فصل ـ هجرةُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية

قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية تعرض فيه تاريخ الأمم السابقة ( قصص الأنبياء ) و تاريخ أمتنا من عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ... الوقوف على الحضارة الإسلامية، و كذا تراجم الدعاة، المشائخ و العلماء

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

فصل ـ هجرةُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2016-01-07, 12:34   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










Post فصل ـ هجرةُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم

فصل ـ هجرةُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم
ولم يبقَ بمكةَ من المسلمينَ إلا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعلي
رضي الله تعالى عنهما أقامَا بأمره لهما، وخَلا منِ اعتقَلَه المشركونَ كَرْهاً، وقد أعدَّ
أبو بكرٍ رضي الله عنه جَهازَه وجَهازَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، منتظِراً حتَّى
يأذنَ اللهُ عزَّ وجل لرسولِه صلى الله عليه وسلم في الخروجِ .
فلمَّا كانت ليلةً هَمَّ المشركون بالفَتْكِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأرصَدُوا علَى
البابِ أقوامَاً، إذا خرجَ عليهم قتلُوه، فلمَّا خرجَ عليهم لم يرَهُ منهم أحدٌ .


************************************************** *****
هذا الفصلُ في هجرةِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكةَ إلى

المدينة .

وبينَ هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والعقبة الكبرى وهي العقبة الأخيرةُ أكثرُ من شهرين لأن العقبةَ الكُبرى في ذي الحجة أيام التشريق وهجرته في ربيع الأول في نفس العام .
وقد تكلَّم الحافظُ ابنُ حجر على هذه المسألة في فتح الباري تحت رقم (3904) وقال : وَذَكَرَالْحَاكِمُ أَنَّ خُرُوجَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مَكَّةَ كَانَ
بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَو قَرِيبا مِنْهَا .
قال : وَجزم ابنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ خَرَجَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ
بَعْدَ الْبَيْعَةِ بِشَهْرَيْنِوَبِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأُمَوِيُّ فِي الْمَغَازِي عَن
ابن إِسْحَاقَ فَقَالَ كَانَ مَخْرَجُهُ مِنْمَكَّةَ بَعْدَ الْعَقَبَةِ بِشَهْرَيْنِ وَلَيَالٍ قَالَ وَخَرَجَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُلْتُ وَعَلَى هَذَا خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ .اهـ
وقال رحمه اللهُ (3908)معلِّقا على أثر ابنِ شهاب( كَانَ بَيْنَ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ يَعْنِي الْأَخِيرَةَ وَبَيْنَمُهَاجِرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا ) .
قال الحافظ : قُلْتُ هِيَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَصَفَرُ لَكِنْ كَانَ مَضَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَشْرَةُ أَيَّامٍوَدَخَلَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ أَنِ اسْتَهَلَّ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ فَمَهْمَا كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ مِنَ الشَّهْرِيُعْرَفُ مِنْهُ الْقَدْرُ عَلَى التَّحْرِيرِ فَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثَةُ سَوَاءً وَقَدْ يَنْقُصُ وَقَدْ يَزِيدُ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ إِنَّهُدَخَلَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَأَكْثَرَ مَا قِيلَ إِنَّهُ دَخَلَ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهُ . اهـ
فبعد ما اشتدَّ أذى المشركينَ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولصحابتِه أذِن لهم بالهجرةولم يكُن قد جاء الإِذنُ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا في صحيح البخاري عنعائشة رضي الله عنها وفيه:
(وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ المَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُوأَنْ يُؤْذَنَ لِي» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» .
فلهذا بقي هو وأبو بكر وعلي ابن أبي طالب وأيضاً يقول ابنُ كثير (وخَلا من اعتقَلَهالمشركون كَرْهاً) خلا من أدوات الاستثناء أي واستثناء من احتبسهُ المشركون وهذا كما تقدَّم
كسلمة بن هشام وعياش ابن أبي ربيعة .
وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى في منامه دارَ الهجرة فأخبَرَ الصحابةَ بذلِكَ ،
وهذا ثابت في الصحيحين -البخاري في مواضع منها (7035،3622) ومسلم (2272) -عَنْأَبِي مُوسَى، ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍبِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا اليَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ...» .
وعند البُخاري شكٌ يقول (عن أَبِي مُوسَى أُرَاهُ) قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم (4082)
كَذَا فِي الْأُصُولِ أُرَى وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى أَظُنُّ وَالْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ الْبُخَارِيُّ كَأَنَّهُ شَكَّ
هَلْ سَمِعَمِنْ شَيْخِهِ صِيغَةَ الرَّفْعِ أَمْ لَا وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي عَلَامَاتِ
النُّبُوَّةِ وَفِيالتَّعْبِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فَلَمْ يَتَرَدَّدَا فِيهِ . اهـ
وقد مكث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة ثلاثة عشر عامًا من البعثة النبوية،

حتَّى أُذِنَ له ربُّه سبحانه بالخروج صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فانطلق نصف
النهار إلىأبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه وقد ساق البُخاريُّ رحمه الله حديثَ الهجْرَة في صحيحه (3905) عن عائشة رضي الله عنها ونسُوْقُ طرَفَاً منه للفائدة
تقولُ أمُّ المؤمنين عائشة : ... فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ
الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا، فِي سَاعَةٍ لَمْ
يَكُنْ يَأْتِينَافِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْأُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ - بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِالثَّمَنِ». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَاسُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الجِرَابِ،
فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ ...) .
(متقنِّع ) أي: مغطٍ رأسَه .
(فقال أبو بكر: الصحابة) وفي روايةٍ للبخاري (2138) (الصُّحْبَة ) .قال الحافظ في فتح الباري
: الصَّحَابَةَ بِالنَّصْبِ أَيْ أُرِيدُ الْمُصَاحَبَةَ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ . اهـ

(سُفْرَةً فِي جِرَابٍ ) السُّفرة هي الطعام .

فذهبا إلى غارِ ثور وأَمِنَ أبو بكر عبدَ الله بن أُرَيقِط على المجيء بالراحلتين بعد ثلاثة
أيام إلى غار ثور، وكان هو الدليل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولأبي بكر؛ لأنه كانخبيرًا بطريق المدينة، فكان عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه في هذه الثلاثة الأيام يتسمع الأخبار من قريش ثم يذهب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر فيخبرهما بمايكيد به قريش.
وكان عامر بن فُهَيرَة ـ مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما كما مر معنا ـ يخدم النبي صلىالله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر فيُرِيح عليهما بالشِّيَاه للحليب - الرَّوَاح: آخرُ النهار، قالتعالى: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾[سبأ:12] - فكان الذين تعاونوا مع النبي صلى الله عليهوعلى آله وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه في أيام الغار، عبد الله بن أبي بكر، وأسماءبنت أبي بكر كانت تأتي لهما بالزاد، وعامر بن فهيرة يُريح عليهما بالغنم .

وأما أبو بكر الصديق فإنه صاحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورفيقه في الغارِ، وهذهمن أَجلِّ وأعظم مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه لم يشركه أحد من الصحابة، وقد سمَّىالله عز وجل في كتابه الكريم أبا بكر صاحباً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال تعالى:
﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40].
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه مَنَّ الله عليه بنِعَمٍ عظيمةٍ ، وأولاده كلهم صحابة، وأبوه صحابي (أبو قحافة)،وأمه سلمى صحابية رضي الله عنهم أجمعين، وعلى رغم أنوف الرافضةالذين يسبون أبا بكر الصديق رضي الله عنه .
قال الحافظ في فتحِ الباري (3653)نَسَبُ أبي بكر : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ
عَمْرِو بْنِكَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ وَعَدَدُ آبَائِهِمَا إِلَى مُرَّةَ سَوَاءٌ .

قال : وأُمُّ أَبِي بَكْرٍ : سَلْمَى وَتُكَنَّى أُمَّ الْخَيْرِ بِنْتَ صَخْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرٍو
الْمَذْكُورِ
أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ وَذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ مَنَاقِبِهِ لِأَنَّهُ انْتَظَمَ إِسْلَامُ أَبَوَيْهِ وَجَمِيعِ أَوْلَادِهِ .اهـ
وقوله (وَعَدَدُ آبَائِهِمَا إِلَى مُرَّةَ سَوَاءٌ) أي سِتَّةٌ إلى مُرَّة أما نسبُ أبي بكرٍ فذكرهُ الحافِظ
ابنُحجر هنا .
وأما نسبُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتقدَّم .
وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قُصَي بن كِلَابٍ بن
مُرَّة
وهؤلاءِ سِتَّةٌ من عبدالله إلى مُرَّة الذي يجتمِعُ أبو بكر فيه نسبُه مع النبي صلى اللهُ عليه
وعلى آلِهوسلم .

هجرةُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة إلى المدينة، قال بعض المفسرين
في قوله عز وجل: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْلَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء:80] خُرُوجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَدُخُولُهُ الْمَدِينَةَ.

قال ابنُ القيم رحمه الله تعالى في مدارِجِ السالكين (2/ 260)وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَإِنَّ هَذَا الْمُدْخَلَ وَالْمُخْرَجَ مِنْ أَجَلِّ مَدَاخِلِهِ وَمَخَارِجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِلَّا فَمَدَاخِلُهُ كُلُّهَا مَدَاخِلُ صِدْقٍ، وَمَخَارِجُهُ مَخَارِجُ صِدْقٍ. إِذْ هِيَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ .
وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ سُوقَهُ - أَوْ مُدْخَلًا آخَرَ - إِلَّا بِصِدْقٍ أَوْ بِكَذِبٍ، فَمُخْرَجُ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُدْخَلُهُ: لَا يَعْدُو الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . اهـ
فالآية عامة في جميع أنواع الصدق، الصدق في العقيدة، الصدق في الاستقامة، الصدق
في الثبات، الصدق في السَّيْر، الصدق في حسن النية.
﴿وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ وأخرجني من كيد الكائدين ومن الشر والمصائب .
فالآية عامة وهذا التفسير إنما هو بالمثال فهجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
من مكةَودُخُولُهُ المدينة داخلٌ في الآية الكريمة .
وهذا من أعظم الأدعية التي يغفل عنها بعض الناس، وممكن يقال أحيانًا عند الخروج،
وعندالسفر ولكن لا يخصص بوقْتٍ مُعيَّن .
بعض الناس إذا أراد أن يقدم على شيء يخصِّص هذا الدعاء، إذا أراد أن يسافر، أو
يبني بيتًا،أو أراد أن يخرج، أو يختبِر يخصِّص ذلك .

والتَّخْصِيْصُ ممنُوعٌ لأنَّ العباداتِ توقيفية .

وهذا منَ الأدعيةِ الجامعة .

وقد كان المشركون يُدبِّرون كيداً شديداً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكنَّ الله
حفظَه، قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]. كانوا يتشاورون ويتآمرون في هذه الثلاثةِ الأمور
الحبس، أو القتل، أو الإخراج، واختار الله عز وجل له الخروج .

وبهذه المناسبة أذكرُ هنا ما سمعنا من والدي رحمه الله في حثِّه للطالب على الرحلة من
بلده لطلبِ العِلْم .

يقولُ : الغُرْبَةُ تُخْرِجُ رِجالا ،النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم تغرَّب ، وأصحابُه

تغرَّبُوا .

فالغُربَةُ تُخْرِجُ رِجالًا ، وقد قيلَ : العِلْمُ غريب .اهـ

وقوله (أعدَّ أبو بكرٍ رضي الله عنه جَهازَه وجَهازَ رسولِ الله )

الجَهازُ: بفتحِ الجيم ،وقد تُكْسَرُ ، ومنهم من أنكر الكسر ،وهو ما يُحتاجُ إليه في السفر

(فتح الباري ) .


******************************

وقد جاء في حديثٍ أنهُ ذَرَّ على رأسِ كلِّ واحدٍ منهُم تُرابَاً ثمَّ خَلَصَ إلى بيتِ أبي بكرٍ رضي اللهُ
عنه، فخرجَا من خَوخَة في دارِ أبي بكرٍ ليْلاً، وقد استأجرَا عبدَ الله بنَ أُرَيقِطٍ ، وكانَ
هاديَاً خِرِّيْتَاً، ماهِرَاً بالدَّلالة إلى أرضِ المدينةِ، وأمِنَاهُ على ذلكَ معَ أنَّهُ كانَ على دينِ قومِه،
وسَلَّمَا إليه راحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعدَاهُ غَارَ ثَورٍ بعدَ ثَلاثٍ، فلمَّا حَصَلا في الغارِ عَمَّى اللهُ على قُريشٍ
خبرَهُما، فلم يدرُوا أينَ ذَهَبَا .


******************************


قوله (وقد جاء في حديثٍ أنه ذَرَّ على رأسِ كلِّ واحد منهُم تُراباً ثم خلَص إلى بيتِ أبي بكرٍرضي الله عنه)

أي ذَرَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على رأسِ كلِّ واحدٍ منهم تُرابا لما خرج

من بيته وهذه القصًّةُ عند ابنِ إسحاقَ كما في سيرة ابنِ هشام (1/ 483)قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُبْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ القصة .
وهذا إسنادٌ مرسَلٌ محمد بن كعبٍ القُرَظِي من التابعين .
وأما يزيد بْن زياد : بن أَبي زياد المدني كما في ترجمة شيخه القُرَظي من تهذيب
الكمال .
وهو مولى بني مخزوم مدني ثقة .
(فخرجا من خَوخة في دار أبي بكر ليلاً)
الخوخة قال ابنُ الأثير في النهاية : الخَوْخَةُ: بابٌ صغِيرٌ كالنَّافِذَة الكَبِيرَة، وتكُون بَيْن بَيْتَيْن
يُنْصَبُ عَلَيْهَا بابٌ . اهـ
ويُطْلَقُ على النافِذَةِ نفسِها وهي التي يدْخُلُ منها الضَّوْءُ إلى البيت .
يُراجعُ : لسانُ العرب .
(وقد استأجرا عبدَ الله بن أريقط، وكان هادياً خريتاً، ماهِراً بالدلالة إلى أرض المدينة)
(خريتًا) أي: ماهرًا حاذقًا، وهذا هو دليل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبي
بكرالصديق في هجرتهما إلى المدينة .

( وواعداه غارَ ثور بعد ثلاث، فلما حصلا في الغار عمَّى اللهُ على قريش خبرَهما، فلم يدروا أين ذهبا)
عبد الله بن أُريقط ما فيه ما يدل على إسلامه وصحبته وقد ذكرهُ الحافظ ابن حجر
رحمه الله في الإصابة وقال : ولم أر منْ ذكره في الصحابة إلا الذهبيَّ في التجريد، وقد جزمعبد الغني المقدسي في السيرة له بأنه لم يعرِف له إسلاما، وتبعه النّووي في تهذيبالأسماء.اهـ
ولكن كان عنده صفة الأمانة، والوفاء فقد وعد أبا بكر أن يأتي بالرَّاحِلتين بعد ثلاث
إلى غارثور، فجاء بهما وما أخبرَ أحدًا .
وهكذا سراقة بن مالك رضي الله عنه في قصته ما يدل على أمانته، وصدقه لما قال:
وأعاهدكما أن لا أخبر أحدًا، فلما رجع قال لقريش: قد كُفِيتُم .
والمسلم أحق بهذه الصفات الحميدة، وبمكارم الأخلاق لأنه هو الذي ينتسب إلى الإسلام
حتى إن من الكفار من ينفُرُ من الإسلام بسبب الأوصاف الذميمة في كثيرٍ من المسلمين
من السرقة والكذب والخيانة.
وكان الوالد الشيخ مقبل رحمه الله ينبه على هذا ويقول: (الإسلام بريء من هذا، وأنتم
انظروا إلى الإسلام، ولا تنظروا إلى أفعال المسلمين).

ومن أدب الطالب بالأخص أن يتميز بالأخلاق الفاضلة.
ومن ذلك الرفق، واللين، والكلمة الطيبة. فإن بعض الناس لا يكون عنده أخلاق - نسأل الله منواسع فضله - مع أنه يحمل شيئًا من العلم، فإذا وُجد شيءٌ من الأخلاق السيئة عند بعض الناسفهذا ليس على حسابِ السُنة، ولا يجوز التنكُّر للسنة بسبب ما قد يحصل من سوء خلق بعضالناس .
علينا أن نقرأ في الآداب التي تُعيننا على مكارم الأخلاق، وأن نتعاهَد هذا؛
لأننا ننسى.واللهالمستعان.
فنحُث أنفسَنا وأخواتنا على الأخلاق الطيبة ولزوم التواضع والصدق ، واجتناب الظلم،
والفحشوالغلظة، والتَّخلُّق بخلُق الرحمة، والرفق، واللين، والبُعْدُ عن الغِلْظة والقسوة
خارج البيت وداخله .
وقد يكون بعضُ الناس ذا خُلُق بين أصحابه، وأما في بيته فذو خلُق سيء . والنبي
صلى اللهعليه وعلى آله وسلم يقول: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي" رواه
الترمذي (3895)،
والأهل يطلق على الأقارب كما يطلق على الزوجة، والله المستعان .


******************************

وكانَ عامرُ بن فُهيرة، يُرِيح عليهِما غنماً لأبي بكر، وكانت أسماءُ بنت أبي بكر تحمِل
لهماالزادَ إلى الغارِ، وكان عبدُ الله بن أبي بكر يتسمَّع ما يقالُ بمكةَ ثم يذهبُ إليهما
بذلك فيحترِزانِمنه.
وجاء المشركون في طلبِهما إلى ثَور، وما هناكَ من الأماكنِ، حتى إنَّهم مرُّوا على بابِ
الغار، وحاذَتْ أقدامُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصاحبَه، وعمَّى الله عليهم
بابَ الغار،ويقال ـ والله أعلم ـ إنَّ العنكبوتَ سدَّت على بابِ الغار، وإن حَمامَتين
عشَّشَتَا على بابه، وذلكتأويلُ قوله تعالى { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِيالْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَاوَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وذلِكَ أنَّ أبا بكرٍ رضي اللهُ تعالى عنه لشدَّةِ حرصِه بكى حين مرَّ المشركون، وقال: يا
رسولالله، لو أنَّ أحدَهم نظرَ موضعَ قدميه لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"يا أبا بكر، ماظنُّك باثنين الله ثالثُهما؟".

ولما كان بعد الثلاث أتى ابنُ أريقِط بالرَّاحلَتين فركباهما، وأردف أبو بكر عامرَ بنَ

فُهيرة وسار الدليلُ أمامَهما على راحلته .


******************************
اشتدَّ طلب المشركين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولأبي بكر لما علموا
بخروجهما فخرجوا، ومروا بغار ثور، فخَشِيَ أبو بكر الصديق على النبي صلى الله
عليهوعلى آله وسلم وحزِنَ لذلك فبيَّن له النبيُّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم أنَّ اللهَ
ثالثهماكما في البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: «مَا
ظَنُّكَ يَاأَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .
بشَّره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الله معهما بنصرِهِ ولُطْفه وحفظه .
قال ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/ 49 ) :وَعَيْنُ اللَّهِ تَكْلَؤُهُمَا، وَتَأْيِيدُهُ
يَصْحَبُهُمَا،وَإِسْعَادُهُ يُرَحِّلُهُمَا وَيُنْزِلُهُمَا . اهـ

وقد مرَّ المشركون بالغار وأعمى الله وأغشى أبصارَهم وما أبصروا ولو نظروا تحت
أقدامهملرأوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر الصديق رضي الله عنه .
وأُنبِّه على ما جاء عند أبي يعلى في مسنده (46) عن أبي بكر الصديق قَالَ: جَاءَ
رَجُلٌ مِنَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى اسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَوْرَتِهِ يَبُولُ. قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ،أَلَيْسَ الرَّجُلُ يَرَانَا؟ قَالَ: «لَوْ رَآنَا لَمْ يَسْتَقْبِلْنَا بِعَوْرَتِهِ» ، يَعْنِي وَهُمَا فِي

الْغَارِ .

وهذه القصة إسنادها ضعيفٌ جداً .
وجاء من رواية الواقدي كما في فتح الباري آخر شرح حديث رقم (4653) والواقدي
متروك .

(ويقال ـ والله أعلم ـ إن العنكبوت سدَّت على بابِ الغار، وإنَّ حمامتين عشَّشَتا على بابه)
عش الحمام: معروف قال الجوهري في صحاحه : عِشُّ الطائر: موضعُه الذي يجمعه
مندقاق العيدان وغيرها . اهـ
وهذه القصةُ لا يثبت إسنادُها جاء عند أحمد (5/301) عن ابن عباس في نسجِ العنكبوت في بابالغار، وفيه عثمان الجزري، ويقال له عثمان المشاهد .
وجاء من طريق أخرى عند ابن سعدٍ (1/ 177) في نسج العنكبوت وذكر الحمامتين وفي إسناده من لا يعرف .
ويردُّ هذه القصة قول أبو بكر الصديق: (لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا) فإن
هذا يُفيدُأَنَّه مكشوف ليس بمسدود .
وبعد الثلاثةِ الأيام التي بقيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه أبو بكر في الغار جاءهما الدليل وخرجوا إلى المدينة وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة رضي الله عنهما وكان الدليل أمامهم .
ولمْ يُرافقِ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هجرته من الصحابة إلا أبوبكر وعامرُ بنُفُهيرة رضي اللهُ عنهما .
و في الطريق كان بعضهم يسألُ أبابكر عن الذي معه فيُوَرِّي رضي الله عنه في كلامه بمايُعَمِّيْ عليهم في صحيح البخاري (3911) عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَقْبَلَ نَبِيُّاللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابٌّ لاَ يُعْرَفُ، قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِيبَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَايَعْنِي سَبِيلَ الخَيْرِ..." الحديث.
وبقاؤهم في الغار ثلاثة أيام ليخفَّ وطءُ طلب كفار قريش فإنهم كانوا قد اشتد طلبهم .
وفي ذهاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى غار ثور مع أنه يريد المدينة تعمية للأمر، لأن كفار قريش كانوا يترقَّبون طريق المدينة المعروفة فذهب النبي صلى الله عليه وعلى آلهوسلم من جهَةٍ أخرى .
******************************
وجعلت قريشٌ لمن جاء بواحدٍ من محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه مائةً
من الإبل، فلما مرُّوا بحيْ مُدْلِجٍ، بصُر بهم سراقةُ بنُ مالك بن جُعشم، سيدُ مُدْلِج، فركبَ جوادَه
و سارَ في طلبِهم، فلما قرُب منهم سمع قراءةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله
عنه يكثرُ الالتفاتَ حذَرَاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم لا
يلتفتُ، فقال أبو بكر: يا رسولَ الله هذا سراقةُ بن مالك قد رهِقَنا .
فدعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فساخَتْ يدا فرسِه في الأرض فقال: رُمِيت، إن الذي
أصابَني بدعائِكما، فادعُوا الله لِي، ولكُما عليَّ أن أرُدَّ الناسَ عنكُما، فدعا له رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم فأُطلِق، وسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبَ له كتاباً، فكتبَ له أبو
بكر في أَدَم، ورجع يقول للنَّاس: قد كُفِيتُم ما هَهُنا. وقد جاء مُسْلِماً عامَ حجة الوداع ودفع إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتابَ الذي كتبه له، فوفَّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما وعدَه وهُو لذلكَ أهُلٌ .
ومرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مسيرِه ذلك بخيمةِ أمِّ معبد فقالَ عندَها، ورأتْ من
آياتِ نبوَّته في الشاة وحلبِها لبناً كثيراً في سنةٍ مُجْدبة ما بَهَرَ العقولَ، صلى الله عليه وسلم
.

******************************
لمَّا يئِستْ قريش من الطَّلَب حرَّضوا الناسَ وشجَّعوهم بالمالِ وجعلت دية رجُلين لِمن
أدركَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبا بكر فأسَرَ أو قَتَل، فلم يدركهم أحدٌ بحفظ الله
وكلاءَته، سوى سراقة بن مالك فإنه بصُرَ بِهم فلحقَهم فلما رآه أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وكان يلتفت كثيرًا حِراسةً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله أدركنا القوم
هذا سراقة فساخت فرسُ سراقة فاستقسم بالأزلام وكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام فإذا
خرج افعل مضى وإذا خرج غُفل أعاد وإذا خرج ما يكره ترك وكان إذا استقسمَ سُراقةُ يخرجُ
ما يكره .
يقول الوالد الشيخ مقبل رحمه الله : جاءَ الإسلامُ بصلاة الاستخارة بدلَ الاستقسامِ بالأَزلام
وأبطلها .
وسياقُ القصة في صحيح البخاري (3906) عن سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ
قُرَيْشٍ، يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَنْ قَتَلَهُ أَوْ
أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ
سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ
لَبِثْتُ فِي المَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ
أَكَمَةٍ، فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ البَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأَرْضَ،
وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي
فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا:
أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ، تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ
قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي
فِي الأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا
اسْتَوَتْ قَائِمَةً، إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ، فَخَرَجَ
الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا
لَقِيتُ مِنَ الحَبْسِ عَنْهُمْ، أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ
جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالمَتَاعَ، فَلَمْ
يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلاَنِي، إِلَّا أَنْ قَالَ: «أَخْفِ عَنَّا». فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ
فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وبنحو هذه القصة في صحيح البُخاري (3652)من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
(رهقنا) أي: غشينا، (رُميت) أي: أُصبت، (الأدَم): الجلد.
والكتاب الذي طلبه سُراقة أن يكتبه له رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي ليكون
علامة بينه وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا كالوثيقة في الأمان لسُراقة فإنه قد
لاحَ له أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيظهر لِمَا رَأى من المعجزاتِ من حبسِه من
إدراك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر، ونجاتِه لما دعا له .
قال ابنُ الجوزي رحمه الله في كشف المُشكل (4/ 383)أَي إِن ظَهرتَ كنتُ آمنا .
وسبحان الله مقلب الأحوال ذهب سراقةُ إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر
مناصرًا لقريش، ثم رجع حارسًا، ومناصرًا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر
الصديق رضي الله عنه .
قال ابنُ القيم في زاد المعاد (3/ 50)كَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَيْهِمَا، وَآخِرَهُ حَارِسًا لَهُمَا .
وكان سُراقة قد فرح بالمال الذي وعدت به قريش فجدَّ طالباً في الأمر .
قال ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد المجلد الثالث :فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ الظَّفَرُ لَهُ خَاصَّةً وَقَدْ سَبَقَ
لَهُ مِنَ الظَّفَرِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ .اهـ
سبق له الفوزُ ما لم يكن في حسابه ، أسلَمَ ،وفازَ بصحبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ، والدَّار الآخرة .

(وقد جاء مسلماً عامَ حجةِ الوداع ودفع إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الكتابَ الذي كتبه
له)
ظاهره أنَّ إسلام سراقة بن مالك رضي الله عنه في حجة الوداع .
وحجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة النبوية .
ولكن الذي وجدته في كتب التراجم والسير أنَّ إسلامَهُ في السنة الثامنة من الهجرة .
أخرج موسى بن عقبة كما في ( أحاديث منتخبة من مغازي موسى بن عقبة ) ص 64.
قصة سُراقة التي بين أيدينا وفيها :حَتَّى إِذَا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ؛ خَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنْ أَلْقَاهُ ومعي الكتاب الذي كتب
لي، فبينا أَنَا عَامِدٌ لَهُ؛ دَخَلْتُ بَيْنَ ظَهْرَيْ كَتِيبَةٍ مِنْ كَتَائِبِ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَطَفِقُوا يَقْرَعُونِي
بِالرِّمَاحِ، ويقولون: إليك إليك، حتى دنوت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على
ناقته، أَنْظُرُ إِلَى سَاقِهِ فِي غَرْزَهِ كَأَنَّهَا جُمَّارَةٌ فَرَفَعْتُ يَدِي بِالْكِتَابِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا
كِتَابُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ الخ .
وفي البداية والنهاية (3/185)وَذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
بِالْجِعْرَانَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ، فَقَالَ لَهُ «يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ» فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَسْلَمْتُ .
وفي البداية والنهاية أيضا للحافظ ابن كثير (7/151)ثُمَّ قُدِمَ بِهِ- أي بالكتاب - بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ
فَأَسْلَمَ وَأَكْرَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . اهـ
وغزوة الطائف بعد حنين سنة ثمانٍ .
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/374)فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَشْهُورَةِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَالْوَفَيَاتِ
فَكَانَ فِي جُمَادَى مِنْهَا وَقْعَةُ مُؤْتَةَ، وَفِي رَمَضَانَ غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ، وبعدها في شوال غزوة هوازن بحنين، وبعده كَانَ حِصَارُ الطَّائِفِ، ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ.
وقال الحافظ في صدر ترجمة سُراقة من الإصابة : أسلم يوم الفتح .
وبهذا يتعيَّن أن سُراقةَ بن مالك رضي الله عنه أسلم سنة ثمان وأنَّ قوله في (وقد جاء مسلماً
عامَ حجةِ الوداع) وهمٌ أو تصحيف .
وهو الذي سأل بسؤالٍ عن التمتع في الحج .
وهذا في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه وفيه « فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وفيه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ» مَرَّتَيْنِ «لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ» .

(فوفَّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وعده وهو لذلك أهلٌ)
أي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهلٌ للوفاء.
وما أحسن ما قاله حسان بن ثابت رضي الله عنه كما في صحيح مسلم (2489) .
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا ... رَسُولَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
(ومرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقال عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبناً كثيراً في سنة مجدبة ما بهر العقول، صلى الله عليه وسلم).
ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله قصةَ مرور النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على خيمة أم
معبد.
أم معبد :هي عاتكة بنت خالد ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة وهي مختلف في
صحبتها، وبعضهم عدها من المبايعات للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(فقال عندها) من القيلولة، (في سنة مجدبة) الجدب: القحط.
والقصة جاءت من عدة طرق وأسانيدها ضعيفة إلا أن بعضهم يرى تقوية القصة بمجموع طرقها.
وهذا أحدُ الأمور التي كانت في أثناءِ الطريق في سَفرة هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم وصاحبه أبي بكرٍ إلى المدينة إن صحت القصَّةُ .
وتقدَّم قصةُ سُراقة وما فيها من العِبَر ، وتأييد الله لنبيه .
ومنها : مرورُهما براعي غنم أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه (3908) عن البراء بن
عازبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " لَمَّا أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ
مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي وَلاَ
أَضُرُّكَ، فَدَعَا لَهُ، قَالَ: فَعَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِرَاعٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخَذْتُ
قَدَحًا فَحَلَبْتُ فِيهِ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، فَأَتَيْتُهُ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ " .


انتهينا من هذا الفصل في هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونكون قد مررنا –ولله
الحمد -على جُملة من سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ولادتِه، إلى بعثتِه، إلى
هجرتِه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة إلى المدينة .

فائدة :أسفارُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تدورُ على أربعة أسفار
سفره لهجرته ، سفره لحجته ، سفره لعمرته ، سفرهُ لقتال أعدائه .
وقد ذكر ذلك ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد .

******************************
فصل ـ دخوله عليه الصلاة والسلام المدينة

وقد كانَ بلغَ الأنصارَ مخرجُه من مكةَ وقصدُه إياهم، فكانوا كلَّ يوم يخرُجون إلى الحرَّة
ينتظرونه، فلما كان يومُ الاثنين الثاني عشر من ربيع الأوَّل على رأسِ ثلاثَ عشرةَ سنةً من
نبوتِه صلى الله عليه وسلم وافاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدَّ الضحى، وكان قد
خرج الأنصارُ يومئذ، فلما طال عليهم رجعوا إلى بيوتِهم، وكان أول من بصُر به رجلٌ من
اليهود ـ وكان على سطح أُطُمِه ـ فنادى بأعلى صوته: يا بني قَيلة هذا جدُّكم الذي تنتظرون!
فخرج الأنصارُ في سلاحهم وحيُّوه بتحيَّة النبوة. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُباء
على كلثوم بن الهِدْم، وقيل: بل على سعدِ بن خيثمة، وجاء المسلمون يسلِّمون على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأكثرُهم لم يره بعد، وكان بعضُهم أو أكثرُهم يظنه أبا بكر لكثرةِ شيبه،
فلما اشتدَّ الحرُّ قام أبو بكر بثوبٍ يظلِّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقَّق الناسُ
حينئذٍ رسولَ الله عليه الصلاة والسلام .

******************************
هذا الفصل في دخول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة فبعد أن قطع الطريق، وقطع
المسافة من مكة إلى المدينة دخل المدينة يوم الاثنين .
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وُلد يوم الاثنين، وبُعث يوم الاثنين، وتقدم ذلك من حديث
أبي قتادة عند مسلم ، وهاجر وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين، كما في
صحيح البُخاري (3906) (فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ
اليَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ)
والحديث وإن كان ظاهره عند البخاري الإرسال أنه من مراسيل عروة .
فقد قال الحافظ : وَصُورَتُهُ مُرْسَلٌ لَكِنَّهُ وَصَلَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّبَيْرَ بِهِ . اهـ
وتوفي يوم الاثنين وحديث وفاته يوم الاثنين في الصحيحين البخاري (680)، مسلم (419) عن
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ - وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ
وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ
كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ
إِلَى الصَّلاَةِ «فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ
يَوْمِهِ» .
وقد كان الأنصار ينتظرون قدومَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند الحرَّة في المدينة
فكان إذا اشتد الحر وقتَ الظهيرة يرجعون. فوافاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين
اشتد الضحى، و كان الأنصار قد رجعوا. فكان أول من بصُر به رجل من اليهود فنادى بأعلى
صوته : يا بني قَيلَة هذا جدُّكم الذي تنتظرون!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري تحت رقم (3906): قَيْلَةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ
وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهِيَ الْجَدَّةُ الْكُبْرَى لِلْأَنْصَارِ وَالِدَةِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَهِيَ قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ
عُذْرَةَ. اهـ.
(هذا جدُّكم الذي تنتظرون) قال الحافظ :هَذَا جَدُّكُمْ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ حَظُّكُمْ وَصَاحِبُ دَوْلَتِكُمُ الَّذِي
تَتَوَقَّعُونَهُ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ هَذَا صَاحِبُكُمْ .اهـ
ونسب اليهودي الأنصار مستهزئًا ساخرًا.
فخرج الأنصار واستقبلوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إنَّه خرج الخدمُ، والصبيان،
والنساء فرحًا بقدوم النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مهاجرًا إلى بلد المدينة
، وكانوا يقولون : جاء محمد رسول الله وكانوا يكبرون، الله أكبر، جاء محمد .
يقول البراءُ بن عازب ثُمَّ " قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى فِي سُوَرٍ مِنَ المُفَصَّلِ " أخرجه البخاري (3925) .
وفي مستدرك الحاكم (3/ 14 )عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَخَرَجَ النَّاسُ حَتَّى دَخَلْنَا فِي الطَّرِيقِ، وَصَاحَ النِّسَاءُ وَالْخُدَّامُ وَالْغِلْمَانُ، جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ انْطَلَقَ فَنَزَلَ حَيْثُ أُمِرَ» .
ورجاله عند الحاكم ثقات .وأصله في البخاري (3652) .
وفي مسند أحمد (21/ 40 )عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنِّي لَأَسْعَى فِي الْغِلْمَانِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، قَالَ: حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ ..والحديث صحيح .
وفي سنن الدارمي (89)عَنْ أَنَسٍ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «شَهِدْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ، كَانَ أَحْسَنَ وَلَا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
والحديث في الصحيح المسند لوالدي رحمه الله رقم (122) .
وقد أخذ بعضهم من هذا الحديث تسمية المدينة بالمدينة المنورة .
وانتُقِدَ هذا فإن هذا لم يرد به دليل.
ويقول الوالد الشيخ مقبل رحمه الله قد جاء عن أنس رضي الله عنه: (وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .) .
فيكون هذا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة المظلمة
هذا معنى ما ذكره الوالد رحمه الله.
وهناك أبيات مشهورة في كتب السيرة أن الصبيان استقبلوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأبيات :

طلع البدرُ علينا

من ثنيَّات الوداع

وجبَ الشكرُ علينا

ما دعا لله داع


وقد أورده الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في فتح الباري (3925) من طريق عبيدالله بن عائشة
قال :وَهُوَ سَنَدٌ مُعْضَلٌ .اهـ
وقال الشيخ الألباني في «الضعيفة» (598): هذا الإسناد ضعيف رجاله ثقات، لكنه معضل سقط من إسناده ثلاثة رواة أو أكثر؛
فإن ابن عائشة هذا من شيوخ أحمد وقد أرسله.

وبذلك أعله الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (2/244). اهـ
وكان الوالد رحمه الله يذكر أنها لا تثبتُ .
والإخوان المسلمون يُحفِّظون أولادهم هذه الأبيات، وهذا من عاداتهم شغل الطلاب بالأناشيد
حتى إِنَّ الوالد الشيخ مقبل رحمه الله يقول: كم من حافظٍ للقرآن يسحبُهُ الإخوان المسلمون
ويضيِّعُونه بالأناشيد .
(وكان على سطح أُطْمِه)هِيَ الْحُصُونُ الَّتِي تُبْنَى بِالْحِجَارَةِ وَقِيلَ هُوَ كُلُّ بَيْتٍ مُرَبَّعٍ مُسَطَّحٍ كما
في فتح الباري (1878) .
وقال رحمه الله تحت رقم (3908)أُطُم بضمِّ أوَّلِه وثانيه .

(فخرج الأنصار في سلاحهم وحيَّوه بتحية النبوة) أي: تحية الإسلام .

(ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهِدْم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة)
(كلثوم بن الهدم)
بكسر الهاء وسكون الدال، كما في الإصابة.
أول ما نزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقباء، لكن اختلفوا على من نزل على قولين .
(سعد بن خيثمة) أحد النقباء. وهو وكلثوم بن الهدم أَوْسِيَّان .
(وجاء المسلمون يسلِّمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرُهم لم يره بعد)
يراجعُ : صحيح البخاري (3911) عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
(وكان بعضُهم أو أكثرُهم يظنُّه أبا بكر لكثرةِ شيبه، فلما اشتدَّ الحر قام أبو بكر بثوب يظلِّل
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقق الناسُ حينئذ رسول الله عليه الصلاة والسلام).
كان البياض في شعر أبي بكر أكثر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع أن أبا بكر
أصغرُ من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد توفي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
عن ثلاث وستين عامًا، وتوفي أبو بكر عن ثلاث وستين عامًا.
وأخذ أبو بكر الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سنتين وبعض الأشهر.
أبو بكر : هو عبد الله بن عثمان أبي قحافة .
أَخيراً
كان الوالد رحمه الله من أسئلته : عائشة بنت عبد الله بن عثمان من هي؟
وهذا في الدرس العام ، هي أم المؤمنين رضي الله عنها ، وربما يغلط بعضُهُم .
وكان الوالد رُبَّما قال :عندي سؤالٌ مثل ذا ويُشيرُ بيده إلى أنه سُؤالٌ كبير فيتهيَّبون
ويخافون .
وكان رحمه الله أحياناً إذا سأل ولم يجبه أحد يقول: عندكَ يا جدار. وهذا في الدرس الخاص .
هذا ونتواصى بالصبر على طلب العلم فإنَّ الجنة ليستْ ممهَّدَةً بالورود والزُّهور، بل هي
محفوفة بالمكاره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حُفت الحنة بالمكاره وحفت
النار بالشهوات ، وقد كان الوالد رحمه الله يقول: (دارِ نفسَك ولو بحبَّة حلوى) .
العلم شاق، ولكن نداري أنفسنا ، ونشجِّعُها ، ونروِّضُها حتى تَجِدَ حلاوته فلا تجد بعد ذلك أُنْسَا
ولا راحةً إلا في طلبِ العلم ،والجزاء الجنة، ولا حياةَ إلا بالعلم، ومن فضائلِ العلم
أنه يشغل الوقت ، فمن كانت طالبةَ علم فإنها لا تجدُ وقتاً للكلام والفُضُول .
والوقت إذا لم يُشغل بالحق والخير شغل بالباطل والأمور التافهة .
ونسأل الله التوفيق .


أم عبد الله الوادعية حفظها الله









 


رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الرسول, فصل, هجرة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 05:23

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc