رسالة الضبّ - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > ممّا راقـــنـي

ممّا راقـــنـي هذا المنتدى خاصٌ بمنقولات الأعضاء مما يـنـتـقـونه من عذب الكلام.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

رسالة الضبّ

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2020-11-01, 16:59   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










B18 رسالة الضبّ

قال محمد البشير الإبراهيمي في آثاره (2-40) في رسالة الضب التي بعث بها إلى أحمد قصيبة رحمهما الله بمناسبة إرسال هذا الأخير هدية إلى ابنه أحمد وهي عبارة عن حيوان الضب :
" والحق أن الضب حيوان عربي جزري، ولا تقل إنه صحراوي وأن الصحراء ليست خاصة بالعرب، فإن هذه الصحراء التي هي آية من آيات الله. في أرضه، أو هي باب الفلسفة من هذا الكتاب الأرضي لم يعمرها الله بأمة تشرّبت معانيها، وتغلغلت في دقائقها، ولاءمت روحُها روحَها مثل الأمة العربية، وسل التاريخ ينبئك، فهو لم يعرف أمة خلعت عليها الصحراء فطرتها وأفرغت عليها إفراغًا سابغًا غير الأمة العربية.
ومن ههنا جاشت نفوس العرب وتفتقت قرائحهم عن روائع الفلسفة الوصفية للصحراء وأرضها وسمائها وليلها ونهارها وأغوارها وأنجادها وبراريها القاحلة وشجراتها ومعايشها وقيظها وصرّها وحيوانها ونباتها، وليس لأمة من الأمم ما للعرب في وصف النجوم حتى قربتها تشبيهاتهم إلى الإدراك البشري، واعتبر ما قالوه في سهيل والجوزاء والسماكين الأعزل والرامح والثريا والخضيب والدبران والنسرين الواقع والطائر على كثرة النجوم وكثرة ما قالوه فيها، وإذا كانت النجوم لا تحصى عدًا، فقل ذلك فيما قالته العرب فيها. ومن بدائع تشبيهاتهم في النجوم أخذ المعري تلك المنازع الغريبة وتلك النظرات الفلسفية البعيدة الغور المنبثة في لزومياته، وهي باب على حدة من فلسفته الكونية وما نبع ذلك الزلال ونبغ ذلك السحر الحلال إلا مما تركه العرب من تشبيهاتهم لها وتخيلاتهم فيها. وانظر أوصافهم البديعة لظلمة الليل وروعته وأثرها في نفوسهم وقارن ذلك بوصفهم للنجوم ينكشف لك بعض السر من تلك النفوس وارتباطها بكونها وامتزاجها به، ولا أبعد إذا قلت إنه ليس للأمم مجتمعة ما للعرب في هذا الباب."
-1-

يتبع ........








 


رد مع اقتباس
قديم 2020-11-01, 22:25   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

"... وليس لأمة من الأمم ما لهم في وصف الحيوانات الضارية، وأن أمم الحضارة على وفرة أدواتها لم تدرس الضواري إلا بعد أن دجّنتها، وفاتهم أن التدجين يذهب بكثير من الخصائص الطبيعية لها فيفوت بذلك على الدارس كثير من النتائج، واعتبر ذلك بِتدجيننا- ونحن بشر- كيف اغتال خصائصنا ومقوّماتنا، ومسخ معنوياتنا حتى أصبحنا أحط من بعض أنواع الحيوان. أما العرب فخالطوا الضواري في أغيالها واقتحموا مآسد خفان والثرية وترج وغيرها وذللت أرضها أقدامهم، ومنهم من عايش الضواري حتى ألفها وألفته وجمع بينهما عالم كعالم المثال عند الصوفية، فلطفت في السبع سورة السبعية وشرتها وامتدت في العربي الميزة الحيوانية، وتقاربت الغرائز في الجو الحيواني الوسط فصدق الوصف وحق التصوير. ولو لم يكن العربي أميًا وكان ممن يدرس الأشياء على المناهج العلمية، لأتى العالم بالمعجزات.
وليس لأمة من الأمم ما للعرب في وصف الحشرات والزواحف والإلمام بطبائعها ووجوه تصرفاتها وسعيها في معائشها وتناسلها ودراسة ما بينها من امتزاج وتنافر، وصف عن عيان ودراسة في الجو الطبيعي."

-2-

يتبع....









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-02, 16:09   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

" وليس لأحد ما لهم في وصف النبات والشجر، وتحليل مكاسرها بالعجم والغمز، وتحقيق طعومها وخصائصها وتقسيم أنواعها وتسمية مفرداتها من شَثّ وطباق وآء وتنوم وثمام وشيح وقيصوم ثم غرب وشويط ونبع وسراء ومرخ وعفار، إلى غير ذلك مما بلغوا في تصويره في أشعارهم درجة تقرب من تصويره بالألوان، وقد اضطرّ رواة اللغة ونقلتها في عهد التدوين إلى إفراد هذا النوع- وهو النبات والشجر- خاصة بالتأليف، فلأبي عبيدة والأصمعي ولأبي حاتم والنضر بن شميل ولكراع النمل ولأبي زيد الأنصاري ولكثير غيرهم كتب خصّوها وسمّوها باسم النبات والشجر.
ولإمام هذا النوع أبي حنيفة الدينوري كتاب "النبات"، وهو البحر الذي لا ساحل له، وهو مفخرة اللغة العربية بلا منازع، وهو الكنز الذي لم يرزأنا الدهر بأنفس منه ولا أثمن، ولا أغلى، وان مصيبتنا به لتفوق مصائبنا في الأعلاق الثمينة، وإن خسارتنا له لخسارة يعز عنها العوض، لولا سلوة بتلك الشذرات التي ينقلها عنه أصحاب المعاجم مباشرة أو بواسطة، وان هذه الكتب الخاصة بالنبات والشجر لبرهان مستقل قائم على مقدار اتساع هذه اللغة الشريفة وإحاطتها، ودليل من جهة أخرى على فضلها على المعارف البشرية وجواب مسكت للذين يهرفون بتنقص هذه اللغة ويرمونها بضيق العطن والقصور عن استيعاب المعارف، وتوبيخ مر لزعنفة من أبناء العرب العاقين الذين يلوون ألسنتهم بمثل هذا الكلام ويشايعون لجهلهم وفسولة أخلاقهم وانحراف أمزجتهم العربية، أعداءها على ذمها والزراية بها والتقليل من خطرها، وأنا لا أرى دواء لهذه الزعنفة التي ضلّت عن جهل إلا الاحتقار فما بفقدهم ينقص عديد العرب، ولا برطانتهم يقل شأن العربية ويخف وزنها.
وانهم عندي لأهل للرحمة بما جهلوا، لا للحسد على ما علموا، ولو علموا أو حفظوا فصلاً واحدًا مما وضعته العرب لجماعات الحيوان وطوائفه، كالأجل والرجل والسرب والعانة والقطيع إلى آخر هذا النوع أو لأصواتها- وما أكثرها- لأشرفوا على بحر لجي يجدون عنده رطانتهم ضحضاحًا غمرًا، لا يغمر كعب إنسان، ولو علموا أن العرب تقول: خطيب وَعُوع فيكون مدحًا، وخطيب وعواع فيكون ذمًا، ولهم في كل كلمة مرمى من الاشتقاق مصيب، لو علموا ذلك ونحوه من أسرار الاشتقاق، وهو باب من أبواب وفصل من كتاب وقزعة من سحاب، لأقلعوا عن غيّهم وكفّوا من غلوائهم، ولكنه الجهل يعمي ويصمي."
-3-
يتبع ...









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-04, 09:19   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

" واذا أردت أن تفهم بعض السر في خصيصة العرب في الوصف، فاعلم أنّ الصحراء لبستهم- ولبسوها- حتى أصبحت حياتهم جزءًا منها فأورثتهم ملكة التأمّل، ولو سمّيناها ملكة الحواس لكان هذا هو الصحيح ومنها جاءتهم دقة الحسّ ولطافة الشعور وصدق التصوير، ولا نشترط على التاريخ أن يأتينا بأمة أمية من أممه يطاول بها أمة العرب في هذا الباب، بل نتنازل وندعوه لأن يأتينا بأمة من أمم الحضارة تستطيع أن تقف بجانب العرب في هذا الميدان."

-4-
يتبع ...









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-04, 09:23   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

((فصل))
"ونعود إلى الحديث عن الضبّ، فأنا أعترف أني ما حققت معنى المثل العربي المشهور "أعقد من ذنب الضبّ" إلا بعد دراستي لضبّكم، وأن هذا المثل لأشهر من "قفا نبك ... " وانه لممضوغ بكل لسان، ممجوج على سن كل قلم، تقرأه في كل صحيفة وفي كل كتاب، وما أكثر العقد- والتعقيدات- في زماننا التي يحسن ضرب هذا المثل لها، ولو أن الذين يضربون هذا المثل تقليدًا واتّباعًا رأوا الضبّ ورأوا ذنبه وتحسّسوا تلك العقد الشائكة في ذنبه، لكان تمثلهم أوقع في نفوسهم ولكانت نفوسهم أشدّ تأثّرًا به، وعلى مقدار التأثر يكون التأثير، ولعلموا مع ذلك إصابة العرب في مواقع التمثيل ومراميهم في مضارب الأمثال، وأن في المخلوقات أشياء كثيرة ذات عجر أو عقد أو أبن، ولكن العرب آثروا الضبّ في التمثيل لأنه حيوان صغير مسالم ليّن المجسّة كليل الظفر إلّا عن حفر الكدى ليتّقي لا ليتّقى، ومع هذه الصفات الرخوة فذنبه معقّد ذاك التعقيد العجيب، وهو شائك، وهو لحامله شكة وحامله منه شاكي السلاح، وقد حكى لي بعض من رآه يضرب به الأفعى حتى يقتلها.
وقد أكثرت العرب من ضرب الأمثال بهذه الزواحف والحشرات الحقيرة، فكان ذلك تنويهًا بشأنها وتنبيهًا للمتوسمين والباحثين في مخلوقات الله ليزداد المؤمن إيمانًا بالخالق ويزداد المتفقّه فقهًا في حقائقها، ويزداد الباحث توسّعًا في المعرفة، والمعرفة ميزة هذا الجنس."
-5-
يتبع...









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-05, 16:37   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

" وقد قالوا ضلّ دريص نفقه، وهو تصغير درص اسم لجرو الفار، وقالوا: "تخلصت قائبة من قوب" للفرخ من البيضة، وهذا باب واسع في أمثالهم يقبح بالمتأدبين من ناشئتنا أن لا يجعلوا له حظًا من حفظهم وبحثهم، وأنا فقد رأيت الضبّ مسلوخًا ومطبوخًا- وإن لم آكل لحمه- عند البدو في نجد الغربية مما يلي المدينة المنورة، ورأيته عند دافة من أعراب الحجاز دفت على المدينة في عام ممحل فما أثارت رؤيته في نفسي إلا ذكرى أنه عرض على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع يده فقيل له: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: «لا أحرم ما أحلّ الله، ولكنه ليس بأرض قومي- وإن نفسي لتعافه-» وفي هذا الجواب روايات، وان خالد بن الوليد حين سمع هذا الجواب تناوله من بين يدي رسول الله فأكله، ويؤخذ من جوابه - صلى الله عليه وسلم -، أن الضبّ غير موجود بمكة في زمنه، ولم أوفق إلى سؤال أهل مكة عنه في زمننا هذا، ولو سألت لكان زيادة في العلم واليقين، لأن الحديث ظني، وان تعددت طرقه واشتهر بإخراج الصحاح له."
-6-

يتبع....









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-07, 09:36   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

" وهذا التقصير الذي شاهدته وشهدت به على نفسي ناشئ عن قصور في ملكة التأمّل والبحث إذ ذاك، لأنها كانت مزاحمة بالأبحاث الدينية، وان رواية هذا الحديث في مجالس الرواية لا تثير في النفس أكثر من الاهتمام بحكم أكل لحمه شرعًا، وهو اهتمام له حظ واعتبار في موضوعه وجوّه الخاص، ولكن المثال البارد الفج "الصامط" (1) الذي لا يثير في النفس اهتمامًا بل يثير فيها اغتمامًا هو المثال الذي تعلّمناه من كتب النحو، وهو قولهم: " ... هذا جحر ضب خرب" يمثلون به للجر بالمجاورة أو بالتوهّم لا أدري، وانما الذي أدريه هو أن هذا النوع من الجر مسموع عن العرب، وهو من شذوذاتهم اللغوية وانحرافاتهم عن مقاييس لغتهم، وهو مقبول منهم لكنه مقصور على ما سمع منهم، فلا يسوغ لنا نحن طرده من كلامنا حتى لا نفسد اللغة على أنفسنا بهدم القواعد الصحيحة والجري على غير منهاج، ولهذه الشذوذات في العربية فلسفة خاصة لم يشبعنا أحد بالحديث عنها حتى الآن، ولو وجدت متسعًا من الوقت لكتبت فيها ما يصحّ أن يكون نواة في الموضوع، إذا تعاهده الباحثون أصبح شجرة ذات أكل شهي. ولفيلسوف هذا الفن أبي الفتح عثمان بن جني جمل متفرقة في هذا الموضوع لكنها تنطوي على نظرات سديدة وتدلّ على انفساح ذرع الرجل في هذا العلم، وإذا كان هذا النوع من الجر مسموعًا موقوفًا على السماع فلست على ثقة من أن مثال النحاة مسموع من العرب وإنما هو مثال سوقي انتحلوه، ثم قلّد آخرهم أولهم فيه على عاداتهم، وهل يصحّ لهم أن يمثلوا لمسألة سماعية بمثال مصنوع؟ لا. ودليلي على أن المثال مصنوع أمران:
ـ[الأول]ـ: أن نطق العرب لا يساعد على ما ادّعاه النحاة فيه، لأن كلمة خرب التي يدّعي النحاة جرّها جاءت مقطعًا في الجملة لم تعقبها كلمة أخرى، فإذا نطق بها عربي نطق بها ساكنة الآخر بلا شك، فمن أين يظهر الجر الذي ادّعوه فيها؟ ووددت لو ذاكرت بعض نحاة العصر المفتونين بالمباحث اللفظية العقيمة في هذا التوجيه لأسمع رأيهم، وما عسى أن يأتوا به من حجج فارغة، وكم في كلام الفارغين من تسلية للهم وتزجية للوقت وترويح للخواطر المكدودة بشرط أن يكون السّامع موفور الحظ من الصبر.
ـ[والثاني]ـ: أن معنى المثال على برودته وجفافه لا يتفق مع ما يعرف العرب عن الضبّ من أنه لا يحفر جحره إلا في الكدى (جمع كدية) وهي جبيل صلب الأرض متماسك التراب، ولذلك يضيفونه إليها كثيرًا فيقولون: ضب الكدية، وضب الكدى، يستعملون هذا كثيرًا في كلامهم، وفي مقصورة ابن دريد، بيت مختومة بضب الكدى ولا أذكرها الآن وليس عندي ما أراجعها فيه، وقد قال الشاعر:
سقى الله أرضًا يعلم الضبّ أنها … بعيد عن الأدواء طيّبة البقل
بنى بيته فيه على رأس كدية … وكل امرئ في حرفة العيش ذو عقل
فقد وصف هذه الأرض التي اختارها الضبّ لسكناه، بأن الضبّ- وهو الاختصاصي في هذه الهندسة- كأنه يعلم أنها بعيدة من الآفات، وأكبر الآفات في نظر الضبّ السقوط والانهيار والخراب"
--------
1) كلمة عامية معناها ثقيل الظل.

-7-

يتبع ...









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-08, 16:21   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

" وقال الشاعر الآخر فزاد المعنى المراد توضيحًا، وهو يتحدث عن الضبّ:
ويحفر في الكدى خوف انهيار … ويجعل بيته رأس الوجين
والوجين: هو الأرض الصلبة الغليظة، ومن هذه الكلمة جاء قولهم: رجل موجّن، قوي عظام الأضلاع والصدر. ومنها ميجنة الثياب، آلة تدق بها، ومنها جلد موجّن: مضروب بعد الدبغ حتى تتداخل أجزاؤه وتلطف فيلين مع القوة. فهذا البيت شاهد على أنه "ليس جحر ضب خربًا"، ولهذه الخاصية في اختيار الضبّ للكدى، تصفه العرب بصفة ملازمة فيقولون "ضب دامي الأظافير" جمع أظفور. قال الشاعر:
تَرَى الشرّ قد أفنى دوائر وجهه … كضبّ الكُدَى أفنى أنامِلَه الحَفْرُ

ومن تهكّمات المعري وهمزاته، أن صاحبه أبا القاسم المغربي المشهور في علم التاريخ والأدب بالوزير المغربي، اختصر في حداثة سنّه كتاب "إصلاح المنطق" ليعقوب ابن السكيت، وأهدى منه نسخة إلى صفيّه المعرّي، وكانت بينهما أسباب متينة العرى، فكتب له المعرّي جواب الإهداء رسالة من أبدع رسائله، وفيها نقد لكتاب ابن السكيت على طريقة المعرّي الغريبة في سخريته العجيبة يقول فيها، إن لم تخني الذاكرة.
"وقد أكثر يعقوب من الاجتهاد، في إقامة الأشهاد- يعني الشواهد- حتى ذكر رجز الضبّ وانّ مَعَدًّا من ذلك لجِدُّ مُغْضَب، أعَلَى فصاحَتِهِ يُسْتَعانُ بالقَرْض، ويُسْتَشْهَدُ بأحناش الأرض، ما رُؤبَةُ عنده في نفير، فما قَوْلُكَ في ضبّ دامي الأظافير ... ".
وهذه الرسالة الرائعة مطبوعة مصحّحة فيما طبع "كامل كيلاني" مع رسالة الغفران، فإن كانت عندك فراجعها، فلعلّ الحافظة لم تضبط ألفاظها، ومحل الشاهد فيها لموضوعنا وصفه الضب بما كانت تصفه العرب من أنه "دامي الأظافير" ولا سبب لذلك إلا حفره لجحره في الكدى الصلبة، وهذه كلها دلائل على فساد مثال النحاة إعرابًا ومعنًى. ولا ننكر أن بعض جحر الضِّباب تخرب، وقد خربت مدائن الرومان والفراعنة فضلًا عن جحور الضباب، ولكنه بارد جاف متخاذل خاذل لحافظه، إذ يوهمه خلاف الواقع، ومنه ومن أمثاله خذل المتأدبون بكتب النحو الذين قعدت بهم همّتهم عن التأدب بلغة العرب من شعرهم وخطبهم، ولم يحصل واحد منهم ملكة صحيحة في هذه اللغة ولا ذوقًا صحيحًا في أدبها، والواجب في الأمثال أن تكون جملًا حكيمة ذات معان مستقيمة وألفاظ قويمة حتى يحصل الحافظ لها فائدتين: الحكم اللفظي والمعنى الذي يترك أثرًا في النفس، ومن مجموع هذه الأمثلة يتكوّن الأدب والأديب. وقد نعى ابن خلدون في زمنه هذا الذي نعيناه وانتقد من مزاولي النحو ما انتقدناه- وهو لعمري- نقد صريح ما عليه غبار."
-8-

يتبع ....









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-10, 16:01   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

" وانظر قولهم "لا تأكل السمك وتشرب اللبن" كيف لعب به الزمن وتعاوره الاستعمال حتى أصبح ما ليس بصحيح فيه صحيحًا وأصبح قاعدة طبية، وما هو من الطب ولا قاله طبيب ولا هو بصحيح في الواقع والتجربة ولا بمُطّرِدٍ ضرره على فرض وقوع ضرر منه في جميع الأمزجة، وقد استعمله النحاة مثالًا لحكم لفظي فأدّوا مرادهم به على أكمل وجه، ولكن لما لم يكن معناه صحيحًا أوقع أممًا وأجيالًا في الخطأ، فحفظه الناس ونقلوه من الاحتجاج به على حكم أعرابي إلى الاستشهاد به على حكم حيوي، وأصبح الناس يتحامون الجمع بين اللبن والحوت عن عقيدة قرّرها في نفوسهم هذا المثال، وإذا كانت في المِعَدِ معدة ضعيفة تتأثر من الجمع بين غداءين، فمحال أن تكون حجة على معد بني آدم في علم أو عالم الكروش.
أما أنا وحياتك- كما يقول الزاهري- فإنني ما رأيت أصلح لمعدتي من الجمع بين السمك واللبن والفضل لهذه الطبيعة التي لا تقلد في السفاسف."
-9-

يتبع ...









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-23, 20:40   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

" ((فصل))
ورجز الضبّ الذي أشار إليه المعرّي وانتقد على ابن السكيت الاحتجاج به أصله مزعم من مزاعم العرب التي لا حقيقة لها، إذ زعموا أن الحيوانات كانت كلها تتكلّم ونحلوا بعضها كلمات وجملًا وأبياتًا من الشعر، وليس وضعهم لما وضعوا من هذا من ذلك النوع المعروف عند جميع الأمم، وهو وضعهم أشياء على ألسنة الحيوانات إيغالًا في الحكمة وتطرقًا لتربية النفوس البشرية وسوقها لفضيلة أو صدّها عن رذيلة، فإن هذا النوع من الأدب السامي هو نمط من التربية الصالحة كما في كتاب "كليلة ودمنة"، ولكن العرب كانوا يعتقدون هذا اعتقادًا، وإن لم يكن عامًا فيهم. وفي شعر أمية بن أبي الصلت المتأله بيت في تقرير هذا المعنى، ولم أتذكر الآن ألفاظ هذا البيت، وقد سمعت من العوام وشاهدت من يعتقد هذه العقيدة.
ومن فروع هذا المزعم عند العرب أنهم زعموا أن السمكة قالت للضب: وردًا يا ضب. فقال الضب:
أصبح قلبي صَردَا … لا يشتهي أن يَرِدَا
إلا عَرادًا عرِدَا … وصِلِيّانًا بَرِدَا

فهذا هو رجز الضب وهو مبني على اعتبار صحيح، وهو أن الضب لا يشرب الماء، ولعلّه يكتفي عنه برطوبة الهواء الذي يستنشقه والعشب الذي يأكله، كما قالوا في الظباء التي تجتزي عن الماء بما تأكله من حشيش رطب، ولذلك سمّى العرب هذه الظباء جوازي واحدتها جازية. ولهذه الكلمة ذكر مستفيض في كلامهم، وبها سمّيت الجازية المرأة التي بنيت عليها قصة بني هلال أو بطلة الرواية."

-10-
يتبع ...









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-26, 09:31   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

((فصل))

ومن مزاعم العرب في الضب أنه أول من دلّ على نفسه، إذ كانت الحيوانات كلّها تتكلّم، فزعموا أن صائدًا مرّ بوادٍ فيه ضب فلم يتوجّه إلى صيده، فخاطبه الضب بقوله: انك لو ذقت الكُشى بالأكباد .. لما تركت الضب يعدو بالواد: والكشى جمع كشية وهي شحمة مستطيلة في الضب يقول آكله إنه لا ألذ منها، ومعنى قوله- لو ذقت الكشى بالأكباد- لو أكلتها ملفوفة بالأكباد أو ممزوجة بها فهو- زيادة عن كونه دلّ على نفسه- أرشد إلى كيفية ونوع من أنواع الملفوف- وتذكّرنا كلمة الكشى بكلمة للزمخشري من كَلِمَهِ النوافي وهي: ما الأعراب بالكشا- أولع من القضاة بالرشا. وأنا أرى أنّ دعوى العرب لدلالة الضب على نفسه أو تزيينه للناس أكله بطيب شحمه، أرى هذه الدعوى ترجمة غامضة لحقيقة كونية تكلّم عنها الحكماء الباحثون في أسرار الكون والمستشرفون لحكمة الخالق في مخلوقاته، وهي أن الحكمة العليا في ألوان الفواكه الزاهية ذات التّلاوين والتهاويل كالخوخ والإجاص والتفّاح وغيرها في مقاديرها وأشكالها هي الدعاية إلى أكلها بمجرّد النظر إليها من الإنسان والحيوان، فإن الرؤية بالعين تسبق الذوق باللسان وتبين الطعم واللذاذة. فتلك الألوان والأشكال هي دعايات تستهوي من فيه قابلية الأكل وتدعوه إلى التجربة، فإذا تمّت التجربة صارت عادة في العقلاء وغريزة فيمن سواهم، ولولا هذه الدعاوى المستهوية في الألوان والتهاويل لما أقدم عاقل ولا غيره على تجربة شيء لم يعرفه لاحتمال أن يكون فيه داؤه لا غذاؤه، والحي إذا عرض له خيال الموت ذابت كل الاعتبارات في نفسه، ويعد هؤلاء العلماء والحكماء وجود هذا المعنى في الفواكه بمثابة المحافظة على بقاء نوعها وتسلسل نسلها، وهي السنة المعروفة في عالم الحيوان بنظام التوالد النوعي والتلاقح الجنسي، فلو فرضنا وجود تينة واحدة في العالم في بقعة لا يوجد بها آدمي لكان من المترتب على هذا الفرض انقراض صنف التين بعد موت تلك الشجرة، ولكن تلك التينة قد أودعت فيها الحكمة ما يحفظ بقاءها النوعي بعد فنائها الشخصي، وذلك أن ألوان ثمرها تستهوي الطيور إلى أكلها ثم تزرع بذورها التي تخرج مع الفضلات في الصخور أو الأودية، فتنبت منها شجيرات صغيرة ثم تنمو وتثمر دواليك، وقل مثل ذلك في النخلة وغيرها. وكم رأينا في شقوق الصخور الشاهقة- حيث لا تصل يد إنسان- أشجارًا من التين عظمت حتى صارت دوحًا وما نبتت إلا من البذور الخارجة مع رجيع الطيور.
وعلى هذا فلا يبعد أن يكون قومنا العرب أدركوا ذروا من هذه الحكمة- وليس ذلك بعجيب منهم- فجعلوا دلالة الضب على نفسه تعبيرًا بلسان الحال عن هذه الحكمة، ولا شك أن الآكل الأول للضب ما أكله إلا بعد أن استهواه شيء فيه من سماته الظاهرة كالكشية، وكم لله من سر خفي!
-11-
يتبع ...









رد مع اقتباس
قديم 2020-11-28, 20:59   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

((فصل))
وكما يستطيب العرب لحم الضبّ حتى صار لهم أثرًا وخبرًا، كانوا يستطيبون أكل بيضه ويسمّى في لغتهم "المكن".
يقول المتنبي في وصف قوم من الأعراب:

خُرَّابِ بَادِيَةٍ غَرْثَى بُطُونُهُمُ … مَكْنُ الضِّبَابِ لَهُمْ زَادٌ بِلَا ثَمَنِ.
والمتنبي ممن يحسن التبدي والتعاريب، ويحسن وصف البدو مدحًا أو ذمًا، وهذا البيت من هذا الطراز.
وقال شاعر آخر، وأظنّه إسلامي يتعارب، ولست أتذكر اسمه الآن:

أكلت الضباب فما عفتها … واني لأهوى لحوم الغنمْ
وركّبت زبدا على تمرة … فنعم الطعام ونعم الأدم
وقد نلت ذاك كما نلتم … فلم أرَ فيها كضبّ هرم
وما في البيوض كبيض الدَّجَا … جِ وبَيْضُ الجراد شفاء القرم
ومكن الضباب طعام العُرَيْبِ … ولا تشتهيه نفوس العجم

وكيف لا يستطيب لحم الضباب ومكن الضباب من يقول شاعرهم، وهو عروة بن الورد:

عشية رحنا سائرين وزادنا … بقية لحم من جَزورٍ مُمَلَّحِ
إننا نعرف العرب ونعرف أنهم قوم يزنون الحياة بغير ما تزنها به أمم البطون والفروج، وموازينهم في الحياة تدور على قطب واحد وهو المحمدة والذكر الحسن، وفي ذلك يقول أولهم- وما هو بالأول في هذا الباب- وهو يخاطب زوجته:

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له … أكيلًا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقًا أو جار بيت فإنني … أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي

ويقول آخرهم، وما هو بالآخر في هذا الباب:

وإنما المرء حديث بعده … فكن حديثًا حسنًا لمن وعى

-12-
يتبع ...









رد مع اقتباس
قديم 2020-12-04, 16:54   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

((فصل))
وتضرب العرب المثل بالضب في عدة غرائز، فيضربون به المثل في الحيرة فيقولون:
أحير من ضب، ويزعمون- وهم أعرف الناس به- أنه إذا بَعُدَ عن جحره خبل ولم يهتد إليه على خلاف المعهود في أمثاله من سكّان الأجحار، وهو على خلاف المعهود في الطيور ذوات الأوكار، ويضربون به المثل في العقوق فيقال: "أعق من ضب"، ويفسّرون عقوقه بأنه يأكل حُسُولَهُ، جمع حِسْل وهي جراؤه الصغار وهو لَحِمٌ ونباتي معًا، واللحم هو الذي يأكل اللحم وجمع على لواحم. يقولون لا آتيك سِنَّ الحسل يعنون التأبيد إذ يزعمون أن الحسل لا تسقط له سن.

-13-
يتبع ...









رد مع اقتباس
قديم 2020-12-10, 16:20   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

((فصل))
ويزعمون أن الضب له نزكان، أي ذكران واحدهما نزك، ويعدون هذا من فضائله وخصائصه، وكثيرًا ما فكرت في هذا الزعم، ما يصنع بالنزكين؟ أَيَكُوم بهما معًا في آن واحد؟ ويلزم من هذا أن يكون لأنثاه فرجان، أم يستعمل أحدهما حتى إذا كَلّ وفتر استعمل الآخر؟ كما يستعمل البطل سيفين على التعاقب احتياطًا لكلال أحدهما أو انثلامه، وإذا كان حقًا ما يقولون فلا نشكّ أن الخالق لم يخلقهما عبثًا، ولم أزل في ريب حتى قرأت حكاية عامل لخالد القسري، أهدى إليه في يوم نيروز سلة مملوءة ضبابًا وكتب معها أبياتًا في وصفها منها قوله:

ترى كل ذيّال إذا الشمس عارضت … سما بين عرسيه سمو المخايل
حِسْلٌ له نزكان كانا فضيلة … على كل حافٍ في البلاد وناعل


فوقعت في جرة أخرى من قوله: سما بين عرسيه لما يفهم منه أن له زوجتين، ولعلّ من خصائصه- ما دام محلًا للخصائص- أنه خلق بنزكين لِيَكومَ كل عرس بنزك، ويكون اختصاصه بالنزكين مرتبطًا باختصاصه بالعرسين، وزاد في الحيرة أن في غيره من الحيوان بما فيه الإنسان من له أكثر من عرس، وذكر الحمام والدجاج يسافد العشرات من إناثها، وليس لجميعها إلا نزك أو ذكر واحد، وما دمنا لم نجرّب ولم ندرس دراسة استقراء. فلنقل ما قالته العرب إنها خصوصية أو فضيلة، ومن أحبّ شيئًا نحله ما شاء من الكمالات، ثم قرأت في بعضِ كتب اللغة: أن ذكر الضب يسمّى نزكًا، وأن لكل ضبّ نزكين وأن فرج أنثاه يسمّى قُرْنة، ولأنثى الضب قرنتان، فإن صحّ هذا ظهرت الحكمة في النزكين.
-14-
يتبع...










رد مع اقتباس
قديم 2020-12-12, 21:55   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
اسماعيل 03
مشرف منتديات الدين الإسلامي الحنيف
 
الصورة الرمزية اسماعيل 03
 

 

 
الأوسمة
العضو المميز لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

((فصل))
ولما ذكرناه من علاقة العرب بالضبّ سمّوا به على عاداتهم في التسمية بالأشجار والنبات والأحجار والحيوان، ولهذه الأسماء العربية المنقولة من أسماء الجماد والنبات والحيوان فلسفة خاصة كنت أمليت فيها دروسًا عديدة على تلامذة دار الحديث بتلمسان في 1357هـ، وكتبها عنّي التلاميذ وجعلتُها مقدّمة لدرس أنساب العرب، وقد سئل بعض العرب، ما لكم تسمّون أبناءكم بأسماء قبيحة جافية، وتسمّون عبيدكم بأسماء حسنة كسرور ورباح؟ فأجاب العربي: إننا نسمّي عبيدنا لأنفسنا، أما أبناؤنا فهم لعدوّنا. يعني أن العبيد للخدمة والمهن المنزلية أو للقيام على الماشية، وكلها سلم واطمئنان، فكان المناسب هذه الأسماء المفرحة التي تجري مجرى الفأل.
وأما الأبناء فمرمى العرب من كثرة النسل الاعتزاز بهم والاعتماد عليهم في الغارات والانتصاف من الأعداء، وأليق الأسماء بهذه المواقف: "جندل" و "نهشل" و "صخر" و "ليث" و "فهد" و "عوسجة" و "حرب" لأنها تثير في نفوس الأعداء خيالات من معانيها، ومن الغريب أن العرب لم تُسَمِّ ضبًّا بلفظ المذكّر إلا قليلًا، وأغلب ما سمّت به ضبة بلفظ المؤنث وهو علم على عدة قبائل يطلقون عليها الضباب.
ومن أشهر من تسمّى بهذا الاسم ضبة بن أذ بن طابخة وهي قبيلة مشهورة يعدّها النسّابون الجمرة الثالثة من جمرات العرب، وجمرات العرب هي قبائل استقلّت ولم تحالف غيرها لعزّها ومنعتها، ولفظها مأخوذ من التجمّر، وهو التجمّع، وهذه الجمرات هي نمير بن عامر وضبة بن أدّ والحارث بن كعب، ويقول علماء النسب إن الجمرتين الأخيرتين انطفأتا بالمحالفة لأن ضبة بن أد حالفت الرباب والحارث بن كعب حالفت مذحج، وبقيت نمير بن عامر جمرة متّقدة لم تحالف أحدًا إلى أن جاء الإسلام، وكما تسمّى هذه القبائل جمرات تسمّى جمارًا.
يقول الفرزدق: خطرت ورائي دارمي وجماري. ونسيت الشطر الأول. ومما يطربني من كلام الشعراء في ذكر الجمرة والجمار قول مهيار الديلمي تلميذ الشريف الرضي في إحدى قصائده:
يا ابنة (الجمرة) من (ذي يزن) … في الصميم العِدِّ والبيت الرحيب
وبا بني: إن مما آسف عليه أسفًا لا ينقضي، ضياع هذا العلم من بيننا، علم أنساب العرب وأيام العرب وأمثال العرب، وإنها لكنوز من المعارف وأجزاء كاملة من التاريخ والأدب ومحال أن يزدهر الأدب العربي ويؤثر آثاره المرغوبة في ناشئتنا إلا إذا استكمل الأدباء هذه الأجزاء المفقودة.
وعلى ذكر اختيار العرب في التسمية ضبّة دون ضب، أذكركم بكلام كنت قرأته لبعض علماء اللغة المتبحّرين في فهم أسرارها، وهو أن العرب يلحقون تاء التأنيث بصفات المذكّر كثيرًا كـ"علامة" و"فهامة" و"تكلامة " و"تلقامة" و"رحلة " و"هزأة"، وهي كثيرة في كلامهم، قال: وهم يرون فيما هو منها مدح إلى معنى الداهية، وفيما هو منها ذم إلى معنى البهيمة العجماء، وهو كلام فقيه في العربية محيط بأسرارها ومقاصد واضعيها وخلجات نفوسهم، وأظن أن صاحب هذه النظرية هو ابن الأعرابي أحد فقهاء اللغة المبرزين، ولا أقطع بذلك.
-15-
يتبع .....









رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 22:01

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc