حاوره بالقاهرة: وليد المصري
الدكتور عادل عبد الناصر في حوار حصري لـ "الأمة العربية
أخي جمال عبد الناصر أحب بوتفليقة، لأنه رمز العزة العربية
لهذه الأسباب حارب عبد الناصر بكل قوة من أجل الجزائر
ثورة الجزائر حافظت على انتصارات الثورة المصرية
لماذا بكى عبد الناصر في ساحة الشهداء؟
حكاية عربة الإطفاء التي ركبها عبد الناصر بأمر الشعب الجزائري
رأى وعاصر ما لم يحظ به كبار المؤرخين والسياسيين، سمح له موقعه بأن يكون واحدا من أهم الشهود على تفاصيل العلاقات المصرية ـ الجزائرية منذ اندلاع ثورة التحرير المباركة، وحتى عام 1970.. فقد تربى في بيت الزعيم بصفته أخ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إنه الدكتور عادل عبد الناصر الذي يحفظ في ذاكرته أسرارا تضغط جهات عديدة من أجل محوها. لكن الرجل الذي حفظ عهد أخيه، أصر أن ينقلها للشعب الجزائري في ذكرى عيد الاستقلال، فقط عبر صحيفة كل الجزائريين ومنبر العرب "الأمة العربية".
في بداية لقائنا به، أبى د.عادل أن يمر دون أن يعبّر عن إعجابه بجريدتنا ومحتواها المتميز. وأشد ما لفت انتباهه، هو عنوانها الذي وصفه بأنه "بصيص نور" في زمن يحارب فيه كل ما يمت بصلة للعروبة، ويكتم فيه كل صوت يناد باسم "الأمة العربية".
بدأت حواري معه، طالبا منه أن يعرّف نفسه للقارئ الجزائري بشكل أوفر، خاصّة وأنه مقل في أحاديثه الإعلامية، فقال:
** أنا من مواليد 1947، كنت في الخامسة من عمري حين قامت الثورة في مصر، وأنا الأخ الأصغر للزعيم الراحل جمال عبد الناصر. أما بقية الإخوة، فهم عز العرب، الليثي وشوقي، وهذا الأخير توفيت أمه أثناء ولادته عام 1926، فتزوج أبي من والدتي عام 1932 لتنجب له مصطفى وحسين وطارق ورفيق وأنا، ومعظم هؤلاء توفوا ولم يبق منا سواي وطارق، وهو جنرال متقاعد، ورفيق وهو جنرال بحري متقاعد وصاحب شركة بواخر، فبقينا ثلاثتنا نحمل ذكريات سجلناها في صالون العائلة من الوالد وجمال ومحيط دائرة الحكم في ذلك الوقت.
* من هذا الموقع، هل لك أن تخبرنا عن علاقة ناصر بثورة التحرير الجزائرية؟
** كانت العلاقة طاغية لدرجة أنها تسربت بقوة لحياتنا، فقد كان اهتمام وإعداد ودعم عبد الناصر للثورة الجزائرية لا يقل عما بذله في ثورة 1952. ورغم أنني كنت صغيرا أثناء اندلاع ثورة الجزائر، إلا أنني لازلت أذكر الساعات الطويلة التي كان يغيبها عنا، وهو مجتمع بمجلس قيادة الثورة في القاهرة، ليواصل متابعته لما يجري في ساحة القتال بالجزائر. وأذكر أن أبي ذات مرة قال له: "يبدو أنه كتب عليك أن تقضي عمرك في الثورات"، فأجابه قائلا: "ثورة الجزائر امتداد لثورتنا يا أبي، نجاحها نجاحنا، وفشلها نهايتنا".
* وما الذي حمل ناصر على هذا الربط؟
** الثورة المصرية اندلعت وهي حاملة لشعار دعم وتحرير العالم العربي، وكان أي تقاعس مصري على نصرة الشعوب العربية المنادية بالاستقلال، يعني تشكيك مباشر في الأهداف التي قامت من أجلها الثورة. كما أن عبد الناصر دخل بكل قوته في ثورة الجزائر، الأمر الذي يعني ببديهية أن نجاح الثورة يمثل إضافة جديدة لثورة مصر، وإخفاقها كان سيعني نهاية حركة التحرر العربية التي قادتها مصر آنذاك، وكان هناك أعداء كثر لعبد الناصر في الداخل والخارج دخلوا من جانبهم المعركة ضده على مسرح الثورة الجزائرية، وبات معروفا في ذلك الوقت أن عبد الناصر يقاتل الدول الاستعمارية والاحتلال خارج بلاده، وبالأخص في الجزائر.
* لكن كيف التقت أهداف ناصر بأهداف الثوار الجزائريين؟
** الجزائريون أذكياء وكانوا يدركون مدى أهمية ثورتهم بالنسبة لعبد الناصر، لذلك لم يترددوا في طلب الدعم منه والتنسيق معه، وكان ظنهم في محله، لأنه قبِل طلبهم على الفور. وهناك معلومة أريد الوقوف عندها؛ وهي أن الثورة الجزائرية بدأ الإعداد لها في مصر مطلع الخمسينيات، وقبيل قيام الثورة المصرية، وكان بالقاهرة مكتب يعرف باسم "المكتب العربي لدعم المغرب العربي". ومن خلال هذا المكتب، تعرف مجلس قيادة الثورة بقيادة عبد الناصر، على قادة النضال الجزائري. وبعد قيام الثورة في مصر، حفز عبد الناصر هؤلاء الشباب لانتهاج العمل المسلح لطرد فرنسا من الجزائر. وحينما وافق أولئك الشباب على فكرة عبد الناصر، بدأ الإعداد بشكل عملي للثورة.
* هل تعرف شيئا عن هذا الإعداد؟
** ما أعرفه، أن عبد الناصر فتح أبواب الكلية الحربية بالقاهرة من أجل تدريب القادة والمقاتلين الجزائريين وتأهيلهم للعمل العسكري، ثم بدأت المخابرات المصرية في تسهيل وتأمين دخول هذه الكوادر البشرية المدربة للجزائر. ثم جاءت المرحلة الأخرى، وهي الأهم؛ وهي عمليات نقل الأسلحة عبر ليبيا وتونس، وأخيرا الجزائر، وهذه عمليات طويلة تحفظ مكتبة المخابرات العامة المصرية تفاصيلها.
* ولكن ثورة مصر كانت لا تزال وليدة في ذلك الوقت، فما الذي دفع ناصر لفتح جبهات أخرى بعيدة؟
** عبد الناصر كان في أمس الحاجة لدعامة عربية لاستكمال مشروعه الرامي لبناء أمة عربية موحدة، وكانت تلك الأمة ممزقة تحت سطوة الاستعمار، وكان عليه أن يسرع في تحرير العالم العربي وتوحيده تحت راية واحدة لاستكمال المشروع.
* ولماذا اختار ناصر الجزائر كمحطة أولى في هذا المشروع؟
** أذكر أنه ـ رحمه الله ـ طالما تغنى بالشعب الجزائري، وأنه قال إن وحدة الأمة العربية لن تتم إلا بالجزائر. كما أن الجزائر سياسيا كانت الأهم في هذا المشروع، لأنها الدولة العربية الوحيدة التي قرر الاستعمار ابتلاعها للأبد وإخراجها من الحظيرة العربية، وأن تحرير العالم العربي كله في ظل بقاء الجزائر تحت الاحتلال، ينسف المشروع برمته، من هنا حارب عبد الناصر بكل قوته من أجل تحرير الجزائر، ورمى بكل ثقله هناك.
* عبد الناصر زار الجزائر عقب استقلالها، هل تذكر تلك الزيارة وهل حدثكم عنها؟
** لطالما حدثنا عنها، فقد أثرت فيه كثيرا وكان يعتبرها من أعظم الزيارات التي قام بها في حياته. أذكر أنه أخبرنا بأن أحد ميادين أو ساحات الجزائر الكبرى، سميت باسم "بور سعيد" أثناء تلك الزيارة، وقال لنا إن المسافة من ميناء الجزائر وحتى المكان المخصص لإقامته، لا يستغرق أقل من نصف ساعة، لكنه قطعها في خمس ساعات كاملة بسبب اكتظاظ الناس الذين جاءوا من كل مكان في الجزائر ليحيوه ويهتفون باسمه ويقولون له إنهم سيظلون على عهد الثورة العربية، وتسببت تلك الهتافات والعبارات الثورية في إبكاء عبد الناصر، الذي أخبرنا ذات مرة أنه لم يبك إلا مرتين في حياته، الأولى في الجزائر فرحا بحب وإخلاص الشعب الجزائري، والثانية أثناء خطاب التنحي عن السلطة عام 1967 عقب النكسة.
* وكيف تناول الإعلام المصري آنذاك ما وقع في تلك الزيارة؟
** لم تكن الفضائيات موجودة وقتها وكان التصوير محدودا، لكني أذكر أن مذيعة "صوت العرب" الإعلامية "همت مصطفى" التي كانت تغطي الحدث، استطاعت أن تنقل الصورة بدقة عبر الأثير الإذاعي، فقد بكت هي الأخرى من المشاهد المؤثرة التي رأتها عن قرب، وأبكت المصريين معها عن بعد، وأذكر أنها قالت إن الموكب تعطل بسبب تدفق الناس، مما أجبر السلطات الجزائرية لإحضار عربة مطافئ لتقل عبد الناصر وقادة الثورة الجزائرية.
* أشيع عقب تلك الزيارة أن الجزائر ومصر كانتا مقبلتين على توقيع اتفاقية وحدة، ما حقيقة ذلك؟
** الوحدة كانت موجودة بالفعل ولم تكن في حاجة إلى اتفاقيات أو تغيير للنمط السياسي في البلدين، بدليل أن التنسيق المصري ـ الجزائري والمواقف المشتركة بينهما كان يدل على أنهما دولة واحدة، بدء من مشروع حركة عدم الانحياز،
واستمرارا باستثمار نجاح الثورة الجزائرية لصالح مشروع عبد الناصر في تحرير إفريقيا، والذي كانت أبرز محطاته استقلال أنغولا وجنوب إفريقيا، وانتهاء بنزوح عائلات جزائرية كثيرة للعيش في مصر التي لم يروا فيها إلا نموذجا لوطنهم الأم الجزائر.
* ننتقل لمرحلة أخرى هامة في تاريخ الجزائر مع مصر، فكيف كان موقف ناصر من انقلاب بومدين على بن بلة؟
** الرئيس بومدين كان يحترم عبد الناصر بشكل كبير، وكان يحبه بشكل جعل العلاقة بينهما أكثر من عادية. ومن الأشياء التي لا يعرفها أحد، أن بومدين كان يشاور عبد الناصر في كل القرارات الكبيرة والخطيرة، وأذكر أن عبد الناصر تلقى رسالة من بومدين أخبره فيها بما وقع في هذا الانقلاب، فرد عليه عبد الناصر بإبلاغه أن مصر تحترم خيارات الشعب الجزائري، وليس لها دخل بالأمور الداخلية بين الثوار، المهم مصلحة الجزائر.
* لكن ناصر كان على تفاهم مع بن بلة، فكيف اتخذ موقفا حياديا؟
** لكنه كان أيضا يحترم بومدين بصفته رجلا قوميا وعروبيا وثوريا من الطراز الأول.
* العلاقة بين ناصر وبن بلة كانت تحمل بعض التبعية، لكن مع بومدين كانت تحمل الندية، فكيف تقبّل ناصر ذلك؟
** عبد الناصر كان يريد جزائر قوية معتمدة على ذاتها، والرئيسان بن بلة وبومدين كانا يسيران في طريق واحد، وهو قومية العالم العربي، الوحدة، تقوية التحالفات، وهذا ما كان يهم ناصر بالدرجة الأولى. لكن الجزائر كانت في حاجة لبومدين في تلك المرحلة الصعبة من تاريخ بلد يلزمه الوقوف على قدميه، وفعلا تمكن الرجل من تأسيس القلعة الصناعية والإصلاح الزراعي وإنشاء القطاع العام القوي، ولم يأت للسلطة ليقول أنا ملك، بل عاش بسيطا ومات فقيرا، فالتجربة الجزائرية في عهد بومدين كانت مشابهة تماما لنظيرتها المصرية في عهد عبد الناصر.
* بعد اعتلاء بومدين للسلطة، كيف واصل العلاقة مع مصر؟
** العلاقة لم تشبها أية مشاكل قبل وبعد الانقلاب، لكنها أخذت بعدا أكثر قوة بعد حرب 67، فحينها جاء وزير الخارجية الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة للقاهرة للوقوف عن قرب على حقيقة ما يجري، فكان الشخص الوحيد غير المصري الذي شارك المصريين أحزان النكسة. وكان بوتفيلقة يحمل رسالة واضحة من الرئيس بومدين، مفادها أن الجزائر تضع جيشها بأكمله ومقدراتها خدمة لمصر في صراعها مع الكيان الصهيوني، وأذكر أنه أثناء ورود أنباء لعبد الناصر بقيام المشير عامر بإصدار أوامره للجيش بالانسحاب، كان بوتفليقة رفقة عبد الناصر في اجتماع يضعون فيه اللمسات الأخيرة على عملية تحريك القوات الجزائرية صوب المعركة، وقتها غضب بوتفليقة بشدة، لكن الكارثة كانت قد وقعت، فطلبت الجزائر مواصلة الحرب ولم توافق على وقف إطلاق النار.
* وماذا عن الدعم الجزائري المقدم في تلك المعركة؟
** الفترة من 05 جوان 67 إلى بدايات عام 68 كانت صعبة جدا على ناصر ومصر، وهي ذات الفترة التي وصلت فيها القوات الجزائرية وكتائب المتطوعين لتعسكر على ضفاف قناة السويس، وهنا بدأ الجيش المصري يتعافى ويلتقط أنفاسه، وكانت تلك القوات بمثابة سند كبير للجيش المصري، ووصل أيضا سرب طائرات، رغم أن سلاح الجو الجزائري كان لا يزال في مهده. وكان لوصول القوات الجزائرية تأثيره السلبي على اليهود، الذين بدأوا يشعرون أن المصريين ليسوا فرادى وأن هناك مددا عربيا وثوريا كبيرا معهم في الصراع. وفي الوقت الذي كان الجيش المصري يعيد تنظيم صفوفه، سدت القوات الجزائرية الفراغ ولعبت دورا كبيرا في الميدان، إضافة إلى الدور السياسي الكبير الذي لعبته الجزائر في المحافل وعلى الساحة الدولية نصرة لمصر في الصراع.
* ساد حديث عن الخيانة، ماذا تقول؟
** حينما وصلت القوات الجزائرية لمصر، كنت في الـ 24 من العمر، فعلمت أنها جاءت لتقوم بمهمة دفاعية لحين إعادة ترتيب صفوف الجيش المصري. وحتى وفاة الزعيم كان الالتحام بين القوات المصرية والجزائرية لا مثيل له، لكن بعد وفاته ابتعدت عن دهاليز السلطة وكانت كل المعلومات في يد السادات ورجاله، لكني رأيت بعيني في عام 73 الطريق البري الساحلي من ليبيا وحتى القاهرة، حيث كان مكتظا بعربات الشحن الجزائرية ليل نهار، وهذه الحكاية معروفة لدى كل المصريين في ذلك الوقت، وكانت القوات الجزائرية ترتدي الزي الأخضر، وأذكر أن بومدين سافر خصيصا للاتحاد السوفياتي ودفع مبلغ مليوني دولار لموسكو، أي ما يعادل 05 مليارات دولار حاليا، ولم يغادر قبل إقلاع طائرات الشحن العملاقة الروسية بالحمولات العسكرية لمصر وسوريا.
* هل لديك معلومات عن الحوار الذي دار بين ناصر وبوتفليقة؟
** كان بوتفليقة مستعجلا للحرب وأخذ الثأر وكان رافضا للحلول السلمية، من مبدأ ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.. طالب عبد الناصر باستمرار المعركة مهما كان الثمن، وأخبره أن الجزائر جاهزة لتحمّل عبء الحرب الأكبر بالعتاد والرجال، وأن الجزائريين متلهفون لنزال اليهود، لكن ناصر كان يطلب المهلة لحين إعداد القوات، وبالأخص سلاح الجو الذي يستغرق وقتا لتجهيزه.
* وماذا كانت ردة فعل ناصر تجاه الإلحاح الجزائري على الحرب، هل وصفهم بالتهور؟
** لا.. كان يقول إنه يشرح لهم بالتفصيل طبيعة الموقف السياسي والعسكري، لكنه كان يعرف أن الهزيمة أثرت لأبعد مدى على الجزائريين الذين ينتمون لجيل الثورة، ولا يعرفون شيئا اسمه مستحيل في الحروب والصراع مع الأعداء، وكانوا يشعرون أن العدوان على مصر هو اعتداء مباشر وإهانة الجزائر.
* وهل تعرف تأثير وفاة عبد الناصر على الشعب الجزائري؟
** المأتم دخل كل بيوت الجزائريين، وكان الرئيس بومدين أول الواصلين إلى القاهرة وكان معه بوتفليقة. ومن المعروف عن بومدين أنه لا يبكي، لكن الدموع سقطت من عينه في الجنازة، وظل سائرا على قدميه من أرض المعارض بالجزيرة إلى فندق الهيلتون لمسافة كيلومتر، وعند الفندق اختلط الحابل بالنابل وانفلت النظام، مما اضطر الأمن لإدخال الضيوف إلى الفندق خوفا عليهم.
* من المعروف أن لديك علاقات وطيدة بعدد من الحكام العرب، فما الذي تعرفه عنهم؟
** لدي علاقات عديدة بالزعماء العرب، ليس لأنني سياسي أو صاحب منصب كبير، فأنا إنسان بسيط أجري وراء قوت يومي، ولكن لأني شقيق عبد الناصر وهؤلاء يحاولون التعبير عن حبهم للزعيم الراحل من خلالي. وبهذه المناسبة، أود أن أترحم على الزعيم الراحل صدام حسين الذي أذكر شهادة في حقه، كنت أتمنى قولها منذ أمد، فهذا الرجل الذي يقولون عنه إنه سفاح وديكتاتور، وغير ذلك، كان رجلا عظيما وكريما ولم يظن بشيء من أجل الأمة العربية، وأذكر أنني زرت العراق زيارة سريعة. ورغم أنني لم أطلب لقاءه، إلا أنه أرسل إلي مدير مكتبه ليحييني ويعرض علي خدماته، وكلف ابنه عدي بأن يسأل عني بين الحين والآخر.
* وكيف شعرت لحظة إعدامه؟
** شيء مؤسف ومخز، لقد كانت إهانة وصفعة لكل عربي شريف، والمؤسف أيضا أن أيادي العرب ملطخة بدمائه، فكان من الممكن حل المشكلة عربيا، مثلما حدث مع عبد الكريم قاسم الذي أراد الهجوم على الكويت عام 61، وحلت المشكلة سلميا. لكن لأن صدام كان زعيما قويا ومؤثرا، أرادوا القضاء عليه للخلاص نهائيا من الزعيم.
* وما علاقتك بالرئيس بوتفليقة؟
** هناك موقف لا يمكن أن أنساه، حيث مررت بأزمة مالية وأرسلت ببرقية للرئيس بوتفليقة، لأني أعرف مدى علاقته بالرئيس عبد الناصر، فاندهشت برده السريع والذي تمثل في توظيف زوجتي في السفارة الجزائرية بالقاهرة كنوع من المساعدة، مع تعليمات بأن تعامل زوجتي معاملة الجزائريين، وهذه اللفته الكريمة جذبت أنظار كثير ممن يعملون في الحقل السياسي، لكن هذا ليس بالشيء الغريب على رجل لم تتغير أخلاقه الثورية طيلة حياته، فهو نفسه الرجل الذي عرفناه في الستينيات، هو الموجود اليوم بنفس الفكر والإخلاص. وبالمناسبة، أرى أن لهذا الرجل الفضل في بقاء القومية العربية ترفرف بعلمها على الجزائر في مواجهة الغزو الثقافي الفرنسي، مما يجعلنا نطمئن بأن الدم العربي سيظل واحدا، رغم وجود من يحاول تعكيره.
* يبدو أنك تكن محبة خاصة للرئيس بوتفليقة...
** أخي رحمه الله، أحبه وكان يتوسم فيه قائدا، وطالما حدثنا عنه، وأذكر أنه ذكر لنا اسمه في اجتماع عائلي كأحد أهم الزعماء الذين يرى فيهم عزة وشموخ الأمة العربية، إضافة إلى أن الرجل أثبت فعلا أنه قائد وبطل، وسأضرب لك مثلا بسيطا، كنا نسمع يوميا عن أخبار المجازر والقتل والدمار في بلد نحبه ونعتصر ألما من أجله، فجاء هذا الرجل ونجح بحنكته وقوته في خوض معركة أشرس وأعنف من المعارك العسكرية العادية، ليخرج بها وبشعبه منتصرا في النهاية، في وقت كنا نظن فيه أن الجزائر انتهت، لكن الرجل أعاد أحياءها وأعتقد أن هذا الإنجاز وحده يكفي لأن نقف أمامه طويلا بكل احترام وتقدير.
* هل ترى أن الأمة الآن لا يوجد بها زعيم؟
** يضحك بأسى.. ثم يقول: ربنا يجيب الخير.
* وهل الأرحام العربية عاجزة الآن عن إنجاب زعيم؟
** الدنيا بخير، وحتما ستتبدل الأحوال وربنا قادر على كل شيء، وأذكر هنا واقعة أن زميلة زوجتي وهي جزائرية سافرت للجزائر ذات مرة، فجيرانها في الجزائر علموا من خلالها أن زميلتها في العمل متزوجة من أخ الرئيس عبد الناصر، فما كان من هؤلاء البسطاء إلا أن قاموا بإرسال الهدايا ورسائل الحب معها، وطلبوا منها أن تطمئنهم علي وزوجتي، وهذا يدل على أن الشعوب العربية لا تزال بخير وتحترم قادتها المخلصين.
* أشرت إلى مرورك بأزمات مادية، فكيف لأخ الرئيس ناصر أن يمر بهكذا ظروف؟
** الوفاء سقط أمام الجحود ونكران الجميل، أنا حزين لما آلت له الأوضاع الآن، أشعر أنني وكل ما يمت بصلة بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر محاطون بالحصار، لأنه من المطلوب حاليا ألا تكون مصر عربية أو قومية أو إسلامية، مطلوب أن تكون "تابعا ذليلا".
* ومن يسعى لتحقيق هذا الهدف؟
** القوى العظمى التي تضغط بشكل أو آخر.
* هل يعني ذلك أن زمن عبد الناصر قد مات؟
** لا يمكن القول إنه مات أو حتى يحتضر، طالما هناك من أبناء هذه الأمة من يتحلون بالشجاعة والنخوة والرجولة وروح التحدي، وحتما سيأتي يوم تعود فيه الأمور لأوضاعها الصحيحة ويعود العرب لسيرتهم الأولى، وعلى المستوى الشخصي مطمئن لهذا الأمل. ومبعث اطمئناني، هو أصدقائي العرب من شتى البلدان العربية والذين يشاركونني الحلم.
* تقصد من بمعكري صفو الدم العربي...
** مشعلي الفتن بالطبع، ومن لا يريدون الخير لمصر والجزائر والأمة العربية برمتها.
* وكيف ترى صورة الجزائر الآن؟
** أرى أن الرئيس بوتفليقة نجح في إرجاع الجزائر للساحتين العربية والدولية بقوة، ونجح أيضا في التأكيد على وجود الجزائر القوية في المحيط العربي، وهذا يرجع لأن بوتفليقة تعامل مع كل الحكام في المشرق العربي وخبير بكل الأعراف السياسية في المشرق، إضافة إلى سياسة التوازن التي ينتهجها من أجل تحقيق هدف واحد، وهو مصلحة الجزائر، لذا نراه يفتح القنوات على الجميع وفي كل الاتجاهات بما يحقق الفائدة لشعبه. وأجمل ما في السياسة الخارجية الجزائرية، أنها لا تنحاز لطرف على حساب الآخر، فهي تسير في تجاه المشرق والمغرب، وهذه سياسة فريدة يصعب تطبيقها إلا ممن يملكون قرارهم بأيديهم.
* هل جزائر اليوم هي جزائر الأمس في مخيلتكم؟
** للأسف، صورة الجزائر اهتزت كثيرا في الخارج بعد وفاة بومدين، لكن بوتفليقة استطاع أن يعيد تلك الصورة. وفي الوقت الذي أحجم فيه الرؤساء الجزائريين عن زيارة الدول العربية المشرقية، حرص الرئيس بوتفليقة على زيارة القاهرة ودمشق وبقية العواصم العربية، ليقول للجميع الجزائر عادت، حتى الإعلام الجزائري، فأنا من المتابعين للفضائية الجزائرية، ألمس اهتماما واضحا بالقضايا العربية والقضية الفلسطينية.
* حدثتنا عن العلاقات الكبيرة بين الجزائر ومصر على مستوى الحكام، فما رأيك في تلك العلاقة الآن على مستوى الشعبين؟
** والله أنا أتأذى مما يحدث الآن.. ولا أكاد أصدق أن مجرد مباراة كروية تشعل خلافا بين الشعبين الشقيقين، لكن أرجع وأقول إن التيار الساداتي يساهم بقوة في إشعال النار ولا يترك مناسبة دون استثمارها في تمزيق صفوفنا، ويشجعه بعض الجزائريين المتأثرين بفرنسا ولا يحبون مصر. وبالمناسبة، المصريون الحقيقيون يحبون الجزائر، والتيار القومي العربي الناصري ينظر باحترام شديد للشعب الجزائري. وفي المقابل، أشهد بأن الشعب الجزائري لا ينسى ويحفظ الجميل، بدليل أنني لم أقابل حتى الآن جزائريا يكره عبد الناصر، فهذا الشعب وفي ويكفي أن اسم جمال من أكثر الأسماء شيوعا في الجزائر، وهذا شيء مؤثر.. أنا شخصيا أحببت الجزائر، لأن عبد الناصر كان يحبها.
* كيف ترى التاريخ المصري ـ الجزائري الآن؟
** للأسف، حدثت فجوة كبيرة عقب وفاة الرئيس بومدين، ومنذ ذلك الحين بدأ هذا التاريخ يصدأ، حتى أصبح هناك الكثير من الجزائريين والمصريين على السواء يجهلون التاريخ العظيم الذي يربط بلديهما.
* وما السبيل لحل هذه المشكلة؟
** لا سبيل إلى ذلك إلا بإعادة إحياء هذا التاريخ، من خلال عقد مؤتمرات ولقاءات مشتركة في كل المجالات الثقافية والأدبية والفنية والاقتصادية، ليس فقط لتسجيل التاريخ، ولكن من أجل إعادة العلاقات التي لا مثيل لها، وهذا الدور تتحمّله بالدرجة الأولى وزارتا الثقافة في البلدين من خلال السيدة خليدة تومي والدكتور فاروق حسني. وإذا تخلت الأدوات السياسية عن هذا الدور، فيجب تفعيل عمل المؤسسات المدنية والجمعيات الأهلية.
* يبدو أنك ترمي الكرة في ملعب الآخرين.. فماذا فعلت أنت على الأقل من أجل تنفيذ رغبة عبد الناصر الذي كان يحب الجزائر؟
** أنا الآن بصدد تشكيل جمعية تحمل اسم "الصداقة المصرية ـ الجزائرية"، هدفها إعادة إحياء العلاقات الأخوية الأصيلة بين الشعبين، مستعينا بمن يعرفون هذا التاريخ في الجانبين، وأدعو المثقفين الجزائريين أن يشاركوني ونظراءهم المصريين ممن عاصروا ويعرفون هذا التاريخ للمساهمة في الجمعية، إيمانا بأن من لا تاريخ له لا مستقبل له.
* هل ترى أن هذا المسعى قابل للتحقيق؟
** لا أخفيك القول، إنني أشعر بأن هناك حربا تقودها أياد خفية هدفها طمس العلاقة التاريخية المصرية ـ الجزائرية، وأن هناك أطرافا لا تريد أن يلتف المصريون والجزائريون تحت راية واحدة مرة أخرى، لكن لن يتمكنوا من ذلك إن شاء الله، لأن تلك العلاقات أقوى من المؤامرات.
* هل اتخذت إجراءات عملية في هذا الشأن؟
** أنا أدعو الآن الأخ العزيز السفير الجزائري بالقاهرة عبد القادر حجار، إلى عقد صالون أسبوعي في منزله يمثل النواة الأولى لهذا المسعى.
* هذا عن القاهرة، فماذا عن الجزائر؟
** أدعو إلى عقد مؤتمر سنوي، ويا حبذا لو كان في الأول من نوفمبر، حيث ذكرى اندلاع الثورة وما تحمله هذه الذكرى من مكانة في قلوب الجزائريين والمصريين على السواء، ويجب أن يكون هناك تعاون بين دور النشر المصرية والجزائرية من أجل طبع وتوزيع الكتب المتعلقة بهذه المرحلة والمروجة لهذه الفكرة النبيلة، وأنا تحدثت مع المسؤولين في مكتبة مدبولي بالقاهرة، وهي كبرى دور النشر المصرية من أجل جلب الكتاب الجزائري بشتى أنواعه ليصل صوت الجزائر للمصريين، فللأسف الكتاب الجزائري شحيح في مصر.
* هل تفضّل أن يكون هذا المشروع حكوميا أم خاصا؟
** أفضل أن يكون خاصا كي يستمر للأبد، وحتى لا يتأثر بالتقلبات السياسية المزاجية المهيمنة على العالم العربي، وأتمنى أن أكون في طليعة من يقومون بهذا الدور النبيل.