ستشراف المستقبل في رواية "اعترافات أسكرام" - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > منتدى الثّقافة العامّة

منتدى الثّقافة العامّة منتدى تـثـقـيـفيٌّ عام، يتناول كُلَّ معرفةٍ وعلمٍ نافعٍ، في شتّى مجالات الحياة.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

ستشراف المستقبل في رواية "اعترافات أسكرام"

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2015-12-21, 16:47   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
بوقصة عبدو
عضو مجتهـد
 
إحصائية العضو










افتراضي ستشراف المستقبل في رواية "اعترافات أسكرام"

استشراف المستقبل
في رواية "اعترافات أسكرام" لعزالدين ميهوبي

بقلم: عبـدالله بوقـصة



أضحى استشراف المستقبل اليوم من أهم الدعائم الإستراتيجية للمؤسسات الكبرى، والدول المتقدمة التي ما فتئت تضع خططها المستقبلية بناءً على قراءة لتطور أحوال الناس، والاهتمام بهذا الأمر يزداد يوما بعد يوم.. حيث إنّ هذه الفعاليات الاستشرافية هي الحدّ الفاصل بين الازدهار والاندثار. والتاريخ حافل بالأمثلة عن المؤسسات التي اندثرت لعدم اهتمامها بدراسة المستقبل، أو لقراءتها الخاطئة له، وفشلها في اتّخاذ المواقف المطلوبة التي تمكنها من الاستعداد للتحديات المستقبلية.
لعلّ هذا دأب الأديب الجزائري "عزالدين ميهوبي" الذي أصدر روايته "اعترافات أسكرام" التي تضمّ سبعة فصول هي:"تين آمود/عين الزانة/الشاعر والجدران/الفجيعة على أستار الكعبة/تورابورا/قيس الماء الأبيض/رماد النبي الأخير"
فما خصوصيات هذه الباكورة الروائية من النواحي الجمالية والدلالية والمقصدية ؟
تتناول رواية "اعترافات أسكرام" بالسرد سلسلة اعترافات ضمن فضاء متخيل متمثل في مدينة "تمنراست" عام 2040م، وقد بنيت فيها ناطحات السحاب، فازدهر عمرانها، وصارت تضاهي كبريات مدن العالم. وهو عمل أدبي يحاول سارده استشراف المستقبل والتنبؤ بآفاق الغد المشرق حينا والحالك أحيانا.

