روائع مقدّمات الكتب الجزء الأوّل

[أبو تقي الدّين]

روائع مقدّمات الكتب الجزء الأوّل

بعض الكتب أروع ما فيها مقدّماتها، حيث يضع الكاتب زبدة كتابه وعصارة بحثه ودراسته في ذلك المؤلَّف، في كلمات موجزة مختارة..وربّما جعلتك المقدّمة تقبل على الكتاب فلا تدعه حتى تنهي قراءته..
كنت أقرأ وأنا صغير كلمة ( مقدِّمة ) بكسر الدّال المشدّدة إلى أن قرأت في أحد الأيّام مقدّمة بعض الكتب التي تدرس تاريخ الأدب العربي، إذا لم تخنّي الذّاكرة فألفيته يفتح دال مقدّمة، بدلا من كسرها فلفَت ذلك انتباهي، ولعلّ المؤلّف كتب في تفسير ذلك شيئا ما غيّبه عنّي مضيّ السنين؛ وليس الكتاب بين يديّ لأتثبّت منه الآن، وكأنّه أقنعني.. ولكن استثقلت النّطق بكلمة مقدّمة مفتوحة الدّال..
وبعد شوط غير يسير من البحث أقنعت نفسي أن أسير على ما نشأت عليه أوّلا، فنطق مقدّمة بالكسر على وزن اسم الفاعل – وهو المشهور – يصحّ على سبيل المجاز كأنّ هذا الكلام الذي نبتدئ به الكتب يقدّم لنا ما بعده ويقرّب مضمونه إلى أذهاننا، وإن قال بعض العلماء أنّ مقدَّمة بالفتح هو الأصوب على وزن اسم المفعول لأنّ نجعلها تقدمة للكتاب، كما نقول مقدَّمة الجيش أو الرّكب والقافلة ولا نقول مقدِّمة الجيش والرّكب والقافلة بالفتح لا بالكسر.
وأذكر أنّه من عادتي إذا رأيت كتابا جديدا أن أقرأ مقدّمته ثمّ فهرسه قبل شرائه أو حتى استعارته، إذا لم أكن على اطلاع مسبق بقيمة الكتاب وأهمّيته، وتكون المقدّمة وما فيها غالبا هي المؤشّر الرّئيسي عندي بضرورة شراء الكتاب أو تركه.
ولقد عُرفت المقدّمات على نوعين؛ مقدّمة يقدّم بها صاحبها كتابه فيلخص ما فيه للقارئ أو يبيّن الهدف مما كتبه، ومقدّمة يقدّمها غيره يعرّفه ويعرّف كتابه ويروّجه عند النّاس، لشهرته أو لفضله ومكانته العلميّة. وقد تجتمع المقدّمتان في الكتاب الواحد فيزيده ذلك فائدة ونفعا.
وقد يحتار النّاس.. أتكتب المقدّمة أوّلا على اعتبار أنّها مدخل للكتاب وتمهيدٌ لموضوعه، أم تكتب بعد الفراغ منه والانتهاء من تسطير مادته وتبييضها، ولعلّ بعض الكتّاب يسير على النّهج الأوّل إذا كان الموضوع حاضرا في ذهنه محيط بكلّ تفاصيله، لا يحتاج إلّا إلى تدبيجه وإرساله إلى المطبعة كأنّما سُطّر في صدره تسطيرا، ولقد عَرفت من هذا النّوع أمثلة كثيرة لاسيما الأقدمين منهم، أمثال ابن تيميّة وابن القيّم والجاحظ وأبي حيان التوحيدي وغيرهم من كتّاب القرون الأولى، إلّا أنّ المتأخّرين من الكتاب لا يصوغون مقدّمات كتبهم إلا بعد الفراغ من تأليفها، ولا أدري أذلك أصوب أم نهج الأوّلين ؟ ! ولعلّ في كلٍّ إيجابيّات وسلبيّات فمن الأوّلين من يكتب مقدّمة لكتابه قبل كتابته فتكون كالفصل الأوّل منه، وقد يعجل فيجعل لمنهجه في تأليف ذلك الكتاب شروطا ويضع قيودا، ثمّ ما يبرح حتى يخالفها إذا غاص في أغمار البحث ونأت به السّباحة في لجج المعارف العاتية..
ويكتب المتأخّرون مقدّمات لكتب فرغوا من تأليفها وانتهوا من وضع فصولها، فتأتي المقدّمة وتقطع على القارئ روعة الاكتشاف ودهشة البحث وسرّ الوصول إلى النتائج.. فتكون تلك المقدّمات مختصرات مخلّة وتسبيقات مزهّدة فيما بقي من الكتاب..
وغالبا ما تكون المقدّمة مختصرة في كلمات قليلة، لا تبلغ أن تكون مثل بعض فصول الكتاب، لكنّها أحيانا تطول حتى تصير كتابا مسقلا بذاته وربّما نٌسي الأصل وذكرت المقدّمة كما وقع لمقدّمة ابن خلدون، فكتاب ( المقدّمة ) صار كتابا مستقّلا بنفسه، ولعلّ كثيرا من المثقفين بل أغلبهم لا يحفظ عنوان الكتاب الأصلي ( تاريخ ابن خلدون ) ويَحفظ عنوان المقدّمة الذي هو ( المقدّمة )، أو كما جرى على الألسنة ( مقدّمة ابن خلدون )، بينما العنوان الكامل للكتاب ولعلّ ابن خلدون لم يوفّق في اختياره هو (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر )، فهذا العنوان طويل جدّا وفيه ثقل ظاهر على اللّسان يعسر علوقه بالأذهان وجريانه على الألسنة، ولقد ظننت في سنوات دراستي الأولى أنّ ( المقدّمة ) كتاب مستقلّ بذاته ولم أعلم بأنّه مقدّمة لتاريخ ابن خلدون إلّا بعد أن قرأتها..

[~نسآئم الصبآح ~]

شكرا يا أستاذ على الموضوع