درس / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية

قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية تعرض فيه تاريخ الأمم السابقة ( قصص الأنبياء ) و تاريخ أمتنا من عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ... الوقوف على الحضارة الإسلامية، و كذا تراجم الدعاة، المشائخ و العلماء

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

درس / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2016-01-03, 10:16   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










Post درس / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله ونبيه محمد الأمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد
فإن سيرة الرسول سيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى أبينا آدم وسلَّم تسليما كثيراً تشمل حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلَّها من ولادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى وفاته ، أفعاله، عبادته، حياته، شمائله، غزواته .
وإن دراسة سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لمن أعظم نِعم الله عز وجل لِمَا في دراستها من الإعانة على الحصول على الخير والأجر والسعادة في الدنيا والآخرة.
سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من ثمار معرفتها ودراستها أنها- تحقق المتابعة للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الذي قال الله عز وجل عنه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب :21] .
ولا سعادة ولا فوز بالجنة إلا بلزوم نهجه وطريقته {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.
وأخرج البخاري في صحيحه (7280) عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» .
سيرة النبي صلى الله عون على محبته وإجلاله وقد أخرج البخاري في صحيحه (14 )عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ».
وكما أنها تبعث المحبة فكذلك قراءة السيرة من أسباب زيادة الإيمان والإيمان به وكم من إنسان أسلم بسبب سماعه ومعرفته سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وما رزقه الله من الأخلاق العالية فيُسلِم، ويترك دينه وطريقته.
فسيرة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مؤثِّرة .
قال ابن حزم رحمه الله في "الفِصل في الملل والنحل " (2/73) إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورةً، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى اهـ
دراسة سيرة نبينا محمد من خلالها نعرف الحق من الباطل والمحق من المبطل .
وعون على فهم الدين فهما صحيحا وفهم العقيدة والتوحيد وعون على فهم القرآن كما أن معرفة أسباب النزول عون على فهم القرآن .
وعون لنا على الأخلاق الزكية فقد أعطاه الله السيرة العلِيَّة والصفات الزكيَّة في سلوكه وسمته وكرمه وشجاعته ورفقه ورحمته وحُسن معاملته كما وصفه ربه سبحانه بذلك فقال: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقال :{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}وقال { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
فسيرة رسول الله دعوة إلى الأخلاق الحميدة كالصدق، والحياء، والكرم، والشجاعة، والصبر، والحلم ، والزهد في الدنيا الفانية الزائلة، والإقبال على الآخرة ، والاستعداد لدار المعاد ، فكل حياته ووقته جهاد ومجاهدة .
ومن خلال معرفة سيرة هذا النبي الكريم نعرف عبادته وصومه وصبره وعبوديته لربه مما يبعث الهمم والشوق إلى المقامات العالية .
أخرج البخاري (4837)ومسلم (2820)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا .. »
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه (485)من طريق ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ فِي الرُّكُوعِ؟ قَالَ: أَمَّا سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. فَأَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: افْتَقَدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي لَفِي شَأْنٍ وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ.
من خلال معرفة السيرة النبوية نعرفة منزلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا غلو فنرفعه فوق منزلته ولا جفاء فننزله عن منزلته .
هذه بعض ثمار دراسة سيرة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ونحمد الله سبحانه وتعالى إذ وفَّقنا لقراءة سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وبين يدينا كتاب الحافظ ابن كثير "الفصول في سيرة الرسول "نسأل الله أن يفقهنا في دينه .
وسمى الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ كتابه ب (الفصول ) لأن هذا الكتاب عبارة عن فصول .
تعريف الفَصْل
قال الجُرجاني في "التعريفات " ص 167 : قطعةٌ من الباب مستقلة بنفسها منفصلة عما سواها .
مؤلف الكتاب
هو الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عُمر بن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ
وهو مؤلف التفسير الذي أثنى عليه العلماء بثناء عظيم قال الزرقاني في" شرح المواهب اللدنية" (1/77) عن تفسير ابن كثيرلم يؤلف على نمطه مثله .
وقال السيوطي في "ذيل تذكرة الحفاظ" في ترجمة ابن كثير: له التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله .
وقال الشوكاني في ترجمة ابن كثير من "البدر الطالع ": وله تصانيف مفيدة منها التفسير المشهور وهو في مجلدات وقد جمع فيه فاوعى ونقل المذاهب والاخبار والآثار وتكلم بأحسن كلام وأنفسه وهو من أحسن التفاسير ان لم يكن أحسنها .
و ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ من كبار المحدثين ومن كبار العلماء وأسرته أسرة علم كما أن آل أبي شيبة أسرة علم، وآل أبي اسحاق ـ عمرو بن عبدالله ـ السَّبيعي أسرته أسرة علم ، وهذامن النعم العظيمة أن تكون الأسرة كلها أسرة علم، الجد والأب والأبناء والأحفاد .
قال الشوكاني في " البدر الطالع "ترجمة ابن كثير : ولد بقرية من أَعمال مَدِينَة بصرى سنة 701 ثمَّ انْتقل إلى دمشق سنة سِتّ وَسَبْعمائة وتفقه بالشيخ برهَان الدَّين الفرارى وَغَيره وَسمع من الْقَاسِم بن عَسَاكِر والمزي وَغَيرهمَا.
وبرع في الْفِقْه وَالتَّفْسِير والنحو وأمعن النظر في الرِّجَال والعلل .
وَمن جملَة مشايخه شيخ الإسلام تقى الدَّين ابْن تَيْمِية ولازمه وأحبه حبا عَظِيما كَمَا ذكر معنى هَذَا ابْن حجر في الدُّرَراهـ
وزوجة ابن كثير اسمها زينب بنت الحافظ المزي حافظة للقرآن سمعت من أبيها .
وأم زينب اسمها عائشة زوجة الحافظ المزي امرأة فاضلة عابدة مقرئة للقرآن
ترجم لها الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (3/ 2) وقال :عَائِشَة بنت إِبْرَاهِيم بن صديق زوج الْحَافِظ الْمزي ولدت سنة 61 وَسمعت من أبي الْفضل بن عَسَاكِر وَغَيره وَحدثت وَكَانَت تحفظ الْقُرْآن وتلقنه النِّسَاء قَالَ ابْن كثير وَكَانَ زوج ابْنَتهَا كَانَت عديمة النظير لِكَثْرَة عبادتها وَحسن تأديتها لِلْقُرْآنِ تفضل فِي ذَلِك على كثير من الرِّجَال وأقرأت عدَّة من النِّسَاء وختمن عَلَيْهَا وانتفعن بهَا وَكَانَت زاهدة فِي الدُّنْيَا متقللة مِنْهَا مَاتَت فِي جُمَادَى الأولى سنة 741.
وهذه بعض التعليقات المفيدة على كتاب الحافظ ابن كثير (الفصول في سيرة الرسول صلى عليه وسلم)أرجو من ربي أن ينفعني بها وأن ينفع بها إنه جواد كريم .

ولمَّا كان يرغب بعض الأخوات حفظهن الله في حضور الدرس معنا ولكن لم يتيسر لهن وعدتُهن بإدخال درس "الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم" في المدونة (فوائد ورسائل أم عبدالله الوادعية) ودرس (كتاب التوحيد من صحيح البخاري) رغبةً في التعاون على الخير ونشر السنة أسأل من ربي التوفيق وأن يعيننا على ما أردنا ولا حول ولاقوة إلا بالله .
أم عبدالله بنت الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله .
***********************
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أخلص له قلبه وانجابت عنه أكدار الشرك وصفا، وأقر له برِقِّ العبودية، واستعاذ به من شر الشيطان والهوى، وتمسك بحبله المتين المنزل على رسوله الأمين محمد خير الورى صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الحشر واللقا، ورضي الله عن أصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه أجمعين، أولي البصائر والنهى.
**************************
(الحمد لله ) تعريف الحمد: الإخبار بالشيء مع محبته وإجلاله وتعظيمه كما قاله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى وتلميذه ابن القيم في بدائع الفوائد رحمهما الله.
على هذا إذا أخبر بأوصاف من غير محبة لا يقال له حمد .
أما الثناء فهو: تَكرار المحامد، كما قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في "بدائع الفوائد" .
ومْن هنا يُستفادُ الفرق بين الحمد والثناء ودليل ذلك ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي الحديث .
الشاهد أنه قال سبحانه في الحمد ( حمدني عبدي) فلما كررالوصف قال ( أثنى علي عبدي) لأن الثناء تَكرار المحامد، وأما الحمد فلا يلزم فيه التكرار.
الفرق بين الحمد والمدح
قال ابن كثير في تفسيره (1/67) وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ لِأَنَّهُ يَكُونُ لِلْحَيِّ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْجَمَادِ أَيْضًا كَمَا يمدح الطعام
المكان وَنَحْوُ ذَلِكَ وَيَكُونُ قَبْلَ الْإِحْسَانِ وَبَعْدَهُ، وَعَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَاللَّازِمَةِ أَيْضًا فَهُوَ أَعَمُّ.
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (2/92) المخبر عن محاسن الغير إما أن يقترن بإخباره حب له وإجلال أو لا فإن اقترن به الحب فهو الحمد وإلا فهو المدح اهـ .
تبيَّن من هذا أن المدح قد يكون للحي وللميت وللجماد ولا يلزم أن يكون في الصفات الاختيارية، أما الحمد فلا يكون إلا على الصفات الاختيارية ومع محبة، ولهذا المدح أعم والحمد أخص فكل حمدٍ مدحاً وليس كل مدح حمداً.
الصفات الاختيارية يُخرِج الصفات الاضطرارية ـ و الصفات الاضطرارية هي الجبلِّيَّة مثل: الطول والجمال هذه صفات جبلِّيَّة ماهي باختيار الإنسان ـ مثلاً: فلان جميل ،فلان طويل ،هذا يكون مدحاَ .
الحمد يكون في الصفات الاختيارية التي يختارها الشخص، مثل الكرم، والحلم ، والشجاعة .
وأيضاً مع المحبة لو مدح تاجراً فقال فلان التاجر كريم وهوما يحبه لأن متكبر لكنه وصفه بهذا والكرم من الصفات الاختيارية ، هذا يقال له مدح ولا يقال له حمد.
(الذين اصطفى )أي اختار.
(وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) الشهادة: الإخبار بالشيء مع صحته واعتقاد ثبوته، كما قال الشيخ الهراس ـ رحمه الله تعالى ـ في شرح العقيدة الواسطية .
إذن لو أقرَّ بلسانه بدون قلبه لا يسمى شهادة، لهذا لما ذكر الله عز وجل قصة المنافقين (ِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقين:1] كذَّبهم الله على شهادتهم لأنها ما هي شهادة صادقة لابد من الشهادة أن تكون باللسان والقلب.
وذكرُ الشهادة في خطبة الحاجة مستحب لما رواه أبوداوود في سننه(4841)بسند حسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ».
فلهذا ينبغي أن نتنبَّه إذا ذكرنا خطبة الحاجة أو طرفاً منها لا نتساهل في كتابة الشهادتين قد يحدث خطأ وقد يكون عن جهل ولكن بالعلم يذهب الخطأ ويزول الجهل .
وذات مرة كتبت رسالة عند الوالد الشيخ مقبل- رحمه الله -وفي أولها طرفٌ من خُطبة الحاجة ولم أكتب الشهادتين فقال لي الوالد ـ رحمه الله تعالى ـ :اكتبي الشهادتين لحديث «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ».
فهذا من أدب خطبة الحاجة ذكر الشهادتين .
(شهادة من أخلص له قلبه وانجابت عنه أكدار الشرك وصفا)
الإخلاص أحد شروط لا إله إلا الله { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .
وبقية الشروط تُراجع من درسنا الآخر (كتاب التوحيد) .
(انجابت) : أي زالت وانكشفت. (أكدار): الأكدار الأوساخ.
(وأقر له برق العبودية}وهذا غاية الشرف للنفس أن تكون تحت رق العبودية لله عز وجل لا للمخلوقين، ولهذا ربنا وصف نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالعبودية في أشرف المقامات، ففي مقام الإسراء قال سبحانه وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...)[ الإسراء:1] وفي مقام الإيحاء قال سبحانه وتعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)[النجم:10] وفي مقام الدعوة قال سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ...)[الجن:19] وفي مقام التحدي قال سبحانه وتعالى:وإن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ...)[البقرة:23] ذكر هذا شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه العبودية.
وقد يعبد الإنسان المخلوق وقد يعبد الدنيا كما أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ( تَعِسَ عَبْدُ اَلدِّينَارِ, وَالدِّرْهَمِ, وَالْقَطِيفَةِ, إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ, وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ).
قال ابن القيم في تحفة المودود 114 أما قَوْله تعس عبد الدينَّار فَلم يرد بِهِ الِاسْم وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْوَصْف وَالدُّعَاء على من يعبد قلبه الدِّينَار وَالدِّرْهَم فَرضِي بعبوديتها عَن عبودية ربه تَعَالَى اهـ
(واستعاذ به من شر الشيطان والهوى)
الاستعاذة: الالتجاء إلى الله والتحصن به من شر كل ذي شر، كما قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير الاستعاذة من تفسيره.
الشيطان :كل عاتٍ متمرد .
وعلى هذا التعريف اللغوي ـ تعريف الشيطان ـ يدخل فيه كل من تمرد من حيوان، ومن إنس، ومن جن قال سبحانه وتعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا...)[الأنعام:112] أثبت شياطين من الجن، وشياطين من الإنس، ويقال للدابة المتمردة شيطانة.
والهوى الهوى: ميل الطبع إلى ما يلائمه، كما قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في روضة المحبين .
وغالباً جاءت الأدلة في ذم الهوى، لأن الهوى يكون متجاوزاً للحد غالباً .
وقد يأتي الهوى في الشيء المستحسن وفي المباح فلا يكون مذموماً، ومن هذا ما في الصحيحين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما نزل قوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) [الأحزاب:51] قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ :ما أرى ربك إلا يسارع إلا في هواك) .
وفي صحيح مسلم (1213) من حديث جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ في قصة حجة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا سَهْلًا، إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ. ( سهلاً) أي ليناً .
وهكذا الإنسان يهوى الطعام والشراب والنوم وهذا لا شيء فيه.
(وتمسك بحبله المتين)
الحبل ذكره الله عز وجل في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا)[آل عمران:103]ومن المفسرين من يقول :حبل الله القرآن، ومنهم من يقول :حبل الله الإسلام ولا تعارض في ذلك .
وروى مسلم في صحيحه (2408) عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال :أَلَا وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ حَبْلُ اللهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ ".
والثاني ذكره مسلم في رواية سابقة «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» .
والشاهد أن القرآن يصدق عليه حبل الله لأنه يوصل إلى الله، وإلى الجنة ـ جعلنا الله من أهلها ـ
المتين: القوي.
(خير الورى) الورى: الخلق.
وقداستعمل الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في هذه المقدمة السجع.
والسجع على قسمين فإن كان بحق فهو محمود وهو نوع من البلاغة ، ومنه حديث (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها ) .
وإن كان في باطل فهو مذموم ومنه ما في صحيح البخاري (5758)وصحيح مسلم (1681) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَضَى: أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، فَقَالَ وَلِيُّ المَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ: كَيْفَ أَغْرَمُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ، وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ».
عارض السنة فكان سجعه مذموماً .
**********************************
أما بعد:
فإنه لا يجمل بأولي العلم إهمال معرفة الأيام النبوية والتواريخ الإسلامية، وهي مشتملة على علوم جمة وفوائد مهمة، لا يستغني عالم عنها، ولا يعذر في العُرُوِّ منها.
وقد أحببت أن أعلق تذكرةً في ذلك لتكون مدخلاً إليه وأنموذجاً وعوناً له وعليه، وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وهي مشتملة على ذكر نسب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسيرته وأعلامه، وذكر أيام الإسلام بعده إلى يومنا هذا، مما يمس حاجة ذوي الأرَب إليه، على سبيل الاختصار إن شاء الله تعالى.
************************************
(لا يجمل): أي لا يحسُن.
(ولا يعذرُ في العُروِّ منها)
العرو: الخُلو . أي أن يكون خالياً من علم السيرة لا يعرف عنها شيئاً.
وقد اعتنى العلماء بالكتابة في السيرة النبوية، ومن هذه الكتب السيرة النبوية من البداية والنهاية )وهو كتاب أشمل وأوسع من كتابنا هذا الذي نقرأُ فيه ( الفصول من سيرة الرسول)، وهناك أيضاً كتب أخرى ك سيرة ابن إسحاق وغيرها.
وفي زاد المعاد لابن القيم جملة كبيرة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وهنا فائدتان استفدتهما من والدي الشيخ مقبل رحمه الله:
1-سألت والدي الشيخ مقبل رحمه الله عن أحسن كتاب في السيرة فقال :البداية والنهاية ) لابن كثير .
2-سمعت الوالد رحمه الله أكثر مِن مَرَّة يقول: قال الإمام أحمد بن حنبل: ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير.
قال : يعني الإمام أحمد كتباً مخصوصة كمغازي الواقدي وتفسير الكلبي .
قلت :الأثر أخرجه ابن عدي رحمه الله في «مقدمة الكامل» (1/119) ومن طريق ابن عدي أخرجه الخطيب في «جامعه» (1536) بسند صحيح .
وقال عقبه الخطيب : هذا الكلام محمول على وجه وهو أن المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها ولا موثوق بصحتها لسوء أحوال مصنفيها وعدم عدالة ناقليها وزيادات القصاص فيها. اهـ المراد
وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة «اللسان» (1/24) هذا الأثر ثم قال: قلت: ينبغي أن يضاف إليها الفضائل فهذه أودية الأحاديث الضعيفة والموضوعة إذا كانت العمدة في المغازي على مثل الواقدي، وفي التفسير على مثل مقاتل والكلبي، وفي الملاحم على الإسرائيليات، وأما الفضائل فلا تحصى كم وضع الرافضة في فضل أهل البيت وعارضهم جهلة أهل السنة بفضائل معاوية بدأوا بفضائل الشيخين وقد أغناهما الله وأعلى مرتبتهما عنه. اهـ
(وذكر أيام الإسلام بعده إلى يومنا هذا)وفي هذا الكتاب ليس هناك ما أشار إليه من ذكر أيام الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى يومنا هذا إلى يوم ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ لكن هذا في كتابه الآخر ( البداية والنهاية) .
(ذوي الأرَب إليه)الأرَب: الحاجة.
(على سبيل الاختصار) قال الفَيُّومِي في المصباح المنير : اخْتِصَارُ الْكَلَامِ :الِاقْتِصَارُ عَلَى تَقْلِيلِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى .
(إن شاء الله تعالى) هذا من حُسْن الأدب قول(إن شاء الله) سواء في الكلام أو الكتابة فإن الله عز وجل يقول: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)[الكهف:23،24] .
وأخرج البخاري (3424) ومسلم (1654)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا، سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " .
علَّق والدي على هذا الحديث وقال: كلمةُ إن شاء الله كلمة مباركة لا تُذكَرُ في شيء إلا تحقَّقَ غالباً .
وفي إحالات الوالد في بحوثه وكتاباته كان يقول:إن شاء الله .
وكان إذا نسي وذكَّره أحد أن يقول إن شاء الله: يقولها ويدعو لمن ذكَّره .
ومرة رأى في يد صبي مُصحفاً فقال :يابُني هذا مُصحفُكَ؟.
فقال الصبي: إن شاءالله .
فتعجَّب الوالد الشيخ مقبل ورأى أن هذا ليس موضع إن شاء الله وقال:كيف إن شاءالله.
وكان ينبه رحمه الله على خطأ بعض الناس في كتابة إن شاءالله يكتبها هكذا (إنشاءالله ).
يقول :إن شاءالله تُكتب إن مفصولة هكذا (إن شاء الله) .لأنهما كلمتان إن و شاء .
***********************************
الجزء الأول
سيرتهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَزَواتُهُ
فصل: ذكرُ نسبِه صلى الله عليه وسلم
هو سيد ولد آدم: أبو القاسم محمد، وأحمد، والماحي الذي يمحى به الكفر، والحاشر الذي يُحشَرُ الناس، والعاقب الذي ليس بعده نبي، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي المَلْحَمة.
***********************************
(هو سيد ولد آدم) أي المقدَّم عليهم في المنزلة، والكرامة، ودخول الجنة وغير ذلك.
والسيد لغة :من ساد قومه .
وقوله(هو سيد ولد آدم) إشارة إلى ما في صحيح مسلم (2278) عن أبي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ».
و النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سيد ولد آدم يوم القيامة، و قبل يوم القيامة ، في الأولى وفي الأخرى، لكن نُصَّ على يوم القيامة لأنه ما فيه أحد ينازع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في سيادته بخلاف الدنيا هناك الملوك هناك الرؤساء لهذا قال : أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
نظيرقوله عز وجل (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة:4] الله سبحانه وتعالى مالك الأولى والأخرى.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الفاتحة :وَتَخْصِيصُ الْمُلْكِ بِيَوْمِ الدِّينِ لَا يَنْفِيهِ عَمَّا عَدَاهُ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ هُنَالِكَ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النَّبَأِ: 38] وَقَالَ تَعَالَى:
وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طَهَ: 108] وقال تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هُودٍ: 105] اهـ
(أبو القاسم) هذه كنية النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أبو القاسم.
(محمد، وأحمد، والماحي الذي يُمحَى به الكفر، والحاشر الذي يحشر الناس، والعاقب الذي ليس بعده نبي).
قال الإمام البخاري بَابُ مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ} [الفتح: 29] وَقَوْلِهِ {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] "
ثم ذكر حديث جبير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3532) وهو عند الإمام مسلم (2354)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَءُوفًا رَحِيمًا ".
وليس عند البخاري (الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَءُوفًا رَحِيمًا) .
وفي رواية لمسلم (وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي) بدل قدمي .
وكأنه في هذه النسخة (الفصول) سقط( عَلَى قَدَمِي ) وقال في البداية والنهاية (2/ 252): وَالْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ.
(والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة).
دليله . أخرج مسلم في صحيحه (2355)عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ».
زاد الإمام أحمد في مسنده(32/ 291) من حديث أبي موسى (ونَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ ) .
هذه بعض أسماء النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ واقتصر عليها مع أن له أسماءً أُخرى صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وقد بيَّن السبب الإمام النووي في شرحه لهذا وقال :
قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مع أن لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءُ غَيْرُهَا كَمَا سَبَقَ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وموجودة للأمم السالفة اهـ
وقد فُسِّرَتْ ثلاثة من أسماء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الحديث ( أناالْمَاحِي، الَّذِي يُمْحَى بِيَ الْكُفْرُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ).
قال النووي في شرح صحيح مسلم : (وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي )قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُمَا يُحْشَرُونَ عَلَى أَثَرِي وَزَمَانِ نُبُوَّتِي وَرِسَالَتِي وَلَيْسَ بَعْدِي نبي وقيل يتبعوني .
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد(1/ 92) وَأَمَّا الْحَاشِرُ، فَالْحَشْرُ هُوَ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، فَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِهِ، فَكَأَنَّهُ بُعِثَ لِيُحْشَرَ النَّاسُ.

وقال ابن رجب في فتح الباري(4/ 336) فالحاشر: الذي يحشر الناس لبعثهم يوم القيامة على قدمه - يعني: أن بعثهم وحشرهم يكون عقيب رسالته، فهو مبعوث بالرسالة وعقيبه يجمع الناس لحشرهم.
(وَالْمُقَفِّي)هو بمعنى العاقب الذي ليس بعده نبي.
يعني أنه خاتم الأنبياء.
(وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ) قال النووي في شرح صحيح مسلم: وَأَمَّا نَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ الْمَرْحَمَةِ فَمَعْنَاهَا مُتَقَارِبٌ وَمَقْصُودُهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّرَاحُمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ نَبِيُّ الْمَلَاحِمِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِالْقِتَالِ اهـ
نبي الرحمة كما قال سبحانه وتعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107]
و ظاهر الآية أنها عامة (للعالمين ) فهو رحمة للمؤمنين ورحمة للكفار.
وقد سُئِل الوالد الشيخ مقبل رحمه الله هل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بُعِث رحمة للكفار؟.
فأجاب : نعم لقوله تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
قال ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (1/ 93)وَأَمَّا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَرُحِمَ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَنَالُوا النَّصِيبَ الْأَوْفَرَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ عَاشُوا فِي ظِلِّهِ وَتَحْتَ حَبْلِهِ وَعَهْدِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَأُمَّتُهُ فَإِنَّهُمْ عَجَّلُوا بِهِ إِلَى النَّارِ وَأَرَاحُوهُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَا يَزْدَادُ بِهَا إِلَّا شِدَّةَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ اهـ.
قلت: ومن رحمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالكفارأنه كان لا يتعجَّل في عقوبتهم
وأنه كان إذا قيل له يدعو عليهم يدعو لهم .
أخرج البخاري (3231 )ومسلم (1795) عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " .
وأخرج البخاري (2937) ومسلم (2524) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ، عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ» .
وأخرج مسلم في صحيحه (2599) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً».
فهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالكفار .
فرحمته عامة حتى إنه كان رحيما بالحيوان أخرج أبو داود في سننه (2549)بسند صحيح وأصله في مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الحديث وفيه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حَائِطًاً لِرَجُلٍ من الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟» ، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ» .
قال صاحب عون المعبود : (حَنَّ) أَيْ رَجَّعَ صَوْتَهُ وَبَكَى .
وقوله (فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ) قال الخطابي في معالم السنن : الذفري من البعير مؤخر رأسه وهو الموضع الذي يعرق من قفاه.
(وتدئبه ) يريد تكده وتتعبه اهـ.
ومِن معرفتنا لمعاني أسمائه نعلم أن أسماءالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلام وأوصاف .
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (1/ 84)
وَكُلُّهَا نُعُوتٌ لَيْسَتْ أَعْلَامًا مَحْضَةً لِمُجَرَّدِ التَّعْرِيفِ، بَلْ أَسْمَاءٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَدْحَ وَالْكَمَالَ اهـ.
فكل اسم يتضمن صفة أو أوصافاً هذا معنى أعلام وأوصاف، فالاسم الأول محمد اسم علم يشتمل على صفة يقولون سُمي بذلك لكَثرة خصاله الحميدة .
وَأَمَّا أَحْمَدُ، فَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُشْتَقٌّ أَيْضًا مِنَ الْحَمْدِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ حَمْدُهُ لِلَّهِ أَكْثَرُ مِنْ حَمْدِ غَيْرِهِ لَهُ، فَمَعْنَاهُ: أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ .
ومنهم من قال :هو بمعنى مفعول أي يحمده الخلقُ .
ذكر هذا ابن القيم ثم رجح في زاد المعاد(1/90) أن محمداً وأحمد وَاقِعَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ قال :وَهَذَا أَبْلَغُ فِي مَدْحِهِ وَأَكْمَلُ مَعْنًى. وَلَوْ أُرِيدَ مَعْنَى الْفَاعِلِ(أي أن أحمد بمعنى فاعل) لَسُمِّيَ الْحَمَّادَ، أَيْ كَثِيرَ الْحَمْدِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ حَمْدًا لِرَبِّهِ، فَلَوْ كَانَ اسْمُهُ أَحْمَدَ بِاعْتِبَارِ حَمْدِهِ لِرَبِّهِ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الْحَمَّادَ كَمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ اهـ المراد.
ويراجع (جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام )لابن القيم .
و الماحي الذي يمحَى به الكفر قال ابن القيم في زاد المعاد: وَلَمْ يَمْحُ الْكُفْرَ بِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مَا مُحِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ بُعِثَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ مَا بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَيَهُودَ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَنَصَارَى ضَالِّينَ وَصَابِئَةٍ دَهْرِيَّةٍ لَا يَعْرِفُونَ رَبًّا وَلَا مَعَادًا، وَبَيْنَ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ، وَعُبَّادِ النَّارِ، وَفَلَاسِفَةٍ لَا يَعْرِفُونَ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا، فَمَحَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَسُولِهِ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ، وَبَلَغَ دِينُهُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَسَارَتْ دَعْوَتُهُ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ.
، و الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه ، و العاقب الذي ليس بعده نبي نجد كل اسم وله تفسير، مما يدل على أن أسماء النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ليست أعلاماً محضة.
******************************
ابن عبد الله، وهو أخوالحارث، والزبير، وحمزة، والعباس، ويكنى أبا الفضل، وأبي طالب، واسمه عبد مناف، وأبي لهب، واسمه عبد العزى، وعبد الكعبة، وهو المقوم، وقيل: هما اثنان، وحجل، واسمه المغيرة، والغيداق، وسمي بذلك لكثرة جوده، وأصل اسمه نوفل، وقيل: حجل، وضرار.
*********************************
(ابن عبدالله )هذا والد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وقد مات على الكفر أخرج مسلم في صحيحه (203)عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: «فِي النَّارِ» ، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ هُوَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَةِ .
(وهو أخوالحارث…) هؤلاء أعمام النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهم عشرة (الحارث، والزبير، وحمزة، والعباس، ويكنى أبا الفضل، وأبوطالب، واسمه عبد مناف، وأبو لهب، واسمه عبد العزى، وعبد الكعبة، وهو المقوم، وقيل: هما اثنان، وحجل، واسمه المغيرة، والغيداق، وسمي بذلك لكثرة جوده –أي كرمه-، وأصل اسمه نوفل، وقيل: حجل، وضرار).
قال ابن القيم في زاد المعاد(1/102) وَأَسَنُّ أَعْمَامِهِ الحارث- أي أكبرهم سناً -، وَأَصْغَرُهُمْ سِنًّا: العباس، وَعَقَبَ مِنْهُ حَتَّى مَلَأَ أَوْلَادُهُ الْأَرْضَ اهـ.
ومات أغلبُهم على الكُفر .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في زاد المعاد: وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا حمزة، والعباس اهـ.

وأدرك الاسلامَ منهم أربعةٌ قال الحافظ في فتح الباري (3884 ):مِنْ عَجَائِبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَعْمَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَأَسْلَمَ اثْنَانِ وَكَانَ اسْمُ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ يُنَافِي أَسَامِيَ الْمُسْلِمَيْنِ وَهُمَا أَبُو طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَأَبُو لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بِخِلَافِ مَنْ اسْلَمْ وهما حَمْزَة وَالْعَبَّاس .
أما أبو طالب فجاء النص أنه من أهل النار أخرج البخاري(3883)ومسلم (209) عن العباس بن عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ».
وأخرج البخاري(3884)عنابْنِ المُسَيِّبِ وهوسعيد، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: «أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ» فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [التوبة: 113] . وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
أبو لهب معروف نزل فيه (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)[المسد:1] فهو من أهل النار.
كما أخرج البخاري(4770) ومسلم (208)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أسماءهم فمن كان مشهوراً بكنيته بدأ بكنيته ثم اسمه ومن كان مشهوراً باسمه بدأ باسمه ومن له لقب ذكر لقبه وذلك لتمام الفائدة رحمه الله .
*******************************
وصفية، وعاتكة، وأروى، وأميمة، وبَرَّة، وأم حكيم ـ وهي البيضاء .
*******************************
هؤلاءعمات النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
كم عدد عمات النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ؟ ست وأعمامه عشرة صار المجموع ستة عشر كلهم أولاد عبد المطلب .
وصفية هي أم الزبير بن العوام ـ رضي الله عنهما .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في زاد المعاد(1/102) أَسْلَمَ مِنْهُنَّ صفية، وَاخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِ عاتكة وأروى، وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ إِسْلَامَ أروى.
*******************************
هؤلاء كلهم أولاد عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد على الصحيح، ابن هاشم واسمه عمرو، وهو أخو المطلب ـ وإليهما نسب ذوي القربى ـ وعبد شمس، ونوفل، أربعتهم أبناء عبد مناف أخي عبد العزى، وعبد الدار، وعبد، أبناء قصي، واسمه زيد، وهو أخو زهرة، ابنا كلاب أخي تيم، ويقظة أبي مخزوم، ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي، وهصيص، وهم أبناء كعب أخي عامر، وسامة، وخزيمة، وسعد، والحارث، وعوف، سبعتهم أبناء لؤي أخي تيم الأدرم.
ابني غالب أخي الحارث، ومحارب، بني فهر أخي الحارث ابني مالك أخي الصلت، ويخلد، بني النضر أخي مالك، وملكان، وعبد مناة، وغيرهم، بني كنانة أخي أسد، وأسدة، الهون، بني خزيمة أخي هذيل، ابن مدركة، واسمه عمرو، وهوأخو طابخة، واسمه عامر، وقمعة، وثلاثتهم أبناء إلياس، أخي الناس، وهو عيلان والد قيس كلها، كلاهما، ولد مضر أخي ربيعة وهما الصريحان من ولد إسماعيل، وأخي أنمار، وإياد، وقد تيامنا، أربعتهم أولاد نزار أخي قضاعة في قول أكثر أهل النسب، كلاهما ابنا معد بن عدنان.
****************************
عبد المطلب الجد الأول للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأجداده إلى عدنان عِشرون .
وقوله (عبد المطلب) التعبيد لغير الله لا يجوز.
والتسمية بالتعبيد لغير الله عز وجل من عدم الإحسان إلى الأولاد، ومن المستحب اختيار الاسم الحسن للولد ومن حق الولد على أبويه .
وقد قال ابن حزم ـ رحمه الله تعالى ـ في "مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات " 154: وَاتَّفَقُوا على تَحْرِيم كل اسْم معبَّد لغير الله عز وَجل كَعبد الْعُزَّى وَعبد هُبل وَعبد عَمْرو وَعبد الْكَعْبَة وَمَا اشبه ذَلِك حاشا عبد الْمطلب اهـ
استثنى عبدالمطلب وهذا رأى ابن حزم ـ رحمه الله تعالى ـ وليس بصحيح وقد خالفه العلماء في هذا.
ويراجع تحفة المودود لابن القيم .
(عبدالمطلب )سبب تسميته بهذا
قال الحافظ في فتح الباري : وَسُمِّيَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَاشْتُهِرَ بِهَا لِأَنَّ أَبَاهُ لَمَّا مَاتَ بِغَزَّةَ كَانَ خَرَجَ إِلَيْهَا تَاجِرًا فَتَرَكَ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِالْمَدِينَةِ فَأَقَامَتْ عِنْدَ أَهْلِهَا مِنَ الْخَزْرَجِ فَكَبُرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَجَاءَ عَمُّهُ الْمُطَّلِبُ فَأَخَذَهُ وَدَخَلَ بِهِ مَكَّةَ فَرَآهُ النَّاسُ مُرْدِفَهُ فَقَالُوا هَذَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَة ذكرهَا بن إِسْحَاق وَغَيره اهـ.
قالوا له عبدالمطلب على أنه غلامه ثم غلب عليه واشتهر به .
(واسمه شيبة الحمد على الصحيح) يقال له (شيبة) لأنه عنده خصال من الشعر بيض ولُقِّب الحمد لأنه كان كريماً.
(على الصحيح)وهذا قول الجمهور . قال الحافظ في فتح الباري :اسْمُهُ شَيْبَةُ الْحَمْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَزعم ابن قُتَيْبَةَ أَنَّ اسْمَهُ عَامِرٌاهـ
الجد الثاني من أجداد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هاشم يقول ابن كثير واسمه عمرو .
قال الحافظ في فتح الباري : وَقِيلَ لَهُ هَاشِمٌ لِأَنَّهُ أول من هشم الثَّرِيد بِمَكَّة لِأَهْلِ الْمَوْسِمِ وَلِقَوْمِهِ أَوَّلًا فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَرِجَال مَكَّة مسنتون عجاف
(وهو أخو المطلب ـ وإليهما نسب ذوي القربى )
أخو المطلب ـ سبحان الله ـ يذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ إخوة كل جد للفائدة.
واختار ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أن ذوي القربى هم بنو المطلب وبنو هاشم، وهو قول الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ ودليل من قال بنو المطلب من أهل البيت ما أخرج البخاري (3140 )عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي المُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بَنُو المُطَّلِبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ».
وجمهور العلماء يقولون : ليس بنو المطلب من أهل البيت.
وقوله وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ لأنهم كلهم أولاد عبد مناف .وعثمان بن عفان رضي الله عنه من بني عبد شمس وجبير رضي الله عنه من بني نوفل .
(أربعتهم أبناء عبد مناف) أولاد عبد مناف أربعة هاشم، والمطلب، وعبدشمس، ونوفل.
(ابنا كلاب أخي تيم، ويقظة أبي مخزوم، ثلاثتهم أبناء مرة)
ثلاثتهم: أي كلاب ، وتيم، ويقظة.
(أبناء لؤي أخي تيم الأدرم ابني غالب)
ابني غالب (ابني): للتثنية، لؤي وتيم الأدرم.
(ابني مالك أخي الصلت، ويخلد)
وفي بعض النسخ مَخلد.
(بني النضر أخي مالك، وملكان، وعبد مناة، وغيرهم، بني كنانة)
أولاد كنانة أربعة النضر، ومالك ، وملكان، و عبد مناة ، كلهم أولاد كنانة.
(كلاهما، ولد مضر أخي ربيعة وهما الصريحان من ولد إسماعيل)
(وهما ) أي مضر، وربيعة.
(الصريحان من ولد إسماعيل)
أي بلا نزاع قال ابن عبدالبرفي الإنباه على قبائل الرواة 38 وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن الصَّرِيح من ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام مُضر وَرَبِيعَة ابْنا نزار بن معد بن عدنان .
(وأخي أنمار، وإياد، وقد تيامنا)
أي قصدا اليمن ، فإن إيادا وأنمارا لَحقا بِأَرْض الْيمن كما في الإنباه على قبائل الرواة .
(أربعتهم أولاد نزار)مضر، وربيعة، وأنمار، وإياد.
(أخي قضاعة في قول أكثر أهل النسب)
ابن كثير ينص أن قضاعة هوأخو نزار في قول أكثر أهل النسب .
وقال ابن عبدالبر في الإنباه : فَأَما قضاعة فالاختلاف فِيهَا كثير وَالْأَكْثَر على أَنَّهَا من معدّ بن عدنان وَأَن قُضاعة بكرْ ولدَ مَعدّا وَبِه كَانَ يكنى .
وعلى هذا يكون قضاعة عدنانية .
(كلاهما ابنا معد بن عدنان) عدنان الجد العشرون للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
أجداد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عِشرون أدناهم عبدالمطلب وأعلاهم عدنان .
وما فوق عدنان لا يصح فيه شيء، أما إلى عدنان فهذا نسب صحيح بإجماع العلماء لانزاع فيه بين العلماء .
انتهينا من نسب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر جملة من الفوائد والمسائل في أثناء سرد نسب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ومن هؤلاء أعمام وعمات النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ، إخوة كل جد من أجداد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، ذكرالألقاب أيضاً إلى غير ذلك.
واستفدنا أيضاً أن مضر وربيعة بلا خلاف أنهما من نسل إسماعيل عليه السلام .
وبما أن الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر فوائد وجُملاً من المسائل في أثناء سرد النسب النبوي نذكر نسب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سرداً من أجل أن يسهل حفظه .
قال الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيحه في ترجمة حديث(3851) "(بَاب مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ" .
*********************************
فجميع قبائل العرب ينتسبون إلى من ذكرت من أبناء عدنان.
وقد بين ذلك الحافظ أبو عمر النمري في كتاب الإنباه بمعرفة قبائل الرواة بياناً شافياً رحمه الله تعالى .
*********************************
(من أبناء عدنان )أي نسل عدنان .
(الحافظ أبو عمر النمري) هو الشهير بابن عبدالبر يوسف بن عبدالله بن عبدالبر.
وقوله(فجميع قبائل العرب) أي العدنانية ومع قول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى فيما سيأتي (ص 10) : فأما قبائل اليمن كحمير وحضرموت وسبأ، وغير ذلك، فأولئك من قحطان ليسوا من عدنان) يفيد أن ابن كثير يرى أن العرب على قسمين عدنانية وقحطانية، وهذا عليه جمهور أهل الأنساب على هذا يكون عدنان من نسل إسماعيل ، أما قحطان فلا .
ومن أهل العلم من يقول : العرب كلهم العدنانية والقحطانية من نسل إسماعيل ، هذا قول لبعض العلماء وأما الجمهورفهم على التقسيم السابق .
قال ابن عبدالبر في الإنباه على قبائل الرواة 28: يشْهد لقَوْل من جعل قحطان وَسَائِر الْعَرَب من ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام قولُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقوم من أسلم وَالْأَنْصَار ارموا بني إِسْمَاعِيل فَإِن أَبَاكُم كَانَ رامياً .
وكيف يكون إسماعيل نسله من العرب وإسحاق نسله من العجم مع أنهما أخوان ؟.
إسماعيل ليس بعربي أصالة ، ولكنه لمَّا تزوج بامرأة من جرهم وتلقَّى منهم اللغة العربية ،وهكذا أولاده صار يتكلم باللغة العربية، فمن كان من نسله كان من العرب .
**************************
وقريش على قول أكثر أهل النسب هم الذين ينتسبون إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وأنشدوا في ذلك:
قصي لعمري كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر.
**************************
عندنا الآن مسألة قريش تنتسب إلى من ، من أبو قريش؟ .
قريش تنتسب إلى فهر بن مالك على قول أكثر أهل النسب.
قُصي يقال له مجمع لأنه جمع أهل مكة بعد تفرقهم، (به جمع الله القبائل من فهر)الذي هو أبو قريش عند جمهور أهل النسب .
على هذا من كان من ولد فِهْر فهو قُرشي ومن ليس من ولد فِهر فلا يكون قرشياً.
وكل هاشمي قرشي وليس كل قرشي هاشمياً.
****************************
وقيل: بل جماع قريش هو النضر بن كنانة، وعليه أكثر العلماء والمحققين، واستدل على ذلك بالحديث الذي ذكره أبو عمر بن عبد البر ـ رحمه الله تعالى ـ «عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة فقلت: ألستم منا يا رسول الله؟ قال: لا، نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفى من أبينا » .
وقد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد حسن، وفيه: فكان الأشعث يقول: لا أوتَى برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد.
***************************
(بل جماع قريش) أي يجتمع نسب قريش في النضر ، قريش هو النضر بن كنانة .
(وعليه أكثر العلماء والمحققين) هذا قول أكثر العلماء .
والقول الأول قول أكثر أهل النسب -أهل الفن-أن قريشاً تنتسب إلى فهر بن مالك.
(لا نقفوا أمنا): قال ابن الأثير في النهاية : أَيْ لَا نَتَّهِمها وَلَا نَقْذِفُها. يُقَالُ: قَفَا فُلانٌ فُلاناً إِذَا قَذَفَه بِمَا لَيْسَ فِيهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا نَتْرك النَّسَب إِلَى الْآبَاءِ ونَنْتَسِب إِلَى الأمَّهات.
(فكان الأشعث يقول: لا أوتى برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد)
لأن الأشعث وهو ابن قيس ـ رضي الله عنه ـ على ما دل عليه الحديث .
والحديث في السلسلة الصحيحة (2375) للشيخ الألباني رحمه الله تعالى .
الحديث فيه أن قريشاً من ولد النضر بن كنانة .
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في البداية والنهاية عن هذا الحديث (2/201):" هذا الحديث هو فيصل قوي في هذه المسألة فلا التفات إلى قول من خالفه ".
************************
وقيل: إن جماع قريش إلياس بن مضر بن نزار.
وقيل: بل جماعهم أبوه مضر.
وهما قولان لبعض أصحاب الشافعي، حكاهما أبو القاسم عبد الكريم الرافعي في شرحه، وهما وجهان غريبان جداً.
فأما قبائل اليمن كحمير وحضرموت وسبأ، وغير ذلك، فأولئك من قحطان ليسوا من عدنان.
وقضاعة فيها ثلاثة أقوال: قيل: إنها من العدنانية، وقيل: قحطانية، وقيل: بطن ثالث لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، وهو غريب، حكاه أبو عمر وغيره.
******************************
هذه أربعة أقوال ذكرها ابن كثير في بيان من تنتسب إليه قريش .
وقوله(فأما قبائل اليمن كحمير وحضرموت وسبأ)
قال ابن عبدالبر في الإنباه على قبائل الرواة :إذا قلت سبأ لم تحتج إلى ذكر حمير بن سبأ) .
وهذه فائدة وابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير سورة النمل (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)[النمل:22] يقول: وَسَبَأٌ: هُمْ: حِمْير).
وقوله (وقضاعة فيها ثلاثة أقوال)
من أين قضاعة؟
قال ـ رحمه الله تعالى ـ :" قيل : إنها من العدنانية"
الذين هم من نسل إسماعيل عليه السلام. وتقدم نص الحافظ ابن كثير (…نزار أخي قضاعة في قول أكثر أهل النسب).
فهذا قول أكثر أهل النسب أن قُضاعة من نسل عدنان .

فقهنا ربي جميعا في دينه ونسأله أن ينفعنا بما يعلمنا .والله المستعان .

الكاتب أم عبدالله الوادعية









 


آخر تعديل أم سمية الأثرية 2016-01-03 في 10:26.
رد مع اقتباس
قديم 2016-01-03, 17:46   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
سمير عطلاوي
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

كلام طيب،فجزاك الله خيرا









رد مع اقتباس
قديم 2016-01-03, 18:04   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

واياكم جزى الله خيرا و زيادة










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 17:02   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
Wissem2016
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 19:02   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

وفيكم بارك الله










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 19:53   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
sidali75
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيكِ وسأتابع بإذن الله معكم هذه الدروس المُحمدية صلى الله عليه وسلم
وإن تدارُسها لمن فضل الله علينا وإنها سيرة أبداً لن تمِل من سماعها وفقكم الله










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 21:46   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

لدرس الثاني من/ الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم السبت 24 من شهر الله المحرم 1437

بسم الله الرحمن الرحيم
مذاكرة :
قوة الحفظ في الصغر
الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر .
ما الحلم إلا بالتحلم في الكِبر ... وما العلم إلا بالتعلم في الصغر
لو ثُقِب القلب المعلَّم في الصبا ... لألفيت فيه العلم كالنقش في الحجر .
يقول علقمة بن قيس ـ رحمه الله تعالى ـ : ما سمعته وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة)أخرجه أبوخيثمة زهير بن حرب رحمه الله في كتاب «العلم» (156) بسند صحيح.
محفوظاته التي حفظها وهو شاب كأنها أمامه في ورقة.
مثل بعض حفَّاظ القرآن الكريم المتقنين يقرأ السورة وكأن المصحف أمامه الورقة تلو الأخرى .
سن الشباب الذي ضيعه وفرط فيه كثير من الشباب إلا من رحم الله عز وجل .
وسن الشباب سن عظيم لهذا كان سن أهل الجنة ( إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً) كما في الصحيح .
فننصح الصغيرات والشابات بالحفظ ، فإن الحفظ سلاح، وكما قيل ( متونها حصونها) حفظ المتون حصن بإذن الله ، فهو يعد سلاحاً في مجاهدة الشيطان ، سلاحاً في دفع الشبهات ، سلاحاً في دفع الشهوات . و النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول: حجبت الجنة بالمكاره وحجبت النار بالشهوات) .
من ضيع شبابه فهذه خسارة في حقه .
سن الشباب عشرون عاماً من بداية السادسة عشرة إلى خمس وثلاثين، أسرع ما يمرُّ من الأعمار سن الشباب ، ولا يعرف قدر الشباب إلا من وفقه الله عز وجل.
لهذا كان الشاب الذي نشأ في عبادة الله يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما في الصحيحين عن أبي هريرة .
وفيه تحفيز للنفوس وبعث الهمم إلى الخير ودار القرار{ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .
فلا يضيع هذا السن النفيس.
أخرج الرامهرمزي في المحدث الفاصل أن عروة بن الزبيرقال :أَيْ بُنَيَّ كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ فَأَصْبَحْنَا كِبَارَهُمْ، وَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ صَغَائِرُ قَوْمٍ وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونُوا كِبَارَهُمْ، فَمَا خَيْرٌ فِي كَبِيرٍ، وَلَا عِلْمَ لَهُ، فَعَلَيْكُمْ بِالسُّنَّةِ .
وقال الخطيب في "الفقيه والتفقه" (2/818) التفقه في زمن الشبيبة وإقبال العمر والتمكن منه بقلة الأشغال وكمال الذهن وراحة القريحة (أي راحة البال) يرسخ في القلب ويثبت ويتمكن ويستحكم، فيحصل الانتفاع به والبركة إذا صحبه من الله حسن التوفيق.
وإذا أهمل إلى حالة الكِبَر المغيرة للأخلاق الناقصة للآلات كان ما قال الشاعر:
إذا أنت أعياك التعلم ناشئا ... فمطلبه شيخًا عليك شديد. اهـ
*التركيز والتنبُّه
يقول تعالى {إِنَّ فِيَ ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
فمن فرَّغ قلبه للعلم يستفيد.
ومن كان مهملا غير مبالٍ فإنه يسأم ويأتيه النعاس ولا يدري ما يُقال ويُحرَم الاستفادة .
يقول الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ (بعض الإخوان يسافر وهو عندنا في الجَلسة ) .
وكان يقول للذي ما ينتبه :أسافرت سفراً بعيداً أو قصيراً).
فالشيطان حريص على أن يصرفنا عن العلم بالوسوسة وشرود الذهن.
وليس هذا من آداب من يطلب العلم أخرج ابن أبي حاتم رحمه الله في «الجرح والتعديل» (2/34) بسند صحيح عن يحيى بن سعيد وهو القطان: ينبغي لكتبة الحديث أن يكون ثبت الأخذ، ويفهم ما يقال له، ويبصر الرجل -يعني: المحدث- ثم يتعاهد ذلك منه -يعني: نطقه- يقول: حدثنا، أو سمعت، أو يرسله.
فقد قال هشام بن عروة: إذا حدثك رجل بحديث فقل: عمن هذا؟ أو فممن سمعته؟ فإن الرجل يحدث عن آخر دونه -يعني: دونه- في الإتقان، والصدق.
قال يحيى: فعجبت من فطنته.

يقول (ويفهم ما يقال له) وهذا لا يكون إلا بالتركيز والتيقظ .نسأل الله التوفيق .
***************************
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى:
فصل ذكر نسبه صلى الله عليه و سلم بعد عدنان
و هذا النسب الذي سقناه إلى عدنان لا مرية فيه و لانزاع ، و هو ثابت بالتواتر و الإجماع ، و إنما الشأن فيما بعد ذلك ، لكن لا خلاف بين أهل النسب و غيرهم من علماء أهل الكتاب أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله ، وهو الذبيح على الصحيح من قول الصحابة و الأئمة ، وإسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليه أفضل الصلاة و السلام .
***************************
(وهذا النسب الذي سقناه إلى عدنان) وهو ما تقدم من محمد بن عبدالله إلى الجد العشرين عدنان هذا لا خلاف فيه بين العلماء، لكن ما بعد عدنان حصل فيه خلاف.
(لا مرية فيه ولانزاع) لا شك فيه ولا خلاف.
(و هو ثابت بالتواتر) التواتر لغة: التتابع.
والتواتر عند أهل العلم : هو نقل جماعةٍ عن جماعة يستحيل في العادةِ تواطؤهم على الكذب ، ويستندون إلى شيء محسوس .
الحواس خمس : السمع، والبصر، والشم ، والذوق، واللمس.
والمقصود بـ (ويستندون إلى شيء محسوس): أي إلى السمع ، والبصر، ما يكون مثل ما عند النصارى تناقل بعضهم عن بعض أن الله ثالث ثلاثة تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً، وهذا التناقل مبني على التفكير، وحديث النفس فلم يستندوا فيه إلى شيء محسوس ، فلا يقال إنه حق ، وقد كذَّبهم الله عز وجل وكفَّرهم فقال سبحانه وتعالى :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ... }[المائدة:73] .
(و إنما الشأن فيما بعد ذلك )أي ما فوق عدنان .
(لكن لا خلاف بين أهل النسب وغيرهم من علماء أهل الكتاب أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله) .
هذه فائدة أن عدنان من ولد نبي الله إسماعيل ـ عليه السلام ـ بلا خلاف بين أهل النسب.
فهم وإن اختلفوا فيما فوق عدنان إلا أنهم متفقون في عدنان أنه من سُلالة إسماعيل نبي الله .
وتقدم أن النسب النبوي إلى عدنان لا مرية فيه و لانزاع ، وهو ثابت بالتواتر و الإجماع .
فيكون أيضاً بالإجماع أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من سُلالة إسماعيل بن إبراهيم خليلِ الله لأن عدنان من ولد إسماعيل .
(وهو الذبيح على الصحيح من قول الصحابة والأئمة) ترابط كبير ـ ياأخوات ـ بين السيرة وبين القرآن الكريم فالإلمام بالسيرة يعين على فهم القرآن الكريم.
فقوله(وهو الذبيح) يشير إلى قوله تعالى:{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107].
(على الصحيح) أنه نبي الله إسماعيل ـ عليه السلام ـ ، وهناك قول آخر أنه إسحاق ـ عليه السلام ـ، والقول الصحيح أنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ
سُئل شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى(4/ 331) عَنْ " الذَّبِيحِ " مِنْ وَلَدِ خَلِيلِ اللَّهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ: إسْمَاعِيلُ أَوْ إسْحَاقُ؟.
وكان مما أفاد أن النِّزَاعَ فِيهَا مَشْهُورٌ لَكِنَّ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلَائِلُ الْمَشْهُورَةُ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ.
وعزا هذا القول شيخ الإسلام إلى أكثر العلماءفي كتابه الرد على المنطقيين 517.
وجزم رحمه الله في مجموع الفتاوى أن القول بأنه إسحاق أَصْلهُ مِنْ تَحْرِيفِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَتَلَقَّى ذَلِكَ عَنْهُمْ مَنْ تَلَقَّاهُ وَشَاعَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إسْحَاقُ.
ونقتصر على بعض الأدلة في إثبات كون إسماعيل الذبيح
1- الآيات في سورة الصافات{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ }
وبيَّن شيخ الإسلام- رحمه الله- الشاهد من الآيات أَنَّهُ بَشَّرَهُ بِالذَّبِيحِ وَذَكَرَ قِصَّتَهُ أَوَّلًا فَلَمَّا اسْتَوْفَى ذَلِكَ قَالَ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إسْحَاقَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا بِشَارَتَانِ: بِشَارَةٌ بِالذَّبِيحِ وَبِشَارَةٌ ثَانِيَةٌ بِإِسْحَاقِ وَهَذَا بَيِّنٌ.
قال : ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْبِشَارَتَيْنِ جَمِيعًا: الْبِشَارَةُ بِالذَّبِيحِ وَالْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقِ بَعْده كَانَ هَذَا مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ إسْحَاقَ لَيْسَ هُوَ الذَّبِيحَ.
2-أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ الذَّبِيحِ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ يَذْكُرُ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقِ خَاصَّةً كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ: مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فَلَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إسْحَاقَ لَكَانَ خَلْفًا لِلْوَعْدِ فِي يَعْقُوبَ.
3- إسماعيل وأمه هاجر هُمَا اللَّذَانِ كَانَا بِمَكَّةَ دُونَ إِسْحَاقَ وَأُمِّهِ .
قال شيخ الإسلام :وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ إسْحَاقَ ذَهَبَ إلَى مَكَّةَ لَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ .
وهذا ما اختاره ابن القيم يراجع زاد المعاد (1/ 71) .
(وإسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليه أفضل الصلاة و السلام) إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ وإسماعيل بن إبراهيم بن آزر كما قال تعالى :{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً }[الأنعام:74] الآية نص في المسألة .
ومن قال : آزر عم إبراهيم ـ عليه السلام ـ أو رجلٌ آخرفقد خالف ظاهر الدليل .

***************************
و قد اختُلف في كم أب بينهما على أقوال :فأكثر ما قيل أربعون أباً ، و أقل ما قيل سبعة آباء ، و قيل : تسعة ، و قيل : خمسة عشر ، ثم اختلف في أسمائهم .
و قد كره بعض السلف و الأئمة الانتساب إلى ما بعد عدنان ، ويحكى عن مالك بن أنس الأصبحي الإمام رحمه الله أنه كره ذلك .
***************************
(و قد اختلف في كم أب بينهما على أقوال) في كم أب بين عدنان وإسماعيل ـ عليه السلام ـ على أقوال.
(فأكثر ما قيل أربعون أباً ، و أقل ما قيل سبعة آباء ، و قيل : تسعة ، و قيل : خمسة عشر ، ثم اختلف في أسمائهم) .
يعني الخلاف من وجهين من حيث العدد، ومن حيث الأسماء.
(و قد كره بعض السلف و الأئمة الانتساب إلى ما بعد عدنان) نعم، لا ينبغي الانتساب إلى ما فوق عدنان؛ لأن هذا مختلف فيه.
(ويُحكى عن مالك بن أنس الأصبحي الإمام رحمه الله أنه كره ذلك) مالك بن أنس أبوعبدالله (الأصبحي) من أصبح ، وأصبح من حمير، وحمير من اليمن ،فهذا الإمام هو من أهل اليمن ولكنه كان في مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، ويلقب بـ (إمام دار الهجرة).

***************************
قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر في كتاب الإنباه و الذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان قالوا : عدنان بن أدد ، بن مقوم بن ناحور ، بن تيرح ، بن يعرب ، بن يشجب ، بن نابت ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم خليل الرحمن ، بن تارح ـ و هو آزر ـ بن ناحور ، بن شاروخ ، بن راعو ، بن فالخ ، بن عيبر ، ابن شالخ ، بن أرفخشذ ، بن سام ، بن نوح بن لامك ، بن متوشلخ ، بن أخنوخ ـ و هو إدريس النبي عليه السلام فيما يزعمون ، و الله أعلم ، و هو أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم و شيث ، و أول من خط بالقلم ، بن يرد ، بن مهليل ، بن قينن ، بن يانش ، بن شيث ، بن آدم صلى الله عليه و سلم .
هكذا ذكره محمد بن إسحق بن يسار المدني صاحب السيرة النبوية ، و غيره من علماء النسب .
و قد نظم ذاك أبو العباس عبد الله بن محمد الناشي المعتزلي في قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه
و سلم .
وقد أوردها الإمام أبو عمر ، و شيخنا في تهذيبه ، و هي قصيدة بليغة أولها :
مدحت رسول الله أبغي بمدحه وفور حظوظي من كريم المآرب
مدحت امرءاً فاق المديح موحداً بأوصافه عن مبعد و مقارب
***************************
(قال الإمام أبو عمر بن عبد البر) يوسف بن عبدالله و كتابه( الإنباه على قبائل الرواة).
(أُدَد بن مقوم بن ناحور ، بن تيرح ، بن يعرب ، بن يشجب ، بن نابت ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم خليل الرحمن ...بن نوح بن لامك ، بن متوشلخ ، بن أخنوخ ...) أسماء أعجمية.
ويذكر النحويون كابن هشام رحمه الله في شرح قطر الندى 313: أن جَمِيعَ أَسمَاء الْأَنْبِيَاء أَعْجَمِيَّة إِلَّا أَرْبَعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَالح وَشُعَيْب وَهود صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ .
(وهو أول بني آدم) أي إدريس ـ عليه السلام ـ.
(أعطي النبوة بعد آدم و شيث ... بن شيث ، بن آدم) ظاهر العبارة أن شيث ولد آدم لصلبه وأنه هو وإدريس كانا ممن أُعطِي النبوة قبل نبي الله نوح ـ عليه السلام ـ وقد نبَّه الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ على هذه المسألة في شرح الأربعين النووية 45وقال: واعلم بأنك ستجد في بعض كتب التاريخ أن إدريس عليه الصلاة والسلام كان قبل نوح عليه السلام، وأن هناك بعضاً آخرين مثل شيث، كل هذا كذبٌ وليس بصحيح.
فإدريس بعد نوح قطعاً، وقد قال بعض العلماء: إن إدريس من الرسل في بني إسرائيل، لأنه دائماً يذكر في سياق قصصهم، لكن نعلم علم اليقين أنه ليس قبل نوح، والدليل قول الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبيينَ مِنْ بَعْدِهِ) (النساء: الآية163) وقال الله عزّ وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (الحديد: الآية26) فأرسلهم الله وهم القمة، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فمن زعم أن إدريس قبل نوح فقد كذب القرآن وعليه أن يتوب إلى الله من هذا الاعتقاد اهـ.
أما أبونا آدم ـ عليه السلام ـ فقد جاء فيه النص أنه نبي فقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال :أو نبي كان آدم؟ قال: نعم، نبي مُكلَّم .
قال القاري في مرقاة المفاتيح : أَيْ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فَقَطْ، بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُكَلَّمًا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الصُّحُفُ اهـ
(و أول من خط بالقلم) أول أي إدريس ـ عليه السلام ـ، وهذا جاء في حديث ضعيف لا يثبت أن أول من خطَّ بالقلم إدريس ـ عليه السلام ـ رواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأُصول ، وضعَّفه الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في ضعيف الجامع (2127).
والحكيم الترمذي استفدنا من الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أنه صوفي لا يعتمد عليه.
(هكذا ذكره محمد بن إسحق بن يسار المدني صاحب السيرة النبوية ، و غيره من علماء النسب) ذكر هذا النسب ولكن ما فوق عدنان لا يحتاج له ؛ لأنه لا يثبت.
(و قد نظم ذاك أبو العباس عبد الله بن محمد) أي النسب النبوي.
(الناشي المعتزلي) المعتزلي نسبة إلى المعتزلة ، والمعتزلة من فرق الضلال والأهواء.
(و قد أوردها الإمام أبو عمر) أبو عمر يوسف بن عبدالله بن عبد البر ـ رحمه الله تعالى ـ أوردها في كتابه الإنباه على قبائل الرواة 21.
(و شيخنا في تهذيبه) أي الإمام المٍزِّي أبو الحجاج .
(في تهذيبه) تهذيب الكمال. فالإمام المٍزِّي ـ رحمه الله تعالى ـ من مشايخ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ، وكان ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ متزوجاً بابنة المِزِّي ـ رحمه الله تعالى ـ واسمها زينب.

***************************
فجميع قبائل العرب مجتمعون معه في عدنان ، ولهذا قال الله تعالى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكن بطن من قريش إلا و لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم قرابة .
وهو صفوة الله منهم كما رواه مسلم في صحيحه " عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله اختار كنانة من ولد إسماعيل ثم اختار من كنانة قريشاً ، ثم اختار من قريش بني هاشم ، ثم اختارني من بني هاشم)
***************************
(فجميع قبائل العرب مجتمعون معه في عدنان) أي تجتمع مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في عدنان .
وقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (لم يكن بطن من قريش إلا و لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم قرابة ) .
البطن: ما دون القبيلة وما فوق الفخذ كما في تحفة الأحوذي.
وأثر ابن عباس في صحيح البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ فَقَالَ إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ).
سعيد بن جُبير ـ رحمه الله تعالى ـ وجماعة من المفسرين يفسرون الآية بأن المراد مودة ومحبة قرابة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أي إلا أن تودوا قرابتي .
وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حَبر الأمة وتُرجمان القرآن الذي دعا له النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بقوله : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ ) يرى أن المراد {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تَوَدُّوني لقرابتي منكم وبهذا يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم (4818) وَالْحَاصِلُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَالسُّدِّيِّ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى أَمْرِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ يُوَادِدُوا أَقَارِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم.
وابن عَبَّاسٍ حَمَلَهَا عَلَى أَنْ يُوَادِدُوا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ .
فَعَلَى الْأَوَّلِ الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَعَلَى الثَّانِي الْخِطَابُ خَاصٌّ بِقُرَيْشٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. اهـ المراد
وعلى القول الأول الذي فسره سعيد بن جبير ومن معه يكون الآية فيها فضل قرابة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، والحث على مودتهم ، واحترامهم، وأما على تفسير ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فمعناها آخر .
وقد ثبت في الأدلة المتكاثرة احترام أهل البيت ، ومحبتهم ، وقد قال أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي)أخرجه البخاري(3711)ومسلم (1759).
الشيعة يتهمون أهل السنة أنهم لا يحبون أهل البيت وهم كاذبون في ذلك ، فنحن نحب الصالحين منهم حباً شرعياً.
(وهو صفوة الله منهم) أي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خيار قريش .
قال الجوهري في الصحاح :صفوة الشيء خالصه.
(منهم) أي من قريش . فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ خيرة قريش أي أفضلهم .
وحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فيه فضل نسب قريش ، ونسب بني هاشم ، وأن نسب بني هاشم أفضل.
فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وكذاسائر الأنبياء من أنساب رفيعة ، وقد قال هرقل لأبي سفيان (كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ) أي صاحب نسب .
و قال هرقل بعد ذلك (سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحساب قَوْمِهَا) والله أعلم.
وقد ذكروا حِكَماً في كون الرسُل تُبعث من أنساب رفيعة.
واقتصرالنووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم في قصة هرقل على أمرين فقال:
قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ انْتِحَالِهِ الْبَاطِلَ .
وَأَقْرَبُ إِلَى انْقِيَادِ النَّاسِ لَهُ اهـ.
فصاحب النسب الرفيع يؤثِّر فيه نسبه في المكارم والأخلاق والتحلي بالصدق.
ولأن صاحب النسب الرفيع ينقاد له الناسُ .
أيضاً هيبته في المجتمع إذا كان من نسب عالي فيكون له حماية بإذن الله من قتله والاعتداء عليه.

***************************
وكذلك بنو إسرائيل أنبياؤهم و غيرهم يجتمعون معه في إبراهيم الخليل عله الصلاة والسلام ، الذي جعل الله في ذريته النبوة و الكتاب ، وهكذا أمر الله سبحانه بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام ، و هو في التوراة كما ذكره غير واحد من العلماء ممن جمع بشارات الأنبياء به صلى الله عليه و سلم ، إن الله تعالى قال لهم ما معناه : ( سأقيم لكم من أولاد أخيكم نبياً كلكم يسمع له ، و أجعله عظيماً جداً ) .
***************************
(وكذلك بنو إسرائيل أنبياؤهم و غيرهم يجتمعون معه في إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام) أي يجتمع نسبهم مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـفي إبراهيم الخليل .
(الذي جعل الله في ذريته النبوة و الكتاب) كما في الآية { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ }[العنكبوت:27] قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية : هَذِهِ خِلْعَةٌ-أي جودة- سَنِيَّةٌ عَظِيمَةٌ مَعَ اتِّخَاذِ اللَّهِ إِيَّاهُ خَلِيلًا، وَجَعْلِهِ لِلنَّاسِ إِمَامًا أَنْ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا وَهُوَ مِنْ سُلَالَتِهِ، فَجَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُلَالَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إسحاق بن إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَقَامَ فِي مَلَئِهِمْ مُبَشِّرًا بِالنَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بن إبراهيم عليهما السَّلَامُ، وَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ سواه، عليه أفضل الصلاة والسلام اهـ.
ما أعظم بركة عِلْمِ هذا الإمام في أسطر يسيرة يذكر أنه لا يُوجَدْ نَبِيٌّ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا وَهُوَ مِنْ سُلَالَتِهِ أخذا من الآية الكريمة .
وأن نبينا محمد مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بن إبراهيم عليهما السَّلَامُ، وَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ سواه، عليه أفضل الصلاة والسلام .
(إن الله تعالى قال لهم ما معناه : (سأقيم لكم من أولاد أخيكم نبياً كلكم يسمع له ، و أجعله عظيماً جداً ).
من أولاد أخيكم يعني إسماعيل ـ عليه السلام ـ (نبياً) وهو نبينا محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
وهذا من الإسرائيليات التي لايعتمد عليها .
وقد ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ (أن ماجاءنا من الأخبار المتقدمة ماكان في شرعنا تصديقه نقبله ، وما كان في شرعنا تكذيبه نرده ، وما كان مسكوتاً عنه لا من هذا ولا من هذا نتوقف فيه) أو نحو هذا ذكره في كتابه مقدمة في أصول التفسير.
*************************
و لم يولد من بني إسماعيل أعظم من محمد صلى الله عليه و سلم ، بل لم يولد من بني آدم أحد و لا يولد إلى قيام الساعة أعظم منه صلى الله عليه و سلم ، فقد صح أنه قال : " أنا سيد ولد آدم و لا فخر ، آدم فمن دونه من الأنبياء تحت لوائي " و صح عنه أنه قال : " سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم "..
و هذا هو المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ، و هو الشفاعة العظمى التي يشفع في الخلائق كلهم ، ليريحهم الله بالفضل بينهم من مقام المحشر ، كما جاء مفسراً في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه و سلم .
و أمه صلى الله عليه و سلم : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة .
*******************************
(فقد صح أنه قال : " أنا سيد ولد آدم و لا فخر ، آدم فمن دونه من الأنبياء تحت لوائي ") الحديث في صحيح الجامع للشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ (1468).
وفيه دليل على فضل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على غيره من الأنبياء وغيرهم .
(و صح عنه أنه قال : (سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم ) وهذا قطعة من حديث عند الإمام مسلم (820) عن أُبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ
(و هذا هو المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ، و هو الشفاعة العظمى التي يشفع في الخلائق كلهم ، ليريحهم الله بالفصل بينهم من مقام المحشر ، كما جاء مفسراً في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه و سلم) .
وهذا أي المقام في قوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم) .
وإليه الإشارة في قوله تعالى :{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا }[الإسراء:79]
المقام المحمود الذي يحمده عليه جميع الخلائق ما هو؟
هو الشفاعة العظمى فإن الناس في عرصات يوم القيامة تدنو الشمس من رؤوسهم ، ويقفون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فيبلغ بهم من الهم والكرب مالا يحتملون ولا يطيقون فيتشاورون فيقول بعضهم لبعض : ألا ترون من يشفع لنا ؟ ألا ترون ما قد حلَّ بنا ؟ فينتقلون من نبي إلى نبي ، وكل منهم يحيل الشفاعة إلى الآخر حتى تصل إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ - أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى - ") والحديث متفق عليه عن أبي هريرة.
و الشفاعة العظمى لا ينكرها أحد من الأمة الإسلامية ؛ لأنها لفصل القضاء هذا باتفاق بين أهل القبلة ثبوت الشفاعة العظمى.
(و أمه صلى الله عليه و سلم : آمنة) هذه أُمُّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
(بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة) ونسبها يلتقي مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في كلاب بن مرة وهو الجد الخامس.
وقد ماتت أم النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على الكفر ثبت في صحيح مسلم (976)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» .
بهذا نكون انتهينا من هذا الفصل ولله الحمد.
واستفدنا عدة مسائل نلخص ما تيسر من باب التيسير.
الأول: أن نسب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى عدنان لا خلاف فيه وما فوق عدنان هذا مختلف فيه .
الثاني: أنه لاخلاف بين أهل النسب وغيرهم أن عدنان من ولد إسماعيل الذبيح.
الثالث: أن الذبيح هو إسماعيل ـ عليه السلام ـ على الصحيح.
الرابع: وجود الاختلاف فيما فوق عدنان في أمرين العدد والأسماء .
الخامس:أنه جاء أن أول من خط بالقلم إدريس ولا يصح هذا فالله أعلم مَن أول مَن خط بالقلم .
السادس:أنه تناقلت الكتب خبر أن شيث وإدريس كانا قبل نوح نبي الله والتنبيه على هذا .
السابع: أن جميع قبائل العرب تجتمع مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في عدنان.
الثامن: معنى قول الله عز وجل {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } وفسره ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إلا أن تودوني بسبب قرابتي منكم.
التاسع: أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أفضل قريش وأفضل بني هاشم نسباً .
العاشر:أنه يجتمع نسب بني إسرائيل وأنبيائهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في إبراهيم الخليل .
الحادي عشر: بيان المقام المحمود وأنه الشفاعة العظمى.
الأخير: أُمُّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ آمنة ، وتلتقي في نسبها مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في كلاب بن مرة وأنها ماتت على الكفر.
والحمد لله ونسأل الله أن ينفعنا جميعاً وأن يحفظ لنا ديننا.










آخر تعديل أم سمية الأثرية 2016-01-10 في 08:22.
رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 21:48   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

الدرس الثالث من (الفصول في سيرة الرسول) 1من شهر صفر 1437.

بسم الله الرحمن الرحيم
مذاكرة:
نذكِّر أنفسنا وأخواتنا بالصبر والاحتساب فبالاحتساب يحصل الأجروتُنالُ الجنة ، وقد رغب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في حضور حلقات العلم كما في صحيح مسلم (2699)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (... وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ) .
وروى البخاري (6408) ومسلم (2689) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال الحديث في فضل مجالس الذكر- والعلم النافع من جملة الذكر-وفي آخره أنَّ اللهَ عزوجل يقول :قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا ، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا . قَالَ : فَيَقُولُونَ : رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ . فَيَقُولُ : وَلَهُ غَفَرْتُ ، هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ) .
هذا دليلٌ على أن حلقات العلم كفارة للذنوب ، يأتي إلى حَلقات العلم وهو يحمل الذنوب ويخرج بإذن الله وقد زالت عنه ومُحِيت، فهذا فيه ترغيب للنفوس ، وشحذ الهمم في حضور حلقات العلم ، والصبر وقد قال الله عز وجل :{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ }[السجدة:24] .
فنتواصى جميعاً بالصبر والاحتساب وبالفرح بهذا الفضل العظيم قال الله عز وجل :{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس:58] حينما يخرج من حلقة العلم مغفوراً له قد محِيت ذنوبُه.
وعلينا بالالتزام بالسكينة والخشوع ، فحلقة العلم من آدابها الاتصاف بهذين الأدبين وبهذين الخُلُقين.
*الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ينص في تفسيره أنه لم يولد نبي من نسل إسماعيل إلا نبينا محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وفي هذا يقول الله عز وجل :{ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ }[يس:6] .
قوماً أي العرب.
*النسب لا ينفع (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) لأن الشيعة منهم من يتكل على نسبه ، يقولون نحن من آل البيت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سيشفع لنا (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ).
وأخرج ابن أبي عاصم في السنة عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وحَيْثُ كَانُوا. اللَّهُمَّ إِنِّي لا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ وايم والله لَتُكْفَأَنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا تكفأن الإناء في البطحاء". والحديث صحيح .
وأدلة في القرآن أيضاً تدل أن القرب من الأنبياء ومن أهل الفضل لا ينفع مثل : ولد نبي الله نوح عليه السلام، ومثل امرأة نوح ، وامرأة لوط حكم الله عز وجل بكفرهم وهم قريبون من الأنبياء الذين هم ذُروة الخلق . والله أعلم.
************************
فصل ـ ولادته و رضاعه و نشأته
ولد صلى الله عليه و سلم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول ، و قيل : ثامنه ، و قيل عاشره ، و قيل لثنتي عشرة منه ، وقال الزبير بن بكار : ولد في رمضان ، و هو شاذ ، حكاه السهيلي في روضه .
و ذلك عام الفيل ، بعده بخمسين يوماً ، و قيل بثمانية و خمسين يوماً ، و قيل بعده بعشر سنين ، و قيل : بعد الفيل بثلاثين عاماً ، وقيل : بأربعين عاماً ، و الصحيح أنه ولد عام الفيل ، و قد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري ، و خليفة بن خياط و غيرهما إجماعاً .
************************
(ولد في رمضان ، و هو شاذ)أي مخالف للصواب فلا يُلتفتُ إليه.
(شيخ البخاري ، و خليفة بن خياط و غيرهما إجماعاً) في بعض نُسخِ الفصول (وغيرها )بإسقاط الميم وهو خطأ .
فالضمير يعود إلى اثنين وهما الحزامي وخليفة والميم دال على التثنية والألف للعماد .
نحن الآن في ولادة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ورضاعه ونشأته في صِغَرِهِ وقبلَ المبْعَث .
وهذه عدةُ مسائل
الأولى: بيان أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد يوم الاثنين ،وهو ثابت في صحيح مسلم (1162 ) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وفيه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ...)الحديث.
قال ابن كثير في البداية والنهاية(2/ 320): وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ وُلِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
وَأَبْعَدَ بَلْ أَخْطَأَ مَنْ قَالَ وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَقَلُهُ الْحَافِظُ ابْنُ دحية فيما قرأه في كتاب أعلام الروي بأعلام الهدى لبعض الشيعة.
ثم شَرَعَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي تَضْعِيفِهِ وَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّضْعِيفِ إِذْ هُوَ خِلَافُ النَّصِّ.
الثانية: أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد في شهر ربيع الأول وهذا هو المشهور والصحيح عند أهل العلم.
الثالثة: أنه اختلف في كم يوم كان قد مضى من شهر ربيع الأول قال ـ رحمه الله تعالى ـ : لليلتين خلتا من ربيع الأول ) هذا القول الأول (خلتا) أي : مضتا.
القول الثاني : لثمان خلين .القول الثالث: لعشر خلين، والرابع : لثنتي عشرة خلين . فالعلماء اختلفوا في تحديد اليوم .
والذين يحتفلون بالمولد النبوي يبنون على خيال ؛ لأنه غير مؤكَّد في تعيين اليوم عند أهل السير.
وأهل العلم على أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة ما أنزل الله به من سلطان لما في البخاري (2550) و مسلم(1718 ) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ .
وقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ) وكل لفظ من ألفاظ العموم ، ولو كان هذا خيراً لسبقنا إليه الصحابة والتابعون فإنهم أهل السبق والفضل والله أعلم.
الرابعة: بيان أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد عام الفيل، وقد ثبت في مستدرك الحاكم ـ رحمه الله ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد عام الفيل ).
فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كانت ولادته في عام الفيل ، وهذه أقوال أخرى ولكنها ليست صحيحة ، ولهذا حُكي إجماعاً أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد عام الفيل.
وليس كلُ خلافٍ جاء معتبَراً إلاَّ خِلاف له حظ من النظر
************************
و مات أبوه و هو حمل ، و قيل بعد ولادته بأشهر ، و قيل بسنة ، و قيل بسنتين ، والمشهور الأول ، و استُرضع له في بني سعد ، فأرضعته حليمة السعدية كما روينا ذلك بإسناد صحيح ، و أقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين ،
و شُقَّ عن فؤاده هناك ، فردتْه إلى أمه ، فخرجَت به أمه إلى المدينة تزورُ أخوالَه بالمدينة ، فتوفيت بالأبواء ، وهي راجعة إلى مكة و له من العمر ست سنين و ثلاثة أشهر و عشرة أيام ، وقيل : بل أربع سنين ، وقد روى مسلم في صحيحه "أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما مر بالأبواء و هو ذاهب إلى مكة عام الفتح استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له ، فبكى وأبكى من حوله و كان معه ألف مقنَّع [ يعني بالحديد ] " .
************************
(و مات أبوه و هو حمل ) هذه مسألة في وفاة والد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو عبدالله ، ونص الحافظ ابن كثيرٍ هنا أن المشهور أنه توفى و النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حَمْلٌ في بطن أمه .
(فأرضعته حليمة السعدية كما رُوِّينا ذلك بإسناد صحيح )
أمهات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الرضاعة
حليمة السعدية .
وثويبة ففي صحيح البخاري(5101)وصحيح مسلم (1449) عن أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: «أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ» ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ ذَلِكِ لاَ يَحِلُّ لِي» . قُلْتُ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ؟ قَالَ: «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ» ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ».
وثويبة أرضعت حمزة أيضاً عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(و أقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين ) أي : عند حليمة السعدية.
(و شُق عن فؤاده هناك ) شق فؤاد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو صغير ثابت في صحيح مسلم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لَأَمَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ ، فَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ ، قَالَ أَنَسٌ : وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ ".
(ثُمَّ لَأَمَهُ ) أي جمع بعضه إلى بعض ،( ظِئْرَهُ) أي مرضعته ، (مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ ) أي متغير اللون ،( وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ) المخيط الإبرة، (هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ) أي لو استمر معك.
(فردته إلى أمه ) حليمة السعدية ردت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى أمه آمنة.
( فخرجت به أمه إلى المدينة تزور أخواله بالمدينة ، فتوفيت بالأبواء ، وهي راجعة إلى مكة ) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في زاد المعاد (1/75) : وَلَا خِلَافَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ " بِالْأَبْوَاءِ " مُنْصَرَفَهَا مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ زِيَارَةِ أَخْوَالِهِ.
وقد ذكر الحافظ ابنُ كثير الدليلَ على ذلك .
(و له من العمر ست سنين و ثلاثة أشهر و عشرة أيام ، وقيل : بل أربع سنين ) الله أعلم بهذا .
************************
فلما ماتت أمه حضنته أمُّ أيمن و هي مولاته ، ورِثَها من أبيه .
************************
(فلما ماتت أمه حضنته أم أيمن و هي مولاته ) أم أيمن ـ رضي الله عنها ـ اسمها بركة الحبشية من الصحابيات الفاضلات ومن المهاجرات ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لها بمنزلة الولد حتى إنها ربما كانت تصيح عليه وتغضب كما في صحيح مسلم (2453) عَنْ أَنَسٍ قَالَ (انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَنَاوَلَتْهُ إِنَاءً فِيهِ شَرَابٌ قَالَ فَلَا أَدْرِي أَصَادَفَتْهُ صَائِمًا أَوْ لَمْ يُرِدْهُ فَجَعَلَتْ تَصْخَبُ عَلَيْهِ وَتَذَمَّرُ عَلَيْهِ) .
وأما ما جاء أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : (أم أيمن أمي بعد أمي ) فهذا حديث معضل رواه سليمان بن أبي شيخ معضلاً .
وضعف الحديثَ العلامة الألباني رحمه الله في الضعيفة(7059) .
أم أيمن بقيت بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقد ثبت في صحيح مسلم (2454) عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : " انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ ، نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ ، فَقَالَا لَهَا : مَا يُبْكِيكِ ؟ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا " (فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ) أي حملتهما على البكاء .
وفيه البكاء على فراق الخير وفراق الصالحين والحزن لذلك.
وقد جاء في صحيح مسلم قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : (...ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ ). ولكن ظاهره الإرسال فابن شهاب لم يدرك ذلك الزمن والله تعالى أعلم .
حواضن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أمه آمنة فهي تُعدُّ من حواضنه ، وأمُّ أيمن ،وحليمة السعدية، وثويبة، وجدامة الشيماء
فإنها كانت تساعد أمها حليمة في حضانته، راجعي زاد المعاد (1/ 82 )والله تعالى أعلم .
أشهر حواضن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أم أيمن ـ رضي الله عنها - بعد أمِّه .
(وهي مولاته ) الولاء هنا بمعنى ولاء عِتق .
والموالي على ثلاثة أقسام :
الأول : مولى عتق . مملوك يُعتَق،هذا المملوك يكون مولى لمن أعتقه .
يُقال فلان القرشي مولاهم،فلانٌ الطائي مولاهم، الجهني مولاهم، فلانٌ الدمشقي مولاهم ،مولى فلان ،نسبة ولاء عتاقة ، أي أنه ليس من صلبهم ولكنه كان عبداً فأعتقه قريش أو الطائيون وهكذا .
الثاني: مولى إسلام وهو أن يسلم على يد شخص فيكون مولى للذي أسلم على يديه .
ومن أمثلته الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ يقال عنه مولى الجُعْفيين يقولون بعض أجداده أسلم على يد بعض الجُعفيين .
فمثلاً: نصرانيٌّ أسلم على يد شيخ فهذا الذي كان نصرانياً يكون مولى لهذا الشيخ .
ومولى إسلام: يكون من حيث المعرفة والمِنَّة ولا يترتب عليه أحكام .
الثالث: مولى حلف .ومن أمثلته الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي ويُقال له مولى التيميين ،وهو حميري أصبحي صليبةً، ولكن كان جده مالك بن أبي عامر حليفاً لهم كما في مختصر علوم الحديث .
الحِلْف : التعاقد على التناصر والتعاون والأخوَّة ، وكان هذا مما يتعاقد عليه أهل الجاهلية فأبطل الإسلام الباطل منه ، وأقر الحق والعدل الذي فيه كما قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ (لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ , وَأَيُّمَا حَلِفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إِلا شِدَّةً ).
وللحِلْف أسباب منها ضعف الشخص فيحالف قبيلة للتعاون معه .
هذه ثلاثة يذكرها أهل العلم.
و الأغلب في الموالي، كما يقول أهل الحديث أنه إذا قيل مولى يقصد به مولى عتق غالباً.
وكما أن هذ هو الغالب فأيضاً في مقدمة ابن الصلاح 400 يقول: وَأَهَمُّ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْمَوَالِي الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْقَبَائِلِ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي الْمَنْسُوبِ إِلَى قَبِيلَةٍ - كَمَا إِذَا قِيلَ: " فُلَانٌ الْقُرَشِيُّ " أَنَّهُ مِنْهُمْ صَلِيبَةً، فَإِذًاً بَيَانُ مَنْ قِيلَ فِيهِ " قُرَشِيٌّ " مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ مَوْلًى لَهُمْ مُهِمٌّ اهـ.
فقد يُتوهم أنه منهم صليبة إذا قيل فلانٌ القرشي يتبادر إلى الذهن أنه قرشي من أولاد قريش لأن هذا هو الأصل فإذا قيل : القرشي مولاهم حصل التمييز وزال الالتباس.
ولأهمية معرفة الموالي فأهل المصطلح يعقدون له باباً في كتبهم .
وكما أنه قد يُطلق مولى على الأسفل يقال مولى القرشيين .
كذلك قد يطلق على الأعلى وهو السيد يقال: فلانٌ مولى فلان ، أي فلان سيد فلان .
فهو يُطلق على المعتِق وعلى المعتَق .
(ورثها من أبيه) هوعبدالله .
هكذا ذكروا أنه ورثها من أبيه ، ولما كبر أعتقها وزوَّجها زيدَ بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ فأم أيمن ـ رضي الله عنها ـ أم أسامة بن زيد بن حارثة ـ رضي الله عنهما ـ حِب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وابن حِبه.
**************************
وكفله جدُّه عبد المطلب فلما بلغ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم من العمر ثماني سنين توفي جده ، وأوصى به إلى عمه أبي طالب ، لأنه كان شقيقَ عبدالله فكفله ، وحاطه أتم حياطة ، ونصره حين بعثه الله أعزَّ نصر ، مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات ، فخفَّف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك .
*************************
(وأوصى به إلى عمه أبي طالب) أبوطالب المشهور في اسمه أنه عبد مناف .
فجده عبدالمطلب كفله بعد موت أبيه ثم كفله عمه أبوطالب .
(لأنه كان شقيقَ عبدالله) أخ لأبيه وأمه .
(وحاطه أتم حياطة ، ونصره حين بعثه الله أعز نصر ، مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات ، فخفف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك ) . يشير إلى ما أخرجه البخاري(3883)ومسلم (209) عن العباس بن عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ». ».
الهداية بيد الله ، هذا أبو طالب كان محباً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ غايةَ المحبة وشفيقاً عليه، ولم ينفعه القرب من النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولا قربه من الخير والوحي ، مات على شركه .
ومن الحِكم التي ذكروها في عدم إسلام أبي طالب أن أبا طالب لو أسلم لما كان للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حصانة وحماية ، وقد كان أبو طالب مُبجَّلاً في قومه ولو أسلم لزال ذلك .والله أعلم .
استفدنا أن الهداية بيد الله نسأل الله أن يهدينا ويهدي أولادنا لكل خير .
النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يدعو أبا طالب حينما كان محتضراً أخرج البخاري(3884) عن ابْنِ المُسَيِّبِ وهوسعيد، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ:«أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» في أشد الشفقة على عمه أبي طالب .وفيه نزل قوله تعالى {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
ومن شدة شفقة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ» فَنَزَلَتْ الآية في النهي عن الاستغفار للمشركين {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [التوبة: 113] .
إذن لا يلتفت إلى من يقول بإسلام أبي طالب فلنكن على بصيرة ونور .
************************
و خرج به عمُّه إلى الشام في تجارةٍ و هو ابنُ ثنتي عشرة سنةً ، و ذلك من تمام لطفِه به ، لعدم من يقومُ إذا تركه بمكة ، فرأى هو وأصحابُه ممن خرج معه إلى الشام من الآيات فيه صلى الله عليه و سلم ما زاد عمه في الوصاة به
والحرص عليه ، كما رواه الترمذي في جامعه بإسناد رجاله كلهم ثقات ، من تظليل الغمامة له و ميل الشجرة بظلها عليه ،و تبشير بحيرا الراهب به ، و أمْرُه لعمه بالرجوع به لئلا يراه اليهودُ فيرمونه سوءاً ، والحديث له أصل محفوظ و فيه زيادات أخر .
************************
(و خرج به عمه) عمه أبو طالب .
(و ذلك من تمام لطفه به ) أي لطف أبي طالب (به) أي بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
(كما رواه الترمذي في جامعه بإسناد رجاله كلهم ثقات)الحديث عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ في سنن الترمذي (3620) وفيه أنهم كانوا من مَرَّ ببحيرا الراهب وهو نصراني ما كان يلتفت إلى من يمر به، فلما خرجوا مرة ومعهم النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ، ونزلوا بجور بحيرا الراهب جاء إليهم ، وجعل ينظر إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فشهد للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالنبوة.
ومن الآيات التي شاهدوها تظليل الغمام على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو يمشي وإذا جلس مالت الشجرة بظلها والحديث في الصحيح المسند من دلائل النبوة للوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ إلا أنه فيه بعض الزيادات فيها كلام ، وإليها يشير ابن كثيرـ رحمه الله ـ بقوله (و فيه زيادات أخر).
وذلك أنه في آخر الحديث أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ بعث مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بلالا. وبلال لم يكن قد اشتراه أبوبكر ـ رضي الله عنه ـ ، وهذه الزيادة منكرة تكلم عليها أهل العلم ومنهم ابن حجر .
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة ترجمة بحيرا :سبب نكارتها أن أبا بكر حينئذ لم يكن متأهّلا، ولا اشترى يومئذ بلالا. إلا أن يحمل على أن هذه الجملة الأخيرة مقتطعة من حديث آخر أدرجت في هذا الحديث وفي الجملة هي وهم من أحد رواته.
وأما الإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه في سير أعلام النبلاء(1/ 58)ضعَّف الحديث من أصله وقال في بداية كلامه : وهو حديث منكر جدا؛ وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف؛ وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد ...
والله تعالى أعلم.
(بحيرا الراهب) كان نصرانياً وكان يعرفُ من كتبهم أن هناك نبياً سيبعث ففي حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ ما يدل على أنه كان مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
قال الحافظ في الإصابة : بحيرا الراهب
ذكره ابن مندة، وتبعه أبو نعيم (واسم كتابيهما معرفة الصحابة)، وقصته معروفة في المغازي، وما أدري أدرك البعثة أم لا؟ اهـ.
وهل تثبتُ صُحبته لكونه كان مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل بِعْثَتِهِ؟.
الحافظ يقول في مقدمة الإصابة في تعريف الصحابي : وأصحّ ما وقفت عليه: أن الصحابي من لقي النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا به، ومات على الإسلام .
ثم ذكر فوائد قيود هذا التعريف .
ثم قال : وقولنا: «به» يخرج من لقيه مؤمنا بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة. وهل يدخل من لقيه منهم وآمن بأنه سيبعث أو لا يدخل؟ محلّ احتمال. ومن هؤلاء بحيرا الراهب ونظراؤه.
وجزم الحافظ في ترجمة بَحِيرا الراهب أنه لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل أن يُبعث .
ولا يرِدُ ذِكرُ الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ له في كتابه( الإصابة في معرفة الصحابة ) وهو ليس بصحابي لأنه ذكر أربعة أقسام في كتابه الإصابة كما نصَّ عليه في المقدمة:
القسم الأول: الصحابة الذين جاء ما يدل على صحبتهم .
القسم الثاني : صغار الصحابة ممن مات صلّى اللَّه عليه وسلم وهو في دون سن التمييز .
قال : أحاديث هؤلاء عنه من قبيل المراسيل عند المحققين من أهل العلم بالحديث، ولذلك أفردتهم عن أهل القسم الأول .
القسم الثالث :المخضرمون .
قال :وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، ولا رأوه، سواء أسلموا في حياته أم لا، وهؤلاء ليسوا أصحابه باتفاق من أهل العلم بالحديث.
القسم الرابع: فيمن ذكر في الكتب المذكورة على سبيل الوَهَم والغلَط .
****************************
ثم خرج ثانياً إلى الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها مع غلامها ميسرة على سبيل القِرَاض ، فرأى ميسرةُ ما بهرَه من شأنه ، فرجع فأخبر سيدتَه بما رأى ، فرغبت إليه أن يتزوجها ، لِمَا رجت في ذلك من الخير الذي جمعه الله لها ، و فوق ما يخطر ببال بشر ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم و له خمس وعشرون سنة .
*****************************
(سيدته) خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ
وهذه رحلة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى الشام. الرحلة الأولى كانت مع عمه أبي طالب ، والرحلة الثانية خرج متاجراً في مال خديجة ـ رضي الله عنها ـ .
فإن خديجة ـ رضي الله عنها ـ كانت ثرية وتستأجر من يعمل لها في مالها. وكان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يعمل لها في مالها على سبيل القِراض.
القِراض: أن يدفع رجلٌ المال إلى رجل آخر يعمل فيه على نسبة معينة إما الربع ، أو الثلث ، أو النصف وما أشبه ذلك. والقراض يقال له المضاربة في كتب الفقه.
قال النووي في (تحرير ألفاظ التنبيه) :الْقِراض بكسرالْقَاف مُشْتَقّ من الْقَرْض وَهُوَ الْقطع سمي بذلك لِأَن الْمَالِك قطع لِلْعَامِلِ قِطْعَة من مَاله يتَصَرَّف فِيهَا وَقطعَة من الرِّبْح وَسمي الْقَرَاض مُضَارَبَة لِأَن الْعَامِل يضْرب فِي الأَرْض للاتجار يُقَال ضرب فِي الأَرْض أَي سَافر قَالَ الْأَزْهَرِي أهل الْحجاز يسمونه قراضا وَالْعراق مُضَارَبَة .
(ميسرة) غلام خديجة ـ رضي الله عنها ـ وكان مرافقاً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في التجارة.
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في الإصابة (لم أرَ رواية صريحة بأنه بقي للبعثة فكتبته على الاحتمال) .
(فرغبتْ إليه أن يتزوجها ، لِما رجتْ في ذلك من الخير الذي جمعه الله لها ، و فوق ما يخطر ببال بشر ، فتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه و سلم و له خمس وعشرون سنة ) .
وكانت خديجة ـ رضي الله عنها ـ في سن الأربعين ، والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ابن خمس وعشرين ، فهي أكبر منه بخمسة عشر عاماً.
وفي هذا دليل على أنه لا يلزم التكافؤ في السن.
وتزوج النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعائشة ـ رضي الله عنها ـ وهو فوق الأربعين ، وعقد عليها وهي ابنة ست ، وبنى عليها وهي ابنة تسع سنين .
ولا بأس بمراعاة المكافأة في السن وذلك لما رواه النسائي ـ رحمه الله تعالى ـ (3221 ) عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ أن أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ خطبا فاطمة ـ رضي الله عنها ـ فقال إنها صغيرة ثم خطبها على ـ رضي الله عنه ـ فتزوجها. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاطِمَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهَا صَغِيرَةٌ فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ.
وقصة خديجة ـ رضي الله عنها ـ تدل على عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح.
وقد ثبت في صحيح البخاري (5120) من طريق ثابتٍ البُناني عن أنس بن مالك جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ بِي حَاجَةٌ، فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَا سَوْأَتَاهْ وَا سَوْأَتَاهْ ، قَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا .
(وَا سَوْأَتَاهْ ) السوأة: الفضيحة.
فللمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح ، ولكن لابُدَّ من الحكْمة ومراعاة للأولياء.
وفي الكلام هنا أن سبب رغبة خديجة ـ رضي الله عنها ـ أم المؤمنين في الزواج من النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما رأت من أخلاقه الحميدة، في الأمانة ، والصدق ، والنصح ، ولهذا عرضت الزواج على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
ولم يتزوج عليها إكراماً لها حتى ماتت رضي الله عنها .
وقد كانت نعم العون للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعد زواجه بها فحينما نزل عليه الوحي كما في صحيح البخاري (2) وصحيح مسلم(160) في نزول الوحي (فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) الحديث
وهذا من صفات المرأة الصالحة أنها تكون معينة لزوجها، ومؤانسة له، ومسلِّية عليه . والله أعلم.
************************
و كان الله سبحانه قد صانه و حماه من صِغره ، و طهَّره من دنَس الجاهلية و من كل عيب ، و منحَه كل خلق جميل حتى لم يكن يُعرَفُ بين قومه إلا بالأمين ، لِمَا شاهدوا من طهارته و صدقِ حديثه و أمانتِه ، حتى إنَّه لما بنت قريش الكعبة في سنة خمس و ثلاثين من عمره فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه ، فقالت كل قبيلة : نحن نضعها ، ثم اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم ، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : جاء الأمين ، فرضوا به ، فأمر بثوب ، فوضع الحجر في وسطه ، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ، ثم أخذا الحجر فوضعه موضعه صلى الله عليه وسلم .
************************
(إشتجروا) أي تخاصموا.
(وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ) من أجل أن يكون الجميع حمله (كل قبيلة) المراد به هنا بعض أي من كل قبيلة يقوم بعضهم يحمله.
الحديث هو في مسند أحمد (24/ 262)من طريق مُجَاهِدٍ، عَنْ مَوْلَاهُ وهو السائب بن عبد الله أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: وَلِي حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ بِيَدَيَّ أَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَأَجِيءُ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ الَّذِي أَنْفَسُهُ عَلَى نَفْسِي، فَأَصُبُّهُ عَلَيْهِ، فَيَجِيءُ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ فَيَبُولُ فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ، وَمَا يَرَى الْحَجَرَ أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطَ حِجَارَتِنَا مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ يَكَادُ يَتَرَاءَى مِنْهُ، وَجْهُ الرَّجُلِ فَقَالَ: بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ: آخَرُونَ نَحْنُ نَضَعُهُ، فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا، قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ، " فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ، فَوَضَعَهُ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
وذكره الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيح السيرة 45 .
الشاهد من ذكْرِه أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان في حماية وصيانة من صغره عن خصال الجاهلية ، وصفاتهم الرذيلة ، وأفعالهم المنكرة ، كعبادة الأصنام وشرب الخمر، والزنى ، والأخلاق الذميمة، مثل: نهب الأموال ، والسرقة ، والكذب ، وقد كانت هذه منتشرة في الجاهلية ، وصان الله سبحانه نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن ذلك ، حتى إنهم كانوا يلقبون النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالصادق الأمين ، ولما نادى قريشاً فجاءوا فقال لو أخبرتكم بشيء أكنتم مصدقي، فقالوا : ما جربنا عليك كذبا ) شهدوا له بالصدق ، فقال : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}. أخرجه البخاري(4770) ومسلم (208)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
ومن صيانة الله له ما أخرج البخاري(364 ) ومسلم (340) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ» ، فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الحِجَارَةِ، قَالَ: «فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث :وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ بَعْضِ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَصُونًا مَحْمِيًّا فِي صِغَرِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ وَأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وأما ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى{ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى:7] فهذا ليس من الضلال الذي هو ضد الهدى ، وهكذا قوله تعالى { وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:7] ولكن المراد أنه كان غافلاً عن تفاصيل الحق والهدى ، كما يقول المفسرون والله تعالى أعلم.
وهذه القصة المذكورة في بناء قريش الكعبة ، فإنها كانت هُدمت هدمها السيل فقاموا وبنوها ، ولكنهم لما وصلوا إلى حمل الحجر الأسود اختلفوا حتى كادوا أن يقتتلوا من يحمله ، فقال واحد منهم : نحكِّم أوَّل داخل فإذا بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، وحكَم بهذا ، وانتهوا وانقطع الخلاف الذي كان قد حصل بينهم.

نكون انتهينا من هذا الفصل ولله الحمد.










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 21:49   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

الدرس الرابع من/الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم /11من شهر صفر 1437.

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ
فصل ـ مبعثُه صلى الله عليه وسلم
و لمَّا أراد الله تعالى رحمةَ العباد ، وكرامتَه بإرساله إلى العالمين ، حَبَّب إليه الخلاء ، فكان يتحنَّث في غار حراء ، كما كان يصنع ذلك متعبدو ذلك الزمان ، كما قال أبو طالب في قصيدته المشهورة اللامية :
و ثورِ و مَن أرسَى ثبيراً مكانه
وراقٍ لبرٍ في حراءٍ و نازل
*******************************
(حَبب إليه الخلاء ) أي: الله سبحانه وتعالى حَبَّب إليه.
و (الخلاء) أي: الانفراد.
(فكان يتحنث في غار حراء ) التحنث: التعبد .
وهذا قِطعة من حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه.
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم : أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ
هذا الفصل في شهر المبعث ، وأوِّل البِعثة ، وبيان أن الله عز وجل أرسل هذا النبي الكريم رحمة للعباد وكرامة له صلى الله عليه وسلم، فإن الناس قد كانوا في جاهلية جهلاء وفي شر وبلاء، كما ثبت في صحيح مسلم (2865) من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ ـ رضي الله عنه ـ وفيه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) .
مقتهم أي: أبغضهم الله لشدة فجورهم ، وانتشار الشركيات فيهم ، والفواحش ، والقتل ، و القتال ، والظلم والجهل المُطبِق فأرسلَ الله عز وجل هذا النبي الكريم رحمة للعباد ،كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].
وقبل أن يوحى إليه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حُبِّب إليه الخلاء فكان يتعبد لله عز وجل فيه، و في ذلك أثنى عمُّه أبو طالب بقوله:
و ثورٍ و مَن أرسى ثبيراً مكانه
وراقٍ لبِرٍّ في حِراء و نازل
(ثور، و ثبير، و حراء) جبال من جبال مكة.
(ومَن أرسى) أي: أثبت كقوله تعالى (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)[النازعات:32]. أي: أثبتها.
(ومَن أرسى) من : اسم موصول بمعنى الذي أي: الله عز وجل.
(وراقٍ) أي: صاعِد.
( لِبِرِّ ) البر: ضدُّ الإثم.
ويذكرون لأبي طالب لاميَّة في الثناء على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـومناصرته له ، وقد ذكرها ابنُ إسحاق ـ رحمه الله تعالى ـ فيما ذكره ابنُ هِشامٍ في السيرة بطولها بدون إسناد (1/245) .فالله أعلم .

*******************************
(ففجأه الحقُّ و هو بغار حراء في رمضان ، و له من العمر أربعون سنة)
*******************************
(ففجأه الحق)
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (3/10)أي جَاءَ بَغْتَةً عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَة من رَبك (1) " الْآيَة.
(و هو بغار حراء في رمضان)
هذا شهر المبعث الشهر الذي بعث فيه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ هو شهر رمضان.
(و له من العمر أربعون سنة)
كان سن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما نزل عليه الوحي أربعين سنة .
قال الشوكاني في فتح القدير-تفسير سورة الأحقاف -: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وهذا هو سنُّ الأشد عند بعض العلماء ، وقد حكى الأقوالَ الشوكاني في فتح القدير-تفسير سورة الأنعام - وانتقدهذا وقال : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْأَشُدِّ فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: بُلُوغُهُ وَإِينَاسُ رُشْدِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الْبُلُوغُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ انتهاء الكهولة، ومنه قول سحيم الرّياحي:
أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّدني مداورة الشّؤون
وَالْأَوْلَى فِي تَحْقِيقِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ: أَنَّهُ الْبُلُوغُ إِلَى سِنِّ التَّكْلِيفِ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بِمَالِهِ سَالِكًا مَسْلَكَ الْعُقَلَاءِ، لَا مَسْلَكَ أَهْلِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:
{وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ } فَجَعَلَ بُلُوغَ النِّكَاحِ، وَهُوَ بُلُوغُ سِنِّ التَّكْلِيفِ مُقَيَّدًا بِإِينَاسِ الرُّشْدِ اهـ
قلت:وهذا ما استفدناه من والدي رحمه الله أن بلوغ الأشُد قد يكون قبل الأربعين .
وكان في يوم الاثنين ، كما في صحيح مسلم (1162) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِإثْنَيْنِ ، قَالَ : ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ) .
قال ابن القيم في زاد المعاد (1/76) :وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَبْعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ .
فيوم الاثنين نزل على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيه الوحي ، نبئ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يوم الاثنين في شهر رمضان ، وعمره أربعون سنة.
****************************
فجاءه الملك فقال له اقرأ ، قال لستُ بقارىء ، فغتَّه حتى بلغ منه الجَهد ، ثم أرسله فقال له : اقرأ ، قال : لست بقارئ ثلاثاً ثم قال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. فرجع بها رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ترجف بوادرُه ، فأخبر بذلك خديجةَ رضي الله تعالى عنها ، و قال : قد خشيت بها على عقلي ، فثبَّتته و قالت : أبشر كلا و الله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، و تصدْق الحديث و تحمل الكلَّ ، و تُعين على نوائب الدهر "...
في أوصاف أخر جميلة عددتها من أخلاقِه صلى الله عليه وسلم و تصديقاً منها له و تثبيتاً وإعانةً على الحق .
فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها و أكرمها .
**************************
(فجاءه الملك فقال له اقرأ ، قال لست بقارئ، فغتَّه)
قال الخليل بن أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ في كتاب (العين): الغَتُ: كالغَطُ في الماء .
وروايةُ الصحيحين (فغطَّني)
قال النووي في شرح صحيح مسلم : أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
(حتى بلغ منه الجَهد)
الجَهد: المشقة.
وفي قوله سُبحانه {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق:3] دليلٌ على أن الذي يعطِي العلم ، ويعين على حفظه هو الله عز وجل ، فالإنسان يقرأ ويتعلم ويسأل ربه (الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ) والله سبحانه يعطيه من واسعِ فضله العظيم {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق:3]
وفي {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4] فضلُ الكتابة .
(فرجع بها رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ترجف بوادرُه)
(ترجُف) أي: تضطرب.
(بوادرُه) قال النووي في شرح هذا الحديث :قال أبوعُبيدة وسائرُ أهل اللغة والغريب : البادرة هي اللحمة بين العنق والمنكب ، تضطرب عن فزع الإنسان.
(الكَلَّ): الثِّقل .
(نوائبُ الدهر) شدائده.
(و قالت : أبشر كلا و الله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحمَ ، و تصدْق الحديث و تحمل الكلَّ ، و تُعين على نوائبِ الدهرِ) يستفاد منه التزكية لمن يستحقه .
وهذا عند الحاجة، وبشرط الأمن على المزكَّى من الإعجاب والغرور،فقد أخرج البخاري(2663 )ومسلم(3001) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ، فَقَالَ: «أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهَرَ الرَّجُلِ» .
وثبت في صحيح مسلم ( 3002) من طريق هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ).
أما للحاجة ومع الأمن فلا بأس حتى لا نعين الشيطانَ عليه فقد يحمله المدح على الغرور والعجب وهما مَهْلكة.
ومرةً كان واحد من طلاب الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ في ( دار الحديث في دماج ) يلقي نصائح ـ وقد توفي رحمه الله ـ فكان مما قال : تُترَك التزكية ، فلما انتهى من كلامه ، قام الوالد ـ رحمه الله تعالى ـ وعقَّب على كلامه و قال: كيف نترك التزكية لأهل الأهواء ، و لا نزكي إخوانَنا ، وهم يقولون : جاء الشيخ ، خرج الشيخ.
وفي ترجمة الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ التي بقلمه ذكر عدداً من طلابه ، و زكَّاهم للمصلحة ، لمعرفة الطالب والانتفاع منه إذا كان عنده علم ، والمعصوم من عصمه الله ـ نسأل الله أن يثبتنا ولا يفتِنَّا ـ ذكرنا هذا للفائدة والمذاكرة.
موقف أمِّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - يدل على قوة إيمانها وذكائها ورُجحان عقلها حيث قالت: كلا و الله لا يخزيك الله أبداً..) وهذا من مواقف المرأة الصالحة الوقوف مع الزوج بتثبيته وإعانته .
ومن هذا الباب ما جاء في صحيح البخاي (3578) ومسلم (2040)عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَامٍ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ ، فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ : ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا) .
(فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ): أي إنما فعل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ هذا لحكمة.
وهذا فيه معجزة للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ و ضيق حال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وصحابته ، ولو كانت الدنيا مكرمةً لأكرم الله نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وصحابته، لكن الكرامة و الميزان هوالتقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13] .
والشاهد موقف أم سليم الطيب وقوة عقلها وحُسْن تصرفها وذكائها وثباتِها حيث قالت( الله ورسوله أعلم) لمّا قال لها أبوطلحة( يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ ) وقد كانت أقوى من أبي طلحة في هذا.
ولها موقف آخر أبلغ وأوقع في النفس ،من الثبات وقوة الصبر والتجلُّد، وهو ما أخرجه البخاري(5470) ومسلم (2144) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي، قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ العَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا» فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَمَعَهُ شَيْءٌ؟» قَالُوا: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ، فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ .
فقصة خديجة - رضي الله عنها - مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما بشَّرته وآنستْه ، وقصة أم سليم لأبي طلحة عندما (فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) وقصتها الأخرى في وفاة ولدها.
من مجموع ذلك نستفيد فضل المرأة الصالحة ومنزلتها ، وفضل أم سليم وخديجة - رضي الله عنهما - وموقفهُما الحسن.
وفي قصة خديجة ـ رضي الله عنها ـ أيضاً تسليةُ مَن نزل به أمرٍ والتخفيف عنه .
ومن هذا ما في صحيح مسلم (203) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ. فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ).
يستفاد من مجموع الحديثين تسلية من حصل عليه شيء ومؤانسته ورفع معنويته.
وقد استدلَّت خديجةُ ـ رضي الله عنها ـ بهذه الصفات الكريمة التي هي من أشرف الأوصاف على تطمين النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وأنه لا خوفَ عليه ؛ لأن هذه صفات تعودُ على صاحبها بالخير والسلامة.
حديث أنس المذكور (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) وجه تسلية المصاب فيه أن الاشتراك في المصيبة يخُفِّف حرارتها ويُسلي كما قالت الخنساء :
وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
إلى أن قالت
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أَعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِي
قال النووي في شرح صحيح مسلم شرح حديث (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) :هو مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَةِ .
ومن هذا الباب ما في البخاري(290) ومسلم (1211) واللفظ للبخاري عن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ تَقُولُ خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قَالَ: مَا لَكِ أَنُفِسْتِ ، قُلْتُ: نَعَمْ ، قَالَ : إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ قَالَتْ: وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ) .
هذه ثلاثة أدلة في مؤانسة المصاب والتسلية عليه.
قصة خديجة ـ رضي الله عنها ـ في مؤانسته وتذكيره أنه لن يُصيبَهُ سوءٌ لِما له من المحاسن والصفات الحميدة .
وحديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) فيه ذكرالاشتراك في المصيبة.
و حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في التذكير بالإيمان بالقدر (إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ..) .
والتسلية من جُملة الأدب ومن حق المسلم على أخيه المسلم بالتحدث معه بما يسلي عليه ويؤانِسُه ويُثبِّتُه.
وليس بما يُهيِّج الأمر ويزيدُهُ .
(فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها و أكرمها)
(فهي أول) أول من أسلم مطلقاً أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - وهذا من مناقِبها.
*******************************
ثم مكث رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ما شاء اللهُ أن يمكثَ لا يرى شيئاً ، و فتر عنه الوحيُ ، فاغتمَّ لذلك و ذهب مراراً ليتردى من رُؤوس الجبال ، و ذلك من شوقه إلى ما رأى أول مرَّة ، من حلاوة ما شاهده من وحي الله إليه .
فقيل : إن فترة الوحي كانت قريباً من سنتين أو أكثر .
ثم تبدَّى له الملَك بين السماء و الأرض على كرسي ، و ثبَّته ، و بشَّره بأنه رسول الله حقاً ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم فرِق منه و ذهب إلى خديجة و قال : زمِّلوني . دثِّروني . فأنزل الله عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}.
و كانت الحالُ الأولى حالَ نبوةٍ و إيحاء ، ثم أمره الله في هذه الآية أن ينذرَ قومَه و يدعوهم إلى الله ) .
*******************************
(و فتر عنه الوحيُ ، فاغتمَّ لذلك)
فتور الوحي ذكر الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ وغيره أن الحكمة من ذلك ليذهب ما كان ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وجده من الروع ، وللشَّوق إلى العود .
(و ذهب مراراً ليتردى من رؤوس الجبال)
هذه اللفظة هي من بلاغات الزهري ـ رحمه الله تعالى ـ وهي عند البخاري برقم (6982)( وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا بَلَغَنَا، حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ).
قال الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ في فتح الباري : إن القائل ( فيما بلغنا) هو الزهري .
قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في السلسلة الضعيفة (10/ 453) يعني أنه ليس بموصول .
وحكم الشيخ الألباني رحمه الله على المتن بالنكارة ، وأنه قد جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في الحديث المتفق عليه (مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) .
مدة فترة الوحي، يقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ هنا:
(كانت قريباً من سنتين أو أكثر).
(و كانت الحالُ الأولى حالَ نبوة و إيحاء)
الحالة الأولي أي السابقة في نزول صدرِ{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .
(ثم أمره الله في هذه الآية أن ينذر قومَه و يدعوهم إلى الله )
وبهذا يجمع بين الدليلين، عائشة - رضي الله عنها - تقول : أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}[العلق] الخمس الآيات الأولى من سورة العلق. وفي حديث جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ أنه الخمس الآيات من سورة المدثر، فيجمع بينهما أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ نبئ بسورة العلق و أرسل بالمدثر.
*******************************
فشمَّر صلى الله عليه و سلم عن ساقِ التكليف ، وقام في طاعة الله أتمَّ قيام ، يدعو إلى الله سبحانه ، الكبير،والصغير ، و الحر والعبد ، و الرجال و النساء ، و الأسود و الأحمر ، فاستجاب له عبادُ الله من كلِّ قبيلة .
و كان حائزَ سبْقهم أبو بكر رضي الله عنه ، عبد الله بن عثمان التيمي و آزره في دين الله ، ودعا معه إلى الله على بصيرة ، فاستجاب لأبي بكر عثمانُ بنُ عفان ، و طلحةُ ، و سعدُ بن أبي وقاص.
و أما عليٌّ فأسلم صغيراً ابن ثماني سنين ، و قيل : أكثر من ذلك و قيل : كان إسلامه قبل إسلام أبي بكر ، و قيل : لا ، و على كلِ حال ، فإسلامُه ليس كإسلام الصدِّيق ، لأنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذَه من عمِّه إعانةً له على سنة محل .
*******************************
( وكان حائزَ سبْقهم)
أي الذي حازَ السبْقَ.
(فاستجاب لأبي بكر عثمان بن عفان)
في أول البعثة اهتدى على يد أبي بكر رضي الله عنه ـ الذي آزر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصره ـ استجاب له ـ عثمان وطلحة وهو ابن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنهم ـ كلهم من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم .
وآخرُ العشرة المبشرين بالجنة موتاً سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ ، كما أن آخرَ أزواجِ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ موتاً أم سلمة - رضي الله عنها - ، و آخر الصحابة موتاً على الإطلاق أبوالطفيل عامر بن واثلة ـ رضي الله عنه ـ
هذه المسألة في أوَّل مَن أسلم من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ النص جاء أن أول من أسلم خديجة - رضي الله عنها - فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما جاءه الملك وأنزل عليه القرآن رجع يرجف فؤاده ، ثم آمنت بذلك ، وثبتت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فهي أول مَن آمَن مطلقاً وقد نصَّ على ذلك ابن كثير كما تقدَّم عنه حيث قال (فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها و أكرمها) .
وقال رحمه الله في مختَصر علوم الحديث: وادعى الثعلبي المفسر على ذلك الإجماع قال: وإنما الخلاف فيمن أسلم بعدها اهـ.
ويذكر أهلُ المصطلح تفصيلاً : أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر ـ ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي بن أبي طالب ، ومن الموالي زيد بن حارثة ، ومن الأرقاء بلال بن رباح رضي الله عنهم جميعاً .
قوله(و أما علي فأسلم صغيراً ابن ثماني سنين ، و قيل : أكثر من ذلك و قيل : كان إسلامه قبل إسلام أبي بكر ، و قيل : لا ، و على كل حال ، فإسلامه ليس كإسلام الصديق ، لأنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذه من عمه إعانة له على سنة مَحْل .)
يعني كان تابعاً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقد جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم واللفظ للبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ ) بخلاف أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فإنه كان كبيراً وكان عن اقتناع أما الصغير فإنه يكون تابعاً .
(سنة مَحل) أي عام جَدْبٍ قال الجوهري في الصحاح : المَحْلُ: الجَدبُ، وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلاء.
*******************************
وكذلك أسلمت خديجةُ ، وزيد بن حارثة .
وأسلم القس ورقةُ بن نوفل فصدَّق بما وجد من وحي الله ، وتمنَّى أن لو كان جَذعاً ، و ذلك أول ما نزلَ الوحي ، و قد روى الترمذي : "أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رآه في المنام في هيئةٍ حسنة ، و جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( رأيت القس عليه ثياب بيض ) " و في الصحيحين أنه قال : هذا الناموس الذي جاء موسى بن عمران . لما ذهبت خديجةُ به إليه ، فقصَّ عليه رسول الله صلى الله عليه و سلَّم ما رأى من أمر جبريل عليه السلام .
*******************************
( رأيت القس عليه ثياب بيض) في الصحاح (الْقَسُّ): رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَكَذَا الْقِسِّيسُ) اهـ.
ورقة بنُ نوفل صحابي ابن عم خديجة ـ رضي الله عنها ـ
ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب بن مرة ، وخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب بن مرة ، ويلتقيان مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في قُصي ، وهما أقرب إلى قُصي بواحد .
لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو :محمد بنُ عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قُصي بن كلاب ..
ورقة بن نوفل لما جاءت خديجة ـ رضي الله عنها ـ بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إليه وقالت: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ) فأخبره فآمن بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقال: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) .
وهذادليل أن ورقة بن نوفل كان مقرًّا برسالة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وهذا يدل على صحبته.
(جَذَعًا) أي : شاباً قوياً ، من أجل أن يكون عوناً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وناصراً له .
(عُودِيَ) أي أوذي.
(النَّامُوسُ) يقول الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى في فتح الباري شرح هذا الحديث ـ : وَالْمُرَادُ بِالنَّامُوسِ هُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قال :وَقَوْلُهُ " عَلَى مُوسَى " وَلَمْ يَقُلْ عَلَى عِيسَى مَعَ كَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا ; لِأَنَّ كِتَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ ، بِخِلَافِ عِيسَى . وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
أَوْ لِأَنَّ مُوسَى بُعِثَ بِالنِّقْمَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ ، بِخِلَافِ عِيسَى . كَذَلِكَ وَقَعَتِ النِّقْمَةُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَمَنْ مَعَهُ بِبَدْرٍ .
أَوْ قَالَهُ تَحْقِيقًا لِلرِّسَالَةِ ; لِأَنَّ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى مُوسَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، بِخِلَافِ عِيسَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ اهـ.
وقال الحافظ ابنُ كثير في البداية (3/13): ، وَلَمْ يَذْكُرْ-أي ورقة - عِيسَى وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ مُوسَى، لِأَنَّهُ كَانَتْ شَرِيعَتُهُ مُتَمِّمَةً وَمُكَمِّلَةً لِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَسَخَتْ بَعْضَهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ.
كَمَا قَالَ: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50] .
وَقَوْلُ وَرَقَةَ هَذَا كَمَا قَالَتِ الْجِنُّ: (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحقِ إلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف: 30] .اهـ
وهذه فائدةُ في بيان ذكرِ ورقة ومسلمي الجن لرسالة موسى دون عيسى عليهما السلام .
*******************************
و دخل من شرح اللهُ صدرَه للإسلام على نور وبصيرة و معاينة فأخذهم سفهاءُ مكة بالأذى والعقوبة ، و صان الله رسوله و حماه بعمِّه أبي طالب ، لأنه كان شريفاً مطاعاً فيهم ، نبيلاً بينهم ، لا يتجاسرُون على مفاجأته بشيء في أمر محمد صلى الله عليه و سلم لِما يعلمون من محبته له .
و كان من حكمةِ الله بقاؤه على دينهم لِما في ذلك من المصلحة .
وهذا رسول الله يدعو إلى الله ليلاً و نهاراً سرَّاً و جهاراً لا يصده عن ذلك صاد و لا يردُّه عنه راد ، و لا يأخذه في الله لومةُ لائم.
*******************************
(و دخل من شرح الله صدره للإسلام على نور وبصيرة و معاينة فأخذهم سفهاء مكة بالأذى و العقوبة )
وهذا فيه بيان من دخل في الإسلام بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم، وهم من شرح الله صدرهم للإسلام ، وأنهم ابتُلوا بسفهاء مكة بالأذى، والعذاب و أنه لم يصل شيء إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من الأذى بسبب عمه أبي طالب فقد كان ينصره، ويحوطه كما تقدم، ويدفع عنه الأذى، ولمكانة أبي طالب بين قريش ما كانوا يتجرؤون على الأذى.
(لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر محمد صلى الله عليه و سلم لما يعلمون من محبته له)
أي لا يتجرؤون على الاعتداء على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لمكانة أبي طالب في نفوسهم ، ثم أشار إلى الحكمة في بقاء أبي طالب بقوله:
(و كان من حكمة الله بقاؤه على دينهم لما في ذلك من المصلحة)
نعم لمصلحة الإسلام وقد تقدم شيء من هذا.
(وهذا رسول الله يدعو إلى الله ليلاً و نهاراً سراً و جهاراً لا يصده عن ذلك صاد و لا يرده عنه راد ، و لا يأخذه في الله لومةُ لائم)
بسبب حماية عمه أبي طالب له و نصرته له ،وهذا من دفاع الله عن نبيه وحِفظه له فهو الذي قيَّض عمَّه لمحبته ونصرته .
هذا الباب في مبعث النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وبيان حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمَّا فَجِأَهُ الوحي .
وأن شهر المبعث هو شهر رمضان، وكان في غار حراء، وهو ابن أربعين سنة.
وأول ما نزل من القر آن .
وفي بيان أول من أسلم من الصحابة ، فهؤلاء جملةٌ لهم السبْق في الإسلام خديجة ، أبوبكر ، علي ، طلحة ،سعدابنُ أبي وقاص ، ورقة بن نوفل ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ هؤلاء لهم السبق في الإسلام .

نكون انتهينا من هذا الفصل ولله الحمد والشكر .










آخر تعديل أم سمية الأثرية 2016-01-10 في 08:39.
رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 21:52   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

الدرسُ الخامس من /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 29من شهر صفر 1437.

فصل : فتنةُ المعَذَّبِين والهجرة إلى الحبشة
و لمَّا اشتدَّ أذى المشركين على مَن آمن وفَتَنُوا منهم جماعةً حتَّى إنهم كانوا يَصْبِرونهم ، و يُلقونهم في الحرِّ ، و يضعُونَ الصخرةَ العظيمةَ على صدرِ أحدِهم في شدَّة الحر ، حتى إنَّ أحدَهم إذا أُطْلِق لا يستطيعُ أن يجلسَ من شدَّة الألمِ فيقولون لأحدهم : اللَّاتُ إلهُك من دون الله . فيقول مُكْرَهاً : نعم ! و حتى إن الجُعَل ليمُرُّ فيقولون : و هذا إلهُك من دون الله . فيقول نعم ! و مَرَّ الخبيثُ عدوُّ الله أبو جهل عمرو بن هشام بسميةَ أمِّ عمار وهي تعذَّب و زوجُها وابنُها ، فطعنَها بحربةٍ في فرجها فقتلَها ، رضي اللهُ عنها و عن ابنِها و زوجِها .
******************************
عندنا في هذا الفصل فتنةُ المعذَّبين من الصحابةِ رضي اللهُ عنهم وبيانُ الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة .
وسببُ اشتدادِ أذى المشركين للمسلمين أنهم رَأوا انتشارَ الإسلام، وكثرة من يسلم فاغتاظوا لذلك، وازداد أذاهم .
شأنُ الأعداء أنهم يغيظهم ظهورُ الحق وانتشارُ الحق .
ومما استفدنا من الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا ( الدَّعوَةُ إِذَا قَوِيَت كَثُرَ أَعدَاؤُهَا).
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
ثم ذكر الحافظُ ابنُ كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أنواعًا من أذى كفارِ قريش للمسلمين .
فقال: (حتى إنهم كانوا يَصْبِرونهم) قال ابنُ الأثير في النهاية عن حديث :نَهى النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم عَنْ

قَتْل شَيْءٍ مِنَ الدَّواب صَبْراً» قال :هُوَ أَنْ يُمسَك شيءٌ من ذوات الرُّوح حيَّا ثم يُرْمى بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ.
(حتَّى إن أحدَهم إذا أُطلِق)
أُطلق: أي خُلِّي سَبيلُه .
(فيقولون لأحدهم : اللَّاتُ إلهُك من دون الله . فيقول مُكرهاً : نعم !)
في بعض النسخ ( اللَّاتي ) والموافق للقرآن لفظ اللَّاتُ.
وهذا أحد موانع التكفير. فالتكفير له موانع:
الأول: الإكراه ، قال سبحانه و تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل:106] .
الثاني: الخطأ ، فإذا سبق اللسانُ إلى كلمةٍ كفريةٍ لا يضر، قال سبحانه و تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا... } [البقرة:286] وقال سبحانه {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }.
و في صحيح مسلم (2747) من حديث أنسِ بن مالك قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ) .
وفي معناهُ مَنْ أُغلق على عقله وغُطِّيَ عليه ، بسبب غضبٍ ،أو فرح ، أو سُكْرٍ ، ونحو ذلك ففي الصحيحين عن عليٍّ رضي اللهُ عنه أن حمزة سَكِرَ فقال حَمْزَةُ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولِمن معه من الصحابة : هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي؟ .

الثالث: الجهل ، قال سبحانه و تعالى: {... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } [الإسراء:15] .
وقال : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } .
وأخرج البخاري (7506) ومسلم (2756) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ: فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي البَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ " .
فهذا الرجل شكَّ في قدرة الله عز وجل ، والشك في قدرة الله كفر، لكن هذا الرجل لما كان جاهلاً ما ضرَّه في دينه و لا دخل بقوله في الكفر.
وهكذا قصةُ الحواريِّين ، قال سبحانه و تعالى عن الحواريين: { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) } [المائدة:112] .
ما كفَّرهم عيسى عليه السلام لكن أمرهم بتقوى الله وحذَّرهم من هذا القول .
الرابع وهو الأخير: التأويلُ السائغ، هناك تأويلات لا تُبرِّر العذرَ لصاحبها، مثل: أن ينكر شيئاً معلوماً من الدين ضرورة.
كإنكار البعث وجحد الصلوات الخمس و ما أشبه ذلك .
إلا إذا كان حديثَ عهدٍ بإسلام قال الشيخُ ابنُ عثيمين رحمه الله في القواعد المُثلى 89 : قال أهلُ العلم: لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يُبيَّن له.اهـ
وهكذا التأويل السائغ مانعٌ من الكفر .
قال الشيخُ ابنُ عثيمين رحمه الله في شرح كشف الشبهات43: من الموانع أيضاً أن يكون شبهة تأويل في الكفر بحيث يظن أنه على حق، لأن هذا لم يتعمد الإثمَ والمخالفة .
قال : فيكون داخلاً في {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }.
قال : ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله - تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } .
قال في المغني 8/131: وإن استحل قتلَ المعصومين وأخذ أموالِهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك - يعني يكون كافراً - وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى .
إلى أن قال وقد عُرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاءُ بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا". اهـ المرادُ
هذه أربعة أمور من موانع التكفير .
والتكفير مسألة خطيرة جدَّاً يُرجَع فيها إلى العلماء ، لأنهم السادةُ والقادةُ ،وهم الذين يُقيمون الحُججَ
كما قال تعالى {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } .
وبسببِ عدم الرجوعِ إلى أهل العلم الراسخين حصل انتشارُ التكفير وقد روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالفُسُوقِ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ، إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ» .
وقولهُ (و حتى إن الجُعَل ليمر فيقولون : وهذا إلهُك من دونِ الله . فيقول نعم !).
قال الدَّمِيري في حياة الحيوان الكبرى (1/ 281 ) : الجُعَل كصُرَد ورُطب جمعه جِعْلان بكسر الجيم والعين ساكنة.
والناس يسمونه أبا جعران لأنه يجمع الجعر اليابس ويدخره في بيته.
وهو أكبر من الخُنفساء شديد السواد، في بطنه لون حمرة، للذكر قرنان، يوجد كثيرا في مراح البقر والجواميس ومواضع الروث .
ويتولَّدُ غالبا من أخثاء البقر ،ومن شأنه جمعُ النجاسة وادِّخارها .
ومن عجيب أمره أنه يموت من ريح الورد وريح الطيب، فإذا أعيد إلى الروث عاش .
وله جناحان لا يكادان يُريان إلا إذا طار ، وله ستة أرجل وسنام مرتفع جداً .
وهو يمشي القهقرى أي يمشي إلى خلف وهو مع هذه المشية يهتدي إلى بيته .
وإذا أراد الطيران تنفَّش فيظهر جناحاه فيطير .
ومن عادتِه أن يحرس النيامَ فمن قام لقضاء حاجته تبعه وذلك من شهوته للغائط لأنه قوَّته.اهـ المراد
(فيقولون : وهذا إلهك من دون الله . فيقول نعم !).
من شدَّة التعذيب يُظهر الكفر مُكْرَهَاً وهو في الباطن مؤمن ولهذا جزمَ أهلُ العلم أنَّ مكة لم يكن فيها نفاقٌ اعتقادي لضعف المسلمين ، ولا يُسلم فيها إلا مَن كان عن رغبة في الإسلام .
وقد فصَّل ابنُ كثير في تفسيره بكلامٍ يُستفادُ منه تاريخ ظهور النفاق -أعاذنا الله منه- .
قال في تفسير قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ..} إِنَّمَا نَزَلَتْ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ
لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ بَلْ كَانَ خِلَافُهُ، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْكُفْرَ مُسْتَكْرَهًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنٌ.
فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ بِهَا الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَكَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ
يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ عَلَى طَرِيقَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَبِهَا الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى طَرِيقَةِ أَسْلَافِهِمْ وَكَانُوا ثلاث قبائل: بنو
قينقاع حلفاء الخزرج، بنو النَّضِيرِ وَبَنُو قُرَيْظَةَ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ .
فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَقَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ نِفَاقٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدُ شَوْكَةٌ تُخَافُ، بَلْ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَادَعَ الْيَهُودَ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوَالَيِ المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ وَكَانَ رَأْسًا فِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَ سَيِّدَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ فَجَاءَهُمُ الْخَيْرُ وَأَسْلَمُوا وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بدر قال: هذا أمر الله قَدْ تَوَجَّهَ فَأَظْهَرَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ مَعَهُ طَوَائِفُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَنِحْلَتِهِ وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قال : فَمِنْ ثَمَّ وُجِدَ النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ .
قال : فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ نافق لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ مُكْرَهًا بَلْ يهاجر فيترك مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَرْضَهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. اهـ
(و مرَّ الخبيثُ عدُوُّ الله أبو جهل عمرو بن هشام بسميَّة أم عمار، وهي تعذَّب وزوجها وابنها ، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها ، رضي الله عنها و عن ابنها وزوجها.)
هؤلاء الثلاثةُ -وهم آلُ ياسرٍ- عذَّبهم المشركون ولهم السَبْق في الإسلام، وهم ممَّن فتنَهم المشركون.
وأوَّل من أظهر الإسلامَ سبعةٌ ، وأمَّا الباقون فكانوا يخفون إسلامهم، خوفاً من إهانةِ وتعذيب المشركين لهم.
أخرج ابنُ ماجة في سننه (150 )عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ " .
والحديث حسن من أجل عاصم ابنِ أبي النجود ، وقد حسَّنه والدي رحمه الله في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين رقم 847.
فهؤلاء السبعةُ سبقوا في إظهار الإسلام ومنهم عمَّار ووالدته سُميَّة رضي الله عنهم جميعاً .
واتوهم أي وافقوهم تقيةً ، نعوذ بالله من الفتن .
وهناك حديث أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1508 ) والحاكم في المستدرك (5666 )من طريق أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَهْلِهِ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: «أَبْشِرُوا آلَ يَاسِرٍ، مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ».
وأبوالزبير مدلِّسٌ وقد عنعن .
وله شواهدُ وقد ذكرهُ الشيخُ الألباني رحمه الله في صحيح السيرة .
سمية والدة عمار ، كانت عجوزاً ضعيفة ، وقد عذَّبها المشركون لترجع عن دينها .
ويذكرون -والله أعلم -وكذا يذكره أهلُ السير أنه مرَّ بها أبو جهل فطعنها في قُبُلِها فماتت - رضي الله عنها - .
يقول أهل السير: وهي أولُ شهيدة في الإسلام .
ياسر زوجها صحابي جليل وعُذِّب في الله عز وجل ، وكذلك عمار بن ياسر وهو أبواليقظان، هؤلاء الثلاثة ممن عذَّبهم الكفار وفتنوهُم ، والفتنة هي الابتلاء .
****************************
و كان الصِدِّيق رضي الله تعالى عنه إذا مرَّ بأحد من الموالي يُعذَّب ، يشتريه من مواليه ،ويعتقُه ، منهم بلال ، وأمه حمَامة ، و عامر بن فُهيرة ، وأم عُبَيْس ، و زُهيرة ، و النَّهدية ، و ابنتُها ، و جارية لبني عدي ، كان عمر يعذِّبها على الإسلام قبل أن يُسلم . حتى قال له أبوه أبو قحافة : يا بُنيَّ ، أراك تُعتق رقاباً ضعافاً فلو أعتقت قوماً جُلْداً يمنعونك . فقال له أبو بكر : إني أريد ما أريد . فيقال إنه نزلت فيه { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى }، إلى آخر السورة .
******************************
قوله (و كان الصدِّيق رضي الله تعالى عنه) أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ممن أُذن له في الهجرة إلى الحبشة، لكنه
لما وصل إلى بَرْكِ الغماد - موضع - لقيه ابنُ الدَّغنة فيه وجعله في جواره فرجع رضي اللهُ عنه وتقدم في الشرح (فَأَمَّا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ ).
ونسوقُ الشاهد من قصة أبي بكرٍ في هذا للعبرة والاستفادة .
في صحيح البخاري (3905) أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ...) الحديث .
(أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي)ما أخبره بالجهة التي يقصدها خوفاً على نفسه. (فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ) أي لم يردُّوا قوله) .
( فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ ) رفعوا الأمر إلى ابن الدغنة.( فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ) كان عندهم محافظة على سمعتهم ووفاء بالوعد.
استفدنا من هذا أن أبابكر ـ رضي الله عنه ـ كان قد أُذن له بالهجرة إلى الحبشة ثم رَجَعَ لما أمَّنَهُ ابن الدَّغِنَة.
( و كان الصدِّيق رضي الله تعالى عنه إذا مرَّ بأحدٍ من الموالي يُعذَّب ، يشتريه من مواليه و يعتقه).
مواليه هنا : أسياده.
(منهم بلال ، وأمه حَمامة ، و عامر بن فُهيرة ، وأم عُبَيْس ، و زهيرة ، و النهدية ، و ابنتها ، و جارية لبني عدي)
هؤلاء موالي لأبي بكرٍ لأنه أعتقهم رضي اللهُ عنهم أجمعين .
بلال : مولى أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ولاء عتق .
وبلال بن رباح الحبشي مؤذن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
و أمه حمامة صحابية - رضي الله عنها - ممن كان يُعذَّبُ في الله .
ولها ترجمة في الإصابة في معرفة الصحابة للحافظ ابنِ حجر .
عامر بنُ فُهيرة : مولى أبي بكر كان ممن يُعذب في الله وقصته في الهجرة من مكة إلى المدينة مرافقاً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر في صحيح البخاري (3905) .
أُمُّ عبيس :وقع في ط مكتبة الهدي المحمدي الطبعة الأولى : عَبْس .
والصواب ما أثبتناه قال ابن الأثير في أُسْدِ الغابة (7/353) :عبيس: بضم العين المهملة، وفتح الباء الموحدة، وتسكين الياء تحتها نقطتان، وآخره سين مهملة .
(و جارية لبني عدي كان عمرُ يعذبها على الإسلام قبل أن يُسلم).
وقد كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ شديداً على المسلمين قبل إسلامه حتى إنه ثبت في صحيح البخاري من طريق قَيْس ـ وهو ابن أبي حازم ـ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ لِلْقَوْمِ: ( لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ وَلَوْ أَنَّ أُحَدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ) .
ربطَ عمرُ سعيدَ بن زيد أحد المبشرين بالجنة ،وزوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم أجمعين - فعل ذلك تعذيباً لهم ، ولإرجاعهم من الإسلام إلى الكفر .
وفاطمةُ بنت الخطاب يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى – تحت رقم (763) عن أُمِّ الْفَضْلِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ اسْمَهَا لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ وَيُقَالُ إِنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ بَعْدَ خَدِيجَةَ .
قال : وَالصَّحِيحُ أُخْتُ عُمَرَ زَوْجُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ حَدِيثِهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَعُمَرَ مُوثِقِي وَأُخْتَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ .اهـ
هذه فائدة ،السيرة سهلة الحفظ و ممتعة و يفرح بها الصغار.
تقدم أول من أسلم من النساء خديجة .
وأول من أسلم من النساء بعد خديجة فاطمة بنت الخطاب .
وتقدم أول شهيدة في الإسلام سُمية رضي الله عنهن أجمعين .
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم كان في جُوار العاصِ بوَّب البخاري وقال : بَابُ إِسْلاَمِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
ومن ضِمْنِ ما ذكرهُ تحت هذا الباب برقم (3864) عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا هُو –أي عمر - فِي الدَّارِ خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ العَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو، عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: " زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ، فَخَرَجَ العَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الخَطَّابِ الَّذِي صَبَا، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ "
، فكرَّ الناس أي تركوا وانصرفوا؛ لأنه في جوار وائل بن العاص .
وعزَّ الله عز وجل الإسلامَ وتمكَّن الإسلامُ شيئاً فشيئاً لمَّا أسلم عمر ـ رضي الله عنه ـ ثبت في صحيح البخاري برقم (3863) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ).
الهداية بيد الله عز وجل ، عمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان شديداً على المسلمين، ولما أسلم كان شجاعًا بطلاً مناصرًا للرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وكان إسلامه فتحاً وقوَّةً للإسلام والمسلمين .
(حتى قال له أبوه أبو قحافة)
هذا والد الصدِّيق واسمه عثمان صحابي أسلم وقد كان كبيرًا في السن .
ونذكر هنا فائدة يقول ابن الصلاح ـ رحمه الله تعالى ـ : ( لا نعلم أربعة من الصحابة على نسقٍ سوى هؤلاء الأربعة هم محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة).
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى – في مختصر علوم الحديث (ويقاربهم عبدُ الله بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة )- رضي الله عنهم – جميعاً .
(يا بني ، أراك تُعتِق رقاباً ضعافاً فلو أعتقتَ قوماً جُلْداً يمنعونك )
أي: أقوياء يمنعونك ويكونون أنصاراً لك.
(فقال له أبو بكر : إني أريدُ ما أريد)
أريد الأجر في إنقاذ هؤلاء المستضعفين من أيدي المشركين.
(فيُقال إنه نزلت فيه {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، إلى آخر السورة.) [الليل:17،18]
هذا لم يثبت سنده ، جاء عند ابنِ أبي حاتمٍ في تفسير هذه الآية عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَعْتَقَ سبعة كلهم يعذب في الله، بلال وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ وَالنَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا وَزِنِّيرَةَ وَأُمَّ عِيسَى وَأَمَةَ بَنِي الْمُؤَمِّلِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إِلَى آخَرِ السُّورَةِ .
وهذا منقطِعٌ .
قال العلائي رحمه الله في جامع التحصيل 236 قال أبو حاتم وأبو زرعة حديثه –أي عروة- عن أبي بكر الصديق وعمر وعلي رضي الله عنهم مرسل . اهـ
وله طريق أخرى مرسلة عند ابنِ هشام في السيرة 192 .
وقد حُكي ذلكَ إجماعاً قال ابنُ الجوزي في زادِ المسير في تفسير هذه الآية : يعني: أبا بكر الصدِّيق في قول جميع المفسرين .
وقال الحافظ ابنُ كثير في تفسيره : قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا وَأَوْلَى الْأُمَّةِ بِعُمُومِهَا فَإِنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى }وَلَكِنَّهُ مُقَدَّمُ الْأُمَّةِ وَسَابِقُهُمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا تَقِيًا كَرِيمًا جَوَادًا بَذَّالًا لِأَمْوَالِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ وَنُصْرَةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَكَمْ مِنْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ بَذَلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْكَرِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ مِنَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَافِئَهُ بِهَا، وَلَكِنْ كَانَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ عَلَى السَّادَاتِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ يَوْمَ صُلْحِ الحديبية: أما والله لولا يدلك كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ .
وَكَانَ الصدِّيق قد أغلظ له في المقالة، فإن كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءِ القبائل فكيف بمن عداهم، ولهذا قال تعالى:{ وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى}. اهـ
قلت: ومن الأدلة على أنه كان رضي الله عنه كريماً يعطي وينفق من ماله نصرة للإسلام وللحق ما أخرج البخاري في صحيحه(466) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ» ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ العَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ».
رضي اللهُ عنْ أبي بكرٍ الصِّديق وأرضاهُ .
******************************
فلمَّا اشتد البلاءُ أذِن الله سبحانه وتعالى في الهجرة إلى أرض الحبشة و هي في غرْب مكة ، بين البلدين صحارى السودان ، و البحر الآخذ من اليمن إلى القُلزُم .
فكان أول من خرج فاراً بدينه إلى الحبشة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، و معه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وتبعه الناس .
وقيل : بل أوَّل من هاجر إلى أرض الحبشة أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك .
ثم خرج جعفرُ بن أبي طالب و جماعاتٌ رضي الله عنهم وأرضاهم و كانوا قريباً من ثمانينَ رجلاً .
و قد ذكر محمدُ بن إسحاق في جملةِ من هاجرَ إلى أرض الحبشة أبا موسى الأشعري عبدَ الله بن قيس ، وما أدري ما حمله على هذا ؟ فإن هذا أمرٌ ظاهر لا يخفى على مَن دونَه في هذا الشأن ، و قد أنكر ذلك عليه الواقدي وغيرُه من أهل المغازي ، و قالوا : إن أبا موسى إنما هاجر من اليمن إلى الحبشة إلى عند جعفر ، كما جاء ذلك مصرحاً به في الصحيح من روايته رضي الله عنه
******************************
(فلما اشتد البلاءُ أذن الله سبحانه وتعالى في الهجرة إلى أرض الحبشة و هي في غرْب مكة ، بين البلدين صحارى السودان ، و البحر الآخذِ من اليمن إلى القلزم)
وهذه هي الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت سنة خمس من المبعث.

(فكان أول من خرج فاراً بدينه إلى الحبشة عثمانُ بن عفان رضي الله عنه)
مختلف في أول من خرج مهاجراً إلى الحبشة.

عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ خرج مهاجراً ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وعثمان بن عفان ممن هاجر الهجرتين إلى الحبشة .
وقد أخرج ابنُ أبي عاصم في السنة (1311)عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَرَجَ عُثْمَانُ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَعَهُ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا احْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ، فَكَانَ يَخْرُجُ فَيَتَوَكَّفُ عَنْهُمُ الْخَبَرَ. فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَحِبَهُمَا اللَّهُ، إِنَّ عُثْمَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ» .
لكن الحديث ضعيف. ذكرناه لمعرفة حاله، فيه بشار بن موسى الخفَّاف، قال عنه الإمام البخاري: منكر الحديث.
وذكره الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في السلسلة الضعيفة (3181) .
هجرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحبشة دليل على أنه إذا لم يتيسر الهجرة إلى بلد مسلمة، وكان هناك بلد كفر أخف فإنه يهاجر إليها ، والهجرة فيها مشقة؛ لأن المهاجر يترك أهله ووطنه و داره و ممتلكاته ويخرج فاراً بدينه إلى الله عز وجل ، و لكن في ذلك الأجر، والجزاء بالجنة لمن كانت نيته الهجرة إلى سبحانه وتعالى جعلنا الله و إياكم من أهل الجنة .
والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يبشر؛ أنَّ هناك هجرةً أخرى ويقول: (إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) أي المهاجر الحقيقي ، الذي يترك المعاصي ،ويتقي الله عز وجل هذا يُعدُّ مهاجرًا.
(ثم خرج جعفرُ بنُ أبي طالب و جماعاتٌ رضي الله عنهم وأرضاهم)
مِن هنا يبدأُ ذكرُ الهجرةِ الثانية إلى الحبشة
الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر في هذا الفصل الهجرتين إلى الحبشة، الهجرة الأولى تكلم عنها في بدايةِ الفصل ، ثم ذكر الهجرة الثانية وبدايتها في قوله: (ثم خرج جعفر بن أبي طالب و جماعات رضي الله عنهم...)
الهجرة الأولى إلى الحبشة كان عدد الذين خرجوا أحد عشر رجلًا و أربع نسوة .
ومن الرجال عثمان بن عفان، و عثمان بن مظعون، و عبدالرحمن بن عوف، و الزبير بن العوَّام وآخرون.
والأربع النسوة أم سلمة، و رقية بنت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ و سهلة زوجة أبي حذيفة، و ليلى.
وليلى بنت أبي حثمة ابن حذيفة قال الحافظ قال ابن سعد: أسلمت قديما، وبايعت وكانت من المهاجرات الأُوَل، هاجرت الهجرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، يقال: إنها أول ظعينة دخلت المدينة في الهجرة، ويقال أم سلمة . يراجع الإصابة لابن حجر رحمه الله .
هؤلاء الذين ذهبوا إلى الحبشة في الهجرة الأولى تسلَّلُوا، و خرجوا مختَفين؛ لئلا يطَّلِع عليهم كفار قريش فيؤذوهم .
ثم بعد ذلك أخبارٌ أُشيعت أنَّ أهلَ مكة أسلموا، يقول بعضهم السبب في هذه الإشاعة ما في صحيح البخاري (1067) وصحيح مسلم (576)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى - أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا "، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا .
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم : هَذَا الشَّيْخُ هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا وَلَمْ يَكُنْ أسْلَمَ قَطُّ .اهـ
فانتشر الكلام بإسلام أهل مكة ـ الله المستعان ـ فرجع بعضُ من هاجر. ولما رجعوا و رأوا أن العذاب والأذى أكثر مما كان، منهم من رجع إلى الحبشة ، ومنهم من بقي .
وبالنسبة لسجود المشركين فيه احتمالات منها : أنهم تأثَّروا بالقرآن، فإن القرآن مؤثِّر فلهذا سجدوا .

و منها أنه التبس عليهم أنه يمدح آلهتهم ، كما قيل (حُبُّك الشيء يعمي ويُصِمُّ).
أما ما جاء أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مدحَ آلهتَهم في التلاوة و أنه قال كلمات منها : (تلك الغرانيقُ العُلى منها الشفاعة تُرتجى) ، و أنه نزل في ذلك قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} [الحج:52] .
فهذا ليس بصحيح وقد وعد الله عز وجل بحفظ دينه، والقصة منكرة ضعَّفها المحققون من أهل العلم.
قال القاضي رحمه الله في إكمال المُعْلِم (2/ 293) :لا يصح هذا فى شىءٍ من طريق النقل ، ولا من طريق العقل ؛ لأنَّ مدح اَلهة غير الله كفر الخ ما قال .
والشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ له رسالة في تضعيفها (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) .
وكان الوالد الشيخ مقبل الوادعي ـ رحمه الله تعالى ـ أيضاً يضعفها.
والقصة مشهورة ، لكنه قد تشتهر أحاديث وهي مكذوبة، قد تشتهر أقوال وهي مكذوبة، والواجب التثبت.

وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة فخرج فيها جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ هو و زوجته أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - .
أسماء بنت عميس تزوجت بثلاثة بجعفر بن أبي طالب، ثم تزوجت بأبي بكر الصديق، ثم تزوجت بعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ
وممن خرج في هذه الهجرة أمُّ حبيبة - رملـة بنتُ أبي سفيان - رضي الله عنها - هي وزوجُها عبيد الله بن جحش خرجا هارِبَين بدينِهما .
أمَّا أمُّ حبيبة فثبتت على إسلامها، و أمَّا زوجها عبيدالله فارتدَّ و تنصَّرـ والعياذ بالله ـ وفي درسنا مواقف في الثبات سنذكرها بعدُ إن شاء اللهُ .
(و كانوا قريباً من ثمانين رجُلاً)
كم كان عدد أصحاب الهجرة الثانية؟ .
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : (و كانوا قريباً من ثمانين رجلاً) .
وكان عددُ النساء ثماني عشرةَ امرأة.
(و قد ذكر محمدُ بن إسحاق في جُملةِ مَن هاجر إلى أرض الحبشة أبا موسى الأشعري عبدَ الله بن قيس ، وما أدري ما حمله على هذا ؟ الخ)
فيه إشكال أن يكون أبوموسى الأشعري هاجر من مكة إلى الحبشة؛ لأنه ثبت أنه خرج من اليمن إلى الحبشة كما أخرج البخاري في صحيحه (3876) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ) .
(فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ)يعني قدَراً، و لم يكن هذا مقصوداً جاءت أمواج فألقتْهم إلى الحبشة.
(فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ )فتحُ خيبر كان في السنة السابعة للهجرة.
من قال بأن أبا موسى الأشعري هاجر من مكة إلى الحبشة فهذا معتمِد على روايةٍ في مسند أحمد (7/ 408) عن عبدالله بن مسعود وهو يدل أن هجرته إلى الحبشة كانت من مكة .
ولكن الرواية فيها حُديج بن معاوية وهو ضعيف ، على هذا لا يعارض ما في الصحيح فإن الضعيف لا يقوى على معارضة الصحيح .
وأما الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري تحت رقم (3876) فحسَّن إسنادَه ولهذا احتاج للجمع بين الروايتين وقال : وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذِكْرُ أَبِي مُوسَى فِيهِمْ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا مُوسَى خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ قَاصِدًا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَأَلْقَتْهُمُ السَّفِينَةُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَحَضَرُوا مَعَ جَعْفَرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ أَبُو مُوسَى هَاجَرَ أَوَّلًا إِلَى مَكَّةَ فَأَسْلَمَ فَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَنْ بَعَثَ إِلَى الْحَبَشَةِ فَتَوَجَّهَ إِلَى بِلَادِ قَوْمِهِ وَهُمْ مُقَابِلُ الْحَبَشَةِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ فَلَمَّا تَحَقَّقَ اسْتِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ هَاجَرَ هُوَ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَلْقَتْهُمُ السَّفِينَةُ لِأَجْلِ هَيَجَانِ الرِّيحِ إِلَى الْحَبَشَةِ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ فَلْيُعْتَمَدْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ
وينظر زاد المعاد (3/25) فلابن القيم كلامٌ على هذا .
(و قد أنكر ذلك عليه الواقدي)
محمد بن عمر من أصحاب المغازي وهو متروك.
******************************
فانحازَ المهاجِرون إلى ممْلكةِ أصْحمةَ النجاشي فآواهم و أكرمَهم ، فكانوا عنده آمنين . فلما علمت قريشٌ بذلك بعثتْ في إثرهم عبدَ الله بن أبي ربيعة و عمرو بن العاص بهدايا و تُحَف من بلادهم إلى النجاشي ، ليردَّهم عليهم ، فأبى ذلك عليهم و تشفَّعوا إليه بالقوَّاد من جُنده ، فلم يُجِبهم إلى ما طلبوا ، فوشَوا إليه : إنَّ هؤلاءِ يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، يقولون : إنه عبدٌ ، فأُحضِر المسلمونَ إلى مجلسه ، و زعيمُهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال : ما يقول هؤلاءِ إنكم تقولون في عيسى ؟ ! فتلا عليه جعفر سورة " كهيعص " فلما فرغ أخذ النَّجاشيُّ عوداً من الأرض فقال : ما زاد هذا على
ما في التوراة و لا هذا العُود ، ثم قال : اذهبوا فأنتم شُيومٌ بأرضي ، من سبَّكم غُرِّم ، و قال لعمرو وعبد الله : و الله لو
أعطيتموني دَبْراً من ذهب -يقول : جبلاً من ذهب -ما سلمتهم إليكما ، ثم أمر فرُدَّت عليهما هداياهما ، و رَجعا مقبُوحَيْنِ بشرِّ خَيبةٍ و أسوئِها.
******************************
(فانحاز المهاجرون إلى ممْلكةِ أصحمة النجاشي)
أصحمة اسم النجاشي، والنجاشي رجل فاضل، وهو من جملة المُخضرمين، و لما مات النجاشي صلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عليه صلاة الغائب كما في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا» .
ثم ذكر قصة الذين هاجروا إلى الحبشة وكيد قريش لهم لمَّا علمت إيواء النجاشي لهم ومحاولتهم رد المهاجرين إلى مكة فأرسلوا اثنينِ أحدُهما عمرو بنُ العاص بن وائل من دُهاة العرب والثاني عبدالله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي .
والقصة في مسند أحمد من حديث أم سلمة رضي اللهُ عنها بسندٍ حسن ونسوقُ الشاهدَ للاستفادة والتذكير .
تقول أمُّ سلمةَ رضي اللهُ عنها : إنه لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ: الْأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، وَخَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلَّا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قَالَا: لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْنَا، وَلَا يُكَلِّمَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ .
ثم قالا له نحواً مما قالا لبطارقة النجاشي .
فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَ: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ ثُمَّ قَالَ: لَا هَايْمُ اللهِ إِذًاً لَا أُسْلِمَهُمْ إِلَيْهِمَا وَلَا أَكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا. ثُمَّ قَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ مَا عَلِمْنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا جَاءُوهُ، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ؟ .
قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ. حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، " فَدَعَانَا: إِلَى اللهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ. وَنَهَانَا عَنْ: الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ. وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ". قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا فَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ.
قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص. قَالَتْ: فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَدًا وَلَا أَكَادُ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا أَعِيبُهُمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ.
قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا،: لَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا.
قَالَ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ. فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ فِيهِ مَا قَالَ اللهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا. ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ: مَا قَالَ فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي.، وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرَ ذَهَبٍ وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ، وَالدَّبْر بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبَلُ، رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِهَا الحديث .
والرواية التي ذكرها ابنُ كثير (شُيوم ) قَوْمٌ شُيُومٌ: آمِنُونَ، حَبَشِيَّةٌ. كذا في لسانِ العرب .
(من سبَّكم غرم ) عليه غرامة سجن أو مال أو عقوبةٌ هذا في السبِّ فكيف بالأذى والضرب والقتل .
و حديث أم سلمة في الصحيح المسند للوالد الشيخ مقبل الوادعي ـ رحمهما الله تعالى ـ .
(بشر خَيبة و أسوئِها)
الخيبةُ : الحِرمان .

وهذا الفصل في أذى المشركين للمسلمين بأنواعٍ من العذاب .
وثبات الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - مع شدة التعذيب الذي وقع لهم، والإهانة التي حصلت لهم، ولم يرجعوا عن دينهم ـ نسأل الله الثبات ـ .
وثبات النجاشي فإنه لما قال للمهاجرين إليه : اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ، من سبكم غرم، نخرت بطارقته قال ابنُ الأثير في النهاية : أَيْ تَكَلَّمَتْ، وَكَأَنَّهُ كلامٌ مَعَ غَضَبٍ ونُفُور.
فقال النجاشي: وإن نخَرتم لن أُسْلمهم) .
عكس هِرَقل عظيم الروم ، هرقل جمع أصحابَه (فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَيَّ وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ) متفقٌ عليه .
بقى على كفره حتى توفي ، وقد كان في نفسه أن يُسلِمَ لكنه ما ثبَت أثَّر عليه جلساؤه ،فمن أسباب عدم الثبات جُلساءُ السوء ، وخاف أيضاً على المُلك، فالمُلك سُكْر وفتنة .
الجليس له تأثير عظيم في الخير وفي الشر، و لهذا ربنا تبارك و تعالى يقول: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) }[الفرقان] .
يدعو بالويل على نفسه، يتحسر على مصاحبته لجليس السوء فقد سعى في إضلاله قولا وفِعْلا .
وفي سورة الصافات { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)}
)مَدِينُونَ) أي مبعوثون. (مُطَّلِعُونَ): نطَّلع إلى هذا الذي كان يدعونا إلى الفساد والكفر والضلال يقول لأهل الجنة: (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)أي: في وسط النار ـ والعياذ بالله - (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) كدت أن تهلكني بدعوتك . (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) عزو النعمة إلى معطيها وهو الله عز وجل، وهكذا في كل الأحوال الإنسان يعترف بفضل الله عز وجل ، وهذا من تمام التوحيد ،لا يقول : هذا بذكائي ، وبحسن تصرفي ، الذي يعزو إلى نفسه ، هذا مخطئ ، هذا نقصٌ في التوحيد ، قال تعالى منكراً ذلك على قارون : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [القصص:78] .
وهذا من الأخطاء في العقيدة ننتبه إلى هذا الأمر في كلامنا و تصرفاتنا و نربي أبنائنا على عزوِ النعمة إلى الله عز وجل .

درسُنا هذا اليوم عن هجرتي الصحابة إلى الحبشة لمَّا اشتدَّ أذى المشركينَ لهم .

وصبرُهم وثباتُهم على دين الله عز وجل، ومن قال شيئاً فإنما هو إكراهٌ رضي الله عنهم أجمعين
.










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 21:54   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

الدَّرْسُ السادسُ من /الفُصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 4من ربيع الأوََل 1437

مذاكرةٌ قبل الدَّرس :
من نعمةِ الله أن الأمهاتِ الصالحات في غايةِ الحرص على صلاح أولادهن ، وفي غاية الحرص على أن يتعلموا العلم
الشرعي ، وعلى قربهم من الخير و أهل الخير ـ وجزى الله الأمهات الحاضرات خيرًا ـ وهذا من الواجبات المتحتمات
على المرأة -حرصها على صلاح أولادها والدعاء لهم .

ومن فضل الله ،الأمهات الآن في أشدِّ الحرص على استفادة

أولادها- ذُكوراً وإناثاً -وحفظهم للقرآن الكريم ، محفِّزات

على العلم والحفظ، واستغلال لهذا العمر النفيس .

حتى إنَّ من الأمهات من تقول: أنا مفرِّغة لابنتي تحفظ،

وتحضر الدروس، وتستفيد .

والمحروم من حُرِمَ نعمة العلم النافع ، ونعوذ بالله من الفتن .

نسأل الله أن يصلح الحال- الهمم هابطة ،والعزيمة ضعيفة ،

قطع على الناس -إلا من رحم ربي - طريقَ السعادة
والتجارةِ الخالدةِ الكسلُ والراحة ،وكثرة وسائلِ الضياع ،.

اطلب العلمَ ولا تكسل فمَا أبعدَ الخيرَ على أهلِ الكسل
وقد ذكر ابنُ القيم رحمه الله في مدارج السالكين (2/ 166) أنه

أَجْمَعَ عُقَلَاءُ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَنَّ النَّعِيمَ لَا يُدْرَكُ بِالنَّعِيمِ

وَأَنَّ مَنْ رَافَقَ الرَّاحَةَ فَارَقَ الرَّاحَةَ ، وَحَصَلَ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَقْتَ

الرَّاحَةِ فِي دَارِ الرَّاحَةِ، فَإِنَّ قَدْرَ التَّعَبِ تَكُونُ الرَّاحَةُ .

عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ ... وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكَرِيمِ الْكَرَائِمُ

وَيَكْبُرُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صَغِيرُهَا ... وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ

وَالْقَصْدُ: أَنَّ مُلَاحَظَةَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ

بِاخْتِيَارِكَ وَغَيْرِ اخْتِيَارِكَ. اهـ

أيام والمسؤولية تكثر، أيام والحقوق تكبر، فاستغلال هذا

الوقت، وهذا الفراغ .

وقد روى البخاريُّ في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ

فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ " .

معرفة قدر هذه النعمة قبل أن تزول ، قبل الحسرة، إذا كبُرت

المسؤوليَّة ، الذهن يتشتت، والتركيز يضعف، والحافظية

تنهار، وقد يكون هناك أمور أخرى ـ والعياذ بالله ـ فكلما تأخر

الزمن كثرت الفتن، وكثرت الشواغل، مع ما الدُّنيا عليه من

أصلها دارُ هُمومٍ وابتلاء ، ودار فناء لا بقاء ، فيبقى في حسرة

عظيمة ، في الأولى والأُخرى .

والله مامشى من الدقائق والسنين لايمكن تداركه، فالمحافظة

على الوقت في طلب العلم قبل فوات الفرصة، قبل

الانشغال ، والفراغ لا يدومُ ، والعُمْر قصير ،والزَّمن يسير كما

يقولُ أهلُ العلم .

اقبلي النصيحة من محبةٍ للخير لك قبل أن تقعي في التجرُبة

بنفسك ،والسعيدُ منِ اعتبر بغيره ،لا من اعتبر بنفسه .

والله سبحانه هو الميسر نسأل الله أن ييسر لنا ولأخواتنا سُبل

العلم .

كان من أدعيةِ الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أن اللهَ

ييسر لي طلب العلم (نذكر هذا من باب التحدُّث بالنعمة

وليتأسَّى به الأمهاتُ وليتربَّى البناتُ على هذا الخير ) .

الدعاء للأولاد بالخير، والسعادة، وأن يقذف الله في قلوبهم نورَ

العلم، والهداية بيد الله ليست بأيدينا نسأل الله أن يصلحَ

أولادنا ويعيذنا وإياهم من الفتن .

ولايعرف قدرَ هذا النعمة إلا من وفقه الله عز وجل .

******************************
فصلٌ : مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب

ثم أسلم حمزةُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجماعةٌ

كثيرون، وفشا الإسلامُ .

فلما رأت قريشٌ ذلك ساءَها، وأجمعوا على أن يتعاقدوا على

بنى هاشم وبني المطلب ابنَي عبد مناف: ألا يبايعُوهم، ولا

يناكحُوهم، ولا يكلِّموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسْلِموا إليهم

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بذلك صحيفة وعلَّقوها

في سقف الكعبة، ويقال إن الذي كتبها منصور بن عكرمة بن

عامر بن هاشم بن عبد مناف، ويقال: بل النَّضر بن

الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشُلَّت يدُه.

وانحاز إلى الشِّعب بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم إلا

أبا لهب- لعنهُ الله- فإنه ظاهرَ قريشاً.

وبقوا على تلك الحال لا يدخل عليهم أحدٌ نحواً من ثلاث سنين .

وهناك عمِل أبو طالب قصيد تَه المشهورة :

جزى الله عنا عبدَ شمس ونوفلا .
******************************
هذا الفصل في مقاطعة وهجر قريش لبني المطلب وبني هاشم، فإن قريشاً هَالَهَا، وأفْزَعها انتشارُ الإسلام و علوُّ الإسلام، ورأت أنه أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي أعز الله به الإسلام، وأسلم حمزة ـ رضي الله عنه ـ عم رسول الله
ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وانتشار الإسلام في نواحي

العرب، وإيواء النجاشي للذين هاجروا إليه ، فرأت أن تقاطع

بني هاشم وبني المطلب، و قالوا إما أن تُسْلِموا النبي ـ صلى الله

عليه وعلى آله وسلم ـ أو نقاطعكم .

و ذكر هنا الحافظُ ابنُ كثير وجهَ المقاطعة .

فقال ـ رحمه الله تعالى ـ : (وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى

هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف: ألا يبايعوهم، ولا

يناكحوهم، ولا يكلِّموهم، ولا يجالسوهم) .

لا فيه بيع بينهم، ولا شراء، ولا تزويج، ولا كلام، ولا مجالسة

هجر كُلِّي، وكتبوا هذه المعاقدة في صحيفة ـ الصحيفة:

الورقة ـ وعلَّقوها في سقف الكعبة .

يقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في البداية و النهاية: (تَوْكِيدًا على أنفسهم) .

فتمَّ الأمرُ على هذا .

و من رحمة الله عز وجل أن يسَّر للنبي صلى الله عليه وعلى

آله وسلَّم من يناصره وهم بنو هاشم و بنو المطلب مؤمنُهم

و كافرُهم، وما خرج منهم إلا أبو لهب عم رسول الله ـ صلى الله

عليه وعلى آله وسلم ـ فإنه ظاهر قريشًا أي: عاونهم

وناصرهم على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وعلى

الحق .

ووقوف الكفار من بني المطلب وبني هاشم مع النبي ـ صلى

الله عليه وعلى آله وسلم ـ حميةً و عصبية؛ لأنه منهم و في

ذلك وأمثاله يقول النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ (إِنَّ

اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) متفق عليه عن أبي هريرة ـ

رضي الله عنه ـ (يُؤَيِّدُ) أي: ينصر.

و تمَّ حصار النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ و من معه

ممن آواه و نصره في شِعْب أبي طالب سنة سبعٍ من

البعثة، و كانت المدة ثلاثَ سنين -مدة طويلة -، وهم في حصار

وحَبس لا يأتيهم طعام، ولا شراب، ولا غذاء إلا إذا

استطاع أحدٌ أن يتسلَّل بشيء من الطعام والخبز و إذا عثر عليه

قريش نكَّلوا به و عاقبوه.

(وهناك عمل أبو طالب قصيدته المشهورة: جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلا) .

هذه القصيدة تُسمَّى لاميةَ أبي طالب .

وتتمةُ البيت لأنه ما ذكر ابنُ كثير إلا الشطرَ الأوَّلَ منه
جزى الله عنا عبد شمسٍ و نوفلا***عقوبةَ شر عاجلا غير آجل
لأن عبد شمس و نوفل من المعادين للنبي ـ صلى الله عليه

وعلى آله وسلم ـ و من معه ممن آواه بخلاف هاشم والمطلب.

بنو عبد مناف أربعة ـ كما تقدم في أول الكتاب ـ هاشم،

والمطلب، وعبد شمس، ونوفل .

ولامية أبي طالب بطولها ما ثبتت، لكن فيها بعض الأبيات

جاءت بأسانيد أخرى ثابتة .

(إلا أبا لهب لعنه الله، فإنه ظاهرَ قريشاً)

يقول هنا الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في أبي لهب لعنه

الله .

ولعن الكافر الميت لمصلحة الإسلام ولبيان حاله جائز .

أما إذا كان لغير مصلحة فهذا منهي عنه روى البخاري

(1329) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا).

أما الكافر الحي فلا يجوز لعنُهُ لأنَّ الله قد يهديه للإسلام

أخرج البخاري في صحيحه (4069) عن عبد الله بن عمر

رضي الله عنهما سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ

رَأْسَهُ مِنْالرُّكُوعِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ اللَّهُمَّ الْعَنْ

فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ

الْحَمْدُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ إِلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ

ظَالِمُونَ}.

و في صحيح مسلم (675) عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبي سَلَمَةَ

بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كَانَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ

مِنْ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا

وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ

بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ

اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ

اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ

بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ

عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) .

وهذا التفصيلُ في لعن الكافر سمعناه مراراً من الوالد الشيخ

مقبل رحمه الله .

وقال النووي في شرح صحيح مسلم (2/ 67)اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى

تَحْرِيمِ اللَّعْنِ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ.

وَفِي الشَّرْعِ :الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْعَدَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ لَا يُعْرَفَ حالُه

وخاتمة أمره مَعْرِفَةً قَطْعِيَّةً فَلِهَذَا قَالُوا لَا يَجُوزُ لَعْنُ أحد بعينه

مسلما كان أوكافرا أَوْ دَابَّةً إِلَّا مَنْ عَلِمْنَا بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ أَنَّهُ مَاتَ

عَلَى الْكُفْرِ أَوْ يَمُوتُ عَلَيْهِ كَأَبِي جَهْلٍ وَإِبْلِيسَ .

وتكلَّم على المسألة العلَّامةُ ابن عثيمين رحمه الله في شرح

رياض الصالحين تحت (باب تحريم لعن إنسان بعينه أو دابة) .

وقال:حتى لو كان كافرا وهو حي فإنه لا يجوز أن تلعنه واستدل

بحديث ابن عمر المذكور .

وقال ابن عُثيمين رحمه الله : ومن الناس من تأخذه الغيرةُ

فيلعن الرجل المعين إذا كان كافرا وهذا لا يجوز، لأنك لا تدري

لعل الله أن يهديه وكم من إنسان كان من أشد الناس عداوة

للمسلمين والإسلام هداه الله وصار من خيار عباد الله المؤمنين،

ونضرب لهذا مثلا: عمر بن الخطاب الرجل الثاني بعد أبي بكر

في هذه الأمة، كان من ألدِّ أعداء الإسلام ففتحالله عليه فأسلم .


خالد بن الوليد كان يقاتل المسلمين في أحد وهو من جملة من

كرَّ عليهم وداهمهم .

عكرمة بن أبي جهل وغيرهم من كبار الصحابة الذين كانوا من

أول ألدِّ أعداء المسلمين فهداهم الله عز وجل .

ولهذا قال: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أويعذبهم فإنهم ظالمون } .

أما إذا مات الإنسان على الكفر وعلمنا أنه مات كافرا فلا بأس

أن نلعنه لأنه ميؤوس من هدايته والعياذ بالله لأنه مات على

الكفر .
ولكن ما الذي نستفيده من لعنه ربما يدخل هذا - أعني لعنه -

في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات فإنهم

أفضوا إلى ما قدموا .اهـ المراد

وأبو لهب: اسمه عبد العزى، عم النبي ـ صلى الله عليه وعلى

آله وسلم ـ .

و نذكر هُنا ما مضى للاستذكار

الإسلامُ أدرك أربعةً من أعمام النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله

وسلم ـ وهم أبو طالب، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، أما أبو

طالب وأبو لهب فماتا على الكفر، وأما العباس و حمزة فهما

من خيار صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .


قال الحافظ في فتح الباري (3884 ):مِنْ عَجَائِبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ

الَّذِينَ أَدْرَكَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَعْمَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَرْبَعَةٌ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَأَسْلَمَ اثْنَانِ وَكَانَ اسْمُ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ

يُنَافِي أَسَامِيَ الْمُسْلِمَيْنِ وَهُمَا أَبُو طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَأَبُو

لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بِخِلَافِ مَنْ اسْلَمْ وهما حَمْزَة وَالْعَبَّاس .


******************************

ثم سعى في نقضِ تلكِ الصحيفةِ أقوامٌ من قريش، فكان القائمُ

في أمر ذلك هشامُ بن عمرو بنِ ربيعة بنِ الحارث بن حَبِيب بن

جذيمة بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، مشى في ذلك إلى

مُطعم بنِ عدي وجماعةٍ من قريش، فأجابوه إلى ذلك، وأخبر

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومَه أن اللهَ قد أرسلَ على تلك

الصحيفةِ الأَرَضَة، فأكلت جميعَ ما فيها إلا ذكرَ الله

عز وجل، فكان كذلك .

ثم رجع بنو هاشم وبنو المطلب إلى مكة، وحصل الصلحُ برغمٍ

من أبي جهل عمرو بن هشام .


******************************

في هذه الجُمَل بيان أنهم بعد أن أجمع كفارُ قُريش على مقاطَعةِ

مُناصري النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بني هاشم

وبني المطلب حصل بينهم فيما بعدُ اختلافٌ وافتراق حينما

أكلت الأرَضَةُ الصحيفةَ فسعى نفرٌ في نقض الصحيفة التي

كان تمَّ اجتماعهم عليها وتبرَّأُوا منها وقامَ بنقضِها هشامُ بنُ

عمرو والمُطعم بن عدي وآخرون .

وقد أشار هُنا ابنُ كثير ـ رحمه الله تعالى -إلى قصَّة يذكرها

بعضُ أهلِ السير أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي

طَالِبٍ: «يَا عَمِّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ فَلَمْ

تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ للَّه إِلَّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهَا الظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ

وَالْبُهْتَانَ» . فَقَالَ أَرَبُّكَ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ «نعم» ! قال فو الله مَا

يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ

ابْنَ أخى قد أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا فَهَلُمَّ صَحِيفَتَكُمْ فَإِنْ كَانَتْ كَمَا قَالَ

فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا وَانْزِلُوا عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ

ابْنَ أَخِي. فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ رَضِينَا فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا

هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرًّا

فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرَّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا.

وقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: (فأكلت جميع ما فيها

إلا ذكر الله عز وجل، فكان كذلك) .

أي كان الأمر على ما حكاه النبيُّ ـ صلى الله عليه وعلى آله

وسلم ـ من أكلِ الأَرَضةِ وهي دود تأكل الأخشاب ونحوها ،

إلَّا ذِكرَ الله ِ .

والله أعلم القصة ذكرها ابنُ هشام في السيرة (2/ 19)بدون

إسناد فقد قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بعضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أن رسول

الله -صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمِّ؛ إنَّ رَبِّي اللَّهَ قَدْ

سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ الخ .

ثم بعد هذا انفكَّ الحصارُ وانتهى، فرجع بنو هاشم و بنو

المطلب إلى مكة بعد ثلاث سنين ،وكان من حكمة اللهِ ورحمته

أن تفرَّقَّتْ قلوبُهم وتنافَرت مما كان سبباً في خروج النبي صلى

الله عليه وعلى آله وسلم ومُناصريه من الحبْس والحِصار .

(وحصل الصلح برغم من أبي جهل) نفذ الصلح على الرغم من

أبي جهل و إن كان رافِضَاً له .

******************************
واتصل الخبر بالذين هم بالحبشة أن قريشاً أسلموا، فقدم مكةَ

منهم جماعةٌ، فوجَدوا البلاءَ والشدَّة كما كانا، فاستمرُّوا بمكة

إلى أن هاجروا إلى المدينة، إلا السَّكرانَ بن عمرو زوج سود

بنت مزمعة، فإنه مات بعد مقدمِه من الحبشة بمكة قبلَ الهجرة

إلى المدينة وإلا سلمةَ بن هشام، وعياشَ بن أبي ربيعة، فإنهما

احتبسا مستضعَفين، وإلا عبدَ الله بن مخرمة بن عبد العزى فإنه

حُبس فلما كان يومَ بدر، هرب من المشركين إلى المسلمين .

******************************
هنا تمام هذا الفصل يذكر ابنُ كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أنه

أشيعت أخبارٌ أن قريشاً بمكةَ أسلموا، وبلغ ذلك المهاجرين إلى

الحبشة، وهذا قبل هجرة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
إلى المدينة بقليل ، في السنة العاشرة من البعثة،

وقد مكثَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في مكة ثلاثة

عشر عاماً .

فرجع المهاجرون من الحبشة وهذا غير رجوعهم الأول، رجعوا

فوجدوا البلاءَ، والشدَّة، والأذى كما كان من قبل فبقوا

بمكة إلى أن هاجر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى المدينة.

فلما هاجر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ هاجر

أصحاب الهجرة إلى الحبشة معه إلى المدينة إلا هؤلاء النفر .

قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : (إلا السكران بن

عمرو زوج سود بنت زمعة) كان زوجُ سودةَ قبل أن يتزوجها

النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، سودة بنت زمعة -

رضي الله عنها - كانت تحت السكران بن عمرو ـ رضي الله عنه

ـ صحابي أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، ولم يخرج مع النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى المدينة؛ لأنه مات قبل

الهجرة .
قال - رحمه الله تعالى - (و إلا سلمةَ بن هشام) أخو أبو جهل

عمرو بن هشام والحارث .

(وعياش بن أبي ربيعة، فإنهما احتُبسا مستضعَفين)

لم يخرجا مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حينما

هاجرَ إلى المدينة بسبب حَبْس قريش لهما .

وقنت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يدعولهما فقد

ثبت في الصحيحين البخاري (1006) ومسلم (295 )-

(675) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا

رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، يَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي

رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ،

اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى

مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ: وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ " .

سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة - رضي الله عنهما - لم

يشهدا بدرًا، ولا أحدًا، ولا الخندقَ؛ لأنهما كانا محبوسَين .

الوليد بن الوليد قال الحافظ في الإصابة في ترجمته: الوليد بن

الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم القرشي

المخزوميّ، أخو خالد بن الوليد .

لما أسلم حبسه أخواله، فكان النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم

يدعو له في القنوت، كماثبت في الصّحيح ثم أُفلت من أسرهم،

ولحق بالنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم في عمرة القضية .اهـ المراد

.
وقد نجاهم اللهُ سبحانه وتعالى من أيدي المشركين جميعاً .


(وإلا عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى فإنه حُبس)

عبدالله بن مخرمة بن عبد العزى أيضًا لم يخرج مع النبي ـ

صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى المدينة حبسه المشركون.

(فلما كان يوم بدر، هرب من المشركين إلى المسلمين)

هرب من أيدي المشركين وشهد مع النبي ـ صلى الله عليه

وعلى آله وسلم بدراً وجميعَ المشاهد .

ونحن في دروسنا هذه نتذكر جرائمَ الحوثيين، وأفعالَهم الشنيعة

من حصار الصالحين الأخيار في –دار الحديث بدماج –

وأذاهم،وتعذيبهم، وصب النيران عليهم ، وسفْك الدماء البريئة

وقتل الضُّعفاء من النساء والصبيان وكبار السِّن نتذكَّرُهَا لأننا

نجدهامطابقة بل وأشد ، فهذه الأفعال أفعال مشركين ماهي

أفعال مسلمين ،ومن غيرِأيِّ سبب كما قال تعالى { وَمَا نَقَمُوا

مِنْهُمْإِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .

و اللهُ ليس بغافلٍ عنهم ولكنه سبحانه يمْهل ويستدرج الظلمة

بالنِّعم والأولاد والأموال ثم يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر.

وهُمُ الآن في حضيضِ البلاء والعذاب نسألَ اللهَ أن يخمدَ

شوكتهم ويكفي البلادَ والعباد شرَّهُم .

******************************

فصل ـ خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف

فلما نُقِضت الصحيفةُ وافق موتَ خديجةَ رضي الله عنها، وموتَ

أبي طالب، وكان بينهما ثلاثةَ أيام، فاشتدَّ البلاءُ على رسول الله

صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومِه، وأقدموا عليه، فخرج

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لكي يؤووه

وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم، ودعاهم إلى الله عز وجل،

فلم يجيبوه إلى شيءٍ من الذي طَلب، وآذوه أذى عظيماً، لم ينل

قومُه منه أكثر مما نالوا منه فرجع عنهم .

******************************
لمَّا نُقضت الصحيفةُ التي كان تمَّ الإجماع عليها، وهذا في سنةِ

عشر من البعثة النبوية.

تتابعت المصائبُ على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ

فماتت خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - التي كانت

مناصرةً، مؤانسةً، معينةً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم

ـ و مات أبو طالب عمُّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ

الذي كان يغضب له و يحوطه، وهذا من تتابع المصائب ولله

الحكمة البالغة .

(وكان بينهما ثلاثة أيام )

يقول : كان بين وفاتيهما ثلاثة أيام، والذي نستطيع أن نجزم به

،أنه كان موتُهما في عامٍ واحد ، وكان بين وفاتيهما مدة

يسيرة، يقول بعضهم ثلاثة أيام، وقيل غير ذلك.

ثم اشتد البلاء على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ؛

لأن أبا طالب كان مانعًا لأذى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى

آله وسلم ـ فلما مات اشتد الأذى على رسول الله ـ صلى الله

عليه وعلى آله وسلم ـ ، فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه

وعلى آله وسلم ـ إلى الطائف؛ لكي يؤووه وينصروه ليبلغ

الرسالة، والإسلام فقابله أهلُ الطائف بأشد أنواع الأذى،

وردُّوا قوله، ولم يستجيبُوا له ثم رجع بعد ذلك إلى مكة.

وقد ثبت في صحيح البخاري (3231) عَنِ عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا

قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ

يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا

لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ

عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى

وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا

بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ

اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ

الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ

قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ

الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ

اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) .

(بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ) ميقات أهل نجد، وهو قرن المنازل (الأَخْشَبَيْنِ)

أي : جبال مكة.

وهذا من رحمة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ

بالكفار، لم يدعُ عليهم، وأحيانًا قد يدعو عليهم إذا اشتدت

شوكةُ الكفار ، قد يدعو ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عليهم حسب المصلحة. والله تعالى أعلم .

وهذا الحديث فيه إرسالُ الله ملَك الجبال إلى النبي ـ صلى الله

عليه وعلى آله وسلم ـ عند رجوعه من الطائف إلى مكة على

قول من أقوال أهل العلم أن هذا في رجوعه من الطائف إلى مكة .

******************************

ودخل مكة في جوارِ المطعمِ بن عدي بن نوفل بن عبد مناف،

وجعلَ يدعو إلى الله عز وجل، فأسلم الطفيلُ بن عمرو الدَّوسي،

ودعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له آيةً ،

فجعل الله في وجهِه نوراً، فقال: يا رسولَ الله أخشى أن يقولوا
هذا مُثْلَةٌ، فدعا له، فصار النورُ في سوطه، فهو المعروف بذي النُّور.
ودعا الطفيلُ قومَه إلى الله فأسلم بعضُهم، وأقام في بلاده، فلما

فتح الله على رسوله خيبر قدم بهم في نحوٍ من ثمانين بيتاً.

******************************
لمَّا رجع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من الطائف

إلى مكة كان في جوار المُطعِم بن عَدي، والمُطعِم بن عَدي كان

كافرًا ومات على ذلك، ولم ينسَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى

آله وسلم ـ هذا الإحسان من المُطعِم بن عَدي بل حفظ له ذلك،

وأحب أن يكافِئَه كما في صحيح البخاري عَنْ جبير بن مطعم

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي

أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي

هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» .

(النَّتْنَى) الأسرى من كفار قريش الذين كانوا بأيدي المسلمين،

نتنى لكفرهم .

فهنا كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بجوار المُطعِم

بن عَدي أنه لا يتعرض أحدٌ بأذى له .

وكان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يدعو الله فجاء

الطفيل بن عمرو الدوسي إلى مكة، وكانوا يحذِّرونه، وهذا شأن

الأعداء كانوا يقولون: إنه كاهن ، ساحر، فقال: لِمَ لا أسمع

منه، فأسلم على يد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ

و هنا ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ قصةً له.

(ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له آية)
(الآية): العلامة. نور بينَ عينيه يضيء إذا مشى في الظلام .
(فجعل الله في وجهه نوراً، فقال: يا رسول الله أخشى أن يقولوا

هذا مُثلة)
قد يقولون هذا عيب .

(فدعا له، فصار النُّور في سوطه، فهو المعروف بذي النُّور)
السوط: العصا .

القصة من طريق ابن الكلبي، وهو هشام بن محمد بن السائب

الكلبي، وهو متروك .

وللفائدة أيضاً أبوه محمد بن السائب متروك .

و الطفيل بن عمرو هاجر إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله

وسلم ـ بالمدينة ومعه صاحب له فاجتَوَوا المدينة ـ أي: تغير

عليهم الجوـ ، وعمد صاحبه إلى مشاقص فقطع بَرَاجِمَه ـ

البراجم: مفاصل الأصابع ـ فجعل يَشخُبُ دمًا ـ أي: ينزُف ـ كما

في صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى

النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي

حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ - قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -

فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ،

فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ

الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ،

فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ

يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ

حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ

لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ

مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا

الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» .

الطفيل عرض على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ

بمكة الخروج إلى دوس، وقال: إن هناك حصنًا لدوس، وأراد

الله أن يجعل هذا للأنصار فهاجر النبي ـ صلى الله عليه وعلى

آله وسلم ـ إلى المدينة {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ

وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] .

قال القاضي في إكمال المُعْلِم (1/ 270 ) : فَأبى ذلكً النَّبِى (

صلى الله عليه وسلم ) لِلَّذِى ذَخَرَ الَلّهُ لِلأنْصًارِ .

( و دعا الطفيل قومَه) يعني قبيلة دوس .

(و أقام في بلاده ، فلما فتح اللهُ على رسوله خيبر قدم بهم في

نحوٍ من ثمانين بيتاً).

سبحان الله إسلام أمة عظيمة من قبيلة دوس، وقد ثبت في

الصحيحين البخاري (2937) ومسلم (197)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ

اللَّهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا

وَأْتِ بِهِمْ).

وهذا من رحمة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالكفار

و قد تقدم في أول الكتاب.

وبهذا ننتهي .










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 21:55   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

الدرس السابع من /الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم 12من شهر ربيع الأول 1437 .

فصل ـ الإسراء و المعراج و عرض النبي نفسَه على القبائل


و أُسْرِي برسولِ الله صلى الله عليه وسلم بجسدِه على الصحيح


من قولَي الصحابةِ والعلماء، من المسجدِ الحرامِ إلى بيتِ


المقدِس، راكِباً البُراق في صُحْبةِ جبريل عليه السلام .


******************************


هذا الفصلُ في أمرين من سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وعلى


آله وسلم ـ في الإسراء والمعراج، وفي عرْض النبي ـ صلى الله


عليه وعلى آله وسلم ـ نفسَه على القبائل .



الإسراء والمعراج من أعظم الكراماتوالفضائل للنبي ـ صلى

الله عليه وعلى آله وسلم ـ حتى إنَّ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية ـ رحمه

الله تعالى ـ يقول في مجموع الفتاوى: أفضل ليلة في حق النبي ـ

صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ليلة الإسراء .


وذلكَ لِما كان له ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من المكانة


والكرامة والنِّعم العظيمة وفرض الصلوات الخمس .


ونسوقُ نصَّ عبارته رحمه الله في مجموع الفتاوى (25/ 286)

وَسُئِلَ:

عَنْ " لَيْلَةِ الْقَدْرِ ". وَ " لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "


أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟


فَأَجَابَ:


بِأَنَّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْلَةَ


الْقَدْرِ أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ فَحَظُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ


الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْهَا أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِ مِنْ لَيَالِي الْقَدْرِ.


وَحَظُّ الْأُمَّةِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِمْ مِنْ لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ. وَإِنْ


كَانَ لَهُمْ فِيهَا أَعْظَمُ حَظٍّ. لَكِنَّ الْفَضْلَ وَالشَّرَفَ وَالرُّتْبَةَ الْعُلْيَا إنَّمَا

حَصَلَتْ فِيهَا لِمَنْ أُسْرِيَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . اهـ


وبعد ما لاقى النبيُّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من الشِدَّة،


والأذى، وأنواع المتاعب من الكفار، ومن موت عمه أبي طالب،


ثم موت أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - وتكذيب أهل


الطائف له وغير ذلك، أكرمه اللهُ عز وجل بالإسراء والمعراج .



وهذه سنةُ الله سبحانه وحِكْمَتُهُ أنه إذا اشتدَّت الأمورُ يأتي بعدها


الفرَجُ ويأتي الرخاء .



ومن ذلك قصةُ يوسف - عليه الصلاة والسلام - ابتُلي ابتلاء



عظيمًا من كيد إخوته له بأنواع المكائد، ثم ابتلي بامرأة العزيز،



وبالنسوة الأُخريات، فدُعِيَ إلى نفسه، واتُّهم في عرضه، ثم ابتُلي



بالسجن أكثر من ثلاث سنين ظلمًا وعدوانًا؛ لأن الله عز وجل



يقول: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[يوسف:42]، والبضع مابين


الثلاث إلى التسع.



ثم بعد ذلك جاءالفرج، وارتفعت مكانة يوسف - عليه الصلاة


والسلام - أتمَّ الله له النعمةَ، ثم بعد زمن جمع الله بينه وبين أبيه


وإخوته بعد فراق طويل ولله سبحانه الحكمة البالغة.



وحصل ليوسف - عليه الصلاة والسلام - الرخاء والرفعة



والمنزلة .




وهكذا أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ابتُليت باتهامِها في



عرضها، وكان في هذا كُربةٌ وشدَّة عظيمة حتى إن أمَّ المؤمنين



عائشة - رضي الله عنها - تقول: (قَالَتْ: وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي،



وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا، لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، حَتَّى



إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي) .



واستمر النبيُّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ شهرًا لا يُوحَى

إليه.


ثمَّ أنزلَ اللهُ في شأنها آيات وجاءت البشارة ونزلَ الفرَجُ تقولُ أمُّ


المؤمنين في سياق قصة حادثةِ الإفكِ (وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ


أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ


صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ

مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ، حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ،

فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ

الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا، أَنْ قَالَ لِي:

«يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ ) .


وهُنا النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعد هذه الابتلاءات


الشديدة أكرمه الله عز وجل بهذه النِّعَم العظيمة، النعمةُ تلو


النعمة وقبلَ الإسراء نزل جبريل عليه السلامُ وشَقَّ صدرَ النبي ـ


صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كما في صحيح البخاري ومسلم

وهذا لفظ مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ، يُحَدِّثُ، أَنَّ

رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ،

فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ


مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا

فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ...." الحديث .


وفي الصحيحين في رواية أنس عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ


عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وفيه : (فَأُتِيتُ

بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ

البَطْنِ، ثُمَّ غُسِلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ) .

قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم ) : إِلَى مَرَاقِّ البَطْنِ) هُوَ

بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَهُوَ مَا سَفَلَ مِنَ الْبَطْنِ وَرَقَّ مِنْ جِلْدِهِ . اهـ
وهذه مرَّةً أخرى غير المرَّة السابقة في أوائلِ الفُصُول التي ثبتت

في صحيح مسلم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ

الْغِلْمَانِ ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ ،


فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي

طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لَأَمَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ،

وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ ، فَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ

قُتِلَ ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ ، قَالَ أَنَسٌ : وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ

ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِه. ".


فهاتان حالتان، الأولى: عندما كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى


آله وسلم ـ صغيرًا .


والحالة الثانية: بعد البعثة قبل الإسراء بالنبي ـ صلى الله عليه

وعلى آله وسلم ـ .


فالنَّبيُّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم شُقَّ صدرُهُ مرتين .


والإسراء جاء في بعض الروايات تحديدُ اليوم والشهر وأنه في


سبع وعشرين في شهر رجب،و لا يثبت هذا .


قال شيخُ الإسلامُ فيما نقله عنه تلميذهُ ابنُ القيم في زادِ المعاد(1/

58 ) : وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ لَا عَلَى شَهْرِهَا وَلَا عَلَى عَشْرِهَا وَلَا

عَلَى عَيْنِهَا، بَلِ النُّقُولُ فِي ذَلِكَ مُنْقَطِعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَا يُقْطَعُ

بِهِ، وَلَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ تَخْصِيصُ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا لَيْلَةُ

الْإِسْرَاءِ بِقِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ .اهـ


وقال ابنُ رجب في لطائف المعارف 130 : وقد روي أنَّه في

شهر رجب حوادثُ عظيمة و لم يصحَّ شيءٌ من ذلك فروي : أن

النبي صلى الله عليه و سلم ولد في أول ليلة منه و أنه بعث في

السابع و العشرين منه و قيل : في الخامس و العشرين و لا يصح

شيء من ذلك .


ورُويَ بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد: أن الإسراء بالنبي


صلى الله عليه وسلم كان فيسابع وعشرين من رجب وأنكر ذلك

إبراهيمُ الحربي وغيره . اهـ


و ذكر هذا الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه ( تبين

العجب فيما ورد في فضل رجب ) وقال :ناقلاً عن بعضهم

وذكر بعضُ القصَّاص أن الإسراء كان في رجب. قال: وذلك

كذب .


وكان يذكر الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أن

الاحتفال بليلة الإسراء ، والاحتفال بأول يوم من شهر محرم

لايثبت، فهو بدعة؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ


يقول: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ» متفق


عليه . اهـ

ولم يختلفِ العلماء أن الإسراءَ كانَ بعدَ البِعْثَة قال ابنُ القيم رحمه


الله في زادِ المَعاد (1/ 97) :وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِالِاتِّفَاقِ .اهـ


أما ما جاء عند البخاري (7517)في رواية شريك بن عبدالله ابن


أبي نمرعن أنس بن مَالِكٍ يَقُولُ: " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى


اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى


إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ ..


فقال ابنُ القيم في زادِ المعاد (1/ 97) :وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ


شريك، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا عُدَّ مِنْ أَغْلَاطِ


شريك الثَّمَانِيَةِ وَسُوءِ حِفْظِهِ، لِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ.


(وأُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسدِه على الصحيح


من قولَي الصحابة والعلماء.) .


أُسري بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قبلَ الهجرة

بِصُحْبَةِ جبريل عليه السلام من المسجد الحرام ليلًا، كما قال

سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى

الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ

الْبَصِيرُ}[الإسراء:1] .


وفي المسألة ثلاثة أقوال في الإسراء برسول الله صلى اللهُ عليه


وعلى آله وسلم :


أحدها: أنه أسري بروحه وجسده .


القول الثاني: أنه أُسريَ برُوحِه فقط .


القول الثالث: أن هذا كان رُؤيا منامية، وقد عُدَّ هذا من أغلاط


شريك بن عبدالله بن أبي نمر.


قال الحافظ ابنُ حجر في فتحالباري رقم (7517) في سياق ذكر

الأخطاء التي أخطأ فيها شريكٌ هذا .


قال : الثالث : كونُها مناماً . اهـ



و القول الأول القولُ الصحيح، كما يقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه


الله تعالى ـ هنا؛ لأن الله عز وجل يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى


بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} .



قال الحافظُ ابنُ كثير في تفسيره ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ كَانَ


الْإِسْرَاءُ بِبَدَنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرُوحِهِ، أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ،


فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لا


مناما، ولا ينكرون أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى

قَبْلَ ذَلِكَ مَنَامًا ثُمَّ رَآهُ بعد يقظة، لأنه كان عليه السلام لَا يَرَى

رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبح .


والدليل على هذا قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ


الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ فالتسبيح

إنما يكون عند الأمور العظام .



فلو كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيْءٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا .



وَلَمَا بَادَرَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إلى تكذيبه، ولما ارتدت جَمَاعَةٌ مِمَّنْ


كَانَ قَدْ أَسْلَمَ.


وَأَيْضًا فَإِنَّ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقال تعالى


أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وقال تَعَالَى:{ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا


فِتْنَةً لِلنَّاسِ }[الإسراء: 60] قال ابن عباس: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا


رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةُ أسري به، والشجرة الملعونة


هي شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

.
وَقَالَ تَعَالَى: {مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى }[النَّجْمِ: 17] .

وَالْبَصَرُ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَرَّاقَةٌ لَهَا لَمَعَانٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلرُّوحِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ فِي حَرَكَتِهَا إِلَى مَرْكَبٍ تَرْكَبُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ


وهكذا من قال :كان بروحه فقط خلاف ظاهر الأدلة المُتقدِّمة .



(من المسجدِ الحرامِ إلى بيت المقدس.)



وهي القبلة الأولى للمسلمين، ثم نُسِخَت بالاستقبال إلى الكعبة،


ومن استقبل بيتَ المقدس متعمِّدًافي صلاته فإنه يكون كافرًا، لأن

هذا نُسِخَ .


(راكباً البُراق في صُحبةِ جبريلَ عليه السلام، فنزلَ ثَمَّ )



في صحيح مسلم برقم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ


صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ


فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ»


سبحانَ الله آية من آيات الله أرسله اللهُ ليحمل هذا النبي الكريم


وجبريل عليه الصلاة والسلام.



(يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) (الْحَافِر) من الدَّوَابّ مَا يُقَابل


الْقدَم من الْإِنْسَان كما في المُعجَمِ الوسيط .


يضعُ حافرَه وهي الخطوة ، موضع أقصى طرْفِه ، أي مدَّ


بصره ،موضِع منتَهى بصرِه .


الطرْف : البصر .

وهذا في غايةِ السُرْعَة .


سخَّره له ربُّ العالمين يركبُ عليه ، ويربطه بحلقة المسجد .



قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ»، قَالَ: «فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ



الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ»، قَالَ " ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ



رَكْعَتَيْنِ) .


ثم دخل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فصلى ركعتين


في بيت المقدس ثم خرج من بيت المقدس وجاءه جبريل كما في

صحيح مسلم (162) عن أنس الحديث وفيه : قَالَ " ثُمَّ دَخَلْتُ

الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ

السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ ،


فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ الحديث .


وقد نفى حُذيفةُ بن اليمان رضي اللهُ عنه صلاةَ النبي صلى الله

عليه وعلى آله وسلم في بيتِ المقدس

.
كما أخرج الترمذيُّ في سننه (3147)من طريق عَاصِمِ بْنِ أَبِي


النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ: أَصَلَّى


رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ:


بَلَى، قَالَ: أَنْتَ تَقُولُ ذَاكَ يَا أَصْلَعُ، بِمَ تَقُولُ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: بِالقُرْآنِ.


بَيْنِي وَبَيْنَكَ القُرْآنُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: مَنْ احْتَجَّ بِالقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ. فَقَالَ:


{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ


الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] قَالَ: أَفَتُرَاهُ صَلَّى فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: «لَوْ


صَلَّى فِيهِ لَكُتِبَ عَلَيْكُمُ فِيهِ الصَّلَاةُ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ


الْحَرَامِ» قَالَ حُذَيْفَةُ: «قَدْ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ


بِدَابَّةٍ طَوِيلَةِ الظَّهْرِ، مَمْدُودَةٍ. هَكَذَا خَطْوُهُ مَدُّ بَصَرِهِ، فَمَا زَايَلَا


ظَهْرَ البُرَاقِ حَتَّى رَأَيَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ وَوَعْدَ الآخِرَةِ أَجْمَعَ، ثُمَّ رَجَعَا

عَوْدَهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا» . قَالَ: وَيَتَحَدَّثُونَ أَنَّه رَبَطَهُ، لِمَ؟ لِيَفِرَّ مِنْهُ

وَإِنَّمَا سَخَّرَهُ لَهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ .


وهذا حديث حسن من أجل عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ فهو صدق يهِم .



وقد حسَّنه الوالدُ رحمه الله في الصحيح المسند مما ليس في


الصحيحين رقم (301) .


قال الحافظ ابنُ كثيرٍ رحمه الله في تفسيره :وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ


حُذَيْفَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، نَفْيٌ، وَمَا أَثْبَتَهُ غَيْرُهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبْطِ الدَّابَّةِ بِالْحَلْقَةِ وَمِنَ الصلاة بالبيت

الْمَقْدِسِ، مِمَّا سَبَقَ وَمَا سَيَأْتِي مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

بِالصَّوَابِ.

وقوله (فَمَا زَايَلَا ظَهْرَ البُرَاقِ )أَيْ مَا فَارَقَ النَّبِيُّ وَجِبْرِيلُ ظَهْرَهُ


كما في تحفة الأحوذي .


**********************


فنزلَ ثَمَّ وأَمَّ بالأنبياءِ ببيت المقدس فصلَّى بهم .

.
ثم عُرج به تلك الليلة مِن هناك إلى السماءِ الدُّنيا، ثم للتِي تليها،


ثم الثالثة، ثم إلى التي تليها،ثم الخامسة، ثم التي تليها، ثم السابعة .


ورأى عندها جبريلَ على الصُّورةِ التي خلقه اللهُ عليها، وفرَض


اللهُ عليه الصلواتِ تلكَ الليلةَ .



*****************


وقوله :فنزلَ ثَمَّ وأَمَّ بالأنبياءِ ببيت المقدس فصلَّى بهم .) ثَمَّ أي



هناك .


وهذا خلاف ما ذكره رحمه الله في تفسير سورة الإسراء قال :


وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُسْرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ

الْمَقْدِسِ رَاكِبًا الْبُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، رَبَطَ الدَّابَّةَ

عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ، فَصَلَّى فِي قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتى


بالمعراج وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يُرْقَى فِيهَا، فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ

الدُّنْيَا ثم أشار إلى حديث الإسراء ثم قال : فرض الله عَلَيْهِ هُنَالِكَ

الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ،

وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا.


ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا

حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصُّبْحُ مِنْ يَوْمِئِذٍ .


قال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ


بِهِ الروايات أنه ببيت الْمَقْدِسِ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ


دُخُولِهِ إِلَيْهِ.


وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ


يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ


اللَّائِقُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ


وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ لَمَّا فرغ من الذي أريد به،


اجتمع هو وإخوانه من النبيين ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهَ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ


بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ فِي


ذَلِكَ .


ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ،


وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ


استظهر في تفسيره رحمه الله أنه أمَّ بالأنبياء في بيت المقدس بعد

المعراج به .


ثُمَّ عُرِج بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى السماء


بصُحبة جبريل عليه السلام .


(ثم عرج به تلك الليلة من هناك) من هناك: أي من بيت المقدس.


(إلى السماء الدنيا)


سميت بذلك لأنها تلي الدنيا .


وكان في السماء الدنيا أبونا آدم - عليه الصلاة والسلام - فرحَّب


بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقال مرحبًا بالابن


الصالح، والنبي الصالح وهكذا سائر الأنبياء الذين مر بهم النبي ـ


صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في السماء يستبشرون به


ويرحِّبون به ويشهدون له بالنبوة.


(ثم للتي تليها) وهي السماء الثانية قال النبي ـ صلى الله عليه

وعلى آله وسلم: ( ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ

عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ:

مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا

بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، صَلَوَاتُ اللهِ

عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ) .

(ثم الثالثة) وكان في الثالثة نبي الله يوسف .

(ثم التي تليها) وهي السماء الرابعة وفيها نبي الله إدريس .

(ثم الخامسة) وفيها نبي الله هارون .

(ثم التي تليها) وهي السماء السادسة وفيها نبي الله موسى .

(ثم السابعة) وفيها نبي الله إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام -.

(و رأى عندها جبريل على الصورة التي خلقه الله عليها)

النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ رأى جبريل - عليه

الصلاة والسلام - في صورته التي خُلق عليها مرتين كما في


صحيح مسلم (177) عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ،


فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ، ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى


اللهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ


وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا


فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْظِرِينِي، وَلَا تُعْجِلِينِي، أَلَمْ يَقُلِ


اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ

نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]؟ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ...» الحديث.

وما عدا ذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يرى


جبريلَ - عليه الصلاة والسلام - على صورة رجل، وفي كثير


من الأحيان كان يأتي جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - على

صورة الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي ـ رضي الله عنه ـ

.
أخرج البُخاري (3634 ) ومسلم (2451)عن أُسامة بنِ زيد


أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ

سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ

سَلَمَةَ: «مَنْ هَذَا؟» أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ: قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، قَالَتْ أُمُّ

سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ جِبْرِيلَ .


و في صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ


وَسَلَّمَ قَالَ: «عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ

الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ

السَّلَامُ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ

إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ -

يَعْنِي نَفْسَهُ -، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ

شَبَهًا دَحْيَةُ» .

دحية : قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم تحت رقم

(168) : (دَحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ) هُوبِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ .


وقال رحمه الله في شرح حديث أم سلمة المُتقدِّم : وَكَانَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ غَالِبًا وَرَآهُ


مَرَّتَيْنِ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ .اهـ


إتيان جبريل - عليه الصلاة والسلام - في صورة رجل فيه شُبْهَةٌ



للإخوان المسلمين، ومن كان على شاكلتهم في إباحة التمثيل وهذا


غلطٌ ومنكر ، فجبريل - عليه الصلاة والسلام - الله سبحانه


وتعالى هو الذي يجعله على صورة رجل من أجل مؤانسة النبي ـ


صلى الله عليه وعلى آله وسلم .


وقد وردت الأدلةُ في تحريم التمثيل، ومن ذلك ما جاء في مُسند


أحمد عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ



عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ،


أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ» . الحديث حسن،

وهو يدل على أن التمثيل كبيرة من كبائر الذنوب.


وفي سنن أبي داود عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ: أي حكت له


فعلًا. فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنكر و قال: (مَا


أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) .


قال صاحِبُ عونِ المعبود : (وَحَكَيْتُ لَهُ) لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ (إِنْسَانًا) أَيْ فَعَلْتُ مِثْلَ فِعْلِهِ تَحْقِيرًا لَهُ يُقَالُ حَكَاهُ وَحَاكَاهُ

وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَبِيحِ الْمُحَاكَاةُ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا) أَيْ مَا يَسُرُّنِي أَنْ أَتَحَدَّثَ

بِعَيْبِهِ أَوْ مَا يَسُرُّنِي أَنْ أُحَاكِيَهُ بِأَنْ أَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ أَوْ أَقُولَ مِثْلَ

قَوْلِهِ عَلَى وَجْهِ التَّنْقِيصِ . اهـ


هذه المسألة مما يعتبرها الإخوانُ المسلمون من وسائل الدعوة


وهي محرمة .


ويشتمل على محرمات كالكذب، وتشبه الرجال بالنساء والعكس .


فالتمثيل لايجوز مثلًا: يمثِّل الصحابة، أو يمثل غزوة من

الغزوات، أو يمثل في تمثيله الشيطانكيف يغوي العباد؟ .


لانحتاج إلى هذا. الدعوة لاتُنصر بالمعصية، فالمعصية إنما هي


من أسباب الخذلان في السيرـ


والعياذ بالله ـ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ

يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7]. أي تنصروا دين الله كما شرع .
(و فَرَض الله عليه الصلوات تلك الليلة)


أي الصلوات الخمس - وإلا قد كانت الصلاة مفروضة من قبل


الصلوات الخمس - فرضت عليه ليلة الإسراء.


هذا ودليل المعراج من جملة الأدلة على إثبات علو الله عز وجل .

فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عُرِج به إلى السماء

ولما بلغ سدرة المنتهى كلمهُ ربه وتردد نبينا محمد ـ صلى الله

عليه وعلى آله وسلم ـ على ربه ليسأله التخفيف في الصلاة، ففي

حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وفيه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ (فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى

مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟

قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ

أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ "،

قَالَ: " فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ

عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ

أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، قَالَ: "

فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ

حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ

صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا

كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ

يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً "، قَالَ: "

فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ،

فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ " .

وكان مما رأى ليلة عُرِج به عُقوبة أصحاب الغِيبة التي يستَلِذُّها

بعضُ الناس كما روى أبوداود في سننه (4878)عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا عُرِجَ بِي

مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ،

فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ " .

و بعد هذه الكرامات رجع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ

إلى مكة وأخبرَ بأنه أُسريَ به .


جاء في مسند الامام أحمد (2819) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي،



وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ» فَقَعَدَ




مُعْتَزِلًا حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ بِهِ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ

إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: «إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي

اللَّيْلَةَ» قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟» قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ

بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخَافَةَ أَنْ

يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ

تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» .

فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ

الْمَجَالِسُ، وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا

حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي أُسْرِيَ بِي

اللَّيْلَةَ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ

بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ " قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ

وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، مُتَعَجِّبًا لِلكَذِبِ زَعَمَ قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ

تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى

الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ فَمَا

زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ» ، قَالَ: «فَجِيءَ

بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ،

وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» ، قَالَ: «وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ» قَالَ: "

فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ " .


وهذه كرامة ومعجزة عظيمة لهذا الرسولِ الكريم لمَّا عجز عن

الوصف قُرِّب له بيتُ المقدس فجعل ينظرُ ويصف .


ومع ذلك ازداد بعضهم ـ والعياذ بالله ـ تكذيبًا للنبي ـ صلى الله

عليه وعلى آله وسلم ـ كما قال تعالى: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ

السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (15) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا


بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}[الحجر:15،14]، فالأمر قد تُعرفُ


حقيقته وصدْقه و لا يُنتفَعُ به وهذا من الخُذْلان .

.
وقالوا إنهم لا يصِلُون بيت المقدس إلا بزمن والنبي صلى الله

عليه وسلم ذهب في الليل وفي الصبح وهو في مكة .


تنبيهٌ


يفيد الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أن هناك رسالةً في


الإسراء والمعراج تنسب إلى عبدالله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ


وأن هذا لم يثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.



******************************


و اختلف العلماءُ: هل رأى ربَّه عز وجل أوْلا ؟ .


على قولين: فصح "عن ابن عباس أنه قال: رأى ربَّه .


و جاء في رواية عنه: رآه بفؤاده".


و في الصحيحين "عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أنكرت

ذلك على قائله، و قالت هي و ابن مسعود: إنما رأى جبريل ".


وروى مسلم في صحيحه من "حديث قتادة عن عبد الله بن شقيق

عن أبي ذرٍ أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم هل

رأيت ربَّك؟ قال: [ نورٌ ، أنَّى أَراه ! ؟ ] و في رواية [ رأيتُ

نوراً ]. فهذا الحديث كافٍ في هذه المسألة.


******************************


وهذه مسألة هل رأى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ربه

عز وجل في ليلة الإسراء؟.


ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أن في المسألة قولين


وأنه أنكر ذلك عائشة وابن مسعود - رضي الله عنهما – .


أمَّا حديث عائشة رضي اللهُ عنها متفق عليه تقول لمسروق (مَنْ

زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ


الْفِرْيَةَ ) .

وحديث ابن مسعودٍ أخرجه البخاري (3232 ) ومسلم (174)

من طريق أبي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ

قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا

أَوْحَى} [النجم: 10] قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ «رَأَى جِبْرِيلَ،

لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ» .


ثم ذكر الحافظُ ابنُ كثير حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قَالَ:

«نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ»، وفي رواية «رأيت نورًا» .


ثم قال: (فهذا الحديث كافٍ في هذه المسألة) أي: أن النبي ـ

صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لم يرَ ربه.

******************************

و لما أصبح رسولُ الله صلى الله عليه و سلم في قومِه أخبرَهم

بِما أَراه اللهُ من آياته الكُبرى،


فاشتدَّ تكذيبُهم له و أذاهم و استجراؤهم عليه.


و جعلَ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم يعرض نفسَه على القبائل

أيامَ الموسِمِ و يقول: "مَن رجل يحمِلُني إلى قومه فيمنعُني حَتَّى

أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي!؟ فإن قريشاً قد منَعُوني أن أبلِّغَ رسالةَ ربي".


هذا وعمُّه أبو لهبٍ ـ لعنه الله ـ وراءَه يقول للنَّاس: لا تسمعُوا منه

فإنه كذاب .


فكان أحياءُ العرب يتحامونَه لِما يسمعون من قُريش عنه: إنَّه

كذَّاب، إنه ساحِرٌ، إنه كاهِنٌ، إنه شاعرٌ، أكاذيبُ يقذفونَه بها من

تلقاءِ أنفسِهم، فيُصْغِي إليهم من لا تمييزَ له من الأحياء.


وأما الألِبَّاء إذا سمِعُوا كلامَه و تفهَّمُوه شهِدوا بأنَّ ما يقولُه حقٌّ و

أنهم مفترُون عليه، فيسْلِمُون .


******************************

هذه المسألة الثانية في هذا الفصل أن النبي ـ صلى الله عليه

وعلى آله وسلم ـ بعد ما أُسري به، واشتد تكذيبُ كفارِ قريش له

جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يعرِضُ نفسه

على القبائل والوفُود من يؤويه وينصره حتى يبلغ رسالةَ ربه

سبحانه.


(أيام الموسم )


الموسم: هُوَ الوَقْت الَّذِي يَجْتَمِع فِيهِ الحاجُّ كلَّ سَنَة، كَأَنَّهُ وُسِمَ

بِذَلِكَ الْوَسْم كما في النهاية.


(هذا وعمه أبو لهب ـ لعنه الله ـ وراءهُ يقول للنَّاس: لا تسمعُوا

منه فإنه كذَّاب).


هذا ثابت رواه الإمام أحمد (16023) عن ربيعةَ بن عباد وهو

في الصحيح المسند للوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ عَنْ


رَبِيعَةَ بْنِ عِبَادٍ الدِّيلِيِّ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، يَقُولُ: " يَا

أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، تُفْلِحُوا " وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا


وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا، وَهُوَ لَا

يَسْكُتُ، يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا " إِلَّا أَنَّ


وَرَاءَهُ رَجُلًا أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ، ذَا غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ،


كَاذِبٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ،


قُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ؟ قَالُوا: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، قُلْتُ: إِنَّكَ كُنْتَ


يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا، قَالَ: لَا وَاللهِ إِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَعْقِلُ) .


(ذَا غَدِيرَتَيْنِ) أي: ظفيرتين. (وَرَاءَهُ رَجُلًا أَحْوَلَ ...) والذي

يتبعه أبو لهب وكان أبو لهب شديد العداوة والأذى للنبي ـ صلى

الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، كان يتبع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ويرميه بالحجارة حتى يدمِي عرقوبيه .


وبنحو حديث ربيعة بن عباد ـ رضي الله عنه ـ جاء عن طارق


بن عبدالله المحاربي وكلاهمافي الصحيح المسند مما ليس في

الصحيحين للوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ.


(فكان أحياءُ العرب يتحامونه لِما يسمعون من قريش عنه: إنه

كذاب، إنه ساحر، إنه كاهن، إنه شاعر، أكاذيب يقذفونه بها من


تلقاء أنفسهم، فيصغي إليهم من لا تمييز له من الأحياء).


(يتحامونه ) أي: يتجنبونه، لِما يسمعون من قريش عنه إنه


كذَّاب، إنه ساحِر، إنه كاهِن،إنه شاعر ، هذا من أذى كفار قريش

وسبهم للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقد ذكر الله ذلك

عنهم في القرآن .


وفي صحيح مسلم(868) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " أَنَّ ضِمَادًا، قَدِمَ مَكَّةَ

وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ

مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا

الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي

أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ

وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ،


وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ

وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، فَأَعَادَهُنَّ

عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ

سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ

مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ، قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ

يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَى قَوْمِكَ»، قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي) الحديث .


(وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ) يقصد ضماد بن ثعلبة ـ رضي الله عنه



ـ أنه سمع قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، وكان كلام


النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أبلغ من كلامهم وأفصح

وأبلغ تأثيرًا.


ضماد بن ثعلبة ـ رضي الله عنه ـ كان يسمع من هذه الدعايات،

وهذا التنفير عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهكذا


كلُّ من يقدم من الوفود إلى مكة يسمع الشتم والسباب والتنفير.


(وأما الألبَّاء إذا سمعوا كلامَه و تفهَّموه شهِدوا بأن ما يقوُلُه حق

و أنهم مفترُون عليه، فيُسلِمون).


(الألبَّاء) أصحاب العقول السليمة .


(فيسلِمون) يدخلون في الإسلام. قد يسمع الإنسان تنفيرًا،

وأكاذيب ويكون هذا سبباً لهدايته .


فأسباب الهداية كثيرة يقول: آتي وأسمع وأنظرالحقيقة بنفسي، فإذا

سمع دعوة الحق والدعوةالصحيحة يؤثر فيه ويسلم ويهتدي للحق
.
حتى إن الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ كان يقول: ( الكَلَامُ


فِينَا دَعوَةٌ إِلَى دَعوَتِنَا).


انتهينا من هذا الفصل في الإسراء والمعراج وعرض النبي ـ


صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ


نفسه على القبائل لما رجع من الإسراء والمعراج .




******************************
فصل ـ حديثُ سويدِ بن الصامت و إسلام إياس بن معاذ

و كانَ ممَّا صنعَ اللهُ لأنصارِه من الأَوسِ و الخزرجِ أنهم كانُوا

يسمعُون من حُلفائِهم من يهودِ المدينةِ أنَّ نبياً مبعوثٌ في هذا

الزَّمن، و يتوعَّدُونهم به إذا حاربُوهم، و يقولون: إنا سنقتُلُكم معه

قَتْلَ عَادٍ وِإرَم ، و كان الأنصارُ يحجُّون البيتَ، كما كانتِ

العرب تحُجُّه و أما اليهودُ فلا. فلما رأى الأنصارُ رسولَ الله

صلى الله عليه و سلم يدعو الناس إلى الله تعالى، و رَأوا أماراتِ


الصدق عليه قالوا: والله هذا الذي توعَّدكم يهودُ به فلا يسبِقُنَّكم

إليه.
******************************


في هذا الفصل بيان أنَّ الأنصار آووا النبي ـ صلى الله عليه

وعلى آله وسلم ـ ونصروه حتى يقوم بتبليغ الرسالة، وهذا مما

جعله الله عز وجل ذُخرًا للأنصار، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه

وعلى آله وسلم ـ يعرض نفسَه على القبائلِ ويَرُدُّونَه، واستجابتْ

لهذا الأنصارُ - رضي الله عنهم .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ كما في سيرةِ ابنِ هشام (1/ 195) : وَحَدَّثَنِي

عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: إنَّ مِمَّا

دَعَانَا إلَى الإِسلام، مَعَ رحمة الله تعالى وهُداه، لمَّا كنا نسمع من


رجال يهود، كُنا أهلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوَثَانٍ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ،

عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا، وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ، فَإِذَا نِلْنا

مِنْهُمْ بعض ما يكرهون، قالوا لنا: إنه تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبعث

الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وِإرَم، فَكُنَّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ .


فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ رسولَه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَبْنَاهُ، حِينَ دَعَانَا

إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَنَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ، فَآمَنَّا

بِهِ، وَكَفَرُوا بِهِ، فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ مِنْ الْبَقَرَةِ: {وَلَمَّا

جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ

يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ

اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] .

والحديث حسن .


وهو في الصحيح المسند من أسباب النزول للوالِد رحمه اللهُ .


الأنصار:هم الأوس والخزرج، وإيواؤهم للنبي ـ صلى الله عليه


وعلى آله وسلم ـ معدود في أعظم مناقبهم، وفضائلهم - رضي


الله عنهم -


والأنصار الله عز وجل سمَّاهم بهذا كما في صحيح البخاري



(3776) عن غَيْلاَنِ بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَرَأَيْتَ اسْمَ



الأَنْصَارِ، كُنْتُمْ تُسَمَّوْنَ بِهِ، أَمْ سَمَّاكُمُ اللَّهُ؟ قَالَ: «بَلْ سَمَّانَا اللَّهُ عَزَّ


وَجَلَّ»، كُنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَنَسٍ، فَيُحَدِّثُنَا بِمَنَاقِبِ الأَنْصَارِ،


وَمَشَاهِدِهِمْ، وَيُقْبِلُ عَلَيَّ، أَوْ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَزْدِ، فَيَقُولُ: «فَعَلَ


قَوْمُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا» .



(بَلْ سَمَّانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ): يشير إلى الآيات التي فيها ذكر

الأنصار كقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ

وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ


وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:100] .


وقال الله عز وجل في فضلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9].

{تَبَوَّءُوا} أي الأنصار { الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} الدَّار، وهي المدينة .

من أوصافهم الحميدة التي أثنى الله عز وجل عليهم بها محبة

المهاجرين إليهم {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}

لايدخل في نفوسهم شيء إذا أُوثر المهاجرون عليهم بالعطاء،

{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ

نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هذا من أوصافهم الحميدة صفة الإيثار.


وفي صحيح البخاري (3801) وصحيح مسلم (2510) عَنْ

أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ

الْأَنْصَارَ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَإِنَّ النَّاسَ سَيَكْثُرُونَ وَيَقِلُّونَ، فَاقْبَلُوا

مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ».


وفي صحيح البخاري (7244) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ،


وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ وَادِيًا - أَوْ شِعْبًا - لَسَلَكْتُ


وَادِيَ الأَنْصَارِ، - أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ» .


وفي البخاري (17)، ومسلم (74) عن أنس بن مالك عَنِ النَّبِيِّ


صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آيَةُالإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ».


رضي اللهُ عنهم وأرضاهم .



(حلفائهم) التَّحالُف: التعاقد على النصرة والمعونة .


(أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبياً مبعوث

في هذا الزمن، و يتوعدونهم به إذا حاربوهم، و يقولون: إنا
سنقتلكم معه قتل عاد وإرم) .

لأن اليهود أهل كتاب، والكتب السابقة جاءت بإثبات نبوة هذا


النبي الكريم ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال سبحانه

وتعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران:81] .


وكانت اليهود تتوعد الأنصار أنه سيخرج فينا نبي وسنحاربكم


معه.


(و يقولون : إنا سنقتلكم معه قتل عاد وإرَم): أي نستأصلكم .


فلما بعث الله عز وجل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ


حسدت اليهود العرب ؛ وهذا من أشد صفاتهم الذميمة الحسد،


وكفرت بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه مابُعث منهم .


(و كان الأنصارُ يحُجُّون البيت، كما كانت العرب تحجُّه و أما



اليهودُ فلا) .


اليهود ما كانوا يحجون


.

******************************


و كان سويدُ بنُ الصَّامت أخو بني عمرو بن عوف بنِ الأوس قد


قدِمَ مكَّةَ فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه و سلم فلم يبْعُدْ ولم يُجِب


ثم انصرفَ إلى المدينة، فقُتل في بعض حروبهم .


و كان سويد هذا ابن خالة عبد المطلب .


ثم قدِم مكةَ أبو الحيسر أنسُ بن رافع في فِتْيَةٍ من قومه من بني

عبد الأشهل، يطلبونَ الحِلْفَ، فدعاهم رسولُ الله صلى الله عليه و

سلم إلى الإسلامِ ، فقال إياسُ بن معاذ منهم ـ و كان شاباً حدَثاً ـ:


يا قومِ، هذا و الله خير مما جِئنا له، فضربَه أبو الحيسر و انتهرَه،

فسكت، ثم لم يَتِمَّ لهم الحِلْف، فانصرفوا إلى بلادِهم إلى المدينة،

فيقال إن إياس بن معاذ مات مسلماً .


******************************


هؤلاء من الوفود إلى مكة .



و قد تكلَّم أهلُ العلم على حالِ سويد بن الصامت



قال ابنُ أبي حاتمٍ في الجرح والتعديل(4/ 233) سويد بن


الصامت رأى النبي صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز

وذلك قبل بعاث فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام


فكان قومه يرون أنه مات مسلما، شيخا كبيرا .


سمعت أبي يقول ذلك.


وقال ابنُ عبدالبر في الاستيعاب ترجمة سُوَيد :بعد أن ذكر أنه لم


يُظهِر إسلامَه لما لقي النبيَّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم .


قال :أنا شاكٌّ في إسلام سويد بن الصامت كما شك فيه غيري ممن ألف في هذا الشأن قبلي. والله أعلم.


وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في الإصابة اثنين


يقالُ لكل منهما سويد بن الصامت .


أحدهما :سويد بن الصامت بن حارثة بن عدي الخزرجي وقال :


(قال ابن سعد والطّبريّ: شَهِدَ أحدًا) .


الثاني : سويد بن الصامت بن خالد :


بن عقبة الأوسيّ. ذكره ابن شاهين، وقال:


شُكَّ في إسلامه. وقال أبو عمر –أي ابن عبدالبر- : أنا أشك فيه

كما شكَّ غيري.


ذكره بعضهم معتمِدا على ما روى ابن إسحاق عن عاصم بن


عمرو، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن الصامت


معتمرا، فدعاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الإسلام فلم


يبعد، وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف فقتل، فكان رجال

من قومه يقولون: إنا لنراه مسلما .


قلت: فإن صحّ ما قالوا لم يعدّ في الصحابة، لأنه لم يلق النبي


صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا.


ويُنظرُ فتحُ الباري رقم 40 في آخر شرح الحديث .


وإسناد ابن إسحاق ضعيف ، فيه عنعنة ابنِ إسحاق وهو مدلس .


(و كان سويد هذا ابن خالة عبد المطلب)


عبد المطلب بن هاشم جد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ

.
قال ابنُ كثير في البداية والنهاية (3/ 147) ترجمة سويد : وَأُمُّهُ


لَيْلَى بِنْتُ عَمْرٍو النَّجَّارِيَّةُ أُخْتُ سَلْمَى بِنْتِ عَمْرٍو أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ


بْنِ هَاشِمٍ . فَسُوَيْدٌ هَذَا ابْنُ خَالَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى



اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .



وقد جاء أبوالحيسر وهو أنس بنُ رافع ومعه فِتْيَةٌ من قومه


ومنهم إياس بنُ معاذ وطلبوا مِن قريش محالفتهم على قتالِ


الخزرج ولم يتمَّ لهم جاء أنه قالت قريش:



بعُدت داركم مِنَّا مَتَى يجيب داعينا صريخَكم ومتى يجيب داعيكم

صريخَنا! كما في الطبقات لابنِ سعدٍ .


وإياس بن معاذ الأنصاري، أيضاً مختلف فيه قال ابنُ أبي حاتم


في الجرح والتعديل : يقال: له صحبة، سمعت أبي وأبا زرعة


يقولان ذلك .

وقال أبونعيم في معرفة الصحابة (1/ 293 ) :إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ

الْأَشْهَلِيُّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ


الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ، فَتُوُفِّيَ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ

.اهـ


وقال ابن السَّكن، وابن حِبَّان: له صحبة كما في الإصابة.


والشاهِدُ أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان يدعو


الوفودَ إلى مكة يدعوهم إلى اللهعز وجل دعا سويدَ بنَ الصامت

، ودعا أبا الحيسر والفِتْيَة الذين معه ومنهم الشابُّ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ

الْأَشْهَلِيُّ .



وهذه طريقة وسُنن الأنبياء والمرسلين الدعوة إلى اللهِ عزوجل .



انتهينا ولله الحمد .










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 21:58   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

الدَّرْسُ الثَّامِنُ من / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم 18 من شهر ربيع الأَوَّل 1437 .

فصلٌ ـ بيعةُ العقبةِ الأولَى والثانية
ثم إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لقيَ عندِ العقبةِ في الموسِمِ نفراً من الأنصارِ
كُلَّهم من الخزْرج، وهم: أبو أمامةَ أسعدُ بن زُرارة بن عُدَس، وعوفُ بنُ الحارث بنِ رِفاعة

وهو ابنُ عفْراء ، ورافعُ بن مالك بن العَجْلان، وقُطبةُ بن عامر بن حَديدة، وعقبةُ بن عامر بن نابِي، وجابر
بن عبد الله بن رِئاب، فدعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فأسلموا مبادرةً إلى الخير، ثم

رجعُوا إلى المدينة فدعوا إلى الإسلام، ففشا الإسلامُ فيها، حتَّى لم تبقَ دارٌ إلا وقد دخلَها الإسلامُ .

#################

قولهُ (لقي عندِ العقبةِ)قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم شرح حديث كعبٍ

الطويل في غزوة تبوك : الْعَقَبَةُ الَّتِي فِي طَرَفِ مِنًى التى يُضَافُ إِلَيْهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ .اهـ

(في الموسِمِ)أي موسمِ الحج بمنى .

(أبو أمامةَ أسعدُ بن زُرارة بن عُدَس)

عُدَس قال الصفَدي في( الوافي بالوفيات ) ترجمة أسعد : (عُدَس على وزن قُثَم) .

وصفَهُ الذهبي رحمه الله في ترجمته من سير أعلامِ النبلاء وقال : السَّيِّدُ، نَقِيْبُ بَنِي النَّجَّارِ، أَبُو أُمَامَةَ
الأَنْصَارِيُّ، الخَزْرَجِيُّ، مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ .

وقال الحافظ في الإصابة : قديم الإسلام، شهد العقبتين، وكان نقيباً على قبيلته، ولم يكن في النُّقباء أصغر سنّا
منه. ويقال: إنه أول من بايع ليلة العقبة .

(عوفُ بنُ الحارث )هو أخو معاذ ومعوذ أولاد عفراء.

ذكرهم أهل المصطلح فيمن يُنسبُونَ إلى أُمهاتِهم .

وأبوهم الحارث بْنُ رفاعة بن الحارث .
(ورافع بن مالك بن العجلان) قال ابنُ عبدالبر في الاستيعاب في ترجمته :رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو
بن عامر بن زريق .

الزرقي الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا مالك .

وقيل: يكنى أبا رفاعة، نقيب بدري عَقَبي، شهد العقبة الأولى والثانية، وشهد بدرا فيما ذكره موسى بن عقبة

عن ابن شهاب، ولم يذكره ابن إسحاق في البدريين.
(وقطبةُ بن عامر بن حَديدة)قال ابنُ عبدالبر في الاستيعاب : يكنى أبا زيد قَالَ ابْنُ إِسْحَاق: هُوَ قطبة بْن
عَامِر بْن حديدة بْن عَمْرو بن سواد بن غنْم بن كعب بن سَلَمَة الخزرجي، شهد العقبة الأولى والثانية، ولم
يختلفوا فِي ذَلِكَ، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلّها مع رسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت معه راية بني سَلَمَة

يَوْم الْفَتْح، وجرح يَوْم أحد تسع جراحات.
(عقبةُ بن عامر بن نابِي) نابي بنون وموحدة وزن قاضي كما في الإصابة .

(جابر بن عبد الله بن رئاب) هذا جدُّهُ رِئاب فليس بالصحابي المشهور وهو جابر بن عبدالله بن عمرو بن
حرام هؤلاء الستة من الأنصار وكلُّهم من الخزرج ، أرَادَ اللهُ بهم خيراً ،شهِدُوا العقبةَ الأولى ولقيهم النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم في موسم الحج بمنى عند جمرة العقبة ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى
فاستجابُوا وأسلموا مبادرةً إلى الخير، ثم رجعوا إلى المدينة دُعَاةً إلى الإسلام فانتشر الإسلامُ

( حتى لم تبقَ دارٌ إلا وقد دخلها الإسلام)

فليس يوجد دارٌ من دُورِ الأنصارِ إلَّا وفيها مَن أسلم من الرجالِ والنساء.

#################

فلما كان العامُ المقبلُ، جاء منهم اثنا عشرَ رجلاً: الستةُ الأوائِل خلا جابرَ بن عبد الله بن رئاب .

ومعهم: معاذُ بن الحارث بن رفاعة، أخو عوفٍ المتقدِّم، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة ـ وقد أقام ذكوانُ هذا
بمكةَ حتى هاجرَ إلى المدينة فيُقال: إنه مهاجري أنصاري ـ وعبادةُ بن صامت بن قيس، وأبو عبد الرحمن
يزيد بن ثعلبة، فهؤلاء عشرةٌ من الخزرج .

واثنان من الأَوْس وهما: أبو الهيثم مالك بن التَّيِّهان، وعُويم بن ساعدة ، فبايعوا رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم كبيعة النساء، ولم يكن أُمِر بالقتالِ بعدُ .

فلما انصرفُوا إلى المدينة، بعث معهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرو بنَ أُمِّ مَكتوم، ومصعب بن عمير
يُعلِّمان من أسلم منهم القرآنَ، ويدعُوان إلى الله عز وجل، فنزلا على أبي أمامة أسعدَ بنَ زُرارة، وكان مصعبُ
بن عمير يَؤمُّهُم وقد جمَّع بهم يوماً بالأربعين نفساً، فأسلم على يديهما بشرٌ كثيرٌ منهم: أسيدُ بن حضير

وسعدُ بن معاذ، وأسلمَ بإسلامِهما يومئذ جميعُ بني عبد الأشهل، الرجال والنساء، إلا الأُصيرمَ، وهو عمرو بن

ثابت بن وَقَش، فإنه تأخَّر إسلامُه إلى يومِ أُحُد، فأسلم يومئذ، وقاتل فقُتل قبل أن يسجدَ لله سجْدَةً، فأُخبر عنه

النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: "عمِل قليلاً وأُجر كثيراً". وكثُر الإسلامُ بالمدينةِ وظَهَرَ .


#################

(فلما كان العامُ المقبلُ، جاء منهم اثنا عشر رجلاً: الستةُ الأوائلُ خلا جابرَ بن عبد الله بن رئاب...)

يذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أنه في العام المقبل جاء من الأنصار اثنا عشر رجلًا : وهم

الخمسةُ الأوائل ، وآخرُون من الأنصار، عشرةٌ من الخزْرج، واثنان من الأوس .

فبايعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على السمع والطاعة وأن يمنعوا منه كما

يمنعون من أنفسهم، وأبنائهم، ونسائهم ومن فعل ذلك فله الجنَّة، وهذه البيعة يقال لها بيعةُ العقبة

الأولى، وأما اللقاءُ الأوَّل للأنصار فليس فيه مبايعتهم للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .

ويقول ـ رحمه الله تعالى ـ هنا: (كبيعة النساء)
أي: على وفق ما في بيعة النساء التي نزلتْ بعدُ في سورة الممتحنة ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ

يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ
أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة:12] .
وكانت بيعةً بدون الأمر بالقتال .
وهذه البيعة هي بيعَةُ"العقبة الأولى" .
وبعد هذه البيعة رجعُوا إلى المدينة، وبعثَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من يعلمهم، ويعلم أبناءَهم
القرآن، والإسلام .
وهنا يذكر ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أن الذي بعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ معهم
عمرو بن أم مكتوم، ومصعب بن عُمَير .
وهذا في صحيح البخاري لكنه ليس فيه أن النبي صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم أرسلهما .

أخرج البُخاري في صحيحه (3925)عن البراء بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ
بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلاَلٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فِي
عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ " قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ
فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى فِي سُوَرٍ مِنَ المُفَصَّلِ " .

(وكان مصعب بن عمير يؤمُّهُم وقد جمَّع بهم يَوماً بالأربعينَ نفساً)

(جمَّع بهم ) قال الجوهري في الصحاح :جَمَّعَ القومُ تَجْميعاً، أي شهدوا الجُمْعَةَ وقَضَوا الصلاة
فيها.
وقال الفَيُّوْمِي في المصباحِ المنير : جَمَّعَ النَّاسُ بِالتَّشْدِيدِ إذَا شَهِدُوا الْجُمُعَةَ كَمَا يُقَالَ عَيَّدُوا إذَا شَهِدُوا الْعِيدَ .
وهذه اوَّلُ جمعة أقيمت في الإسلام في المدينة قبل الهجرة . وأخرجَ أبوداود في سننه (1069) عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: " لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ
جَمَّعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ، يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ "، قُلْتُ: كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ، قَالَ:
«أَرْبَعُونَ» .
وفيه عنعنةُ ابن إسحاق لكنه قد صرَّح بالتحديث عند البيهقي في سننه (3/ 251) فالحديثُ
حسَنٌ. والله أعلم .
وقد اختُلِف أول من صلى الجمعة بالمدينة فمنهم من قال : هو أسعد بنُ زُرارة على ظاهر الرواية .
ومنهم من جَمَعَ بينهُما بأنَّه نُسِبَ إلى أسعدَ بن زُرارة لأنه جمَع الناسَ ودعاهم ، ومصعبُ بنُ عمير هو
مقرئُهم ومعلمهم وكان يصلي بهم .
وقد استدل بعضُ الفقهاء مِن ذِكْرِ عددِ الأربعينَ مسألةً فقهيةً : أن صلاة الجمعة تنعقد بأربعين رجلًا، وليس
فيه دلالة لذلك؛ لأن هذه واقعة عيْن لا عمُومَ لها ، وقعتِ اتفاقًا، وقد ثبت في الصحيحين من حديث جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَقْبَلَتْ عِيرٌ وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجُمُعَةَ، فَانْفَضَّ النَّاسُ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ
رَجُلًا»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا، وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ [الجمعة: 11] .

وفي المسألة خلاف طويل، والصحيح أن صلاة الجمعة تنعقد بما تنعقد به صلاة الجماعة.

بوَّب الإمام البخاري في صحيحه (بابٌ: اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ) ثُمَّ ذكر

حديْثَ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا
أَكْبَرُكُمَا» .
فصلاةُ الجمعة تنعقد باثنين بخطيب ومستمع، وقد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، ذهب إليه إبراهيمُ بنُ يزيد
النخعي، وعُزِيَ إلى الظاهرية، ورجَّحه الشوكاني في (نيل الأوطار)، وهو قول الوالدِ الشيخِ مقبل ـ رحمهم
الله تعالى ـ .
فالتحديد بالأربعين لا يصح، والصحيح أنَّ صلاةَ الجمعة تنعقد باثنين فأكثرَ .

(وأسلمَ بإسلامِهما يومئذ جميعُ بني عبد الأشهل) أي أسلم بإسلامِ أُسيد بن حضير وسعد بن

معاذ جميعُ بني عبد الأشْهل فإنهما كبيران في قومهما ،وسعد بن معاذ رئيس قبيلة الأوس وهذا

قَبْلَ الهجرةِ كما هو معلوم .

(إلا الأُصيرمَ، وهو عمرو بن ثابت بن وَقَش، فإنه تأخَّر إسلامُه إلى يومِ أُحُد، فأسلم يومئذٍ، وقاتل فقُتل قبلَ أن
يسجدَ لله سجدةً ، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (عمِل قليلاً وأُجِر كثيراً) .

قال السُّهيلي في الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام(6/12) وَقْش، وَيُقَالُ فِيهِوَقَشٌ بِتَحْرِيكِ
الْقَافِ. اهـ
وقال الحافظ في فتح الباري تحت رقم(2808) وَقَشٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْقَافِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ .اهـ
ويقال :أُقيش .
والحديث الذي ذكره ابنُ كثير أخرجه الإمامُ البخاري في صحيحه ـ رحمه الله تعالى ـ وبوَّب عليه
(بَابٌ: عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ القِتَالِ) ثُمَّ ذكر حديثَ البَرَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ
مُقَنَّعٌ بِالحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: «أَسْلِمْ، ثُمَّ قَاتِلْ»، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا».
(ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ) ولم يسجد لله سجدة لأنه أسلم ثم قاتل .
وأخرج أبو داود في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، " أَنْ عَمْرَو بْنَ أُقَيْشٍ، كَانَ لَهُ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُسْلِمَ حَتَّى
يَأْخُذَهُ، فَجَاءَ يَوْمُ أُحُدٍ، فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو عَمِّي؟ قَالُوا بِأُحُدٍ، قَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا بِأُحُدٍ، قَالَ: فَأَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا:
بِأُحُدٍ، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا يَا عَمْرُو، قَالَ: إِنِّي قَدْ
آمَنْتُ، فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ، فَحُمِلَ إِلَى أَهْلِهِ جَرِيحًا، فَجَاءَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: سَلِيهِ حَمِيَّةً لِقَوْمِكَ، أَوْ
غَضَبًا لَهُمْ أَمْ غَضَبًا لِلَّهِ؟ فَقَالَ: بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَمَاتَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَا صَلَّى لِلَّهِ صَلَاةً " .
وهو حديث حسن . وهو في الصحيح المسند لوالدي رحمه الله (1/رقم 1393) .

وفي سيرة ابنِ إسحاق كَانَ يَقُولُ أبوهريرة : حَدِّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ
سَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ؟ فَيَقُولُ:
أُصَيْرِمٌ، بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ الخ .
وهذا من علامات حُسْنِ الخاتمة ختمُ العمر بعملٍ صالح ،يُجاهد ثم يموت ،أو يفطر من صومه ثم يموت ، أو
ينتهي من حجه ثم يموت ، أو من صلاة الجماعة ، أو من حِفظِ القرآن ، أو يتوبويكون خاتِمَةَ عمره ، إلى
غير ذلك .
أخرج الإمامُ أحمد في مسنده عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا
أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ " قِيلَ: وَمَا اسْتَعْمَلَهُ؟ قَالَ: " يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ
مَنْ حَوْلَهُ " .
والحديث حسن . وهو في الصحيح المسند لوالدي رحمه الله (1004) .
الأعمال بالخواتيم ـ نسأل الله حسن الخاتمة ـ يقولُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى لاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ،
وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ
الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ") رواه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ

قال ابنُ القيم رحمه الله في الجواب الكافي 92: وَلَقَدْ قَطَعَ خَوْفُ الْخَاتِمَةِ ظُهُورَ الْمُتَّقِينَ وَكَأَنَّ

الْمُسِيئِينَ الظَّالِمِينَ قَدْ أَخَذُوا تَوْقِيعًا بِالْأَمَانِ {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ

لَمَا تَحْكُمُونَ - سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [سُورَةُ الْقَلَمِ: 39 - 40] .اهـ

فينبغي أن يكون الإنسان خائفًا متيقظًا لا يرتكب معصية فتحبِط عملَه ، فالمعصية قد تُحبِطُ

الحسنة ، ولا يرتكب معصية فما يدري بعد ذلك أن يكونَ في جملة الزائغين، فإن الله يقول: ﴿فَلَمَّا

زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف:5]. وهذا من أضرار المعصية

أنها من أسباب الزيغ، وعدم الثبات، ونستفيد أن الإنسان لا يغتر مهما كان عنده من الأعمال

الصالحة، فإنه لا يدري بأي شيء يُختم له . والله المستعان.

#################

ثم رجع مصعبُ إلى مكة، ووافَى الموسمَ ذلك العامَ خلقٌ كثيرٌ من الأنصار من المسلمين

والمشركين، وزعيمُ القومِ البراءُ بنُ معرُور رضي الله عنه فلما كانت ليلة العقبة ـ الثلث الأول

منها ـ تسلَّل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وسبعون رجلاً وامرأتان، فبايعوا رسولَ

الله صلى الله عليه وسلم خُفْية من قومهم ومن كفارِ مكة، على أن يمنعُوه مما يمنعون منه

نساءَهم وأبناءَهم وأزُرَهم .

وكان أوَّل من بايعه ليلتَئِذٍ البراء بن معرور، وكانت له اليد البيضاء، إذ أكَّد العقدَ وبادر إليه.

وحضر العباسُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم موَثِّقاً مؤكِّداً للبيعة مع أنه كان بعدُ على دين قومه .

واختارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نَقيباً وهم: أسعدُ بنُ زرارة بن عُدَس
،وسعد بن ربيع بن عمرو، وعبدُ الله بنُ رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس، ورافعُ بن مالك بن العجلان،
والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء، وعبد الله بن عمرو بن حرام،- وهو والد جابر، وكان قد أسلم تلك
الليلة رضي الله عنه-، وسعد بن عبادة بن دُليم، والمنذرُ بنُ عمرو بن خُنيس، وعبادةُ بن الصامت. فهؤلاء
تسعةٌ من الخزرج .

ومن الأوس ثلاثةٌ وهم: أسيدُ بن الحضير بن سماك، وسعدُ بن خيثمة بن الحارث، ورفاعةُ بن عبد المنذر بن
زبير، وقيل: بل أبوالهيثم بن التَّيِّهان مكانَه ، ثم الناسُ بعدهم .
والمرأتان هما: أم عمارةَ نسيبة بنت كعب بن عمرو، التي قتل مسيلمةُ ابنَها حبيب بن زيد بن
عاصم بن كعب ، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نابِي .

#################

هذه بيعة العَقبَةُ الثانية ،بينها وبين الأولى ،عامٌ واحد ،فإن الأنصارَ رضي الله عنهم تأَلَّمُوا وحزِنُوا مما يرونَ
ويسمعون من أذى الكفار للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعدمِ إيواء أحدٍ من القبائلِ له فتشاوروا أن

يقوموا هم بإيواء هذا النبي الكريم .

وهذا من توفيقِ الله لهم ،ورِزْقٌ ساقه الله إليهم ،والله يؤتي فضله ما يَشاء ،والله ذوالفضلِ

العظيم .
ونسوقُ هنا ما يدل على هذا المعنى من حديث جابر .

أخرج الإمامُ أحمد في مسنده (23/22)عن جابر بن عبدالله رضي اللهُ عنه الحديث وفيه ثُمَّ بَعَثَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ،
فَأْتَمَرْنَا، وَاجْتَمَعْنَا سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَّا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَذَرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ،
وَيَخَافُ، فَرَحَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَقَالَ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي لَا
أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ جَاءُوكَ؟ إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، فَلَمَّا نَظَرَ
الْعَبَّاسُ فِي وُجُوهِنَا، قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا أَعْرِفُهُمْ، هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "
تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ،
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ،
فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ "، فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ
وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، إِنَّ
إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ
إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ، فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللهِ،قَالَوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا
نَسْتَقِيلُهَا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ،، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ .
والحديث حسن .
ويُنظر الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين لوالدي رحمه الله (215) .

(وزَعِيمُ القوم البراء بن معرور ـ رضي الله عنه ـ) قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم (3890) الْبَرَاءُ
بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَمَعْرُورٌ بِمُهْمَلَاتٍ يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَوَّلَ مَنْ بَايَعَ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ
وَمَاتَ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ فِي قِصَّةٍ
ذكرهَا ابن إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ .

(فلما كانت ليلة العقبة ـ الثلث الأول منها)

لما مضى الثلث الأول من ليلةِ العقبة تسلَّل - أي ذهب بخُفية - ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان ذهبوا
سرًا من قومهم ومن كفار مكة فبايعوا النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.
(على أن يمنعُوه مما يمنعون منه نساءَهم وأبناءَهم وأُزُرَهم).
أُزُرهم: هو جمع إزار، قال ابن الأثير في النهاية: (فِي حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ «لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرُنَا» أَيْ
نِسَاءَنَا وَأَهْلَنَا، كَنَّى عَنْهُنَّ بالأزرِ.
وَقِيلَ أَرَادَ أَنْفُسَنَا. وَقَدْ يُكنى عَنِ النفْس بِالْإِزَارِ) .

وفي (بهجة المحافل وبغية الأماثل) ليحيى بن أبى بكر العامري (1/138) : بضمِّ الهمزة

والزاي وفتح ما بعدهما واحده إزار يذكَّرُ ويؤنث أي نساءنا وأهلنا .اهـ

(وكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور، وكانت له اليد البيضاء، إذ أكَّد العقد وبادر إليه).

(ليلتئذ) أي: ليلة بيعة العقبة الثانية.
(وكانت له اليد البيضاء)

لسابقيته في المبادرة لمبايعة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.

(وحضر العباسُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم )

حضر بيعة العقبة الثانية العباس عم رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ

(موثِّقاً مؤكداً للبيعة مع أنه كان بعدُ على دين قومه) .

موثِّقاً أي آخذاً عليهم العهد والميثاق ، وما كان قد أسلم فإنه لم يسلم إلا بعد غزوة بدر لكنه جاء هنا
حَمِية ،وغَضَبَاً ، وعصبية للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.
وفي مسند أحمد(23/22) بسند حسن عن جابر بن عبدالله في سياق حديث بيع العقبة
وفيه حضور العبَّاس بيعة العقبة الثانية وأنه قال رضي الله عنه : يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي لَا أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ
الَّذِينَ جَاءُوكَ؟ إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، فَلَمَّا نَظَرَ الْعَبَّاسُ فِي وُجُوهِنَا،
قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا أَعْرِفُهُمْ، هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ .
وفيه: فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ،، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ ).

أي ميثاق وعهد العباس على الأنصار الوفاء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .

وهذا من مناصرة العباس لابنِ أخيه ومحبته له رضي اللهُ عنه .
(واختار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثنَي عشر نقيباً)
أي أمرَالأنصار أن يختاروا منهم اثنَي عشر نقيباً ففي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أمر أنْ يُخرِجوا منهم اثني عشر نقيباً .
قال السُّهيلي رحمه الله في الروض الأنف (4/74) : وَإِنّمَا جَعَلَهُمْ عَلَيْهِ السّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ
تَعَالَى فِي قَوْمِ مُوسَى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [الْمَائِدَةَ: 12] .اهـ
قال ابنُ الأثير في النهاية : النُّقَبَاءُ: جَمْع نَقِيب، وَهُوَ كالعَريف عَلَى الْقَوْمِ المُقَدَّم عَلَيْهِمْ، الَّذِي يَتَعَرَّف أخبارَهم،
ويُنَقِّبُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ: أَيْ يُفَتِّش. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَل ليلةَ العَقَبة كُلَّ واحدٍ مِنَ الجَماعة
الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِهَا نَقِيبا عَلَى قومِه وجَماعتِه، ليأخُذوا عَلَيْهِمُ الإسْلام، ويُعَرِّفوهم شَرَائِطَهُ ، وَكَانُوا اثْنَيْ عشَر

نَقِيبًا كلُّهم مِنَ الْأَنْصَارِ. اهـ

ثم ذكر ابنُ كثيرٍ رحمه الله النُّقباءَ الاثني عشر .

وفي الصحيحين أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ

العَقَبَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وذكر حديث البيعة .

وفي الصحيحين عن عائشة الحديث في نزول آية التيمم وفيه فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: - وَهُوَ أَحَدُ


النُّقَبَاءِ - «مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ


فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ» .

(والمرأتان هما: أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو، التي قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد بن عاصم بن كعب).

المرأتان يبينُ رحمه الله ما تقدم أنه ( تسلَّل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وسبعون

رجلاً وامرأتان) .

فكان في هذه البيعة، بيعة العقبة الثانية أم عمارة نسيبة بنت كعب ، ويذكرون أن مسيلمة كان

يقول لابنها حبيب فَجَعَلَ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. ثُمَّ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي

رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ. فَيَقُولُ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: أَتَسْمَعُ هَذَا وَلَا تَسْمَعُ ذَاكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَجَعَلَ

يُقَطِّعه عُضْوًا عُضْوًا . والله أعلم.

والمرأة الثانية : أسماء بنت عمرو بن عدي وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبايع

النساء بالكلام من دون مسِّ اليد كما ثبت بذلك الأدلة .

وممن شهد هذه البيعة كعبُ بن مالك رضي الله عنه كما في الصحيحين (وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ، حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ، أَذْكَرَ فِي

النَّاسِ مِنْهَا) .


#################


فلما تمتْ هذه البيعةُ استأذنوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يميلُوا على أهلِ العقبةِ فلم
يأذنْ لهم في ذلك، بل أذِن للمسلمين بعدها من أهلِ مكة في الهِجرةِ إلى المدينة، فبادر الناس
إلى ذلك، فكان أول من خرجَ إلى المدينة من أهل مكةَ أبو سلمةَ بنُ عبد الأسد، هو وامرأتُه أمُّ
سلمة فاحتُبِستْ دُونَه ومُنِعت سنةً من اللِّحاقِ به، وحِيل بينَها وبينَ ولدِها، ثم خرجتْ بعدَ
السنة بولدِها إلى المدينة، و شيَّعها عثمانُ بن طلحة، ويقال: إنَّ أبا سلمةَ هاجرَ قبْل العَقَبةِ
الأخيرة، فالله أعلم.

ثم خرجَ الناسُ أرْسالاً يتبعُ بعضُهُم بعضاً .

#################

لما تمَّت البيعةُ استأذنوا النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في قتال الكفار بمنى

وهذا من شدة محبتهم للإسلام وللنبي فلم يأذنِ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في ذلك،

ولكنه أَذن بالهجرة إلى المدينة؛ فإِن الأنصارَ قد استعدُّوا لنصرة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله

وسلم ـ والدفاع عنه واتَّسعت صدورُهم للوفود والمهاجرين إلى دارِ الهجرة رضي الله عنهم

فبادر المسلمون إلى الهجرة إلى مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.

(فكان أول من خرج إلى المدينة من أهل مكة أبو سلمة بن عبد الأسد، هو وامرأته أم سلمة)
مَن أول من هاجر من أهل مكة إلى المدينة ؟ .

يذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ هنا أول من خرج إلى المدينة من أهل مكة أبو سلمة

وزوجته وقيل غير ذلك .

قال الحافظ ابنُ حجر عند شرح حديث البراء بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا
مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ... قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ-أي في الشرح له - أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ
الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الْأَسَدِ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَمَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِحَمْلِ الْأَوَّلِيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ فقد جزم
ابن عُقْبَةَ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مُطْلَقًا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَكَانَ رَجَعَ مِنَ
الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ فَأُوذِيَ بِمَكَّةَ فَبَلَغَهُ مَا وَقَعَ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى فَتَوَجَّهَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا وَقَعَ هُنَا بِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ خَرَجَ لَا لِقَصْدِ الْإِقَامَةِ
بِالْمَدِينَةِ بَلْ فِرَارًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فَإِنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهَا لِلْإِقَامَةِ بِهَا وَتَعْلِيمِ مَنْ
أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِكُلٍّ أَوَّلِيَّةٌ مِنْ جِهَةٍ .اهـ

(فاحتُبست دونَه ومُنعت سنة من اللِّحاق به، وحيل بينها وبين ولدها)


تكلم الحافظ في فتحِ الباري (3925) على أوِّلِ مُهاجرة من النساء وقال : لَيْلَى بِنْتُ أَبِي

حَثْمَةَ امرأةً عَامِر بْن رَبِيعَةَ هِيَ أَوَّلُ مُهَاجِرَةٍ .

وَقِيلَ بَلْ أَوَّلُ مُهَاجِرَةٍ أُمُّ سَلَمَةَ لِقَوْلِهَا لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ أَوَّلِيَّةَ أُمِّ سَلَمَةَ بِقَيْدِ الْبَيْتِ

وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ إِطْلَاقِهَا .اهـ

والقصة التي أشار إليها ابن كثير في قصة أبي سلمة وأنه مُنع أن يأخذ معه أم سلمة وأنه حيل بين أم سلمة
وولدها أي سلمة .
هي ضعيفَةُ السند قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ كما في سيرةِ ابنِ هشام (1/ 469) : فَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ابْن أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ:
لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحَلَ لِي بَعِيرَهُ ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ
فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ
القصة بطولها .
وهذا إسنادٌ ضعيف سلمة بن عبدالله بن عمر مقبولٌ كما في تقريب التهذيب .
فهو مجهول حال .
أمَّا إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ فهو ثقة .
قوله (وشيَّعها طلحة بن عثمان ) كان طلحة بن عثمان بعدَ بيعة العقبة كافرًا لم يسلم وقد منَّ الله
عليه بالإسلام بعد ذلك .
قال الحافظ في الإصابة في تمييز الصحابة .. أسلم عثمانُ بن طلحة في هُدنة الحديبيّة، وهاجر مع خالد بن

الوليد، وشهد الفتح مع النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، فأعطاه مفتاح الكعبة.
وفي «الصّحيحين» من حديث ابن عمر، قال: دخل النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم الكعبة، ودخل معه بلال وعثمان بن طلحة، وأسامة بن زيد ... الحديث . اهـ المراد

(ثم خرج الناس أرسَالاً يتبع بعضُهم بعضاً).

أي جماعات يتبع بعضُهم بعضًا، ولم يبق في مكة من المسلمين إلا رسول الله ـ صلىالله عليه وعلى آله وسلم-
وأبو بكر الصديق ومَن حبسه المشركون مثل سلمة بن هشام ،وعياش ابن أبي ربيعة ، وعدد يسير .
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه يريد الخروجَ مع المهاجرين ففي صحيح البخاري عن عائشة

الحديث وفيه وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ

فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» .

انتهينا من هذا الفصل وخُلاصةُ ما استفدنا :
w فضلُ الأنصار - رضي الله عنهم - فهم الذين آووا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
بعدما كانت القبائل كلُّها ترد قوله، ولا تستجيب له، وهذا مما فاز به الأنصار ﴿...ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ

يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة:54] .

w ذكرُ ثلاث مراحل لهم في ثلاثة مواسم متتابعة ومسابقتهم إلى هذه المنقبة العظيمة .

w العامُ الأوَّل : لقي النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفراً منهم عند العقبة فدعاهم

إلى الإسلام فأسلموا ثم رجعوا دُعاة إلى هذا الدين الحنيف وكان في ذلك نصرٌ عظيم.

w العامُ الثاني جاء اثناعشر رجلا وبايعوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .

وهذه بيعة العقبةُ الأُولى وليس فيها الأمرُ بالقتال .

w العام الثالث :جاء خلق كثير وبايعه الأنصارُ على أن يمنعوا منه كما يمنعون منه

نساءَهم وأولادهم وأنفسهم .

وتسمَّى بيعة العقبة الثانية ، وبيعة العقبة الكُبرى .

واستفدنا خيرَاً كبيراً في السيرة ومن هذه المسائل :

· ذكوان بن عبد قيس بن خلدة الأنصاري الخزرجي أقام بمكة حتى هاجر إلى المدينة فيقال: إنه
مهاجري أنصاري .

· اختلافهم في أوِّل المهاجرين إلى المدينة .

w بيان أول جمعة كانت في المدينة .

w عمرو بن ثابت بن وقش الأصيرم صحابي أسلم ثم قاتل وقتل شهيدًا «عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا» ولم
يكن قد صلَّى للهِ صلاة .

w نصُّ ابنِ كثير أَنَّ أوَّل من بايع ليلة العقبة الثانية البراءُ بن معرور .

w تعرَّفْنَا على عددٍ من الأنصار والسابقين منهم ومن هُم النقباء - رضي الله عنهم -.


w أنَّ عمرو بن حرام والد جابر بن عبدالله أسلم ليلة العقبة الثانية وصارَ من النُّقَباء .

w إذنُ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعد بيعتي العقبة لأصحابه في الهجرة


والله أعلم .










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-09, 22:00   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

الدَّرْسُ التَّاسِعُ من / كِتَاب الفُصُولِ من سيرَةِ الرسُولِ صلى اللهُ عليه وسلَّم 26/ من شهر ربيع الأوَّل 1437

فصل ـ هجرةُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم
ولم يبقَ بمكةَ من المسلمينَ إلا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعلي
رضي الله تعالى عنهما أقامَا بأمره لهما، وخَلا منِ اعتقَلَه المشركونَ كَرْهاً، وقد أعدَّ
أبو بكرٍ رضي الله عنه جَهازَه وجَهازَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، منتظِراً حتَّى
يأذنَ اللهُ عزَّ وجل لرسولِه صلى الله عليه وسلم في الخروجِ .
فلمَّا كانت ليلةً هَمَّ المشركون بالفَتْكِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأرصَدُوا علَى
البابِ أقوامَاً، إذا خرجَ عليهم قتلُوه، فلمَّا خرجَ عليهم لم يرَهُ منهم أحدٌ .

***************************
هذا الفصلُ في هجرةِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكةَ إلى

المدينة .