وقد تغيب عن أبصار الساسة وبصائرهم بوادر الاهتزازات الكبرى التي تعتري المجتمعات، لكنّ بصيرة الأدب والفن لا تفلتها. لذا يحظى الأدباء بنظرة متميزة إلى آفاق الغد. وبالذات أولئك الأدباء الذين يلتزمون بفلسفة قضايا الأمم ومستقبلها، بصفتهم أصحاب رؤى ثاقبة لا تقف عند حدود الواقع المعيش، وإنّما يسعون جاهدين إلى استشراف المستقبل، فيشيرون إلى مواطن الخطر المحدق بأممهم، ليس على سبيل التوقع أو التشاؤم، بل من منظور أنّ الحاضر عادة هو الذي يبذر بذور الآفاق المستقبلية. فالواقع الآني كثيرا ما يحمل ملامح المستقبل المنتظر..
غير أنّ هذا الاستشراف المستقبلي يحتاج إلى مزيد من التأمل والتروّي وقدح الذهن. والتراث الفكري العالمي والعربي على سواء يزخران بالقيم الحضارية الرائعة التي تعدّ إرهاصات لقراءة المستقبل.
الأدب الاستشرافي بين التأريخ والرصد
ينصرف مفهوم الاستشراف لغةً إلى العلوّ والارتفاع والمجد والحسب، فيقال: استشرفت الشيء، إذا رفعت بصرك تنظر إليه و بسطت كفّك فوق حاجبك، كالذي يستظلّ من الشمس. أمّا اصطلاحا فإنه عبارة عن التطلع إلى المستقبل من خلال دراسة الماضي وفهم الحاضر، والسنن الفاعلة فيهما..أو هو اجتهاد علمي منظم يرمي إلى صياغة مجموعة من التنبوءات المشروطة التي تشمل المعالم الأساسية لأوضاع مجتمع ما، أو مجموعة مجتمعات عبر مدّة زمنية محددة.
ففي عام 1503م أصدر شاعر فرنسي يدعى "نوستراداموس" نبوءاته الشعرية ضمن ديوانه المعنون بـ"القرون" فتنبأ فيه بظهور كلّ من "نابليون" و"هتلر"، وإلقاء القنبلة الذرية في "هيروشيما" و"نكازاكي"، ومصرع "روبرت كينيدي"... وغيرها من النبوءات التي ما فتئت تتحقق تباعا. وفي عام 1898م صدرت في بريطانيا رواية بعنوان "غرق الباخرة تيتان" لكاتب مغمور اسمه "مورجان روبرتسون" تحكي حادثة تعرض باخرة ركاب اسمها "تيتان" للغرق، حيث أقلعت عبر المحيط الأطلسي من ميناء "ساوتمنتون" الإنجليزي إلى ميناء "نيويورك"، واصطدمت بجبل جليدي فغرق ركابها. وقد وصفت هذه الرواية بدقّة ما عاناه ركاب "تيتانيك" بعد أربع عشرة سنّة.
ويعتقد الشاعر المكسيكي "أكتافيوباث" في هذا الصدد أن الشعراء هم محللو الأسرار الخفية، وكاشفو المجهول انطلاقا من المعلوم. كما أنهّم تلك الكائنات التي يسمح لها بنقل غير المحتمل، وتعديل فوضى الأشياء. أي أن الشاعر ليس له أن يتغنى بالوردة بل عليه أن يجعلها تتفتّح عبر أبيات قصائده.
وهذا ما يتجسّد عند الشاعر الإنجليزي الكبير "كولريدج" الذي يقول:
"مَاذَا لَوْ أَخَذَتْكَ سِنَةٌ تُشْبِهُ النَّــوْم؟
مَاذَا لَوْ حَلَمْتَ أنََّكَ تَرْقَى فِي السَّمَاء
إِلَى مَكَانٍ عَالٍ بِهِ جَنَّةٌ مِنْ زُهُـور؟
مَاذَا لَوْ قَطَفْتَ مِنْهَا زَهْرَةً رَائِـعَة؟
ثمَُّ اسْتَيْقَظْتَ مِنْ نَوْمِكَ فِي الصَّبَاح
لِتَجِـدَ الزَّهْـرَةَ بَيْنَ أَصَـابـِعِكَ."
ولا ينحصر هذا الأمر في صدق ما يقول الأدباء اليوم ولا أمس، بل في قراءة ما سيعرفه الناس مستقبلا، وهو أمر قريب من المستحيل، وإن تجسّد في موقف الشاعرة العربية "ليلى الأخيلية" الذي توارثناه عن السلف، إذ وقفت على قبر حبيبها "توبة الحميري"، وهي في هودجها، وقالت لمن في القبر: "السلام عليك يا توبة ". وحيثما لم يردّ عليها أحد. قالت: إنّك لم تكذب طيلة حياتك يا توبة إلاّ في قولك:

"وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى الأَخْيلِيةَ سَلََّمَتْ *** عَلَيَّ فِي قَبْرِي وَدُونِي صَفَائِـحُ
لَسَلَّمَتْ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أَوْ زُقَا *** لهَا طَائِرٌ مِنْ جَانِبِ القَبْرِ صَائِحُ."
وحدث للتو أن فرت بومة من جنبات القبر، فتعثّر الجمل بالهودج، فسقطت "ليلى الأخيلية" على القبر لتلتحق بـ"توبة"، الذي تحقّقت نبوءته الشعرية.
إن الرغبة في معرفة المستقبل حاجة فطرية وحيثما وجدت الحاجة فلا بد من وسائل لسدها بغض النظر عن دقة النتائج أو صحّتها. ومحاولة معرفة المستقبل لم تكن حكراً على العرب الأوائل، فقد ظلت الأجيال ليومنا هذا تعتمد النظر في النجوم واستخدام "قراءة الطالع". ومن مشهور الأخبار التي حفظها التأريخ والأدب قصة موقعة "عمورية" المشهورة التي حدثت في زمن الخليفة المعتصم بالله العباسي وبدأت بحادثة اعتداء على امرأة مسلمة في تلك المنطقة من بلاد الترك التي نادت بصوت عال "وامعتصماه"، فتناقلت الألسن هذه الاستغاثة حتى وصلت إلى الخليفة المعتصم الذي أقسم بالله أن يفتح المدينة استجابة لتلك المرأة، لكن المنجمون نصحوه بأن ينتظر لأوان نضج الفاكهة لأنه الوقت الوحيد الذي دلت عليه النجوم، فأبى الاستماع إليهم وتوجّه إلى "عمورية" متوكلاً على الله وفتحها. وقد أرّخ لهذه الموقعة المشهورة الشاعر العربي الكبير "أبو تمام" بقصيدته الرائعة التي ردّ فيها على أدعياء معرفة المستقبل من خلال قراءة النجوم، وهذه بعض أبياتها:
"السَّيفُ أََصْدَقُ أنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ
فِي حدِّهِ الحَدُّ بيَنَ الجِدِّ واللَعِبِ
بيِضُ الصَفَائِحِ لاَ سُودُ الصَحَائِفِ
فِي مُتُونِهن جَلاَءُ الشَّكِ والرِيَبِ
والعِلْمُ فِي أَشْهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَة
بينَ الخَمِيسَيْنِ، لاَ فِي السَبْعَةِ الشُّهُبِ"
ولأنّ الرواية كجنس أدبي راق هي الواقع والمتخيل معا، إذ يتماهى فيها الواقع بالخيال أحيانا فيغدو أكثر خيالية منه. كما أنّ السارد ذاته يؤمن بكونه يتناول عالما قائما على التحولات من خلال روايته، ومن هنا كانت الرواية خطابا متحولا بامتياز.
فهل ثمّة نص روائي جزائري معاصر يمكن إدراجه ضمن الأدب الاستشرافي كونه يسلّط الأضواء على التحولات الاجتماعية والثقافية الراهنة التي تستدعي بعض التنبوءات؟
و إلى أي مدى يتمكّن هذا النص أو ذاك من قراءة الماضي والحاضر وفق ما يوحي باستشراف المستقبل..؟
قراءة استشرافية في رواية "اعترافات أسكرام"
كلما قرأنا نصا قراءة جديدة عثرنا على معان مختلفة عن السابقة، وحتى منتج هذا النص لا يعي سبب إنتاجه، ولا يفكر فيما يكون عليه نصه بعد سنة أو عشر سنين. أمّا التحولات المتعددة فهي مسألة بديهية، إذ لا نتصوّر الطفل الذي كان قبل عقود من الزمن يجعل من علبة طماطم فارغة وسلك معدني مركبة ذات قيمة جمالية تجلب له شيئا من السعادة مثل الطفل في الوقت الراهن الذي يترنّح بمبتكرات مستوردة من وراء البحار. فالذوق يتغيّر مثلما تتغيّر المفاهيم والقيم. وما نراه اليوم ثابتا سيكون بعد أعوام متحوّلا، لأنّ العقل يبدع بلا حدود.
لعلّ هذا لسان حال الأديب الجزائري "عزالدين ميهوبي" يبوح، وهو الذي تعاطى الشعر فأبدع دواوين متميزة، ناهيك عن أعمال درامية أخرى كتبها للمسرح والتليفزيون. ولمّا كانت الرواية هي ديوان البشرية في الوقت الراهن، لم يغرّد خارج السرب فأصدر روايته "اعترافات أسكرام" التي تضمّ سبعة فصول هي:"تين آمود/عين الزانة/الشاعر والجدران/الفجيعة على أستار الكعبة/تورابورا/قيس الماء الأبيض/رماد النبي الأخير"
فما خصوصيات هذه الباكورة الروائية من النواحي الجمالية والدلالية والمقصدية ؟
تتناول رواية "اعترافات أسكرام" بالسرد سلسلة اعترافات ضمن فضاء متخيل متمثل في مدينة "تمنراست" عام 2040م، وقد بنيت فيها ناطحات السحاب، فازدهر عمرانها، وصارت تضاهي كبريات مدن العالم. وهو عمل أدبي يحاول سارده استشراف المستقبل والتنبؤ بآفاق الغد المشرق حينا والحالك أحيانا.
ولكنّ الرواية في مجملها مزج بين التاريخ والعلم والأسطورة والشعر والدين والسياسة والنبوءة في نوع من التماهي بين كافّة هذه الأجناس الأدبية والمجالات العلمية من أجل إنتاج عمل أدبي يمثّل روح العولمة.
هذا ويبدو السارد متفائلا بمستقبل الجزائر. وقد أطلق على مدينته الفاضلة "تمنراست" اسم "تام سيتي" و أعاد هيكلة عمرانها، وربطها بثقافة الميترو، وأبقى على تراث التوارق متجذرا في معالمه و إيماءاته، إنّه حلم مشروع لأننا عايشنا تجارب مدن لم تكن موجودة قبل ثلاثين عاما، ولكنها أصبحت اليوم متغيرا ثقافيا وحضاريا مؤثرا. لننظر اليوم إلـى "دبي" كفعل تجاري وسياحي، أو "الدوحة" كفعل سياسي ورياضي، لا ريب في أنّهما قطبان ساحران جذابان. فلا غرابة في أن تكون "تمنراست" كذلك، فهي بوابة الصحاري الشاسعة، فيكفيها نيل قسط من التنمية لتكون وجهة مثلى للسواح الأجانب والأشقاء العرب على حدّ سواء.
فهذه ليست نبوءات بقدر ما هي قراءات استشرافية مؤسسة على عناصر من التاريخ، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد. وممّا تجدر الإشارة إليه في هذه العجالة أنّ بعض هذه الرؤى الاستشرافية المبثوثة بين طيات رواية "اعترافات أسكرام" تحققت..مثل: نيل الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" جائرة نوبل للسلام، كما في المقتطف الآتي: "يحتفظ أوباما بقدر من الطيبة ، لا غرابة أن يمنح جائزة نوبل للسلام اعترافا بما قدّمه من خدمة للسلم والأمن في العالم.. كانت له يد بيضاء في سيريلانكا، والصومال، وفلسطين، والتحسيس بخطر السلاح النووي، والتسامح الديني، وجعل التكنولوجيا في خدمة الإنسانية" وكذلك التنبؤ بنهاية أسامة بن لادن إذ تشير الرواية إلى أنّ أحد أتباعه يحتفظ بوصية لزعيم القاعدة يفتحها بعد وفاته فيقرأ ما يلي: "اعلموا أنني قد أموت ولا يعرف لي قبر"


البنية الفنية الجمالية
لعلّ أول مؤشر من مؤشرات الذاكرة الاجتماعية للرواية هو مؤشر العنونة سواء من خلال العنوان الخارجي الرئيس أو العناوين الداخلية المندرجة تحته. وفي هذا السياق يستوقفنا العنوان الخارجي الرئيس كعتبة نواة متمثلة في علامات مكبرة لفظيا ودلاليا للعنوان اللغوي "اعترافات أسكرام". فالحدّ الأول منه "اعتراف Confession" هو إقرار بفعل ما وعدم إبقائه في طيّ النسيان، سواء كان هذا الفعل ذنبا يستوجب التكفير أو خطأ يتطلب التصحيح. أمّا الحدّ الثاني "أسكرام" فهو مكان الاعتراف، وليس هو المعني بهذا الاعتراف، إذ يقول الناص في هذا المضمار:"في ربيع 2037 اختار رجل أعمال ألماني يدعى أدولف هوسمان بناء فندق قريب من قمّة أسكرام الجبلية، وأطلق عليه اسم (أسكرام بالاس). واختار له هندسة معمارية مشابهة لقمّة الجبل الأسطوري، فرأى فيه الناس تحفة معمارية، منحت الأهقار بعدا سياحيا آخر"
وإذا كانت وظيفة التعيين désignation الخاصة بالفضاء المكاني للرواية قد تحققت في لفظ العبارة في عتبة "اعترافات أسكرام"، فإنّ تحديد الملفوظ فيها يتمّ بشكل انزياحي غير معتاد، ذلك أنّ المعتاد في سلوك لفظ المسند "اعترافات" يحيل على ملفوظ الإنسان في مقام الارتياب والمساءلة والإجبار، كأن نقول مثلا "اعترافات آثم أو مذنب أو متّهم...ألخ. إلاّ أنّ تعيين هذا المسند بواسطة المسند إليه المكاني "أسكرام" يعدّل أفق توقع المتلقي، ويضعه بغتة في سياق وظيفة الإغراء séductive.
وهكذا تمّت عملية شخصنة فندق "أسكرام بالاس" الذي تحوّل من معلم إشهاري سياحي لاستقطاب مواسم الهجرة نحو الجنوب حيث الدفء والصفاء إلى علامة مفسّرة لأفق النص. بما أنّ الروائي اتّخذ من هذا الفضاء الكوني الباعث على استثارة الذاكرة النائمة في أعماق الوعي كرسي اعتراف، أو منصة مساءلة، مساءلة الجنوب المتهمّ الضحية للشمال المتمركز المستبدّ.
ولتوسيع فضاءات الذاكرة الكونية المرنة الباحثة عن متنفس يتيح لها مزية المساءلة الرمزية، وإمكانية القصاص المعنوي على الأقل، تأتي العتبات الداخلية منفصلة ومتّصلة في آن واحد: 1-تين أمود 2-عين الزانة 3-الشاعر والجدران 4-الفجيعة على أستار الكعبة 5-تورابورا 6-قديس الماء الأبدي 7-رماد النبي الأخير.
وما عدا العنوان الأخير (رماد النبي الأخير) الذي لا يعدو أن يكون مجرد إضاءة جانبية مختزلة لاحتراق شخصية "أودلف هوسمان". ذلك الألماني الذي أقام فندق "أسكرام" في "تمنراست" تكريما لنبيه الملهم "شارل دي فوكو" دفين هذه المدينة الحلم، ليلقى مصرعه بها هو أيضا. وكلّ العتبات الأخرى تتكامل في عدّة علامات تصبّ كلّها في إشباع وعي المتلقي بتفريغ الذاكرة الكونية في هذا العمل السردي.
ولعلّ أكثر هذه العتبات تكثيفا وأشملها استشرافا هي العتبة الافتتاحية للرواية "تين أمود"، تلك الشخصية الأنثوية التارقية التي جلبت كلّ الانتباه، واستعصت على الجميع محتلة مكانة أسطورية رامزة إلى الجزائر العميقة التي لا تلين لمن تسوّل له نفسه جسّ نبضها.
ثمّ عتبة "عين الزانة" الذاكرة المكانية النابضة بالحياة التي تعدّ شهادة إثبات تاريخية وجغرافية فاضحة للذاكرة الإجرامية الفرنسية السوداء في الجزائر. فعتبة "الشاعر والجدران" التي تتمخض عنها إشكالية الحرية بين الإلزام والالتزام، وبين الضرورة الإيديولوجية والصيرورة الفنية. وعتبة "الفجيعة على أستار الكعبة" التي تتجسّد في الصراع الإيديولوجي والتنازع بين المادية الغربية والروحانية الشرقية. وعتبة "تورابورا" القائمة على الإشهار التراجيدي المؤسس لفسيفساء الظاهرة الكونية للإرهاب بكافّة أشكاله وألوانه.
وأخيرا تأتي أدقّ عتبة وهي "قديس الماء الأبدي" التي تحتمل نهاية رومانسية استشرافية تتوقّع بديلا كونيا يتمثّل في محو ذاكرة الصراع والظلم والموت، والتأسيس لذاكرة الصفاء والعدل والحياة.كما للقارئ أن يستحضر في طيات هذه العتبة منصوص الآية الكريمة "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ".
إنّ هذه الديباجة الكونية اتّخذت من وعي الشخصيات البؤرية مدارا للقول السردي في هذه الرواية. إلى حدّ يجعل المتلقي يتصوّر أن مكون الشخصية الروائية هو المدرك السردي الأساس والوحيد في الرواية. إلاّ أننا حين نمعن النظر في كيفية تناسل محكي الكلام انطلاقا من الذاكرة المتدافعة لهذه الشخصيات، نجد أنّ سقف مساهمتها يتراجع لبقائها حبيسة مادتها المرجعية الخام. ويبدو أن ذلك يعود إلى اقتناع الروائي بزوال الحدود بين المألوف المعتاد والغرائبي المجهول في سياق هيمنة النمط السردي لمحكي الكلام.
ويبرز في محكي الكلام كذلك ملمح شعرنة الكون السردي، من خلال افتتاحية الرواية عامة والحيز المتعلّق بشخصية "تين أمود" الدرامية خاصة. ذلك الحيز الذي يبدو متخما بنصوص شعرية متنوعة، تتحوّل فيها بؤر اهتمام المتلقي من التعاطي السردي الديناميكي إلى التعاطي الشعري السكوني.
هذا وتبدو البنية الإطارية لمجمل النص الروائي افتراضية استشرافية هادئة، يمثّل الناص فيها راويا والقارئ مرويا له والرواية اعترافا عامّا تتخلّله اعترافات خاصّة، يقف الكاتب في حقبة زمنية ما يتأمّل التاريخ، ويرصد الواقع ويستشرف المستقبل، يلملم شتات الوقائع والأمثلة ليجعلها تختمر، ثمّ يسكبها حبرا في بوتقة أوراقه، شاهدا على عصر العولمة. تتمثّل خصوصية هذا النص الروائي أساسا في قيام الشخصيات بمهمات لا تحيد عنها. على الرغم من فضاءاتها المكانية الرحبة، وإطاراتها الزمانية المرنة، وحقولها الموضوعاتية المتنوعة، وهي تتناوب في أدوارها على طابور كراسي الاعتراف، والبوح، والمكاشفة، والمساءلة.









 


آخر تعديل بوقصة عبدو 2016-04-01 في 01:10.
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
"اعترافات, أسكرام", المستقبل, رواية, ستشراف


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 21:55

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc