سيـــاســـة العنـــف فــي فـكــر حــنـــة أرندت
من الواضح أن الوضع القاسي والمؤلم الذي عايشته حنة أرندت كان المنطلق في كتاباتها التي عبرت فيه عن تجربتها في الفعل السياسي، ولعل مؤلفها الشهير في العنف هو ما بين عمق ما يشعر به الإنسان من تهميش وإقصاء نتيجة لما تعرض له من عنف وإرهاب وغيره من مظاهر القوة والتسلط حيث يبدو أن علاقة ما تحكم هذه الرباعية، فماهي هذه العلاقة ؟
المطلب الاول: فــــي السلطـــة، العنـــف، القــوة، الارهــــاب
1- مفـهــــوم السلطــــــة:
"تعني قدرة الإنسان ليس فقط على الفعل بل على الفعل المتناسق السلطة لا تكون أبدا خاصة فردية، بل إنها تعود إلى جماعة وتظل موجودة طالما ظلت المجموعة بعضها مع البعض، وحين نقول عن شخص ما أنه في السلطة فإننا في الحقيقة نشير إلى أنه قد سلط من قبل عدد من الناس لكي يفعل باسمهم"[1]، في الحقيقة أن شعار السلطة يبدو أنه يعبر عن إرادة الجميع ضد الواحد بمعنى السلطة إنما يكون وجودها مرهون بوجود الجماعة أو الشعب، وفي حالة غيابه ستغيب فيه السلطة أيضا، ولعل أن رجل السياسة الذي تكون بيده السلطة إذا ما أساء استخدامها لصالح إرادته واستقلاليته الفردية والشخصية فإنها حتما ستؤول إلى ما يعرف بالتسلط، والذي سيغلب عليه الظلم والحرمان بحيث يتحول شعار السلطة فيه ويصبح الحاكم يعبر عن إرادة الواحد ضد الكل أو الجميع، ليس هذا فحسب بل إن السلطة نفسها تقودنا مباشرة إلى ما يعرف بالقوة.
2- مفــهــــوم القـــــوة:
"هي ما ينتج عن الحركات الطبيعية أو الاجتماعية من طاقة مؤثرة، وقد ترد بوصفها رديفا للعنف"[2]، حيث ترى أرندت أن انتماء وانتساب العنف للقوة إنما هو انتماء جزئي ونسبي لا لشيء سوى أن القوة ترتبط في وجودها ارتباط وثيقا لما يعرف بالقدرة أو التسلط، إذ أن القوة في بسط نفوذها إنما تعتمد على الهيئة اليت تتركها في أي مجال من المجالات غير أن مفهوم القوة يستدعي بالضرورة حضور مفهوم آخر أو بعبارة أخرى أدواتية العنف.
3- مفهـــــوم العنــــــف:
قبل أن تذهب أرندت لتعطي مفهوما للعنف ذهبت مذهب كل الفلاسفة ومفكري السياسة وهو في انطلاقها من الواقع أو من الظروف التي أنتجت ما يعرف اليوم بالعنف، حيث كانت تقول: "وبالسخرية القدر، بعنصر اللامتوقع الشامل الذي نلتقيه في اللحظة التي نقترب فهيا في ميدان العنف، ولئن كانت الحرب ما ثلة على الدوام في دواخلنا فإن مثولها ليس ناتجا لا عن رغبة قتل دفينة موجودة لدى النوع البشري، ولا عن غريزة عدوانية لا يمكن قمعها"[3]، لطالما كان العنف من بين ما خلفته الحربين العالميتين والذي كان أثره واضحا في نفوس الإنسانية جمعاء، ولعل كان العنف يظهر ويقتصر على الجانب العسكري والاقتصادي الذي أثقل كاهل البشرية لسنوات عديدة، إذ لم تلبث أن تستفيق من وضعها المزري ومن دمارها المدوي إلا أن أسفرت الحرب الباردة عن معالم جديدة للعنف، فغياب السلاح حل محله التكنولوجيا والتطورات الرهيبة المصاحبة له، حيث أصبحت هذه الأخيرة تعبر عن آلية جديدة وفعالة يمارس بها العنف، ليس هذا فحسب بل إن التبعية الاقتصادية بجميع أشكالها إنما هي تعبر عن عنف، وطمس الهوية وإلغاء ثقافتها هو عنف.
أما عن مفهوم العنف فتقول أرندت "يتميز العنف أخيرا بطابعه الأدواتي إنه من الناحية الظاهرية قريب من القدرة، بالنظر إلى أن أدوات العنف كما هو حال بقية الأدوات، إنما صممت واستخدمت بهدف مضاعفة طبيعة القدرة حتى تستطيع أن تحل محلها في آخر مراحل تطورها".[4]
إن العنف بهذا الشكل وعلى هذا الحال، إنما هو أداة فعالة ووسيلة مساعدة على إنماء قدرة الفرد وتوجيهه نحو الغاية والهدف الذي يريده المستعمل للعنف وعليه يتضح الترابط بين كل من القدرة والقوة والعنف فكلها تعبر عن أدوات مساعدة للقدرة البشرية وتهيئتها للسيطرة والهيمنة أما عن علاقة السلطة بالعنف ففيه شيء من التفصيل "السلطة والعنف ليسا شيئا واحدا، بل هما متعارضان فحين يكون أحدهما حاكما، لزم غياب الآخر، والعنف إنما يظهر حينما تكون السلطة مهددة البقاء، وبإمكان العنف أن يتحكم بالسلطة إلا أنه عاجز عن خلقها"[5]
بما أن العلاقة السائدة بين كل من السلطة والعنف يحكمها التعارف فلا إمكانية لتواجدهما معا، فغياب إحداهما فقط من شأنه الإبقاء على احدهما كما أن شعار السلطة يعبر عن إرادة الكل ضد الواحد، في حين أن العنف يندرج ضمن إرادة وجبروت الواحد ضد الجميع، وعليه فمتى وجدت السلطة غاب الحكم لزاما وضرورة، فالعنف يقضي على السلطة والعكس صحيح ونستطيع التعبير عن هذه العلاقة فيما يعرف بضدية السلطة والعنف.
4- الإرهــــــــــاب:
أما عن علاقة الإرهاب بالعنف فيظهر عندما تتلاشى السلطة تماما وتفنى حينها يظهر العنف كقوة ترفض أن تتنازل عن مكانتها في السيطرة، هنا يظهر الإرهاب كعامل مساعد للعنف وهذا ما قامت عليه الحركة التوتاليتارية فعن طريق الإرهاب وما مارسه من عنف وإقصاء على الجماهير، كان من شأنه أن يعطي الحركة نموها وسيرورتها التاريخية "إذ يقضي هدفه الرئيسي في جعل قوة الطبيعة أو التاريخ تنتصر على الجنس البشري برمته"[6].
إذ بات الإرهاب يتحمل مسؤولية نقل الأفكار وترويجها من على مستوى النظري إلى مستوى الواقع حيث التطبيق والعمل مستعملا بذلك كل أنواع وسائل الترغيب والترهيب في سبيل كسب المؤيدين، حيث شكل الإرهاب روح الجسم التوتاليتاري، لذلك كان أخطر الوسائل التي مارست العنف بشكل واسع وعلى أكبر نطاق وبهذا تكون السلطة في يد الإرهاب كمرحلة أولية وضرورية أمام نمو الحركة التوتاليتارية، على هذا نستطيع القول أن كل من هذه الثنائيات السلطة، القوة، العنف، الإرهاب إنما هي وسائل تتيح الحكم للإنسان على الإنسان.
[1]- حنة أرندت، في العنف، تر إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، ط 1، 1992، ص 38.
-[2] علي عبود المحمداوي، حنة أرندت والوضع الإنساني، مجلة يتفكرون، العدد 4، 2014، ص 139.
[3]-حنة أرندت، في العنف، ، ص 7.
[4] - حنة أرندت، في العنف، ص ص 40-46.
[5] - علي عبود المحمداوي، حنة أرندت والوضع الإنساني، ص 140.
[6]- حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ص 251.