ثالثاً :
أما قول يوسف عليه السلام لصاحبه في السجن : ( اذكرني عند ربك ) ، فليس هذا من ربوبية العبادة ، بل هو من ربوبية الملك والتصرف .
قال الفيروزآبادي : " رب كل شيء : مالكه ومستحقه وصاحبه ... ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات ، وبالإضافة يقال لله تعالى ولغيره ، نحو : رب العالمين ، ورب الدار " انتهى .
"بصائر ذوي التمييز" (3/29) .
وقال الراغب الأصفهاني :
" ويقال : رب الدار ، ورب الفرس : لصاحبهما ، وعلى ذلك قول الله تعالى : ( اذكرني عند ربك ) انتهى .
المفردات في غريب القرآن (186) .
ومراد الراغب رحمه الله :
أن إطلاق الرب في الآية جائز ؛ لأنه الرب هنا مضاف إلى صاحبه ، وليس ربا على جهة الإطلاق ، فهذا لا يجوز إلا لله تعالى .
لكن يشكل عليه أنه نهي عن مثل ذلك ، كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ ، وَضِّئْ رَبَّكَ ، اسْقِ رَبَّكَ ، وَلْيَقُلْ : سَيِّدِي ، مَوْلَايَ ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ : عَبْدِي ، أَمَتِي ، وَلْيَقُلْ : فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي )
رواه البخاري (2552) ، ومسلم (2249) .
قال النووي رحمه الله :
" قال العلماء : لا يطلق الرب بالألف واللام ، إلا على الله تعالى خاصة ، فأما مع الإضافة فيقال : رب المال ، ورب الدار ، وغير ذلك
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في ضالة الإبل : ( دعها حتى يلقاها ربها ) والحديث الصحيح ، ( حتى يهم رب المال من يقبل صدقته ) ،
وقول عمر رضي الله عنه في الصحيح : ( رب الصريمة والغنيمة ) ، ونظائره في الحديث كثيرة مشهورة .
وأما استعمال حملة الشرع ذلك ، فأمر مشهور معروف .
قال العلماء : وإنما كره للمملوك أن يقول لمالكه : ربي
لأن في لفظه مشاركة لله تعالى في الربوبية .
وأما حديث : ( حتى يلقاها ربها ) ، و ( رب الصريمة ) وما في معناهما ، فإنما استعمل لأنها غير مكلفة ، فهي كالدار والمال ، ولا شك أنه لا كراهة في قول : رب الدار ، ورب المال .
وأما قول يوسف عليه السلام : ( اذكرني عند ربك ) ، فعنه جوابان :
أحدهما : أنه خاطبه بما يعرفه ، وجاز هذا الاستعمال ؛ للضرورة ، كما قال موسى عليه السلام للسامري : ( وانظر إلى إلهك ) طه / 97 ، أي : الذي اتخذته إلها .
الجواب الثاني : أن هذا شرع من قبلنا ، وشرع من قبلنا لا يكون شرعا لنا إذا ورد شرعنا بخلافه
وهذا لا خلاف فيه .
وإنما اختلف أصحاب الأصول في شرع من قبلنا إذا لم يرد شرعنا بموافقته ولا مخالفته ، هل يكون شرعا لنا ، أم لا ؟ " انتهى .
"الأذكار للنووي" (1/363) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وَالسَّبَب فِي النَّهْيِ أَنَّ حَقِيقَة الرُّبُوبِيَّة لِلَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ الرَّبّ هُوَ الْمَالِك ، وَالْقَائِم بِالشَّيْءِ فَلا تُوجَدُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ :
سَبَب الْمَنْع أَنَّ الْإِنْسَان مَرْبُوبٌ مُتَعَبِّدٌ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيد لِلَّهِ وَتَرْك الْإِشْرَاك مَعَهُ
, فَكَرِهَ لَهُ الْمُضَاهَاة فِي الِاسْم لِئَلَّا يَدْخُل فِي مَعْنَى الشِّرْك , وَلَا فَرْق فِي ذَلِكَ بَيْن الْحُرّ وَالْعَبْد ,
فَأَمَّا مَا لَا تَعَبُّد عَلَيْهِ مِنْ سَائِر الْحَيَوَانَات وَالْجَمَادَات فَلَا يُكْرَهُ إِطْلَاق ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْد الْإِضَافَة كَقَوْلِهِ رَبّ الدَّار وَرَبّ الثَّوْب .
وَقَالَ اِبْن بَطَّال
: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَال لِأَحَدٍ غَيْر اللَّه رَبّ , كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَال لَهُ إِلَهُ ا ه .
وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى إِطْلَاق الرَّبّ بِلَا إِضَافَةٍ , أَمَّا مَعَ الْإِضَافَة فَيَجُوزُ إِطْلَاقُهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام ( اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ )
وَقَوْله : ( اِرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ )
وَقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي أَشْرَاط السَّاعَة : ( أَنْ تَلِدَ الْأَمَة رَبَّهَا )
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْي فِي ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الْإِطْلَاق , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ ,
وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَلِبَيَانِ الْجَوَاز . وَقِيلَ هُوَ مَخْصُوص بِغَيْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرُدّ مَا فِي الْقُرْآن , أَوْ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ الْإِكْثَار مِنْ ذَلِكَ وَاِتِّخَاذ اِسْتِعْمَال هَذِهِ اللَّفْظَة عَادَة ,
وَلَيْسَ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ ذِكْرهَا فِي الْجُمْلَة " انتهى .
"فتح الباري" (5/179) .
والحاصل :
أن اسم "الرب" الذي يختص به الله سبحانه وتعالى هو ما يطلق من غير قيد
وأما إن قيد برب شيء معين
خاصة إذا كان هذا الشيء لا يعقل ، ولا يكلف بعبادة : فهو جائز ؛ ومنه هذه الآية .
وقد قيل في تأويلها أيضا : إنه خاطبهم بلغتهم التي يعرفونها ، أو أن ذلك كان جائزا عندهم .
والله أعلم.
الشيخ محمد صالح المنجد