بدعة إعادة فهم النص - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتاب و السنة

قسم الكتاب و السنة تعرض فيه جميع ما يتعلق بعلوم الوحيين من أصول التفسير و مصطلح الحديث ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

بدعة إعادة فهم النص

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2014-12-29, 17:37   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي بدعة إعادة فهم النص

تمهيد

إنَّ معركةَ تحريف معنى النَّصِّ وتأويله على غير وجهه معركة قديمة، بدأت منذ عصر الصَّحابة رضوان الله عليهم عندما بزغ قرنُ الخوارج الذين أرادوا تفسيرَ النُّصوص الشَّرعيَّة وفهمها فهمًا مغايرًا لفهم أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.


فخرجوا بمقولات عجيبة وآراء شاذَّة غريبة مخالفة لما كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؛ فَكَفَّروا المسلمين بالذَّنب والمعصية، وخرجوا عن جماعتهم، فقاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- على هذا الفهم المحرَّف الجديد والتَّأويل المبتدع لكتاب الله.


ولذلك قال لهم ابنُ عبَّاس- رضي الله عنهما- عندما ناظرهم: «أتيتكم من عند أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومَن عند ابن عمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ»([1]).


وقد أخبرنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن هذه المعركة التي ستقوم بين المحرِّفين للنُّصوص عن معانيها، وبين أصحابه والتَّابعين لهم بإحسان المتمسِّكين بفهمها على المراد الذي أنزله الله تعالى؛ فعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: كنَّا جلوسًا ننتظر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، فقمنا معه، فانقطعت نعله، فتخلَّف عليها عليّ رضي الله عنه يخصفها، فمضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه فقال: «إنَّ منكم مَن يقاتل على تأويل هذا القرآن، كما قاتلت على تنزيله». فاستشرفنا، وفينا أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- فقال: «لا، ولكنَّه خاصف النَّعل». قال: فجئنا نبشِّره، وكأنَّه قد سمعه([2]).


فقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن مجاهدين من أمَّته يقاتلون على تفسير وفهم القرآن والسُّنَّة؛ ليردُّوا الناس إلى الفهم الحقِّ لهما، كما قاتل صلى الله عليه وسلم في بداية الإسلام على إثبات نزول القرآن، وأنَّه من عند الله.


فالمعركة مع أهل التَّحريف والتَّأويل الباطل مستمرَّةٌ لم تتوقَّف على مرِّ العصور والأيام، وفي كلِّ زمان لها دعاتُها وأربابُها.



وفي وقتنا الحاضر يرفع رايةَ التَّحريف فئامٌ من الكتَّاب والمفكِّرين تحت شعارات مختلفة يجمعها المطالَبة بتحريف دين الله، وإعادة فهم الإسلام ليتوافق مع الواقع.



فمرة يرفعون شعار: «تجديد الفكر الإسلامي».
ومرة يدعون لـ: «تجديد الخطاب الديني».


واليوم تراهم يدعون إلى «تعدد القراءات»، ويطالبون بـ «إعادة قراءة النص الشرعي»؛ ليخرجوا لنا بـ «قراءة جديدة للإسلام» تتواكب مع تطوُّرات الحياة ومتغيِّرات العصر كما زعموا.



لقد أدرك أعداءُ هذا الدِّين أنَّ اللهَ تكفَّل بحفظ نصوص الوحيين؛ فهي تُتلَى على مسامع الأمَّة صباحَ مساء؛ ولذلك لم يكن لهم من مدخل يدخلون منه إلَّا تحريف معاني ودلالات النُّصوص الشَّرعيَّة؛ وذلك سيرًا على منهج اليهود الذين قال الله فيهم: }يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ [البقرة: 75].


«ولمَّا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنَّ هذه الأمةَ تتَّبع سننَ من قبلَها حذوَ القذَّة بالقذَّة... وجب أن يكون فيهم مَن يحرِّفُ الكلمَ عن مواضعه؛ فيغيِّر معنى الكتاب والسُّنَّة فيما أخبر الله به، أو أمر به...»([3]).


فها هي معركة تحريف معنى النَّصِّ الشَّرعيِّ وتأويله قائمةٌ في هذا الزَّمن تصديقًا لما أخبر به صلى الله عليه وسلم، ولا يزال الصَّادقون المخلصون من هذه الأمَّة يصدُّون أولئك المحرِّفين ويردُّون عليهم قراءاتهم المحرَّفة؛ لتحقيق موعود الله- جلَّ وعلا- في حفظ الوحي؛ «لفظًا ومعنًى»، والعاقبة للمتقين.


([1]) رواه النسائي في الكبرى (8575) وحسنه الوادعي في صحيح المسند (711).

([2]) رواه أحمد في مسنده (11276)، والنسائي في السنن الكبرى (8541)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/136): «رجاله رجال الصحيح، غير فطر بن خليفة، وهو ثقة»، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2487).

([3]) مجموع الفتاوى (25/130).








 


رد مع اقتباس
قديم 2014-12-29, 17:41   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

أهميَّةُ التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة

وتلقِّيها بالقبول

إنَّ من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين أنَّه لم يجعل أمرَ الطَّريق الموصل إليه ملتبسًا عليهم؛ بل بيَّنَه سبحانه وتعالى أكملَ بيان وأوضحَه: }لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ{ [آل عمران: 164].


وفرض اللهُ- سبحانه وتعالى- على كلِّ مسلم في كلِّ يوم وليلة أن يدعوه مرارًا ليهديَه الصِّراطَ المستقيمَ الذي وصفه بقوله: }صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ{ [الفاتحة: 7]، وهم: }الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ{ [النساء: 69]، وأوَّلُ مَن يدخل في هذا بعد الأنبياء: الصَّحابة ومَن تابَعَهم على فهمهم للكتاب والسُّنَّة.



ولذلك أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتَّمَسُّك بمنهجهم والسَّير على طريقهم؛ فعن العرباض بن سارية- رضي الله عنه- قال: وَعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إنَّ هذه موعظةُ مودِّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله والسَّمع والطَّاعة؛ وإن تأمَّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ، وإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عضّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدَثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ»([1]).


ومن لطائف الفوائد في هذا الحديث: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر سنَّتَه وسنةَ الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين قال: «عضوا عليها بالنواجذ». ولم يقل: «عضوا عليهما». للدِّلالة على أنَّ سنَّتَه وسنَّةَ الخلفاء الرَّاشدين منهجٌ واحد وطريق واحد؛ فلا يكون الأخذُ بسنَّته على الوجه المطلوب إلَّا بالتَّمَسُّك بما جاء به من القرآن والسُّنَّة بفهم صحابته رضي الله عنهم.


فالقرآنُ الكريمُ والسُّنَّةُ الصَّحيحةُ هما المصدرُ الأساسُ للأحكام الشَّرعيَّة؛ فلا مصدرَ للأحكام الشَّرعيَّة ولا أساسَ لها إلا الوحي، وهو نوعان: القرآن والسُّنَّة.


فأمَّا القرآنُ فهو: كلامُ الله في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، محفوظٌ من الخطأ والزَّلل والزِّيادة والنَّقص، تنزيل من حكيم حميد.


وهو حبلُ الله المتين وصراطُه المستقيم، أنزله على رسوله هدايةً للعالمين: }كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ{ [إبراهيم: 1].


وجعله حَكَمًا بين الناس: }وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ{ [البقرة: 213]، }أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا{ [الأنعام: 114]؛ أي: موضَّحًا فيه الحلال والحرام، والأحكام الشرعية، وأصول الدِّين وفروعه الذي لا بيان فوق بيانه، ولا برهان أجلى من برهانه، ولا أحسن منه حكمًا، ولا أقوم قيلاً ([2]).


وأمَّا السُّنَّة فهي: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل ذلك فعله وإقراره؛ فكلُّها وحيٌ يلزم ويتَّبع؛ قال تعالى: }مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{ [النجم: 2-4]؛ فهو صلى الله عليه وسلم راشدٌ غيرُ ضالّ، مهتد غير غاو، لا يقول إلا صدقًا، ولا يفعل إلا حقًّا، ولا يقرِّر إلا عدلاً.


وسنَّتُه هي الحكمةُ التي أنزلها الله عليه: }وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا{ [النساء: 113].


قال الشَّافعيُّ- رحمه الله: «فذكر الله الكتابَ وهو القرآن، وذكر الحكمةَ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ سنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم»([3]).


وإنَّما أنزل اللهُ هذه الحكمةَ تبيانًا للقرآن الكريم؛ قال تعالى: }وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{ [النحل: 44].


وقد قام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بدوره في تبليغ القرآن وبيانه على أحسن وجه؛ فالقرآن الكريم كلامُه سبحانه وتعالى، والسُّنَّةُ النَّبويَّةُ بيانُه ووحيُه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد مضى عصرُ السَّلَف الصَّالح وهم لا يفرِّقون من حيث التَّطبيق والتَّنفيذ والسَّمع والطَّاعة بين حكم شرعيٍّ نزل به القرآن أو جاءت به سنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ملتزمين أمرَ الرَّبِّ جلَّ وعلا: }وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا{ [الحشر: 7]؛ مجانبين نهيَه صلى الله عليه وسلم عن التَّفريق بين الكتاب والسُّنَّة في أصل الاحتجاج حين قال: «ألا هل عسى رجل يَبْلُغُه الحديثُ عنِّي وهو متَّكئٌ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله؛ فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمْناه، وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما حرَّم الله»([4]).


وعلى هذا النَّهج سارت الأمَّةُ طيلةَ القرون الثَّلاثة الفاضلة، وهي تقدِّم النَّصَّ بنوعيه وتقدِّسُه، وتعمل بهديه ولا تعدل عنه، وتسلِّم له تسليمًا تامًّا.


والتسليم للنصوص الشرعية بالرضا والقبول من أصول الإسلام، وأساسيات هذا الدين التي لا يقوم ولا يتم إلا بها؛ فالإسلام هو الاستسلامُ لله والانقيادُ له ظاهرًا وباطنًا؛ وهو الخضوعُ له والعبوديَّةُ له([5])، قال أهل اللغة: أسلم الرجل، إذا استسلم ([6]).


فالتسليم هو: خضوع القلب، وانقياده لما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والاستسلام للنُّصوص من أجل مقامات الإيمان ... وهو محض الصِّدِّيقيَّة التي هي بعدَ درجة النُّبُوَّة، وأكمل النَّاس تسليمًا أكملُهم صدِّيقيَّةً ([7]).


ولا أحد أحسنُ دينًا، ولا أصوبُ طريقًا، ولا أهدى سبيلاً ممَّن أسلم وجهَه لله تعالى فانقاد له بالطَّاعة التَّامَّة؛ }وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ{ [النساء: 125]؛ فهذه حالُ المؤمن: «كمالُ التَّسليم والانقياد لأمره، وتلقِّي خبره بالقبول والتَّصديق دون أن يحملَه معارضةُ خيال باطل يسمِّيه معقولاً، أو يحمِّله شبهةً، أو شكًّا، أو يُقدِّم عليه آراءَ الرِّجال وزبالات أذهانهم»([8]).


قال الزُّهريُّ رحمه الله: «من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التَّسليم»([9])، «ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التَّسليم والاستسلام»([10])؛ فالوحيُ الإلهيُّ «لا سبيلَ إلى مقابلته إلَّا بالسَّمع والطَّاعة والإذعان والقبول؛ وليس لنا بعدَه الخيرةُ، وكلُّ الخيرة في التَّسليم له والقول به، ولو خالفه مَن بَين المشرق والمغرب»([11])؛ قال- تعالى: }وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا{ [الأحزاب: 36]؛ فلا ينبغي ولا يليق ممَّن اتَّصَفَ بالإيمان إلَّا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سَخَط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما.


ولا يليق بمؤمن ولا مؤمنة }إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا{ من الأمور وألزما به }أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ{ أي: الخيار؛ هل يفعلونه أو لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسه؛ فلا يجعل بعضَ أهواء نفسه حجابًا بينَه وبين أمر الله ورسوله.



وقد أقسم- تعالى- بذاته المقدَّسة أنَّه لا يثبت لأحد إيمان، ولا يكون من أهله، حتى يُحكِّمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور: }فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{ [النساء: 65].


فلا يصحُّ إيمان أحد حتى يُحَكَِّمَ النُّصوصَ في جميع أموره، وينقاد لها في الظَّاهر والباطن، ويسلِّم تسليمًا كلِّيًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ([12])؛ قال الشَّوكانيُّ- رحمه الله: «وفي هذا الوعيد الشَّديد ما تقشعرُّ له الجلودُ، وترجف له الأفئدةُ؛ فإنَّه أوَّلاً أقسم- سبحانه- بنفسه مؤكِّدًا لهذا القسم بحرف النفي بأنَّهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان حتى يحصل لهم تحكيمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.


ثمَّ لم يكتف- سبحانه- بذلك حتى قال: }ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ{؛ فضمَّ إلى التَّحكيم أمرًا آخر؛ وهو عدمُ وجود حرج في صدورهم؛ فلا يكون مجرَّد التَّحكيم والإذعان كافيًا حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانشراح قلب وطيب نفس، ثمَّ لم يكتف بهذا كلِّه؛ بل ضَمَّ إليه قولَه: }وَيُسَلِّمُوا{؛ أي: يذعنوا، وينقادوا ظاهرًا وباطنًا.


ثمَّ لم يكتف بذلك؛ بل ضَمَّ إليه المصدرَ المؤكِّد، فقال: }تَسْلِيمًا{؛ فلا يَثْبُتُ الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التَّحكيم، ولا يجد الحرجَ في صدره بما قُضي عليه، ويسلِّم لحكم الله وشرعه تسليمًا لا يخالطُه ردٌّ، ولا تشويه مخالفة»([13]).


والتَّسليمُ بما دلَّت عليه النُّصوص هو الفرقان بين أهل الحقِّ وأهل الباطل؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله: «جماع الفرقان بين الحقِّ والباطل والهدى والضَّلال والرَّشاد والغيّ وطريق الشقاوة والهلاك: أن يجعل ما بعث الله به رسلَه وأنزل به كتبَه هو الحقُّ الذي يجب اتِّباعُه؛ وبه يَحصلُ الفرقانُ والهدى، والعلم والإيمان؛ فيُصَدَّق بأنَّه حقٌّ وصدقٌ، وما سواه من كلام سائر الناس يُعْرَضُ عليه؛ فإن وافقَه فهو حقٌّ، وإن خالفَه فهو باطلٌ»([14]).


والتَّسليمُ لنصوص الكتاب والسُّنَّة هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله؛ فإنَّ الشَّهادةَ لله بالوحدانية الموجبة لإفراده بالعبودية مبناها على التَّسليم التَّامِّ له في أمره ونهيه وخبره، وعدم المعارضة وإيراد الأسئلة }لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ{ [الأنبياء: 23]، ومقتَضَى الشَّهادة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالرِّسالة تصديقُه فيما أخبر، وطاعتُه فيما أمر، والانتهاءُ عمَّا عنه نهى وزجر، وألَّا يُعبدَ اللهُ إلَّا بما شرَّع.




([1]) رواه الترمذي (2600) وأبو داود (3991) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4314).

([2]) تفسير السعدي (270).

([3]) الرسالة (78).

([4]) رواه الترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وصححه الألباني (2657).

([5]) وفي المقابل يقول محمد أركون: «اعتادوا على ترجمة كلمة إسلام إلى الفرنسية بمعنى: الخضوع، أي الخضوع لله، أو حتى الاستسلام، ولكن هذا المعنى الأخير ليس صحيحًا أبدًا؛ فالمؤمن ليس مستسلمًا أمامَ الله؛ وإنَّما هو يَشعر بلهفة الحبِّ نحو الله، وبحركة الانتماء إلى ما يقترحه عليه الله ....» الفكر الإسلامي نقد واجتهاد (53). وقصده إزالةُ معنى الإلزام من كلمة الإسلام.

([6]) مجموع الفتاوى (7/263، 362) بتصرف.

([7]) مدارج السالكين (2/148).

([8]) مدارج السالكين (2/387).

([9]) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (6/2737)، ووصله الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/111)، ينظر: تغليق التعليق (5/366).

([10]) العقيدة الطحاوية (201).

([11]) الروح لابن القيم (136).

([12]) تفسير ابن كثير (2/349).

([13]) فتح القدير (1/484).

([14]) مجموع الفتاوى (13/135).









رد مع اقتباس
قديم 2014-12-29, 18:25   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة عند السَّلف الصَّالح


لقد ضرب الصَّحابةُ- رضي الله عنهم- أروعَ الأمثلة في التَّسليم والإجلال للنُّصوص الشَّرعيَّة، وفي ذلك نماذج كثيرة تربو عن الحصر، ومنها:



لمَّا نَزَلَ تحريمُ الخمر، وقرأ عليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الآيات في ذلك، وبلغ قولَه تعالى: }فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ{ [المائدة: 91]، قال عمر- رضي الله عنه: «انتهينا انتهينا»([1]).


ثم نادى المنادي في المدينة: ألا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمت. فسارع النَّاسُ إلى جرَّار الخمر في بيوتهم فكسروها، حتى جُرَّت في سكك المدينة ([2])؛ قال أنس- رضي الله عنه: «فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرَّجل»([3])، ولمَّا نزلت آيةُ الحجاب: }وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ{ [النور: 31] شَقَقْنَ نساء الأنصار والمهاجرات مروطَهنَّ ([4]) فاختمرنَ بها ([5]).


ولما أُخبر الصَّحابة- رضي الله عنهم- بتحوُّل القبلة نحو الكعبة «وكانت وجوهُهم إلى الشَّام، استداروا إلى الكعبة»([6]) مباشرةً وهم في الصَّلاة.


ولما خلع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نعلَيْه في الصَّلاة خَلَعَ الصَّحابةُ- رضي الله عنهم- نعالَهم اتِّباعًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ([7]).


وعندما رأى خاتم الذَّهب في يد رجل أخذه منه وألقاه، ولما ذهب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قيل له: خذْ خاتَمَك انتفع به. قال: «لا والله، لا آخذه أبدًا، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم»([8]).


ولما حلف أبو بكر- رضي الله عنه- أن لا يُنفق على مسطح بن أثاثة- رضي الله عنه؛ لكلامه في ابنته عائشة- رضي الله عنها- في حادثة الإفك أنزل الله تعالى: }وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{ [النور: 22]؛ فقال أبو بكر- رضي الله عنه: «والله لا أنزعها منه أبدًا»([9]).


ولما زوَّج معقل بن يسار- رضي الله عنه- أختَه لرجل من الصَّحابة فطلَّقها ثمَّ ندم وجاء يخطبها، حلف أن لا يرجعها إليه، فأنزل الله: }وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ{ [البقرة: 232]؛ فلما سمعها معقل- رضي الله عنه- قال: سمعًا لربِّي وطاعة. ثم دعاه فقال: أزوِّجُك وأُكْرمُك ([10]).


ولما أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المغيرةَ- رضي الله عنه- أن ينظر إلى المرأة التي خطبها، تَرَدَّدَ أهلُها في الأمر وكرهوا ذلك، فسمعت ذلك المرأةُ وهي في خدْرها، فقالت: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فإنِّي أنشدك»؛ أي: أسألك بالله أن لا تنظر إليَّ([11]).


ولما طلب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من أهل بيت من الأنصار أن يزوِّجوا ابنتَهم من جُلَيْبيب- رضي الله عنه- تردَّدَ أهلُها في تزويجه، فقالت الفتاة: «أتريدون أن تردُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه»([12]).


ولما كان عبدُ الله بن رواحة- رضي الله عنه- ذاهبًا إلى المسجد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب: اجلسوا. فجلس مكانه خارجَ المسجد حتى فرغ من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «زادك الله حرصًا على طواعية الله وطواعية رسوله»([13]).


وعن جابر- رضي الله عنهما- قال: لما استوى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعة على المنبر قال: «اجلسوا»، فسمع ابن مسعود فجلس على باب المسجد فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «تعالى يا عبد الله بن مسعود»([14]).


وسعد بن عبادة- رضي الله عنه- لما بلغه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير دور الأنصار: بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير». وجد في نفسه وقال: خلفنا. فكنَّا آخرَ الأربع، أسرجوا لي حماري آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.


فكلَّمه ابنُ أخيه سهل فقال: أتذهب لتردَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم، أوليس حسبك أن تكون رابعَ أربع؟! فرجع وقال: الله ورسوله أعلم. وأمر بحماره فحلَّ عنه ([15]).


وعليُّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- يمسح ظاهرَ خُفَّيْه ويقول: «لو كان الدِّينُ بالرَّأي لكان أسفلُ الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خُفَّيْه»([16]).


ورافعُ بن خديج- رضي الله عنه- يقول: «كنَّا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكريها بالثُّلُث والرُّبع والطّعام المسمّى، فجاءنا ذات يوم رجلٌ من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا ([17])، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا»([18]).


ولما أساء أحدُهم القولَ مع عمر- رضي الله عنه- وهَمَّ أن يبطشَ به، ذكَّرَه أحدُهم بقوله تعالى: }خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{ [الأعراف: 199].


قال ابنُ عبَّاس- رضي الله عنهما: «والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله»([19]).


وسكبت جاريةٌ لعليّ بن الحسين– رحمه الله– عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها على وجهه، فشجَّه، فرفع رأسَه إليها، فقالت: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: }وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ{.
قال: قد كظمت غيظي.
قالت: }وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ{ قال: قد عفوت عنك.
قالت: }وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{ قال: اذهبي فأنت حرة ([20]).
وقد التزم سلفُ هذه الأمَّة هذا المنهج الذي كان عليه الصَّحابة؛ فكانت حالُهم قائمةً على التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة وتلقِّيها بكامل الرِّضا؛ «فكان من الأصول المتَّفَق عليها بين الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسان أنَّه لا يقبل من أحد قطّ أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده»([21]).
بل كانوا يسارعون لتطبيق النَّصِّ الشَّرعيِّ من غير تردُّد ولا شكٍّ.
عن أبي المصبح المقرائيّ قال: بينما نحن نسير بأرض الرُّوم في طائفة عليها مالك بن عبد الله الخثعميّ، إذ مرَّ مالك بجابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- وهو يقود بغلاً له.
فقال له مالك: أي أبا عبد الله، اركب؛ فقد حملك الله.
فقال جابر- رضي الله عنه: أُصلح دابَّتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه اللهُ على النَّار».


فسار حتى إذا كان حيث لم يسمعه الصَّوتُ نادى بأعلى صوته: يا أبا عبد الله! اركب فقد حملك الله.


فعرف جابر الذي يريد، فقال: أُصلح دابَّتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمَه اللهُ على النَّار».


فتواثب النَّاس عن دوابِّهم، فما رأيت يومًا أكثر ماشيًا منه ([22]).
ومن قال منهم قولاً يخالف النَّصَّ الشَّرعيَّ رجع عنه بمجرَّد أن يبلغَه.
قال عبد الواحد بن زياد: لقيتُ زُفَرَ بن الهذيل- رحمه الله([23])- فقلت له: صرتم حديثًا في الناس وضُحْكةً.
قال: وما ذاك؟
قلت: تقولون: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»، ثم جئتم إلى أعظم الحدود، فقلتم: تقام بالشبهات.
قال: وما هو؟
قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُقتل مسلمٌ بكافر»([24]) فقلتم: يقتل به– يعني بالذِّمِّيِّ.
قال: فإنِّي أشهدك السَّاعةَ أنِّي قد رجعت عنه.
قال الذهبي- رحمه الله: هكذا يكون العالم وقَّافًا مع النص ([25]).


وحتى من قلَّ علمُه من السَّلَف كان إيمانُه وتصديقُه بالنَّصِّ الشَّرعيِّ عظيمًا.


قال أبو إسحاق الحبَّال- رحمه الله: كنَّا يومًا نقرأ على شيخ، فقرأنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنَّة قتَّات»([26]).


وكان في الجماعة رجل يبيع القتَّ– وهو علف الدَّوابِّ– فقام وبكى، وقال: أتوب إلى الله من بيع القتّ.


فقيل له: ليس هو الذي يبيع القت؛ لكنَّه النَّمَّامُ الذي يَنقل الحديثَ من قوم إلى قوم.


فسكن بكاؤه، وطابت نفسه([27]).
قال ابنُ القَيِّم- رحمه الله: «وقد كان السَّلفُ يَشتدُّ عليهم معارضةُ النُّصوص بآراء الرِّجال، ولا يُقرُّون ذلك»([28]).


عن أبي قتادة قال: كنَّا عند عمران بن حصين- رضي الله عنه- في رهط منَّا، وفينا بشير بن كعب، فحدَّثنا عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء خيرٌ كلُّه».
فقال بشير بن كعب: إنَّا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أنَّ منه سكينةً ووقارًا لله، ومنه ضعفاً!
فغضب عمران حتى احمرَّتا عيناه، وقال: ألا أراني أحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتُعارض فيه ([29])؟!
قال: فأعاد عمران الحديثَ؛ قال: فأعاد بشير، فغضب عمران.
فما زلنا نقول فيه: إنَّه منَّا يا أبا نُجيد، إنه لا بأس به([30]).
وعن أبي المخارق قال: ذكر عبادة بن الصَّامت- رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن درهمين بدرهم.
فقال فلان: ما أرى بهذا بأسًا يدًا بيد.
فقال عبادة: أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول لا أرى به بأسًا، والله لا يظلني وإياك سقف أبدًا ([31]).


ولما ذكر ابنُ المبارك- رحمه الله- حديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ...»([32])، قال قائل: ما هذا؟ على معنى الإنكار.


فغضب ابنُ المبارك- رحمه الله- وقال: يمنعنا هؤلاء أن نحدِّثَ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلَّما جهلنا معنى حديث تركناه! لا؛ بل نرويه كما سمعنا، ونُلزم الجهل أنفسنا ([33]).


قال أبو معاوية محمد بن خازم: كنتُ أقرأ حديثَ الأعمش عن أبي صالح على أمير المؤمنين هارون الرَّشيد.
فكلَّما قلت: قال رسول الله، قال هارون: صلى الله على سيدي ومولاي.
حتى ذكرتُ حديث: «التقى آدم وموسى...([34])».


فقال عمُّ هارون الرَّشيد: أين التقيا يا أبا معاوية؟!
فغضب الرَّشيدُ من ذلك غضبًا شديدًا، وقال: أتعترض على الحديث، عليَّ بالنَّطع والسَّيف. فأحضر ذلك.
فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرَّشيد: هذه زندقة. ثم أمر بسجنه، وأقسم أن لا يخرج حتى يخبره من ألقى إليه هذا.
فأقسم عمُّه بالأيمان المغلَّظة ما قال هذا له أحد؛ وإنَّما كانت هذه الكلمة بادرةً منِّي، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها، فأطلقه([35]).


قال أبو إسماعيل الصَّابونيُّ- رحمه الله- معلِّقًا على هذه القصَّة: «هكذا ينبغي للمرء أن يعظِّمَ أخبارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبول والتَّسليم والتَّصديق، وينكر أشدَّ الإنكار على مَن يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرَّشيد- رحمه الله- مع مَن اعترض على الخبر الصَّحيح الذي سمعه بـ (كيف) على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم»([36]).


ونظر سعيد بن المسيب رحمه الله إلى رجل صلى بعد النداء من صلاة الصبح فأكثر الصلاة، فحصبه ثم قال: إذا لم يكن أحدكم يعلم فليسأل؛ إنَّه لا صلاةَ بعد النِّداء إلا ركعتين، فانصرَفَ، فقال: يا أبا محمد، أتخشى أن يعذِّبَني اللهُ بكثرة الصَّلاة؟
قال: بل أخشى أن يعذِّبَك اللهُ بترك السُّنَّة ([37]).


ومثله ما جاء عن الإمام مالك بن أنس- رحمه الله- أنَّ رجلاً جاءه فقال: من أين أُحْرم؟
قال: من حيث أَحرمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن زدتُ على ذلك.
قال: فلا تفعل؛ فإنِّي أخاف عليك الفتنة.
قال: وما في هذه من الفتنة؟! إنَّما هي أميال أزيدها.
قال: فإنَّ الله تعالى يقول: }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ [النور: 63]، وأيُّ فتنة أعظم من أن ترى أنَّ اختيارَك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله ([38]).
ومن التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة أن لا يتقدَّم الإنسانُ على المشرِّع برأيه؛ كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ [الحجرات: 1]؛ فلا يتقدَّم بين يديه بأمر، ولا نهي، ولا إذن، ولا تصرف، حتى يأمر هو، وينهى، ويأذن.


وهذا باق إلى يوم القيامة لم يُنسَخ؛ فالتَّقدُّمُ بين يدي سنته بعد وفاته كالتَّقدُّم بين يديه في حياته، ولا فرقَ بينهما عند كلِّ ذي عقل سليم.


قال أبو عبيدة- رحمه الله: تقول العرب: لا تقدِّم بين يدي الإمام، وبين يدي الأب. أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه.
وقال غيرُه: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى.
فإذا كان رفعُ الأصوات فوقَ صوته سببًا لحبوط الأعمال، فما الظَّنُّ برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنَّته وما جاء به ([39]).
وهذه حالُ السَّلَف؛ «فالسُّنَّةُ أجلُّ في صدورهم من أن يقدِّموا عليها رأياً فقهيًا، أو بحثًا جدليًّا، أو خيالاً صوفيًّا، أو تناقضًا كلاميًّا، أو قياسًا فلسفيًّا، أو حكمًا سياسيًّا؛ فمَن قَدَّمَ عليها شيئًا من ذلك فبابُ الصَّواب عليه مسدودٌ؛ وهو عن طريق الرَّشاد مصدودٌ»([40])، قال البخاريُّ- رحمه الله: سمعت الحميديَّ يقول: كنَّا عند الشَّافعيِّ، فأتاه رجل فسأله عن مسألة.
فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا.
فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟!
فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! ترى على وسطي زنارا؟! أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟!([41]).
وقال الرَّبيعُ بنُ سليمان- رحمه الله: سأل رجلٌ الشَّافعيَّ عن مسألة، فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فقال له السَّائلُ: يا أبا عبد الله تقول به؟
فرأيت الشَّافعيَّ أرعد وانتفض، فقال: «يا هذا، أي أرض تقلُّني، وأي سماء تظلُّني، إذا رويتُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به؟ نعم على السّمع والبصر، نعم على السَّمع والبصر»([42]).


والتَّسليمُ عند السَّلف تسليمٌ تامٌّ للوحي؛ }وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا{ [آل عمران: 7]؛ فهم يسلِّمون بكلِّ ما جاء عن الله تعالى وما صحَّ عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كحال أهل الكتاب ومن شابَهَهم من أهل الأهواء.

([1]) رواه أحمد (1/53) وأبو داود (3670) والترمذي (3049) قال ابن حجر في الفتح: وصحَّحَه عليّ بن المدينيّ والتِّرمذيّ (8/279).

([2]) رواه البخاري (4620).

([3]) رواه مسلم (1980).

([4]) المرط: كساء من صوف، لسان العرب (7/399) مادة: مرط.

([5]) رواه البخاري (372)، وينظر: فتح الباري (8/490).

([6]) رواه البخاري (403) ومسلم (526).

([7]) رواه أحمد (3/20) وصححه الألباني في الإرواء (1/314).

([8]) رواه مسلم (2090)، وقال النَّوويُّ: (فيه المبالغة في امتثال أمر رسول الله r واجتناب نهيه وعدم التَّرَخُّص فيه بالتَّأويلات الضَّعيفة). شرح صحيح مسلم (14/65).

([9]) رواه البخاري (4750).

([10]) رواه الترمذي (2328)، ينظر فتح الباري (9/187).

([11]) لسان العرب (3/421) مادة: نشد، رواه ابن ماجه (1866) وصححه الألباني في غاية المرام (1/142).

([12]) رواه أحمد (3/136) وابن حبان (9/365) وإسناده صحيح.

([13]) رواه البيهقي في دلائل النبوة بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/84)، ولكنه مرسل.

([14]) رواه البيهقي (3/206)، والحاكم (1/420) وصححه، ووافقه الذهبي.

([15]) رواه مسلم (2511).

([16]) رواه أبو داود (162) وصححه الألباني في الإرواء (1/140).

([17]) الذي نهاهم عنه النبي r هو المزارعة التي لا يكون الربح فيها محددًا بالنسبة وإنما بالتعيين كأن يقول: لك الجانب الشرقي من الأرض، ولي الجانب الغربي، فهذا لا يجوز؛ لأنه قد يسلم هذا ويهلك ذاك أو العكس.

([18]) رواه مسلم (1548).

([19]) رواه البخاري (4642).

([20]) تاريخ دمشق (41/387).

([21]) مجموع الفتاوى (13/28).

([22]) رواه ابن حبان (4604)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2/43).

([23]) من أصحاب أبي حنيفة.

([24]) رواه البخاري (3047).

([25]) سير أعلام النبلاء (8/40).

([26]) رواه البخاري (6056)، ومسلم (105).

([27]) سير أعلام النبلاء (18/499).

([28]) مختصر الصواعق المرسلة (3/1062).

([29]) تأتي بكلام في مقابلته وتعترض بما يخالفه.

([30]) صحيح مسلم (37)، قوله: (إنه لا بأس به) معناه ليس هو ممن يتهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة.

([31]) رواه الدارمي (443).

([32]) رواه البخاري (2475).

([33]) تعظيم قدر الصلاة (1/504).

([34]) رواه البخاري (4736).

([35]) سير أعلام النبلاء (9/288).

([36]) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (117).

([37]) الفقيه والمتفقه (1/214).

([38]) الباعث في إنكار البدع (22).

([39]) مدارج السالكين (2/389).

([40]) حادي الأرواح (8).

([41]) تاريخ دمشق (51/287)، أحاديث في ذم الكلام وأهله (2/13).

([42]) الفقيه والمتفقه (1/218)، حلية الأولياء (9/601).









رد مع اقتباس
قديم 2014-12-29, 18:30   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

موقف المعادين للنُّصوص الشَّرعيَّة

تلك نماذج من حال السَّلف في السَّمع والطَّاعة والتَّسليم والقبول والخضوع والإذعان للوحي، فما هي يا ترى حالُ خصومهم؛ وخصوصًا هؤلاء المتأخِّرين؟
الجواب: أنَّهم على مرتبتين:


الأولى: [الجاحدون] لنصوص الوحي من الكتاب والسُّنَّة؛ وهم ثلاثة أصناف؛ صنف ردَّ النَّصَّ الشَّرعيَّ جملةً وتفصيلاً، وصنف رَدَّ ما خالف عقولَهم منها، وصنف ردَّ ما عارض بعض العلوم والتَّجارب والعلم الحديث بزعمهم.
فإن أعجزهم ذلك شكَّكوا في صحَّة ما خالف أهواءهم منها.


الثَّانية: المتسترون تحت ستار [تأويل الوحي] وتحريف معانيه لما يتخوَّفون من حمية الناس لدينهم.
والمرتبة الأولى تقوم على تكذيب [لفظ النَّصِّ] من أساسه.
أما المرتبة الثانية– وهي الأخطر– فهي تكذيب [معنى النَّصّ] الذي هو مرادُ الله ورسوله منه.


وأصحاب هاتين المرتبتين في الحقيقة يستهدفون أصلَ الدِّين الذي هو [الانقيادُ والاستسلامُ لله ورسوله] بالمقاومة والمعارضة؛ فالجحدُ فيه عناد وعدم انقياد لـ [لفظ النَّصِّ]، والتَّأويل فيه عناد وعدم انقياد لـ [معنى النص].
والانقياد والاستسلام هو أصل الدِّين كلِّه؛ فحقيقتُه الانقيادُ التَّامُّ للفظ نصًّا ومعنى.
ومن تأمَّل تاريخَ البدع والانحرافات علم أنَّ أكثرَ ضَلال المنتسبين للإسلام لم يأت من جحد الوحي؛ وإنَّما من تأويل معانيه على غير مراد الله ورسوله؛ وهذه طريقةُ كثير من أهل الأهواء؛ كلَّما أعيتهم الحيل في ردِّ النُّصوص لجؤوا إلى التَّأويل الذي حقيقتُه تحريفٌ وتلاعبٌ بالنُّصوص.


وتحريفُ معاني النُّصوص مع إبقاء اللَّفظ على ما هو عليه من سُنَن اليهود الذين وَصَفَهم الله بقوله: }يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ [البقرة: 75].


«ولما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنَّ هذه الأمَّةَ تتبع سَنَنَ مَن قبلها حذوَ القَذَّة بالقَذَّة ... وجب أن يكون فيهم مَن يُحرِّفُ الكَلمَ عن مواضعه؛ فَيُغيِّر معنى الكتاب والسُّنَّة فيما أخبر اللهُ به، أو أمر به ...»([1]).


وهذا المسلكُ من المزالق العظيمة التي انحرف بسببها كثيرٌ من النَّاس.
قال ابنُ القيِّم- رحمه الله:



هذا وأصل بلية الإسلام من




تأويل ذي التحريف والبطلان





وقد لَخَّصَ ابنُ برهان مفاسدَ التَّأويل الفاسد بقوله: «ولم يَزلَّ الزَّالُ إلَّا بالتَّأويل الفاسد»([2]).
وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلَّا بالتَّأويل؟
وهل وقعت في الأمَّة فتنةٌ كبيرةٌ أو صغيرةٌ إلَّا بالتَّأويل؟
وهل أُريقت دماءُ المسلمين في الفتن إلَّا بالتَّأويل؟([3]).
فبابُ التَّأويل بابٌ عريضٌ دخل منه الزَّنادقةُ لهدم الإسلام؛ فحرَّفوا النُّصوصَ وصرفوها عن ظواهرها، وحمَّلوها من المعاني ما يشتهون.


قال بشر المريسيّ: «ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن، فَأَقرُّوا به في الظَّاهر، ثم صرِّفوه بالتَّأويل»([4]).


قال ابنُ أبي العزّ الحنفيّ- رحمه الله: «وبهذا تَسَلَّطَ المحرِّفون على النُّصوص، وقالوا: نحن نتأوَّلُ ما يُخالف قولَنا. فسمَّوا التَّحريفَ تأويلاً؛ تزيينًا له وزخرفةً؛ ليُقْبَلَ...»([5]).


ولقد عرف المسلمون خلال التاريخ فرقًا وأفرادًا سلكوا مسلكَ تحريف النُّصوص عن معناها، وتأويلها تأويلاً يتوافق مع أفكارهم المنحرفة؛ كالمعتزلة والخوارج والفرق الباطنيَّة وبعض المتصوِّفة؛ فما تركوا شيئًا من أمر الدِّين إلا أوَّلوه([6])، ولولا حماية الله ورعايته لهذا الدِّين لدَرَسَتْ معالمُه وضاعت حدودُه.


لقد أَوَّلَ الضَّالُّون الواجبات فصرفوها عن وجهها، وهوَّنوا على أتباعهم رميَها وراء ظهورهم؛ وأوَّلوا المحرَّمات تأويلاً جرَّأَ العصاةَ على ارتكابها والولوغ فيها، وأَوَّلُوا نصوصَ عذاب القبر ونعيمه، والسَّاعة وأهوالها، والمعاد، والحشر، والميزان، والجنة والنار؛ بحيث فَقَدت النُّصوصُ تأثيرَها في نفوس العباد.


وأَوَّلوا نصوصَ الصِّفات تأويلاً أضعف صلةَ العباد بربِّهم، وأفقد النُّصوصَ هَيْبَتَها؛ إذ جَعَلَها لعبةً في أيدي المؤوِّلين، يجتهدون ليلَهم ونهارَهم في صرفها عن وجهها بشتَّى أنواع التَّأويل»([7]).


ومن الأمثلة على الانحرافات في فهم النُّصوص عند بعض المتقدِّمين([8]):



مانعو الزَّكاة:الذين زعموا أنَّ قولَه تعالى: }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ [التوبة: 103] يدل على أنَّ الزَّكاةَ تُدْفَعُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقط، فإذا مات فلا زكاة.
ولذلك قاتلهم الصِّدِّيقُ- رضي الله عنه- على منعها.


والقرامطة الباطنية:



فسَّروا الصَّلاةَ: بصلة الدَّاعي إلى دار السلام.
والزكاة: بإيصال الحكمة إلى المستحق.
والصيام: بكتمان أسرارهم.
والحج: بالسفر إلى شيوخهم.
والجنة: بالتَّمَتُّع في الدُّنيا باللَّذَّات، والنَّار: بالتزام الشَّرائع والدُّخول تحت أثقالها.
وباطنية الفلاسفة فسَّروا الملائكة والشَّياطين: بقوى النَّفس الطَّيِّبة والخبيثة.
وأنَّ نصوص المعاد والبرزخ والجنة والنار أمثال مضروبة لتفهيم العوامّ، ولا حقيقةَ لها عندهم.
والمعتزلةُ: فسَّروا قولَه تعالى: }وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا{ [النساء: 164] أي: جرحه بأظفار المحن ومخالب الفتن ([9]).


وبعضُ غلاة الصُّوفيَّة فسَّروا قولَه تعالى: }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{ [الحجر: 99]؛ أي: حتى تبلغَ درجةً معيَّنةً في الاقتراب منه، فإذا وصلتها فقد ارتفع عنك التَّكليف.


وأن معنى قوله: }وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ{ [الغاشية: 18]: إلى الأرواح كيف جالت في الغيوب، }وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ{ [الغاشية: 91] أشار الله تعالى إلى قلوب العارفين كيف أطاقت حملَ المعرفة ([10]).


ولما سُئل بعضُهم عن الحجَّة في الرَّقص؟ قال: }إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا{ [الزلزلة: 1]([11]).


وفسَّرَ بعضُ الغلاة البقرةَ المطلوبةَ للذَّبح في قوله تعالى: }وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً{ [البقرة: 67] بأنَّها عائشة أمُّ المؤمنين- رضي الله عنها.


وأنَّ المقصودَ بقوله: }مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ{ [الرحمن: 19] علي وفاطمة، }يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ{ [الرحمن: 22] الحسن والحسين.
والشجرة الملعونة في القرآن: بنو أمية.



وفسر بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه لا نَبيَّ بعدي»([12]) بأنَّه تبشيرٌ بنبيٍّ سيأتي بعدَه اسمُه (لا)!!


وقال بعضُهم: إنَّ حديثَ: «مَنْ بَدَّلَ دينَه فاقتلوه»([13])، يَدْخُلُ فيه: مَن انتقل من اليهوديَّة أو النَّصرانية إلى الإسلام؛ وأنه يجب قتلُه!!
فظاهرةُ تحريف معاني النُّصوص الشَّرعيَّة لم تنقطع عبرَ الزَّمَن، ولا تزال مستمرَّةً حتى وقتنا الحاضر.



([1]) مجموع الفتاوى (25/130).

([2]) نقله عنه الزركشي في البحر المحيط (4/317).

([3]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (5/127).

([4]) درء التعارض (3/9).

([5]) شرح العقيدة الطحاوية (232).

([6]) بل يرى حسن حنفي أنه: «لا يوجد نص إلا ويمكن تأويله، ولا يعني التأويل هنا بالضرورة إخراج النص من معنى حقيقي إلى معنى مجازي لقرينة، بل هو وضع مضمون معاصر للنص؛ لأن النص قالب دون مضمون». كتاب: من العقيدة إلى الثورة (1/397-398).

([7]) انظر: مقدمة كتاب (التأويل وخطورته) د. عمر سليمان الأشقر.

([8]) للتوسع في ذلك ينظر كتاب (جناية التأويل الفاسد) د. محمد لوح.

([9]) الكشاف (1/624).

([10]) حقائق التفسير للسلمي (365).

([11]) سير أعلام النبلاء (23/225).

([12]) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842).

([13]) رواه البخاري (3017).









رد مع اقتباس
قديم 2014-12-29, 18:35   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

الدَّعوةُ للقراءة الجديدة للنَّصِّ الشَّرعيِّ

إنَّ من الفتن التي ظهرت في هذا العصر مُحْييةً منهج الباطنية القدامى بصورة عصرية حداثية: الدَّعوة إلى إعادة قراءة النَّصّ الشرعي قراءة جديدة تكون- بزعمهم- متواكبةً مع تَطَوُّرات الحياة المعاصرة ومتناسبةً معها.


وتهدف هذه الدَّعوةُ إلى مراجعة شاملة للنُّصوص الشَّرعيَّة كافَّةً؛ فهي قراءةٌ لا يستعصي عليها شيءٌ من أصول الدِّين وفروعه؛ بل حتَّى قضيَّة التَّوحيد في الإسلام قابلةٌ للتَّأويل والقراءة الجديدة([1]).
وقد أدَّت هذه القراءات الجديدة إلى تحريف معاني القرآن والسُّنَّة، ومناقضة قطعيَّات الشَّريعة؛ بل ومصادَمة الأصول المقرَّرة الثَّابتة.


وتأتي خطورةُ هذا الاتِّجاه من ناحيتين:



الأولى: أنَّ هذه الدَّعوةَ قامت على أيدي أناس يتظاهرون بالانتساب لهذا الدِّين؛ بل ويتسمَّى بعضُهم بـ [المفكِّر الإسلاميّ]؛ ممَّا يجعل لدعوتهم رواجًا وقبولاً لدى كثير من النَّاس؛


فهي خطَّةٌ تقوم على التَّغيير من داخل البيت الإسلاميِّ من خلال العبث بالنُّصوص الشَّرعيَّة بتحريفها وتفريغها من محتواها الحقيقيِّ، ووضع المحتوى الذي يريدون؛ فهم يَطرحون أفكارَهم وآراءَهم على أنَّها رؤى إسلاميَّة ناشئة عن الاجتهاد في فهم الدِّين.



ولقد حذَّرنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من أمثال هؤلاء؛ فعن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: كان النَّاسُ يَسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسألُه عن الشَّرِّ مخافةَ أن يدركَني.


فقلتُ: يا رسولَ الله، إنَّا كنَّا في جاهليَّة وشَرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شَرٍّ؟
قال: «نعم».
قلت: وهل بعد ذلك الشَّرِّ من خير؟
قال: «نعم، وفيه دخن».
قلت: وما دَخَنُه؟
قال: «قومٌ يَهدون بغير هديي، تعرف منهم وتُنكر».
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها».
قلت: يا رسول الله صفهم لنا.
فقال: «هم قوم من جلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا»([2]).


فهم يَسْتَشهدون بالنُّصوص نفسها التي نستشهد بها ولا يجحدونها، ولكن يُفَسِّرونها تفسيرًا مغايرًا لتفسير السَّلَف الصَّالح.
الثَّانية: أنَّ هذه الظَّاهرةَ بدأت تتنامى في عالمنا الإسلاميِّ اليوم، ويقوم بالدّعوة إليها أفرادٌ من مختَلَف الأقطار العربيَّة والإسلاميَّة، وتتلقَّف الصُّحُف وغيرُها من وسائل الإعلام أقوالَهم بالتَّلَقِّي والقبول، وتعرض لهم المقابلات تلوَ المقابلات.



ومنهم عصرانيُّون، حداثيون، ليبراليون، وليبرو إسلاميين، وهم متشبعون بمذاهب فلسفية غربية، ويرومون إخضاعَ نصوص الشَّريعة لمعطيات هذه المذاهب.



ولا يكاد يخلو بلدٌ إسلاميٌّ من ممثِّلين لهذه الطائفة ومنتمين إليها، يسيرون على طريقتهم، ويرضعون من لبانهم.


وهذه الدَّعوةُ دعوةٌ قديمةٌ جديدةٌ؛ فهي قديمةٌ لوجود جذور تاريخيَّة لها، وقد ظهر في هذه الأمَّة سابقًا مَن حاوَلَ تحريفَ النُّصوص عن معانيها بالتَّأويل الباطل.


وجديدة لأنَّها تقوم على أسس وقواعد وتأصيلات منهجيَّة لهذا المنحى الباطل؛ فهي مصنعٌ لتوليد المعاني الباطلة الموافقة لرغباتهم وأهوائهم، ومحاولة شرعنتها وإيجاد المستندات لها.


وقد حَمَلَ هذا الاتجاهُ شعارًا هو الأخطرُ في سياق الشِّعارات المطروحة في هذا العصر؛ إنَّه شعار (التَّحديث والعصرنة للإسلام)؛ فهم يريدون منَّا تركَ ما أَجْمَعَتْ عليه الأُمَّةُ من معاني القرآن والسُّنَّة لفهم جديد مغاير لفهم السَّلَف الصَّالح يكون متناسبًا مع هذا العصر الذي نعيش فيه.


ولذلك لما سُئل محمد أركون عن كيفيَّة التَّعامل مع النُّصوص الواضحة غير المحتملة؛ كقوله تعالى: }لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ{ [النساء: 11]، قال: «في مثل هذه الحالة لا يمكن فعل أي شيء إلا إعادة طرح مسألة التفسير القرآني؛ لا يمكننا أن نستمرَّ في قبول ألَّا يكون للمرأة قسمةٌ عادلة!! فعندما يستحيل تكيُّفُ النَّصِّ مع العالم الحالي ينبغي العملُ على تغييره»([3]).


ويقولُ محمَّد شحرور: «لا ضرورةَ للتَّقيُّد بالنُّصوص الشَّرعيَّة التي أوحيت إلى محمد رسول الله في كلِّ ما يتعلَّق بالمتاع والشَّهوات؛ ففي كلِّ مرَّة نرى في هذه النُّصوص تشريعًا لا يتناسب مع الواقع، ويعرقل مسيرة النُمُوّ والتَّقَدُّم والرفاهية، فما علينا إلا أن نميل عنه»([4]).


فالرَّغبةُ في مسايرة الواقع والافتنان بالحياة الغربيَّة والتَّأَثُّر بمدارسها الفلسفيَّة ([5]) والدِّارسة في جامعاتهم مع ضغوط الأعداء والجهل بالشَّريعة- كلّ ذلك كان سببًا في ظهور هذه المدرسة التَّحريفيَّة.


([1]) يقول محمد أركون مناقشًا فكرةَ التَّوحيد: «...أنا لا أقول بالتَّراجع عن هذا التَّصوُّر معاذَ الله؛ ففي التَّوحيد المنزَّه المطلَق تتجلَّى عبقريَّةُ الإسلام؛ وإنَّما أقول بإعادة تأويله؛ أي تأويله بشكل مخالف لما ساد في العصور الوسطى ... وهنا يكمن الرِّهانُ الأكبرُ لمراجعة التُّراث الإسلاميّ كلِّه، ولتأسيس لاهوت جديد في الإسلام». قضايا في نقد العقل الديني (281).

([2]) رواه البخاري (7084) ومسلم (1847).

([3]) حوار أجرته معه المجلة الفرنسية: «لونوفيل أبسرفاتور» (Observateur Nouvel) فبراير 1986.

([4]) الكتاب والقرآن (445).

([5]) فمن الواضح في كتاباتهم الانبهار الشديد بالحضارة الغربية، وتطبيق فرضياتها كأنها حقائق مسلَّمة لا تقبل النقاش؛ بل يعمد بعضهم إلى تفسير القرآن وفقًا لهذه النظريات، يقول شحرور: «تعتبر نظرية أصل الأنواع للعالم الكبير تشارلز دارون نموذجًا ممتازًا للتأويل، أي تأويل آيات خلق البشر» الكتاب والقرآن (195).









رد مع اقتباس
قديم 2014-12-30, 10:45   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
عبد القادر الطالب
عضو فعّال
 
إحصائية العضو










افتراضي

ما شاء الله موفق إن شاء الله

زادك الله علما على علم وبارك الله لك










رد مع اقتباس
قديم 2014-12-30, 21:42   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

الأُسس التي بَنَتْ عليها هذه المدرسةُ منهجَها

لمدرسة [الباطنيَّة الجُدُد] أُسُسٌ ومبادئ قامت عليها، وتسعى لنشرها والتَّرويج لها في كافَّة الوسائل المتاحة.



ومن أهم هذه الأسس:



الأوَّلُ: القولُ بالظَّنِّيَّة المطلَقة لدلالة النَّصِّ الشَّرعيِّ.


يقرِّر أصحاب هذه المدرسة أنَّ النَّصَّ الشَّرعيَّ كتابًا وسنَّةً هو نَصٌّ ظَنِّيُّ الدِّلالة بصفة مطلَقة؛ فهو لا يحتمل معنى واحدًا فقط؛ بل هو مفتوح على احتمالات لأكثر من معنى من المعاني.


والنَّصُّ المحكم الذي لا يحتمل إلَّا دلالة واحدة لا وجودَ له ([1])؛ فَيَتَرَتَّب عليه أنَّ أيَّ فهم للنَّصِّ الشَّرعيِّ ينبغي أن يحظى بالاحترام؛ إذ يمكن أن يكون حقًّا، وليس ثمة قراءات صحيحة وأخرى خاطئة؛ بل القراءاتُ كلُّها صحيحةٌ([2]).


«فالقرآنُ هو نَصٌّ مفتوحٌ لجميع المعاني، ولا يمكن لأيِّ تفسير أو تأويل أن يغلقَه أو يستنفدَه بشكل نهائيٍّ»([3]) كما يقول أركون.


وبناءً على هذا فلا يَحقُّ لأحد الادِّعاء بأنَّ ما توصَّل إليه من فهم هو الصَّحيح دونَ غيره؛ حتى لو كان هذا الفهمُ انعقد عليه إجماعُ الأمَّة.



وأركون بهذا الكلام لا يدعو العلماء والمجتهدين للنَّظَر في معنى النُّصوص الشَّرعيَّة التي تحتمل دلالتها اللُّغويَّة أكثر من معنى؛ بل يدعو كلَّ فرد لأن تكون له قراءتُه الخاصَّةُ لهذا النَّصِّ ينتهي فيها إلى ما يَرْتَضيه من مدلول بحريَّة مطلَقة لا يحتكم فيها إلَّا إلى ضميره([4]).


ولذلك يقول: «إنَّ القراءةَ التي أحلم بها هي قراءةٌ حرَّةٌ إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتِّجاهات؛ إنَّها قراءة تجد فيها كلُّ ذات بشريَّة نفسَها»([5]).


ويقول أحدهم: «النَّصُّ يتَّسع للكلِّ، ويتَّسع لكلِّ الأوجه والمستويات»([6]).


وأنصارُ هذه المدرسة يرفعون شعار: «النَّصُّ مقدَّسٌ، والتَّأويلُ حرٌّ»؛ من حقِّ كلِّ مسلم أن يتعاملَ مع النَّصِّ بالطريقة التي يراها؛ فكلمةُ الجيب في قوله تعالى: }وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ{ [النور: 31] من الممكن أن يَفهمَ منها شخصٌ معنى، وغيرُه معنى آخر، وغيرُه معنى ثالثًا، ولكلٍّ قراءتُه، وفَهمُ السَّلف لهذه الآية هو قراءةٌ من هذه القراءات غير الملزمة.



فشحرور مثلاً يَفهم منها أنَّها تعني ما كان مكوَّنًا من طبقتين، وعليه فحجابُ المرأة الشَّرعيُّ بات مقصورًا وفقًا للمذهب الشَّحروريِّ على الفرج والثَّديين والإبطين فقط!!([7])؛ فالتي ترتدي لباسًا إلى أنصاف الفخذين، وتستر ما تحت الثَّديين والإبطين هي امرأةٌ محجَّبَةٌ تنعم برضا الله وتنفيذ أوامره!!


ويفسِّرُ قولَه تعالى: }وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا{ [المائدة: 38]: أي: كفُّوا أيديَهما عن السَّرقة بالسِّجن مثلاً ([8]).


وقال غيره: المعنى كفُّوا أيديهما عن السَّرقة بتوفير العيش الكريم لهما.


ويُفهم من قوله تعالى: }كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ{ [القصص: 88] أنَّ هذا الكونَ يَحمل تناقضاته، وأنَّ المادَّةَ تحمل تناقضَها معها؛ لذلك فإنَّ هذا الكونَ سيتدمَّر وسيتبدَّل وسيهلك؛ ولكن هلاكَه سيحوِّله إلى مادة أخرى.



وآخرُ يفهم من قوله تعالى: }خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا{ [النساء: 1] النفس الواحدة: البروتون، وزوجها: الإلكترون ([9]).


وغيرُه يَفهم من قوله تعالى: }إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى{ [طه: 12] أنَّ المقصودَ بالنَّعلَين هما النَّفسُ والجسدُ؛ هوى النَّفس وملذَّات الجسد([10]).


ولو سرْنا على منهج هذه المدرسة في تفسير النُّصوص فسيؤولُ بنا الأمرُ إلى فوضى من الآراء والأفكار التي لا حدَّ لها؛ لأنَّ النُّصوصَ لا يتحصَّل من معناها شيءٌ يضبطُه قانونٌ حسب قولهم.
وإذا كان القرآنُ كتابًا مفتوحًا على جميع المعاني كما يقولون؛ فما الفائدةُ من إنزاله ليكون منهاجًا وسبيلاً للمؤمنين؟! وبالمقابل هل يحقُّ لأيِّ إنسان أن يَفهمَ نصوصَ علم الطِّبِّ والهندسة وغيرهما حسبَ فهمه، وأن يمارسَ هذه الأنشطةَ عمليًّا في أرض الواقع إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتجاهات؟!


إنَّ هذا المبدأَ الذي تقوم عليه هذه المدرسةُ لو تمَّ العملُ به في قراءة النُّصوص لانهدمت الحياةُ الاجتماعية بأكملها؛ }وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ{ [المؤمنون: 71].


وذلك لأنَّ هذه الحياةَ تقوم على ما تواضع عليه النَّاسُ من دلالات لغويَّة يتمُّ التَّفاهم بينهم بناءً عليها، ولو انتفى ذلك وأصبح كلُّ واحد يفهم معاني النُّصوص بحسب تأويله الخاصِّ الذي يقتضيه تكوينُه الثَّقافيّ، فإنَّ النَّتيجةَ أن لا يدركَ أحدٌ مدلولَ خطاب الآخر؛ فينعدم التَّواصُلُ والتَّعاون؛ فضلاً عن التَّدَيُّن.



كيف سيُطَبِّقُ رجالُ القانون بهذه القراءة أحكامَ القانون، وكلٌّ منهم له قراءتُه الخاصَّةُ للقانون؟!


وكيف سيحاكم الناس بهذا القانون، ولكلِّ واحد منهم قراءتُه الخاصَّة به؟


وكيف سيعمل المتلقي للأوامر والنَّواهي من أيِّ جهة من الجهات، والحال أنَّه قد يفهم الأمر نهيًا، والنَّهي أمرًا بتأويله اللُّغويّ الذَّاتيِّ؟


وكيف سيتعلم المتعلمون مع أنَّهم قد يفهمون مما يتلقون ويقرؤون خلاف ما قصد المعلم أو الكاتب تبليغه إليهم؟


ماذا لو قدَّم أحدُ أصحاب هذه الفكرة لتلاميذه في الامتحان قصيدةَ المتنبِّي في مدح سيف الدَّولة ثمَّ خَطَرَ للتلاميذ أن يكونوا من أصحاب [القراءة المعاصرة] في إجابتهم؛ فكتب أحدهم: [هذا هجاء مقذع]. مؤوِّلاً كلَّ كلام المتنبِّي على قاعدة الاستعارة التَّهَكُّميَّة!!


وكتب الآخر: [هذا غزل رقيق؛ فالمتنبِّي أسقط على سيف الدولة صورةَ الأنثى التي لم يجدها في الواقع!!].
وكتب الثَّالثُ: [هذه قصيدة في الفخر؛ فالثنائية متوهمة فقط، وليس سيف الدولة في القصيدة إلا الأنا الأخرى
(alter – ego) للمتنبِّي].

وأمَّا الرَّابع فقدَّم الورقةَ بيضاء!!
كيف يمكن للمعلم أن يصحِّحَ إجابات التَّلاميذ بناءً على مذهبه؛ فإن حاكَمَهم إلى معيار ما، فقد ناقض نفسه، وللتلاميذ أن يقولوا له: كيف تحاكمنا إلى فهمك، وقد أمليت علينا أنَّ كلَّ القراءات مشروعةٌ؟!


وإن سار مع منطق القراءة الجديدة فهي الفوضى لا محالة، وحتى الورقة البيضاء ينبغي أن تعطى درجة؛ لأنَّ سكوتَ التلميذ عن الإجابة تعبيرٌ استفزازيٌّ حداثيٌّ عن الثَّورة على كلِّ نصٍّ تراثيٍّ، ورفضٌ لكلِّ إسقاطات عصريَّة على شاعريَّة المتنبِّي ([11]).


إنَّها الفوضى التي ليس بعدها فوضى، والدَّمار للحياة المعرفيَّة والاجتماعية الذي ليس بعده دمارٌ، ولو كان الأمرُ كما يدَّعيه هؤلاء على النَّحو الذي وصفنا، لما كان للنَّصِّ الشَّرعيِّ فائدة، ولا كان لتخصيص القرآن بلغة العرب مغزى.


فهل يُعْقَل أن يكون المرادُ الإلهيُّ بالوحي الذي أنزله الله وحضَّ على اتِّباعه وأمر بالاستسلام له وعاقب على الإعراض عنه متروكًا لكلِّ إنسان يفهم منه ما يريد؟!


هل يُعْقل أن يكون جوهرُ الوحي وأصولُ معانيه تتناقض الأجيالُ في تفسيرها جذريًّا؟!


الأساس الثَّاني: إهدارُ فهم علماء الأمَّة للنُّصوص الشَّرعيَّة:


وهذا ناتجٌ عن قولهم بأنَّ فهمَ السَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة لا يعدو أن يكون قراءةً من القراءات التي يَحتملها النَّصُّ، وبالتالي فهي غيرُ ملزمة لأحد.


يقول التُّرابيُّ: «وكلُّ التُّراث الفكريّ الذي خلَّفَه السَّلَفُ الصَّالحُ في أمور الدِّين هو تراثٌ لا يُلتَزَم به؛ وإنَّما يُسْتَأْنَسُ به»([12]).


وهذا تَلَطُّفٌ منه في العبارة؛ أمَّا غيرُه فيصرِّح بأنَّ فهمَ الصَّحابة كان فهمًا خاطئًا ([13])، وتوالى الخطأ بالتَّناقل إلى اليوم، وأنَّهم قد غفلوا عن الوجه الحقِّ من الإسلام ([14]).


ويسخرون من فهم السَّلَف ويقولون: إلى متى تظلُّون على الفهم الصَّحراويِّ البدويِّ للقرآن والسُّنَّة؟


قال ابن تيمية- رحمه الله: «استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أمِّيِّين ... لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله ... هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة؛ بل في غاية الضلالة»([15]).


وحالُ هؤلاء شبيهٌ بحال المنافقين: }وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ{ [البقرة: 13].


المقصودون في هذه الآية هم الصحابة؛ فكلُّ مَن سَبَّهم ونسبهم إلى السَّفَه ونقص العلم والحكمة فهو السَّفيه بنصِّ القرآن، والواقعون في هذا «محجوبون عن معرفة مقادير السَّلَف، وعمق علومهم، وقلَّة تكلُّفهم، وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخِّرون إلَّا بالتَّكَلُّف والاشتغال بالأطراف التي كانت همَّةُ القوم مراعاةَ أصولها، وضبطَ قواعدها، وشدَّ معاقدها، وهممهم مشمَّرة إلى المطالب العالية في كلِّ شيء؛ فالمتأخِّرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيء قدراً»([16]).


ويَزْعُم بعضُهم أنَّ فهمَ الصَّحابة والسَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة كان مناسبًا لواقعهم وثقافة عصرهم، ولا يتناسب مع عصرنا؛ وهذا قولٌ باطلٌ؛ فإنَّ نصوصَ القرآن نزلت بلغة عربيَّة ذات معان محدَّدة يعقلُها العارفون بهذه اللُّغة: }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{ [يوسف: 2]، ثم جاءت السُّنَّة لتزيد المعاني اللُّغويَّة بيانًا.


ثم إنَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسَّروا هذه النُّصوصَ بحسب ما فهموا من لغة القرآن والسُّنَّة التي كانت لغتهم، وبحسب ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحسب ما شاهدوا من المناسبات التي نزلت بسببها الآيات والأحوال التي ذكرت فيها الأحاديث.


ثمَّ جاءت الأجيالُ تلوَ الأجيال من أئمَّة المسلمين وعلمائهم لتفهم من نصوص الكتاب والسُّنَّة هذا الفهمَ نفسَه كما تدلُّ عليه مؤلَّفاتُهم؛ فالقولُ بأنَّهم فسَّروا النُّصوصَ بحسب ثقافة عصورهم مجرَّدُ وهم تبطله الحقائق التَّاريخيَّة.



الأساس الثالث: القول بـ (تاريخيَّة النَّصِّ الشَّرعيّ):


ومعنى ذلك أنَّ ما تضمنته النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ من أوامر ونواه إنَّما كانت موجَّهةً إلى الناس الموجودين في زمن نزول الوحي، أو كانت حالُهم تشبه حالَ مَن نزل عليهم القرآن؛ وأمَّا مَن جاء بعدَهم وعاش واقعًا غيرَ واقعهم فلا يشمله النَّصُّ الشَّرعيُّ.



فإذا تغيرت أوضاع الناس في مجمل حياتهم – كما هو الأمر في حياة الناس اليوم – فإنَّ تلك الأحكامَ التي يتضمَّنها النَّصُّ ليست متعلِّقةً بهم أمرًا ونهيًا، ولهم أن يتديَّنوا فهمًا وتطبيقًا بخلافها؛ معتبرين أنَّ ذلك هو الدِّين الصَّحيح في حقِّهم، كما كانت تلك الأحكام هي الدِّين الصَّحيح في حقِّ المخاطبين زمنَ النُّزول؛ يقول التُّرابيُّ: «ونحن أشدُّ حاجةً لنظرة جديدة في أحكام الطَّلاق والزَّواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة، ونبني عليها فقهَنا الموروثَ...»([17]).


ويقولُ أحدُهم: «موقفُ القرآن الكريم من المرأة كان موقفًا في عصر معيَّن، ووضعت تلك القواعدُ لعصر معيَّن، ومن الممكن جدًّا أنَّ مثلَ هذه الأشياء قد لا يَسمح العصر الذي نعيش فيه بتطبيقها»([18]).


وقال آخرُ: «ونحنُ نعرف أنَّ النُّصوصَ القديمةَ ليست مقطوعةَ الصِّلة بالمجتمعات القديمة، وأنَّ نظامَ الحكم ومكانةَ المرأة وحقوقَ الإنسان وواجباته وعلاقةَ الدِّين بالسُّلطة في هذه النُّصوص تعبير عن واقع قديم لم يعدّ موجودًا ولم نعدّ في حاجة إليه».


ويرى بعضُهم أنَّ ما فُرض من تفاصيل العبادات والمعاملات هو أثرٌ لمقتضيات البيئة الحجازيَّة البسيطة في عصر الرَّسول صلى الله عليه وسلم دون غيرها من البيئات ([19])؛ فالإنسانُ اليومَ في حلٍّ من تلك الفروض بمقتضى أوضاعه الجديدة، والخطاب القرآنيّ بصيغة (يا أيُّها النَّاس)، «المقصود بالنَّاس هنا الجماعة الأولى التي كانت تحيطُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتي سمعت القرآن من فَمه لأَوَّل مرَّة»([20]).


ويقولُ أحدُهم: «كذلك من الملائم هنا إعادةُ النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الملازمة لزمانها، والتي لا يمكن تصوُّر تطبيقها حاليًا بعد تطوُّر الفكر السِّياسيِّ العالميِّ، وعلى رأسها ما يعرف بـ [فقه أهل الذِّمَّة]... فلا مجالَ لإعمال مثل هذا الفقه المرتبط بظروف سالفة».


ويطالب بـ «إعادة النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الاقتصاديَّة التي كان تشريعُها ملازمًا لواقعها الاجتماعيِّ المختلف كليَّةً عن واقعنا المعاصر، ويأتي على رأسها ما يتعلَّق بعمليَّات البنوك التي تمثِّل عصبَ الاقتصاد المعاصر؛ مثل العوائد على رؤوس الأموال المقرضة ([21]) والتي كان الهدفُ من تحريمها آنذاك حمايةَ الضُّعفاء والمحتاجين من أن تُسْتَغَلَّ حاجتُهم إلى الأموال لتمويل قُوتهم اليوميّ؛ فتتراكم عليهم الدُّيون ويستولي المقرضون على بيوتهم ومزارعهم»([22]).


وأحكامُ الحدود إنَّما أَمْلَتْها الظُّروفُ التي كان عليها المجتمعُ آنذاك؛ حيث كان المجتمعُ بدائيًّا ليس فيه دولةٌ تقوم على استتباب الأمن؛ وإنَّما يتواثب فيه الناس بعضُهم على بعضهم للانتقام؛ فتكون إقامةُ الحدود: «أقلَّ الحلول شرًّا، وأدناها مَضَرَّةً؛ لأنَّها على ما فيها من وحشية تمثِّل وقايةً لمجتمع تلك الفترة ممَّا هو أسوأُ وأعنفُ وأكثرُ فظاعةً»([23]).


وهذا يعني أنَّه إذا تغيَّرت أحوالُ المجتمع، ووُجدت الدَّولةُ التي تضبط الأمن، وتوفَّرت السُّجون، أصبحت أحكام الحدود التي تضمَّنها القرآن غير ملزمة للمخاطَبين بهذا النَّصِّ القرآنيّ ([24]).


والحجاب لم يَعُدْ ملائمًا للعصر بزعمهم، ولا لمكانة المرأة وتحرُّرها، واقتحامها لكافَّة مجالات الحياة العامَّة من مدارس وجامعات ومعامل وإدارات وتجارات ([25]).


بل حتى العبادات قابلة للتَّغيير في هذا العصر؛ فطريقةُ العبادة التي التزمها المسلمون زمنَ نزول القرآن ليست ملزمةً لمن يأتي بعدهم إذا ما تغيَّرت ظروف الحياة؛ بل يمكنهم أن يأتوا من هذه العبادات بما يلائم ظروفَهم الجديدةَ.



فإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال «يؤدِّي صلاتَه على نحو معين، إلا أنَّ ذلك لا يَعني أنَّ المسلمين مضطَّرُّون في كلِّ الأماكن والأزمنة والظُّروف للالتزام بذلك النحو ...»([26]).


وبناءً على هذا المبدأ ستنتهي هذه القراءةُ إلى أن لا يكون للنُّصوص الشَّرعيَّة معنى ثابتٌ؛ فما يفهم عند أهل زمن على أنَّه مطلوبٌ يصبح عند غيرهم غيرَ مطلوب، وما يُفهم عندهم على أنَّه غير مطلوب يُفهم عند غيرهم على أنَّه مطلوب؛ نتيجةَ تَغَيُّر الثَّقافات بين الأزمان ([27]).


وسببُ هذا الضَّلال في الفهم يرجع لنظرتهم لنصوص القرآن والسُّنَّة على أنَّها نصوصٌ بشريَّةٌ تعامَل كبقيَّة النُّصوص؛ فيجري عليها ما يجري على غيرها من النُّصوص، وتخضع لمقتضيات التاريخ وتغيُّراته.


ولذلك يقول نصر حامد أبو زيد: «إنَّ النَّصَّ القرآنيَّ وإن كان نصًّا مقدَّسًا، إلَّا أنَّه لا يخرج عن كونه نصًّا؛ فلذلك يجب أن يَخضع لقواعد النَّقد الأدبيِّ كغيره من النُّصوص الأدبيَّة»([28]).


ويقول أركون: «إنَّ القرآنَ ليس إلَّا نصًّا من جملة نصوص أخرى تحتوي على نفس مستوى التَّعقيد والمعاني الفوَّارة الغزيرة؛ كالتَّوراة والإنجيل والنُّصوص المؤسسة للبوذيَّة أو الهندوسيَّة، وكل نص تأسيسيّ من هذه النصوص الكبرى حظي بتوسُّعات تاريخيَّة معيَّنة، وقد يحظى بتوسُّعات أخرى في المستقبل»([29]).


وفي هذا من التَّلبيس ما فيه؛ فكيف يَستوي كتاب الله مع الكتب المحرَّفة، أو تلك التي اكتتبها بشر؟! وكيف يُقاس كلامُ ربِّ العالمين الذي علم ما كان وما سيكون على كلام الإنسان الذي لا يدرك من العلم إلَّا قليلاً؟! إنَّ كلامَ الله لا يمكن حصرُه وتقييدُه بزمن معين؛ لأنَّ اللهَ أنزله ليكون دستورًا للنَّاس في كلِّ زمان ومكان، وهو يعلم ما يَصلح لعبيده ويناسبهم في جميع الأزمنة والأحوال، لا يخفى عليه شيء وهو السَّميع البصير.


ونقول لهؤلاء }أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ{ [البقرة: 140].


الأساس الرابع: القولُ بنسبيَّة الحقيقة، وعدم وجود حقيقة مطلَقَة:



فهم لا يؤمنون بوجود حقيقة واحدة ثابتة في كلِّ زمان ومكان؛ بل الحقُّ نسبيٌّ؛ فما تراه حقًّا يراه غيرُك باطلاً، وما تظنُّه اليومَ صوابًا قد لا يكون كذلك غدًا.


يقول أركون: «إنَّ القولَ أنَّ هناك حقيقةً إسلاميَّةً مثاليةً وجوهريةً مستمرة على مدار التاريخ وحتى اليوم، ليس إلا وهمًا أسطوريًا لا علاقةَ له بالحقيقة والواقع»([30]).


ويقولون: لا أحدَ يَملك الحقيقةَ المطلقةَ. ويوظِّفون ذلك سياسيًّا في شعاراتهم: [التّعدديّة]، و[قبول الآخر].


ويقصدون بالآخر: اللَّادينيَّة والإلحاد والفجور، ويرون أنَّه لا بدَّ من التَّعامل مع جميع هذه المفاهيم على قدم المساواة، ولا داعي للإنكار على فكر ما، أو التَّشنيع على شذوذ ما؛ لأنَّ الحقيقةَ المطلقةَ غيرُ موجودة؛ يقول أحدهم: «لن تكون متقدِّمًا أو صاحبَ أمل في التَّقَدُّم إلا إذا قبلت الرَّأيَ على أنَّه حقيقةٌ، والحقيقة على أنَّها مطلَقَة وليست نسبيَّة»([31]).


وحاصلُ هذه المقولات: أنَّه لا أحدَ يمكنه القطعُ بأنَّ رأيَه أو معتقدَه هو الحقُّ وأنَّ رأيَ غيره أو معتقدَه خطأ قطعًا؛ وإنَّما غايةُ ما يمكنه الجزمُ به أنَّ رأيَه صواب يحتملُ الخطأ، وأنَّ رأيَ غيره خطأ يحتمل الصواب ([32]).


فما يراه حقًّا قد يراه الآخر باطلاً، وما يراه خيرًا قد يراه الآخر شرًّا؛ وهو ما يُسَمَّى بنسبيَّة الحقيقة.


وبناءً على قولهم فالحقُّ قد يكون في الإسلام، وقد يكون في غيره من الدِّيانات المحرَّفة أو الباطلة؟!


الحقُّ قد يكون عند أهل السُّنَّة وقد يكون عند غيرهم من أهل البدع!


ولذلك يرى بعضُهم أنَّ من حقِّ أيِّ مواطن في دولة الإسلام تغييرَ دينه إذا اقتنع بغيره ([33]).


وهذه المقولاتُ التي تُقَرِّر بأنَّه لا أحد يَحتكر الحقيقةَ كافيةٌ لنقض أصل الإيمان؛ لأنَّ أصولَ الإيمان مبنيَّةٌ على القطعيَّة واليقين؛ فمَن لم يوقن بتوحيد الله، فليس بمؤمن في دين الله، ومَن لم يوقن يقينًا لا شَكَّ فيه بأنَّ الله فردٌ صمدٌ لا شريكَ له في ملكه وخلقه، فليس بمؤمن في دين الله.


ومن لم يوقن يقينًا لا تردُّدَ فيه بأنَّ القرآنَ معصومٌ من التَّحريف والتَّبديل، وأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم هو خاتَمُ الأنبياء والرُّسل، وأنَّ الوحيَ قد انقطع بموته، فليس بمؤمن في دين الله.


وقل مثلَ ذلك فيما سوى هذا وذاك من أصول الدِّين وقطعيَّاته؛ }فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ{ [يونس: 32]؛ فهما طريقان لا ثالث لهما: الحقّ، وما عداه فهو الضَّلال.


فالحقُّ واحدٌ لا يتعدَّدُ، والضَّلالُ ألوان وأنماط، فماذا بعد الحقِّ إلَّا الضَّلال؟


ولو لم يكن ثمَّةَ حقيقةٌ مطلَقةٌ لكان أمرُ الله باتِّباع الحقِّ والتزامه عبثًا لا معنى له، ولو صحَّ هذا فما معنى قوله تعالى: }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ [الأنعام: 153]؛ أين هذا الصِّراطُ المستقيم الذي يأمرنا اللهُ باتِّباعه إذا كان لا أحدَ يملك الحقيقة، وأين هي تلك السُّبُلُ الضَّالَّة التي نهانا عن اتِّباعها إذا كانت الحقيقةُ نسبيَّةً؟!


«وهذا المذهبُ أوَّلُه سفسطةٌ وآخرُه زندقةٌ؛ لأنَّه يرفع الأمرَ والنَّهيَ والإيجاب والتَّحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسانُ إن شاء أن يُوجب وإن شاء أن يُحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفرٌ وزندقةٌ»([34]).


وقد وَصَفَ ابنُ الجوزيّ- رحمه الله- القائلين بهذا القول بالجهل، فقال: «قد زعمت فرقةٌ من المتجاهلين أنَّه ليس للأشياء حقيقةٌ واحدةٌ في نفسها؛ بل حقيقتُها عندَ كلِّ قوم على حسب ما يعتقد فيها ...»([35]).

([1]) ينظر: النص القرآني، طيب تيزيني (261)، ونقد النص: علي حرب (20).

([2]) ينظر: التراث والتجديد حسن حنفي (112).

([3]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي لأركون (145).

([4]) وبالغ بعضهم في القول فرأى أن من حق غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي أن يفسروا القرآن بما يوافق ثقافتهم ومعتقداتهم، ينظر: النص القرآني، طيب تيزيني (226).

([5]) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل لأركون (76).

([6]) نقد الحقيقة، على حرب (45).

([7]) الكتاب والقرآن (604). وأما الفهم والأنف والعينان فهي من وجهة نظره جيوب ظاهرة لا يجب سترها.

([8]) نحو أصول جديدة، محمد شحرور (99-103).

([9]) القرآنُ والعلمُ الحديث؛ لعبد الرَّزَّاق نوفل (136)، وغفل عن تتمة الآية الموضحة لها: }وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً{ [النساء: 1]، وأن الخطاب إنما هو للناس وليس للكون.

([10]) القرآن محاولة لفهم عصري لمصطفى محمود (135).

([11]) مستفاد من شبكة التفسير والدراسات القرآنية.

([12]) تجديد الفكر الإسلامي (105).

([13]) وفي مداخلة لأحد المفكرين الفرنسيين على محاضرة ألقاها محمد أركون في فرنسا، يقول هذا المفكر وهو «أرنالديز»: «أعتقد أن الفكرة المحورية لمحمد أركون، والتي طالما تناقشنا حولها في الماضي هي التَّالية: لقد وجدت في تاريخ الإسلام تركيبات تيولوجية وقانونية وتشريعية جمدت، وربَّما بدلت وشوهت التعاليم القرآنية التي كانت منفتحة وغنية متعددة الاحتمالات، والتي يمكن للبشرية أن تتأمل بها وتفكر فيها حتى يوم الدين ... وأعتقد أنه إذ يقول ذلك يقول أشياء صحيحة، ولكنَّني سأدافع ولو للحظة عن كل أولئك الفقهاء والعلماء والمفسرين الذين طالما درستهم، وعاشرت نصوصهم، سوف أذكر محمد أركون بأنَّ هؤلاء الفقهاء كانوا نشيطين جدًا، وأنهم حركوا النصوص القرآنية وأنعشوها بتفاسيرهم؛ إلى درجة أنَّه يصعب علينا اليومَ حتى باسم العلوم الإنسانية أن نجد فيها شيئًا آخر جديدًا غير الذي وجدوه ...» ثم يقول: «المفسرون في العصر الكلاسيكي للإسلام كانوا قادرين على أن يستخرجوا من الآيات القرآنية كل ما هو مقال، أو متضمن فيها تقريبًا، ولهذا السبب أقول: إن المسلمين المحدثين الذين يستعيرون المناهج الغربية، كان أحرى بهم أن يكتفوا بمناهج أسلافهم من القدماء، فهي توصلهم بالدقة نفسها لأن يستخلصوا من الآيات القرآنية ما توصلهم إليه هذه المناهج التابعة للعلوم الإنسانية والتي يتغنى بها محمد أركون». ينظر: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد لمحمد أركون (326-327)، ترجمة هاشم صالح.

([14]) وقد ألف عبد المجيد الشرفي كتابًا خصه لشرح هذه الفكرة، واختار له عنوانًا يدل على محتواه: «الإسلام بين الرسالة والتاريخ»، فالإسلام الذي جاء به النبي r ليس هو الإسلام الذي تحقق في التاريخ.

([15]) مجموع الفتاوى (5/10).

([16]) شرح الطحاوية (76).

([17]) تجديد أصول الفقه الإسلامي، حسن الترابي (21).

([18]) حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة (102).

([19]) الإسلام بين الرسالة والتاريخ لعبد المجيد الشرفي (61).









رد مع اقتباس
قديم 2014-12-31, 00:21   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
سميحة 2014
عضو مجتهـد
 
إحصائية العضو










افتراضي

خبذا لو ادرجتم بحثكم هذا في المرفقات بصيغة pdf حتى يسهل علينا دراسة اسلوب بحثكم و نقد نتائجكم
صراحة لم استطع ان اكمل قراءة الموضوع فالامر مجهد جدا بهاته الطريقة
فإن رفعته سيكون لي عليه تعليق مفيد ان شاء الله










رد مع اقتباس
قديم 2015-01-05, 18:48   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

نتائجُ القراءة المعاصرة


إنَّ الدَّعوةَ لقراءة جديدة ومعاصرة للنَّصِّ الشَّرعيِّ دعوةٌ لها نتائج خطيرة ([1])، ومن ذلك:



1- نزعُ الثِّقة بمصدر الدِّين؛ فهذه القراءةُ الجديدةُ للنَّصِّ تفضي إلى نزع الثِّقة في مصدر الدِّين قرآنًا وسنَّةً من النُّفوس.



2- إلغاءُ العمل بالقرآن الذي نزل ليكون مرجعًا ومنهاجًا للناس؛ لأنَّ كلَّ إنسان سيفهم منه فهمًا مغايرًا لفهم الآخر؛ ممَّا يَنْتُجُ عنه أن لا يكون هناك قانونٌ عامٌّ يَحْتَكم إليه جميعُ الناس؛ وذلك واضحٌ عند الاحتجاج على أحدهم بآية من التَّنزيل؛ سيقول مباشرة: هذا فهمك للآية ولا يلزمني. أو: هذه قراءة ممكنة للقرآن من جملة قراءات كثيرة أخرى ممكنة.



فإن قيل له: قال ابن عباس أو غيره من السَّلَف قال: رأي ابن عباس قراءةٌ أخرى ممكنة.


فالنتيجة إذًا: رفعُ القرآن الإلهيّ من الأرض، ولا يبقى إلا القراءات البشريَّة النِّسبيَّة المحتَمَلة؛ وأمَّا [مرادُ الله] من الآية الذي هو الحقُّ الوحيد، فلا يمكن الوصول إليه حسب زعمهم.


يقول نصر حامد أبو زيد: «بفرض وجود دلالة ذاتيَّة للنَّصِّ القرآنيِّ فإنَّه من المستحيل أن يدَّعي أحدٌ مطابقةَ فهمه لتلك الدِّلالة»([2])؛ فبعد أن أنزل اللهُ علينا هذا القرآنَ ليكون نورًا مبينًا يهدينا ويرشدنا ويخرجنا من الظُّلمات إلى النُّور، يحاول هؤلاء قطع تلك الصِّلة بين العباد وربِّهم، ويزعمون استحالةَ وصول أحد من البشر إلى مراد الله.


إنَّ النتيجةَ الحتميَّةَ لهذا القول أن يصبح القرآنُ والسُّنَّةُ ألفاظًا لا معاني لها يرجع إليها، وبذلك تكون هذه الأمَّةُ كغيرها من الأمم التي عطَّلت العملَ بالوحي الإلهيِّ؛ فعن زياد بن لبيد- رضي الله عنه- قال: ذَكَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال: وذاك عند أوان ذهاب العلم.


قلت: يا رسول الله، وكيف يَذْهَبُ العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرِّئه أبناءَنا، ويقرِّئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟



قال: «ثكلتك أمُّك يا ابنَ أمِّ لبيد؛ إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أَوَلَيس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التَّوراةَ والإنجيلَ لا يَنتفعون ممَّا فيهما بشيء»([3]).


3- ومن أخطر نتائج هذه القراءة: إلغاءُ الفهم الصَّحيح للدِّين:



فالقراءةُ الجديدةُ للنَّصِّ الشَّرعيّ بما أنَّها قراءةٌ محرّفة للنصّ باحتمالات غير متناهية، وبما أنّها شأن شخصيّ فرديّ، وبما أنّنا الآن في زمن تغيَّرت ظروفه تغيُّرًا جَذريًّا عمَّا كان عليه الأمر من قبل، فإنَّها ستكون قراءةً ناسخةً للدِّين الصَّحيح الذي تناقلتْه أجيالُ الأمَّة من العهد النَّبويِّ إلى الآن ([4]).


فهذه القراءةُ الجديدةُ سينشأ عنها دينٌ يمكن أن يُسَمَّى أيّ شيء إلَّا الإسلام.


وقد اعتمد بعضُ هؤلاء المحرِّفين تعبيرًا عن الفهم الجديد للدِّين مصطلحَ «الرِّسالة الثَّانية للإسلام»، أو «الوجه الثَّاني لرسالة الإسلام»؛ إشارةً إلى أنَّ الرِّسالةَ الأولى هي التي استقرَّ عليها فهمُ الأمَّة للإسلام، والرسالةُ الثَّانية هي الرسالةُ الحقيقيَّة التي لم تُفهم، والتي آن أوانُ فهمها لتكون هي الدِّين الحقُّ الذي تبشِّر به القراءةُ الجديدةُ ([5]).


إنَّ الفهمَ الجديدَ للدِّين الذي تنتجه هذه القراءةُ هو فهمٌ قد يَنتهي من حيث المبدأ إلى مخالَفة كلِّ ما هو سائد من فهم؛ سواءً تعلَّق الأمرُ بالمرتكزات العقديَّة، أو بالشَّرائع والأخلاق ([6]).


فالإسلامُ الذي يتحدَّثون عنه في هذه القراءة المعاصرة ليس هو الإسلام الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ على محمد صلى الله عليه وسلم وقال: }إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ{ [آل عمران: 91]، وقال: }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ [آل عمران: 58]؛ وإنَّما إسلامٌ جديد منفتح، وغير مغلق، وغير مكتمل ([7])، بعكس ما أراده الباري- عز وجل: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا{ [المائدة: 3]؛ فالإسلام الجديد العصريُّ المستنير ليس من الضَّروريِّ أن يقوم على خمسة أركان؛ فالشَّهادتان في الدِّين الجديد ليس لهما مدلولٌ إيمانيٌّ لأنَّه «وفي حقيقة الأمر وطبقًا لمقتضيات العصر لا تعني الشهادة التلفظ بهما أو كتابتهما؛ إنَّما تعني الشَّهادة على العصر، فليست الشَّهادتان إذن إعلانًا لفظيًّا عن الألوهية والنُّبوَّة؛ بل الشَّهادةُ النَّظريَّة والشَّهادة العمليَّة على قضايا العصر وحوادث التَّاريخ»([8]).


أمَّا الجزء الثَّاني من الشَّهادة فليس من الإسلام؛ لأنَّ المسلمين هم الذين أضافوها؛ إذ كان الإسلامُ في البداية دعوةً إلى لقاء لكلِّ الأديان ([9]).


وليس من الضَّروريِّ أن يَحتشدَ النَّاسُ جماعات في مسجد لإقامة الصَّلاة؛ وذلك لأنَّ الصَّلاةَ مسألةٌ شخصيَّةٌ([10])، وليست واجبةً ([11])، وقد فرضت أصلاً لتليين عريكة العربي، وتعويده على الطَّاعة للقائد([12])، وتُغني عنها رياضة اليوغا ([13])؛ وهو ما غفل عنه الفقهاء([14]).


ولا بأسَ من الجمع بين الصَّلاتين؛ لأنَّ الأوضاع الحديثة تجعل الالتزامَ بالوقت متعذِّرًا في كثير من الحالات ([15]).


والزكاة أيضًا ليست واجبة وإنَّما هي اختيارية ([16]).


كما أنَّها لا تؤدِّي الغرضَ؛ لأنَّها تراعي معهودَ العرب في حياتهم التي كانوا عليها؛ فهي تَمَسُّ الثروات الصَّغيرة والمتوسطة أكثر ممَّا تمسُّ الثَّروات الضَّخمة...)([17]).


والصوم كذلك ليس فرضًا وإنما هو للتخيير ([18]).


وهو مفروضٌ على العربيِّ فقط؛ لأنَّه مشروطٌ بالبيئة العربيَّة؛ ولذلك فالصَّومُ بالنِّسبة للمسلم غير العربيِّ مجرَّد دلالة وعبرة دينيَّة ([19])؛ بل إنَّ الصَّومَ يَحرم على المسلمين في العصر الحاضر؛ لأنه يقلِّل الإنتاجَ ([20]).


أما الحجّ فليس من الضَّروري أن يُقام بطقوسه المعروفة؛ إذ يُغني عنه الحجُّ العقليُّ أو الحجُّ الرُّوحيُّ ([21]).


وعلى هذا الأساس من التَّأصيل للفهم الجديد ألغت هذه القراءةُ الحدودَ ([22])، باعتبارها أحكامًا تاريخية لا تناسب عصرنا، وهي عقوبات وحشية همجية بغيضة ([23]).


ونظامُ الإرث الذي يميِّز بين الرَّجل والمرأة لا يتلاءم مع هذا العصر؛ فيجب أن يُلغى ([24]).


وأنظمة الأسرة: نظام القوامة، نظام الطلاق، نظام الحضانة، نظام التعدد، حرمة الإجهاض، لا تنسجم مع تطورات العصر؛ فيجب أن تُلْغَى أو تُعَدَّل؛ لمنافاتها للعدل والمساواة بين الرَّجل والمرأة([25]).


والقراءةُ المتأنِّيةُ للقرآن لا يمكن أن تؤدِّي إلَّا إلى منع تعدُّد الزَّوجات!! كما يقول أركون ([26])، وانتهت هذه القراءةُ أيضًا إلى ما يُشْبه إباحةَ بعض أنواع من الزِّنا وإخراجه من دائرة التَّجريم الذي أَثْبَتَتْه قطعيَّات النُّصوص؛ فقال محمَّدٌ الشَّرفيُّ: «يتحتَّم حصرُ معنى الزِّنا في العلاقة الجنسيَّة بين رجل وامرأة أحدُهما متزوِّجٌ؛ لأنَّ هذه العلاقةَ فقط يمكن اعتبارُها جنايةً»([27]).


والخمرُ ليست محرَّمةً؛ ولكن مأمورٌ باجتنابها فقط؛ كما يقول العشماويُّ ومحمَّد شحرور ([28])، والرِّبا المحرَّم ما كان أضعافًا مضاعفةً فقط.


وهكذا يتمُّ طمسُ الإسلام الرَّبَّانيّ الذي أُرسل به محمد صلى الله عليه وسلم، وإبراز الإسلام المخترع بأركانه الجديدة والعصرية والمفتوحة، والقابلة لكلِّ الأفهام والتَّأويلات، التي لا تتوقف عند حدٍّ معيَّن؛ لأنَّه لا حدودَ يمكن الوقوف عندها؛ فالإيمانُ أيضًا ليس هو الإيمان الذي يقوم على ستَّة أركان؛ «فالإيمانُ في عصرنا يعني الانتقالَ إلى إدراك عميق لمنهجيَّة الخلق والتَّكوين كما يوضِّحُها اللهُ في القرآن، وهي مرحلةٌ إيمانيَّةٌ لم يصلها من قبل إلَّا الذين اصطفاهم الله»([29]).


ويكفي أن يتحقَّقَ في الإيمان المعاصر عند بعضهم ركنان فقط؛ هما: الإيمان بالله واليوم الآخر ([30])، وعند البعض الآخر: «الإيمان بالله والاستقامة»([31]).


والقصدُ من ذلك هو إدخالُ النَّصارى واليهود في مفهوم الإيمان والإسلام، واعتبارُهم ناجين يوم القيامة.


وعند طائفة ثالثة يُفتَح المجالُ للبوذيَّة وكلِّ الأديان الوضعيَّة للدُّخول في سفينة النَّجاة ([32]).


لأنَّه يعسر على المؤمن في عالم اليوم أن يُهمل التَّحدِّيَّات التي تمثِّلها الأديانُ الأخرى المخالفة لدينه الموروث؛ فليس من الحكمة الإلهيَّة أن أحكم أنا المسلم على ثلاثة أرباع البشريَّة من معاصري غير المسلمين بالذِّهاب إلى الجحيم؟!([33]).


فلفظ (المسلم) و (المؤمن) يشمل عندهم اليهود والنصارى وغيرهم؛ نظرًا لتطوُّر المفاهيم الاجتماعية والوطنية والسياسية، ومفهوم (ملَّة إبراهيم)- والتي تعني التَّوحيد- تَطَوَّرت إلى معنى وحدة الأديان.
والشرك بالله- عزَّ وجَلَّ- لم يعد هو التَّوَجُّه بالعبادة إلى غير الله- عز وجل؛ وإنَّما أصبح يعني الثَّبات في هذا الكون المتحرِّك، وعدم التَّطَوُّر بما يتناسب مع الشُّروط الموضوعيَّة المتطوِّرة دائمًا؛ فالتَّخلُّف شركٌ والتَّقدُّم توحيدٌ ([34]).


إنَّ التَّوحيدَ هو توحيدُ الأمَّة والفكر وليس توحيدَ الآلهة([35]).
والفنُّ بما فيه من رقص وموسيقى من شعب الإيمان والتَّوحيد([36]).


والغيبيَّات عمومًا كالعرش والكرسيّ والملائكة والجنّ والشَّياطين والصِّراط والسِّجلَّات وغير ذلك ليست إلا تصوُّرات أسطوريَّة ([37]).


والعالَمُ الآخرُ أسطورةٌ اخترعها الكهنة ليسيطروا على النَّاس ويحكموهم ([38]).


والبعثُ الذي يريده القرآن والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليس هو البعث بعد الموت؛ وإنَّما هو البعثُ من عالم الطُّفولة والتَّخلُّف إلى عالم التَّقدُّم والوعي ([39]).


«قد لا يكون البعث واقعةً مادِّيَّةً تتحرَّك فيها الجبال، وتخرج لها الأجساد؛ بل يكون البعثُ هو بعثُ الحزب وبعثُ الأمَّة وبعثُ الرُّوح؛ فهو واقعةٌ شعوريَّةٌ تمثِّل لحظةَ اليَقَظة في الحياة في مقابل لحظة الموت والسُّكون»([40]).


وحديثُ القرآن عن اللَّوح المحفوظ «هو صورة فنِّيَّةٌ، الغايةُ منها إثباتُ تدوين العلم؛ فالعلم المدوَّن أكثرُ دقَّةً من العلم المحفوظ في الذَّاكرة، أو المتصوَّر في الذِّهن»([41]).


وأنَّ المرءَ لكي يكون مسلمًا لا يحتاج إلى الإيمان بالجنّ والملائكة؛ فالإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العملُ ([42]).


و«الجنة والنار هما النعيم والعذاب في هذه الدنيا، وليس في عالم آخر يحشر فيه الإنسان بعد الموت؛ الدُّنيا هي الأرض، والعالَم الآخر هو الأرض؛ الجنةُ ما يصيب الإنسان من خير في الدُّنيا، والنَّارُ ما يصيب الإنسانَ من شرٍّ فيها»([43])، و«أمور المعاد هي الدراسات المستقبلية بلغة العصر، والكشف عن نتائج المستقبل ابتداءً من حسابات الحاضر»([44]).


و«أن المقصود بالنفخ في الصور، وقيام الساعة: صراعُ المتناقضات»([45]).
«أمَّا الحور العين والملذات فهي تعبير عن الفن والحياة بدون قلق»([46]).


فطريقةُ هؤلاء القوم: تفسير النُّصوص الشَّرعيَّة بالتَّأويلات الفاسدة المتضمّنة تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فحسبهم ذلك بطلانًا.


وقد صدق فيهم قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «سيكون في آخر أمتي أناس يحدِّثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم»([47]).


وفي لفظ: «يكون في آخر الزَّمان دجَّالون ([48])، كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم، لا يضلّونكم، ولا يفتنونكم»([49]).


وأمَّا زعمُ بعضهم بأنَّ هذا من التَّجديد في الدِّين الذي أخبر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنَّ اللهَ يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها دينَها»([50])، فليس بصحيح؛ لأنَّ المقصودَ بالتَّجديد إحياء ما اندرس من معالم هذا الدِّين الذي كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، لا الإتيان بدين جديد مخترَع ([51]) يتناقض مع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة القرون المفضلة.


فالدِّين أصلُه ثابتٌ لا يتبدَّل ولا يتغيَّر؛ ولكن تعلق الأدران والأوهام والأغلاط بالدِّين في عقول الناس وتصرفاتهم هو الذي يحتاج إلى تجديد.


وقد صدر عن مجمع الفقه الإسلاميِّ بخصوص القراءة الجديدة للقرآن ما يلي:



«إنَّ مجلسَ مجمع الفقه الإسلاميّ الدَّوليّ المنبثق عن منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ المنعقد في دورته السّادسة عشرة بدُبيّ (دولة الإمارات العربية المتحدة) 30 صفر – 5 ربيع الأول 1426هـ، الموافق 9 – 14 نيسان (إبريل) 2005م، بعد اطِّلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع القراءة الجديدة للقرآن وللنُّصوص الدِّينيَّة، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرَّر ما يلي:



أولاً: إنَّ ما يسمَّى بالقراءة الجديدة للنُّصوص الدِّينيَّة إذا أدَّت لتحريف معاني النُّصوص- ولو بالاستناد إلى أقوال شاذَّة بحيث تخرج النُّصوص عن المجمع عليه، وتتناقض مع الحقائق الشرعية- يُعَدُّ بدعةً منكَرَةً وخطرًا جسيمًا على المجتمعات الإسلاميَّة وثقافتها وقيمها، مع ملاحظة أنَّ بعضَ حَمَلة هذا الاتِّجاه وقعوا فيه بسبب الجهل بالمعايير الضَّابطة للتَّفسير أو الهوس بالتَّجديد غير المنضبط بالضَّوابط الشَّرعيَّة.



وتتجلَّى بوادرُ استفحال الخطر في تبنِّي بعض الجامعات منهجَ هذه القراءات، ونشر مقولاتها بمختلف وسائل التَّبليغ، والتَّشجيع على تناوُل موضوعاتها في رسائل جامعيَّة، ودعوة رموزها إلى المحاضرة والإسهام في النَّدوات المشبوهة، والإقبال على ترجمة ما كتب من آرائها بلغات أجنبيَّة، ونشر بعض المؤسَّسات لكتبهم المسمومة.



ثانيًا: أصبح التَّصَدِّي لتيار هذه القراءات من فروض الكفاية، ومن وسائل التَّصَدِّي لهذا التَّيَّار وحسم خطره ما يلي:



* دعوة الحكومات الإسلاميَّة إلى مواجهة هذا الخطر الدَّاهم، وتجلية الفرق بين حرية الرأي المسؤولة الهادفة المحترمة للثوابت، وبين الحرية المنفلتة الهدَّامة؛ لكي تقوم هذه الحكومات باتِّخاذ الإجراءات اللَّازمة لمراقبة مؤسَّسات النَّشر ومراكز الثَّقافة ومؤسَّسات الإعلام، والعمل على تعميق التَّوعية الإسلاميَّة العامَّة في نفوس النشء والشباب الجامعي والتَّعريف بمعايير الاجتهاد الشَّرعيِّ والتَّفسير الصَّحيح وشرح الحديث النَّبويّ.


* اتِّخاذ وسائل مناسبة [مثل عقد ندوات مناقشة] للإرشاد إلى التَّعَمُّق في دراسة علوم الشَّريعة ومصطلحاتها، وتشجيع الاجتهاد المنضبط بالضَّوابط الشَّرعيَّة وأصول اللُّغة العربيَّة ومعهوداتها.


* توسيع مجال الحوار المنهجيِّ الإيجابيِّ مع حملة هذا الاتِّجاه.
* تشجيع المختصِّين في الدِّراسات الإسلاميَّة لتكثيف الرُّدود العلميَّة الجادَّة ومناقشة مقولاتهم في مختلف المجالات؛ وبخاصَّة مناهج التَّعليم.


* توجيهُ بعض طلبة الدِّراسات العليا في العقيدة والحديث والشَّريعة إلى اختيار موضوعات رسائلهم الجامعيَّة في نشر الحقائق والرَّدِّ الجادِّ على آرائهم ومزاعمهم.


* تكوين فريق عمل تابع لمجمع الفقه الإسلاميِّ الدَّوليِّ، مع إنشاء مكتبة شاملة للمؤلَّفات في هذا الموضوع ترصد ما نُشر فيه والرُّدود عليه؛ تمهيدًا لكتابة البحوث الجادَّة، وللتَّنسيق بين الدَّارسين فيه ضمن مختلف مؤسَّسات البحث في العالم الإسلاميِّ وخارجه، والله أعلم»([52]).


([1]) للاستزادة يرجع كتاب: «العلمانيون والقرآن الكريم» د. أحمد إدريس الطعان (815-842).

([2]) نقد الخطاب الديني (219).

([3]) رواه ابن ماجه (4048) وصححه الألباني في المشكاة (277).

([4]) بل حتى مفهوم «الله» قابل للتغيير عندهم، يقول أركون: (على عكس ما تنطق المسلمة التقليدية التي تفترض وجود إله حيّ متعال ثابت لا يتغير، فإن مفهوم الله لا ينجو من ضغط التاريخية وتأثيرها، أقصد أنه خاضع للتحول والتغير بتغير العصور والأزمان). مفهوم النص (20).

([5]) وقد عنون محمود محمد طه كتابه الذي شرح فيه فهمه الجديد للدين بـ«الرسالة الثانية في الإسلام»، وألف رسالة أخرى بعنوان: «الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسان القرن العشرين».

([6]) النص، السلطة، الحقيقة، نصر حامد أبو زيد (134).

([7]) يقول أركون: (الإسلام لا يكتمل أبدًا؛ بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ثقافي، وفي كل مرحلة تاريخية ...). قضايا في نقد العقل الديني (174).

([8]) من العقيدة إلى الثورة لحسن حنفي (1/17).

([9]) ينظر: صوت الناس، محنة ثقافة مزورة للصادق النيهوم (25).

([10]) قال أركون كما نقله عنه عبد الرزاق هوماس في كتابه (القراءة الجديدة في ضوء ضوابط التفسير) (169).

([11]) الإسلام بين الرسالة والتاريخ عبد المجيد الشرفي (63).

([12]) سلطة النص عبد الهادي عبد الرحمن (110-111).

([13]) هي طريقة فنية تقوم على ممارسة بعض التمارين التي تحرر النفس من الطاقات الحسية والعقلية، وتوصلها شيئًا فشيئًا إلى الحقيقة.

([14]) الإسلام في الأسر الصادق النيهوم (127-134).

([15]) لا حرج، قضية التيسير في الإسلام، جمال البنا (58-61).

([16]) الإسلام بين الرسالة والتاريخ عبد المجيد الشرفي (63)، وجوهر الإسلام للعشماوي (7-8).

([17]) وجهة نظر للجابري (150، 151).

([18]) لبنات للشرفي (173)، والإسلام بين الرسالة والتاريخ (63-64).









رد مع اقتباس
قديم 2015-01-05, 18:57   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

أصحابُ القراءة الجديدة والمصطلَحات الغريبة


إنَّ من الملاحظات العامَّة على أصحاب هذا المنهج: التَّشدُّق بالألفاظ، والتَّمَعُّك بالمصطلحات بقصد الإغراب.



ومن طُرُقهم الشَّائعة في كتبهم ومصنَّفاتهم ختمُ المصطلحات بـ (وِيَّة) لإعطائها مدلولات جديدة وغريبة لا يعرف أحد غيرهم.


فالسلفيَّة تتحول إلى: سلفويَّة، والسلفي إلى: سلفويّ.
والأصولية إلى: أصولويَّة، والأصوليُّون: أصولَويُّون.
والنَّصِّيُّون إلى: نصويُّون.
والماضي إلى: ماضوية.
التاريخ والتاريخيّ: يتحوَّل إلى تاريخويّ، أو النزعة التاريخويَّة، والأخلاقية تصبح الأخلاقوية، والإسلامي إلى: إسلاموي أو إسلاموية.



كلُّ ذلك مصحوبٌ بأسلوب ماكر في استعمال المصطلحات الغامضة كالغنوصية، والأبستمولوجية، والإمبريقية، والأنسنة، والمستقبلوية، والأنطولوجية، والبلشفية، والمنشفية، والديالكتيكية، والسيوكولاستيكية، والزمكانية، والميكانزماتية، والسيميولوجية، والهرمونوطيقية، والديماغوجية.



وعندهم شغفٌ شديدٌ بالكلمات التي تنتهي بـ[لوجيا]؛ فترى أحدَهم يقولُ مثلاً: (على المستوى السايكولوجي والسوسيولوجي والإنتربولوجي).


وألفاظ كثيرة غيرها انبهر بها كثير من السُّذَّج من المثقَّفين، وظنُّوها علمًا؛ فلاكَتْها ألسنتُهم في المجالس، ورَسَمَتٍٍْها أقلامُهم في الكتب؛ لكي يُقالَ عنهم: متنوِّرون، متحضِّرون، عصريُّون!!
والقُرَّاءُ لا يملكون إلَّا أن يشهدوا لهم بالعلم والتَّعَمُّق فيه؛ مع أنَّهم لا يفهمون شيئًا من كلامهم.


وكما قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أخوفَ ما أخاف على أمَّتي كلُّ منافق عليم اللِّسان»([1]).


والعجبُ أنَّهم أنفسهم يعترفون بعدم فهمهم لها؛ فـ [هاشم صالح] الذي ترجم كتبَ محمد أركون يَعْتَرفُ ([2]) «بأنَّه لم يستطع أن يفهم هذه المصطلحات إلَّا بعد (10) سنوات، وبعضها بعد (3) سنوات من الدِّراسة في المعاهد الفرنسيَّة، حتى استطاع أن يتصوَّر معناها كما أراد مستعملوها».

([1]) رواه أحمد (143) وصححه الألباني في صحيح الجامع (239).

([2]) في مقدمته لكتاب (أين هو الفكر الإسلامي المعاصر).









رد مع اقتباس
قديم 2015-01-08, 18:51   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

من أصول

وقواعد أهل السُّنَّة في فهم

النُّصوص الشَّرعيَّة

لقد جاء الإسلامُ بقواعد واضحة لفهم النُّصوص الشَّرعيَّة، حتى لا تزلَّ الأقدامُ أو تضلَّ الأفهام.


وهذه القواعد ركيزةٌ رئيسةٌ لصحَّة الاستدلال، ولا يستطيع المرءُ أن يعرف مرادَ الله ومرادَ رسوله صلى الله عليه وسلم إلا إذا استقام فهمُه لدلائل الكتاب والسُّنَّة.



وما حدثت الأفكارُ والآراءُ والضَّلالاتُ إلَّا بسبب سوء الفهم.
ولو تُركت النُّصوصُ للنَّاس كُلٌّ يفهم منها حسبما يُمليه عليه فهمُه وعقلُه، لشَطَّ النَّاسُ في الفهم شططًا بعيدًا؛ لذلك كان لابُدَّ من أصول علميَّة نلتزم بها في فهم النُّصوص.


من هذه الأصول:



أولاً: وجوبُ الرُّجوع لمنهج السَّلف الصَّالح في فهم النُّصوص الشَّرعية:



قد يَقول قائل: لماذا يجب علينا اتِّباعُ منهج السَّلف دون غيرهم؟! أليسوا بشرًا كسائر البشر؛ فلماذا نخصُّهم بوجوب الاتِّباع؟!
وكما يقول كثيرٌ من الكتَّاب اليوم: هم رجالٌ ونحن رجالٌ.
فنقول: إنَّ السَّلفَ الصَّالحَ قد تميَّزوا بأمور لم تتوفَّر في غيرهم من هذه الأمَّة؛ فكانوا يمثِّلون الفهمَ الصَّحيحَ والتَّطبيقَ العمليَّ لما جاء في الكتاب والسُّنَّة.



وقد دلَّت الأدلَّةُ الشَّرعيَّةُ الكثيرةُ من جهات عدَّة على وجوب الرُّجوع لفهم السَّلف لنصوص الكتاب والسُّنَّة، ومن ذلك:



1- أنَّ اللهَ توعَّدَ من خالف طريقهم ومنهجهم بالعذاب الأليم: }وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا{ [النساء: 115]؛ فمَن سلك طريقًا في الفهم مخالفًا لطريق المؤمنين فقد توعَّدَه اللهُ بالعقاب الأليم، وأوَّلُ مَن يدخل في قوله: }سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ{ المؤمنون الأوائل الذين رضي اللهُ عنهم بنصِّ القرآن؛ }وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ [التوبة: 100].


قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله: «سَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وولاةُ الأمر بعدَه سُنَنًا الأخذُ بها اتِّباعٌ لكتاب الله، واستكمالٌ لطاعة الله، وقوَّةٌ على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرُها، ولا تبديلها، ولا النَّظر في شيء خالَفَها؛ مَن اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين، وولَّاه اللهُ ما تولَّى، وأصلاه جهنمَ وساءت مصيرًا»([1]).


2- أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ باتِّباعهم والسَّير على منهجهم في قوله: «فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عضّوا عليها بالنَّواجذ»([2]).


قال ابنُ القيِّم- رحمه الله: «وقد قرن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سنَّةَ أصحابه بسنَّته، وأمر باتِّباعها كما أمر باتِّباع سنَّته، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يُعَضَّ عليها بالنَّواجذ»([3]).


وعن حذيفة- رضي الله عنه- قال: «اتَّقوا اللهَ يا معشرَ القرَّاء، وخذوا طريقَ مَن كان قبلَكم؛ فلعمري لئن اتَّبعتموه لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا»([4]).


أسير خلف ركاب النّجب ذا عرج




مؤمِّلاً كشفَ ما لاقيتُ من عوج


فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا




فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج


وإن بقيتُ بظهر الأرض منقطعًا




فما على عَرَج في ذاك من حرج





3- أنَّ السَّلفَ الصَّالحَ هم أفضل هذه الأمَّة وخيرُها علمًا وعملاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: «خيرُ النَّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»([5]).


قال ابنُ تيمية- رحمه الله: «ومن المعلوم بالضَّرورة لمن تدبَّر الكتابَ والسُّنَّة وما اتَّفق عليه أهل السُّنَّة والجماعة من جميع الطَّوائف، أنَّ خيرَ قرون هذه الأمَّة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كلِّ فضيلة أنَّ خيرَها القرنُ الأوَّلُ، ثمَّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛ كما ثبت ذلك عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنَّهم أفضلُ من الخلف في كلِّ فضيلة من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنَّهم أولى بالبيان لكلِّ مُشْكل؛ هذا لا يدفعه إلَّا مَن كابر المعلوم بالضَّرورة من دين الإسلام، وأضلَّه اللهُ على علم، وما أحسن ما قال الشَّافعيُّ في رسالته: هم فوقنا في كلِّ علم، وعقل، ودين، وفضل، وكلِّ سبب ينال به علم، أو يدرك به هدىً، ورأيُهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا»([6]).


4- أنَّ التَّمسُّكَ بما كانوا عليه سببٌ للنَّجاة عند وقوع الفتن والاختلاف والتَّفرُّق؛ عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ بني إسرائل تفرَّقت على ثنتين وسبعين ملَّة، وتفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين ملَّة؛ كلُّهم في النَّار إلَّا ملَّة واحدة».


قالوا: ومن هي يا رسول الله؟
قال: «ما أنا عليه وأصحابي»([7]).
وهذا يدلُّ على أنَّ فيصلَ التَّفريق بين الحقِّ والباطل باتِّباع الصَّحابة فيما كانوا عليه.
5- أنهم أعلمُ بمراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من غيرهم؛ وهذه من أهمِّ مميِّزاتهم التي تجعل منهجَهم وطريقَهم هو المقدَّمُ.
وذلك: «لما خصَّهم اللهُ تعالى به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللِّسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وحسن القصد وتقوى الرَّبِّ تعالى.
فالعربيَّةُ طبيعتُهم وسليقتُهم، والمعاني الصَّحيحة مركوزةٌ في فطرهم وعقولهم، ولا حاجةَ بهم إلى النَّظر في الإسناد وأحوال الرُّواة وعلل الحديث والجرح والتَّعديل، ولا إلى النَّظَر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليِّين؛ بل قد غُنُوا عن ذلك كلِّه؛ فليس في حقِّهم إلا أمران:



أحدهما: قال الله تعالى كذا وقال رسوله كذا.
والثاني: معناه كذا وكذا.
وهم أسعد النَّاس بهاتين المقدِّمتين، وأحظى الأمَّة بهما؛ فقواهم متوفِّرةٌ مجتمعةٌ عليهما»([8]).
وهم إلى فَهم النُّصوص ودلالاتها أقربُ من غيرهم؛ لأنَّ القرآنَ يَتَنَزَّل عليهم بألسنتهم ([9]) والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يبيِّن لهم ما نزل إليهم، وما أشكل عليهم في شتَّى مسائل الدِّين.
وقد أخذوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم «لفظ القرآن ومعناه»؛ كما قال ابنُ تيمية- رحمه الله ([10]).


فتعلَّموا القرآنَ بنصوصه ومعانيه، وقواعده وضوابطه، وتركهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على ملَّة قويمة مستقرَّة، ومحجَّة بيضاء ناصعة، لا خفاء فيها ولا غموض، ولا لبس ولا إبهام؛ «قد تركتُكم على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلَّا هالكٌ»([11])؛ فكلُّ ما خفي وأشكل واشتبه فبيانُه وجلاؤُه في علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


قال عمر بن الخطاب لابن عبَّاس- رضي الله عنهم: «كيف تختلف هذه الأمَّة ونبيُّها واحد، وقبلتها واحدة؟!
فقال ابن عبَّاس- رضي الله عنهما: «يا أميرَ المؤمنين؛ إنَّما أُنزل علينا القرآنُ فقرأناه، وعلمنا فيمن نزل، وإنَّه سيكون بعدنا أقوامٌ يقرؤون القرآنَ ولا يدرون فيمَن نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا...»([12]).


قال الشَّاطبيُّ- رحمه الله: «فلهذا كلِّه يجب على كلِّ ناظر في الدَّليل الشَّرعيِّ مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصَّواب، وأقومُ في العلم والعمل»([13]).


وقال الحافظُ ابنُ رجب الحنبليّ- رحمه الله: «فالعلمُ النَّافعُ من هذه العلوم كلِّها: ضبطُ نصوص الكتاب والسُّنَّة وفهم معانيها، والتَّقَيُّد في ذلك بالمأثور عن الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزُّهد والرَّقائق والمعارف وغير ذلك»([14]).


وقال الحافظ ابنُ عبد الهادي- رحمه الله: «ولا يجوز إحداثُ تأويل في آية أو سنَّة لم يكن على عهد السَّلف، ولا عرفوه ولا بيَّنوه للأمَّة؛ فإنَّ هذا يتضمَّن أنَّهم جهلوا الحقَّ في هذا وضلُّوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر»([15]).


وقال ابنُ تيمية- رحمه الله: «مَن فسَّر القرآنَ أو الحديث وتأوَّله على غير التَّفسير المعروف عن الصَّحابة والتَّابعين، فهو مفتر على الله، ملحدٌ في آيات الله، محرِّفٌ للكلم عن مواضعه؛ وهذا فتحٌ لباب الزَّندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام»([16]).


وأمَّا القولُ بأنَّ السَّلفَ بشرٌ غير معصومين فكيف نُلزَم باتِّباعهم؟
فجوابه: أنَّ العصمةَ للمنهج لا للأفراد؛ فالأفرادُ غيرُ معصومين؛ أمَّا المنهجُ الذي ساروا عليه فهو المعصوم الذي لا يدخله خللٌ، ولا يعتريه نقصٌ؛ لأنَّ الأمَّةَ لا تجتمع على ضلالة، وملخَّصُ منهجهم اتِّباعُ الكتاب والسُّنَّة وعدمُ معارضتهما بآراء الرِّجال واعتماد لغة العرب أساسًا في فهم هذين الأصلين.


ثانيًا: الرُّجوعُ إلى لغة العرب في فهم المراد من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد شاء اللهُ تعالى أن تكون رسالتُه الخاتمة إلى البشريَّة باللُّغة العربيَّة، }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{ [يوسف: 2]، }كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{ [فصلت: 3]، }إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{ [فصلت: 3]، }إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون{. [الزخرف: 3]، }وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ{ [الأحقاف: 12].


وقد يكون من وجوه الحكمة في ذلك أنَّ هذه اللُّغةَ بَلَغَت في سلَّم اللغات الإنسانيَّة الذّروةَ في سعة الألفاظ، وفي ثراء أساليب النَّظم؛ ممَّا جَعَلَها أكفأَ اللُّغات في حمل المعاني، وأقدرها على أدائها؛ فالقرآنُ عربيٌّ في ألفاظه، وفي تراكيب تلك الألفاظ، وفي أساليبه ومعانيه؛ فمعاني كتاب الله تعالى موافقةٌ لمعاني كلام العرب، كما أنَّ ألفاظَه موافقةٌ لألفاظها، ولهذا فلا يمكن لأحد أن يفهم كلامَ الله ورسوله إلَّا من هذه الجهة.


قال الشاطبيُّ- رحمه الله: «فعلى النَّاظر في الشَّريعة والمتكلِّم فيها أصولاً وفروعًا ... أن لا يتكلَّمَ في شيء من ذلك حتى يكون عربيًّا، أو كالعربيِّ في كونه عارفًا بلسان العرب ... فإن لم يبلغ ذلك فحسبُه في فهم معاني القرآن التَّقليدُ، ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به»([17]).


وما زال السَّلفُ ومَن كان على هديهم يستدلُّون على معاني الكتاب والسُّنَّة بكلام العرب من شعر وغيره.


قال ابنُ تيمية- رحمه الله: «فمعرفةُ العربيَّة التي خوطبنا بها ممَّا يُعين على أن نفقه مرادَ الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإنَّ عامَّةَ ضلال أهل البدع كان بهذا السَّبب؛ فإنَّهم صاروا يحملون كلامَ الله ورسوله على ما يدَّعون أنَّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمرُ كذلك»([18]).


ولذلك قال الحسنُ- رحمه الله: «أهلكتهم العجمةُ يتأوَّلونه على غير تأويله»([19]).


وقال الإمامُ الشَّافعيُّ: «ما جهل النَّاس ولا اختلفوا إلَّا لتركهم لسانَ العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس»([20])؛ فمَن أراد تفهُّمَ كتابَ الله فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيلَ إلى تطلُّب فهمه من غير هذه الجهة ([21]).


وقال الإمام مالك- رحمه الله: «لا أُوتى برجل غير عالمٍ بلغة العرب يفسِّر كتاب الله إلا جعلتُه نكالاً»([22]).


وروي عن مجاهد- رحمه الله- أنَّه قال: «لا يحلُّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب»([23]).


وقال أبو عبيد: سمعتُ الأصمعيَّ يقول: سمعتُ الخليلَ بنَ أحمد يقول: سمعت أيوب السِّختيانيّ- رحمه الله- يقول: «عامَّةُ مَن تزندق بالعراق لقلَّة علمهم بالعربيَّة»([24]).


فعدمُ المعرفة بلسان العرب تؤدِّي للخطأ في فهم مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك:
قولُ مَن زعم أنَّه يجوز للرَّجل نكاحُ تسع من النساء؛ مستدلًّا بقوله تعالى: }فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ{ [النساء: 3]، وجمع أربع إلى ثلاث إلى اثنتين يساوي تسع.
قال القرطبيُّ- رحمه الله: «وهذا كلُّه جهلٌ باللِّسان ... فإنَّ اللهَ تعالى خاطب العربَ بأفصح اللُّغات، والعربُ لا تدع أن تقول تسعة، وتقول اثنين وثلاثة وأربعة.
وكذلك تَستقبح ممَّن يقول: أعط فلانًا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول ثمانية عشر»([25]).
فالمرادُ بالآية التَّخييرُ بين تلك الأعداد لا الجمع، ولو أراد الجمعَ لقال تسع، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقلّ بيانًا ([26]).
وقولُ مَن زَعَمَ أنَّ المحرَّمَ من الخنزير إنَّما هو اللَّحم، وأمَّا الشَّحم فحلال؛ لأنَّ القرآن إنَّما حرَّم اللَّحمَ دونَ الشَّحم في قوله: }حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ{ [المائدة: 3].


ولو عرف أنَّ اللَّحمَ يُطْلَقُ على الشَّحم أيضًا في لغة العرب؛ بخلاف الشَّحم؛ فإنَّه لا يُطْلَقُ على اللَّحم، لم يقل ما قال ([27]).


وقولُ مَن زعم أنَّ معنى قوله تعالى: }فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ{ [الأنبياء: 87].
أي يفوتنا، ولو علم أنَّ معنى نقدر: نضيِّق، لم يخبط هذا الخبط.
واعتقاد بعضهم أنَّ قولَه تعالى: }يَأْتُوكَ رِجَالًا{ [الحج: 27]- أنَّ المرادَ بالآية الرِّجال؛ ولذلك يكتبون هذه الآيةَ في التَّمائم للفتاة البكر ليأتيها الرَّجلُ ويتزوَّجها!! وإنَّما معنى الآية مشاة على أرجلهم.


قال الشَّاطبيُّ- رحمه الله- معلِّقًا على حال هؤلاء الذين يفسِّرون القرآنَ بغير علم: «تخرصهم على الكلام في القرآن والسُّنَّة العربيَّين مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشَّريعة بما فهموا، ويدينون به، ويخالفون الرَّاسخين في العلم؛ وإنَّما دخلوا ذلك من جهة تحسين الظَّنِّ بأنفسهم واعتقادهم أنَّهم من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك.


كما حكي عن بعضهم أنَّه سئل عن قول الله تعالى: }رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ{ [آل عمران: 117]([28]) فقال: هو هذا الصرصر»([29]).


ثالثًا: الرُّجوعُ للقواعد والأصول التي وَضَعَها السَّلَفُ في فهم النُّصوص:



كان للسَّلف قواعدُ ومبادئُ يسيرون عليها في فهمهم للنُّصوص الشَّرعيَّة، وأوَّلُ مَن جَمَعَ هذه القواعد وبيَّنَها وشرحَها الإمامُ الشَّافعيُّ في كتابه [الرِّسالة] الذي كان نواةً لما أُلِّف بعده من كتب علم [أصول الفقه].


والتي تُعنَى بجمع القواعد التي تضبط استنباطَ الأحكام الشَّرعيَّة من نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ ولذلك يشنُّ أصحابُ بدعة [إعادة قراءة النَّصّ] حملةً شعواء على الإمام الشَّافعيِّ وكتابه الرِّسالة؛ يقول أركون عن الإمام الشَّافعيِّ وكتابه الرِّسالة: «قد ساهم في سجن العقل الإسلاميِّ داخلَ أسوار منهجيَّة معيَّنة»([30]).


ويقولُ عن تحديد الإمام الشَّافعيِّ لمصادر التَّشريع الإسلاميِّ بأنَّها الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقياسُ: «هذه هي الحيلةُ الكبرى التي أتاحت شيوعَ ذلك الوهم الكبير بأنَّ الشَّريعةَ ذات أصل إلهيٍّ»([31]).


وهو عند الجابريّ: «المشرِّع الأكبر للعقل العربيّ»؛ لأنَّه جعل: «النَّصّ هو السُّلطة المرجعيَّة الأساسيَّة للعقل العربيّ وفاعليَّاته»([32]).


وأمَّا الشَّرفيُّ فيُصرِّحُ قائلاً: «من غير المقبول اليومَ أن نتمسَّكَ بمنهج الشَّافعيِّ الأصوليِّ؛ إذ فهمُ الكتاب والسُّنَّة على نحو فهم الشَّافعيّ وتأويلُه لا يؤدِّيان إلَّا إلى مأزق منهجيٍّ لا عهدَ للأسلاف به»([33]).


ويطالبُ أصحابُ هذه المدرسة بوضع قواعد جديدة لأصول الفقه.


يقول الجابري: «إنَّما نريد أن يتَّجه تفكيرُ المجتهدين الرَّاغبين في التَّجديد حقًّا والشَّاعرين بضرورته فعلاً إلى القواعد الأصوليَّة نفسها، إلى إعادة بنائها بهدف الخروج بمنهجيَّة جديدة تواكب التَّطَوُّرَ الحاصلَ»([34]).


ويقولُ كذلك مبرِّرًا دعوتَه إلى تغيير علم أصول الفقه: «ولا شيءَ يَمنع من اعتماد قواعد منهجيَّة أخرى إذا كان من شأنها أن تحقِّقَ الحكمةَ من التَّشريع في زمن معيَّن بطريقة أفضل»([35]).


ويقولُ محمَّدٌ الشَّرَفيُّ: «وقواعدُ الفقه التي وَضَعَها الفقهاء ليست في حقيقتها ذات طبيعة دينيَّة؛ وإنَّما هي قواعدُ من وضع بشر، فكانت منافيةً للعدل والمساواة وحقوق الإنسان»([36]).


والهدفُ من هذه الدَّعوة التَّفلُّت من القواعد والضَّوابط التي وضعها العلماء للاستنباط؛ حتَّى يتسنَّى لهم العبث بالنُّصوص الشَّرعيَّة كما شاؤوا.

([1]) حلية الأولياء (6/324).

([2]) رواه الترمذي (2600) وأبو داود (3991) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4314).

([3]) إعلام الموقعين (4/140).

([4]) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (3/184).

([5]) رواه البخاري (2458).

([6]) مجموع الفتاوى (4/157).

([7]) رواه الترمذي (2641) والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع (9474).

([8]) إعلام الموقعين (4/149).

([9]) وممَّا يؤكِّد هذا ما جاء عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: «والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه». رواه مسلم في صحيحه (2463).
وروى ابنُ إسحاق عن مجاهد، قال: «عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عبَّاس، أقفه عند كلِّ آية، أسأله فيم نزلت، وكيف كانت». سير أعلام النُّبلاء (4/450).

([10]) مجموع الفتاوى (13/384).

([11]) سنن ابن ماجه (43) وصححه الألباني في صحيح الجامع (7818).

([12]) فضائل القرآن للقاسم بن سلام (103).

([13]) الموافقات (3/77).

([14]) فضل علم السلف (6).

([15]) الصارم المنكي (1/497).

([16]) مجموع الفتاوى (13/243).

([17]) الاعتصام (1/503).

([18]) مجموع الفتاوى (7/116).

([19]) الاعتصام (1/503).

([20]) سير أعلام النبلاء (10/74).

([21]) الموافقات (2/64).

([22]) شعب الإيمان للإمام البيهقي (2/425).

([23]) البرهان في علوم القرآن (1/292).

([24]) كتاب الزينة لأبي حاتم (86).

([25]) تفسير القرطبي (5/17).

([26]) التسهيل لابن جزي (1/232).

([27]) ينظر: تفسير القرطبي (2/222)، تفسير ابن كثير (3/16).

([28]) صر: برد شديد. لسان العرب (4/450) مادة: صرر.

([29]) أي: صرار الليل، ينظر: الاعتصام (1/179).

([30]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي (74).

([31]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي (297).

([32]) الجابري تكوين العقل العربي (105)، بنية العقل للجابري (22).

([33]) لبنات لعبد المجيد الشرفي (143).

([34]) وجهة نظر (63).

([35]) وجهة نظر (62).

([36]) الإسلام والتاريخ لمحمد الشرفي (64).









رد مع اقتباس
قديم 2015-01-08, 18:55   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

وسنذكر باختصار بعضَ القواعد التي وضعها العلماء لفهم النُّصوص الشَّرعيَّة، منها:


1- العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبَب.



هذه القاعدة نصَّ عليها عامَّةُ العلماء؛ فقد تقع حادثة فتنزل في شأنها آية، أو يرد بسببها حديث، ويكون لفظُهما عامًّا يشمل تلك الحادثةَ وغيرَها؛ فالواجبُ حينئذ العمل بعموم لفظ الآية أو الحديث، لا أن يُجعل الحكمُ خاصًّا بذلك السَّبب.


فالأمَّةُ مجمعةٌ على أنَّ آيات الحدود، والكفَّارات، والمواريث، والنكاح، والطلاق، وغيرها، عامَّةٌ لجميع الأمَّة، مع أن بعضَها نزل في أقوام معيَّنين.



وأصحابُ القراءة الجديدة يَرفضون هذه القاعدة رفضًا باتًّا، ويرون تخصيصَ الآيات والأحاديث بأسباب نزولها.


ونتيجة هذه القراءة التَّحَلُّلُ من الأحكام الشَّرعيَّة؛ لأنَّ القرآنَ نزل لأسباب معيَّنة، وقد انقضت تلك الأسباب وانتهت؛ وبالتَّالي سينتهي معها العملُ بالقرآن!!


يقول أحدُهم عن آيات الولاء والبراء: «لا مناصَ من الإقرار بصحَّة الشَّهادات القرآنيَّة المقدَّمة من قبَل أنصار عقيدة الولاء والبراء؛ لأنَّها نصوصٌ واضحةٌ فصيحةٌ لا تَحْتَمل تأويلاً؛ لكنَّها تحتملُ تفسيرًا ربَّما كان هو الأصدق ممَّا يقدِّمه أنصارُ الكراهية والدم.


إنَّ هذه الآيات لا يمكن بحال تعميمُ معناها في الزَّمان المطلَق، والمكان المطلق، بحجَّة قاعدة: «العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب»؛ فالآياتُ تحدِّثنا عن زمن بعينه، وظرف بعينه؛ فمنعاً لوصول أسرار الدَّولة النَّاشئة عبرَ حالة عاطفيَّة بين أخوين أو أيّ رحمين، فقد نهى القرآنُ عن موالاتهم نصًّا ولفظًا ومعنى واضحًا كلَّ الوضوح يربط الآيات بزمنها وظروفها ومكانها، وليس بعد ذلك أو قبلَه أبدًا».


ثم يقول: «يمكن القولُ بملء الفم: لا لقواعد الفقه البشريَّة؛ مثل قاعدة: العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، ولا لقاعدة: لا اجتهادَ مع النَّصِّ»([1]).


ويقول الجابريُّ داعيًا إلى ربط الأحكام بأسباب نزولها كي تبدو الشَّريعة أكثرَ طواعيةً وأشدَّ مسايرةً لظروف العصر وأحواله المتغيِّرة: «وهذا بابٌ عظيمٌ واسعٌ، يفتح المجال لإضفاء المعقوليَّة على الأحكام بصورة تجعل الاجتهادَ في تطبيقها وتنويع التَّطبيق باختلاف الأحوال وتغيُّر الأوضاع أمرًا ميسورًا»([2]).


ويضرب الجابريُّ لذلك مثالاً بربط عقوبة القطع في السَّرقة بأسباب نزولها؛ وهي: ما كان عليه العربُ قبل الإسلام وزمن البعثة النَّبويَّة من حيث إقامتهم في مجتمع بدويٍّ صحراويٍّ، واعتمادهم على التَّنَقُّل والتّرحال؛ طلبًا للكلأ.


فلم يكن من الممكن عقابُ السَّارق بالسّجن؛ إذ لا سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون؛ وأمَّا في وقتنا الحاضر- وقت التَّطُوُّر العمرانيّ والصِّناعيّ- فقطعُ يد السَّارق غيرُ ملائم لرَدْعه عن تكرار السَّرقة؛ بل الملائمُ هو السّجن بدل القطع.


قال الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله: «فانظروا إلى ما فعل بنا أعداؤنا المبشِّرون المستعمرون! لعبوا بديننا وضربوا علينا قوانين وثنيَّةً مجرمةً نسخوا بها حكمَ الله وحكمَ رسوله، ثمَّ ربَّوا فينا ناسًا ينتسبون إلينا، أشربوهم في قلوبهم بُغضَ هذا الحكم، ووضعوا على ألسنتهم كلمةَ الكفر: أنَّ هذا حكمٌ قاس لا يناسب هذا العصرَ الماجنَ، عصرَ المدنيَّة المتهتِّكة!


وجعلوا هذا الحكم موضعَ سخريتهم وتندُّرهم!


فكان عن هذا أن امتلأت السُّجون في بلادنا وحدها بمئات الألوف من اللُّصوص، بما وضعوا في القوانين من عقوبات للسَّرقة ليست برادعة، ولن تكون أبدًا رادعةً، ولن تكون أبدًا علاجًا لهذا الدَّاء المستشري.


ولقد جادلت منهم رجالاً كثيرًا من أساطينهم، فليس عندهم إلَّا أنَّ حكمَ القرآن في هذا لا يناسب هذا العصر!!


وأنَّ المجرمَ إن هو إلَّا مريضٌ يجب علاجه لا عقابه!!


ثم ينسون قولَ الله- سبحانه- في هذا الحكم بعينه: }جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ{ [المائدة: 38]؛ فالله- سبحانه- وهو خالق الخلق، وهو أعلم بهم، يجعل هذه العقوبة للتَّنكيل بالسَّارقين نصًّا قاطعًا صريحًا؛ فأين يذهب هؤلاء النَّاس؟!


ولو عقل هؤلاء النَّاس الذين يَنتسبون للإسلام لعلموا أنَّ بضعةَ أيدٍ من أيدي السَّارقين لو قُطعت كلَّ عام لنجت البلادُ من اللُّصوص، ولما وقع كلَّ عام إلَّا بضعُ سرقات؛ كالشَّيء النَّادر، ولخلت السُّجونُ من مئات الألوف التي تجعل السُّجونَ مدارسَ حقيقيَّةً للتَّفنُّن في الجرائم.


لو عقلوا لفعلوا؛ ولكنَّهم يصرُّون على باطلهم؛ ليرضى عنهم سادتُهم ومعلِّموهم! وهيهات!!»([3]).


2- وجوبُ العمل بظواهر النُّصوص:



من القواعد التي قرَّرَها أهلُ العلم في فهم النُّصوص فهمًا صحيحًا: أنَّه يجب العملُ بما دلَّ عليه ظاهرُ النَّصِّ؛ ما لم يرد دليلٌ صحيحٌ يدلُّ على أنَّ هذا الظَّاهرَ غيرُ مراد.


قال الشَّافعيُّ- رحمه الله: «والقرآنُ على ظاهره حتى تأتي دلالةٌ منه، أو سنَّةٌ، أو إجماع، بأنَّه على باطن دونَ ظاهر»([4]).


وقال: «ليس لأحد أن يُحيل منها ظاهرًا إلى باطن، ولا عامًّا إلى خاصٍّ إلَّا بدلالة من كتاب الله؛ فإن لم تكن فسنَّة رسول الله، أو إجماع من عامَّة العلماء ... ولو جاز في الحديث أن يُحالَ شيءٌ منه عن ظاهره إلى معنى باطن يحتمله، كان أكثرُ الحديث يَحتمل عددًا من المعاني، ولا يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجَّةٌ على أحد ذهب إلى معنى غيره، ولكنَّ الحقَّ فيها واحدٌ؛ لأنَّها على ظاهرها وعمومها، إلَّا بدلالة عن رسول الله، أو قول عامَّة أهل العلم بأنَّها على خاصٍّ دونَ عامٍّ، وباطن دون ظاهر»([5]).


وشيخُ المفسِّرين الإمامُ القرطبيُّ- رحمه الله- في تفسيره كثيرًا ما يقرِّرُ هذا المعنى قائلاً: «وغيرُ جائز تركُ الظَّاهر المفهوم إلى باطن لا دلالةَ على صحَّته»([6]).


فالواجبُ إبقاءُ نصوص الكتاب والسُّنَّة على ظاهرها وعمومها وإطلاقها؛ ليس لأحد أن يحيلَ فيها ظاهرًا إلى باطن، ولا عامًّا إلى خاصٍّ، ولا مطلَقًا إلى مقيَّد ([7])، إلَّا بدليل من كتاب الله- تعالى- أو سنَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم الصَّحيحة، أو إجماع العلماء.



وحملُ اللَّفظ على غير ظاهره هو الذي يسمَّى التَّأويل؛ ويَنقسم إلى قسمين:


الأوَّلُ: تأويلٌ صحيحٌ؛ وهو صرفُ اللَّفظ عن معناه الظَّاهر إلى معنى آخر يَحتمله اللَّفظُ؛ لوجود دليل يدلُّ على ذلك ([8])؛ كقوله تعالى: }وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا{ [النساء: 93]؛ فظاهر الآية أنَّ القاتلَ مخلَّدٌ في نار جهنم.


وقد تواترت الأحاديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه يخرج من النَّار مَن كان في قلبه أدنى مثقال ذرَّة من إيمان، وعلى قبول توبة كلِّ تائب؛ ممَّا يَقتضي صرفَ لفظ الآية عن ظاهرها وتأويلها بطول البقاء في النَّار لا دوام الخلود؛ وهو معنى سائغٌ في لغة العرب ([9]).


والثَّاني: تأويلٌ باطلٌ؛ وهو صرفُ اللَّفظ عن ظاهره إلى معنى آخر، من غير دليل صحيح يدلُّ على إرادة هذا المعنى؛ كتأويل الجنِّ بـ «الميكروب»، والطير الأبابيل بـ «البعوض»، وحجارة السِّجِّيل بـ «جرثومة الجدريّ»([10]).


وتأويل قوله تعالى: }وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ{ [الفجر: 1-3] بأنَّ الفجرَ هو الانفجارُ الكونيُّ الأوَّل، واللَّيالي العشر تعني أنَّ المادةَ مرَّت بعشر مراحل للتَّطَوُّر حتى أصبحت شفَّافةً للضَّوء، وأن (الشَّفعَ والوَترَ) تعني الهيدروجين، وفيه الشَّفع في النَّواة، والوتر في المدار([11]).


وأنَّ الظُّلمات الثَّلاث في قوله تعالى: }يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ{ [الزمر: 6] هي المراحلُ الدَّاروينيَّة الثلاث التي مرَّت بها الحياةُ على سطح الأرض([12]).


وهو من التَّلاعُب بالنُّصوص وتحريفها عن معانيها، ومن جنس الإلحاد في آيات الله؛ }إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ{ [فصلت: 40].


قال ابنُ القَيِّم- رحمه الله: «فتأويلُ التَّحريف من جنس الإلحاد؛ فإنَّه هو الميلُ بالنُّصوص عمَّا هي عليه؛ إمَّا بالطَّعن فيها، أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها»([13]).


ولو قُدِّرَ أنَّ المتكلمَ أراد من المخاطَب حملَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته من غير قرينة ولا دليل ولا بيان، لصادم هذا الفعلُ مقصودَ الإرشاد والهداية، ولكان تركُ الخطاب خيراً له وأقربَ إلى الهدى من تكليفه بصرف الكلام عن ظاهره بغير دليل وتعريضه لفتنة اعتقاد الباطل بالحَمل على الظَّاهر ([14]).


3- ردُّ المتشابه من النُّصوص إلى المحكَم:

والمحكَم: ما لا يَحتمل من التَّفسير إلا وجهاً واحدًا.
والمتشابه: ما احتمل أَوجُهاً كثيرة ([15]).
وقد أمر الله- عزَّ وجلَّ- بردِّ المتشابه إلى المحكَم فقال: }هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ{ [آل عمران: 7].


قال ابنُ كثير- رحمه الله: «يخبر تعالى أنَّ في القرآن آيات محكمات هنَّ أمُّ الكتاب؛ أي: بيِّنات واضحات الدِّلالة، لا التباسَ فيها على أحد من النَّاس.


ومنه آيات أُخر فيها اشتباه في الدِّلالة على كثير من النَّاس أو بعضهم؛ فمَن رَدَّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكَّمَ محكمَه على متشابهه عندَه، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس»([16]).


وتركُ المحكم والاعتمادُ على المتشابه يؤدِّي للضَّلال؛ فقد رَدَّ الخوارجُ والمعتزلةُ النُّصوصَ المحكمةَ الصَّريحةَ في إثبات الشَّفاعة بما تشابه من قوله تعالى: }فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ{ [المدثر: 48].


وردَّ الجبريَّةُ النُّصوصَ المحكمةَ في إثبات مشيئة العبد وكونه قادرًا مختارًا بما تشابه عندهم من قوله تعالى: }وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا{ [الإنسان: 30].


4- جمعُ النُّصوص الواردة في الباب الواحد:


فلا تتَّضح المسائلُ والأحكامُ حتَّى تستوفي جميع النُّصوص الواردة فيها؛ لأنَّها من مشكاة واحدة، ولا يمكن أن يرد بينها تناقضٌ ولا اختلافٌ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «... إنَّ القرآنَ لم ينزل يكذِّبُ بعضُه بعضًا؛ بل يصدِّقُ بعضُه بعضًا؛ فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردُّوه إلى عالمه»([17]).


فلا يجوز أن يؤخَذَ نصٌّ ويُتْركَ نصٌّ آخر؛ فهذا يؤدِّي إلى تقطيع النُّصوص وبَتْرها، وقد قال تعالى عن اليهود: }أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ{ [البقرة: 85].


وإنَّ كثيرًا من البدع والضَّلالات في القديم والحديث إنَّما ظهرت بسبب إهمال هذه القاعدة الجليلة؛ فبعضُ المبتدعة يأخذ نصًّا، ويترك نصوصًا أخرى قد تكون مخصِّصةً، أو مقيِّدةً، أو مبيِّنةً، أو ناسخةً، أو غير ذلك.


قال الشَّاطبيُّ- رحمه الله: «كثيرًا ما ترى الجهَّالَ يحتجُّون لأنفسهم بأدلَّة فاسدة، وبأدلة صحيحة؛ اقتصارًا على دليل ما، واطِّراحًا للنَّظر في غيره من الأدلَّة»([18])؛ فالخوارجُ أخذوا بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، ففهموها على غير مرادها، فكفَّروا المسلمين واستباحوا دماءَهم وأموالَهم.


وأَخَذَ المرجئةُ بنصوص الوعد، وتركوا نصوصَ الوعيد، ففهموها على غير مرادها، وقالوا: لا يَضُرُّ مع الإيمان معصيةٌ، كما لا ينفع مع الكفر طاعةٌ.



والجمعُ بين النُّصوص يكون بردِّ العامِّ إلى الخاصِّ، والمطلَق إلى المقيَّد، والمجمَل إلى المبيَّن، والمتشابه إلى المحكَم، وهذه طريقة الرَّاسخين في العلم.


([1]) مقال بعنوان (نظرية أن كل مسلم إرهابي).
للكاتب المصري/ سيد القمني في موقعه على الإنترنت https://quemny.blog.com

([2]) وجهة نظر (59).

([3]) عمدة التفسير (1/681).

([4]) الرسالة (580).

([5]) اختلاف الحديث (1/480).

([6]) تفسير الطبري (1/15).

([7]) بخلاف مَن يدعو اليومَ إلى تقييد تعدُّد الزَّوجات، أو تقييد الطَّلاق بقيود لا أصل لها في الشَّريعة.

([8]) الإحكام في أصول الأحكام (3/59).

([9]) تفسير ابن كثير (1/710).

([10]) تفسير جزء عم لمحمد عبده (155)، وينظر: تفسير المنار (7/319).

([11]) الكتاب والقرآن (235).

([12]) الكتاب والقرآن (208).

([13]) الصواعق المرسلة (1/217).

([14]) انظر الصواعق المرسلة (1/310).

([15]) البحر المحيط (2/85).

([16]) تفسير ابن كثير (2/6).

([17]) رواه أحمد (6663) وصححه الألباني في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية (1/218).

([18]) الاعتصام (1/167).










رد مع اقتباس
قديم 2015-01-08, 19:02   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
seifellah
عضو متألق
 
الصورة الرمزية seifellah
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

المؤهَّلُ

لفهم النُّصوص الشَّرعيَّة؟

من الأمور التي لابدَّ من بيانها وتوضيحها أنَّ النُّصوصَ الشَّرعيَّةَ قسمان:


الأوَّلُ: نصوصٌ صريحةٌ واضحةُ الدِّلالة؛ وهي أغلبُ نصوص القرآن والسُّنَّة؛ فالقرآنُ معظمُه واضحٌ وبيِّنٌ وظاهرٌ لكلِّ الناس؛ كما قال ابنُ عبَّاس- رضي الله عنهما: التَّفسيرُ على أربعة أوجه:



- وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها.
- وتفسير لا يُعذَر أحدٌ بجهالته.
- وتفسير يعلمه العلماء.
- وتفسير لا يعلمه إلَّا الله، مَن انتحلَ منه علمًا فقد كَذَبَ ([1]).


ففي القرآن قسمٌ يعرفُه كلُّ مَن قرأَه؛ إذ لا صعوبةَ في فهمه؛ فالحلال فيه واضح، والحرام واضح، وكذلك الحدود، وفرائض الدِّين، وما فيه من قَصص وعبر، وهذا الجانب من القرآن يشكِّلُ القسمَ الأكبرَ منه؛ فهو سهلٌ مفهومٌ.


فالقرآنُ آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتٌ في الدِّلالة على الحقِّ؛ أمرًا ونهيًا وخبرًا([2])؛ كما قال تعالى: }بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ{ [العنكبوت: 49].


وقال تعالى: }قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ{ [النساء: 28]؛ أي: جعلناه قرآنًا عربيًّا واضحَ الألفاظ سهلَ المعاني؛ خصوصًا على العرب ([3]).


قال ابنُ القَيِّم- رحمه الله: «وكذلك عامَّةُ ألفاظ القرآن؛ نعلم قطعًا مرادَ الله ورسوله منها، كما نعلم قطعًا أنَّ الرَّسولَ بلَّغها عن الله؛ فغالبُ معاني القرآن معلومٌ أنَّها مرادُ الله خبرًا كانت أو طلبًا؛ بل العلمُ بمراد الله من كلامه أوضحُ وأظهرُ من العلم بمراد كلِّ متكلِّم من كلامه؛ لكمال علم المتكلِّم وكمال بيانه، وكمال هداه وإرشاده، وكمال تيسيره للقرآن؛ حفظًا وفهمًا، عملاً وتلاوةً»([4]).


الثَّاني: نصوصٌ دقيقةُ الدِّلالة:



وهذه يقوم أهلُ العلم والاجتهاد بالنَّظَر فيها لاستنباط المسائل والأحكام واستخراجها منها، وللحيلولة دونَ حصول الفوضى وادِّعاء المدَّعين غير المؤهَّلين للاستنباط وَضَعَ العلماءُ ضوابط وشروطًا يجب توافُرُها فيمَن يتصدَّر للاجتهاد والاستنباط تؤهِّلُه للوقوف على الحكم حسب جهده الذي يبذله لذلك، وهذه الشُّروطُ والضَّوابطُ محصَّلةٌ من قواعد اللُّغة العربيَّة وما عرف من خطابات الشَّارع من أمر ونهي وخبر وغير ذلك.


وهذه النُّصوصُ غيرُ واضحة الدِّلالة، قد يختلف العلماء في فهم المراد منها؛ كقوله تعالى: }وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ{ [البقرة: 228]؛ فهل القرء هو الطُّهر من الحيض، أم هو الحيض؟
وهذا الاختلافُ في دائرة الاجتهاد الذي يدور صاحبُه بين الأجر والأجرين، وممَّا يلاحَظُ في بعض البرامج الحواريَّة عبرَ وسائل الإعلام المختلفة؛ من فضائيَّات، وإذاعات، وتلفاز، ومجلَّات وصحف، ما يَسْلُكُه بعضُهم حين يضيق عليه الخناق في النِّقاش من القول بأنَّ الدِّين ملكٌ للجميع؛ فليس لأحد أن يدَّعي حقَّ احتكار تفسيره وفرضه على النَّاس؛ لأنَّه لا يوجَد في الإسلام بابويَّة ولا كهنوتيَّة!


وهذه كلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل؛ فالحقُّ: أنَّ الدِّينَ من حيث تطبيقه والعمل بأحكامه ليس خاصًّا بأحد؛ أمَّا الباطلُ: فهو إخضاعُ تفسير نصوصه لرغبة كلِّ إنسان وهواه؛ بحيث يُؤَوِّلُ نصوصَه بحسب التَّشَهِّي الذي يريده؛ لأنَّ هذا يجرُّ إلى تمزيق الأمَّة، وجعل النُّصوص ألعوبةً بيد غير المؤهَّلين؛ لاستنباط الأحكام منها.


وهذا ما حصل عند ظهور هذه الدَّعوة؛ ممَّا أدَّى إلى الاستخفاف بمجتهدي هذه الأمَّة من الصَّحابة ومن بعدهم، وإحلال الفوضى في القول والفتوى محلَّ الاجتهاد الحقِّ والدِّقَّة فيه.


وقد لاحظ تلك المشكلةَ الحافظُ ابنُ رجب- رحمه الله- واشتكى منها قائلاً: «يا لله العجب! لو ادَّعى معرفةَ صناعة من صنائع الدُّنيا، ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها، لكَذَّبوه في دعواه، ولم يأمنوه على أموالهم، ولم يمكِّنوه أن يَعملَ فيها ما يدَّعيه من تلك الصِّناعة؛ فكيف بمن يدَّعي معرفةَ أمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وما شوهد قطُّ يَكتب علمَ الرَّسول، ولا يُجالس أهلَه ولا يدارسه.


فلله العجب! كيف يقبل أهل العقل دعواه، ويحكِّمونه في أديانهم، يفسدها بدعواه الكاذبة؟!»([5]).



إذا أحدٌ أتى في أيِّ علم



بفتوى أو برأي أو مقالَه


كَتَمْناه بأجوبة: تمهَّل!



فإنَّ لكلِّ معلوم رجالَه


سوى علم الشَّريعة مستباحٌ



لكلِّ النَّاس حتى ذي الجهالة


فكلُّ العلم محفوظ مصون



عداه لكل إنسان حلال




توجيهات عامة




القائلون بإعادة قراءة النُّصوص مدارس كثيرة، تبتعد وتقترب من الفهم الصَّحيح للنُّصوص بقدر فساد صاحبها أو رغبته في التَّلبيس؛ ولذلك فإنَّه قد يقع من بعض أصحاب القصد الحسن شيءٌ من التَّأويل والمتابعة لأصحاب القراءة الجديدة للنُّصوص، ولهذا يجب الحذر الشَّديد من هذه المزالق التي تبدأ صغيرة ثم تَكْبُرُ.


ومن التوجيهات في هذا الباب:



1- ترسيخ الحقِّ في النَّفس عن طريق العلم الشَّرعيِّ الصَّحيح، والسَّماع والقراءة لأهله الرَّاسخين فيه الذين مَدَحَهم بأنَّهم لا يتَّبعون المتشابه؛ وإنَّما يردُّونه إلى المحكم، ويؤمنون بكلِّ ما جاء من ربِّهم سبحانه.



2- كثرةُ دعاء الله بالسَّلامة من الفتن:
فإنَّ من أوصاف الفتنة أنَّ الإنسانَ قد يَدْخُلُ فيها وهو يظنُّها حقًّا وصوابًا، وأعظم ما ينجِّي النَّاسَ من الفتن صدقُ الالتجاء إلى الله- تعالى، وسؤاله النَّجاةَ منها.


ومن هذا الباب كان الدُّعاءُ بالوقاية من الزَّيغ: }رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا{ [آل عمران: 8] بعد الآية التي فيها بيانُ حال الزَّائغين: }فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ{ [آل عمران: 7].
فسؤالُ العبد ربَّه أن يقيَه الزَّيغَ من أعظم أسباب الوقاية.



3- «إياكم وإياهم».
وهي النَّصيحةُ النَّبَويَّةُ للتَّعامل مع المحرِّفين؛ فيجب الابتعادُ والنَّأيُ عن القراءة لكتابات هؤلاء؛ ولو على سبيل التَّنَدُّر والتَّهَكُّم منهم؛ فإنَّ الشُّبَهَ خطَّافةٌ.



وقد وجَّهَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَن أدرك الدَّجَّال أن ينأى عنه، ولا يحسن الظَّنَّ بنفسه.


وقد جاءت كثيرٌ من النُّصوص النَّبويَّة التي تأمر بالابتعاد عن أماكن الإصابة بالأمراض الحسِّيَّة؛ فمن باب أَولى البعدُ عن أسباب أمراض الشُّبُهات التي إذا أصابت القلبَ أثَّرَتْ فيه فأضعفت إيمانَه أو قتلتْه والعياذُ بالله.


قال الشَّافعيُّ- رحمه الله: «كان مالكٌ إذا جاءَه بعضُ أهل الأهواء قال: أما إنِّي على بيِّنة من ديني، وأمَّا أنت فشاكٌّ، اذهب إلى شاكٍّ مثلك فخاصمه»([6]).


وقال مالك- رحمه الله: «أكلَّما جاءنا رجلٌ أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل عليه السَّلام على محمَّد صلى الله عليه وسلم لجدله؟!»([7]).


وقال عمرُ بن عبد العزيز- رحمه الله: «يا أيُّها النَّاس، إنَّه ليس بعد نبيِّكم نبيٌّ، ولا بعد كتابكم كتاب، ولا بعد سنَّتكم سنَّةٌ، ولا بعد أمَّتكم أمَّةٌ، ألا وإنَّ الحلالَ ما أحلَّه اللهُ في كتابه على لسان نبيِّه؛ حلال إلى يوم القيامة، ألا وإنَّ الحرامَ ما حرَّمَ الله في كتابه على لسان نبيِّه حرام إلى يوم القيامة»([8]).


فليس لأحد أن يغيِّرَ أو يبدِّلَ من أحكام هذه الشَّريعة، ومَنْ فَعَلَ فقد ساء مصيرُه، واتَّبَعَ غيرَ سبيل المؤمنين.



4- تعظيمُ الذين أنعم اللهُ عليهم، والسَّير وراءَهم على الصِّراط المستقيم، والقراءة في سيرهم وسير العلماء العاملين، والاطِّلاع على حرصهم الشَّديد على العلم وعلى متابعة الأئمَّة قبلَهم من الصَّحابة والتَّابعين، وشدَّة تمسُّكهم بالعمل ونهيهم عن الجدل.


فهذه القراءةُ من أعظم ما يَقود إلى محبَّتهم، ومتابعتهم، واحترامهم، وإعطائهم حقَّهم، والنُّفور من كلِّ مَن يتجرَّأ عليهم بالذَّمِّ والطَّعن والثلب.



5- الحرصُ على العمل بالعلم؛ لأنَّ مَن يعمل ويتعبَّدُ لله- تعالى- بعلمه فهو طائعٌ لله، وجدير بأن يثبِّتَه اللهُ على الحقِّ، ويقيَه شرَّ الوقوع في البدع والمحدثات، ويبارك له في علمه.


والنَّاظرُ في سير دعاة القراءة الجديدة للنَّصِّ يجدْهم من أبعد الناس عن العمل بالدِّين، وعن السَّمت والهدي الصَّالح؛ إن لم يكونوا عديمي الدِّين؛ نسألُ اللهَ العافيةَ ([9]).


فمَن شابههم في التَّقصير في العمل والعبادة، فليحذر أن يصبحَ مآلُه كمآلهم.


6- إذا عصيتَ فلا تُبرِّر:
فمَن ابتلاه الله بالوقوع في معصية، فعليه أن يحذرَ أَشدَّ الحذر ممَّا هو أسوأُ عاقبةً من المعصية؛ وهو السعي لتبريرها أو البحث عمَّن يبيحها؛ لأنَّ الأصلَ في القراءة الجديدة للنَّصِّ أنَّها قراءة لتحليل الحرام، وفتح أبواب الهوى والشَّهَوات.



ونختمُ هذه الرِّسالة بقول ابن القيِّم - رحمه الله:



«سبحان الله؛ ماذا حُرِمَ المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس الهدى من مشكاتها من الكنوز والذَّخائر!! وماذا فاتهم من حياة القلوب، واستنارة البصائر؟!
قنعوا بأقوال استنبطوها بمعاول الآراء فكرًا.
وتقطَّعوا أمرَهم بينهم لأجلها زُبُرًا.
وأوحى بعضُهم إلى بعض زخرفَ القول غرورًا، فاتَّخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورًا.
درست معالمُ القرآن في قلوبهم، فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهدُه عندَهم فليسوا يعمرونها.
ووقعت أعلامُه من أيديهم، فليسوا يرفعونها.
وأَفَلَتْ كواكبُه من آفاقهم، فليسوا يبصرونها.
وكسفت شمسُه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها، فليسوا يُثبتونها.
خلعوا نصوصَ الوحي عن سلطان الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين.
وشنُّوا عليها غارات التَّحريف بالتَّأويلات الباطلة، فلا يزال يَخرج عليها من جيوشهم المخذولة كَمين بعد كَمين.
نزلت عليهم نزولَ الضَّيف على أقوام لئام، فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام، وتلقَّوها من بعيد؛ ولكن بالدَّفع في صدورها والأعجاز، وقالوا: ما لك عندنا من عبور، وإن كان لابدَّ فعلى سبيل المجاز.
أنزلوا النُّصوصَ منزلةَ الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السّكّة والخطبة، وما له حكم نافذ ولا سلطان»([10]).
هذا ما تيسَّر جمعُه حول هذه البدعة، ونسأل الله الثبات على الحق حتى الممات.
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



([1]) تفسير الطبري (1/75).

([2]) تفسير ابن كثير (6/286).

([3]) تفسير السعدي (723).

([4]) الصواعق المرسلة (2/636).

([5]) الحكم الجديرة بالإذاعة (20).

([6]) سير أعلام النبلاء (8/99).

([7]) حلية الأولياء (6/324).

([8]) طبقات ابن سعد (5/340)، الاعتصام (1/86).

([9]) يقول حسن حنفي في أول كتابه "من العقيدة إلى الثورة": (وإذا كان القدماءُ قد وضعوا عقائدَهم بناءً على سؤال الأمراء والسَّلاطين، أو بعد رؤية صالحة للوليِّ أو النَّبيِّ أو بعد استخارة الله، فإنَّنا وضعنا «من العقيدة إلى الثورة» دون أيِّ سؤال من أحد أو رؤية أو استخارة)، (وكما يستعين القدماء بالله، فإنَّنا نستعين بقدرة الإنسان على الفهم والفعل). من العقيدة إلى الثورة (44، 50). ويقول أيضًا: (حالُنا لا يتطلَّبُ حمدًا ولا ثناءً). العقيدة إلى الثورة (11)؛ فهو بهذه الكلمة يرفض الثَّناءَ على الله تعالى، ويأبى إثباتَ الحمد لله- سبحانه وتعالى.

([10]) اجتماع الجيوش الإسلامية (41).









رد مع اقتباس
قديم 2015-01-11, 16:43   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
عاشق المسلمين
بائع مسجل (أ)
 
الصورة الرمزية عاشق المسلمين
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

سبحان الله والله اكبر










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
النص, بيعة, إعادة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 16:03

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc