--- شيخ الإسلام ابن تيمية ----
هو أحمد تقي الدين أبو العباس ، ولد في العاشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة من بعد الهجرة النبوية ، وكان مولده بمدينة (( حران )) وفيها نشأ إلى أن بلغ السابعة من عمره ، فلما أغار عليها التتار ، فر أهلها منها إلى دمشق ، وكانت أسرة ابن تيمية من بين أولئك المهاجرين . وكانت أسرة ابن تيمية أسرة علم ، أثمن ما تمتلك الكتب التي هي للعلماء متاع وثروة وغذاء ، حملوها معهم في رحلة شاقة عسيرة ، حتى إذا بلغوا دمشق استقروا فيها آمنين ، بعد أن رأوا الهول الأكبر في غارات التتار المفسدين ، فانطبع في نفس ابن تيمية منذ الصغر كره التتار وكره الاعتداء ، ولعل هذا يفسر ما كان منه من قيادة الجحافل لقتالهم ، بعد أن استوى رجلا ، مكتمل القوة . وقد نشأ ابن تيمية فوجد أباه الشيخ شهاب الدين ، وجده الشيخ مجد الدين على قدر كبير من العلم والتقدير ، حتى إنهما كانا يعدان من أئمة الفقه الحنبلي ، فكان ذلك موجها له إلى العلم منذ صغره ، فحفظ القرآن الكريم منذ حداثة سنه ، واتجه بعد حفظه ، إلى حفظ الحديث واللغة ، وتعرف الأحكام الفقهية ، وكان يتميز بالجد والاجتهاد ، وقوة الذاكرة ، والذكاء الحاد ، فساعده ذلك على التفوق والنبوغ في كثير من العلوم ، كالرياضيات ، والعلوم العربية ، وحفظ المنظوم والمنثور ، ومعرفة أخبار العرب ، والبراعة الواضحة في علم النحو ، والفقه الحنبلي . وقد تولى ابن تيمية التدريس في الجامع الكبير بدمشق ، وهو في الثانية والعشرين من عمره ، في المكان الذي خلا بوفاة أبيه ، فجلس نظيرا لأئمة الحديث الممتازين ، كابن دقيق العيد ، وغيره من أئمة ذلك العصر ، وقد اتجهت إليه الأنظار ، وكثر مريدوه والمعجبون به والملتفون حوله . وكانت دروسه – وإن تعددت نواحيها – يجمعها اتجاه واحد ، وهو إحياء ما كان عليه الصحابة أهل القرن الأول ، الذين تلقوا الإسلام صافيا ، لم يكدر بأفكار غريبة ، أو نحل بائدة ، وقد اتجه ابن تيمية إلى إزالة البدع والمنكرات ، من ذلك أنه علم بأن صخرة تزار وتنذر لها النذور ، فذهب مع أصحابه ومعهم حجارون يقطعون الصخور فقطعها وأراح المسلمين من وزرها . وكانت لابن تيمية وقفات تاريخية لنصرة الدولة والعامة عند إغارة المغيرين ، فعندما جاء التتار إلى الشام في نهاية القرن السابع الهجري ، فر كثيرون من أعيان العلماء – مع من فر – إلى مصر ، حتى أصبح البلد شاغرا من الحكام وكبار العلماء ، ولكن ابن تيمية كان العالم الوحيد الذي بقي مع العامة ، فلم يفر ولم يخرج ، بل جمع من بقي من أعيان دمشق ، وذهب على رأس وفد منهم ، يخاطب ملك التتار في الامتناع عن دخول دمشق ، واستطاع بقوة إقناعه وثبات قلبه ، أن يحصل على وعد من ملك التتار بألا يدخل جنوده دمشق ، ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوا العهد ، فدخلوها وعاثوا فيها فساد ، ثم غادروها . وفي عام 702 هـ عاد التتار بجموعهم إلى الشام ، بعد أن سبقتهم الشائعات بأنهم عازمون على دخول الشام ومصر ، فاستعدت لملاقاتهم الجيوش المصرية والشامية ، وتحالف العلماء والقضاة ولأمراء على أن يلاقوا العدو ، وكان ابن تيمية يحرك النخوة في القلوب ، ويعد الجيوش بالنصر ، وقد امتطى صهوة جواده ، وخرج إلى ميدان القتال محاربا فأبلى بلاء حسنا ، حتى انتصر جند مصر والشام ، وانحسر جند التتار إلى الجبال والتلال ، ومن ورائهم ابن تيمية ومن معه من الجنود ، يضربون ظهورهم ، ويرمونهم عن قوس واحدة ، حتى زال خطرهم ، وكان ذلك آخر عهدهم بالإغارة بعد أن كانت غاراتهم تهز المشرق والمغرب من أقدم العصور . وفي عام 705 هـ سار ابن تيمية إلى مصر ، وأقام بها أكثر من سبع سنوات ، كان فيها موضع التقدير والإجلال ، وإن ناله بعض الأذى من حساده والمنافسين له . وقد ألقى في مصر دروسا كثيرة في المساجد وعلى المنابر ، يفسر بعض آيات القرآن الكريم ، ويعظ وعظا ينتفع به العامة ، ويعقد مجالس للمناظرة ، فنفع الله به خلقا كثيرا ، ورأوا في رجلا خالصا في قلبه وعقله لله رب العالمين . وقد أمضى ابن تيمية حياته في إفادة الناس بعلمه ، إماما في الفقه والتوحيد ، مجاهدا في سبيل الله ، منصرفا إلى العلم والتأليف ، حتى ثوى إلى رحمة ربه ورضوانه عام 728 هـ ، بعد أن جاهد أكثر من ثلاثين سنة في ميادين العلم والحرب ، وهو في الميدانين كالجوهر الجيد ، لا يزيده الاحتكاك إلا لمعانا وصقلا ، يعلو من أوج إلى أوج ، ومن درجة إلى درجة ، حتى أقر بفضله المخالف والموافق ، فكان معدنا خالصا ، لا زال اسمه يرن ، وسيستمر إلى يوم الدين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركــاته