وقد كان على رأس هذه النزعة أفلاطون الذي يرى أن المعطيات الأولية الرياضية توجد في عالم المثل فالخطوط والأشكال والأعداد توجد في العقل وتكون واحدة بالذات ثابتة وأزلية يقول أفلاطون(إن العلم قائم في النفس بالفطرة والتعلم مجرد تذكر له ولا يمكن القول أنه اكتساب من الواقع المحسوس)؛فهو يرى أن المفاهيم الرياضية لا ندركها إلا بالذهن وحده ،فالتعريفات الرياضية مجالها ذهني ولا تتحقق إلا بواسطة العقل دون حاجة إلى المحسوسات فالتعريفات للحقائق الرياضية واحد لا يتغير واضح متميز وعلى شاكلة هذا الطرح ذهب ديكارت إلى أن الأعداد والأشكال الرياضية أفكار لا يجوز فيها الخطأ وفي هذا يقول (إنها ما ألقاه الله في الإنسان من مفاهيم)أي بمعنى المفاهيم الرياضية ويؤكد مالبرانش من جهته ذلك حيث يقول(إن العقل لا يفهم شيئا ما إلا برؤيته في فكره اللانهائي التي لديه وأنه لخطأ خالص أن تظن ما ذهب إليه فلاسفة كثيرون من أن فكره اللانهائي قد تكونت من مجموعة الأفكار التي تكونها عن الأشياء الجزئية بل العكس هو الصحيح ،فالأفكار الجزئية تكتشف وجودها من فكره اللانهائي كما أن المخلوقات كلها تكتسب وجودها من الكائن الإلهي الذي لا يمكن أن يتفرع وجوده عن وجودها )إننا فيم يقول لم نخلق فكرة الله ولا فكرة الامتداد بكل ما يتفرع عنها من حقائق رياضية وفيزيائية فقد جاءت إلى عقولنا من الله و يمكن أن نضم كانط إلى هذه النزعة رغم أنه كان يقصد التركيب بين التفكير العقلي والتفكير الحسي فهو يرى أن الزمان والمكان مفهومان عقليان قبليان سابقان لكل معرفة تجريبية ويؤطرانها وهم يرون أن هذه الحقائق تدعم نظرتهم وهي كالتالي :إن الملاحظة لا تكشف لنا على الأعداد بل على المعدودات كذلك أن المكان الهندسي الذي نتصوره على شكل معين يشبه المكان الحسي الذي نلاحظ بالإضافة إلى أن الخط المستقيم التام الاستقامة لا وجود له كذلك بعض القوانين كالعلاقات بين الأشكال كما أن الكثير من المعاني الرياضية مثل 0.7 لا ترجع إلى الواقع المحسوس .
إن القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أنه مهما تبدو المعاني الرياضية مجردة فإنه لا يمكن القول بأنها مستقلة عن الواقع الحسي و إلا فكيف نفسر الاتجاه التطبيقي للهندسة لدى الشعوب القديمة خاصة عند الحضارات الشرقية في استخدامها الطرق الرياضية في الزراعة والحساب وهذا ما يدل على ارتباط الرياضيات أو التفكير الرياضي بالواقع .
وعلى عكس الرأي السابق نجد أصحاب المذهب الحسي أو التجريبي مثال جون لوك *دافيد هيوم* جون ستورات مل يرون أن المفاهيم الرياضية في رأيهم مأخوذة-مثل جميع معارفنا- من صميم التجربة الحسية ومن الملاحظة العينية ،فمن يولد فاقدا لحاسة فيما يقول هيوم لا يمكن بالتالي أن يعرف ما كان يترتب على انطباعات تلك الحاسة المفقودة من أفكار فالمكفوف لا يعرف ما اللون والأصم لا يعرف ما الصوت ،إن الانطباعات المباشرة التي تأتينا من العالم الخارجي هي بمثابة توافد للأفكار ومعطيات للعقل ،ونجد جون ستوارت ميل يرى (أن المعاني الرياضية فيما يقول والخطوط والدوائر التي يحملها كل واحد في ذهنه هي مجرد نسخ من النقط والخطوط والدوائر التي عرفها في التجربة ) ،وهناك من الأدلة والشواهد من الواقع النفسي ومن التاريخ ما يؤيد هذا الموقف ،فعلم النفس يبين لنا أن الأعداد التي يدركها الطفل في بادئ الأمر كصفة للأشياء ولكنه لا يقوى في سنواته الأولى على تجريدها من معدوداتها ثم أنه لا يتصور إلا بعض الأعداد البسيطة فإذا ما زاد على ذلك قال عنه (كثير ) فمثلا لو أعطينا طفل ثلاث حبات زيتون وأعطينا بالمقابل أخاه الأكبر خمس حبات فنلاحظ أن الطفل الصغير يشعر بضيق كبير لأنه يرى أن حصته أقل من حصة أخيه لكن حكمه لا يستند إلى أن حصة أخيه الأكبر تفوقه بـ (2) لأن هذه العملية تتطلب منه النظر إلى كمية الزيتون باعتبارها وحدات مجردة من منافعها ثم طرح مجموع الوحدات التي لديه من مجموع الوحدات التي كانت من نصيب أخيه وهذه العملية ليس بوسع الطفل القيام بها في مرحلته الأولى ،كذلك أن الرجل البدائي لا يفصل هو الآخر العدد عن المعدود فقد كان يستخدم لكل شيء كلمة خاصة به فمثلا العدد(2) يعبر عن جناحي الطير والعدد (4) يعبر عن قدمي الطير وقد كان لليد تأثير كبير في الحساب حتى قال أسبيناس أنها أداة الحساب ،إذن فالمفاهيم الرياضية بالنسبة لعقلية البدائي والطفل لا تفارق مجال الإدراك الحسي وكأنها صفة ملامسة للشيء المدرك كالطول والصلابة .أما من التاريخ فتاريخ العلوم يدلنا على أن الرياضيات قبل أن تصبح علما عقليا قطعت مرحلة كلها تجريبية ودليل ذلك أن العلوم الرياضية المادية هي التي تطورت قبل غيرها فالهندسة كفن قائم بذاته سبقت الحساب والجبر لأنها أقرب للتجربة ويظهر أيضا أن المفاهيم الرياضية الأكثر تجريدا أخذت نشأتها بمناسبة مشاكل محسوسة مثل تكعيب البراميل وألعاب الصدفة التي عملت على ظهور حساب الاحتمالات .
إنه لمن الواضح أن العلم لا يجد أية صعوبة في تطبيق هذه المعاني ولكن هذا لا يعني أن ننكر دور العقل في تحصيل هذه المعاني ولهذا ظهر الاتجاه التوفيقي بين الطرفين .
إن الخطأ الذي وقع فيه المثاليون والتجريبيون هو أنهم فصلوا العقل عن التجربة والحق أنه لا وجود لعالم مثالي أو عقلي ولأعداد وأشكال هندسية تتمتع بوجود لذاتها مثل الأفكار الأفلاطونية والقوالب الكانطية القبلية ونجد جون بياجي الذي يرى أن للعقل دورا إيجابيا ذلك أن عملية التجريد واكتساب المعاني عمل عقلي ويرى في المقابل أن العقل لا يحمل أي معاني فطرية قبلية بل كل ما فيه قدرة على معرفة الأشياء وتنظيمها ويرى كذلك جون سارتون أن العقل لم يدرك المفاهيم الرياضية إلا من جهة ارتباطها بلواحقها المادية ولكنه انتزعها بالتجربة من لواحقها حتى أصبحت مفاهيم عقلية بحتة ،وأيضا نجد بوانكاري يقول (لو لم يكن في الطبيعة أجسام صلبة لما وجد علم الهندسة فالطبيعة في نظره بدون عقل مسلط عليها لا معنى لها يقول أحد العلماء الرياضيين (إن دراسة معمقة للطبيعة تعد أكثر المنابع إثمارا للاكتشافات الرياضية)
لا شك أن التجربة كانت في البداية منطلق التفكير الرياضي ومنه له ولكن منذ ذلك العهد أصبح من الصبياني طرح مشكلة أسبقية العقل أو التجربة في نشوء هذا التفكير لأن هذا التفكير الرياضي تطور بصفة مستقلة نحو النطاق أو المملكة العقلية الخالصة ،رغم الفارق الذي يظهر بين التجربة من جهة والمجرد العقلي من جهة أخرى فإن اللغة الرياضية تبقى نافعة جدا في معرفة العالم المحسوس معرفة علمية
الطريقة :جدلية الدرس : التفكير العلمي
الإشكال :هل تطور التفكير العلمي في أساسه يعتمد على اتصال المعارف وتراكمها أم العكس؟
يمتاز الإنسان على بقية الكائنات بالعقل والتفكير الذي يطلق عليه مختلف النشاطات العقلية التي يقوم بها الإنسان من تصور وتذكر وحكم وتأمل فلم يصل إلى ما وصل إليه من تطور وتقدم إلا بفضل النشاط الفكري وهذا يدل على أن تطور سلوك الإنسان ورقيه تابع لتطور فكره غير أن التفكير الذي يمكن الإنسان من بلوغ أعلى درجات التقدم والرقي الحضاري هو التفكير العلمي الذي بدوره يبحث في الظواهر المختلفة من أجل اكتشاف العلاقات الثابتة التي تتحكم فيها أو القوانين التي تفسرها وهي تعتبر أصدق تعبير عن المعرفة العلمية وخصائصها والسؤال المطروح الذي يتبادر إلى أذهاننا هو:هل تطور التفكير العلمي على أساس اتصال المعارف وتراكمها أم على أساس انفصالها وتعارضها ؟
يرى أنصار النزعة الاتصالية أن النشاط الفكري للإنسان البدائي الأول لا يكاد ينفصل عن معتقداته في الأسطورة والخرافة والسحر والدين ،و هذا ما يراه دوركايم (إن أقدم الظواهر الاجتماعية هي الدين وفي البدء كان كل شيء دينيا) ،وهذا الرأي سبقه إليه أستاذه أوغست كونت الذي أوجد قانون الأطوار الثلاثة وانطلاقا من هذا القانون فإن معارفنا مرت بثلاث مراحل وهي : اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية ففي الطور الأول كان العقل البشري في نظرهم يبحث في العلل الأولى والغائية وفي كنه الموجودات ومصيرها وكان الطابع المميز لهذه المرحلة هو الاعتماد على الخيال أكثر من سواه فالظواهر تحدث بفعل قوى مختلفة العدد تختفي وراء الظواهر وقد يقل عددها أو يكثر وتسمى بأسماء مختلفة كالآلهة والجن والشياطين ومعنى هذا أن التفسير يستند إلى الكائنات المفارقة للطبيعة ،أما الطور الميتافيزيقي فالتفكير في هذه المرحلة لا يكاد يختلف عن المرحلة الأولى إذ أن الإنسان بقي يبحث في كنه الأشياء وأصلها ولكنه راح يفسر الظواهر بقوى مجردة خفية يتوهمها في باطن الأشياء كتفسير ظاهرة النمو في النبات بقوة الإنبات ويفسر سقوط الأجسام بقوة الثقل ولهذا أبعد الإنسان المشخص وأحل بدله المجرد واعتمد على الاستدلال العقلي مطرحا الخيال وبقيت المشاهدة تحتل مكانة ثانوية ،أما الطور الوضعي يفسر بأنه عندما أصاب الإنسان اليأس في الحصول على أفكار مطلقة بالاعتماد على البحث العقلي في أصل الكون وعلله الحقيقية فراح يهتم بتفسير الظواهر بربطها ببعضها البعض وذلك بالاستناد إلى ما تقدمه لنا المشاهدة الحسية وبهذا استعاض عن التفكير العيني بوضع القوانين التي تربط العلاقات المطردة بين الظواهر وهكذا وصلت العلوم في تطورها نحو الكمال إلى المرحلة الوضعية بعد أن مرت بمرحلتين تمهيديتين وعد كونت هذه المرحلة هي آخر المراحل التي مربها العقل البشري في تطوره نحو الكمال وهناك أدلة كثيرة تبين اتصال حلقات العلم وتوضح الدور الذي يلعبه تطور الوسائل المتقدمة ومن ذلك أن قوانين مندل في علم الوراثة كانت منطلقا حاسما بالنسبة للقوانين التي توصل إليها مورغان فيما بعد حين كشف أن الطريقة العامة التي تتوزع بها الصفات الوراثية عبر الأجيال واعتمد في ذلك على الملاحظة المجردة ولا شك أن هذه الواقعة وغيرها تدل بما فيه الكفاية على أن كل معرفة علمية صدرت عن المعارف السابقة لها واعتمدت على المعلومات التي كانت مكتسبة وفي هذا يقول زكي نجيب محمود (فالنتائج التي يتوصل إليها في بحث سابق تكون هي نفسها التي يبدأ منها بحث لاحق وحسبنا في هذا الصدد أن نعلم بأنه كلما سار العلم مرحلة من شوطه الذي لا ينتهي تقدمت الأجهزة التي يستعين بها) كما نجد جيمس فريزر الذي يرى أن المعرفة العلمية نشأت في أحضان السحر والتنجيم بحيث يعتقد أن علم الفلك ظهر من التنجيم ومن علم الحيل نشأت الكيمياء وترعرع علم الطب في صوامع الكهنة كما ذهب برغسون إلى القول بأن المعرفة العلمية نشأت نتيجة إلى تحقيق الحاجات البيولوجية للإنسان ولأجل ذلك استخدم عدة أساليب تطورت عبر الزمان بفضل التفكير فالحاجات هي مصدر العمل ،وأصل التفكير يقول برغسون (الإنسان الأول كان صانعا قبل أن يكون حكيما ) .
إن هذا الموقف لم يصمد للنقد وذلك لأنه إذا نظرنا إلى الأطوار الثلاثة ظهر لنا أنه قانون عقلي أولي لا يبرره التاريخ بدليل الأطوار الثلاثة قد توجد في الفرد الواحد والجماعة الواحدة مقترنا بعضها بالبعض لأن المشاكل التي تواجه الإنسان ليست ذات طبيعة واحدة بحيث تراه يلجأ إلى تفسيرات أولية في بعض المسائل وإلى تفسيرات ميتافيزيقية في مسائل أخرى مع استخدامه للتفسير العلمي في الميدان الذي يصلح له والدور الذي اعتبره ميتافيزيقيا لم يخل بالنظرة العلمية في مجالات الفلك والرياضيات والطبيعة وبالنسبة إلى ما ذهب إليه جيمس فريزر فإن طبيعة العلم تختلف عن طبيعة السحر فالعلم يفسر تفسير وضعي لظاهرة بظاهرة أخرى بينما السحر يفسر الظواهر بأمور غيبية يرفضها العلم لأنها لا تخضع لا للملاحظة ولا للتجربة وفيما يخص برغسون يمكننا القول بأنه أخلط بين العلم والتقنية لأن هدف التقنية هو دائما تحقيق المنفعة الذاتية في حين يهدف العلم إلى الصالح العام ـ تحقيق إنسانية الإنسان ـ .
وعلى عكس الرأي السابق يعتقد أصحاب النزعة الانفصالية أن تطوير العلم مصدر التعارض بين القوانين والفروض العلمية السابقة وبين الحوادث المكتشفة أي أن النتائج التي يتوصل إليها العلماء من قبل كثيرا ما يناقضها ويرفضها الواقع فيما بعد وللتاريخ أمثلة كثيرة تدل على هذا التناقض من هنا كانت المعرفة العلمية ذات طبيعة جدلية وهي الطبيعة الوحيدة التي يفسر نموها وتطورها وتقدمها وفي هذا تساءل غاليلي سنة 1346م عن عدم ارتفاع الماء في المضخة إذا وصل 10.33م وهذا مناقض لنظرية أرسطو السائدة في ذلك العصر والقائلة بأن الطبيعة تخاف الفراغ وقد أجاب غاليلي قائلا بأن الحد الأعلى لارتفاع الماء يتناسب عكسا مع وزنه النوعي وقد كان أبرز القائلين بهذا الرأي غاستون باشلار فالتفكير عنده لم يكتسي بالتسمية العلمية إلا أن تغلب على عقبات كثيرة فاتجاه الإنسان نحو العلم ينطوي على قدر كبير من التضحية بالراحة والهدوء لأن العلم يظهر منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم الواقع كما هو موجود بالفعل لا كما يتمنى أن يكون هو ولا يتأتى له ذلك إلا إذا تخطى العواقب الاستمولوجية أي تجاوز ما يقوم في الذهن ذاته عائقا أمام التصعيد لأن ما اعتاد عليه من معارف يحجب ما يجب أن يعرفه وهذا ما عبر عنه باشلار في قولهإن العلم بالنسبة إلى حاجته إلى الاكتمال كما هو الشأن بالنسبة إلى ميدانه يتعارض مع الرأي(لأن الرأي كما يرى) يحول الحاجات إلى معارف فهو عندما يعين الأشياء بمنفعتها يمنع نفسه من معرفتها فلا يمكن إقامة أي شيء على الرأي فيجب أولا هدمه( ،فالرأي إذن وثيق الصلة بإشباع الحاجيات الطبيعية للإنسان فهو يعرف بالنظر إلى المستقبل وكأن هذا هو الذي يتحكم في الحاضر من وجهة نظر العـلم.
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد ذلك أن التخلص الذاتي من العواقب المعرفية يبدوا أمرا بعيد المنال في كثير من المجالات المعرفية فإذا كانت الذاتية من العواقب المعرفية فإننا نتساءل هل يمكن للإنسان أن يكون موضوعيا موضوعية تامة أي هل يمكنه أن يرى متمة الشيء الخارجي طارحا نفسه طرحا تامـا .
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتان هو أنهما أرجعتا معارف العلم ونشأتها إلى الاتصال والبناء الكامل والانفصال والهدم العام لكنه في حقيقة الأمر يمكن إرجاع بعض المعارف الحالية ونشأتها إلى اتصال بعضه البعض وأخرى نشأت انفصاليـا .
وإذا أردنا الخروج بحوصلة لما سبق يجب علينا أن ننشئ معرفة علمية بأن ننظر إلى ما سبقها فيمكن لنا أن نبني عليها ونبدأ من حيث انتهى ،ويمكن هدمه وإنشاء أساس جديد حسب الضرورة.
الطريقة: الجدلية الدرس : الذاكرة
الإشكال: كيف يمكن تفسير حفظ الذكريات في حالة الكمون؟ .
يمتاز الإنسان بقدرته على استخدام ماضيه و الاستفادة منه للتكيف مع ما يواجهه من ظروف فهو لا يدرك الجديد إلاّ تحت نور الماضي أو الذكريات ،وهذه الذكريات هي التي تقدم له مواده الأولية لتنشيط مختلف ملكاته العقلية ولكن هذه الذكريات كيف يمكن لها أن تبقى في متناولنا؟ أين وعلى أي شكل تكون ذكرياتنا في الحالة التي لا نضطر إلى استحضارها؟ وكيف تستمد حياتها عند الحاجة؟ أو بعبارة أصح هل ما ذهبت إليه النظرية المادية في أن الذكريات تكمن في ثنايا الجسم صحيح أم أن هناك تفسيراً آخر؟ .
يرى أنصار النظرية المادية وبوحي من الفكرة الديكارتية القاتلة بأن الذاكرة تكمن في ثنايا الجسم ، أي الانطباعات التي تحدثها الأشياء الخارجية في الدماغ وتبقي بقاءها على لوحة التصوير، أي أن الذكريات تترك لها آثاراً في المخ كما تترك الذبذبات الصوتية على اسطوانة الإلكتروفون وبمعنى أصح أن المخ كالوعاء على حد تعبير تين يستقبل ويخزن مختلف أنواع الذكريات ولكل ذكرى ما يقابلها من خلايا عصبية حتى ذهب بعضهم إلى التساؤل ما إذا كانت الخلايا الموجودة في الدماغ كافية من حيث العدد لتسجيل كافة الانطباعات ويعتبر رائد هذه النظرية ريبو الذي يرى في كتابه ـ أمراض الذاكرة ـ أن الذاكرة ظاهر بيولوجية الماهية سيكولوجية العرض)، وحسبه أن الذكريات تحفظ في خلايا القشرة الدماغية وتسترجع عندما تحدث إدراكات مماثلة لها ، وأن عملية التثبيت تتم عن طريق التكرار ، والذكريات الراسخة فيما يرى ريبو هي تلك التي استفادت من تكرار طويل ولهذا فلا عجب إذا بدأ تلاشيها من الذكريات الحديثة إلى الذكريات القديمة ، بل ومن الحركية إلى العقلية بحيث أننا ننسى الألقاب ثم الأوصاف فالأفعال فالحركات ، ولقد استند ريبو إلى المشاهدات الباثولوجية ـ المرضية ـ مثل الأمنيزيا وبعض حالات الأفازيا الحركية ، وحسبه أن زوال الذكريات يكون عندما تحدث إصابات على مستوى الخلايا التي تحملها مثل الحبسة ، وبهذا تصبح الذاكرة مجرد خاصية لدى الأنسجة العصبية ، ويستدل ريبو أيضا بقوله أنه عندما تحدث إصابة لأحد الأشخاص الذين فقدوا ذاكرتهم فإنه كثيراً ما تعود إليه الذاكرة بنفس الصدمة وهذا من أكبر الأدلة على حسية الذاكرة وماديتها ، وقد جاءت تجارب بروكا تثبت ذلك بحيث أنه إذا حدث نزيف دموي في قاعدة التلفيف الثالث يولد مرض الحبسة ، كما أن فساد التلفيف الثاني يولد العمى اللفظي وأن فساد التلفيف الأول يولد الصمم اللفظي ، ويعطي الدكتور دولي براول مثال عن بنت في 23 من عمرها أصابتها رصاصة في المنطقة الجدارية اليمنى ومن جراء هذا أصبحت لا تتعرف على الأشياء التي توضع في يدها اليسرى رغم أنها بقيت تحتفظ بالقدرة على مختلف الإحساسات النفسية والحرارية والألمية فإذا أي شيء في يدها اليسرى وصفت جميع خصائصه وعجزت عن التعرف عليه ، وبمجرد أن يوضع في يدها اليمنى تعرفت عليه بسرعة وهكذا تبدو الذكريات كما لو كانت في منطقة معينة من الدماغ ويضيف ريبو دليلاً آخر هو أنه لو أصيب أحد الأشخاص الذين فقدوا ذاكرتهم على مستوى الدماغ إصابة قوية ربما استعاد ذاكرته وهذا من أقوى الأدلة على حسية الذاكرة وماديتها .
على الرغم من كل هذه الأدلة والحجج إلاّ أن هذه النظرية لم تصمد للنقد لأن التفسير المادي الذي ظهر في القرن 19م لا يمكنه أن يصمد أمام التجربة ولا أمام النظر الدقيق ففي هذا الصدد نجد الفيلسوف الفرنسي برغسون الذي يرى بأن هذه النظرية تخلط بين الظواهر النفسية و الظواهر الفيزيولوجية فهي تعتبر الفكر مجرد وظيفة للدماغ ، كذا أن المادة عاجزة عن تفسير الذاكرة يقوللو صح أن تكون الذكرى شيء ما ستحفظ في الدماغ ، لما أمكنني أن أحتفظ بشيء من الأشياء بذكرى واحدة بل بألوف الذكريات) ، أما بالنسبة لمرض الأفازيا فإن الذكرى لا تزال موجودة إلاّ أن المريض يصير غير قادر على استرجاعها حتى يحتاج إليها ويذكر الطبيب جون دولاي أن تذكر الشيء يجب أو بالأحرى يكون على حدوث موقف يستدعي تذكر أو عند حدوث موقف مشابه للذكرى .
وعلى عكس الرأي الأول ظهر الاتجاه الروحي وعلى رأسه الفيلسوف الفرنسي برغسون الذي يرى أنه لا حاجة للذكريات إلى مخزن فما هي من الأشياء التي وتلمس ولكن يمكن القول مجازاً بأن الذكريات موجودة في الفكر فالذاكرة شعور قبل كل شيء فلابد من شعور بمرور الزمن ، فالشعور بالزمن هو في الحقيقة شعور بتواصل الحية النفسية ، إن كل لحظة فيما يرى برغسون تتضمن علاوة على سابقتها تلك الذكرى التي خلفتها اللحظة السابقة ولكن هذا لا يعني أن الديمومة بلا ماضي، إن الحاضر إدراك للماضي وانعطاف نحو المستقبل وحسبه أن الذاكرة نوعان : ذاكرة عبارة عن عادة مكتسبة بالتكرار لها جهاز محرك في الجهاز العصبي ووظيفتها استعادة الماضي بطريقة آلية بحتة مثل الذاكرة التي تعي الشعر و النثر المحفوظ أما الأخرى فهي عبارة عن تصور بحت وهي كما تدعى ذاكرة النفس وهي حياة وديمومة تعيد لنا الماضي باعتباره شيئا خالصا ، فإذا كانت الأولى تعيد لنا الماضي إعادة ترديدية فالثانية تتصوره وإذا كان مركز الأولى البدن وأداتها المخ فالثانية تستغني عن البدن من حيث المبدأ ولكنها تتحقق عن طريقه أو حسبه أن الذكريات التي تظهر إنما هي الذكريات النافعة للعمل الحاضر أما الباقي منها فيبقى في اللاشعور ولا يتجلى إلاّ متى يضعف انتباهنا للحياة أي في الأحلام حيث يقول برغسون في كتابه ـ الطاقة الروحية ـ أن الذكريات التي كما نعتقد أنها ذهبت تعود من جديد وبدقة جلية ، فنحيي بكل تفصيل مشاهد الطفولة المنسية ونتكلم لغات التي لا نذكر أننا تعلمناها) إذاً فإن ما يظهر من ماضينا إلاّ ما يكون تمهيداً للمستقبل وما الدماغ إلاّ مجرد أداة لاستحضار الذكريات لا للاحتفاظ بها أما عن انقلاب الذكريات فيرجعها إلى اضطراب في الأجهزة المحركة فالذاكرة عنده ليست وظيفة من وظائف الدماغ وإنما هي عملية نفسية يشترك فيها الجسم والنفس فالنفس تتعرف والجسم ـ الدماغ ـ هو الذي يستدعي أو يسني .
على الرغم من كل هذه الحجج و الأدلة إلاّ أن هذا الرّأي لم يصمد للنقد حيث يرى ميرلونتي أن برغسون لم يحل المشكلة عندما استبدل الآثار البيولوجية بالآثار النفسية فكلاهما انعكاسات لإدراكات سابقة وهذا لا يفسر لنا كيف تعود الآثار المادية أو الصور النفسية إلى الشعور عم طريق إثارتهما كما لو كانت حوادث ماضية فقد أخطأ برغسون في تفريقه بين أنواع الذاكرة فالحركة والتصور مظهران لكل عادة ولا وجود لعادة حركية بدون تصور ، وأخطأ كذلك عندما رأى أن الذكريات تظهر بمجرد أن نغفل عن الماضي ولا يظهر منها إلاّ ما هو نافع: فالأولى تعني أننا نعود إلى الماضي و الصحيح أننا لا نعود إلى الماضي بل لركبه في الحاضر ، والثانية غير صحيحة لأننا كثيراً ما نجد صعوبات في تذكر ذكريات نكون في أمس الحاجة إليها ـ يوم الامتحان ـ
إن العيب الذي وقعت فيه النظريتين أنهما أرجعتا الذاكرة إلى عامل واحد دون النظر إلى العوامل الأخرى في حين أن الذكرى عمل ينبعث من الشعور وحكم يصدر من العقل وهذا الأخير في حكمه يعود ببعض الحوادث إلى الماضي ، كذلك أن هذه العملية تتضافر فيها جملة من العوامل العضوية ، بالإضافة إلى الاجتماعية إذاً فهي كما يقول برادين إن بناء الماضي بفضل العقل ويمكن القول عند الاقتضاء أن ذكرياتنا هي حاضرة في فكرنا الراهن وفكرنا لا معنى له بمعزل عن العالم الخارجي) .
وأخيراً إذا أردنا الخروج بحوصلة فإن الذكرى على حد رأي دولاكروا نشاط يقوم به الفكر وإمضاء من تسجيله فهي ليست صورة وإنما حكم على الصورة في الزمن ولابد إذا من استبعاد الفكرة التي تعتبر الذاكرة وعاء يستقبل آليا أي الشيء فهي تبدو لنا كنشاط يمارسه الشخص ويثبت فيه ماضيه تبعا لاهتماماته وأحواله
الطريقة: الجدلية الدرس : الذاكرة 02
الإشكال: هل أساس الاحتفاظ بالذكريات بيولوجي أم اجتماعي؟ .
يمتاز الإنسان بقدرته على استخدام ماضيه و الاستفادة منه للتكيف مع ما يواجهه من ظروف فهو لا يدرك الجديد إلاّ تحت نور الماضي أو الذكريات ،وهذه الذكريات هي التي تقدم له مواده الأولية لتنشيط مختلف ملكاته العقلية ولكن هذه الذكريات كيف يمكن لها أن تبقى في متناولنا ؟ أين وعلى أي شكل تكون ذكرياتنا في الحالة التي لا نضطر إلى استحضارها ؟ وكيف تستمد حياتها عند الحاجة ؟ أو بعبارة أصح هل أساس ذكرياتنا بيولوجي أم اجتماعي ؟ .
يرى أنصار النظرية المادية وبوحي من الفكرة الديكارتية القاتلة بأن الذاكرة تكمن في ثنايا الجسم ، أي الانطباعات التي تحدثها الأشياء الخارجية في الدماغ وتبقي بقاءها على لوحة التصوير، أي أن الذكريات تترك لها آثاراً في المخ كما تترك الذبذبات الصوتية على اسطوانة الإلكتروفون وبمعنى أصح أن المخ كالوعاء على حد تعبير تين يستقبل ويخزن مختلف أنواع الذكريات ولكل ذكرى ما يقابلها من خلايا عصبية حتى ذهب بعضهم إلى التساؤل ما إذا كانت الخلايا الموجودة في الدماغ كافية من حيث العدد لتسجيل كافة الانطباعات ويعتبر رائد هذه النظرية ريبو الذي يرى في كتابه ـ أمراض الذاكرة ـ أن الذاكرة ظاهر بيولوجية الماهية سيكولوجية العرض)، وحسبه أن الذكريات تحفظ في خلايا القشرة الدماغية وتسترجع عندما تحدث إدراكات مماثلة لها ، وأن عملية التثبيت تتم عن طريق التكرار ، والذكريات الراسخة فيما يرى ريبو هي تلك التي استفادت من تكرار طويل ولهذا فلا عجب إذا بدأ تلاشيها من الذكريات الحديثة إلى الذكريات القديمة ، بل ومن الحركية إلى العقلية بحيث أننا ننسى الألقاب ثم الأوصاف فالأفعال فالحركات ، ولقد استند ريبو إلى المشاهدات الباثولوجية ـ المرضية ـ مثل الأمنيزيا وبعض حالات الأفازيا الحركية ، وحسبه أن زوال الذكريات يكون عندما تحدث إصابات على مستوى الخلايا التي تحملها مثل الحبسة ، وبهذا تصبح الذاكرة مجرد خاصية لدى الأنسجة العصبية ، ويستدل ريبو أيضا بقوله أنه عندما تحدث إصابة لأحد الأشخاص الذين فقدوا ذاكرتهم فإنه كثيراً ما تعود إليه الذاكرة بنفس الصدمة وهذا من أكبر الأدلة على حسية الذاكرة وماديتها ، وقد جاءت تجارب بروكا تثبت ذلك بحيث أنه إذا حدث نزيف دموي في قاعدة التلفيف الثالث يولد مرض الحبسة ، كما أن فساد التلفيف الثاني يولد العمى اللفظي وأن فساد التلفيف الأول يولد الصمم اللفظي ، ويعطي الدكتور دولي براول مثال عن بنت في 23 من عمرها أصابتها رصاصة في المنطقة الجدارية اليمنى ومن جراء هذا أصبحت لا تتعرف على الأشياء التي توضع في يدها اليسرى رغم أنها بقيت تحتفظ بالقدرة على مختلف الإحساسات النفسية والحرارية والألمية فإذا أي شيء في يدها اليسرى وصفت جميع خصائصه وعجزت عن التعرف عليه ، وبمجرد أن يوضع في يدها اليمنى تعرفت عليه بسرعة وهكذا تبدو الذكريات كما لو كانت في منطقة معينة من الدماغ ويضيف ريبو دليلاً آخر هو أنه لو أصيب أحد الأشخاص الذين فقدوا ذاكرتهم على مستوى الدماغ إصابة قوية ربما استعاد ذاكرته وهذا من أقوى الأدلة على حسية الذاكرة وماديتها .
على الرغم من كل هذه الأدلة والحجج إلاّ أن هذه النظرية لم تصمد للنقد لأن التفسير المادي الذي ظهر في القرن 19م لا يمكنه أن يصمد أمام التجربة ولا أمام النظر الدقيق ففي هذا الصدد نجد الفيلسوف الفرنسي برغسون الذي يرى بأن هذه النظرية تخلط بين الظواهر النفسية و الظواهر الفيزيولوجية فهي تعتبر الفكر مجرد وظيفة للدماغ ، كذا أن المادة عاجزة عن تفسير الذاكرة يقوللو صح أن تكون الذكرى شيء ما ستحفظ في الدماغ ، لما أمكنني أن أحتفظ بشيء من الأشياء بذكرى واحدة بل بألوف الذكريات) ، أما بالنسبة لمرض الأفازيا فإن الذكرى لا تزال موجودة إلاّ أن المريض يصير غير قادر على استرجاعها حتى يحتاج إليها ويذكر الطبيب جون دولاي أن أحد المصابين بالأمينزيا الحركية فقد تماما إرادة القيام بإشارة الصليب إلاّ انه توصل تلقائيا إلى القيام بالإشارة عند دخوله الكنيسة .
وعلى عكس الرأي الأول يرى أنصار النظرية الاجتماعية أن الغير هو الذي يدفعنا إلى تذكر الحوادث أي التي اشترك معنا فيها في الأسرة أو الشارع أو المدرسة وفي هذا يقول هالفاكسإنني في أغلب الأحيان عندما أتذكر فإن ذاكرتي تعتمد على ذاكرة الغير) ، ولقد كان على رأس هذه النظرية بيارجاني ،هالفاكس فهم يرون أن الذاكرة تجد في الحياة الاجتماعية المجال الخصب الذي تستمد منه وجودها وحين نحاول معرفة صلتها العضوية بالجسم إنما كنا نبحث عن معرفة الآلية التي تترجم الذكريات الماضية و السلوك الراهن والواقع أن هذا السلوك هو الذي يربط بين الفرد والآخرين غير أن الذاكرة بمعناها الاجتماعي تأخذ بعدا أكبر من هالفاكس فهو يرى أن الذاكرة ترجع إلى المجتمع فالفرد مهما اتسم شعوره بالفردية المتميزة إلى أبعد الحدود فإن جميع أنواع السلوك التي هي مواد ذكرياته تبقى وتظل اجتماعية واللحظات الوحيدة المستثناة هي أثناء النوم أي الأحلام حيث ينعزل الفرد بكليته عن الآخرين إلاّ أن الأحلام تبقى ذات طبيعة مختلفة عن الذكريات يقول هالفاكسإن الحلم لا يعتمد سوى على ذاته في حين أن الذكريات تستمد وجودها من ذكريات الآخرين ومن القاعدة العامة للذاكرة الاجتماعية)، ويكون التفاهم بواسطة اللغة في الوقت ذاته فهي الإطار الأول والأكثر ثباتا للذاكرة الاجتماعية ، وهكذا فالعقل ينشئ الذكريات تحت تأثير الضغط الاجتماعي إذاً فلا وجود لذاكر فردية فالذاكرة هي ذاكرة جماعية ، هي ذاكرة الزمرة والأسرة والجماعة الدينية والطبقة الاجتماعية والأمة التي تنتمي إليها وفي جميع الأحوال فإن ذكرياتنا ترتبط بذكريات الجماعة التي ننتمي إليها ، فالإنسان ضمن الجماعة لا يعيش ماضيه الخاص بل يعيش ماضيه الجماعي المشترك فالاحتفالات الدينية والوطنية هي إعادة بنا الماضي الجماعي المشترك .
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد مع أنه اعتمد على الواقع ، فصحيح أن الذاكرة تنظم داخل أطر اجتماعية ولكن ليس العامل الاجتماعي عاملاً أساسيا وكافيا لوحده لأنه بإمكان الفرد أن يتذكر شيئا ذا قيمة بالنسبة له وحده بالإضافة إلى أنه إذا كان تذكر الفرد يكون دائما من خلال ماضيه المشترك مع الجماعة فيكون ذلك معناه أن شعور الفرد جزء من شعور الجماعة وهذا أمر مستحيل .
أن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتين أنهما عالجتا موضوع الذاكرة المعقد كل على حدا وذلك لاختلاف منهجهم في حين أن الذاكرة عملية تتظافر فيها جميع العوامل الخارجية المتمثلة في الجماعة بالإضافة إلى كل هذا فإنه لا يمكن أن نقف موقف اختيار بين النظريتين ولا يمكننا أيضا قبولهما على أنها صادقة فإذا كانت النظرية المادية قد قامت على بعض التجارب فقد تبين مدى الصعوبة التي تواجه التجربة أما الاجتماعية فإنها تبقى نسبية نظراً للإرادة التي يتمتع بها الفرد دون أن ننسى الجانب النفسي للفرد .
وخلاصة القول أنه من غير الممكن إرجاع الذاكرة إلى عامل واحد لأنها عملية عقلية تتظافر فيها جملة من العوامل الذهنية والعضوية الاجتماعية وبهذا فإن أساس الذكريات نتاج اجتماعي وبيولوجي معاً .
الطريقة: الجدلية الدرس : الإدراك و الإحساس
الإشكال: هل الإدراك محطة لنشاط العقل أم هو تصور لنظام الأشياء ؟
يعد الإحساس تلك الظاهرة النفسية الأولية التي تتشابك فيها المؤثرات الخارجية مع الوظائف الحسية عن طريق استقبال هذه المؤثرات و تكيفها مع طبيعة الموقف , أما الإدراك فيعتبر نوعا من البناء الذهني و عملية إنشائية متشابكة يتدخل فيها الحاضر بمعطياته الحسية و الماضي بصوره و ذكرياته , و لهذا فقد اختلف الفلاسفة في تفسير عملية الإدراك فمنهم من أرجعه إلى العالم الخارجي و بنيته , و منهم من أرجعه إلى العقل و التساؤل الذي يطرح نفسه: هل الإدراك نشاط ذهني أم أنه استجابة كلية للمدركات الخارجية ؟ أو بعبارة أصح : هل الإدراك مجرد محصلة لنشاط العقل أم هو تصور لنظام الأشياء ؟.
يرى أنصار النظرية الذهنية و على رأسها "ديكارت , واركلي , ألان "فديكارت يميز بين الأفكار التي هي حسبه أحوال نفسية موجودة داخل الذات و بين الأشياء التي تعتبر امتداد لها يقول ديكارت: (العالم ليس ما أفكر فيه بل ما أحياه) , و هذه النظرية في أساسها قائمة على التميز بين الإحساس و الإدراك , فالإحساس مرتبط بالبدن لأن المحسوسات مجرد تعبيرات ذاتية قائمة فينا , أما الإدراك فهو مرتبط بالعقل و حسبه أن إدراك شيء ممتد إنما يكون بواسطة أحكام تصفى على الشيء و صفاته و كيفياته الحسية و منه يكون إدراك المكان عملا عقليا فلا يمكن أن يكون وليد الإحساس , و إنما نتيجة حكم نصدره عند تفسيره معطيات الحس بالمقارنة بي أبعادها الظاهرية و في هذا يقول ديكارت: (إنني حين أنظر من النافذة أشاهد رجالا يسيرون في الشارع مع أني في الواقع لا أرى بالعين المجردة سوى قبعات و معاطف متحركة , و لكن على الرغم من ذلك أحكم بأنهم أناس) , و هكذا يصل إلى نتيجة مفادها: (و إذن فأنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحس بأني أراه بعيني) , و قد أكد واركلي (بأن تقدير مسافة الأشياء البعيدة جدا ليس إحساسا بل حكم مستند إلى التجربة) . مما جعله يرى بأن الأعمى لا يمكن أن يكون لديه أية فكرة عن المسافة البصرية إذا استعاد بصره فالشمس و النجوم و أقرب الأشياء و أبعدها تبدو له جميعا موجودة في عينه بل في فكره , و قد جاءت أعمال الجراح الإنجليزي شيزلند فيما بعد بحوالي عشرين سنة تثبت صحة رأي واركلي و هذا الأخير يرى بدوره أنه توجد علاقة بين الذات و الموضوع , و هكذا يصل إلى القول: (و جود الشيء قائم في إدراكي أنا له) , و على شاكلة هذا الطرح نجد الفيلسوف الفرنسي ألان حيث يرى أننا ندرك الأشياء كما تعطيه لنا حواسنا و يقدم مثالا على ذلك المكعب , فإننا لا نرى منه على الأكثر إلا تسعة أضلاع من بين أضلاعه الإثنى عشر و ثلاث سطوح من بين سطوحه الستة و رغم كل هذا فنحن ندركه مربعا و معنى هذا أن المكعب معقول و ليس محسوس .
رغم كل هذه الحجج و الأدلة إلا أن هذه النظرية لم تصمد للنقد ذلك أنه و كما يرى بعض الفلاسفة لم تكن هذه النظرية على صواب حين ميزت بين الإحساس و الإدراك و فصلت بين وظيفة كل منهما في المعرفة فإن كان الإحساس هو الجسر الذي يعبره العقل أثناء الإدراك فإن ذلك يعني بالضرورة أن للإحساس وظيفة يؤديها في عملية الإدراك , و بدونه يصبح الإدراك فعلا ذهنيا مستحيلا , بالإضافة إلى أن مغالاة هذه النظرية في دور التبرير الذهني يهمش و يستثني الحواس في تعرفنا على المكان أو الشيء المدرك .
على عكس الرأي السابق نجد المدرسة الحشطالنية التي ترفض التمييز بين الإحساس و الإدراك, كما ترفض أن يكون الإدراك مجموعة احساسات بل الإدراك من أول وهلة هو إدراك لمجموعات ذات صور و بنيات , فالإدراك في نظرها هو استجابة كلية للبيئة أو جواب لما تفرضه علينا , و بناء على هذا فإنه في عملية الإدراك لا تعطي المعطيات صورها الذهنية عن طريق الحكم العالي و إنما تدرك الموضوعات التي تبرز في مجال إدراكنا فتجعلنا ننتبه إليها دون غيرها , هاته الموضوعات البارزة تسمى أشكالا و صيغا و حسب النظرية فإن العالم الخارجي موجود على شكل منظم و في قوانين معينة لذلك فإنها ترى أننا ندرك صيغا و أشكالا لها خصائص هندسية (الشكل – البروز – الحجم …)و ذلك بناء على عوامل موضوعية منها :
أ/*عامل التقارب:التنبيهات الحسية المتقاربة في الزمان و المكان تبدو في مجال إدراكنا كوحدة مستقلة في الشكل 1(………)ندرك النقاط على شكل سلسلة , و في الشكل 2(.. .. ..)ندرك النقاط كصيغة مستقلة (منفردة , زوجية).
ب/*عامل التشابه:ندرك التنبيهات المتشابهة في اللون و الحجم و الشكل و الحركة كالأشياء و النقاط كصيغة مستقيمة مثل الشكل 3 (ــ ــ ــ . . .) الذي يفرض علينا أن ندرك النقاط كصيغة و الخطوط كصيغة أخرى .
ج/*عامل الإغلاق يلعب دورا هاما في السلوك و خاصة الغريزي منه و معناه أن الأشياء و الأشكال تميل إلى الاكتمال في إدراكنا مثلا الشكل 4 ( ) الدائرة تدرك كدائرة حين عندما يكون محيطها غير مكتمل و قد نتعرف على شخص ما ربما فقط عند رؤية بعض ملامحه .
هذه تعد أهم القوانين التي تنظم عملية الإدراك عند أصحاب النظرية الحشطالنية و هي في نظرهم لا تصدق على مجال البصر فقط بل تتعداه إلى كل المجالات الحسية الأخرى فالأصوات هي عبارة عن بنيات أو صيغ ندركها عن طريق السمع , و الدليل في ذلك هو أنه عندما نسمع أغنية ما ندرك كوحدة مألوفة من اللحن و الكلمات و الإيقاع أي كبنية متكاملة و لا ندركها كأجزاء مفصلة .
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد ذلك أنه قلل من دور الذات العارفة في عملية الإدراك لبنية الشيء المدرك و هو أيضا من جهة أخرى تابع لبنية الذات المدركة .
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتان هو أنهما فصلتا بين الذات و العوامل الموضوعية (الخارجية) في عملية الإدراك و قد جاءت النظرية العضوية لتقف موقفا عضويا فهي ترى أن إدراك المكان هو نتيجة لتظافر جميع المؤثرات الحسية التي يستقبلها الفرد في لحظة ما سواء أصدرت عن الذات أو الموضوع و هم يعتمدون على مسلمتين فالأولى أن أي تغيير يحدث في الذات أو الموضوع يؤثر و يحدث فقدان التوازن بينهما فإدراك خصائص منظر ما من بعيد عند غلق إحدى العينين ينتج عنه غياب المساحة المقابلة لمجال إبصار العين المغلقة و بالمقابل فوضع ستار ما على نصف حائط يمنع رؤية ما يوجد خلف الستار فهناك علاقة تكامل و تطابق بين الذات و الموضوع (و كذلك الأحوال النفسية و السلوكات) , أما المسلمة الثانية فإنها كذلك تستجيب للمنبهات الحسية فإدراكنا للأشياء يتأثر بحسب قوتها (نستجيب لصوت السيارة أكثر من حديث الشخص , و يزعجنا نباح الكلب أكثر من قطعة موسيقية , و نطمئن لنباح الكلب إذا خفنا من السرقة).
و أخيرا و كحوصلة لما سبق فإنه في عملية الإدراك لا بد من توفر شرطين أساسيين هما الذات و الموضوع لما يحملانه من تطابق و أمل و بدون توفر الشرطين يصبح الإدراك عملا ناقصا إذا فإدراكنا المكان نتيجة لتحصيل عقلي بالإضافة إلى العوامل الموضوعية .
الطريقة:جدلية الدرس :الدولة والأمة
الإشكال:هل يمكن أن يقوم مجتمع بدون نظام سياســـي؟
إن الإنسان واحد من الكائنات الحية التي لا يمكنها أن تستمر في الوجود بدون الاعتماد على الغير،إذ يولد الفرد عاجزا عن تلبية حاجياته ومواجهة الصعاب ،حيث كانت حياته الأولى تمتاز بالبساطة والبدائية مثل الصيد والزراعة إلى أن انتقل إلى الصناعة والتجمعات البشرية وساد هذه الأخيرة العديد من المشاكل ومن هنا بدأ دور الدولة ،وذلك من خلال تأطيرها للأفراد وتحقيق الأمن والاستقرار ،إلاّ أنّ جمهور الفلاسفة اختلف في قيمة وأهمية الدولة من خلا ل هذا كله يتبادر إلى أذهاننا التساؤل التالي:هل يمكن الاستغناء عن الدولة أم أنّها الإطار المناسب لممارسة الفرد لحرياته والتمتع بحقوقه الأساسية؟أو بعبارة أصح هل يمكن أن يقوم مجتمع ما بدون نظام سياسي؟
يرى الفوضويون أن وجود الدولة غير ضروري وبإمكان المجتمعات الاستغناء عنها فمن الأفضل للناس ألا يخضعوا للدولة وان يعيشوا حالة فوضى حيث لا يكون في الناس لا حاكم ولا محكوم لأن الدولة في نظرهم عدو للفرد وتقف ضد التفتح الطبيعي للشخصية كما تضيق مجال الاتصال بين الأفراد وتحد من انتشار القيم الأخلاقية العالمية بوضعها الحدود بين الدول واقتطاع جماعة بشرية ضد أخرى إلى جانب هذا فهي تعوقه من ممارسة حريته وعلى أساس هذا فانه يجب علينا كما يقول أنصار هذه النظرية أن نزيل الدولة ونبني العلاقات الإنسانية على أساس الحرية الفردية وقد نتساءل ما الذي يضمن النظام ويحقق الأمن للأفراد وعن هذا يجيب الفوضويون بأنّ الناس سيعملون لصالح بعضهم البعض دون حاجة إلى قوة تلزمهم بالاحترام ذلك أن الفرد بالنسبة لهم ميال بطبيعته إلى غيره وعلى شاكلة هذا الطرح نجد الماركسية تدعو إلى الاستغناء عن الدولة لأنها في نظرهم أداة للسيطرة والاستغلال ويتجسد ذلك من خلال ظهور طبقتين الأولى ثرية ومالكة لوسائل الإنتاج والثانية طبقة بروليتارية* كادحة لا تملك سوى طاقة العمل ومن هنا فأن ظهور الدولة جاء نتيجة لرغبة الطبقة الأولى في السيطرة على الطبقة الثانية لإرغامهم على الخضوع لهم ومن هنا فأن الدولة ما هي إلا جهاز قمع تملكه طبقة لقهر بقية فئات الشعب وفي هذا يقول انجلز(ليست الدولة إلا تعبيرا عن إحدى الطبقات في المجتمع.) ويختصر لينين هذا المعنى بقوله(إن الدولة هي ثمرة التعارضات الطبقية المتناحرة ومظهرها)وتلخيصا لهذا الموقف فأن الدولة لا يجب قيامها لأنها أداة سيطرة واستغلال وتقييد للحريات وفي هذا يقول باكونين(إن الدولة مقبرة كبيرة تدفن فيها جميع مظاهر الحياة الفرديـة).
إن هذا الرأي لم يصمد للنقد نظرا لتطرفه فهو لا يعي عواقب ما يترتب عن زوال الدولة إذ تصبح الفوضى هي السائدة والغلبة للأقوى ،ومعنى إلغاء الدولة العودة إلى شرعية الغاب فإذا عمت الفوضى لا أحد يمارس حريته بعد ذلك ،ثم إن هذا الموقف فقط على النظم الاستبدادية التي عرفتها البشرية وما سادها من انحراف في استخدام السلطة القائمة على القانون لا على الإرادة الفرديــة.
وعلى عكس الرأي السابق نجد من يرى أن الدولة مؤسسة اجتماعية لا غنى عنها وقد كان على رأس هذه النزعة روسر، بن خلدون ، فروسر يرى أن قيام مجتمع متحضر متوقف على الدولة التي توفر للأفراد ما يسميه روسر ـ بالحريات المدنية ـ فالأفراد عندما يتنازلون عن حقوقهم لصالح الشخص الجماعي فإنهم يتنازلون مقابل حقوق أخرى تسمى بالحقوق المدنية يكفلها لهم ويحميها ،فالمجتمع هنا يضمن له حريات أخرى بديلة وبذلك يكون الشعب هو صاحب السيادة وبالتالي فالدولة وجودها ضروري لحماية الحريات الشخصية ،إذ تعطي للفرد وجوده الأمثل والأسمى ،أما بن خلدون فهو يرى ضرورة الاجتماع السياسي ولكنه يشترط وجود وازع سلطاني لوضع حد للطبيعة العدوانية للإنسان حيث يقول(ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل بلا شر فلابد من وازع يدفع الناس بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم)، وهذا الوازع عنده لا يمكن أن يكون من غير الإنسان فلابد أن يكون واحداً من الناس له الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بالعدوان وهذا هو معنى الملك أو السلطة لدى بن خلدون ، والذي يربط طبعة الاجتماع في البشر وبين العدوان فيهم ونفى أن يكون الوازع الديني أو العقلي كافيا لمنع الناس عن بعضهم البعض ومن هنا فإن وجود الدولة لا غنى عنه في إشباع حاجة الناس من حيث الأمن والاستقرار وتوفير شروط الحياة من نظام وتعاون وعدالة للإنسان ، لا يكون كل هذا إلاّ في وجود إطار مجتمع منظم ولا ينتظم الأفراد إلاّ في مجتمع سياسي .
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد ذلك أن تاريخ الدول يبين أنه كانت معظم الدول أداة تسلط ولم تكن أبدا أداة إطار منظم للأفراد ثم إن التجاوزات التي تقع اليوم هنا وهناك وفي مختلف المجالات دليل على أن الدولة أداة تسلط .
إن الوعي الذي شهده الإنسان على المستوى الفكري الذي وصله مكنه من وضع آليات تقيد استعمال السلطة وتحولت علاقة المواطن من علاقة رضوخ واستسلام لإرادة الحكام إلى علاقة امتثال للقانون الذي اشترك المواطن بطريقة أو بأخرى في صياغته ، ومن هنا فإن الدولة ضرورة اجتماعية للحياة المشتركة وازدهارها لكن الضرورة تقدر بقدرها فإذا كانت لازمة لنشوء المجتمعات وتحضّرها فإنه يجب ألاّ نقضي على الحريات الفردية بل نحميها ونوسعها .
وأخيراً وكحوصلة لما سبق فإنه لا يمكن للمجتمع أن يتحضر ويزدهر إلاّ في إطار تقدس الحقوق وتحمى الحريات وبدون هذه الشروط تصبح الدولة أداة قمع للحريات الشخصية وبالتالي يصبح لا فرق بين وجودها وعدمه ومع كل هذا وذاك تبقى الدولة أداة ضرورية لتنظيم الأفراد والقضاء على أنانية الإنسان لأن الإنسان بطبعه أناني
الطريقة: الجدلية الدرس : الدولة و الأمة
الإشكال: يقول انجلز: (ليست الدولة إلا تعبير عن إحدى طبقات المجتمع)
إن الإنسان واحد من الكائنات الحية التي لا يمكنها أن تستمر في الوجود بدون الاعتماد على الغير إذ يولد الإنسان عاجزا عن تلبية حاجياته و مواجهة الصعاب حيث حياته الأولى تمتاز بالبساطة و البدائية مثل الصيد و حياة اللهو إلى أن انتق إلى الزراعة و الصناعة فاستقر , و ظهرت بذلك المجتمعات البشرية و ساد هذه الأخيرة الصراع الفردي و الجماعي , ففكر الإنسان في إنشاء سلطة سياسية تحفظ له حقوقه و تردع عنه الظلم و تمنعه من أخذ حقوق الناس و التساؤل الذي يطرح نفسه هل ما ذهب إليه إنجلز في قوله أن الدولة مجرد تعبير عن إحدى طبقات المجتمع أم أن أصل نشأتها غير ذلك ؟.
يرى أصحاب النظرية المادية الجدلية " ماركس , إنجلز " أن الدولة ليست موجودة منذ الأزل بل هي وليدة ظروف اقتصادية و حضارية معينة و في هذا يقول لينين (1870-1924): (قد مر عهد لم يكن للدولة وجود و كانت فيه العلاقات العامة تستند على المجتمع نفسه و النظام و تنظيم العمل على قوة العادات و التقاليد و على النفوذ أو الاحترام الذي يتمتع به شيوخ السلالة أو النساء…) , و لكن هذا الوضع لم يدم فقد تطور المجتمع و بلغ التطور الاقتصادي درجة فرضت انقسام المجتمع إلى مالكين و غير مالكين و توقف النظام التلقائي , و بالتالي أصبحت كل وسائل الإنتاج ملكا للأسياد و لهذا كان من الضروري أن تخلق قوة أو جهاز يقمع الكادحين و يرغمهم على الخضوع لها إذن ليست الدولة في نهاية المطاف إلا جهاز قمع تملكه طبقة لقهر طبقة الكادحين و لهذا يقول انجلز: (ليست الدولة إلا تعبير عن إحدى طبقات المجتمع).
لا ننكر ما ذهب إليه هذه النظرية لأنها اعتمدت على الواقع لاعتمادها على القوة و هذا ما يجسده المنظر الشيوعي تروتسكي في قوله: (إن كل دولة تقوم على القوة) إلا أنها لم تسلم من النقد لأن القوة مهما كانت عظمتها و قوتها الردعية غير كافية لفرض سلطان أو حاكم معين على الشعب (القوي اليوم ضعيف غدا) كذلك أن إرادة الشعوب لا تقهر ثم إن قوة الدولة ليست قوة جسمية فقط بل هي قوة أخلاق معنوية لأنها تمثل الجماعة خاصة إذا كانت تحترم شعبها و مقدساته .
على عكس الرأي الأول نجد أنصار المثالية الذين يرون الإنسان يستطيع أن يرى لنفسه العالم الذي يليق به , ثم يستعمل الوسائل اللازمة لبلوغ الهدف , فالجزائري مثلا عندما كان مستعمرا كان يعاني الظلم و الاضطهاد فرسم لنفسه في الاستقلال الصورة المثلى و عمل على تحقيقها في الواقع كذلك بالنسبة للأفراد الذين يتخيلون لأنفسهم أهدافا معينة ثم يستعملون ما لديهم من وسائل لبلوغها و من هنا نستنتج أن التنظيم السياسي ليس وليد القوة الجسمية و إنما هو نتيجة تصور العقل و هذا ما نجده عند أفلاطون في جمهوريته المثالية حيث يرى أن الفضيلة غاية القوي و غابة الدولة لأنها المناخ المناسب لتحقيقها و في هذا يقول: (إن الدولة تنشأ عندما يشعر الفرد بأنه لا يستطيع إشباع حاجاته بمفرده فيجتمع الناس ليكمل كل منهم الآخر فتكون من هذا مدينة الفطـرة و تكـون السلـطة لـمن يمتلكون القـوة العاملـة و هم الفلاسفـة) , و لم يـمـت هذا بموت أفلاطون بل تبناه بعض الفلاسفة أمثال الفارابي الذي رسم لنا هو الآخر صورة للمدينة الفاضلة و كيف يجب أن تكون في مختلف جوانبها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية , و هيجل(1770-1831) الذي يرى أن الدولة هي إحدى صور العقل و يظهر ذلك في فكره الجدلي الذي يجعل من الأسرة قضية و المجتمع نقيض القضية و الدولة هي التركيب , ففي الدولة يصل الإنسان إلى الأخلاق العليا و تخضعه لنظام جماعي و تخلصه من أنماط حياته الحيوانية و الدولة غاية في حد ذاتها لم توجد من أجل الأفراد بل الأفراد وجدوا من أجلها .
لكن القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أن القول بأن العقل هو الذي يفرض علينا هذا النظام لا يؤيده الواقع و لا المنطق إذ لو كان الأمر كما يدعى المثاليون لكان هذا النظام الذي يتصوره العقل واحدا لدى جميع الناس كما لا يختلفون في الحقائق العقلية كذلك أن التاريخ لم يشهد مثل هذه الدولة التي يؤسسها أصحاب القوة العاقلة , أما فقد أخطأ حينما اعتبر الدولة غاية و جد الفرد لأجلها لأن الواقع يثبت عكس ذلك .
إن كل نظرية نهجت نهجا معينا في تفسيرها لهذا الأساس و الواقع أن الدولة لم تعتمد في نشأتها على عامل واحد من هذه العوامل التي ذكرت في النظريتين و إنما ترجع نشأتها إلى عوامل عدة تختلف في أهميتها من دولة لأخرى و ذلك باختلاف من حيث الطبيعة و التاريخ و الظروف الاقتصادية و الاجتماعية دون أن ننسى أن للدين الدور البارز في نشأتها .
و إذا أردنا الخروج بحوصلة لما سبق فإن نشأة الدولة لا تعود بصفة أساسية للمثالية لأن هذا لم يجسد منذ أن قال به أصحابه و هذا لا يجرنا لنقول بالتعميم بأن كل دولة قامت على المادية الجدلية لأن هذا لا ينطبق إلا على بعض المجتمعات و إنما نشأة الدولة عن طريق تفاعل عدة أسباب و مؤثرات ساهمة في وجودها و مهما يكن فإن الدولة أمر ضروري للحفاظ على الأمن و الاستقرار .
الطريقة :الجدلية الدرس: الذكاء و التخيل(التخيل)
الإشكال:هل نحن ندين بتخيلنا الإبداعي لذواتنا أم لمحيطنا الاجتماعي ؟
يعد الفرد المبدع هو ذلك الذي لا يقتفي أثر الأشياء الموجودة من قبل سواء بسواء , بل يأتي ببناء قلما يتهيأ لسواه و كثير هم أولئك المبدعون من أدباء و فنانين و علماء ممن تحدثوا عن إلهاماتهم الخاطفة و كأنها إفرازات لما يتمتعون به من قدرات فائقة حباهم الله بها يقول عالم الطبيعة جلوس : ( و أخيرا نجحت لأنني بذلت جهودا مغنية و لكن بهبة من الله كأن إشراقا حدث فجأة فحل اللغز ) , و لكن الإشكال لا يكمن في تعريف الإبداع و لكن في كيفيته ؟ أو بعبارة أصح هل تكمن شروط الإبداع في ذواتنا أي نابعة من أنفسنا ؟ أم محيطنا الاجتماعي؟.
ترى مدرسة التحليل النفسي و على رأسها فرويد أن الإبداع يعود إلى الكبت و ما هو إلا تصعيد للميول المكبوتة فالسلوك لدى المبدع ما هو إلا إطلاق العنان للانفعال الحبيس و أنه يستمد مادته من الأوهام و المثل المتحررة ( و هي تربط بأحلام اليقظة و مرحلة الطفولة ) فالا شعور في نظرهم هو مصدر الإبداع لدى الفرد و كذا نحد المفكرين من حلل ظاهرة الإبداع تحليلا نفسيا فذهبوا إلى أن الاختراع لسلة من الأعمال اللاشعورية أي أن معظم عناصر تخيلاتنا تتجمع في اللاشعور و تخترق الصورة المبدعة في العقل الباطن تنبثق دفعة واحدة و يرجعون كذلك الإبداع إلى جملة الخصائص الوراثية و النفسية التي تهيئ الشخص لامتلاك مواهب ذهنية عالية ( كدقة الملاحظة و قوة الذاكرة و خصوبة الخيال و الذكاء الثاقب …)و حجتهم في ذلك أن بعض البيئات الثقافية ملائمة للإبداع , و مع ذلك لا يظهر لأنه لا يوجد عقل قادر عليه و هناك عباقرة ظهروا في بيئة اجتماعية غير ملائمة كابن خلدون و غيره من العلماء المبدعين , و على شاكلة هذا الطرح نجد قديما الشيخ الرئيس ابن سينا أنه كثيرا ما كان يجد حلولا لمشكلاته التي استعصت عليه أثناء النوم (الأحلام) , كما يروي لنا تاريخ الأدب الإنجليزي أن الشاعر كولوردج غلبه النعاس ذات يوم وهو يطالع ثم أفاق مضطربا مشبوب العاطفة و شرع يكتب إحدى قصائده الشهيرة فلما و صل إلى البيت الرابع و الخمسين كف عن الكتابة و لم يستمر في قصيدته , كما يذكر العالم الرياضي الفرنسي بوانكاريه (1854-1912) أن حلول مشكلاته الرياضية برزت فجأة و بعيدا عن ميدان عمله و في مناسبات غير عادية , و يتضح لنا هذا من الأمثلة السابقة أن الإبداع كثيرا ما يلد فجأة وبصورة مباشرة لذا يقرر ريبو أن كل صورة الإبداع مصحوبة بالعناصر الانفعالية , و أن كل عناصر الانفعال تؤثر في الإبداع) بالإضافة إلى هذا نجد نيوتن (1642-1727م) عندما كتشف قانون الجاذبية قالإنني لأضع موضوع بحثي نصب عيني دائما و أنتظر حتى يلمح الإشراق الأول على شيئا فشيئا لينقلب إلى نور جلي ) , و ما هذا إلا لشدة التفكير فيه مما يعكس الدور النفسي الكبير في الإبداع .
وعلى الرغم من كل هذه الحجج و البراهين إلا إنها ليست كافية لإقرارنا بالقبول أن الإبداع راجع فقط للعوامل النفسية و لقد عالت مدرسة التحليل النفسي في تركيزها على اللاشعور كعامل أساسي في الإبداع مهملة في ذلك الجوانب الأخرى , فالحشطالنية تعتبر الإبداع قدرة تنظيم و تركيب المواقف لرؤية الأقسام الجزئية في ترابطها و ارتباطها بكيان كلي و عليه لا يمكن اعتبار اللاشعور العامل الوحيد و الأساسي في الإبداع , و للتوجيه التربوي أثر في تنمية الملكات الذهنية و توجيهها إلى حيث تبرز .
و على عكس الرأي السابق يرى الاجتماعيون أن الفرد لا يبدع إلا في وسط اجتماعي تسمح ثقافتنا للشخص بالإبداع فالحاجة الاجتماعية و متطلباتها هي التي اضطرت الإنسان للإبداع و تتقدم هذه الحاجة دائما في شكل (مشكلة اجتماعية) تتطلب حلا مناسبا فإبداع الإنسان للطائرة أو الحافلة أو الآلة الكاتبة كل هذا تقدم في شكل مشاكل اجتماعية خاصة لهذا يقول الفيلسوف الفرنسي ريبو: (مهما كان الإبداع فريد فإنه يحتوي على نصيب اجتماعي)و لهذا فإن إبداع الإنسان للأسلحة ووسائل الدمار و ابتكاراته التكنولوجية و أجهزته العلمية و مختلف وسائل التقنية و مظهر من مظاهر متطلبات الحياة الاجتماعية , إما لدفع الضرر أو جلب المنفعة ونجد دور هذا النافع في اليابان التي كانت مجرد دولة متخلفة قبل الحرب العالمية (01) غير أن الحاجة لإثبات الوجود دفعت بعلمائها إلى البحث و التقصي و بذلك تكون الحاجة أم الاختراع و مما يؤكد ذلك هو أننا نلاحظ أن كل اختراع لا يتم إلا إذا سمح الفكر الاجتماعي به , فاليابان بما توفره من شروط اجتماعية أي من وسائل و تقنيات تفرض على الفرد الياباني أن يبدع في جميع الميادين حتى يبقى هو سيد أوضاعه بالإضافة إلى كل هذا نجد يونغ و إن كان يتفق مع فرويد في القول باللاشعور إلا أنع يعتبره فرديا و جمعيا و اللاشعور الجمعي في رأيه هو مصدر الأعمال الفنية العظيمة و هكذا نلاحظ أن للوسط الاجتماعي تأثير كبير في صور و أساليب الإبداع و أشكاله حيث أن الواقع الاجتماعي و ما فيه من علماء و فلاسفة و جامعات إنما يفرض بواسطة هؤلاء نمطا فكريا على أفراده فلم يكن بإمكان العالم الفيزيائي الإنجليزي ماكسويل مثلا أن يكتشف الأمواج الكهرومغناطيسية و بسرعة انتشارها في القرن العاشر لأن هذا الاكتشاف يقوم على الأبحاث و خصائص و مناهج و نظريات لم تكن موجودة في مجتمعات القرن العاشر و يتضح لنا أن المسائل العلمية يجب أن تتهيأ معها أسباب الاختراع و الإبداع و خاصة منها الاجتماعية التي تعمل على تحريضه وقد تؤد هذه الأسباب إلى تحقيق الإبداع في بلد دون الآخر و في زمان دون غير هو خلاصة القول هو يجب أن يكون لكل إبداع محيط اجتماعي ينبت فيه .
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد بحيث أن رد هذه المدرسة الإبداعية للمجتمع و قيمه أمر ينطوي على مغالاة لأنها تهمل دور العوامل النفسية , وإذا كان الأمر كذلك فكيف نفسر خروج الكثير من المبدعين عما هو سائد من معايير و قيم في مجتمعاتنا ليبدعوا قيم و معايير جديدة يفرضونها على الجماعة , و كذلك نجد تاريخ المبدعين في حقب خلت حافل بالأمثلة الدالة على ما لقيه بعضهم من عنت و إساءة من المجتمع.
إن النظريتين السابقتين اللتان أشرنا لهما تؤكدان أن الإبداع مشروط بشروط نفسية (ميولات) و اجتماعية ( قيم ) تؤثر فيه و توجهه ذلك أن الإبداع ليس مجرد إلهام مفاجئ أو عملية حدسية كشفية أو ظاهرة لا شعورية بل أنه صلة عميقة بالحياة في جوانبها النفسية و الاجتماعية.
و خلاصة القول أن الأهمية لا تكمن في ماهية شروط الإبداع بل في أهميته , بحيث أنه يمثل الطفرة , النوعية للمجتمعات كذلك أن كل إبداع يتوقف على عمل قادر عليه و على حوافز و أعداد قد تستغرق سنوات من الدراسات و البحوث و ما علينا إلا أن نقول في الختام إلا قول القائل: (قد لا يكون لدى المرء أجمل من مخيلة خصبة يمتلكها , و قد لا يكون ثمة أقسى و أكثر إيلاما للفرد من خيال طائش جموح) .
الطريقة :الجدلية الدرس: إشكالية المعرفة
الإشكال:هل المعرفة في أساسها تعود إلى الذهن أم أنها نابعة من الواقع؟
بعد تحليل المعرفة الإنسانية من مختلف النواحي من أبرز المشاكل الفلسفية التي إستقطبت اهتمام الفلاسفة منذ القرن السابع عشر حتى اليوم , و نظرية المعرفة عند الفيلسوف هي رأيه في تفسير المعرفة أيا كانت الحقيقية المعروفة , و قد اختلف الفلاسفة لاختلاف مناهجهم في طريقة حصولنا على هذه المعرفة و التساؤل الذي يطرح نفسه: هل المعرفة ممكنة للإنسان أو مستحيلة و إذا كانت ممكنة هل يعرف الإنسان كل شيء بدون استثناء أم أن قدرته نسبية ؟ أو بعبارة أصح هل المعرفة في أساسها تعود إلى الذهن أم أنها نابعة من الواقع و التجربة؟.
يرى أنصار النظرية المثالية و على رأسها أفلاطون أن هناك عالمين , عالم الحس المحيط بنا, و علم الأشباح و الظلال؛ أما الأول فهو العالم المعقول( العلوي ) و هو الذي ينطوي على المعرفة الحقة, ومنه فهي غير ممكنة إلا فيه , فالتصور الذي لدينا على الخير و العدل و السعادة و الفضيلة لا تمثل حقيقتها , و الوصول إليها أمر مثالي و يرى أفلاطون أيضا أن } النفس قبل أن تحل بالبدن كانت تعلم كل شيء لكنها بحلولها في الجسم نسيت أصلها الذي هو المثل{, و لهذا و ضع برنامج في أكاديميته و غايته أن تتذكر النفس ذاتها , لكنه اشترط على كل من يرغب في هذه المعرفة أن يكون عارفا بالهندسة , أي يملك بعض مبادئ الاستدلال , كما يرى أن النفس لا تستطيع أن تبحث عن المعرفة إلا إذا احترقت حواجز البدن و تحررت من قيوده و هذا لا يتم إلا بالتأمل كما عبر لنا أفلاطون عن هذا قائلا: (إذا كانت النفس التي هبطت إلى هذا العالم قد نسيت علمها القديم , فإن وظيفتها خلال اقترانها بالبدن أن تطلب المعرفة , و من الواجب عن النفس الباحثة عن الحقيقة أن تمزق حجاب البدن أو تنجو من عبوديتها و أن تظهر ذاتها من كدورة المادة بالتأمل فإن الكدورة لا تتفق مع نقاوة الحقيقة ) , و هذا يعني أن معرفة المثل تحصل بالعقل لا بالتجربة الحسية ؛ فإنه لمن التناقض أن يطلب الحقيقة الثابتة بوسائل متغيرة خاصة أن المثل لها طبيعة خالدة حتى و إن كانت الأشياء الخارجية تشترك معها في بعض الجوانب , وقد ذهب على شاكلة هذا الطرح الفيلسوف واركلي حيث يقول: ( إن ما نذكره من الموضوعات هو الذي نستطيع أن نقر بوجوده و نحن لا ندرك إلا تصوراتنا الذهنية فالعقل هو الحقيقة الذي نصنع به وجود الأشياء) و معنى هذا أن المعرفة علنية فكرية خالصة و تتأسس على مبادئ فطرية توجد في بنية العقل الذي تصدر عنه معرفتنا بجميع الأشياء و لا وجود لشيء في غياب عقل لا يدركه .
لقد أثبت علم النفس في مجال دراسته للنمو العقلي للطفل أن هذا الأخير لا يملك أي معرفة فطرية و لا أي أفكار من هذا النوع و كل ما هناك أنه يولد مزودا بخاصية الاكتساب (الاستعداد) الذي من خلاله يكتسب المعرفة و التدرج مع قدراته الذهنية بالإضافة إلى أن العلوم التجريبية أثبتت إمكانية المعرفة عن طريق الحواس و العقل معا فالقانون العلمي حقيقة اختبرت بالتجربة ثم بالتنبؤ و هذا دليل على صحته .
و على عكس الرأي الأول نجد أنصار النظرية الواقعية و التي جاءت لتهدم أساس التصور المثالي للمعرفة فهم يرون بأن مظهر الشيء الخارجي هو حقيقة و هي الحقيقة التي تنطبع في أذهاننا و تنقلب إلى معرفة تامة , إذن معرفتنا للأشياء الخارجية حسب هذه النظرية مباشرة و لا سبيل لتحقيقها إلا الحواس الظاهرة و هذا ما أكد عليه توماس ريد الذي دافع بشدة عن نظرة الإنسان العادي للأشياء أي عن الموقف الطبيعي الذي يعتقد اعتقادا راسخا في وجود الأشياء , و لا يناقش هذا الوجود أصلا , و كذلك نجد من ذهب على شاكلة هذا الطرح و هو جون لوك (1632-1704) الذي يقول: (إن الطفل يولد صفحة بيضاء و لا يوجد في العقل إلا ما مر في الحواس بحيث تنتقل صور المحسوسات و العقل بشكل منها صورا ذهنية) , و يرى دافيد هيوم أن فكرة العلة مكتسبة بفضل العادة فهي انطباع حسي وارد من التجربة فالعلة شيء سابق للآخر و مقترن به فالعقل لا يمكنه إنشاء المعارف بالاعتماد على نفسه و كل الأفكار التي هي لدينا نسخ معنوية و الحقيقة معيارية و في هذا يقول لامبير: (ليس هناك شيء يفوق احساساتنا في عدم قابليته للجدل و هذا يكفي لإثبات أنها مبدأ معارفنا كلها).
إذن المعرفة نجد أساها في الحدوس الحسية التي تتحول إلى معان عامة يستخدمها العقل في عمليات التفكـــــــــير.
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد : بحيث أنه لا يمكننا أن نفكر قدرة العقل في إنشاء المعارف ففي الرياضيات مثلا قفز العقل إلى المجموعات الخالية و اللانهائية في الفلسفة و الموضوعات الميتافيزيقية و كل هذا لا يوجد مقابل له في الواقع ضف إلى ذلك أن الحقيقة ليست نسخة أو مطابقة له بل الفكرة هي إنشاء جديد يقوم به الفكر , ضف أيضا إلى ذلك أن الحواجز عاجزة عن الوصول إلى الخصائص المكونة لجوهر الشيء بدليل أنها تخدعنا حتى في معرفة المظاهر كرؤية السراب … , كذا بعد الأشياء و قربها عن العين (الرؤية) كرؤية الشمس , خدعة البصر مثلا نجدها قريبة جدا لكنها تبعد عنا بملايين الكيلومترات