وبينَ هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والعقبة الكبرى وهي العقبة الأخيرةُ أكثرُ من شهرين لأن العقبةَ الكُبرى في ذي الحجة أيام التشريق وهجرته في ربيع الأول في نفس العام .
وقد تكلَّم الحافظُ ابنُ حجر على هذه المسألة في فتح الباري تحت رقم (3904) وقال : وَذَكَرَالْحَاكِمُ أَنَّ خُرُوجَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مَكَّةَ كَانَ
بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَو قَرِيبا مِنْهَا .
قال : وَجزم ابنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ خَرَجَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ
بَعْدَ الْبَيْعَةِ بِشَهْرَيْنِوَبِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأُمَوِيُّ فِي الْمَغَازِي عَن
ابن إِسْحَاقَ فَقَالَ كَانَ مَخْرَجُهُ مِنْمَكَّةَ بَعْدَ الْعَقَبَةِ بِشَهْرَيْنِ وَلَيَالٍ قَالَ وَخَرَجَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُلْتُ وَعَلَى هَذَا خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ .اهـ
وقال رحمه اللهُ (3908)معلِّقا على أثر ابنِ شهاب( كَانَ بَيْنَ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ يَعْنِي الْأَخِيرَةَ وَبَيْنَمُهَاجِرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا ) .
قال الحافظ : قُلْتُ هِيَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَصَفَرُ لَكِنْ كَانَ مَضَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَشْرَةُ أَيَّامٍوَدَخَلَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ أَنِ اسْتَهَلَّ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ فَمَهْمَا كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ مِنَ الشَّهْرِيُعْرَفُ مِنْهُ الْقَدْرُ عَلَى التَّحْرِيرِ فَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثَةُ سَوَاءً وَقَدْ يَنْقُصُ وَقَدْ يَزِيدُ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ إِنَّهُدَخَلَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَأَكْثَرَ مَا قِيلَ إِنَّهُ دَخَلَ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهُ . اهـ
فبعد ما اشتدَّ أذى المشركينَ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولصحابتِه أذِن لهم بالهجرةولم يكُن قد جاء الإِذنُ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا في صحيح البخاري عنعائشة رضي الله عنها وفيه:
(وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ المَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُوأَنْ يُؤْذَنَ لِي» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» .
فلهذا بقي هو وأبو بكر وعلي ابن أبي طالب وأيضاً يقول ابنُ كثير (وخَلا من اعتقَلَهالمشركون كَرْهاً) خلا من أدوات الاستثناء أي واستثناء من احتبسهُ المشركون وهذا كما تقدَّم
كسلمة بن هشام وعياش ابن أبي ربيعة .
وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى في منامه دارَ الهجرة فأخبَرَ الصحابةَ بذلِكَ ،
وهذا ثابت في الصحيحين -البخاري في مواضع منها (7035،3622) ومسلم (2272) -عَنْأَبِي مُوسَى، ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍبِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا اليَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ...» .
وعند البُخاري شكٌ يقول (عن أَبِي مُوسَى أُرَاهُ) قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم (4082)
كَذَا فِي الْأُصُولِ أُرَى وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى أَظُنُّ وَالْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ الْبُخَارِيُّ كَأَنَّهُ شَكَّ
هَلْ سَمِعَمِنْ شَيْخِهِ صِيغَةَ الرَّفْعِ أَمْ لَا وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي عَلَامَاتِ
النُّبُوَّةِ وَفِيالتَّعْبِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فَلَمْ يَتَرَدَّدَا فِيهِ . اهـ
وقد مكث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة ثلاثة عشر عامًا من البعثة النبوية،

حتَّى أُذِنَ له ربُّه سبحانه بالخروج صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فانطلق نصف
النهار إلىأبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه وقد ساق البُخاريُّ رحمه الله حديثَ الهجْرَة في صحيحه (3905) عن عائشة رضي الله عنها ونسُوْقُ طرَفَاً منه للفائدة
تقولُ أمُّ المؤمنين عائشة : ... فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ
الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا، فِي سَاعَةٍ لَمْ
يَكُنْ يَأْتِينَافِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْأُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ - بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِالثَّمَنِ». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَاسُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الجِرَابِ،
فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ ...) .
(متقنِّع ) أي: مغطٍ رأسَه .
(فقال أبو بكر: الصحابة) وفي روايةٍ للبخاري (2138) (الصُّحْبَة ) .قال الحافظ في فتح الباري
: الصَّحَابَةَ بِالنَّصْبِ أَيْ أُرِيدُ الْمُصَاحَبَةَ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ . اهـ

(سُفْرَةً فِي جِرَابٍ ) السُّفرة هي الطعام .

فذهبا إلى غارِ ثور وأَمِنَ أبو بكر عبدَ الله بن أُرَيقِط على المجيء بالراحلتين بعد ثلاثة
أيام إلى غار ثور، وكان هو الدليل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولأبي بكر؛ لأنه كانخبيرًا بطريق المدينة، فكان عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه في هذه الثلاثة الأيام يتسمع الأخبار من قريش ثم يذهب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر فيخبرهما بمايكيد به قريش.
وكان عامر بن فُهَيرَة ـ مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما كما مر معنا ـ يخدم النبي صلىالله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر فيُرِيح عليهما بالشِّيَاه للحليب - الرَّوَاح: آخرُ النهار، قالتعالى: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾[سبأ:12] - فكان الذين تعاونوا مع النبي صلى الله عليهوعلى آله وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه في أيام الغار، عبد الله بن أبي بكر، وأسماءبنت أبي بكر كانت تأتي لهما بالزاد، وعامر بن فهيرة يُريح عليهما بالغنم .

وأما أبو بكر الصديق فإنه صاحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورفيقه في الغارِ، وهذهمن أَجلِّ وأعظم مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه لم يشركه أحد من الصحابة، وقد سمَّىالله عز وجل في كتابه الكريم أبا بكر صاحباً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال تعالى:
﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40].
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه مَنَّ الله عليه بنِعَمٍ عظيمةٍ ، وأولاده كلهم صحابة، وأبوه صحابي (أبو قحافة)،وأمه سلمى صحابية رضي الله عنهم أجمعين، وعلى رغم أنوف الرافضةالذين يسبون أبا بكر الصديق رضي الله عنه .
قال الحافظ في فتحِ الباري (3653)نَسَبُ أبي بكر : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ
عَمْرِو بْنِكَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ وَعَدَدُ آبَائِهِمَا إِلَى مُرَّةَ سَوَاءٌ .

قال : وأُمُّ أَبِي بَكْرٍ : سَلْمَى وَتُكَنَّى أُمَّ الْخَيْرِ بِنْتَ صَخْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرٍو
الْمَذْكُورِ
أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ وَذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ مَنَاقِبِهِ لِأَنَّهُ انْتَظَمَ إِسْلَامُ أَبَوَيْهِ وَجَمِيعِ أَوْلَادِهِ .اهـ
وقوله (وَعَدَدُ آبَائِهِمَا إِلَى مُرَّةَ سَوَاءٌ) أي سِتَّةٌ إلى مُرَّة أما نسبُ أبي بكرٍ فذكرهُ الحافِظ
ابنُحجر هنا .
وأما نسبُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتقدَّم .
وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قُصَي بن كِلَابٍ بن
مُرَّة
وهؤلاءِ سِتَّةٌ من عبدالله إلى مُرَّة الذي يجتمِعُ أبو بكر فيه نسبُه مع النبي صلى اللهُ عليه
وعلى آلِهوسلم .

هجرةُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة إلى المدينة، قال بعض المفسرين
في قوله عز وجل: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْلَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء:80] خُرُوجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَدُخُولُهُ الْمَدِينَةَ.

قال ابنُ القيم رحمه الله تعالى في مدارِجِ السالكين (2/ 260)وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَإِنَّ هَذَا الْمُدْخَلَ وَالْمُخْرَجَ مِنْ أَجَلِّ مَدَاخِلِهِ وَمَخَارِجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِلَّا فَمَدَاخِلُهُ كُلُّهَا مَدَاخِلُ صِدْقٍ، وَمَخَارِجُهُ مَخَارِجُ صِدْقٍ. إِذْ هِيَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ .
وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ سُوقَهُ - أَوْ مُدْخَلًا آخَرَ - إِلَّا بِصِدْقٍ أَوْ بِكَذِبٍ، فَمُخْرَجُ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُدْخَلُهُ: لَا يَعْدُو الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . اهـ
فالآية عامة في جميع أنواع الصدق، الصدق في العقيدة، الصدق في الاستقامة، الصدق
في الثبات، الصدق في السَّيْر، الصدق في حسن النية.
﴿وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ وأخرجني من كيد الكائدين ومن الشر والمصائب .
فالآية عامة وهذا التفسير إنما هو بالمثال فهجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
من مكةَودُخُولُهُ المدينة داخلٌ في الآية الكريمة .
وهذا من أعظم الأدعية التي يغفل عنها بعض الناس، وممكن يقال أحيانًا عند الخروج،
وعندالسفر ولكن لا يخصص بوقْتٍ مُعيَّن .
بعض الناس إذا أراد أن يقدم على شيء يخصِّص هذا الدعاء، إذا أراد أن يسافر، أو
يبني بيتًا،أو أراد أن يخرج، أو يختبِر يخصِّص ذلك .

والتَّخْصِيْصُ ممنُوعٌ لأنَّ العباداتِ توقيفية .

وهذا منَ الأدعيةِ الجامعة .

وقد كان المشركون يُدبِّرون كيداً شديداً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكنَّ الله
حفظَه، قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]. كانوا يتشاورون ويتآمرون في هذه الثلاثةِ الأمور
الحبس، أو القتل، أو الإخراج، واختار الله عز وجل له الخروج .

وبهذه المناسبة أذكرُ هنا ما سمعنا من والدي رحمه الله في حثِّه للطالب على الرحلة من
بلده لطلبِ العِلْم .

يقولُ : الغُرْبَةُ تُخْرِجُ رِجالا ،النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم تغرَّب ، وأصحابُه

تغرَّبُوا .

فالغُربَةُ تُخْرِجُ رِجالًا ، وقد قيلَ : العِلْمُ غريب .اهـ

وقوله (أعدَّ أبو بكرٍ رضي الله عنه جَهازَه وجَهازَ رسولِ الله )

الجَهازُ: بفتحِ الجيم ،وقد تُكْسَرُ ، ومنهم من أنكر الكسر ،وهو ما يُحتاجُ إليه في السفر

(فتح الباري ) .


******************************

وقد جاء في حديثٍ أنهُ ذَرَّ على رأسِ كلِّ واحدٍ منهُم تُرابَاً ثمَّ خَلَصَ إلى بيتِ أبي بكرٍ رضي اللهُ
عنه، فخرجَا من خَوخَة في دارِ أبي بكرٍ ليْلاً، وقد استأجرَا عبدَ الله بنَ أُرَيقِطٍ ، وكانَ
هاديَاً خِرِّيْتَاً، ماهِرَاً بالدَّلالة إلى أرضِ المدينةِ، وأمِنَاهُ على ذلكَ معَ أنَّهُ كانَ على دينِ قومِه،
وسَلَّمَا إليه راحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعدَاهُ غَارَ ثَورٍ بعدَ ثَلاثٍ، فلمَّا حَصَلا في الغارِ عَمَّى اللهُ على قُريشٍ
خبرَهُما، فلم يدرُوا أينَ ذَهَبَا .

******************************


قوله (وقد جاء في حديثٍ أنه ذَرَّ على رأسِ كلِّ واحد منهُم تُراباً ثم خلَص إلى بيتِ أبي بكرٍرضي الله عنه)

أي ذَرَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على رأسِ كلِّ واحدٍ منهم تُرابا لما خرج

من بيته وهذه القصًّةُ عند ابنِ إسحاقَ كما في سيرة ابنِ هشام (1/ 483)قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُبْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ القصة .
وهذا إسنادٌ مرسَلٌ محمد بن كعبٍ القُرَظِي من التابعين .
وأما يزيد بْن زياد : بن أَبي زياد المدني كما في ترجمة شيخه القُرَظي من تهذيب
الكمال .
وهو مولى بني مخزوم مدني ثقة .
(فخرجا من خَوخة في دار أبي بكر ليلاً)
الخوخة قال ابنُ الأثير في النهاية : الخَوْخَةُ: بابٌ صغِيرٌ كالنَّافِذَة الكَبِيرَة، وتكُون بَيْن بَيْتَيْن
يُنْصَبُ عَلَيْهَا بابٌ . اهـ
ويُطْلَقُ على النافِذَةِ نفسِها وهي التي يدْخُلُ منها الضَّوْءُ إلى البيت .
يُراجعُ : لسانُ العرب .
(وقد استأجرا عبدَ الله بن أريقط، وكان هادياً خريتاً، ماهِراً بالدلالة إلى أرض المدينة)
(خريتًا) أي: ماهرًا حاذقًا، وهذا هو دليل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبي
بكرالصديق في هجرتهما إلى المدينة .

( وواعداه غارَ ثور بعد ثلاث، فلما حصلا في الغار عمَّى اللهُ على قريش خبرَهما، فلم يدروا أين ذهبا)
عبد الله بن أُريقط ما فيه ما يدل على إسلامه وصحبته وقد ذكرهُ الحافظ ابن حجر
رحمه الله في الإصابة وقال : ولم أر منْ ذكره في الصحابة إلا الذهبيَّ في التجريد، وقد جزمعبد الغني المقدسي في السيرة له بأنه لم يعرِف له إسلاما، وتبعه النّووي في تهذيبالأسماء.اهـ
ولكن كان عنده صفة الأمانة، والوفاء فقد وعد أبا بكر أن يأتي بالرَّاحِلتين بعد ثلاث
إلى غارثور، فجاء بهما وما أخبرَ أحدًا .
وهكذا سراقة بن مالك رضي الله عنه في قصته ما يدل على أمانته، وصدقه لما قال:
وأعاهدكما أن لا أخبر أحدًا، فلما رجع قال لقريش: قد كُفِيتُم .
والمسلم أحق بهذه الصفات الحميدة، وبمكارم الأخلاق لأنه هو الذي ينتسب إلى الإسلام
حتى إن من الكفار من ينفُرُ من الإسلام بسبب الأوصاف الذميمة في كثيرٍ من المسلمين
من السرقة والكذب والخيانة.
وكان الوالد الشيخ مقبل رحمه الله ينبه على هذا ويقول: (الإسلام بريء من هذا، وأنتم
انظروا إلى الإسلام، ولا تنظروا إلى أفعال المسلمين).

ومن أدب الطالب بالأخص أن يتميز بالأخلاق الفاضلة.
ومن ذلك الرفق، واللين، والكلمة الطيبة. فإن بعض الناس لا يكون عنده أخلاق - نسأل الله منواسع فضله - مع أنه يحمل شيئًا من العلم، فإذا وُجد شيءٌ من الأخلاق السيئة عند بعض الناسفهذا ليس على حسابِ السُنة، ولا يجوز التنكُّر للسنة بسبب ما قد يحصل من سوء خلق بعضالناس .
علينا أن نقرأ في الآداب التي تُعيننا على مكارم الأخلاق، وأن نتعاهَد هذا؛
لأننا ننسى.واللهالمستعان.
فنحُث أنفسَنا وأخواتنا على الأخلاق الطيبة ولزوم التواضع والصدق ، واجتناب الظلم،
والفحشوالغلظة، والتَّخلُّق بخلُق الرحمة، والرفق، واللين، والبُعْدُ عن الغِلْظة والقسوة
خارج البيت وداخله .
وقد يكون بعضُ الناس ذا خُلُق بين أصحابه، وأما في بيته فذو خلُق سيء . والنبي
صلى اللهعليه وعلى آله وسلم يقول: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي" رواه
الترمذي (3895)،
والأهل يطلق على الأقارب كما يطلق على الزوجة، والله المستعان .


******************************

وكانَ عامرُ بن فُهيرة، يُرِيح عليهِما غنماً لأبي بكر، وكانت أسماءُ بنت أبي بكر تحمِل
لهماالزادَ إلى الغارِ، وكان عبدُ الله بن أبي بكر يتسمَّع ما يقالُ بمكةَ ثم يذهبُ إليهما
بذلك فيحترِزانِمنه.
وجاء المشركون في طلبِهما إلى ثَور، وما هناكَ من الأماكنِ، حتى إنَّهم مرُّوا على بابِ
الغار، وحاذَتْ أقدامُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصاحبَه، وعمَّى الله عليهم
بابَ الغار،ويقال ـ والله أعلم ـ إنَّ العنكبوتَ سدَّت على بابِ الغار، وإن حَمامَتين
عشَّشَتَا على بابه، وذلكتأويلُ قوله تعالى { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِيالْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَاوَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وذلِكَ أنَّ أبا بكرٍ رضي اللهُ تعالى عنه لشدَّةِ حرصِه بكى حين مرَّ المشركون، وقال: يا
رسولالله، لو أنَّ أحدَهم نظرَ موضعَ قدميه لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"يا أبا بكر، ماظنُّك باثنين الله ثالثُهما؟".

ولما كان بعد الثلاث أتى ابنُ أريقِط بالرَّاحلَتين فركباهما، وأردف أبو بكر عامرَ بنَ

فُهيرة وسار الدليلُ أمامَهما على راحلته .

******************************
اشتدَّ طلب المشركين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولأبي بكر لما علموا
بخروجهما فخرجوا، ومروا بغار ثور، فخَشِيَ أبو بكر الصديق على النبي صلى الله
عليهوعلى آله وسلم وحزِنَ لذلك فبيَّن له النبيُّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم أنَّ اللهَ
ثالثهماكما في البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: «مَا
ظَنُّكَ يَاأَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .
بشَّره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الله معهما بنصرِهِ ولُطْفه وحفظه .
قال ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/ 49 ) :وَعَيْنُ اللَّهِ تَكْلَؤُهُمَا، وَتَأْيِيدُهُ
يَصْحَبُهُمَا،وَإِسْعَادُهُ يُرَحِّلُهُمَا وَيُنْزِلُهُمَا . اهـ

وقد مرَّ المشركون بالغار وأعمى الله وأغشى أبصارَهم وما أبصروا ولو نظروا تحت
أقدامهملرأوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر الصديق رضي الله عنه .
وأُنبِّه على ما جاء عند أبي يعلى في مسنده (46) عن أبي بكر الصديق قَالَ: جَاءَ
رَجُلٌ مِنَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى اسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَوْرَتِهِ يَبُولُ. قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ،أَلَيْسَ الرَّجُلُ يَرَانَا؟ قَالَ: «لَوْ رَآنَا لَمْ يَسْتَقْبِلْنَا بِعَوْرَتِهِ» ، يَعْنِي وَهُمَا فِي

الْغَارِ .

وهذه القصة إسنادها ضعيفٌ جداً .
وجاء من رواية الواقدي كما في فتح الباري آخر شرح حديث رقم (4653) والواقدي
متروك .

(ويقال ـ والله أعلم ـ إن العنكبوت سدَّت على بابِ الغار، وإنَّ حمامتين عشَّشَتا على بابه)
عش الحمام: معروف قال الجوهري في صحاحه : عِشُّ الطائر: موضعُه الذي يجمعه
مندقاق العيدان وغيرها . اهـ
وهذه القصةُ لا يثبت إسنادُها جاء عند أحمد (5/301) عن ابن عباس في نسجِ العنكبوت في بابالغار، وفيه عثمان الجزري، ويقال له عثمان المشاهد .
وجاء من طريق أخرى عند ابن سعدٍ (1/ 177) في نسج العنكبوت وذكر الحمامتين وفي إسناده من لا يعرف .
ويردُّ هذه القصة قول أبو بكر الصديق: (لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا) فإن
هذا يُفيدُأَنَّه مكشوف ليس بمسدود .
وبعد الثلاثةِ الأيام التي بقيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه أبو بكر في الغار جاءهما الدليل وخرجوا إلى المدينة وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة رضي الله عنهما وكان الدليل أمامهم .
ولمْ يُرافقِ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هجرته من الصحابة إلا أبوبكر وعامرُ بنُفُهيرة رضي اللهُ عنهما .
و في الطريق كان بعضهم يسألُ أبابكر عن الذي معه فيُوَرِّي رضي الله عنه في كلامه بمايُعَمِّيْ عليهم في صحيح البخاري (3911) عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَقْبَلَ نَبِيُّاللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابٌّ لاَ يُعْرَفُ، قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِيبَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَايَعْنِي سَبِيلَ الخَيْرِ..." الحديث.
وبقاؤهم في الغار ثلاثة أيام ليخفَّ وطءُ طلب كفار قريش فإنهم كانوا قد اشتد طلبهم .
وفي ذهاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى غار ثور مع أنه يريد المدينة تعمية للأمر، لأن كفار قريش كانوا يترقَّبون طريق المدينة المعروفة فذهب النبي صلى الله عليه وعلى آلهوسلم من جهَةٍ أخرى .
******************************
وجعلت قريشٌ لمن جاء بواحدٍ من محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه مائةً
من الإبل، فلما مرُّوا بحيْ مُدْلِجٍ، بصُر بهم سراقةُ بنُ مالك بن جُعشم، سيدُ مُدْلِج، فركبَ جوادَه
و سارَ في طلبِهم، فلما قرُب منهم سمع قراءةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله
عنه يكثرُ الالتفاتَ حذَرَاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم لا
يلتفتُ، فقال أبو بكر: يا رسولَ الله هذا سراقةُ بن مالك قد رهِقَنا .
فدعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فساخَتْ يدا فرسِه في الأرض فقال: رُمِيت، إن الذي
أصابَني بدعائِكما، فادعُوا الله لِي، ولكُما عليَّ أن أرُدَّ الناسَ عنكُما، فدعا له رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم فأُطلِق، وسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبَ له كتاباً، فكتبَ له أبو
بكر في أَدَم، ورجع يقول للنَّاس: قد كُفِيتُم ما هَهُنا. وقد جاء مُسْلِماً عامَ حجة الوداع ودفع إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتابَ الذي كتبه له، فوفَّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما وعدَه وهُو لذلكَ أهُلٌ .
ومرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مسيرِه ذلك بخيمةِ أمِّ معبد فقالَ عندَها، ورأتْ من
آياتِ نبوَّته في الشاة وحلبِها لبناً كثيراً في سنةٍ مُجْدبة ما بَهَرَ العقولَ، صلى الله عليه وسلم.

******************************
لمَّا يئِستْ قريش من الطَّلَب حرَّضوا الناسَ وشجَّعوهم بالمالِ وجعلت دية رجُلين لِمن
أدركَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبا بكر فأسَرَ أو قَتَل، فلم يدركهم أحدٌ بحفظ الله
وكلاءَته، سوى سراقة بن مالك فإنه بصُرَ بِهم فلحقَهم فلما رآه أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وكان يلتفت كثيرًا حِراسةً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله أدركنا القوم
هذا سراقة فساخت فرسُ سراقة فاستقسم بالأزلام وكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام فإذا
خرج افعل مضى وإذا خرج غُفل أعاد وإذا خرج ما يكره ترك وكان إذا استقسمَ سُراقةُ يخرجُ
ما يكره .
يقول الوالد الشيخ مقبل رحمه الله : جاءَ الإسلامُ بصلاة الاستخارة بدلَ الاستقسامِ بالأَزلام
وأبطلها .
وسياقُ القصة في صحيح البخاري (3906) عن سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ
قُرَيْشٍ، يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَنْ قَتَلَهُ أَوْ
أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ
سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ
لَبِثْتُ فِي المَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ
أَكَمَةٍ، فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ البَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأَرْضَ،
وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي
فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا:
أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ، تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ
قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي
فِي الأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا
اسْتَوَتْ قَائِمَةً، إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ، فَخَرَجَ
الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا
لَقِيتُ مِنَ الحَبْسِ عَنْهُمْ، أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ
جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالمَتَاعَ، فَلَمْ
يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلاَنِي، إِلَّا أَنْ قَالَ: «أَخْفِ عَنَّا». فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ
فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وبنحو هذه القصة في صحيح البُخاري (3652)من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
(رهقنا) أي: غشينا، (رُميت) أي: أُصبت، (الأدَم): الجلد.
والكتاب الذي طلبه سُراقة أن يكتبه له رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي ليكون
علامة بينه وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا كالوثيقة في الأمان لسُراقة فإنه قد
لاحَ له أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيظهر لِمَا رَأى من المعجزاتِ من حبسِه من
إدراك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر، ونجاتِه لما دعا له .
قال ابنُ الجوزي رحمه الله في كشف المُشكل (4/ 383)أَي إِن ظَهرتَ كنتُ آمنا .
وسبحان الله مقلب الأحوال ذهب سراقةُ إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر
مناصرًا لقريش، ثم رجع حارسًا، ومناصرًا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر
الصديق رضي الله عنه .
قال ابنُ القيم في زاد المعاد (3/ 50)كَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَيْهِمَا، وَآخِرَهُ حَارِسًا لَهُمَا .
وكان سُراقة قد فرح بالمال الذي وعدت به قريش فجدَّ طالباً في الأمر .
قال ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد المجلد الثالث :فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ الظَّفَرُ لَهُ خَاصَّةً وَقَدْ سَبَقَ
لَهُ مِنَ الظَّفَرِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ .اهـ
سبق له الفوزُ ما لم يكن في حسابه ، أسلَمَ ،وفازَ بصحبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ، والدَّار الآخرة .

(وقد جاء مسلماً عامَ حجةِ الوداع ودفع إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الكتابَ الذي كتبه
له)
ظاهره أنَّ إسلام سراقة بن مالك رضي الله عنه في حجة الوداع .
وحجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة النبوية .
ولكن الذي وجدته في كتب التراجم والسير أنَّ إسلامَهُ في السنة الثامنة من الهجرة .
أخرج موسى بن عقبة كما في ( أحاديث منتخبة من مغازي موسى بن عقبة ) ص 64.
قصة سُراقة التي بين أيدينا وفيها :حَتَّى إِذَا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ؛ خَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنْ أَلْقَاهُ ومعي الكتاب الذي كتب
لي، فبينا أَنَا عَامِدٌ لَهُ؛ دَخَلْتُ بَيْنَ ظَهْرَيْ كَتِيبَةٍ مِنْ كَتَائِبِ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَطَفِقُوا يَقْرَعُونِي
بِالرِّمَاحِ، ويقولون: إليك إليك، حتى دنوت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على
ناقته، أَنْظُرُ إِلَى سَاقِهِ فِي غَرْزَهِ كَأَنَّهَا جُمَّارَةٌ فَرَفَعْتُ يَدِي بِالْكِتَابِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا
كِتَابُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ الخ .
وفي البداية والنهاية (3/185)وَذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
بِالْجِعْرَانَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ، فَقَالَ لَهُ «يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ» فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَسْلَمْتُ .
وفي البداية والنهاية أيضا للحافظ ابن كثير (7/151)ثُمَّ قُدِمَ بِهِ- أي بالكتاب - بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ
فَأَسْلَمَ وَأَكْرَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . اهـ
وغزوة الطائف بعد حنين سنة ثمانٍ .
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/374)فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَشْهُورَةِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَالْوَفَيَاتِ
فَكَانَ فِي جُمَادَى مِنْهَا وَقْعَةُ مُؤْتَةَ، وَفِي رَمَضَانَ غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ، وبعدها في شوال غزوة هوازن بحنين، وبعده كَانَ حِصَارُ الطَّائِفِ، ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ.
وقال الحافظ في صدر ترجمة سُراقة من الإصابة : أسلم يوم الفتح .
وبهذا يتعيَّن أن سُراقةَ بن مالك رضي الله عنه أسلم سنة ثمان وأنَّ قوله في (وقد جاء مسلماً
عامَ حجةِ الوداع) وهمٌ أو تصحيف .
وهو الذي سأل بسؤالٍ عن التمتع في الحج .
وهذا في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه وفيه « فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وفيه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ» مَرَّتَيْنِ «لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ» .

(فوفَّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وعده وهو لذلك أهلٌ)
أي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهلٌ للوفاء.
وما أحسن ما قاله حسان بن ثابت رضي الله عنه كما في صحيح مسلم (2489) .
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا ... رَسُولَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
(ومرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقال عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبناً كثيراً في سنة مجدبة ما بهر العقول، صلى الله عليه وسلم).
ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله قصةَ مرور النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على خيمة أم
معبد.
أم معبد :هي عاتكة بنت خالد ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة وهي مختلف في
صحبتها، وبعضهم عدها من المبايعات للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(فقال عندها) من القيلولة، (في سنة مجدبة) الجدب: القحط.
والقصة جاءت من عدة طرق وأسانيدها ضعيفة إلا أن بعضهم يرى تقوية القصة بمجموع طرقها.
وهذا أحدُ الأمور التي كانت في أثناءِ الطريق في سَفرة هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم وصاحبه أبي بكرٍ إلى المدينة إن صحت القصَّةُ .
وتقدَّم قصةُ سُراقة وما فيها من العِبَر ، وتأييد الله لنبيه .
ومنها : مرورُهما براعي غنم أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه (3908) عن البراء بن
عازبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " لَمَّا أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ
مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي وَلاَ
أَضُرُّكَ، فَدَعَا لَهُ، قَالَ: فَعَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِرَاعٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخَذْتُ
قَدَحًا فَحَلَبْتُ فِيهِ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، فَأَتَيْتُهُ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ " .


انتهينا من هذا الفصل في هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونكون قد مررنا –ولله
الحمد -على جُملة من سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ولادتِه، إلى بعثتِه، إلى
هجرتِه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة إلى المدينة .

فائدة :أسفارُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تدورُ على أربعة أسفار
سفره لهجرته ، سفره لحجته ، سفره لعمرته ، سفرهُ لقتال أعدائه .
وقد ذكر ذلك ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد .

******************************
فصل ـ دخوله عليه الصلاة والسلام المدينة

وقد كانَ بلغَ الأنصارَ مخرجُه من مكةَ وقصدُه إياهم، فكانوا كلَّ يوم يخرُجون إلى الحرَّة
ينتظرونه، فلما كان يومُ الاثنين الثاني عشر من ربيع الأوَّل على رأسِ ثلاثَ عشرةَ سنةً من
نبوتِه صلى الله عليه وسلم وافاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدَّ الضحى، وكان قد
خرج الأنصارُ يومئذ، فلما طال عليهم رجعوا إلى بيوتِهم، وكان أول من بصُر به رجلٌ من
اليهود ـ وكان على سطح أُطُمِه ـ فنادى بأعلى صوته: يا بني قَيلة هذا جدُّكم الذي تنتظرون!
فخرج الأنصارُ في سلاحهم وحيُّوه بتحيَّة النبوة. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُباء
على كلثوم بن الهِدْم، وقيل: بل على سعدِ بن خيثمة، وجاء المسلمون يسلِّمون على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأكثرُهم لم يره بعد، وكان بعضُهم أو أكثرُهم يظنه أبا بكر لكثرةِ شيبه،
فلما اشتدَّ الحرُّ قام أبو بكر بثوبٍ يظلِّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقَّق الناسُ
حينئذٍ رسولَ الله عليه الصلاة والسلام .
******************************
هذا الفصل في دخول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة فبعد أن قطع الطريق، وقطع
المسافة من مكة إلى المدينة دخل المدينة يوم الاثنين .
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وُلد يوم الاثنين، وبُعث يوم الاثنين، وتقدم ذلك من حديث
أبي قتادة عند مسلم ، وهاجر وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين، كما في
صحيح البُخاري (3906) (فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ
اليَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ)
والحديث وإن كان ظاهره عند البخاري الإرسال أنه من مراسيل عروة .
فقد قال الحافظ : وَصُورَتُهُ مُرْسَلٌ لَكِنَّهُ وَصَلَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّبَيْرَ بِهِ . اهـ
وتوفي يوم الاثنين وحديث وفاته يوم الاثنين في الصحيحين البخاري (680)، مسلم (419) عن
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ - وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ
وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ
كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ
إِلَى الصَّلاَةِ «فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ
يَوْمِهِ» .
وقد كان الأنصار ينتظرون قدومَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند الحرَّة في المدينة
فكان إذا اشتد الحر وقتَ الظهيرة يرجعون. فوافاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين
اشتد الضحى، و كان الأنصار قد رجعوا. فكان أول من بصُر به رجل من اليهود فنادى بأعلى
صوته : يا بني قَيلَة هذا جدُّكم الذي تنتظرون!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري تحت رقم (3906): قَيْلَةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ
وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهِيَ الْجَدَّةُ الْكُبْرَى لِلْأَنْصَارِ وَالِدَةِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَهِيَ قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ
عُذْرَةَ. اهـ.
(هذا جدُّكم الذي تنتظرون) قال الحافظ :هَذَا جَدُّكُمْ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ حَظُّكُمْ وَصَاحِبُ دَوْلَتِكُمُ الَّذِي
تَتَوَقَّعُونَهُ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ هَذَا صَاحِبُكُمْ .اهـ
ونسب اليهودي الأنصار مستهزئًا ساخرًا.
فخرج الأنصار واستقبلوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إنَّه خرج الخدمُ، والصبيان،
والنساء فرحًا بقدوم النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مهاجرًا إلى بلد المدينة
، وكانوا يقولون : جاء محمد رسول الله وكانوا يكبرون، الله أكبر، جاء محمد .
يقول البراءُ بن عازب ثُمَّ " قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى فِي سُوَرٍ مِنَ المُفَصَّلِ " أخرجه البخاري (3925) .
وفي مستدرك الحاكم (3/ 14 )عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَخَرَجَ النَّاسُ حَتَّى دَخَلْنَا فِي الطَّرِيقِ، وَصَاحَ النِّسَاءُ وَالْخُدَّامُ وَالْغِلْمَانُ، جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ انْطَلَقَ فَنَزَلَ حَيْثُ أُمِرَ» .
ورجاله عند الحاكم ثقات .وأصله في البخاري (3652) .
وفي مسند أحمد (21/ 40 )عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنِّي لَأَسْعَى فِي الْغِلْمَانِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، قَالَ: حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ ..والحديث صحيح .
وفي سنن الدارمي (89)عَنْ أَنَسٍ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «شَهِدْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ، كَانَ أَحْسَنَ وَلَا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
والحديث في الصحيح المسند لوالدي رحمه الله رقم (122) .
وقد أخذ بعضهم من هذا الحديث تسمية المدينة بالمدينة المنورة .
وانتُقِدَ هذا فإن هذا لم يرد به دليل.
ويقول الوالد الشيخ مقبل رحمه الله قد جاء عن أنس رضي الله عنه: (وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .) .
فيكون هذا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة المظلمة
هذا معنى ما ذكره الوالد رحمه الله.
وهناك أبيات مشهورة في كتب السيرة أن الصبيان استقبلوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأبيات :

طلع البدرُ علينا

من ثنيَّات الوداع

وجبَ الشكرُ علينا

ما دعا لله داع


وقد أورده الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في فتح الباري (3925) من طريق عبيدالله بن عائشة
قال :وَهُوَ سَنَدٌ مُعْضَلٌ .اهـ
وقال الشيخ الألباني في «الضعيفة» (598): هذا الإسناد ضعيف رجاله ثقات، لكنه معضل سقط من إسناده ثلاثة رواة أو أكثر؛
فإن ابن عائشة هذا من شيوخ أحمد وقد أرسله.

وبذلك أعله الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (2/244). اهـ
وكان الوالد رحمه الله يذكر أنها لا تثبتُ .
والإخوان المسلمون يُحفِّظون أولادهم هذه الأبيات، وهذا من عاداتهم شغل الطلاب بالأناشيد
حتى إِنَّ الوالد الشيخ مقبل رحمه الله يقول: كم من حافظٍ للقرآن يسحبُهُ الإخوان المسلمون
ويضيِّعُونه بالأناشيد .
(وكان على سطح أُطْمِه)هِيَ الْحُصُونُ الَّتِي تُبْنَى بِالْحِجَارَةِ وَقِيلَ هُوَ كُلُّ بَيْتٍ مُرَبَّعٍ مُسَطَّحٍ كما
في فتح الباري (1878) .
وقال رحمه الله تحت رقم (3908)أُطُم بضمِّ أوَّلِه وثانيه .

(فخرج الأنصار في سلاحهم وحيَّوه بتحية النبوة) أي: تحية الإسلام .

(ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهِدْم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة)
(كلثوم بن الهدم)
بكسر الهاء وسكون الدال، كما في الإصابة.
أول ما نزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقباء، لكن اختلفوا على من نزل على قولين .
(سعد بن خيثمة) أحد النقباء. وهو وكلثوم بن الهدم أَوْسِيَّان .
(وجاء المسلمون يسلِّمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرُهم لم يره بعد)
يراجعُ : صحيح البخاري (3911) عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
(وكان بعضُهم أو أكثرُهم يظنُّه أبا بكر لكثرةِ شيبه، فلما اشتدَّ الحر قام أبو بكر بثوب يظلِّل
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقق الناسُ حينئذ رسول الله عليه الصلاة والسلام).
كان البياض في شعر أبي بكر أكثر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع أن أبا بكر
أصغرُ من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد توفي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
عن ثلاث وستين عامًا، وتوفي أبو بكر عن ثلاث وستين عامًا.
وأخذ أبو بكر الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سنتين وبعض الأشهر.
أبو بكر : هو عبد الله بن عثمان أبي قحافة .
أَخيراً
كان الوالد رحمه الله من أسئلته : عائشة بنت عبد الله بن عثمان من هي؟
وهذا في الدرس العام ، هي أم المؤمنين رضي الله عنها ، وربما يغلط بعضُهُم .
وكان الوالد رُبَّما قال :عندي سؤالٌ مثل ذا ويُشيرُ بيده إلى أنه سُؤالٌ كبير فيتهيَّبون
ويخافون .
وكان رحمه الله أحياناً إذا سأل ولم يجبه أحد يقول: عندكَ يا جدار. وهذا في الدرس الخاص .
هذا ونتواصى بالصبر على طلب العلم فإنَّ الجنة ليستْ ممهَّدَةً بالورود والزُّهور، بل هي
محفوفة بالمكاره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حُفت الحنة بالمكاره وحفت
النار بالشهوات ، وقد كان الوالد رحمه الله يقول: (دارِ نفسَك ولو بحبَّة حلوى) .
العلم شاق، ولكن نداري أنفسنا ، ونشجِّعُها ، ونروِّضُها حتى تَجِدَ حلاوته فلا تجد بعد ذلك أُنْسَا
ولا راحةً إلا في طلبِ العلم ،والجزاء الجنة، ولا حياةَ إلا بالعلم، ومن فضائلِ العلم
أنه يشغل الوقت ، فمن كانت طالبةَ علم فإنها لا تجدُ وقتاً للكلام والفُضُول .
والوقت إذا لم يُشغل بالحق والخير شغل بالباطل والأمور التافهة .
ونسأل الله التوفيق .










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-10, 20:39   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
hanamohamed
عضو نشيط
 
إحصائية العضو










افتراضي

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.
بارك الله فيك لطرحك هذا الموضوع لخير البشر سيدنا محمد صل الله عليه وسلم وعلى اله وصحبه وسلم










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
رسول, شجرة, فصل


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 01:30

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc