الدرس الثاني عشر من / الفُصُولُ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 16/من شهر ربيع الثاني 1437 .
غزوةُ بُواط
ثم غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غزوةَ بُواطٍ، فخرج بنفسِه صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخرِ من السنةِ الثانيةِ، واستعملَ على المدينةِ السائبَ بنَ عثمانَ بنِ مظعونٍ فسارَ حتى بلغ بواط من ناحيةِ رَضْوَى، ثُمَّ رجع ولم يلقَ حرباً
***********************
(حتى بلغ بواط) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (7/280) شرح أول كتاب المغازي "بَوَاطُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تُضَمُّ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ جَبَلٌ مِنْ جبال جُهَيْنَة بِقُرب يَنْبُع" ا.هـ
(من ناحية رَضوى)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري:"وَرَضْوَى بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ جَبَلٌ مَشْهُورٌ عَظِيم بينبع" ا.هـ
هذا الفصل في غزوة بواط، وقد خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليتلقَّى عِيرًا لقريش، وكان فيهم أميَّةُ بنُ خلَف وقدكان شديدَ العداوةِ لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو من الذين تمالئوا عند الكعبة على وضع سلَى الجَزُور على ظهر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يصلي.
وهذا في البخاري (240) ومسلم (107 ،1794)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ البَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى القَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ، فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ البَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ» - وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ -، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرْعَى، فِي القَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ .
قال الحافظ : وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الدُّعَاءَ حِينَئِذٍ لِمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ عِبَادَةِ رَبِّهِ .
ومن دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أخبر بقتل أمية بنَ خلف فوقع كما أخبر .
أخرجَ البخاري (3632) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا، قَالَ: فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَبِي صَفْوَانَ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّأْمِ، فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أُمَيَّةُ، لِسَعْدٍ: انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتُ فَطُفْتُ، فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا سَعْدٌ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: تَطُوفُ بِالكَعْبَةِ آمِنًا، وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَتَلاَحَيَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أُمَيَّةُ لسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الحَكَمِ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الوَادِي، ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لَأَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يَقُولُ لِسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ، وَجَعَلَ يُمْسِكُهُ، فَغَضِبَ سَعْدٌ فَقَالَ: دَعْنَا عَنْكَ «فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ»، قَالَ: إِيَّايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي اليَثْرِبِيُّ، قَالَتْ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الصَّرِيخُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَمَا ذَكَرْتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ اليَثْرِبِيُّ، قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ لاَ يَخْرُجَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الوَادِي فَسِرْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فَسَارَ مَعَهُمْ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ .
وفي روايةٍ عند البخاري (3950)حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَدْرٍ .
وسيأتي إن شاء الله ما يتعلَّق بغزوة بدرٍ في موضعه .
واستخلف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المدينة السائبَ بن عثمان أي جعله نائبًا عنه على المدينة ثم رجع النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يلقَ حربا.
***********************
غزوة العُشَيرَة
ثم كانت بعدها غزوةُ العُشيرة، ويقال بالسين المهملة، ويقال العُشيراء. خرج بنفسه صلى الله عليه وسلم في أثناءِ جمادى الأُولى حتى بلغها، وهي مكان ببطن ينبع وأقام هناك بقيةَ الشهر وليالي من جمادَى الآخرة وفي هذه الغزوة صالحَ بني مُدْلِج، ثم رجع ولم يلقَ كيدا، وقد كان استخلف على المدينة أبا سلمةَ بن عبد الأسد.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي إسحاق السبيعي قال: قلت لزيد بن أرقم: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة غزوة أولها الْعُسَيْرُ أَوِ الْعُشَيْرُ .
***********************
(وصالح بني مُدلج)
مُدْلِجٍ هوبِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ وَكَسْرِ اللَّامِ . يراجع شرح صحيح مسلم (10/41) شرح حديث (أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا) .
وقد جاء في نسخة من نُسَخِ الفصول مكتبة الهدْيُ المحمدي ط الأُولى ( أولها العشيرة أو العشيراء). والذي في صحيح مسلم فَمَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا؟ قَالَ: «ذَاتُ الْعُسَيْرِ أَوِ الْعُشَيْرِ».
وقد بيَّنَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ رحمه الله في البداية والنهاية (3/ 246) أنه يُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ الْعُشَيْرَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ وَالْعُشَيْرُ وَبِالْمُهْمَلَةِ وَالْعُشَيْرَاءُ وَبِالْمُهْمَلَةِ .
والحديث أخرجه البخاري (3949)من طريق أَبِي إِسْحَاقَ، كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَقِيلَ لَهُ: " كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ " قِيلَ: كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قُلْتُ: فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَوَّلَ؟ قَالَ: العُسَيْرَةُ أَوِ العُشَيْرُ " .
وسبب خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الغزوة لتلقِّي عير قريش وفي هذه الغزوة صالح بني مُدلِج ثم رجع صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدون قتال، وكان استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد .
ثم ذكر الحافظ ابنُ كثيررحمه الله حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه في عدد غزوات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول زيد بن أرقم رضي الله عنه: " أولها العشيرة أو العشيراء " .
أي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم غزوة العشيرة .
ولم يذكر رضي الله عنه غزوة الأبواء ولا غزوة بواط .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تحت رقم (3949) "وَكَأَنَّ ذَلِكَ خَفِيَ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ قُلْتُ مَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَالَ ذَاتُ الْعُشَيْرِ أَوِ الْعُشَيْرَةُ اهـ وَالْعُشَيْرَةُ كَمَا تقدم هِيَ الثَّالِثَة وَأما قَول ابن التِّينِ يُحْمَلُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَلَى أَنَّ الْعُشَيْرَةَ أَوَّلُ مَا غَزَا هُوَ أَيْ زيد بن أَرقم وَالتَّقْدِير فَقُلْتُ مَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا أَيْ وَأَنْتَ مَعَهُ قَالَ الْعُشَيْرُ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا وَيَكُونُ قد خَفِي عَلَيْهِ اثْنَتَانِ مِمَّا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ عَدَّ الْغَزْوَتَيْنِ وَاحِدَةً" ا.هـ
فهذه ثلاثةُ أمورٍ في سبب كون زيد بنِ أرقم قال أولها (أولها الْعُسَيْرُ أَوِ الْعُشَيْرُ ) ومنها: أن يكون المراد أوَّل غزاةٍ شهدها زيد بن أرقم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ومن باب الفائدة أُنبه على ما جاء أنه في غزوة العشيركنَّى النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم علي ابن أبي طالب أبا تُراب .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ رحمه الله كما في سيرة ابن هشام(1/ 599): فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَيْثَمٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَيْثَمٍ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعَلِيٌّ حَتَّى اضْطَجَعْنَا فِي صُورٍمِنْ النَّخْلِ، وَفِي دَقْعَاءَ مِنْ التُّرَاب فنمنا، فو الله مَا أَهَبَّنَا إلَّا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُنَا بِرِجْلِهِ. وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءِ الَّتِي نِمْنَا فِيهَا، فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مَا لَكَ يَا أَبَا تُرَابٍ ؟لِمَا يَرَى عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ .
ومن طريق ابن إسحاق أخرجه أحمد في مسنده (30/ 256).
وهذا إسنادٌ منقطع قال الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال : قال البخاري: لا يعرف سماع يزيد من محمد، ولا محمد من ابن خثيم، ولا ابن خثيم من عمار.
وقد أنكر الحافظ ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد(3/ 150) ذلك وقال : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنَّمَا كَنَّاهُ أَبَا تُرَابٍ بَعْدَ نِكَاحِهِ فاطمة، وَكَانَ نِكَاحُهَا بَعْدَ بَدْرٍ . ثم ذكر ابنُ القيم ما رواه البخاري (6204) ومسلم (2409) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِ لَأَبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا، وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَاضَبَ يَوْمًا فَاطِمَةَ فَخَرَجَ، فَاضْطَجَعَ إِلَى الجِدَارِ إِلَى المَسْجِدِ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُهُ، فَقَالَ: هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الجِدَارِ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَلَأَ ظَهْرُهُ تُرَابًا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: «اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ».
وقال الحافظ في فتح الباري تحت الرقم المذكور: وَغَزْوَةُ الْعُشَيْرَةِ كَانَتْ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ وَالله أعلم . اهـ
***********************
غزوةُ بدرٍ الأولى
ثم خرج بعدها بنحو من عشرة أيام إلى بدرٍ الأولى، وذلك أن كُرْزَ بنَ جابرٍ الفِهْري، أغارَ على سرْح المدينة، فطلبه فبلغ وادِياً يقالُ له سَفَوَان في ناحية بدر، ففاته كرز، فرجع وقد كان استخلف على المدينة زيدَ بن حارثة رضي الله عنه.
وبعث سعدَ بن أبي وقاص رضي الله عنه في طلبِ كرز بن جابر فيما قيل .
والله أعلم. وقيل: بل بعثه لغير ذلك.
***********************
هذه غزوة بدرٍ الأولى، في جمادى الأولى سنة اثنتين .
وسببها أن كُرز بن جابر أغار على سرْح المدينة .
قال ابنُ الأثير في النهاية :السَّرْحُ والسَّارِحُ والسَّارِحَةُ سواءٌ:المْاَشية.اهـ
فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بلغ سَفَوان ناحية بدرٍ وفاته كُرز فرجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وسَفَوَانُ:بفتح أوّله وثانيه، وآخره نون كما في معجم البُلْدان .
وكُرز بن جابر كان من رُؤساءِ المشركين ثم منَّ الله عز وجل عليه وأسلم فهو صحابي وقد قتل رضي الله عنه في فتح مكة وقصته في صحيح البخاري (4280) من طريق عُرْوَةَ، وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ العَبَّاسَ، يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَا هُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ، قَالَ: " وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدَا، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ رَجُلاَنِ: حُبَيْشُ بْنُ الأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جابِرٍ الفِهْرِيُّ.
هذا حاصلُ غزوة بدرٍ الأولى .
ثم ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا أن الذي بعثه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طلب كُرز أنه سعد بن أبي وقاص فيما قيل، وقيل: بل بعث سعد بن أبي وقاص لغير طلب كُرز. فالله أعلم .
هذا وقد جاء في حديث ضعيف أن الذي بعثه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى العُرَنيين الذين ساقوا ذود النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقتلوا الراعي هو كرز بن جابر .
أخرج الطبراني في الكبير(7/ 6) من طريق مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ التَّيْمِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الحديث وفيه فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ خَيْلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ , أَمِيرُهُمْ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ فَلَحِقَهُمْ، فَجَاءَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ» .
وهذا إسنادٌ ضعيف جدا.مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ منكر الحديث .
وأما والده محمد بن إبراهيم: بن الحارث بن خالد التيمي أبو عبد الله المدني فهو ثقة له أفراد .
وقد ذكر هذه الرواية الحافظُ ابنُ حجر في فتح الباري في كتاب الوضوء (233) ثم قال :وكذا ذكره ابن إِسْحَاقَ وَالْأَكْثَرُونَ .اهـ
أي أنه كرْزبن جابر الفهري .
والحديث ثابت في الصحيحين البخاري(233) ومسلم (9 ،1671)عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ «فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، «فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ».
ولكن ليس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث كرْزًا لقتل العُرَنيين وإثباتُ هذا يحتاج إلى دليلٍ صحيحٍ .فالله أعلم .
***********************
فصل ـ بعث عبد الله بن جحش
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن جحش بن رئاب الأسدي وثمانيةً من المهاجرين، وكتب له كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسيرَ يومين، ثم ينظر فيه، ولا يكره أحداً من أصحابه، ففعل، ولما فتح الكتاب وجد فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، وترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم، فقال: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرهم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم .
فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فتخلَّفا في طلبه، وتقدم عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يومٍ من رجب ، الشهرِ الحرامِ، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهرَ الحرام، وإن تر كناهم الليلة دخلوا الحرمَ، ثم اتفقوا على ملاقاتهم فرمَى أحدُهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلتَ نوفل.
ثم قدموا بالعير والأسيرين قد عَزَلوا من ذلك الخُمُس، فكانت أوَّلَ غنيمةٍ في الإسلام وأولَ خمس في الإسلام، وأولَ قتيل في الإسلام وأولَ أسير في الإسلام، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم ما فعلوه، وقد كانوا رضي الله عنهم مجتهدِين فيما صنعوا.
***********************
هنا بعثُ عبد الله بن جحش رضي الله عنه وقد ساق الحافظ ابنُ كثيرٍهنا قصته .
والحديث علقَّه الإمام البخاري في صحيحه تبويب حديث (64)وقال في أثناء ترجمةٍ له في كتاب العلم : وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ فِي المُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: «لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا» . فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .اهـ
والحديث حسنٌ لغيره أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ في تفسيره من طريق الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَن ّرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَهْطًا وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أبا عبيدة ابن الْجَرَّاحِ أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فَلَمَّا ذَهَبَ يَنْطَلِقُ بَكَى صُبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ. فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَلا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: لَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ الحديث .
الحضرمي قال الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال : الحضرمي.
روى عنه سليمان التيمي لا يعرف.وكان يقص بالبصرة.
قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
وبعضهم يجعله حضرمي بن لاحق .
وأما أَبُو السوَّارفهو العدوي البَصْرِيّ مختلف في اسمه ترجمته في تهذيب الكمال بروايته عن جندب بْن عَبد اللَّه وذكر المزي أنه وثقه ابنُ سعد وقال أبوداود: من ثقات الناس .
وأخرجه البزار كما في كشف الأستار(3/41) عن ابن عباس .قال الهيثمي في مجمع الزوائد(6/199) : وَفِيهِ أَبُو سَعِيدٍ الْبَقَّالُ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
كذا أبوسعيد وفي تقريب التهذيب أبوسعد فقد قال في ترجمته : سعيد بن المرزبان العبسي مولاهم أبو سعد البقال الكوفي الأعور ضعيف مدلس .
وجاء مرسلا من مراسيل عروة بن الزبير أخرجه ابنُ جرير في تفسير سورة البقرة عند الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } والبيهقي في دلائل النبوة (3/17) .
قال الحافظ ابنُ حجر في تغليق التعليق (2/76) :وَهُوَ مُرْسل جيد قوي الْإِسْنَاد وَقد صرح فِيهِ ابْن إِسْحَاق بِالسَّمَاعِ . اهـ
ويوجَدُ بعض المراسيل في هذا الباب عند ابن جريرٍ الطبري .
وقد ذكرالحافظ ابن حجر في فتح الباري (64)مرسل عروة وحديث جندبٍ البجلي وحديث ابن عباس ثم قال : فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ يَكُونُ صَحِيحًا .
قال :وَأَمِيرُ السَّرِيَّةِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الْأَسَدِيُّ أَخُو زَيْنَبَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ تَأْمِيرُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَالسَّرِيَّةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ الْقِطْعَةُ مِنَ الْجَيْشِ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ .
ثم ذكر الحافظ ابن حجروجه الشاهد منه في المناولة وقال : وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهُ نَاوَلَهُ الْكِتَابَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ فَفِيهِ الْمُنَاوَلَةُ وَمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ . اهـ
(فرمى أحدُهم عمرو بن الحضرمي فقتله)
عمرو بن الحضرمي قتل كافرا وهو أول قتيل للمشركين وهو أخو العلاء بن الحضرمي الصحابي .
وينظر الإصابة في تمييز الصحابة (4/445) .
(وأسروا عثمان والحكم)
قال ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/605) :فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا. وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا.
وقال الحافظ رحمه الله في الإصابة (2/ 95): الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي، والد أبي جهل أُسر في أول سريّة جهّزها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة، وأميرها عبد اللَّه بن جحش، فأسر الحكم المذكور فقدموا به على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والقصة مشهورة في السيرة لابن إسحاق. اهـ
(وأفلت نوفل)
أي هرب من المسلمين.
(ثم قدموا بالعِير والأسيرين)
قال ابنُ الأثير في النهاية : العِيرُ: الإبلُ بأحْمالها، فِعْلٌ مِنْ عَارَ يَعِيرُ إِذَا سَار.
والأسيران :عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان.
(قد عزلوا من ذلك الخمس، فكانت أول غنيمة في الإسلام وأول خمس في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام وأول أسير في الإسلام، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم ما فعلوه، وقد كانوا رضي الله عنهم مجتهدين فيما صنعوا).
(الخمس) أي خمس الغنيمة.
(فكانت أول غنيمة في الإسلام وأول خمس في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام وأول أسير في الإسلام).
هكذا يذكرون أول غنيمة وأوَّلُ خمُس في الإسلام كان في بعث عبدالله بن جحش ، وأول قتيل من المشركين في الإسلام هوعمرو بن الحضرمي، وأول أسيرَين في الإسلام عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان .
***********************
واشتدَّ تعنتُ قريش وإنكارُهم ذلك، وقالوا: محمد قد أحلَّ الشهر الحرام، فأنزل الله عز وجل في ذلك ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾[البقرة:217]. يقول سبحانه: هذا الذي وقع وإن كان خطأ، لأن القتال في الشهر الحرام كبير عند الله، إلا أنَّ ما أنتم عليه أيها المشركون من الصدِّ عن سبيل الله والكفرِ به وبالمسجدِ الحرام، وإخراج محمد وأصحابه الذين هم أهل المسجدُ الحرام في الحقيقة أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام.
ثم إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبِل الخُمسَ من تلك الغنيمة، وأخذ الفداء من ذَيْنِكَ الأسيرَيْن.
***********************
استفدنا أنَّ سببَ نزولِ الآيةِ الكريمة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } الآية قتلُ عبد الله بن جحش وأصحابه عمرو بن الحضرمي المشرك في الشهر الحرام .
والشهر الحرام لا يجوزالبدءُ بالقتال فيه لهذه الآية، فهو كبيرة من الكبائر. وقد أخرج الإمامُ أحمد في مسنده (22/ 438 )من طريق لَيْثٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: " لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى - أَوْ يُغْزَوْا - فَإِذَا حَضَرَ ذَاكَ، أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ " .
والحديث حسن . وأبوالزبير وإن كان مدلسا وقد عنعن إلا أنه إذا كان الراوي عنه الليثُ بن سعد فإنه لا تضر عنعنته . يراجع جامع التحصيل .
ودلَّ حديث جابرٍ على جواز قتال المشركين في الشهر الحرام إذا بدأُوا بقتال المسلمين .
وحرمة القتال في الشهر الحرام ابتداءً مُحْكَم ولم يُنسخ.
أما قول السيوطي رحمه الله :
وحَقُّ تَقْوَاهُ فِيمَا صَحَّ من أَثَـــرٍ *** وفي الحَرامِ قِتَالٌ للأُلَى كَفَـــرُوا
فلم يصح للسيوطي رحمه الله شيءٌ في هذا البيت من النسخ .
(وحَقُّ تَقْوَاهُ فِيمَا صَحَّ من أَثَـــرٍ) يشير إلى قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران:102]. أي: أنها منسوخة والصحيح أن الآية مطلقة تقيد بالأدلة الأخرى فالمراد اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم، لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]. وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286].
(وفي الحَرامِ قِتَالٌ للأُلَى كَفَـــرُوا) يشير إلى قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة:217].
والآية محكمة ولم يأتِ ما ينسخها وقد استدلَّ من قال بنسخها بالأدلة التي فيها الأمر بقتال المشركين كقوله سبحانه :إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] . ولكنها عامة مخصوصة بالأشهر الحرم فيقاتَل المشركون في غير الأشهر الحرُمِ التي هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب مضر.
وهذه المسألة تتعلق بعلم القرآن وتفسيره والسيرة لها علاقة كبيرة بعلم القرآن وتفسيره فهي تعينُ على فهْمِ القرآن .
ثم فسَّر الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا الآية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة:217]. وأن صدَّ المشركين المسلمين عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه يعني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته أكبر عند الله، (أعظم عند الله) من القتال في الشهر الحرام هذا أعظم وأشدُّ .
(وأخذ الفداء من ذينك الأسيرَين)
هما عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان.
****************
فصل ـ تحويل القبلة وفرض الصوم
وفي شعبان من هذه السنة حوِّلَت القبلةُ من بيت المقدس إلى الكعبة، وذلك على رأس ستة عشر شهراً من مقدمه المدينة، وقيل سبعة عشر شهراً، وهما في الصحيحين.
وكان أول من صلى إليها أبو سعيد بن المعلى وصاحب له كما رواه النسائي: وذلك أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويتلو عليهم تحويل القبلة، فقلت لصاحبي: تعال نصلي ركعتين فنكون أول من صلى إليها، فتوارينا وصلينا إليها، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ.
وفرض صوم رمضان، وفرضت لأجله زكاة الفطر قبله بيوم.
*******************
في هذه الفصول المتقدمة واللاحقة بعض الوقائع والأمور التي كانت في السنة الثانية من الهجرة النبوية .
وهذه عدة أمور في هذا الفصل كانت في السنة الثانية .
تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد ثبت في الصحيحين البخاري (40) ومسلم (525) عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ «صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ» فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وَكَانَتِ اليَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا: أَنَّهُ مَاتَ عَلَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: 143].
فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى في المدينة إلى بيت المقدس هذه المدة سنة وأربعة أشهر أو سنة خمسة أشهر على قوله (سبعة عشر شهرًا) .
وقدكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرغب كثيرا أن يستقبل الكعبة قال تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾[البقرة:144].
وكان في نسخ القبلة إلى الكعبة اختبارٌ وامتحان قال تعالى﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾[البقرة:143]. فكان فيه اختبارٌ من يتبع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن يعصي .
وفي حديث البراء المذكور(وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ)
دليلٌ أنَّ أول صلاة استقبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها الكعبة صلاة العصر .
وثبت في الصحيحين البخاري (4488)و مسلم (526)عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، إِذْ جَاءَ جَاءٍ فَقَالَ: " أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا: أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، فَتَوَجَّهُوا إِلَى الكَعْبَةِ " .
وهذا فيه قبول خبر الواحد ، واستسلام الصحابة رضوان الله عليهم واستجابتهم للشرع .وهذا معدودٌ في مناقبهم .
وقوله (بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ)هذا محمول أنه لم يبلغهم النسخ إلا ذلك الوقت والله أعلم.
وتحويل القبلة من أعظم ما يحسدنا عليه اليهود أخرج الإمامُ أحمد (41/ 481) عن عائشة رضي الله عنها الحديث وفيه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ " .
(وكان أول من صلى إليها)
أي إلى الكعبة
(أبو سعيد بن المعلى وصاحب له كما رواه النسائي: وذلك أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويتلو عليهم تحويل القبلة، فقلت لصاحبي: تعال نصلي ركعتين فنكون أول من صلى إليها، فتوارينا وصلينا إليها، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ)
وهذا في السنن الكبرى للنسائي (10/ 17) من طريق مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى الأنصاري الزُرقي وهو ضعيف .
(وفرض صوم رمضان)
وفرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فمات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد صام تسعَ رمضانات.
(وفرضت لأجله زكاة الفطر قبْلَه بيوم)
(وفرضت لأجله)أي لأجل الصيام .
وهذا فيه إشارة إلى الحكمة من فرضية زكاة الفطر وهذا ثابت في سنن ابن ماجة (1827) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ».
(طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ) أي أنها كفَّارة مطهرة لما قد يحصل من خلل في ينقص الصوم.
وفي هذه السنة فرضت زكاة الفطر مع فرض صيام رمضان.
(قبله بيوم) في نسخة من نسخ الفصول (قبيله بيوم) مصغَّر.
أي قبل عيد الفطر فله أن يقدم زكاة الفطر بيوم، أو يومين أو نحو ذلك، والسُّنَّة أن يخرجها قبل خروجه للصلاة العيد لما في صحيح البخاري (1503) ومسلم (986)عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ».
والحمد لله .