أوراق أدبية: القصيدة الرديئة ... كيف نتعرّف عليها؟ - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > ممّا راقـــنـي > قسم فن النقد الأدبي

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

أوراق أدبية: القصيدة الرديئة ... كيف نتعرّف عليها؟

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-01-31, 15:38   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
شاعر_الشوارع
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية شاعر_الشوارع
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي أوراق أدبية: القصيدة الرديئة ... كيف نتعرّف عليها؟



أوراق أدبية: القصيدة الرديئة ... كيف نتعرّف عليها؟

تتميز القصيدة الرديئة أول ما تتميز بخاصية الجمود والإشارية، وأنا أطلق هذين المصطلحين على قصيدة الشعر التقليدية التي تقوم على صور محدودة الأبعاد، ثابتة الدلالة.

إن كثيراً من صور القصائد الإحيائية التي كتبها محمود سامي البارودي أو أحمد شوقي أو حافظ إبراهيم هي صور من هذا النوع، وهي صور يمكن أن نقيس عليها غيرها في كل شعر تقليدي أيّاً كان المسمى الذي يتخفى وراءه، خصوصاً حين لا تفعل الصور الشعرية شيئاً سوى الإشارة الموضحة لمعنى نثري يسبقها عادة، ويجمّدها في دلالة فردية ثابتة لا تتجاوز حدوده المسبقة، ولا تفلت من قيده. والنتيجة هي جمود الصور أو إشاريتها التي تجعلها غير قادرة على أن تشع في أكثر من اتجاه أو تخلق استجابة وجدانية نشطة لدى أي قارئ.

ويرتد جمود الصورة الشعرية وإشارية لغتها إلى الطريقة التي يفكر بها الشاعر في قصيدته. والغاية التي يهدف إليها في الوقت نفسه. ولقد كان الشاعر الإحيائي، عندما يغلب عليه التقليد، يفكر في قصيدته على أساس ثنائي مزدوج في حالات كثيرة، أي أن تفكيره في القصيدة كان يسير في خطوتين متتابعتين أو منفصلتين، فهو يعرض الفكرة في الخطوة الأولى ثم يعقبها بالصور في الخطوة الثانية. قد تتناسب هذه الطريقة مع الغاية التعليمية الاقتناعية، فلكي نقنع الآخرين ونعلّمهم علينا أن نحدد أفكارنا أولاً، ونقرّرها لهم في عبارات محددة، ثم نأتي بعد ذلك بما يشرحها أو يفسّرها أو يبررها أو يثبت صوابها، كي يزداد السامع أو القارئ اقتناعاً بها. ولكن إذا كانت الصور في ظل هذا التفكير مزدوج الخطو تنفصل عن موضوع القصيدة، فإنها تجنح إلى أن تكون جامدة فردية الدلالة، ثابتة المعنى. لماذا؟

لأنه طالما سبق الشاعر الصورة بمعنى نثري مباشر يرتبط بها، أو تأتي هي دليلاً عليه، فمن المنطقي أن تتقلص دلالة الصورة وتتقوقع في حدود هذا المعنى الذي فرض عليها أن تتعلق بأذياله، فلا تستطيع - نتيجة ذلك - أن تشع في أكثر من اتجاه أو توحي بأكثر من معنى، فيفتر إحساس المتلقي بها على الفور. ومثال ذلك هذا المطلع من قصيدة البارودي التي قالها مهنئاً الخديو إسماعيل بولاية مصر:

طرب الفؤاد وكان غير طروب
والمرء رهن بشاشة وقطوب
ورد البشير فقلت من سرف المنى
أعد الحديث علي فهو حسيبي
خبر جلا صدأ القلوب فلم
يدع فيها مجال تحفز لوجيب
طرح القذى كقميص يوسف عندما
ورد البشير إلى يعقوب


التقرير المباشر للمعنى

إن البيتين الأولين يقرران لنا المعنى تقريراً مباشراً، إذ يخبرنا كل منهما بأن البارودي قد ابتهج عند سماعه للنبأ العظيم الذي هو تولي الخديو العرش، ثم يأتي البيتان الثالث والرابع بصورتين تشرحان هذا المعنى الذي تقرر من قبل. ورغم كل ما يمكن أن يقال في إمكانات هاتين الصورتين، فإن القارئ لن يدهش لهما ولن يتلقاهما تلقياً بكراً، بل على العكس من ذلك، يمر عليهما مروراً عادياً بعد أن تحدد له معناهما في البيتين الأولين، ولو كان البارودي بدأ بالصورتين مباشرة، وحذف البيتين الأولين، لكان قد أتاح للقارئ بكارة التلقي، وحرر صوره من كل قيد، مهيئاً لها الفرصة كي توحي للقارئ بكل ما يمكن أن تموج به من إيحاءات ومعان،فتخلق استجابة وجدانية كاملة.

وأتصوّر أن الفكرة التي أقصد إلى توضيحها يمكن أن تظهر بمقارنة صنيع البارودي بصنيع شاعر معاصر جاء بعده بعقود. أقصد إلى الشاعر صلاح عبدالصبور الذي نقرأ له في قصيدته (رسالة إلى صديقة) وصفاً للأثر الذي تركه خطاب هذه الصديقة (أو الحبيبة) في نفسه:
خطابك الرقيق كالقميص بين مقلتيّ يعقوب
أنفاس عيسى تصنع الحياة في التراب
الساق للكسيح
العين للضرير
هناءة الفؤاد للكروب
المقعدون الضائعون التائهون يفرحون
كمثلما فرحت بالخطاب يا مسيحي الحبيب

ورغم مزالق الابتسار من قصائد صلاح عبدالصبور، لكن تشبيه أثر الخطاب بأثر قميص يوسف على عيني يعقوب يأتي بذاته، مستقلاً عن أي معنى سابق على التشبيه، أو أي فكرة تقريرية يستخدم التشبيه دليلاً عليها، فالتشبيه بذاته وفي ذاته هو ما يتولد عنه المعنى، وهو ما يشع من دلالات تفضي بدورها إلى تشبيهات أخرى تقترن بدورها بجوانب من الأثر نفسه، هكذا يغدو تأثير الخطاب كأنفاس عيسى التي تصنع الحياة في الموت، وترد الصحة على مَن فقدها. وعندما يصل الشاعر إلى مدى رد البصر على الضرير، فإنه يرد العجز على الصدر كما اعتاد القول أهل البلاغة، فيصل ذلك بالإشارة إلى هناءة المكروب التي تكمل الدائرة بفرحة المقعدين التي لا يكتمل معناها إلا من خلال الاستعارات التي لا تتكرر إلا لتؤكد بجماليات التكرار تعدد المعاني المباشرة وغير المباشرة لتتابع الصور.

وإذا عدنا إلى أبيات البارودي، وجدنا الموقف على العكس من ذلك، فالشاعر يبدأ بطرب الفؤاد غير الطروب، وينتقل إلى الخبر الذي جاءه به البشير، فلم يصدقه، فطلب من البشير الإعادة تأكيداً للبهجة التي أثارها الخبر، ويأتي وصف هذه البهجة بالاستعارة التي ينجلي فيها صدأ القلوب، ويتبع ذلك تشبيه أثر خبر نيل الخديو إسماعيل ولاية مصر بأثر قميص يوسف الذي ردّ البصر على يعقوب، وذلك اتساقاً مع تقرير الفكرة أولاً، وإرداف هذه الفكرة بما يشرحها أو يوضحها من الصور البلاغية التي تكون دليلاً على الفكرة.

وظيفة الشعر الإحيائي

وأحسب أن هذا النوع من صياغة الصور البلاغية يتناسب كل التناسب والوظيفة التعليمية للشاعر الإحيائي، وهي وظيفة تقترن بحرص ذلك الشاعر على تعليم قارئه وإقناعه بقضاياه، وفي هذا الحرص سبب آخر لجمود الصور وثبات معانيها، ويتضح ذلك عندما نضع في اعتبارنا حرص الشاعر الإحيائي على التعليم والإقناع. وكلاهما ينطوي على عملية عقلية باردة بمعنى أو غيره. ولا سبيل لمن يقصد إلى التعليم والإقناع معاً من التضحية بالمضمون النفسي أو الشعوري للكلمات، والاتكاء بدلاً منه على الهدف المنطقي لها، والنتيجة هي غلبة الاستخدام الإشاري للغة، واقتراب هذا الاستخدام في طبيعته من استخدام الرموز والإشارات في الجبر أو الرياضة مثلاً. ويتبع ذلك - بالطبع - جمود الصورة أو تحجّرها في دلالة فردية ثابتة بدلاً من أن تكون ثريّة الإيحاء، متعددة الدلالة، وأكثر ما يكون ذلك في الصور البلاغية التي يصوغ بها الشاعر أبيات الحكمة التي يحرص على حشدها في شعره، تأكيداً للمعنى التعليمي من ناحية، وحرصاً على استعادة نموذج الشاعر الحكيم من ميراثه الشعري من ناحية مقابلة. ومثال ذلك ما نقرأه في شعر البارودي على النحو التالي:

لولا التفاوت في الخلق ما ظهرت
مزية الفرق بين الحلى والعطل
فانهض إلى صهوات المجد معتليا
فالباز لم يأو إلا عالي القلل
ودع من الأمر أدناه لأبعده
في لجة البحر ما يغني عن الوشل
قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته
ويقعد العجز بالهيابة الوكل
وكن على حذر تسلم، فرب فتى
ألقى به الأمن بعد اليأس والأمل
لو يعلم المرء ما في الناس من دخن
لبات من ود ذي القربى على دخل
فلا تثق بوداد قبل معرفة
فالكحل في العينين أشبه بالكحل


واستقلال كل بيت من أبيات الحكمة السابقة بمعناه هو الوجه الآخر من انغلاق كل صورة بلاغية في كل بيت على معناها التعليمي الثابت الذي تهدف إلى تأكيده. وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن يغلب (تشبيه التمثيل) على الأبيات، وهو نوع التشبيه الذي يكون فيه المشبّه به أشبه بالدليل على سلامة المعنى المقصود في المشبّه. ولذلك تتتابع الحكم في الأبيات، محافظة على الثنائية نفسها: المعنى النثري المقرر + الدليل عليه باستخدام تشبيه التمثيل، تماماً كالدعوة إلى النهوض إلى صهوات المجد والاستدلال عليها بأن الصقور (البزاة) لا تأوى إلا إلى أعالي قمم الجبال (القلل). أو الدعوة بأن الناس تُظهر غير ما تبطن، فتلتبس حقيقة نواياها كالكحل الذي تتجمّل به العين، والكحل الذي هو سواد ضار. وهيمنة فعل الأمر في الأبيات قرين العملية المنطقية أو عملية القياس (التمثيل) التي تنطوي عليها غاية التعليم التي لا تفارقها غاية الإقناع. وأفعال الأمر بطبيعتها، خصوصاً في مثل هذا السياق، تنبئ عن طبيعة معرفة المتكلم في علاقته بالمستمع الذي يتوجه إليه المتكلم العليم الخبير بكل ما يعينه على الفهم، مفيداً من أساليب التوضيح والتمثيل الإقناعي.

تجميد الصورة

ويمكن أن نجد هذا النوع من الصور في شعر أحمد شوقي الذي تعوّد على مخاطبة الجماهير أو الأفراد موجّهاً إليهم النصح، ساعياً إلى تعليمهم ما يفيدهم في حياتهم من القيم والمبادئ، ومن أمثلة ذلك قوله مخاطباً القارئ أو المستمع بلا فارق:

وإن تخرج لحرب أو سلام
فأقدم قبل إقدام الأنام

وكن كالليث يأتي من أمام
ليملأ كل ناطقة وجوما

وكن شعب الخصائص والمزايا
ولا تك ضائعاً بين البرايا

وكن كالنحل والدنيا الخلايا
يمر بها، ولا يمضي عقيما

وبالغ في التدبّر والتحرّي
ولا تعجل، وثق من كل أمر

وكن كالأسد: عند الماء تجري
وليست ورداً حتى تحوما


ففي هذا النموذج لشوقي ما في نظيره عند البارودي، خصوصاً حين نلحظ أن التبعية للفكرة النثرية المحددة أفقدت الصور قدرتها على الإيحاء أو الإثارة وجمّدتها تجميداً تاماً، فلم تعد تصلح إلا إلى الإشارة إلى الفكرة النثرية المحددة قبلها، وعندما نضيف إلى ذلك أن هذه الصور لم تأت نتيجة حاجة داخلية ملحّة، فرضتها ضرورة التعبير عن شعور خاص للشاعر بقدر ما هي نتيجة لحرصه على تعليم المتلقي وإقناعه، ندرك السبب الذي جعل المضمون الحسّي للصور بكل ما يمكن أن يرتبط به من إثارات وإيحاءات يتجمّد تماماً، وتتحول اللغة ذاتها إلى إشارات حرفية لا تجاوز وظيفة الإشارة المجرّدة إلى الفكرة النثرية التي تحددت من قبل، الأمر الذي يفضي بالصور الشعرية إلى أن تكون صوراً جامدة لا تحمل وجهاً واحداً ودلالة فردية مباشرة.

وأحسبني في حاجة إلى القول إن الجمود والإشارية بوصفهما خاصية بارزة في الصور الشعرية التقليدية عند شعراء الإحياء لا ترجع فحسب إلى حرص الشاعر على تعليم السامعين وإقناعهم بأفكاره وقضاياه، وإنما ترجع بالقدر نفسه إلى توليد الشاعر المستمر لصور القدماء.

وقد يحدث أن تكون في الصورة القديمة حياة وثراء، ولكن تلقّف الشاعر الإحيائي لها ثم تحويله إياها إلى ما يسمّيه بالمعنى المخترع أو المبتكر، كان يقضي تماماً على كل ما في هذه الصورة من حياة وثراء، ويحيلها إلى مجرد تعبيرات جامدة لا تستطيع أن توحي للقارئ بشيء أو تثير فيه حالة شعورية خاصة. ومثال ذلك ما قاله الشاعر البدوي القديم:

كأن قلبي عشية قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح

قطاة غرها شرك فباتت
تعاوده وقد علق الجناح


ويشعر القارئ في مثل هذه الصورة، في سياقها داخل القصيدة القديمة، بالحياة الغامرة التي تكمن فيها، كما يحس بالثراء الدلالي والشعوري الذي تحتويه، ولكن عندما يتلقف البارودي هذه الصورة - كعادته - ويُجري فيها توليده، يختفي الثراء القديم ويتحوّل إلى شيء من قبيل:

كأن قلبي إذا هاج الغرام به
بين الحشا طائر في الفخ يضطرب


صحيح أن التوليد لم ينته بالبارودي إلى الافتعال والمبالغة، ولكنه على الأقل حرّم الصورة القديمة من حياتها، فضلاً عن أنه - من حيث هو عملية عقلية باردة - جمّد لغة الصورة، وأفقدها كل قدرتها على الإثارة والإشعاع وثراء الدلالة.

افتقاد الإحساس باللغة

وغالباً ما ينتهي استغراق الشاعر التقليدي في الموروث إلى الدرجة التي يفقد معها إحساسه الفردي الخلاق باللغة، فلا تغدو اللغة ملكاً خاصاً له، يحاول أن يكتشف إمكاناتها الداخلية أو يتأمل تجربته الوجدانية في ضوء جديد من خلال إعادته تشكيل علاقاتها، بل تصبح اللغة كائناً غريباً عنه، يتأملها ويتعامل معها كما لو كانت قطعاً من الأحجار الملوّنة.

وقد يصنع منها أشكالاً هندسية طريفة، أو يبتكر صوراً بارعة التوليد، ولكنه في كل ما يصنع أو يبتكر لا يستطيع أن يبث الحياة في عمله التصويري، وينتهي إلى النتيجة التي انتهى إليها البارودي في قوله:

وسقت مع الغواة كميت لهو
جموحاً لا تلين على الجذاب

إذا ألجمتها بالماء قرّت
ودار بجيدها لبب الحباب

أو:


طارت بألبابنا سكراً ولا عجب
وهي الكميت إذا في حلبة جمحت


حيث تجد أن البراعة الهندسية في الصورتين ترتد إلى المفارقة التي يحدثها استخدام الكلمة الواحدة بمعنيين (تورية)، فالكميت هو الفرس البني غامق اللون، ولكن إذا استعاره البارودي للخمر (والجامع المنطقي هنا في اللون)، ثم رشح الاستعارة ترشيحاً خاصاً حدثت المفارقة، وتعجب السامع من هذه الصورة التي يمكن أن تكون وصفاً للخمر وللفرس في الوقت نفسه. وأتصوّر أننا يمكن أن نُقرّ ببراعة البارودي، ونوافقه على وصفه لنفسه عندما قال:

بلغت بشعري ما أردت فلم أدع
بدائع في أكمامها لم تفتق


ولكن هل العلاقة التي تقوم عليها الصورتان السابقتان علاقة جيدة؟ أو هل هي بمنزلة كشف عن موقف شعوري خاص؟ أو - بعبارة أخرى - هل تثير في نفوسنا شيئا؟ أو تجعلنا نرى موضعها في ضوء حدس مغاير؟ إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة بالنفي من وجهة نظري على الأقل، فالعلاقات قديمة استخدمت عشرات المرات قبل البارودي. كل ما حدث هو شيء من التحوير أو التعقيد، ولكن جوهر العلاقة مازال ثابتاً جامداً كما هو، فضلاً عن أن الصورتين السابقتين لم تأتيا إلا نتيجة لنوع من أنواع العبث الذهني أو لنوع من اللعب بكلمات بعيدة تماماً عن وجدان الشاعر، وليس بينها وبين مشاعره الخاصة أي صلة أو قرابة.

الدلالة النفسية للكلمات

لقد توقف الشاعر الإحيائي - في جوانبه التقليدية - وقوفاً طويلاً عند الكلمات بوصفها أشياء قائمة بذاتها، واعتمد على جرسها اللفظي فيما أتى به من محسّنات مختلفة الأنواع جعلها همّه في شعره، بل لقد اعتمد على الكلمة المفردة في استخراج التورية التي عدّها القدماء آية من آيات البلاغة، بل جعل من رسمها وأحرفها مادة للتشبيهات والاستعارات، كما رأينا من قبل. ولكنه في كل محاولاته التقليدية كان منفصلاً عن لغته التي لم يعالجها من حيث صلتها بمخزونه الشعري الفردي. ويؤكد ذلك استخدام الشاعر الإحيائي (المصري) لألفاظ لا يمكن أن يكون لها تاريخ نفسي حيّ في أعماقه وأعماق سامعيه، مثل ألفاظ الحيا والغيث والمطر، والهودج والناقة، والعقيق ونجد... إلخ... قد يكون لمثل هذه الألفاظ علاقاتها الحميمة بوجدان الشاعر البدوي القديم، لأنها معطيات عالمه الذي يعايشه ويتفاعل معه، فالمطر مثلاً - فيما يراه هذا الشاعر - هو رمز الخصب والثراء، وتجدد الحياة مرة أخرى، ولكن هذا (الماوراء) النفسي لكلمات المطر والحياة والغيث يختفي تماماً عندما نأتي إلى شاعر مثل البارودي عاش في بيئة أشبعها النيل حتى البشم، ونكتشف أن إلحاحه على هذه الكلمات لا يمكن أن يستند إلى (ما وراء) نفسي خاص، ولا حتى إحساس معاصر بالكلمة، قد نقول: ولكن الكلمة المفردة لا قيمة لها، فالشاعر قادر على أن يمنحها - مهما كانت - حياة جديدة عندما يخلق علاقة كامنة تجمع بينها وبين غيرها من الكلمات، وهذا صحيح، فكلمة (المطر) ردّت إليها الحياة، بل تدفقت فيها حياة ثرية لا حدود لها عندما استخدمها شاعر معاصر مثل السياب في قصيدته الشهيرة (أنشودة المطر). ولكن هذه الحيـاة الجـديدة التي يمنحها الشاعر - أي شاعر - للكلمة تتوقف على أمرين: نوعية العلاقة التي ترتبط بها هذه الكلمة، ونوعية السباق الذي تنـدمج فيه هذه العـلاقة، وكلا الأمرين يرتد إلى رؤية جديدة للواقع ينبغي أن ينـفرد بها الشاعر عن سابقيه، بل عن معاصريه. وهذا أمر لم يحدث في الجوانب التقـليدية من شـعر شاعر الإحياء الذي قطع استـغراقه في الموروث صـلته بالعالم الحيّ من حوله أو في داخـله، وجعل منه ذاتاً من الذوات التي وصـفها حـافظ إبراهيم نفسه بقوله:

أمعن التقليد فيها فغدت
لا ترى إلا بعين الكتب


منقول


كاتب المقالة : جابر عصفور

مجلة العربي:

الخميس 1 مارس 2001 6/12/1421هـ / العدد 508










 


رد مع اقتباس
 

الكلمات الدلالية (Tags)
القصيدة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 13:34

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc