موضوع مميز سلسلة القصص القراني ,(((,لقد كان في قصصهم عبرة ))) - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتاب و السنة

قسم الكتاب و السنة تعرض فيه جميع ما يتعلق بعلوم الوحيين من أصول التفسير و مصطلح الحديث ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

سلسلة القصص القراني ,(((,لقد كان في قصصهم عبرة )))

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2015-06-10, 22:07   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي سلسلة القصص القراني ,(((,لقد كان في قصصهم عبرة )))

السلام عليكم

[قال الله تعالى

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)

من منا لم يقرا القران فيذهل ويتعرف على اخبار من قبلنا فتبهره براعة سسرد القصص وبديع المعاني وجميل العبر ويذهل من دقة التصوير

واكثر من هذا كلها دروس وعبر لمن يعتبر

قصص القران أصدق القصص ؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)(النساء: الآية87) وذلك لتمام مطابقتها على الواقع وأحسن القصص لقوله تعالى: (نَحْنُ

نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآن) (يوسف: الآية 3) وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى .

وأنفع القصص ، لقوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب)(يوسف: الآية 111) . وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق


لعل الكثير منكم يعرف كثيرا منها ,,,,,,,,ولعل ايضا امنا خرين قراوها ولم يفهموها على الوجه الصحيح وربما منا ايضا من غابت عنه

لاجل كل ذلك سنجعل هذه الصفحة مجالا لعرض بعض القصص الواردة في القران ، مع ذكر العبر المستخلصة منها باذن الله

وسيكون هنا ان شاء الله فهرس للقصص المذكورة حتى يسهل الاطلاع
للاطلاع اضغط على القصة في الرابط


القصة الاولى ,,قصة بقرة بني اسرائيل

القصة الثانية ,,,,اصحاب السبت

القصة الثالثة ,,, صاحب الجنتين
القصة الرابعة ...قصة السامري والعجل ,,,,من قصة سيدنا موسى مع قومع
القصة الخامسة ,,,الثلاثة الذين خلفوا في سورة التوبة

القصة السادسة ,,,قصة سيدنا موسى مع الخضر
القصة السابعة ...قصة قارون
القصة الثامنة ..قصة اصحاب الجنة في سورة القلم

القصة التاسعة ..قصة سيدنا موسى 1

القصة العاشرة .قصة سيدنا موسى 2
القصة الحادية عشر ..قصة سيدنا صالح
القصة الثانية عشر / قصة سيدنا ابراهيم

قصة سيدنا ابراهيم 2

القصة الثالثة عشر/ قصة اصحاب الكهف
القصة الرابعة عشر قصة سيدنا ابراهيم ....1 مع قومه
قصة سيدنا ابراهيم وزوجته سارة والجبار...2
قصة سيدنا ابراهيم وهاجر واسماعيل في مكة ,,,3

قصة سيدنا يوسف 1

قصة سيدنا يوسف 2

قصة سيدنا يوسف فوائد وعبر

قصة اصحاب الكهف
كونوا بالقرب








 


آخر تعديل همسات ايمانية 2015-08-17 في 19:25.
رد مع اقتباس
قديم 2015-06-10, 22:10   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

القصة الاولى ,,,قصة بقرة بني اسرائيل

ورد ذكر القصة في سورة البقرة الآيات 67-73.

قال تعالى ((( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ))

القصة:

مكث موسى في قومه يدعوهم إلى الله. ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل لا تخطئه عين الملاحظة، وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة. فإن الموضوع لم يكن يقتضي كل هذه المفاوضات بينهم وبين موسى، كما أنه لم يكن يستوجب كل هذا التعنت. وأصل قصة البقرة أن قتيلا ثريا وجد يوما في بني إسرائيل، واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله، وحين أعياهم الأمر لجئوا لموسى ليلجأ لربه. ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة. وكان المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم. غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة. اتهموا موسى بأنه يسخر منهم ويتخذهم هزوا، واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين ويسخر منهم. أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة.

إن الأمر هنا أمر معجزة، لا علاقة لها بالمألوف في الحياة، أو المعتاد بين الناس. ليست هناك علاقة بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل في الجريمة الغامضة التي وقعت، لكن متى كانت الأسباب المنطقية هي التي تحكم حياة بني إسرائيل؟ إن المعجزات الخارقة هي القانون السائد في حياتهم، وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة.

لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل. مجرد التعامل معهم عنت. تستوي في ذلك الأمور الدنيوية المعتادة، وشؤون العقيدة المهمة. لا بد أن يعاني من يتصدى لأمر من أمور بني إسرائيل. وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم، ثم ينبئهم أنه جاد فيما يحدثهم به، ويعاود أمره أن يذبحوا بقرة، وتعود الطبيعة المراوغة لبني إسرائيل إلى الظهور، تعود اللجاجة والالتواء، فيتساءلون: أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق تفرد بمزية، فليدع موسى ربه ليبين ما هي. ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم، وتحدد البقرة أكثر من ذي قبل، بأنها بقرة وسط. ليست بقرة مسنة، وليست بقرة فتية. بقرة متوسطة.

إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي الأمر، غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة، ومراوغة بني إسرائيل لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات. ما هو لون البقرة؟ لماذا يدعو موسى ربه ليسأله عن لون هذا البقرة؟ لا يراعون مقتضيات الأدب والوقار اللازمين في حق الله تعالى وحق نبيه الكريم، وكيف أنهم ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا الاتصال المتكرر حول موضوع بسيط لا يستحق كل هذه اللجاجة والمراوغة. ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البقرة المطلوبة. فيقول أنها بقرة صفراء، فاقع لونها تسر الناظرين.

وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء، ورغم وضوح الأمر، فقد عادوا إلى اللجاجة والمراوغة. فشدد الله عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه. عادوا يسألون موسى أن يدعو الله ليبين ما هي، فإن البقر تشابه عليهم، وحدثهم موسى عن بقرة ليست معدة لحرث ولا لسقي، سلمت من العيوب، صفراء لا شية فيها، بمعنى خالصة الصفرة. انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد. وبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة. أخيرا وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها.

وأمسك موسى بجزء من البقرة (وقيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته. سأله موسى عن قاتله فحدثهم عنه (وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث) ثم عاد إلى الموت. وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم، استمعوا بآذانهم إلى اسم القاتل. انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم.

نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم، ولعل السياق القرآني يورد ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" التي يخاطبون بها موسى. وكان الأولى بهم أن يقولوا لموسى، تأدبا، لو كان لا بد أن يقولوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ادع لنا ربنا. أما أن يقولوا له: فكأنهم يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى. ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية لله. انظر إلى الآيات كيف توحي بهذا كله. ثم تأمل سخرية السياق منهم لمجرد إيراده لقولهم: (الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئة بينهم وبين الله عز وجل، بعد أن أرهقوا نبيهم بسؤاله عن صفة البقرة ولونها وسنها وعلاماتها المميزة، بعد تعنتهم وتشديد الله عليهم، يقولون لنبيهم حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة.

ساعتها قالوا له: "الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ". كأنه كان يلعب قبلها معهم، ولم يكن ما جاء هو الحق من أول كلمة لآخر كلمة. ثم انظر إلى ظلال السياق وما تشي به من ظلمهم: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) ألا توحي لك ظلال الآيات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهم ولجاجتهم في الحق؟ هذه اللوحة الرائعة تشي بموقف بني إسرائيل على موائد المفاوضات. هي صورتهم على مائدة المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى.




خلاصة القصة (( تفريغ نصي عن محمد المنجد ))

وهذه القصة خلاصتها: أنها وقعت جريمة قتل في بني إسرائيل في زمن موسى، ولم يعرف القاتل، وتدافعوا في ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله تعالى أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرةٍ، أي بقرة كانت بدون تحديدٍ لمواصفاتها، ولكن طبيعة اليهود في التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة أولاً، ثم عن لونها ثانياً، ثم عن عملها ثالثاً، وأخيراً ذبحوها وما كادوا يفعلون، وأمروا بضرب القتيل ببعضها فضرب، فأحياه الله فأخبر عن قاتله وقال: قتلني فلان، ثم قيل: إنه قد مات في وسط دهشة بني إسرائيل.

وهذه القصة ولا شك من القصص العظيمة التي قصها علينا ربنا في القرآن الكريم عن بني إسرائيل لنأخذ منها العبرة والعظة.

وهذه القصة لا شك قد اكتنفتها إسرائيليات، وجاءت في بعض تفاصيلها أخبار، لكننا على الموقف السابق لا نحتاج إلى هذه التفصيلات؛ لأنه لو كان لنا فيها خير وفائدة لذكرها ربنا عز وجل، فنحن لا نستفيد شيئاً إذا عرفنا أن البعض الذي ضرب منه القتيل من البقرة هو الذَّنب أو غضروف الكتف، أو الرجل، أو الرأس، هذا التفصيل لا يفيدنا، فإن كان ورد في بعض الإسرائيليات فإننا في غنية عنه.

هذه القصة توضح بجلاء تنطع بني إسرائيل وتشددهم في الأحكام، وكيف أن الله شدد عليهم، وقد كره لنا كثرة السؤال.

أسلوب القرآن في عرض القصة
وجاءت هذه القصة بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر في النظر إليها تحريكاً، ويهز النفس للاعتبار بها هزاً، وقال الله تعالى فيها: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] هذا ذكرت فيه المخالفة أو الاختلاف (فادارأتم فيها) ثم المنة في الخلاصة بقوله فقلنا: (فاضربوه ببعضها) ولكن وسيلة الخلاص من هذه الاتهامات وهذا اللغط، الوسيلة ذكرت قبل السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فإننا أول ما نطالع الآيات: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] نحن لا نعرف لماذا في البداية، لكن عندما نقرأ التكملة: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] ثم قال: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] عرفنا السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة.

فإذاً: تقديم ذبح البقرة كان فيه تشويق للسامع إلى معرفة ما وراء القصة، وما هو السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، ثم يفاجأ الشخص وهو يقرأ بحكاية السبب، وقد حصل عنده تشويقٌ سابق لمعرفة السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فتتوجه الفكرة بأجمعها لتلقي ذلك، وتظهر الحكمة في أمر الله تعالى لأمةٍ من الأمم بذبح بقرة خفية.

تنطعهم في تنفيذ الأوامر
وظاهر الأمر أن نبيهم موسى عليه السلام أمرهم بذبح بقرةٍ غير معينة، ولكنهم تنطعوا وتشددوا فشدد الله عليهم، فقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] أي بقرة كانت، وكونهم بحثوا في صفاتها تكلفاً منهم، كان ينبغي لهم أن يتنزهوا عنه، وأن يمتثلوا الأمر بذبح البقرة، ولو كان هناك صفة معينة في هذا لذكرها لهم ربهم على لسان نبيهم، ولذلك عنفهم الله تعالى بقوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68]، وفي قوله: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] وعلمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وجاء عن ابن عباس بإسنادٍ صحيح أنه قال: [لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأت منهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم] وقد كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة لمعرفة القاتل، والله تعالى لم يذكر لهم صفة معينة في أول الأمر، فدل ذلك على أنه يجزئ أي بقرة، ولو كان البيان متعيناً لجاء، إذ لا يجوز من الله أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فكلفوا في البداية بذبح أية بقرة كانت، وثانياً كلفوا ألا تكون لا فارضٌ ولا بكر، بل عوان بين ذلك، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كلما تشددوا في السؤال، شدد الله عليهم بصفات إضافية في هذه البقرة.

ولما أمرهم بذبح البقرة قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67] يعني: أتجعلنا مكاناً للهزأ والسخرية؟ أتهزأ بنا؟ أتتخذنا سخريةً؟

سوء أدبهم مع نبي الله عليه السلام
بهذا يواجهون نبيهم، نبي يأمرهم بأمر يقولون: أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟ هل هذا خطاب يليق بنبي؟ هل هذا أدب ينبغي للنبي؟

هذا من شأن بني إسرائيل الذين تمردوا على نبيهم، وظنوا أنه يلاعبهم، ظنوا أنه يهزأ بهم، وأشعر جوابهم هذا ما ثبت من فضاضتهم وسوء أدبهم، ولذلك رد موسى عليهم بقوله: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] لأن الاستهزاء في أثناء التبليغ لا يليق بنبي، كيف يهزأ نبي وهو يبلغ قومه؟! كيف يجعل في التبليغ مجالاً للسخرية والاستهزاء والمزاح والضحك والعبث؟! لا يمكن، ولذلك تجلى سوء أدبهم، لما قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67].

وفي قول موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] فائدة بديعة في دفاع الداعية عن نفسه إذا اتهم بشيءٍ باطل، وهذا الهزأ في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهلٌ وسفه نفاه موسى عن نفسه، وأكد أنه جاد غاية التأكيد، وقال: أعوذ بالله، ألتجئ وأعتصم به أن أكون من الجاهلين الذين يتقدمون في الأمور بغير علم، فرموا موسى بالسفه والجهالة، ودافع موسى عليه السلام عن نفسه، وقال: ألتجئ إلى الله وأعتصم بتأديبه إياي من الجهالة والهزأ بالناس.

وكان موسى عليه السلام حكيماً لما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [البقرة:67] لم يقل: أنا آمركم، أو اذبحوا بقرة؛ لأن موسى يعلم طبيعة هؤلاء القوم، ويعلم تلكؤهم وتباطؤهم وتمردهم، ولذلك قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [البقرة:67] بيَّن لهم أن الأمر من الله حتى يقطع عليهم الطريق على التأخر في التنفيذ أو التحايل، ويقطع عليهم الطريق في المناقشة. ربما قالوا له: إنما أتيت به من عند نفسك، هذا رأيك الشخصي أن نذبح بقرة، لكنه قال لهم بكلمات واضحة ومحددة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] وقوله: (بقرة) هذه نكرة في سياق الأمر تفيد العموم، اذبحوا أي بقرة، التنكير هنا يفيد العموم، لا يهم لونها ولا حجمها ولا عمرها، ولا عملها، ولا ثمنها، المهم أن تذبحوا بقرة، لكن اليهود قومٌ بهت، لم ينقادوا للأمر ولم ينفذوه فوراً، ولم يطيعوا الله ورسوله، وأنى لهم أن يفعلوا ذلك؟

فلذلك بدلاً من أن يوقروا نبيهم وينفذوا أمره، تواقحوا عليه وأساءوا الأدب واعترضوا قائلين: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67] وكأنهم يقولون: عجيب! ما هي الصلة بين ذبح البقرة وبين كشف هوية القاتل؟

نحن جئناك في حل قضيتنا نريد أن نعرف القاتل، وبما أنك نبي تعلم الغيب بإذن الله فأخبرنا من هو القاتل، ثم أنت تطلب منا أن نذبح بقرة بدلاً من أن تكشف لنا عن القاتل؟! وهذا طلبٌ مريبٌ يدل على أنك تريد أن تتخذنا هزواً.

خطورة الاستهزاء والمزاح في الأمور الدينية
أولاً: هذه طبيعة نفسية بني إسرائيل، يعتبرون أمر الله تعالى نوعاً من الهزأ والسخرية، وثانياً: يظنون أنه بهذا الطلب يريد أن يشغلهم عن قضيتهم الأساسية لمعرفة القتيل، وثالثاً: يظنون أن موسى الجاد عليه السلام الذي هو من أولي العزم من الرسل يظنون أنه يسخر ويهزأ ويلعب من خلال الأوامر التي يوجهها لهم، وهذا يشبه ما فعله قوم إبراهيم لما قالوا له: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الأنبياء:55] ونفى موسى التهمة عن نفسه، وقال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] وهذا دليل على أن السخرية والاستهزاء جهل.

وفيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإفراط في المزاح وعدم الجدية من الجهل.

وأن الشخص المزاح اللعوب الذي يكثر السخرية والاستهزاء إنسانٌ جاهل، وبذلك نعلم أيضاً من هذه الآية خطورة الاستهزاء والطرف التي يرويها بعض الناس التي يسمونها نكتاً في قضايا عقدية أو شرعية، وأن هذا أمرٌ خطير يؤدي إلى الكفر والخروج عن الملة، كما ينسب بعضهم الجنة والنار ويعملون (نكت) وطرائف على بعض أحكام الشريعة.

وكذلك نعلم أن الذين حولوا حياتهم وحياة الآخرين إلى ضحكٍ دائم فيما يسمونه (بالكوميديا) اليوم، ويعملون لها مسرحيات وأفلاماً ويكون هم الشخص هو الضحك واللعب، يتبين لنا أن هؤلاء الناس من الجاهلين.

وكذلك يتبين أن المسلم الصادق جاد وملتزم، قد يمزح ولكنه لا يقول إلا حقاً، وقد يضحك ولكن بأدبٍ ووقار، وليس المعنى تحريم الضحك أو المزاح، بل إن المقصود هو منع تحويل الحياة إلى ضحكٍ كلها ومزاحٍ وعدم الجدية، فإن المسلم الجاد لا يرضى أن يكون من الجاهلين.

تجرؤهم بقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)
قالوا له بعد ذلك لما قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:67-68] قولهم (ادع لنا ربك) كأنهم يقولون: ربك أنت وليس بربنا نحن، وهذا ربما دل على سوء أدبهم مع الله تعالى، وقد قالوا أشياء كبيرة مثل هذا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].

وهذا يكشف عن طبيعتهم ويبين الفرق بينهم وبين الصحابة في الأدب مع الله، فإن صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم قالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] لما نزل قول الله عز وجل: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] شق ذلك على الصحابة، لكن لم يتمردوا ولم يرفضوا، قالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] فلما زلت بهم ألسنتهم أنزل الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ... [البقرة:286] إلى آخر الآية التي فيها تجاوز عن الناسي والجاهل والمخطئ، الجاهل الذي لا يعلم الحكم وهو معلومٌ بجهله.

لكن بنو إسرائيل يختلفون عن الصحابة تماماً، لم يقولوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] قالوا: أنت حيرتنا، أنت أبهمت علينا الأمر، كلامك غير واضح، يحتاج إلى زيادة تفصيل، حدد لنا عمر هذه البقرة وكأنهم يقولون: لو حددت لنا عمر البقرة نكتفي وننفذ، فأجابهم بقوله: (إنه يقول) مرة أخرى يعزو الأمر إلى الله، والتفصيل من الله، والحكم من الله لا من عنده: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68] لا فارض يعني: غير مسنة انقطعت ولادتها، ولا بكرٌ لم تلد بالمرة، وإنما المراد من ولدت قليلاً ولم تلد كثيراً، عوانٌ بين ذلك: يعني: سنها لا هو صغيرٌ ولا هو كبير فهي متوسطة، حتى قيل: إن العوان معناها: النصف في السن من النساء والبهائم تسمى عوان، ولما ضيقوا ضيق الله عليهم، وجاءهم بهذا القيد الإضافي على البقرة، وقال لهم نبيهم وهو يحس بطبيعتهم ويعلمها: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] أكد عليهم الفعل؛ لأنه يعلم حالهم، كأنه يقول: اذبحوها الآن على هذه الصفات ولا تكرروا السؤال، وإنما اندفعوا للتنفيذ فوراً.

ويستفاد من هذا أن الوسط هو الطيب، ولذلك الآن في الأضحية والعقيقة لا يجزئ أقل من ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز، وأن ما كان وسطاً في عمره هو أجود اللحوم، فلحم الحيوان الصغير الذي لا يزال في بداية نموه قد تنقصه بعض الفوائد والكمية، ولحم الحيوان الكبير يكون قد قسا ويبس وفقد بعض فائدته الغذائية فيكون الوسط هو الأفضل.

قال لهم نبيهم: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] اتركوا المزاجية والاعتراض والتلكؤ، والسؤال الذي نهيتم عنه، واشرعوا في التنفيذ، لكن هل فعلوا ذلك؟ وهل امتثلوا الأمر؟

الجواب: لا.

فائدة أصولية في باب الأمر
وفي قوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] دليلٌ لما ذهب إليه أهل العلم من أن الأمر يقتضي الوجوب، أي أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذا هو الصحيح في أصول الفقه.

وكذلك من هذه الآية يستدل أيضاً على قاعدة أصولية أخرى تتعلق بالأمر، وهي: الأمر على الفور لا على التراخي، فإذا أمرنا بشيء يجب أن ننفذ فوراً، وهذه حجة من ذهب من العلماء إلى أن الواجب الحج فوراً: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) أول ما تتمكن تحج، لا يجوز لك التأخير بدون عذر، فإذاً الأمر يفيد الوجوب، والأمر على الفور لا على التراخي، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، لكن هل هم نفذوا على الفور؟

الجواب: لا.

مواصلة العناد وزيادة التشديد عليهم
قالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69] انتقلوا إلى السؤال عن اللون، كان السؤال الأول عن عمر البقرة، الآن صار السؤال عن اللون، دائماً اللجاجة تقود إلى سؤالٍ جديد، فالذي لا يريد الحق دائماً يخرج لك أسئلة جديدة، والذي من طبيعته التلكؤ والنكوص يخرج أسئلة جديدة.

كانوا يزعمون أن الإبهام في الأمر الذي أمروا به في العمر، فإذا بهم الآن يرونه إبهاماً من وجهٍ آخر، ويقولون: إننا لا نعرف ما لونها، ما اللون المطلوب؟ وكأنهم يقولون: لو عرفنا اللون ذبحناها، ما لونها؟ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69].

فلما شددوا شدد الله عليهم، ووضعهم في ضيقٍ أشد، فأمرهم بذبح بقرةٍ صفراء فاقع لونها مع أن اللون الأصفر الفاقع في البقر نادر، لكن لما شددوا شدد الله عليهم، ولعل أهلها لا يبيعونها إلا بثمن مرتفع -هذه البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين- ولا شك أن هذا من التضييق عليهم.

قال لهم: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] والفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قانٍ، وأخضر ناظر، فالمقصود في قوله: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] يعني: شديدة الصفرة، نقية ما فيها إلا اللون الأصفر، ولا شعرة إلا صفراء، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] يعجب الناظرون إليها، حتى إن جمهور المفسرين أشاروا إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولذلك قالوا في أحكام المعتدة: إنها تترك الزينة في الذهب والحلي والملابس الجميلة، فقالوا: تترك الملابس الصفراء والحمراء ... إلخ، فيعتبرونه من الألوان السارة (تسر الناظرين) حتى إن بعضهم ربما كان يلبس الأصفر من النعال، ويقول: اتركوا لبس النعال السود لأنها تغم، فاللون الأسود قد يدل على الغم، ولكن الأصفر يدل على السرور، فهو لونٌ جميل محببٌ إلى النفوس.

ومحبة الألوان الجميلة ليس مما ينافي الشريعة سواء كان حيواناً، أو فاكهةً، أو طعاماً، أو لباساً، أو أثاثاً، فالشريعة لا تحرم الاهتمام بالألوان الجميلة، لكن الفنون الجميلة هذه مما ينبغي أن تضع تحتها خطوطاً حمراء؛ لأنهم قد شغلوا بها عباد الله عن ذكر الله وسموها (فنون جميلة) وصار الواحد ينفق في الساعات والأيام والشهور في لوحة يرسمها ويتعب فيها، ويقولون: هذه أشياء تشجع عليها الشريعة والفن الإسلامي، قاتلهم الله! أشغلوا الناس عن ذكر الله بالفنون الجميلة.

الشريعة لا تحرم أن تستمع وأن تمتع ناظريك ونفسك بالأزهار وألوانها، وتتأمل فيما خلق الله، وأن تسبح ربك على هذه الخلقة التي تسر الناظرين، لكن إنفاق الأوقات والنحت والتصوير والرسم بدعوى أن هذه فنون جميلة والإسلام لا يحرم الفنون الجميلة، وليس للإسلام موقف من الفنون الجميلة، فأشغلوا الناس عن ذكر الله بهذه الهوايات السخيفة الفارغة المضيعة للأوقات.

نعود إلى قصتنا: لما بين لهم أنها بقرة صفراء فاقعٌ لونها، هل نفذوا ذلك؟ وهل سارعوا إلى ذبحها؟

الجواب: لا. بل إنهم عمدوا إلى سؤال ثالث في مشوارهم من المماطلة والتلكؤ والتباطؤ عن تنفيذ أوامر الله.

ما يستفاد من العِبر في التلكؤ وسؤالهم عن عمل البقرة
قالوا: كان الإبهام في العمر، ثم صار الإبهام في اللون، الآن يقولون: ما عمل هذه البقرة؟ ماذا تعمل؟ تحرث .. تزرع .. تسقي .. تعمل؟

ثم إنهم لما أرادوا أن يسألوا سؤالاً ثالثاً وكأنهم استثقلوا الثالث أبدوا عذراً فقالوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] كرروا السؤال عن الحال والصفة، ولا شك أنه تنطع بعد تنطع، ولذلك قيل: إن بعض الخلفاء كتب إلى عامله يقول: اذهب إلى القوم الفلانين فاقطع أشجارهم وهدم بيوتهم، فكتب إليه العامل يقول: بأيهما أبدأ بتخريب البيوت أم بقطع الأشجار؟ فرد عليه الخليفة يقول: إن قلت لك بقطع الشجر ابدأ ستقول لي بسؤالٍ آخر: بأي نوعٍ من الشجر أبدأ؟

وكذلك كتب أحد الأمراء إلى وكيله يقول: إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاةً سألتني أضأنٌ أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكرٌ أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيءٍ فلا تراجعني.

فهؤلاء قالوا: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70] ما عمل هذه البقرة؟ وضح لنا وظيفة هذه البقرة؟ لقد تشابه الأمر واختلط ولا ندري أي بقرة هي المطلوبة من بين البقر.

وهذا فيه فائدة كبيرة وهي: أن الاشتباه والالتباس نتيجة طبيعية للحيرة، ضريبة يدفعها كل من يترك التشريع الرباني الميسر ويذهب للتشديد والتعقيد، مثال: الموسوسين، الشخص الموسوس الذي تقول له: توضأ بهذه الكيفية ترى أنه يأتي لك بأشياء شديدة، اغسل النجاسة، المطلوب إزالة النجاسة، يقول: وهل يلزم نتر الذكر، أو عصره، أو القفز، أو النحنحة، أو الربط، والقيام والقعود، أو النزول من درجات السلم، كل هذا من تشديدات الموسوسين.

إذاً هذه القضية وهي قضية الحيرة والاشتباه والالتباس تحدث نتيجة طبيعية للتشديد والتعقيد والبحث عما لا يلزم شرعاً، ولذلك ترى الموسوس يعيش في عذاب وحيرة وهم وغم؛ بسبب تشديده على نفسه.

فلما أخبروا بهذه الصفات المطلوبة منهم في البقرة، يا ترى أين سيجدونها؟ ومتى سيجدونها؟ وكم سيكون ثمنها؟ وهل هم مستعدون لدفع الثمن؟

ولذلك: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] وقالوا لنبيهم بعبارة يشتم منها رائحة سوء الأدب، قالوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] يعني: بعد البيان الثالث (الآن جئت بالحق) كأنهم يقولون: الذي قبل هذا لم يكن حقاً، الآن هذا حق، وكأنه موسى عليه السلام كان يتكلم بالباطل. وحاشاه.

قال لهم في الصفة الثالثة: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71] أما قوله: (إنها بقرة لا ذلول) الذلول: من الدواب بينة الذل التي ذللها الذين يستخدمونها، (تثير الأرض) يعني: تقلبها للزراعة، يعني: أن هذه البقرة التي أمرتم بها ليست ذلولاً تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، ولا يستقى عليها الماء لسقي الزرع ويحمل عليها الماء ويستقى بها الماء، وإنما هي (مسلَّمة) يعني: خالية ومسلَّمة من العيوب، مسلَّمة من العمل، يعني: كأنها عند أهلها للنظر والاستمتاع لا للعمل والكد، (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) وإنما هي (مسلَّمة لا شية فيها) يعني: لا عيب، ولا خلط في الألوان، فلما سمعوا هذه الأوصاف ولم يبق متسع لمزيدٍ من التساؤلات، العمر واللون والعمل، فماذا بقي؟

التباطؤ في التنفيذ طبيعة اليهود والمنافقين
كان الأمر يسيراً فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه، وفي النهاية فذبحوها، لكن بعد ماذا؟

( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ما كادوا يفعلون ما أمروا به، ولذلك فإن الله تعالى ذمهم وعابهم على هذا الفعل، وشدد عليهم وجعل الأمر شاقاً عليهم، وكذلك شق عليهم في اللحوم وما يؤكل منها والشحوم، وحرَّم عليهم أشياء، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] وهذا التباطؤ والتلكؤ يدل على نفسية لا تريد العمل، ولا تريد التنفيذ.

إن نفس المؤمن فيها شوقٌ ولهفة وهمة وحيوية للتنفيذ؛ لأن هذا هو أمر الله، فالمؤمن يتحمس لتنفيذ أمر الله، ولكن المنافق يتكاسل ويتباطأ ويتحايل ويتهرب، فإذا فشلت المحاولات نفذ مضطراً مكرهاً مرغماً فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] لكن المؤمن إذا نفذ الصلاة والحج ينفذ بطواعية وسرور نفس ومسارعة، واستسلام، لا اعتراض ولا تلكؤ، أما المنافق وطبائع اليهود هذا هو، وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].

ولكن إذا رأى الإنسان أنه يجرجر نفسه إلى الطاعة جرجرةً، ومرة يفعل ومرة لا يفعل، ويسأل أهل العلم فإذا أجابوه اعترض بسؤالٍ آخر، وتراه يجادل لا للتعلم، ولكن لإضاعة الوقت، ولعله ينفذ من الحكم، ويجد له مخرجاً من هذه الفتوى، فهذه طبيعة يهودية إسرائيلية بغيضة من بني إسرائيل.

المبادرة للتنفيذ هي المقصود من أمرهم بالذبح
ومعلوم أنه ليس المقصود الآن مجرد الذبح، المقصود الأساسي المبادرة للتنفيذ، فالله عز وجل أمرنا بذبح الضحايا والهدايا، وقال: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [ الحج:36] يعني: طاحت بعد نحرها: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:36-37].

ولولا أنهم استثنوا ما ذبحوها، ولذلك لما قالوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] لو لم يستعملوا المشيئة كانوا ما ذبحوها أبداً كما قال المفسرون، وهذا من بركة المشيئة، فإنها معينة على تنفيذ الأمر، ولذلك قال الله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

ذبح البقرة وما كان بعدها
مجموعة من الفوائد في الآيات
وفي قوله تعالى: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] دليل على منع الاستهزاء بالدين كما تقدم.

جواز بيع السلم
وفي قوله تعالى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71] تكلم العلماء في هذه الآية على قضية بيع السلم، وأنه يجوز بيع الحيوان سلماً إذا ضبطت صفاته كما ضبطت في هذه الآية؛ لأن العلماء قد اختلفوا في حكم بيع السلم في الحيوان، فادعى بعضهم أنه لا يجوز؛ لأنه لا يمكن ضبطه، وهم الحنفية، وذهب الشافعي رحمه الله ومالك والأوزاعي والليث وغيرهم إلى جواز بيع السلم في الحيوان واستدلوا بالآية، فما هو بيع السلم؟

معلوم أنه في القاعدة الأصولية: لا يجوز بيع ما لا تملك، شيء لا تملكه لا يجوز لك أن تبيعه، لكن الحاجة تدعو أحياناً إلى أن يبيع الإنسان ما لا يملك، فأباحت الشريعة بيع السلم، يجوز أن تبيع شيئاً ليس عندك إذا كان يمكن ضبطه، وذكرت الصفات الضابطة له وقدم الثمن في مجلس العقد ... إلى آخر شروط بيع السلم.

فمثلاً: يجوز أن تقول لشخص أشتري منك ثمراً هذه صفته، ولم يكن قد ظهر الثمر، أولم يُزْرَع أشتري منك قمحاً على رأس الحول هذه صفته، وهذا وزنه وهذا ضبطه ونحو ذلك، وتقدم الثمن كاملاً يجوز بيع السلم في هذه الحالة، تقول لشخص مثلاً يسافر إلى أمريكا يأتي بسيارة، تقول: أشتري منك سيارة هذه صفتها كذا وكذا، وتقدم له الثمن كله في مجلس العقد، ثم يأتي لك بالسيارة على الصفات، ومن شروط بيع السلم تحديد مدة التسليم، على أية حال الآن موضوعنا ليس بيع السلم، لكن استدلوا بهذه الآية على جواز السلم في الحيوان.

حرمة الاستهزاء بالأنبياء
وهذه القصة فيها فوائد كثيرة ذكرنا بعضها سابقاً ومنها: إظهار العجرفة وسوء الأخلاق في بني إسرائيل يتجنبها المسلمون، وحرمة الاعتراض على الشارع، ووجوب المبادرة إلى تنفيذ أمره ونهيه، والندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهية التشديد بالأمور، وفائدة الاستثناء، وإنهم لو لم يقولوا: إن شاء الله ما نفذوا أصلاً، وتحاشي الكلمات التي قد يفهم منها الاستهزاء بالأنبياء، وهناك جدل قائم الآن على فيلم قد صور ومثل فيه لمزٌ ليوسف عليه السلام، هذا الذي يثار فيه الجدل في هذه الأيام، الأفلام التي فيها تمثيل أدوار الأنبياء، ليس هناك شك أنها سخرية بالأنبياء، يظهر لك ممثل فاسق فاجر يمثل دوراً فيه الحب والغرام والعشق المحرم في تمثيلية وفيلم ثم يمثل دور نبي، ثم لو أتيت بأتقى الناس الآن هل يرقى أن يكون في مستوى نبي حتى يمثل دوره.

فلا شك أن تمثيل أدوار الأنبياء مما يقلل من شأنهم ويظهرهم بمظهر غير المظهر الذي أظهره الله تعالى في كتابه، فلذلك حرام تمثيل أدوار الأنبياء، وهم يحاولون المناورة والمداورة وأنه لم نقصد، ولم ... ولكن التفاصيل التي قدموها أنهم قصدوا ذلك، وهذا من محاربة الأعداء لنا في تاريخنا، هم حاربونا في أشياء كثيرة ومنها محاربتهم لنا في تاريخنا.

بيان كيف يحيي الله الموتى
وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: بيان كيف يحيى الله الموتى بدليلٍ عجيب وآيةٍ باهرة ومعجزة ربانية: إنسان ميت لا روح فيه ولا حراك، وبقرة عجماء بكماء، ذبحتم أنتم البقرة وتحولت إلى جسدٍ أيضاً لا روح فيه ولا حراك، وأخذتم أنتم جزءاً ميتاً من أجزاء البقرة الميتة وضربتم به جسد الإنسان الميت، وفوجئتم بالمفاجأة المدهشة كيف دبت الحياة في هذا الإنسان الميت من تلك الضربة، وتحرك حركة الأحياء وتكلم كلام الأحياء.

فذبح البقرة إذاً كان فيه فوائد منها: الكشف عن القاتل الحقيقي، وتعريف اليهود عليه، وإقامة الدليل العملي على قدرة الله على إحياء الموتى، وتقديم آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته، وتعريفنا على طبيعة اليهود من خلال نظرتهم لأوامر الله وتحذير المؤمنين من أخلاقهم.

لكن قصة البقرة وإحياء الميت بهذه الطريقة العجيبة هل كان ذلك مرققاً لقلوب بني إسرائيل؟

الجواب: كلا. فإن الله أعقب ذلك مباشرة بقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] مع أنهم من المتوقع أنهم لما رأوا هذه الآية الباهرة، وهذه المعجزة الربانية أن تلين قلوبهم، لكنها قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد؛ لأن من الحجارة ما يتشقق ويتحدر ويتفطر من خشية الله: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21].

وفيه كذلك: جرم القاتل وخطورة إخفاء الحقائق، وكيف أنهم تدافعوا وحاولوا اتهام الأبرياء.

وكذلك: أن اللجاجة وكثرة الأسئلة فيما لا داعي له أمرٌ ممقوت، وأهمية الانشغال فيما ينفع والبحث عما يجدي وترك ما لا ينفع.

وجوب تقديم الأصول على الفروع
ثم نأتي إلى درسٍ آخر وهو: قضية عدم الانشغال بالهامشيات والثانويات والشكليات والفرعيات على حساب الأصول والأساسيات، يعني لا تقدم هذه على هذه.

ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا ألبتة ترك الجزئيات التي جاءت بها الشريعة كتحريك الإصبع في التشهد مثلاً، بزعم أن هذه جزئية وسنة وأمر شكلي وجانبي، تقول: لا. حاشا وكلا معاذ الله، وإنما سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) ولكن أن يشتغل الإنسان بالفرعيات ويترك الأصول هذا هو المذموم، كذلك بعضهم قد يشتغل بدقائق الفقه وهو لم يؤسس أسس العقيدة في نفسه، يأخذ المسائل المفرعة الجزئية وهو لم يضبط أصولها.

اليهود قوم بهت مماطلون
وأخيراً: فإننا نختم فوائد هذه القصة بفائدة تتعلق بعصرنا الذي نعيش فيه، فإن المداورة والمماطلة التي كشفتها لنا قصة البقرة في طبيعة اليهود، تدل على أن طبيعة هؤلاء القوم لا يملون ولا يضجرون ولا يسأمون من المفاوضات؛ لأنهم يتقنون فن التهرب والتملص والتحايل، بل ويتمتعون أثناء ذلك بنفس طويل وأعصاب باردة، وهم على استعداد لتضييع الجهود والأوقات في هذه الشكليات والفرعيات، وأن يوجدوا لأنفسهم مداخل، ويمكن أن يعمدوا إلى قضية شكلية هامشية يمضون فيها أوقاتاً طويلة تستغرق شهوراً وسنوات على حساب الطرف المظلوم، وعندهم فنٌ في عدم حل المشاكل وإبقائها معلقة، وتأخير الحل، وعندهم حرصٌ على عدم إظهار الحق وعدم الخروج بنتيجة وإبقاء القضية في غموض وضباب، وأن يبقوا خصومهم في ضياع وفراغ، وهم قضوا أكثر من عشرين سنة في جدال، هل ينسحبون من الأراضي المحتلة، عاشوا أكثر من عشرين سنة وهم ما حلوا القضية.

وكذلك فإنهم على استعداد بأن يجعلوا المفاوضات وهيئات التحكيم الدولية والخبراء والمحامين ينشغلون في قضية طويلة، وما شغلهم بقضية طابا التي لا تتجاوز مساحتها ملعب كرة قدم، جعلوا ذلك خصاماً إلى أكثر من عشر سنوات، وبقية المسائل في تعقيدات ومماطالات، وقصة البقرة تكشف لنا طبيعة هؤلاء جيداً. ولذلك فلا يجوز لمسلم أن يغتر بهم، ولا يظن لحظة واحدة أنهم يحرصون على خيرٍ لنا، أو أنهم يريدون أن يحلوا مشكلة، فإن الله سبحانه وتعالى قد فضحهم في كتابه، وبين لنا طبيعتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا شرورهم ومكرهم وأن ينصرنا عليهم، ويخلص المسلمين من شرهم.

والحمد لله رب العالمين.



الفوائد المستنبطه من القصة :


1) أن من شدد على نفسه شدد الله عليه ، كما حصل لهؤلاء؛ فإنهم لو امتثلوا أول ما أُمِروا، فذبحوا أيّ بقرة لكفاهم؛ ولكنهم شددوا، وتعنتوا، فشدد الله عليهم؛ على أنه يمكن أن يكون تعنتهم هذا للتباطؤ في تنفيذ أوامر الله .


2 ) أن الإنسان إذا لم يقبل هدى الله عزّ وجلّ من أول مرة فإنه يوشك أن يشدد الله عليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الدين يسر؛ ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) اخرجه البخاري .



3 ) ومنها: أنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعنى القصة وغرضها دون من وقعت عليه ؛ لقوله تعالى: { ببعضها } ولم يعين لهم ذلك توسعة عليهم؛ ليحصل المقصود بأيّ جزء منها؛ ولهذا نرى أنه من التكلف ما يفعله بعض الناس إذا سمع حديثاً أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله..." كذا وكذا؛ تجد بعض الناس يتعب ويتكلف في تعيين هذا الرجل؛ وهذا ليس بلازم؛ المهم معنى القصة، وموضوعها؛ أما أن تعرف من هذا الرجل؟ من هذا الأعرابي؟ ما هذه الناقة مثلاً؟ ما هذا البعير؟ فليس بلازم؛ إذ إن المقصود في الأمور معانيها، وأغراضها، وما توصل إليه؛ فلا يضر الإبهام . اللهم إلا أن يتوقف فهم المعنى على التعيين..

4 ) أن المبهم في أمور متعددة أيسر على المكلف من المعين؛ وذلك إذا كانوا قد أمروا أن يضربوه ببعضها فقط؛ فإذا قيل لك: "افعل بعض هذه الأشياء" يكون أسهل مما إذا قيل لك: "افعل هذا الشيء بعينه"؛ فيكون في هذا توسعة على العباد إذا خيروا في أمور متعددة والله أعلم..

5 ) ومنها: أن بيان الأمور الخفية التي يحصل فيها الاختلاف، والنِّزاع، من نعمة الله عزّ وجلّ؛ يعني مثلاً إذا اختلفنا في أمور، وكاد الأمر يتفاقم، ويصل إلى الفتنة، ثم أظهر الله ما يبينه فإن هذا من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا؛ لأنه يزيل بذلك هذا الخلاف، وهذا النِّزاع..

6 ) ومنها: التحذير من أن يكتم الإنسان شيئاً لا يرضاه الله عزّ وجلّ؛ فإنه مهما يكتم الإنسان شيئاً مما لا يُرضي الله عزّ وجلّ فإن الله سوف يطلع خلقه عليه . إلا أن يعفو الله عنه ...( نقل من تفسير الشيخ ابن عثمين ) .











رد مع اقتباس
قديم 2015-06-10, 22:11   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

القصة الثانية ,,,,,,,,,,,,اصحاب السبت


قصة أصحاب السبت
ورد ذكر القصة في سورة البقرة. كما ورد ذكرها بتفصيل أكثر في سورة الأعرف الآيات 163-166

قال الله تعالى، في سورة "الأعراف":
"وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ .وقال تعالى في سورة "البقرة": وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" .
وقال تعالى في سورة "النساء":
" أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا"

القصة:
أبطال هذه الحادثة، جماعة من اليهود، كانوا يسكنون في قرية ساحلية. اختلف المفسّرون في اسمها، ودار حولها جدل كثير. أما القرآن الكريم، فلا يذكر الاسم ويكتفي بعرض القصة لأخذ العبرة منها.
وكان اليهود لا يعملون يوم السبت، وإنما يتفرغون فيه لعبادة الله. فقد فرض الله عليهم عدم الانشغال بأمور الدنيا يوم السبت بعد أن طلبوا منه سبحانه أن يخصص لهم يوما للراحة والعبادة، لا عمل فيه سوى التقرب لله بأنواع العبادة المختلفة.
وجرت سنّة الله في خلقه. وحان موعد الاختبار والابتلاء. اختبار لمدى صبرهم واتباعهم لشرع الله. وابتلاء يخرجون بعده أقوى عزما، وأشد إرادة. تتربى نفوسهم فيه على ترك الجشع والطمع، والصمود أمام المغريات.
لقد ابتلاهم الله عز وجل، بأن جعل الحيتان تأتي يوم السبت للساحل، وتتراءى لأهل القرية، بحيث يسهل صيدها. ثم تبتعد بقية أيام الأسبوع. فانهارت عزائم فرقة من القوم، واحتالوا الحيل –على شيمة اليهود- وبدوا بالصيد يوم السبت. لم يصطادوا السمك مباشرة، وإنما أقاموا الحواجز والحفر، فإذا قدمت الحيتان حاوطوها يوم السبت، ثم اصطادوها يوم الأحد. كان هذا الاحتيال بمثابة صيد، وهو محرّم عليهم.
فانقسم أهل القرية لثلاث فرق. فرقة عاصية، تصطاد بالحيلة. وفرقة لا تعصي الله، وتقف موقفا إيجابيا مما يحدث، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المكر، وتحذّر المخالفين من غضب الله. وفرقة ثالثة، سلبية، لا تعصي الله لكنها لا تنهى عن المكر.
وكانت الفرقة الثالثة، تتجادل مع الفرقة الناهية عن المنكر وتقول لهم: ما فائدة نصحكم لهؤلاء العصاة؟ إنهم لن يتوفقوا عن احتيالهم، وسيصبهم من الله عذاب أليم بسبب أفعالهم. فلا جدة من تحذيرهم بعدما كتب الله عليهم الهلاك لانتهاكهم حرماته.
وبصرامة المؤمن الذي يعرف واجباته، كان الناهون عن المكر يجيبون: إننا نقوم بواجبنا في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، لنرضي الله سبحانه، ولا تكون علينا حجة يوم القيامة. وربما تفيد هذه الكلمات، فيعودون إلى رشدهم، ويتركون عصيانهم.
بعدما استكبر العصاة المحتالوا، ولم تجد كلمات المؤمنين نفعا معهم، جاء أمر الله، وحل بالعصاة العذاب. لقد عذّب الله العصاة وأنجى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. أما الفرقة الثالثة، التي لم تعص الله لكنها لم تنه عن المكر، فقد سكت النصّ القرآني عنها. يقول سيّد قطب رحمه الله: "ربما تهوينا لشأنها -وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب- إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي, ووقفت عند حدود الإنكار السلبي. فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب" (في ظلال القرآن).
لقد كان العذاب شديدا. لقد مسخهم الله، وحوّلهم لقردة عقابا لهم لإمعانهم في المعصية.
وتحكي بعض الروايات أن الناهون أصبحوا ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد. فتعجبوا وذهبوا لينظرون ما الأمر. فوجودا المعتدين وقد أصبحوا قردة. فعرفت القردة أنسابها من الإنس, ولم تعرف الإنس أنسابهم من القردة; فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي; فيقول: ألم ننهكم! فتقول برأسها نعم.
الروايات في هذا الشأن كثيرة، ولم تصح الكثير من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها. لذا نتوقف هنا دون الخوض في مصير القردة، وكيف عاشوا حياتهم بعد خسفهم.

واسالوا اهل القرية لسعود الشريم
عباد الله: هذه الآيات إنما هي بث في المقام لما أجمل في قوله سبحانه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] والمقرر عباد الله! أن من خصائص القرآن الكريم الإجمال في موضع، والبيان في موضع آخر، لأجل أن تشرئب النفوس إلى معرفة التأويل، وربط الآيات القرآنية بعضها ببعض، وليس ذلك إلا للقرآن خاصة: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23].

أيها الناس: إن حاصل معنى آيات الأعراف هذه هو أن اليهود المعارضين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به، ولذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين، قرية أيلة على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور ، هذه القرية أهلها من اليهود، وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله حيث أنه نهاهم عن الصيد فيه، وكان الله سبحانه قد ابتلاهم في أمر الحيتان، بأن تغيب عنهم سائر الأيام، فإذا كان يوم السبت جاءتهم في الماء شرعاً ، مقبلة إليهم مصطفة، فإذا كان ليلة الأحد غابت برمتها، ففتنهم ذلك وأضر بهم، فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليهم ماء البحر على أخدود، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت فكانت في الحفرة، ألقوا فيها حجارة فمنعوا الحيتان من الخروج إلى البحر، فإذا كان الأحد أخذوها حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فنهضت فرقة منهم، ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تنه ولم تعص، بل قالوا للناهين لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً [الأعراف:164] فلما لم يستجب العاصون؛ أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص سبحانه على نجاة الناهين، وسكت عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا.

روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: [[دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما والمصحف في حجره وهو يبكي فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر، فقلت: تلك أيلة ، فقال ابن عباس : لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ [الأعراف:166] فسري عنه فكساني حلة ]].

الدروس المستفادة من قصة أصحاب السبت ((سعود الشريم )))
عباد الله! إننا بحاجة ماسة إلى أن نرفع الستار، ونلقي الضوء الواعظ، على هذه الآيات الكريمات، التي يتمخض عنها دروس ثرة، ووصايا حثيثة نوجز منها على سبيل المثال لا الحصر.

الاعتبار بأحوال الأمم الماضية
إن مما أوضحه الله في هذه الآيات ما تنطوي عليه طبائع يهود من خبث ومكر وتنكر للرسالة السماوية، يتلونون تلون الحرباء؛ مما جلب لهم المقت من ربهم، فأوقع بهم شر العقوبات: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60].

لقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وقد أثنى الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنْ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:30-32].

لكن التحول الذي حدث فيهم كان جذرياً، حتى أصبح لا يعرف من شمائلهم، أنهم يقودون إلى تقوى أو يعرفون بمهادنة، ومن هنا تبدو النكتة اللطيفة وهي: أنه من الغباء بمكان أن يحسب أهل دين ما، أن رحى الأيام لا تدور بالمجتمعات، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غداً إذا غير وبدل، إن التاريخ صفحات متتابعة، يطوى منها اليوم ما يطوى، وينشر منها غداً ما ينشر.

وإن الله جل شأنه يختبر بالرفعة والوضاعة، وبالزلزلة والتمكين، وبالخوف والأمن، وبالضحك والبكاء: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم:42-44].

كل ذلك حتى تنقطع الأعذار، وتخرس الألسن التي مرنت الجدل، فإن أناساً سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:23-24].

ولأجل ذا -عباد الله- جاء التحذير الصارخ من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في غير ما حديث.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومن الدروس المستقاة -عباد الله- أنه ينبغي على أهل العلم، وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يمنع من التمادي في الوعظ والنهج والإصرار عليه، عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرض فرضه الله قبل أو لم يقبل، ولأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله.

وبذلك تكون المعذرة إلى الله ، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، وبمثل أولاء يدفع الله البلايا عن البشر: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] ولم يقل وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة ، ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم. إذا كثر الخبث } رواه البخاري ومسلم .

قال الله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

التحذير من التهوين في شأن الإصلاح
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فإن من الدروس المستقاة من الآيات عباد الله! أن التهوين من شأن الإصلاح أو التخذيل أو الإرجاف فيه، ليس من سمات الأمة المسلمة الحقة، وأن مقولة بعضهم: دع الناس وشأنهم، فربهم رقيب عليهم، ليس من السنة في شيء، إنما هو في الواقع إقعاد بكل صراط يوعد فيه ويصد عن سبيل الله من آمن، وحينئذٍ لا بد من معرفة العاقبة لمن كان ديدنه ذلك: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً [الأعراف:164].

ومن هنا عباد الله جاء حذر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن يكون ومن معه من الفرقة الثالثة، وبعد فيا رعاكم الله:

ليت من لم يكن بالحق مقتنعاً يخلي الطريق ولا يؤذي من اقتنعا

سد الذرائع والحيل المفضية إلى الحرام
عباد الله: ومن الدروس أن الشارع الحكيم جاء بسد الذرائع المفضية إلى ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن شيئاً من أنواع الحيل الموصلة إلى ما حرم الله، لا يجوز ألبتة، لأن الحيل طرق خفية، يتوصل بها إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن لها إلا بنوع من الذكاء والفطنة.

وهي وإن أخفاها المرء فقد تخفى على جملة من البشر، لكنها لا تخفى على رب البشر، إذ إنها من باب الإلحاد في حدود الله، وهو الميل والانحراف عنها: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].

وأياً كانت هذه الحيل في العبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية، أو نحوها، فإنه لا يجوز فعلها للوصول إلى المحرم من طرف خفي، ولربما انتشر مثل هذا في أوساط الكثيرين لا سيما في البنوك والمصارف، أو في الهيئات والشركات المتعهدة في اتخاذ طرق ومرابحات دولية أو مضاربات صورية، إنما هي في حقيقتها حيلة على أخذ الربا؛ فيخدع ببهرجتها السذج ويغرر بها الذين ينشدون الكسب الحلال؛ فيوقعونهم في شرٍ مما فروا منه، دون الرجوع إلى أهل العلم والمعرفة في كشف حقيقة تلك المرابحات، ما يجوز منها وما لا يجوز، وكذا الحيل في التخلص من الزكاة بتفريق المجتمع، وجمع المتفرق، ولقد كتب أبو بكر رضي الله تعالى عنه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها: {ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة } رواه البخاري .

ومن ذلك -عباد الله- الحيل في إباحة المطلقة طلاقاً لا رجوع فيه نتيجة شقاق ورعونة عقلٍ أعقبها ندم ولات ساعة مندم، ثم لا تسألوا بعدها -عباد الله- عن كذا حيلة وحيلة يزورها في نفسه، ويخدع بها في إباحة ما حرم الله من لا يعرف الحيل.

إلا على المحتال فهو طبيبها يا محنة الأجيال بالمحتال
عباد الله: ولا غرو أن يقع أولئك في الإثم والتعدي على حدود الله، متناسين بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو عبد الله بن بطة بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل }.

وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها } وغير ذلك كثير وكثير، وما الأمثلة المطروحة إلا شعبة في واد، ونزة من نبع، القصد من ورائها تنبيه الغافلين وإنذار المتغافلين، والتأكيد الجازم على خطورة شيوع الحيل المحرمة، وما تودي به من كدر في الصفو، وعطب في النية والمقصد، وهي وإن تقالهّا ثلة من الناس، فإن هذا لا يهون من شأنها،

إن القليل بالقليل يكثر كما الصفاء بالقذاء يكدر
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.












رد مع اقتباس
قديم 2015-06-15, 23:35   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

قصة صاحب الجنتين االواردة في سورة الكهف:
{ وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } * { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } * { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } * { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } * { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } * { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } * { لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً }
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم واضرب لأولئك المشركين المتكبرين الذين اقترحوا عليك أن تطرد الفقراء المؤمنين من حولك حتى يجلسوا إليك ويسمعوا منك { اضرب لهم } أي اجعل لهم مثلا: { رجلين } مؤمناً وكافرا { جعلنا لأحدكما } وهو الكافر { جنتين من أعناب وحففناهما بنخل } أي أحطناهما بنخل، { وجعلنا بينهما } أي بين الكروم والنخيل { زرعاً } { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } أي لم تنقص منه شيئاً { وفجرنا خلالهما نهراً } ليسقيهما. { وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره } أي في الكلام يراجعه، ويفاخره: { أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً } أي عشيرة ورهطاً، قال هذا فخراً وتعاظماً.
{ ودخل جنته } والحال أنه { ظالم نفسه } بالكفر والكبر وقال: { ما أظن أن تبيد هذه } يشير إلى جنته { أبداً } أي لا تفنى. { وما أظن الساعة قائمة ولئن ردت الى ربي } كما تقول أنت { لأجدن خيراً منها } أي من جنتي { منقلباً } أي مرجعاً إن قامت الساعة وبعث الناس معهم. هذا القول من هذا الرجل هو ما يسمى بالغرور النفسي الذي يصاب به أهل الشرك والكبر. وهنا قال له صاحبه المسلم { وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } وهو الله عز وجل حيث خلق أباك آدم من (تراب ثم من نطفة) أي ثم خلقك أنت من نطفة أي من مني { ثم سواك رجلاً } وهذا توبيخ من المؤمن للكافر المغرور ثم قال له: { لكنا هو الله ربي } أي لكن أنا أقول هو الله ربي، { ولا أشرك بربي أحداً } من خلقه في عبادته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال للوصول بالمعاني الخفية الى الاذهان.
2- بيان صورة مثالية لغرس بساتين النخل والكروم.
3- تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء.
4- التنديد بالكبر والغرور حيث يفيضان بصاحبهما الى الشرك الكفر.
{ وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } * { فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } * { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } * { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } * { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } * { هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً }
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في المثل المضرورب للمؤمن الفقير والكافر الغني فقد قال المؤمن للكافر ما أخبر تعالى به في قوله: { ولولا إذ دخلت جنتك } أي هلا إذ دخلت بستانك قلت عند تعجبك من حسنه وكماله { ما شاء الله } أي كان { لا قوة إلا بالله } أي لا قوة لأحد على فعل شيء أو تركه بإقدار الله تعالى له وإعانته عليه قلل هذا المؤمن نصحاً للكافر وتوبيخاً له. ثم قال له { إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً } اليوم { فعسى ربي } أي فرجائي في الله { أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها } أي على جنة الكافر { حسباناً من السماء } أي عذاباً ترمى به. (فتصبح صعيداً زلقاً): أي تراباً أملس لا ينبت زرعاً ولا يثبت عليه قدم. { أو يصبح ماؤها غوراً } الذي تسقى به غائراً في أعماق الأرض فلن تقدر على إستخراجه مرة أخرى، وهو معنى { فلن تستطيع له طلباً }.
وقوله تعالى: في الآيات (40)، (41)، (42) يخبر تعالى أن رجاء المؤمن قد تحقق إذ قد احيط فعلاً ببستان الكافر فهلك ما فيه من ثمر { فأصبح يقلب كفيه } ندماً وتحسراً { على ما أنفق فيها } من جهد ومال في جنته { وهي خاوية على عروشها } أي ساقطة على أعمدة الكرم التي كان يعرشها للكرم أي يحمله عليها كما سقطت جدران مبانيها على سقوفها وهو يتحسر ويتندم ويقول: { يا ليتني لم أشرك بربي أحداً، ولم تكن له } جماعة قوية تنصره { من دون الله وما كان } المنهزم { هنالك } أي يوم القيامة { الولاية } اي القوة والملك والسلطان { لله } أي المعبود { الحق } لا لغيره من الأصنام والأحجار { هو } تعالى { خير ثواباُ } اي خير من يثبت على الإيمان والعمل الصالح. { وخير عقباً } أي خير يعقب أي يجزي بحسن العواقب

+++++++++++++
تخبرنا آيات القصة عن وجود رجلين في الماضي، كان بينهما صلة وصحبة، أحدهما مؤمن، والآخر كافر، وقد أَبهمت الآيات اسمَيّ الرجُلَيْن، كما أبهمت تحديد زمانهما ومكانهما وقومهما، فلا نعرف مَن هما، ولا أين عاشا، ولا في أيّ زمان وُجِدا.
ابتلى الله الرجُلَ المؤمن بضيق ذات اليد، وقلة الرزق والمال والمتاع، لكنه أنعم عليه بأعظم نعمة، وهي نعمة الايمان واليقين والرضا بقدر الله وابتغاء ما عند الله، وهي نعم تفوق المال والمتاع الزائل.
أما صاحبه الكافر فقد ابتلاه الله بأن بَسَط له الرزق، ووسَّع عليه في الدنيا، وآتاه الكثير من المال والمتاع، ليبلوه هل يشكر أم يكفر، وهل يطغى أم يتواضع؟
جعل الله لذلك الكافر جنَّتَيْن، والمراد بالجنّة هو البستان أو "المزرعة"، أي إنه كان يملك مزرعتين.
ووصفت الآيات المزرعتين بقوله: (جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِن أعنابٍ وحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ، وجَعَلْنَا بينهما زَرْعاً* كِلتا الجنَّتَيْن آتتْ أُكُلَهَا، ولم تَظْلِم منه شَيئاً، وفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً* وكان لهُ ثَمَرٌ...).[الكهف: 32-34].
كانتا مزرعتين من أعناب، وكانتا "مُسوَّرَتَيْن" بأسرابِ النخل من جميع الجهات، وكان صاحبهما يزرع الزرع بين الأعناب، وقد فجَّرَ الله له نهراً، فكان يجري بين الجنَّتَيْن المزرعتين، وكان صاحبهما يجني ثمارَهما، ثمار الأعناب، وثمار النخل، وثمار الزرع.
وتُقدم لنا الآيات إشارة لطيفة الى "تنسيق" الحدائق والمزارع والبساتين فكانت المزرعتان مِن أعناب، مزروعة فيهما بتناسق، وكان النخل سوراً محيطاً بهما، وكان الزرع والخضار والبقول يزرع بين أسراب الأعناب، وكان النهر بينهما وقنواته تجري وسطهما، فماذا تريد "تنسيقاً هندسياً" أبدع من هذا التنسيق الزراعي فيهما؟
أُعجِبَ الرجلُ الكافر بجنَّتيه، وافتخرَ بمزرعتَيْه، واعتزَّ بهما، ودخلهما وهو ظالمٌ لنفسِه، كافرٌ بربِّه، متكبرٌ على الآخرين، وقال: إنهما مزرعتان دائمتان أبَدِيَّتان لن تبيدا أبداً، وأنا أغنى الناس وأسعدهم بهما، وهما كل شيء، وليس هناك بعث ولا آخرة ولا جنة غير هاتين الجنتين.
ولاحظ صاحبه المؤمن الفقير الصابر غرورَه وبطرَه، فذكّره بالله ، ودعاه إلى الإيمان بالله وشكره، والاعتماد عليه وليس على مزرعتيه، ودعاه إلى أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، وحذَّروه مِن عاصفة أو صاعقة تأتي عليهما وتحرقهما.
ولكن الكافرَ المغرور أسكرته نشوة التملُّك، فرفض كلام وتحذير وتوجيه صاحبه المؤمن، وزاد اعتزازه بمزرعتيه واعتماده عليهما، وحصل ما حذَّره منه صاحبه المؤمن، فأرسل الله على مزرعتيه صاعقة، فاحرقتهما!! أحرقت العنب والنخل والزرع، وقضت على الشجر والزرع والثمر، ولم يبقَ مِن المزرعتين شيء، كل هذا جرى في ساعة من ساعات الليل.
وفي الصباح ذهب المغرور إلى جنتيه كعادته، فإذا بهما فانيتان بائدتان، فأسقط في يديه، وشعر بالندم وأيقن بالخسارة، التي أتت على كل ما يملك، وتمنى لو استجاب لنصح صاحبه المؤمن، ولكن متى؟ بعد فوات الأوان!
وعلّق القرآن على هذه القصة، فقال في الآية الأخيرة: (هنالك الوَلايَةُ للهِ الحَقِّ، هو خيرٌ ثواباً، وخيرٌ عُقْباً).
ترى كم تتكرر قصة صاحب الجنتين في أيامنا هذه، في مجالاتها وصورها المختلفة؟.




فوائد في قصة صاحب الجنتين
قال تعالى : ( واضرِبْ لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتينِ من أعنابٍ وحففناهما بنخلٍ وجعلنا بينهما زرعاً ـ 32 ، كِلتا الجنتينِ آتتْ أكُلَها ولم تظلم مِّنهُ شيئاً وفجَّرنا خلالهما نَهَراً ـ 33 ) سورة الكهف .


1ـ الاعتبار والاتعاظ بحال من أنعم الله عليه نعما دنيوية ، فألهته عن آخرته وأطغته وعصى الله فيها . السعدي

2ـ ليس في معرفة أعيان الرجلين وزمانهما ومكانهما فائدة أو نتيجة ، والتعرض لذلك من التكلف ، وإنما الفائدة تحصل من قصتهما فقط . السعدي

3ـ أن بساتين الدنيا يتنعم بها من يدخلها ويرى خضرتها ، وتفرح ناظرها ، لما فيها من النعيم واللذة ، وفي جنتي هذا الرجل أفضل الأشجار وهي النخيل والأعناب . ابن جبرين


( وكانَ لهُ ثمرٌ فقالَ لصاحبِهِ وهو يُحاورُهُ أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نفَراً ـ 34 ).


1ـ اغترار هذا الرجل وافتخاره بكثرة ماله وعشيرته وقبيلته ، أي بالغنى والحسب ، يقوله افتخارا لا تحدثا بنعمة الله عليه بدليل العقوبة التي حصلت له . ابن عثيمين

2ـ أن المال والولد لا ينفعان إن لم يعينا على طاعة الله ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا ) . السعدي

3ـ ينبغي للعبد إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده أن يضيف النعمة إلى مسديها ؛ ليكون شاكرا لله متسببا لبقاء نعمته عليه . السعدي

4ـ الافتخار الذي لم يُعترف بفضل الله فيه ولم يشكر الله عليه يحبط الأعمال . ابن عثيمين

5ـ أن الله ينعم على عباده ليبتليهم ؛ هل يشكرون أم يكفرون ؟! . ابن جبرين


( ودخلَ جنتَهُ وهوَ ظالِمٌ لنفسِهِ قالَ ما أظنُّ أن تبيدَ هذهِ أبداً ـ 35 ، وما أظنُّ الساعةَ قائمةً ولئِن رُدِدتُّ إلى ربي لأجدنَّ خيراً منها مُنقلباً ـ 36 ) .


1ـ اطمئنان الرجل إلى الدنيا ورضاه بها وإعجابه بجنتيه حتى نسي أن الدنيا لا تبقى لأحد . ابن عثيمين

2ـ إنكاره للبعث . ابن عثيمين

3ـ قياسه الفاسد حيث ظن أن الله لما أنعم عليه في الدنيا فلابد أن ينعم عليه في الآخرة ! , ولا تلازم بين هذا وذاك ، بل إن الكفار ينعّمون في الدنيا وتُعجَّل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ولكنهم في الآخرة يُعذَّبون ! . ابن عثيمين

4ـ تمرده وعناده ؛ لقوله ( ولئن رددت إلى ربي ) قاله على وجه التهكم والاستهزاء ! . السعدي

5ـ الغالب أن الله يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه ، ويوسِّعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة من نصيب . السعدي

6ـ حقارة هذه الدنيا من أولها إلى آخرها ، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا من يحب ! . ابن جبرين

7ـ نسيان الرجل قدرة ربه الذي أعطاه ومكّنه ، بأن يسلبه ما آتاه ! . ابن جبرين


( قالَ لهُ صاحبُهُ وهوَ يُحاورُهُ أكفرتَ بالذي خلقكَ من ترابٍ ثُمَّ سوَّاكَ رجُلاً ـ 37 ، لكنَّا هو اللهُ ربي ولا أشرِكُ بربي أحداً ـ 38 ) .


1ـ نصح صاحبه المؤمن له وتذكيره بنعم الله عليه ، وكيف خلقه ونقله من طور إلى طور ، ويسر له الأسباب ، فكيف يليق بك أن تكفر بالله ؟! . السعدي

2ـ أن منكر البعث كافر . ابن عثيمين

3ـ اعتزاز المؤمن بإيمانه بالله واعترافه به وبفضله عليه ، وإقراره بربوبية ربه ، والتزام طاعته وعدم الإشراك به . السعدي

4ـ أن في تذكر الإنسان مبدأ أمره وخلقه موعظة عظيمة وذكرى . ابن جبرين

5ـ في قول المؤمن (هو الله ربي) دليل على أن صاحب الجنتين قد أشرك . ابن جبرين


( ولولا إذ دخلتَ جنتكَ قلتَ ما شاءَ اللهُ لا قوةَ إلا باللهِ إنْ تَرَنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولداً ـ 39 ) .


1ـ أن نعمة الله على الإنسان بالإيمان والإسلام ولو مع قلة المال والولد هي النعمة الحقيقية ، وما عداها معرض للزوال والعقوبة . السعدي

2ـ ينبغي للإنسان إذا أعجبه شيء أن يقول (ماشاء الله لا قوة إلا بالله ) حتى يفوض الأمر إلى الله لا إلى حوله وقوته . ابن عثيمين

3ـ من اعترف بفضل الله عليه ، فإنه يبارك الله له فيما أعطاه ، وأما من أشِر وبطر ، فلا يبارك الله له فيما آتاه ولا ينتفع به . ابن جبرين

4ـ أن ما عند الله خير وأبقى ، وما يُرجى من خيره وإحسانه أفضل من جميع الدنيا التي يتنافس فيها المتنافسون . السعدي


( فعسى ربي أن يُؤتِيَني خيراً من جنتِكَ ويُرِسلَ عليها حُسباناً من السماءِ فتصبحَ صعيداً زَلَقاً ـ 40 ، أو يصبحَ ماؤُها غوراً فلن تستطيعَ لهُ طلَباً ـ 41 ) .


1ـ الارشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها بما عند الله من الخير . السعدي

2ـ الدعاء بتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه ، خصوصا إن فضّل نفسه بسبب ماله على المؤمنين وفخر عليهم . السعدي

3ـ أن دعاء المؤمن على جنتيّ الكافر كان غضبا لله ؛ لكونها غرته وأطغته ، لعله ينيب ويراجع رشده ويبصر في أمره . السعدي

4ـ لا حرج على الإنسان أن يدعو على ظالمه بمثل ما ظلمه . ابن عثيمين

5ـ في قوله (حسبانا من السماء) خص السماء لأن ما جاء من الأرض قد يدافع ، لكن ما نزل من السماء يصعب دفعه ويتعذر ! . ابن عثيمين

6ـ قوله (خيرا من جنتك) أي أفضل منها وهي جنة الآخرة ، وجنة الدنيا هي الفرح بفضل الله والالتذاذ بطاعته ، والاغتباط بالأعمال الصالحة ، والأنس بذكر الله وشكره ، فهذا خير من متاع الدنيا متاع الغرور . ابن جبرين


( وأحيطَ بثمرِهِ فأصبحَ يُقلِّبُ كفَّيهِ على ما أنفقَ فيها وهيَ خاويةٌ على عروشِها ويقولُ ياليتني لم أشرِكْ بربي أحداً ـ 42 ، ولم تكُن لهُ فِئَةٌ يَنصرونَهُ مِن دونِ اللهِ وما كان منتَصِراً ـ 43 ) .


1ـ استجابة الله لدعاء من دعاه . السعدي

2ـ كان مآل الجنتين الانقطاع والاضمحلال ، وكأنه لم يتمتع بها ! . السعدي

3ـ الندم بعد فوات الأوان لا ينفع ، إنما ينتفع من سمع القصة واعتبر بها . ابن عثيمين

4ـ أن ما افتخر به لم يدفع عنه من العذاب شيئا . السعدي

5ـ لا يستبعد من رحمة الله ولطفه أن صاحب الجنتين تحسنت حاله ، ورزقه الله الإنابة إليه ، بدليل ندمه على شركه بربه . السعدي

6ـ أن سبب عقوبته لأنه أشرك بالله ، ونسب نعمة الله إلى غيره ، وفضل الله إلى نفسه وقوته وحيلته ، وتناسى عطاء الله له . ابن جبرين


( هُنالِكَ الوَلايةُ للهِ الحقِ هو خيرٌ ثواباً وخيرٌ عُقباً ـ 44 ) .

1ـ أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحقَّ الجزاء ، ووجد العاملون أجرهم . السعدي

2ـ من كان مؤمنا بالله تقيا كان له وليا وأكرمه بأنواع الكرامات ، ودفع عنه الشرور والمَثُلات ، ومن لم يؤمن بربه ويتولاه خسر دينه ودنياه ! . السعدي

4ـ أن في يوم القيامة لا نُصرة ولا مُلك إلا لله الحق ، وأن جميع من دونه لا يفيد صاحبه شيئا . ابن عثيمين

5ـ أن من خذله الله فليس له ولي ، ولا ناصر ينصره من عذاب الله ، ومن أمِن بأس الله فإنه ضال مضِل . ابن جبرين










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-16, 08:42   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
تاييد
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية تاييد
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


موضوع يستحق التميز
جزاك الله خيرا أختي همسات ايمانية وبارك فيك










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-16, 16:44   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي


قصة السامري والعجل ,,,, من قصة سيدنا موسى مع قومه لمحمد صالح المنجد

لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه، وموسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وهو ثالث أفضل رسول في البشرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، كان كل نبي يعيش مع قومه حتى يهلكهم الله وينجو بمن ينجو من أهل الاتباع والإسلام، لكن موسى عليه السلام عاش حياتين؛ عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، ومات موسى وبني إسرائيل في التيه.

إغراق فرعون وجنده
لقد عانا موسى عليه السلام معاناة شديدة جداً، وصبر وكان ذا شخصية عظيمة، وجاهد في سبيل الله وقدم أشياء كثيرة، وهيأه الله سبحانه وتعالى واصطنعه لأجل القيام بهذا الدور العظيم في جهاد فرعون وقومه ثم في قيادة بني إسرائيل، وجاهد موسى عليه السلام وقال كلمة الحق عند الملك الظالم الذي ادعى الربوبية والألوهية، وخلص ببني إسرائيل إلى البحر وأتبعه فرعون بجنوده، فلما نظر بنو إسرائيل وراءهم فرعون وجنوده، قال أصحاب موسى: إنا لمدركون لا محالة، وسيقضى علينا، ولكن موسى عليه السلام قال: كلا. لا يمكن أن يحصل ذلك ولو كانوا وراءنا بمسافة بسيطة: قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] وأوحى الله إلى موسى فضرب بعصاه البحر فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، كان جبلاً كبيراً عن اليمين والشمال وفي الوسط درب أيبسه الله؛ لأن قاع البحر طين لكن الله أيبسه، وأمره أن يسلك في البحر يبساً لا يخاف دركاً ولا يخشى، ودخل موسى ومن معه في هذا الطريق، وعبروا إلى الجانب الآخر، ولما وصل فرعون وجنوده إلى المكان فوجئوا بهذه القضية، فضرب فرعون فرسه ومشى وتشجع وأظهر الجلد، ومشى في ذلك الطريق، ولما استكمل دخول فرعون وجنوده في هذا الدرب أطبق الله عليهم البحر، فعاد كما كان فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ فصار الماء فوقهم بمسافة، فأعلاهم وأغرقهم وقضى الله على ذلك الطاغية وجنوده جميعاً.

عبر موسى البحر ومعه بنو إسرائيل الذين نجاهم الله وامتن عليهم بأن نجاهم من فرعون وجنوده.

السامري وتشكيله للعجل وافتتان بني إسرائيل به
ثم إن الله سبحانه وتعالى واعد موسى عليه السلام، كما قال سبحانه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه:80] لما نجاهم من عدوهم فرعون وأقر أعينهم منه، واعد الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام وبني إسرائيل على جانب الطود الأيمن عند الجانب الأيمن من الطور، ولكن موسى عليه السلام استبق قومه للقاء الله سبحانه وتعالى، وسأله ربه عم أعجله؟ فقال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] لتزداد عني رضاً، ولما سأله ربه: لماذا سبق قومه؟ قال: هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي [طـه:84] قادمون سينزلون قريباًً من الطور، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أنه قد فتن قومه بعبادة العجل في أثناء غيابه، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148] كان بنو إسرائيل قد استعاروا من القبط -وهم سكان مصر الفرعونيين- استعاروا منهم حلياً ولما هرب بنو إسرائيل أخذوا معهم الحلي؛ لأن هذه أموال محاربين فهي جائزة للمسلمين أخذوها معهم وعبروا بها، وكان هناك رجل، قيل: إنه ليس من قوم موسى ولكنه من طائفة تعبد البقر، يقال له: السامري دخل معهم، ولما ألقى بنو إسرائيل هذا الذهب في الحفرة تحرجاً منه، وقالوا: كيف نأخذه معنا وهي أموال مسروقة، لما وضعوها في الحفرة كان السامري قد رأى أثر فرس جبريل فأخذ منه قبضة من وطأة الفرس على التراب، فألقاها في الحفرة التي فيها الذهب؛ فشكل لهم منه عجلاً من الحلي، ثم ألقى هذه القبضة من التراب من أثر فرس جبريل، فصار العجل له صوت -وهو الخوار: صوت البقر- قال الله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148] فوبخهم ربهم، قال: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148].

وأخبر الله سبحانه وتعالى موسى أنه قد فتن من بعده وأضلهم السامري ، قال بعض المفسرين: إن هذا العجل من لحم ودم، وقال بعضهم: إنه لم يزل على طبيعته الذهبية إلا أنه يدخل فيه الهواء ويخرج؛ فيكون له صوت كصوت البقر فافتتنوا به أيما افتتان، وقالوا لبعضهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] وبخهم الله على ذلك (وحبك الشيء يعمي ويصم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود ، لما افتتنوا به أحبوه وتغلغل فيهم، فلم يكونوا على استعداد لتركه.

عتاب موسى لهارون عليه السلام
اختصرت القصة في سورة الأعراف، فقال الله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:149] فاعترفوا بالذنب بعدما تبين لهم وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً [الأعراف:150]، والأسف: هو أشد الغضب، قال موبخاً لهم: بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [الأعراف:150] بئسما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن تركتكم: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150] استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله سبحانه وتعالى، وألقى الألواح التي أعطاه الله إياها وأنزلها في جبل الطور.. أعطاه الله التوراة مكتوبة في الألواح، فلما رأى موسى ما حلَّ بقومه ألقى الألواح غضباً على قومه وليس إهانة للألواح، وهذا قول الجمهور من أهل العلم وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150] لأنه كان قد استخلفه على قومه خوفاً من أن يكون قد قصر في أمرهم ونهيهم، ولكن أخاه توسل إليه قائلاً: قَالَ ابْنَ أُمَّ [الأعراف:150] يا بن أم! أنا وإياك من بطن واحد: لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] ولا تشدني شداً إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الأعراف:150] أنا لست قوياً مثلك، فالقوم استضعفوني وما أعاروني اهتماماً ولا سمعوا كلامي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف:150] وصل الأمر بهم إلى مقاربة قتل هارون، وبنو إسرائيل معروفون بقتل الأنبياء، فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ [الأعراف:150] توبخني أمام الناس وتجرني أمامهم، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150] تخلفني معهم وتسوقني مساقهم، وقال له: ابن أمَّ لتكون أرأف وأنجع عنده، مع أنه شقيقه من أبيه وأمه، لكن عندما ناداه بالأمومة لأجل أن يكون هناك عاطفة -يستجر العاطفة من موسى عليه السلام- وقد ذكر ابن كثير رحمه الله هذه النقطة في كتابه العظيم البداية والنهاية وفي التفسير، قال: ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هنا أرق وأبلغ -أي: في الحلول والعقل- لما تحقق موسى عليه السلام من براءة ساحة هارون، وأخبره هارون بما صنع في غيابه من مجاهدة هؤلاء القوم، قال موسى عليه السلام: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]، ثم قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:152-154] وابتدأ في السير مع بني إسرائيل من جديد، والصحيح أن الألواح لم تتكسر إنما مجرد الإلقاء، ثم جمعها موسى مرة أخرى وأخذها ليقود بني إسرائيل بمقتضاها.

وجاءت هذه القصة -أيضاً- في سورة طه بتفصيل أوسع، فقال الله سبحانه وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [طه:80-81]، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً [طه:83-86] أي: حزيناً شديد الغضب على ما صنع قومه من بعده، وخبر الله لموسى صدق أنه قد يُفتن القوم في غيابه فرجع إليهم، فقال لهم: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه:86] أنجاكم من عدوكم وأنعم عليكم وأكرمكم، أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ [طه:86] في انتظار ما وعدكم الله أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ [طه:86] "أم" هنا بمعنى: بل، أي: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [طه:86] لما وبخهم على عبادة العجل، فإنهم اعتذروا بعذر فارغ سخيف غير مقبول على الإطلاق، وهو قولهم: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا [طه:87] ملكنا، أي: قدرتنا واستطاعتنا واختيارنا، كأنهم مكرهين على ذلك ليس لهم إرادة، وأخبروه أن المسألة تورع منهم عن الذهب الذي كانوا قد أخذوه من الفرعونيين وحلي الفضة التي استعاروها منهم عند خروجهم من مصر ، فقذفناها وألقيناها عنا، فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [طه:87-88] صنعه لهم، فَقَالُوا الضلال منهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] فنسي، قيل: فيها ثلاثة أقوال:

الأول: أن موسى نسي ربه هاهنا، وذهب يطلبه عند الجبل، والعياذ بالله.

الثاني: نسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم.

الثالث: أن الذي نسي هو السامري أي: ترك ما كان عليه من الإسلام ورجع إلى ما كان عليه قومه من عبادة البقر.

السامري الذي صنع لهم العجل وفتنهم به لا تزال طريقته موجودة إلى الآن، وهناك طائفة من اليهود عباد العجل يعلقون في رقابهم بقرة صغيرة، يمكن أن يراهم الشخص وهم يعلقون في رقابهم سلسلة فيها عجل أو بقرة صغيرة، وقيل: إنهم لازالوا يقولون عبارة: لا مساس، ويرددونها في ترانيمهم أو أذكارهم التي يزعمون أنهم يعودون بها، قال الله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه:89] هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يرد عليهم إذا خاطبوه، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً في دنياهم ولا في أخراهم، فحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة الكفر، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير مع أنه جائز لهم؛ لأن هذه من أموال المحاربين أخذوها منهم، وقد أثبت الله تعالى أن هارون في غيبة موسى كان حريصاً عليهم، وأنه كان مقاوماً للشرك فيهم، ولذلك قال الله عز وجل: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ [طه:90] البيان لم يحصل من موسى فقط بل حصل من قبل من هارون، فقال: هذه فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن وليس هذا العجل، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي [طه:90] فيما آمركم به وأنهاكم، وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طـه:90] ولكن هؤلاء الشرذمة أصروا على عبادة العجل، وقالوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ [طه:91] وكانوا هم الأغلبية، ثبت مع هارون أناس لكن ما استطاعوا أمام هذا الطوفان من الأشخاص الذين يريدون عبادة العجل أن يغلبوهم، بل إن الطائفة الأخرى هي التي غلبت حتى كادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91] نحن نسمع كلام موسى فقط، كلامك عندنا غير مقبول ولا نأخذ به، وسنبقى على عبادة العجل حتى نرى موسى ماذا يقول، وحاربوا هارون وكادوا أن يقتلوه.

توجه موسى عليه السلام إلى أخيه هارون بالخطاب: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:92-93] وأخذ برأس أخيه يجره إليه كما حصل وتقدم في سورة الأعراف، وشرع يلوم أخاه هارون: لماذا لم تخبرني بهذا الأمر أول ما حصل؟ لماذا لم تتبع آثاري وتأتي إلي وتخبرني بما حصل؟ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:93]؛ لأن موسى قال لأخيه: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] هذه وصيته لأخيه هارون قبل أن يفارقه، قال: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، فلما عاتبه قال: أفعصيت أمري الذي كنت أمرتك به؟ قال: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] كانت لحية هارون وافرة، وهذا رد على الذين يحلقون اللحى، ويقولون: حلق اللحية من سنن المرسلين، وهارون كانت لحيته وافرة، ولذلك استطاع موسى أن يأخذه منها وأن يقبض عليها لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] وأنها أقل ما فيها أنها قبضة يمكن أن تقبض.

قال هارون مجيباً عن السبب: لماذا لم يتركهم ويلحق بموسى، ويقول: حصل كذا وكذا الحق بالقوم؟ قال هارون: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ [طه:94] إذا لحقت بك لأخبرك عما حصل، كنت أخشى أن تقول لي: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] أخشى إن تبعتك لأخبرك أن تقول لي: لماذا تركتهم وحدهم وجئتني وفرقت بينهم ولم ترقب قولي؛ لأني استخلفتك والخليفة يبقى مع المستخلف عليهم؟ وكان هارون مهيباً يهاب موسى ويطيعه، وموسى هو صاحب المنة على أخيه؛ لأنه هو السبب في جعله نبياً، موسى هو الذي قال لربه عز وجل وطلب منه، فقال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29-32] اجعله نبياً مثلي، ما قال موسى: أنا النبي الوحيد في العائلة، لا. وإنما طلب من الله أن يكون هارون معه نبياً، ولذلك قال العلماء: لا يعرف أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون، فالله استجاب دعاءه، وجعل هارون نبياً بدعاء موسى، وصار ينزل عليه الوحي مثل موسى، لكن موسى بالمنزلة الأعلى.

النقاش الذي دار بين موسى والسامري
قال موسى وهو ملتفت إلى السامري : فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ [طه:95] انتقل الحساب إلى السامري، كان موسى ينتقد بسرعة وبحزم للقضاء على هذه الفتنة، قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ [طه:95] ما حملك على ما صنعت؟ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ [طه:96] رأيت شيئاً لم يره القوم، رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرسه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه:96] من أثر الفرس، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم كما يقول ابن كثير رحمه الله: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه:96] من تحت حافر فرس جبريل، والقبضة ملء الكف، فأخذتها وخبأتها عندي، والشيطان يسول للسامري ويخطط له ويلهمه الأشياء، وألقى الشيطان في روع السامري أنك إذا ألقيت القبضة على هذا الحلي بعدما تصنعه عجلاً سيكون له صوت ويفتن به القوم، فألقى هذه القبضة عليه، وكان عجلاً له خوار، قال: فَنَبَذْتُهَا [طـه:96] أي: ألقيتها؛ لأن بني إسرائيل جمعوا الحلي وجعلوا يلقونه في الحفرة، فجاء هذا وألقى معهم، وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طـه:96] أي: حسنت نفسي هذا الشيء وأعجبها، قال موسى للسامري: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طه:97] كما أخذت ومسست ما لم يكن أخذته من أثر الرسول لتفتن به الخلق، فعقوبتك من جنس عملك أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طـه:97] لا تمس الناس ولا يمسونك فتكون مقبوحاً منبوذاً طريداً، لا أحد يريدك ولا تستطيع أنت أن تقترب من أحد وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً يوم القيامة لَنْ تُخْلَفَهُ ولن تغيب عنه وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ ومعهودك هذا الذي فتنت به الناس الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ومقيماً على عبادته لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [طه:97] حرقه في النار إذا كان من لحم ودم، أو برده بالمبارد إذا كان من ذهب حتى صار ذرات، ثم أذرى الرماد هذا أو الذرات في هواء في البحر ليفرقه الهواء في ماء البحر فيتلاشى تماماً ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [طه:97]، ثم قال موسى عليه السلام لقومه: إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه:98].

وقد جاء تفصيل لهذه القصة في حديث الفتون الذي رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، لكن الراجح أن هذا الحديث من الإسرائيليات، فلذلك نبقى على ما جاء في الكتاب العزيز.

عقوبة عبدة العجل
هذه عقوبة السامري، فما هي عقوبة الذين عبدوا العجل؟ وما هي عقوبة الذين سكتوا؟ وما هي عقوبة الذين لم ينكروا المنكر؟

قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51] لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف:142] بعد خلاصهم من قوم فرعون ونجاتهم من البحر، أنزل الله عليه التوراة، وهذا -أيضاً- بعد خروجهم من البحر، واتخذوا العجل، فماذا قال موسى لقومه عن قضية توبتهم من عبادة العجل؟ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] هذه هي الطريقة الوحيدة للتوبة من عبادة العجل، حين وقع في قلوبهم عبادة العجل والشرك والكفر بالله يقولون: الله هو هذا العجل، ما أسفه عقولهم!

قال تعالى: فلمَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا [الأعراف:149] فعند ذلك قال موسى: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة:54] الذي خلقكم؛ لعظم جرمكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54] لا بد أن تقتلوا أنفسكم، لا بد أن يقتل بعضكم بعضاً، وفي هذا وردت عدة آثار عن السلف رحمهم الله تعالى، فمما ورد عن ابن عباس قال: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كلما لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن.

وكذلك جاء أنهم أخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلة شديدة، أي: أظلم الجو في ظلة أرسلها الله حتى لا يرى بعضهم البعض عند القتل، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلة عن سبعين ألف قتيل، وتاب الله على القاتل والمقتول؛ لأن القتل كان هو التوبة، كل شخص يرفع السيف على الآخرين ويقتل من يلقى، بهذه الظلة أو بهذه الظلمة لم يعد أحد يرى من أمامه فيقتل من يلقاه من ولد ووالد وقريب وصاحب، لا يدري من أمامه فيقتله، فجعل بعضهم يقتل بعضاً، وربما قتل الولد أباه، وربما قتل الأب ولده أو عمه وخاله.. وهكذا.

وقال بعض السلف: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى أوقف الله ذلك بأمر منه، فانكشف عن سبعين ألف قتيل.

وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فأمسك عنهم القتل فجعله لحيهم توبة، ولمقتولهم شهادة.

وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة الحندس؛ أي: الحديدة، فقتل بعضهم بعضاً، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك.

وجاء -أيضاً- في كلام بعض السلف: كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. فقال الله سبحانه وتعالى: فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54].

أصاب موسى الحزن على قومه، لكن الله عز وجل أخبره أنه تاب عليهم، وأن المقتول شهيد، والباقي تاب الله عليهم.

فانتقلوا بعد ذلك إلى المرحلة التي تليها في قصة موسى مع بني إسرائيل.

هذه خلاصة قصة العجل، وكيف انتهت هذه النهاية المأساوية التي كان يجب عليهم للتوبة أن يقتل بعضهم بعضاً، حتى كاد بعضهم أن يفني بعضاً.

من قصة السامري
وعند هذه القصة العظيمة التي أخبرنا الله عز وجل عنها لنا وقفات نقفها، ودروس نأخذها:

أثر الاستعباد على النفوس
هؤلاء القوم -بنو إسرائيل- ألفوا الاستعباد الطويل.. استعبدهم فرعون سنين طويلة جداً، ومع هذا الاستعباد والذل الطويل في ظل الفرعونية الطويلة فسدت طبيعة القوم وهذا شيء متوقع، وصار في كيانهم النفسي خلخلة، والاستعداد للانقياد لكل ناعق، فما كاد موسى يترك قومه ويبتعد عنهم قليلاً حتى تخلخلت عقيدتهم، وانهارت أمام أول اختبار، إنهم لما عبروا البحر وجدوا أناساً عاكفين على أصنامٍ لهم: قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] الآن أنجاكم الله قبل قليل.. الآن النعمة عليكم واضحة جداً، تقولون: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة! ما رأيتم بأعينكم صنيع الله وفضله عليكم حتى تطلبوا أن يجعل لكم آلهة، فما أعجب التواء تلك النفوس! فما من عجب أن الله يضرب عليهم الذل والضعف، وأن يغلبهم الناس ويقهروهم ويستحقرونهم إلى قيام الساعة إلا فترات يسيرة جداً في التاريخ، منها: الفترة التي نعيشها الآن التي بلغت الذروة في تسلط اليهود، وإلا فاليهود على مر التاريخ محقورين منبوذين حتى إذا أراد الواحد أن يسب واحداً قال: يا يهودي.

فطبيعة بني إسرائيل ما كانت تستقيم وإنما تلتوي دائماً، وما كان موسى عليه السلام ينتهي من محنة معهم إلا ويدخل في محنة جديدة، ولذلك عندما نعدد الانحرافات التي أصابتهم: اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] وعبدوا العجل، قالوا: المن والسلوى لا نريده، نريد بصلاً وثوماً وقثاء، حتى في الأكل مزاجهم منحرف، شخص يترك المن والسلوى ويقول: أعطنا ثوماً وبصلاً وقثاء -كراث-؟! ثم بعد ذلك يقولون: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] وبعد ذلك قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة، فقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].. إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا [المائدة:22] ثم ما أشد وقاحتهم حينما قالوا: لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] نحن ننتظر الفتح إذا فتحتوها ادعونا لدخولها.

وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم، يرون الآيات تلو الأخرى وليست هناك فائدة، وفي النهاية لما امتنعوا عن دخول القرية، حكم الله سبحانه وتعالى عليهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة يخرجون من الصباح للبحث عن منفذ ولا يأتي عليهم المغرب إلا ويجدون أنفسهم في نفس المكان الذي ذهبوا منه في الصباح، ومات موسى وفي نفسه أشياء على بني إسرائيل، مات موسى وبنو إسرائيل في التيه مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة:26] وسأل موسى ربه أن يدفن في الأرض المقدسة، فجعله الله يقبض هناك ويموت في الأرض التي كان يتمنى أن يدخلها مع بني إسرائيل.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو شئتم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر) في داخل أرض فلسطين.

ومن هذه القصة نأخذ عدداً من الفوائد:

منها: هذه الطبيعة الملتوية لبني إسرائيل.

ومنها: كيف أن هذا النبي الكريم صابر وجاهد بهذه النفوس الملتوية، وأراهم الله آيات ومعجزات على يديه ومع ذلك ما استجابوا ولا انقادوا، كان فيهم صلحاءً كان فيهم قوم مستقيمون كان فيهم أناس رفضوا عبادة العجل مع هارون لكن ليس هم الأكثرية وإنما هم الأقلية، وحتى الصفوة الذين أخذهم لميقات لقاء الله قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153] طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى.

من الدروس التي نأخذها من هذه القصة العظيمة: أن الاستعباد يخرب النفوس، ويجعلها تنقاد بسهولة لأي مخرف وناعق، والاستعباد من أشنع الأشياء.. استعباد الشعوب وتربية الناس تربية العبيد، ولا شك أن هذا النوع من التربية يجعل الناس أذلاء صاغرين خائفين، يمكن أن يضحك عليهم أي إنسان ويقودهم، ولذلك ترى الناس أحياناً رعاع همج إلا من رحم الله، يتبعون كل ناعق، لو جاء أحد فنعق بهم يميناً أو شمالاً ذهبوا معه، هذه نتيجة تربية الناس تربية العبيد وليس تربية الأحرار، هذه نتيجة الإذلال والكبت والضغط، ونتيجة التخويف، والتجويع؛ وهذه الأشياء يمارسها الطواغيت مع الناس لتركيعهم وإذلالهم، فإذا فقه دعاة الله بهذه النقطة عرفوا كيف يربون الناس تربية القادة وتربية الأحرار لا تربية العبيد، كان ذلك من أسباب نقلهم من عالم الضلال إلى عالم الهدى، ومن عالم الكفر إلى عالم الإيمان، ومن عالم الذل إلى عالم الحرية، ولذلك لما ذهب ربعي يخاطب رستم: [إن الله ابتعث هذا النبي لينقذنا به من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام] .

كيف واجه موسى قومه بعد اتخاذهم العجل
ومن الفوائد -أيضاً- المهمة في هذه القصة: كيف واجه موسى عليه السلام هذا الموقف العظيم؟

أولاً: غضب لله عز وجل، وبلغ من غضبه أنه لم يتمالك نفسه، فألقى الألواح، ولو ألقى أحد الألواح إهانةً كفر، أما موسى فقد ألقاها غضباً لله، لم يتمالك نفسه عندما رأى ما حصل، وذهب يقرع قومه ويوبخهم: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150] لماذا فعلتم هذا؟ ألا ترون أنه لا يكلمكم؟ ونزل توبيخاً في قومه، وهم يستحقون هذا التوبيخ بما فعلوا هذا الظلم، ثم إنه حاصر مصدر الفتنة مباشرة واتجه إلى السامري ليحقق معه، ثم إنه أخذ مصدر الفتنة وهو العجل، وحرقه ونسفه في اليم نسفاً؛ بحيث لا يعود أبداً كما كان، فكان تعامل موسى مع القضية تعاملاً عجيباً فيه حزم، وسرعة التحقيق مع قومه، ثم التحقيق مع السامري، ثم محاصرة السامري وجعله بمعزل عن الناس، هذا مبتدع هذا رأس بدعة أضل الناس ولا بد من جعله بمعزل عن الناس.. وهكذا لا بد أن يعامل المبتدع؛ يعزل ولا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، ولذلك قال بعض المبتدعة لـأيوب رحمه الله: أريد أن أكلمك كلمة، قال: ولا نصف كلمة. يرفضون سماع البدع، الذين شقوا عصا طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين ابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به.

وينبغي على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى إذا رأوا مبتدعاً من مثل الصوفية أو غيرهم أن يحاصروهم، ولا يجعلوا له مجالاً ليتنفس ولا لينفث سمومه في الناس، وهذا الشيء لا بد منه، وينبغي أن يدقق جيداً في هذه المسألة حتى لا تستغل من أعداء الإسلام فيرمون العلماء والصالحين بالبدع؛ لأن هذا سلاح ذو حدين، يمكن أن يستخدمه أعداء الله في رمي أهل الصلاح بالبدعة حتى ينفر عنهم الناس، ولذلك ينبغي أن يعرف من هو المبتدع؟ وما هي البدعة؟ وما هي أنواعها؟ والفرق بين البدعة المكفرة وغير المكفرة، والفرق بين المسائل الاجتهادية وما يجوز الاجتهاد فيه، وما لا يقبل فيه الكلام بين المسائل الخلافية الاجتهادية المقبولة والخلافية التي ليس فيها الاجتهاد مقبولاً، لا بد من الوعي بجميع هذه الأشياء حتى يعرف من هو المبتدع؟ فقد يكون الذي يرمي الناس بالبدعة هو المبتدع.

وكذلك فإنه لا بد من عزل المسلمين عن أسباب الفتنة، كل شيء يثير فتنة بين المسلمين يعزل ويحاصر ويحذر منه، مصدر الفتنة في الدين، وكذلك لا يجوز تسمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة بين الناس؛ لأن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن قال عن آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر: إنه يفتن أو يبذر بذور الفتنة فهو المفتون، والآمر والناهي بمنزلة عند الله، (ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) هذا أعظم الناس منزلة عند رب العالمين (أعظم الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) .

اتباع أصحاب الخوارق والفرق بين الكرامة والخارقة
كذلك من الدروس العظيمة: أنه ليس أي شخص أتى بأي خارقة من الخوارق اتبعناه لأنه خرق لنا العادة وأرانا شيئاً عجيباً ما رأينا مثله.

من قواعد أهل السنة والجماعة في الفرق بين الكرامة والخارقة التي تكون للمشوعذ والساحر، وهي من الفروق الهامة بل هي أهم الفروق، لو قال لك أحد: كيف تفرق بين الساحر الذي يطير في الهواء ويمشي على الماء وبين عباد الله الصالحين الذين ربما مشى أحدهم على الماء، أو الغلام في قصة أصحاب الأخدود لما أرسله الملك مع جنوده إلى عرض البحر في سفينة في قارب، قالوا: إن رجع إلى دينه وإلا فألقوه، فدعا الغلام ربه وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلبت السفينة فغرقوا كلهم إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك.. أين مشى الغلام؟ على الماء، لم يغرق، جاء إلى الملك يمشي.. إذاً كيف نفرق بين شخص أعطاه الله كرامة بأن يمشي على الماء، وبين ساحر مشعوذ يسير على الماء أو يطير على الهواء؟

الفرق في حال الشخص؛ لا بد أن نبحث في حال الشخص، لو أخذ رجل كفاً من حصى فقبض يده عليها ثم فتحها فإذا بالحصى تتحول إلى ذهب، كيف نعرف هل هذا تقي وهذه كرامة أعطاه الله إياها فقلب الحصى في يده ذهباً، أو أنه مشعوذ دجال، الجن أو الشياطين هم الذين اشتركوا معه في هذه الفتنة، وجعلوا مكان الحصى ذهباً، أو أنهم سحروا أعين الناس فأصبحوا يرون الحصى ذهباً؟

الفرق في حال الشخص، فإذا كان الإنسان على منهج السلف، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة يقوم بأمر الله، طائع لله قائم بالواجبات مبتعد عن المحرمات، ملتزم بالدين، لا يقول: أنا ولي!

الحذر من شخصيات كشخصيات السامري
وكذلك من الدروس المهمة في هذه القصة: الحذر من شخصيات كشخصيات السامري التي عندها قدرة على البهرجة بالقول، وخداع الناس، وصنع الأشياء التي تذهب القلوب وتحير الألباب، فهؤلاء الأشخاص لا بد من الحذر منهم، ومن عذوبة منطقهم وحلاوة ألسنتهم، أو دقة صنعتهم، فإن هناك كثيراً من يقوم بدور السامري بين المسلمين.

يجب على الداعية ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاس من يدعو
ومن الدروس المهمة في هذه القصة: أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى يجب ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاساً خطيراً قد حصل في قومه، ولو كان قد مشى معهم فترة طويلة، هب أنك دعوت شخصاً إلى الله، فاستجاب لك وتأثر ومشى معك، وأعطاك القيادة، فجعلت تعلمه وتذهب وتجيء معه، وتذهب من خطبة.. إلى درس.. إلى موعظة.. إلى حلقة علم.. إلى مجتمع، ثم ذهب عنك في إجازة من الإجازات وفوجئت بأنه وقع -مثلاً- في فاحشة والعياذ بالله، فهل يسقط في يدك وتقول: لم تعد هناك فائدة، بعد كل هذا التعب وقع في الفاحشة، أقول: لا أكمل معه المشوار، فنقول: لا. هذا موسى عليه السلام كم جاهد قومه لما وقعوا في الشرك الذي هو أكبر معصية على الإطلاق؟ التوحيد أعظم معروف في الدنيا والشرك أعظم منكر، لم يقل: هؤلاء لا فائدة منهم، أو قال: اللهم خذهم وزلزل بهم الأرض، وأسقط عليهم كسفاً من السماء وأرحنا منهم.. سنوات يجاهد فيهم ثم لا فائدة، يرجعون إلى الشرك بكل سهولة، خذهم أخذ عزيز مقتدر، لا. النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عائشة، قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت) ومن أعظم ما لقي منهم: أنه خرج إلى الطائف يرجو فرجاً من أهل الطائف فطردوه، فهام على وجهه، لم يدرِ أين يسير، قال: (فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب ) موضع قريب من مكة، فأرسل الله إليه ملك الجبال يقول له: (ما تأمرني به أنفذ -الله عز وجل أرسلني إليك أنتظر أمرك- إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أطبق عليهم الجبلين، لأن مكة بين جبلين عظيمين- قال: لا. إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله) فإذاً: الداعية لا ييئس مهما حصل من الانحراف في قومه أو في الشخص الذي يدعوه، هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الداعية، فلا بد من العودة للعلاج والعودة أن نبدأ من البداية فلا بد أن يوطن الداعية نفسه على المفاجآت، وألا ييئس مهما حصل .

التعلق بالمنهج لا بالشخص
كذلك من الدروس: أنه يجب التأكيد على عدم التعلق بشخصية الداعية، وإنما يكون التعلق بمنهج الداعية، لو كان التعلق بشخصية الداعية فيعني أنه متى ما غاب الداعية عن المدعو فإن المدعو ينتكس؛ لأنه متعلق بشخصية الداعية، ينبغي أن نربط الناس بالمنهج لا بالأشخاص.. بالكتاب والسنة لا بزيد وعمرو.. نربط الناس بدين الله سبحانه وتعالى، حتى إذا غاب الداعية بقي المنهج موجوداً حياً في قلب المدعو، فيستمر على المنهج، ويستمر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والالتزام بهذا الدين، وهذه من الدروس البالغة الأهمية، وهذا الأمر قد يخطئ فيه عدد من الدعاة إلى الله عز وجل، يجعلون ارتباط الشخص بشخصيته هو، وأنه ينبغي أن يكون موجوداً دائماً، فلذلك إذا غاب فترة لأي ظرف تغيروا من بعده .

مراعاة أدنى المفسدتين
ومن دروس هذه القصة: مراعاة أدنى المفسدتين، فبقاء هارون في قومه على الشرك الذي حصل معهم مفسدة، وخروجه من عندهم مفسدة أخرى، فالحل أنه يبقى مراعاة للمفسدة الأعظم ودرءاً لها فيبقى، كان بإمكانه أن يتخذ إجراءً حاسماً ويتركهم وشأنهم، ولا يبالي بما حصل، لكنه آثر أن يبقى بناءً على أوامر موسى، وبناءً على مواصلة الدور في الدعوة لعل الله أن يهديهم، يحاول فيهم حتى يرجع موسى، يبقى على الحق الأصلي حتى يرجع موسى، يبقى على توحيد الله عز وجل والدعوة إليه حتى يرجع موسى .

غياب المربي عمن يربيه والداعية عمن يدعو
وفي هذه القصة أيضاً: أنه لا بد للمربي ألا يغيب عمن يربيه، ولا ينبغي للداعية أن يغيب عمن يدعوهم، فإن الغياب في هذه الحالة يؤدي إلى وقوع القوم في الانتكاسات، ومهما حاول ألا يربطهم بشخصه لكن وجوده سيبقى مهماً؛ لأنه هو مصدر الخير والإشعاع بالنسبة لهؤلاء القوم، ولذلك يحرص الداعية والمربي ألا يغيب عمن هو معهم حتى لا يحصل لهم انتكاس وانحدار.

من الدروس المتعلقة بهذه النقطة أيضاً: أنه لا بد أن يكون هناك بدائل، فإذا غاب عنهم لا بد أن يكون وراءه من يقوم بأمرهم، ولذلك موسى استخلف هارون، ومن أبسط الأشياء أن إمام المسجد لو غاب عن المسجد ينبغي أن يستخلف رجلاً ثقة يصلح للإمامة، أما أن يترك المسجد بلا إمام فهذا خطأ، وهذا يفعله بعض الأئمة في رمضان، وهذه من الأخطاء، يتركون مساجدهم ويذهبون عشرة أيام في نصف رمضان، من أول الشهر يصلي كم ليلة ويمشي ولم يضع مكانه ثقة يقوم بهم ويأمهم، فتحدث الفوضى في أوقات إقامة الصلوات، ويتقدم من ليس بأهل، والناس فيهم من قلة الفقه ما يجعل زعزعة الموقف في الصلاة وارد جداً، وربما صلوا ظهراً بدلاً من الجمعة قالوا: تأخر الخطيب، أو ما جاء الخطيب، اجلسوا لا يخطب أحد، فمن أبسط الأشياء: أن الثغرات التي يكون فيها الداعية إلى الله موجوداً لا ينبغي له أن يتركها، ولو تركها لا يطيل الغياب، ولو غاب لا بد أن يستخلف بدلاً منه من يقوم بدوره.

طريقة موسى في عتابه لهارون
ومن دروس هذه القصة أيضاً: طريقة موسى في عتابه لهارون عليه السلام، غضب موسى عليه السلام لكن كان غضبه، ما كان يغضب لشخصه أنه ما أعطي، لا. وإنما كان يغضب لله، لكن كان فيه شيء من الحدة، ولعل في شخصية عمر بن الخطاب مشابهة من شخصية موسى عليه السلام في بعض الجوانب، فموسى عاتب هارون بشدة لكن لما اعتذر هارون واسترحم موسى، قبل موسى عذره، وقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي [الأعراف:151] ولم يصر على وضع الخطأ كله على هارون، وقال: أنت السبب لا، شخصية هارون ليست كشخصية موسى، يمكن أن يستجيبوا لموسى لكن قد لا يستجيبون لهارون، وقوة الشخصية فضل يؤتيه الله من يشاء، فإذا أنعم الله به على شخص لا يلوم الآخر الذي هو أقل منه ويضع كل الخطأ عليه؛ لأنه قد يكون معذوراً، ويكون سبب الانحراف ليس منه إنما هناك أشياء أقوى، فقبل موسى عليه السلام اعتذار هارون، وكان اعتذار هارون مشوب بالعواطف وبالاسترحام، كان هارون رجلاً رحيماً رقيقاً رفيقاً؛ ولذلك فإنه آثر أن يجمع شمل القوم، وعندما رجع موسى مع إنكاره للشرك لم يكن موافقاً، ولذلك بعض الناس قد يقول: لماذا لا نحتج في هذه القصة على بقاء الشخص في الصف ولو كان فيه شرك؟

نقول: أبداً، ليس مقبول على الإطلاق، لا يمكن، فبعض الناس قد يبقى في صف فيه شرك ويتعلق بقصة هارون مع قومه مع الفوارق العظيمة.

أولاً: هارون تبرأ من الشرك وواصل في دعوة قومه للعدول عن الشرك، فهل يفعله هذا ويعلن البراء من الشرك وأهل الشرك الموجودين في الصف؟ أم أنه يقول: أنشغل بأشياء أخرى وأدعهم وشركهم؟

إذاً: البراءة من الشرك وأهل الشرك واجبة.

ثانياً: هل الباقي في هذا الصف منصبه مثل منصب هارون خليفة؟ أو أنه شخص عادي لا يؤبه له؟

على الأقل هارون كان يرفع راية التوحيد، فالثابتين على التوحيد معهم هارون حامل راية وحامل لواء الشرعية، وعنده أمل أن يعود من يعود من هؤلاء الضلال ويلتحقوا به، ثم هناك أمر من موسى -وموسى نبي- أن يبقى، فأين أمر الوحي بالنسبة لهذا الشخص؟

ثالثاً: هل هذا الشخص ينتظر شخصية مثل شخصية موسى لترجع بعد حين يسير وتعالج الأوضاع؟

رابعاً: هل يوجد جماعة لأهل الحق كما كان على عهد هارون يكون معهم أو أنه واحد في هذا الخضم؟ ولذلك لا يجوز البقاء في صف أهل الشرك مطلقاً، يجب على المسلم أن ينحاز لأهل التوحيد، ولا يبرر لنفسه البقاء في صف فيه شرك ويحتج بقصة هارون لهذه الفوارق التي بيناها.

الخلط بين المسئوليات والعاطفة
ومن دروس هذه القصة العظيمة: عدم الخلط بين المسئوليات والعاطفة عند المحاسبة، لم يقل موسى: هذا أخي فحصل خير.. لأنه أخي فلا أحاسبه، بل حاسبه حساباً شديداً، ودقق معه، وحاصره بالأسئلة، ولم تغلبه العاطفة، فينبغي في مسألة المحاسبة في موقع المسئولية محاسبة أهل المسئولية وعدم الخلط بين ما ينبغي أن يفعل هنا، وبين مسألة العواطف والقرابات والصحبة.. ونحو ذلك: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152].

وكذلك من دروس هذه القصة: بقاء السامري معذب، ليكون عبرة حتى لا يسول لأي أحد أن يعمل عملاً مثل هذا وهو يرى السامري منبوذاً مقبوحاً لا يقترب أحد منه.

وكذلك: فإن في التعامل الأخوي بين موسى وهارون قدوة للآخرين، ومن الأشياء المهمة: أن الخلاف بين المربين ينبغي ألاَّ يخرج إلى الناس، الخلاف بين الدعاة لا ينبغي أن يخرج إلى الناس مادام أنه ضمن الدائرة الشرعية، أي: في مسائل الاجتهاد، اتبع القاعدة الشرعية العظيمة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لا يشنع بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، فمثلاً: هذا يرى أن النزول في الصلاة يكون على الركبتين وهذا يرى أنه على اليدين، لا مشاحاة ولا تعليق ولا لوم ولا توبيخ ولا إنكار في مباحثة علمية.. هذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون الجهاد فيعمل في حقل الجهاد، وهذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون العلم الشرعي فيعمل في حقل تعليم العلم الشرعي، وهذا يرى أن المسلمين بحاجة إلى إغاثة فهو يعمل في العمل الإغاثي، والأجواء كلها تكمل بعضها بعضاً، ولا داعي للإنكار ما دام الجميع على معتقد سليم ومنهج صحيح، فكل شخص يؤدي كل ما يستطيعه؛ لأن الثغرات المفتوحة على المسلمين كثيرة في جهل وهجوم من الأعداء، وفي فقر ومرض وموت، وفي منكرات، فيفرغ جهده لإنكار المنكر.

إذاً: لا بد أن تتكامل الجهود مع المعتقد السليم العام لجميع الذين يسيرون ضمن دائرة أهل السنة والجماعة.

أقول -أيها الإخوة- في مسألة النقد بين الإخوان: موسى عليه السلام انتقد هارون وحاسبه، وهارون كان يرجو من موسى ألا يشمت به الأعداء، فينبغي أن نفرق بين قضية المحاسبة والنقد، وبين قضية التخطئة العلنية التي يكون مبعثها التشهير والتشفي، والتخطئة العلنية أحياناً يكون لا بد منها؛ لإحقاق الحق ولبيان الحق، والنبي عليه الصلاة والسلام خطأ أشخاصاً، لكن متى تكون التخطئة سلبية ومتى تكون التخطئة علنية إيجابية؟

إذا كانت لإحقاق الحق وبيانه، وأنه لابد منه لبيان الحق فلا بأس أن نخطئ، مثال: لو أخطأ الإمام في الصلاة، هل تقول: لا أرد عليه حتى لا أفشله عند الجماعة أو أظهر أنه لا يحفظ، لا. بل ترد على الإمام، ولكن إذا كان مبعث التخطئة التشفي والتشهير، وليس بيان الحق، فهذه التخطئة حرام وهي مما توغر الصدور، فينبغي معرفة الفارق بين هذا وهذا.

ثم إن من النقاط المهمة في هذه المسألة: قضية ستر جميع العيوب، المهم ألاَّ يظهر عيب للناس مهما حصل بحجة عدم نشر الغسيل، هذه المسألة غير صحيحة بإطلاقها، لكن الأخطاء التي لا يفهمها ولا يدركها العامة، لا تخطئ أمام العامة شيء على جنب ينبغي أن يكون هذا هو الأدب، والأشياء التي ليس من المصلحة إشهارها لا تشهر، لكن أن يرفض الإنسان أي نقد حتى يبقى في الظاهر للناس سليماً من أي نقد بأي صورة، فهذا -أيضاً- خطأ (كل بني آدم خطاء) .

وينبغي أن نفرق -أيضاً- بين الخطأ الذي يتعدى إلى الناس وبين خطأ الشخص في نفسه، لو كان الشخص يخطئ في نفسه نبهناه في نفسه، لكن لو كان خطأً متعدياً للناس لا بد أن نبين للناس ولو علموا أن فلاناً هو مصدر الخطأ، لو قام شخص وتكلم بكلام باطل على الناس، فقام شخص ورد عليه الرد الحق هذه تخطئة علنية، لكن لا بد منها؛ لأنه نشر خطأه على الناس، لكن لو أنه عمل منكراً بينه وبين نفسه هل يجوز التشهير به؟ هل يجوز أن يقوم شخص بين الناس ويقول: فلان فعل كذا، ما يخاف الله، ارتكب المنكر الفلاني، هذا لا يجوز، التشهير هنا حرام، كذلك ما ينصب من التخطئة على المناهج التي فيها أخطاء لا بد من البيان؛ لأن الناس قد يتبعون هذا النهج الخاطئ، فلا بد من بيانه، ويبقى لصاحب الفضل فضله وخطأه، ينبغي أن يعلم إذا كان منشوراً.

ومن الفوائد كذلك في هذه القصة: عظم نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بأن جعل توبتها كلمات، وتوبة بني إسرائيل كانت القتل، الواحد مهما أجرم لو أشرك بالله يتوب إلى الله: (من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو قال شخص لك: أنا أخطأت، وقلت: بذمتي.. بأمانتي.. برأس أولادي.. بحياة أبي وحياة أولادي.. ونحو ذلك، وشرفي وأمانتي، كيف أتوب؟ هذا حلف بغير الله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فلتقل له: إن كفارتها أن تقول: لا إله إلا الله (من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق) على عادة الجاهلية تعال نتقامر.

فتأمل في عظمة الله على هذه الأمة أن الإنسان لو وقع في الشرك كفارته أن يتوب إلى الله، والتوبة كلمات يستغفر الله ويوحد الله ولو شرك، لكن بني إسرائيل لما وقعوا في هذا الشرك كانت عقوبتهم القتل، لا توبة إلا بالقتل، ويمكن أن يقول بعض الناس: هذا شيء عظيم، لماذا أوجب عليهم هذه الطريقة الشنيعة في التوبة؟ نقول: لأنهم يستحقون ذلك لو نظر في التواءات القوم وانحرافاتهم وعرفها لرأى أنهم يستحقون ذلك، ثم إن فضل الله عليهم عظيم، فقد جعل المقتول شهيداً والحي تيب عليه.

ليس الخبر كالمعاينة
وكذلك من دروس هذه القصة أنه: (ليس الخبر كالمعاينة) وهذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد والحاكم وغيرهما، عن ابن عباس مرفوعاً: أخبر الله موسى لما استلم الألواح أنه فتن قومه من بعده وأضلهم السامري، خبر الله صدق لا شك فيه؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] ولما رجع موسى إلى بني إسرائيل كان يعلم يقيناً أن قومه قد عبدوا العجل؛ لأن الله أخبره بذلك، لم يلق الألواح لما قال الله له: فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه:85] ولكنه ما ألقاها إلا عندما رجع إلى قومه فرآهم بعينيه يعبدون العجل.

إذاً: الخبر ليس كالمعاينة، يمكن أن يقال لك: فلان حصل له حادث فضيع وحصل له كذا وكذا، تتأثر لكن إذا رأيته ونظرت إليه ورأيت ما حل به فعلاً من الأشياء المفضعة فإن الشفقة والشعور والألم سيكون أكثر.. لماذا؟ لأن النظر ليس كالخبر، والخبر ليس كالمعاينة، وهذه مسألة لا بد أن تراعى، ومن راعاها كان حكيماً في كثير من تصرفاته.

تقبل الوصية ولو كان فيها شدة
وكذلك من دروس هذه القصة: أنه ينبغي تقبل النصيحة ولو كان فيها شدة، يقول موسى لهارون: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] قد يرى الإنسان هذه الكلمة ثقيلة، لكن موسى يعرف طبيعة بني إسرائيل، خبرهم عنده لأنه عاش معهم منذ صغره فهو يعرف طبيعة قومه، ولذلك كان شديداً في وصيته لأخيه: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] فالوصية ولو كانت شديدة فالإنسان يتقبلها، ليس هناك غضاضة أن يقبل الوصية ولو كانت شديدة.

لا ينبغي التوقف في الحرام
وكذلك من دروس هذه القصة: أن الحرام لا ينبغي التوقف فيه، ولذلك من سفاهة عقول هؤلاء عباد العجل أنهم قالوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91] لا نغير حتى يرجع إلينا موسى، جاء في حديث الفتون أن بعضهم توقفوا، وهؤلاء المتوقفين توقفهم غلط؛ لأن التوقف ضلال، ولذلك الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت طائفة تقول: لا نقول القرآن مخلوق أو غير مخلوق، هؤلاء الواقفة، بدعهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقال: إن قولاً شر عظيم. فمسألة التوقف في تخطئة المنكر أو الخطأ لا يجوز أن يقول إنسان: أتريث وهو يعلم أنه شرك، ليس هناك تريث ما دمت علمت أنه شرك لا بد من إنكاره، لكن لو أنه لا يدري هل هذا خطأ أم لا يقول: أتوقف في الإنكار حتى أسأل عالماً، فإذا قال لي: هذا خطأ أنكرت وإلا سكت.

وكذلك لا بد من تبيان العقيدة الصحيحة عند محاربة الشرك، موسى لما تخلص من العجل وتخلص من السامري وقضى على الفتنة ماذا قال بعدها؟ إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [طه:98] فإذاً بين لهم من هو إلههم سبحانه وتعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ [طه:98] مبيناً لهم.

ومن فوائد هذه القصة: خطورة أصحاب الموروثات السابقة عند انضمامهم للصف، فهذا السامري الذي قيل: أنه كان من قومه من يعبدون العجل فأظهر الإسلام ودخل مع بني إسرائيل، كيف صار خطره عظيم؟

لذلك لا بد من الانتباه لأصحاب الموروثات السابقة الذين يدخلون في الصف فيفسدون ويخربون.

ومن فوائدها كذلك: أن وجود سلبية المربي لا يمنع من التلقي عنه والتأثر به، والعلة التي لا تكون قادحة لا تجعل الإنسان بمعزل عن التأثير والإمساك بزمام الأمر؛ لأنه ما من إنسان يخلو من سيئات، لا بد أن يكون كل واحد عنده أخطاء وسلبيات، ولذلك إذا كان الشخص سجاياه الحميدة أكثر من أخطائه فهذا مرضي يناصح بأخطائه، لكن لا شك أن موقع القدوة والقيادة يتطلب وجود صفات عالية، وأن تكون الصفات السلبية أقل ما يمكن.

كذلك من فوائدها: أن الإنسان عليه ألا يتحمس وينفعل جداً ويزيد في التخطئة والهجوم؛ لأنه لو اكتشف أن رأيه خطأ سيكون الانسحاب عليه صعباً، لو سمع أحد أن فلاناً أخطأ فذهب يشنع عليه ويصب عليه غضبه ويعنفه تعنيفاً شديداً، ثم بعد ذلك يتضح له أن القضية ليست كما سمع، وأن المسألة فيها اختلاف، وأن الرجل هذا قد يكون له عذر، فسيكون الانسحاب شديداً، ولذلك نأخذ من قضية شدة موسى مع هارون في البداية أن الإنسان إذا أراد أن يخطئ غيره عليه أن ينظر في ظرفه وعذره جيداً، وألا يشتد في التخطئة ما دام لم يعرف كل ملابسات الموضوع، فقد يكون الانسحاب صعباً عليه.

فائدة من قوله تعالى: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ )
وكذلك فإن هناك فائدة مهمة للغاية في قولهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]: لقد حاولت الفئة الضالة إطفاء الشرعية على هذا الانحراف، فقالوا لبقية القوم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طه:88] حاولوا إطفاء الشرعية على هذا العجل وأن يجعلوه مقراً: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طه:88] وهذه الفائدة لا شك أن لها أثراً في نفوسنا عندما لا نغتر بأي شيء مكتوب على الإسلام، أو هذه القضية إسلامية، أو هذا الشيء إسلامي دون أن نعرف حقيقته، فمحاولة أعداء الإسلام لإطفاء الشرعية على كثير من المناهج المنحرفة وعلى كثير من الكيانات، وعلى كثير من الشخصيات، وعلى كثير من الكتب، محاولات لا شك أن القصد منها تضليل المسلمين.

على سبيل المثال: لو وجدت أي لحم مكتوب عليه: مذبوح على الطريقة الإسلامية، هل مجرد أن عليه ختم مذبوح على الطريقة الإسلامية أي: أنه كان مذبوحاً على الطريقة الإسلامية؟ محاولة إطفاء الشرعية على هذه اللحوم -مثلاً- من قبل أي تجار أو جهات مصدرة هل تجعل هذه القضية شرعية بمجرد أنه كتب عليها ذلك؟ إذا كانوا قد ذبحوا السمك على الطريقة الإسلامية فما بالكم ببقية الأشياء التي يصدرونها للمسلمين من الأفكار والمناهج غير مسألة السمك، مما هو أخطر من السمك بكثير، ويحاول اليوم عدد من أصحاب المناهج المنحرفة أن يضفوا الشرعية على اتجاهاتهم، ومن أخطرهم في نظري في هذا الوقت أصحاب الفكر العقلاني أو الإسلام المستنير، أو الإسلام الحضاري كما يسمون أنفسهم، وهؤلاء يقولون: لا بد من الموافقة بين الإسلام وبين واقع العالم الذي وصل إليه، فإذا كان العالم اليوم يرفض -مثلاً- الرق والإسلام فيه أشياء تفيد بجواز الرق، فلا بد أن نجد لهذه الأدلة صرفة، وأن نخرجها إذا كان العالم لا يقبل فكرة أهل الذمة ولا يقبل فكرة دفع الجزية، وهكذا مسائل وأفكار خطيرة.. إذا كان العالم لا يقبل حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولو قلنا بهذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في محفل من الناس وفيهم غربيين مفكرين عالميين قلنا لهم: عندنا نحن المسلمين لا يجوز للمرأة أن تتولى ولاية عامة، فسيقولون: ظلمتم المرأة! لماذا تجعلونها في مستوى ثانٍ؟ لماذا لا تتولى الوزارة والقضاء والرئاسة؟

فيحاول بعض العقلانيين أن يضعف الحديث، ويستدل باستدلالات منحرفة، إذا كان العالم لا يقبل فكرة الجهاد اليوم ويقول: إن الجهاد هو اعتداء على مجتمع آخر أو على كيان آخر، والجهاد ما وضع في شريعتنا إلا جهاد دفاعي هجومي، ويحاول العقلانيون اليوم أن يثبتوا أن الجهاد دفاعي فقط، وأنه ليس هناك جهاد اسمه جهاد هجومي في الإسلام، والله يقول: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36]، قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29] ونص: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] قال العلماء: لا تقبل منه إذا أرسل غلامه أو خادمه ليدفعها لا بد أن يأتي بنفسه؛ لأن الله يقول: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة:29] أي: يسلمها بيده بنفسه، ثم قال: وينبغي على الإمام أن يطيل وقوفهم عند بيت المال إذلالاً لهم ثم يقبلها منهم ولا يقبلها منهم مباشرة؛ لأن الله قال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] نسأل الله أن يبلغنا هذا الوقت الذي يطبق فيه هذه الآية.

فأقول: إن من أخطر الناس الذين يحاولون إطفاء الشرعية اليوم على مناهجهم المنحرفة هم العقلانيون المنحرفون أو أصحاب الفكر المستنير.

من مداخلهم: الموسيقى الإسلامية، والفن الإسلامي، والرقص الإسلامي، هذا ما طرحوه بوضوح وصراحة، وقالوا: أسلمة كل شيء لا بد أن نؤسلم الفن ونؤسلم التماثيل فن النحت الإسلامي، الرقص الإسلامي، هذا كله هراء، هذا ما يطرحونه ويجاهرون به في مقالاتهم.

كذلك من فوائد هذه القصة: كيف يتحرج الإنسان من الشيء الذي ليس فيه حرج ويقع في الشيء العظيم والطامة، قالوا: هذه حلية تورعنا منها خفنا أن تكون ليست حلالاً علينا أخذناها من الفرعونيين القبط وهربنا بها، ليست حلال علينا، فنبذناها وألقيناها، ثم عبدوا العجل، هؤلاء الذين قال في مثلهم ابن عمر في قضية أهل العراق قتلوا الحسين بن علي ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وحبيبه، ثم جاءوا يسألون: هل قتل البعوض من محظورات الإحرام أو لا؟ وهذه المسألة قضية التحرج من الأشياء اليسيرة والوقوع في الأشياء العظيمة، هذا ديدن كثير من الناس، تجدهم اليوم يقولون: هو واقع في الربا والزنا، وإذا جاء على عشر ذي الحجة في الأضحية قال: سقطت مني شعرة وأنا أحك ماذا أفعل؟ الأضحية بطلت أم لا؟ أنا قلق أخبروني، الله أكبر! أنت الآن قلق على الشعرة التي سقطت بالحك، ولست قلقاً على الملايين الموجودة في البنك تأخذ عليها ربا وفوائد محرمة! وكذلك في الإحرام يسأل: يجوز ترجيل الشعر أم لا؟ وتراه يغتاب ويلعب ورقاً في الحج، ويفعل كل المحرمات ويمكن أن يستمع الأغاني، وإذا ذهب يطوف حول الكعبة نظر للنساء، وربما أبطل حجه أو عمل شيئاً خطيراً، ثم يقول: سقطت شعرة.. إن مسألة التورع عن الأشياء الصغيرة والوقوع في الأشياء العظيمة هذا منهج بني إسرائيل.

ثم نلاحظ -أيضاً- درساً في الفتنة بالذهب الذي هو معبود اليهود الأصيل.

إن قضية العجل تبين لنا تغلغل الذهب في نفوس اليهود، وأنهم فتنوا بالعجل المصنوع بالذهب وأن فتنتهم هي الذهب، وهم الذين يملكون أكثر الذهب في العالم اليوم ولا شك، فيتبين لنا فتنة هؤلاء القوم بهذا الذهب في القديم والحديث.

لعل هذه بعضاً من أهم الدروس والفوائد التي تؤخذ من هذه القصة وهي قصة عظيمة جداً جديرة بالتأمل، والله سبحانه وتعالى ما قص علينا هذه القصة ولا غيرها من القصص إلا ليتدبرها أولو الألباب، ويتعظ بها المتعظون، ويأخذ من فوائدها الذين ينهلون من حياض هذه الشريعة وينجون من مواردها.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وإلى طريق الحق والثواب.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-22, 05:37   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

يتبع باذن الله










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-22, 15:11   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
*رضاك ربي*
عضو مبـدع
 
الصورة الرمزية *رضاك ربي*
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

موضوع قيم بارك الله فيك










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-29, 12:52   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

الثلاثة الذين خلفوا في سورة التوبة
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( التوبة:118،119).


قصة الثلاثة الذين خلفوا من أروع القصص و أكثرها تأثيرا في النفس مع أن السيرة النبوية الشريفة مليئة بالقصص المؤثرة التي تحرك الوجدان. هذه القصة قد أشار إليها القرآن الكريم في سورة التوبة في الآيات 118 - 119. و قد روى لنا تفاصيل القصة الصحابي كعب بن مالك رضى الله عنه و هو أحد هؤلاء الثلاثة , و القصة مذكورة في كتب السيرة و قد ذكر جانب منها في تفسير ابن كثير.

القصة بدأت عندما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين بالاستعداد للمشاركة في غزوة تبوك, و قد أوجب عليهم المشاركة في هذه الغزوة إلا أهل الأعذار كالمرضى و الضعفاء و الفقراء الذين لم يستطع المسلمون تجهيزهم للمعركة. و كعادتهم سارع الصحابة بالاستعداد تلبية لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم.

كان الوقت المقرر لغزوة تبوك غير مناسب لكثير من الصحابة, فقد كان الحر شديدا و لم يكن أهل المدينة يقدمون على أسفار طويلة و شاقة في مثل هذه الأجواء. المسافة من المدينة المنورة إلى تبوك تفوق الخمسمائة كيلومتر, فهي رحلة أيام طويلة على الأقدام و البعير. و زيادة على هذا كله, فقد كان هذا هو موسم حصاد الثمار بالنسبة لكثير من الصحابة الذين كانوا يمتلكون البساتين, فكان السفر في هذا الوقت بالتحديد يترتب عليه خسائر مادية فادحة.

و لكن مع كل هذه الصعوبات لم يتردد الصحابة في تلبية أمر النبي صلى الله عليه و سلم. أعد الصحابة أمتعتهم و تجهزوا للسفر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم دون شكوى. و قد ذكر القرآن الكريم قوة إيمان هؤلاء الصحابة عندما وصف لنا حال الفقراء الذين لم يستطع المسلمون تجهيزهم للغزوة فقال سبحانه و تعالى: "ليس على الضعفاء و لا على المرضى و لا على الذين لا يجدون ما ينفقوا حرج إذا نصحوا لله و رسوله ما على المحسنين سبيل و الله غفور رحيم و لا على الذين إذا أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولو و أعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (التوبة 91 - 92).

أما المنافقون فكرهوا الخروج خوفا على أموالهم و أنفسهم و فضلوا البقاء في بيوتهم لتجنب الحر و المشقة, و رأوا أنه من غير المعقول الذهاب في غزوة شاقة و صعبة في مثل هذا الوقت, فأضلتهم عقولهم و اتبعوا أهواءهم فذهبوا إلى النبي يخترعون الأسباب و الأعذار و يكذبون على رسول الله صلى الله عليه و سلم. حتى أنهم قالوا للناس لا تنفروا في الحر, فأجابهم الله تعالى في القرآن الكريم: "قالوا لا تنفروا في الحر, قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا و ليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون" (التوبة 81 - 82).

و لا بد لنا من الوقوف هنا و النظر قليلا في عقلية المنافقين و طريقة تفكيرهم. فكثير منا اليوم عندما يقال لنا أن نطيع الله و الرسول صلى الله عليه و سلم في أمر ما نتفنن في اختراع الأعذار و الأسباب لنبرر لأنفسنا و للناس عدم امتثالنا لأوامر الله سبحانه و تعالى و رسوله صلى الله عليه و سلم. حتى أن بعض الأعذار التي نسمعها اليوم مطابقة لما قاله المنافقون في غزوة تبوك. فبعض أخواتنا العزيزات اللواتي لا يلتزمن بالحجاب عندما يسألن عن ذلك تكون الإجابة أحيانا أن الحر شديد في الصيف فالالتزام بالحجاب صعب و شاق! و أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها! و بعض الإخوة الأعزاء عندما تسألهم عن عدم التزامهم بصلاة الجمعة يبرر ذلك بالعمل و بالخوف من المدير أو المشرف! و لا يكاد أحد منا في هذه الأيام لا يقع في مثل هذه المواقف من تبرير أفعالنا بأي طريقة تهربا من الالتزام بالأوامر الشرعية التي تشق علينا. و في هذا خطر كبير على إيماننا لأن هذا من اتباع الهوى, فهدانا الله و وفقنا إلى الالتزام بالشرع حتى و لو لم يوافق أهواءنا و حتى لو لم تفهم الحكمة من وراء أحكامه عقولنا.

و لا بد لنا أن نتساءل كم من الآيات كانت لتنزل فينا و في أعذارنا هذه إذا كان القرآن لا يزال ينزل؟ فعلينا الحذر من هذا و مجاهدة أنفسنا على الالتزام بالأوامر الشرعية و لو كانت شاقة علينا و تسبب لنا التعب و الخسائر المادية. هذه كلها فتن و اختبارات نتعرض إليها و سوف نسأل عنها يوم القيامة.

و فعلا كانت غزوة تبوك اختبار لإيمان الصحابة و نجح في هذا الاختبار كل من امتثل أمر النبي, فعندما وصل المسلمون إلى تبوك, تبين لهم أن جش العدو الذي كانوا يتوقعون لقاءه قد انسحب عندما علم بقدوم المسلمين. فلم يحصل قتال و كانت المعركة في غزوة تبوك هي معركة ضد الأهواء و ضد وساوس الشيطان. و لكن الرحلة كانت شاقة و أصاب المسلمون فيها من الجوع و شدة الحر ما شق عليهم. و لكنهم نجحوا في الاختبار و أثبتوا إيمانهم و حبهم لله و رسوله صلى الله عليه و سلم. و أما المنافقين فقد خسروا خسرانا مبينا بين الفضيحة في الدنيا و العقاب في الآخرة.

عندما عاد المسلمون إلى المدينة توجه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسجد كما كانت عادته بعد العودة من السفر لصلاة ركعتين, فجاءه المنافقون الذين تخلفوا عن الغزوة يعتذرون إليه و يقدمون الأعذار المكذوبة حتى يعفو عنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم. و كان عليه الصلاة و السلام يقبل منهم الأعذار و يستغفر لهم, و لكن الله سبحانه و تعالى فضحهم و كشف كذبهم في القرآن الكريم في سورة التوبة الآيات 90 – 96.

أما هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا فلم يكونوا كالمنافقين, بل كانوا مؤمنين صادقين و لكنهم وقعوا في المعصية. و كان من هؤلاء الثلاثة كعب بن مالك رضي الله عنه و قد حكى لنا قصته و قد وردت في الصحيحين. فكان مما قاله كعب ابن مالك: "كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة". و قال أيضا: "وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقضى شيئا فأقول في نفسي أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصاً عليه النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ( ما فعل كعب )؟ . فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه . فقال معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه الإ خيراً . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ."

و من هذا نرى أن كعب بن مالك كان يريد الخروج مع المسلمين و قد نوى ذلك و لكنه ظل يأخر الخروج فوقع في معصية رسول الله صلى الله عليه و سلم. و لذلك فعلينا أن نسارع إلى الامتثال بالشرع و لا نتأخر في ذلك حتى لا تسول لنا أنفسنا أو أهواءنا فنضل عن الصراط المستقيم. هذا و مع أن المشقة كانت نفسها على جميع الصحابة و لم يكن أحد منهم يحب الخروج في شدة الحر و في هذا الوقت و لكنهم جاهدوا أنفسهم على طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم و عدم التردد في ذلك, فلنا فيهم أسوة حسنة.

ثم يكمل كعب بن مالك القصة و يحكى عما كان منه عندما علم بعودة المسلمين من تبوك: "فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس قلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال ( تعال ) . فجئت أمشي حتى جلست يديه فقال لي ( ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك )؟. فقلت بلى إني والله - يا رسول الله - لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك )."

و لا بد لنا من الوقوف هنا لنتأمل صدق هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه, فمع أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستغفر للمنافقين و المخلفين الذين قدموا الأعذار, إلا أنه لم يستطع أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم و علم أنه حتى لو صدقه رسول الله فإن الله سبحانه و تعالى يعلم ما في صدره. فعلم أنه لن يستطيع أن يصحح ذنبه الأول بارتكاب ذنب آخر و علم أنه لا بد له من تحمل مسؤولية ذنبه و الاعتراف بخطأه و علم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه!

و قد حكى أيضا كعب بن مالك عما حصل بعد هذا الموقف فقال: "فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك . فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي" فحتى بعد إلحاح الناس عليه رفض كعب بن مالك أن يكذب و علم أن الكذب لا ينبغي أن يكون من المسلم.

ثم حكى عن مقاطعة الناس له فقال: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار."

فتخيل أخي المسلم هذا الموقف و هذه الشدة. لا أحد يرد السلام و لا حتى ينظرون في وجهه, و مع هذا لم يغير هذا ما في قلبه من حب لله و رسوله و للإسلام و المسلمين. فيا ليتنا نتبع أخلاق هذا الرجل. فكم من المسلمين اليوم إذا لقي ما يكره من أخيه المسلم, فبدلا من أن يعفو و يصفح, تجده يفجر في المخاصمة. و هذا من علامات المنافق أنه إذا خاصم فجر. فلا بد بنا من العمل على المحافظة في علاقاتنا الأخوية و على عقيدة الولاء و البراء حتى مع من قد يظلمنا أو قد نرى منه ما لا نحب. و إن كعب بن مالك ضرب لنا مثلا في الولاء و البراء لا بد لنا من الاقتداء به, فقد حكى لنا عن محاولات أعداء الإسلام بتجنيده ضد المسلمين.

يقول كعب بن مالك: "فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشأم ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك . فقلت لما قرأتها وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها"

فانظر إلى قوة الإيمان و الصلابة و عدم الميل إلى المصالح الشخصية الدنيوية. و من المحزن جدا و المخجل أننا نرى بعض الجماعات الإسلامية تختلف مع بعضها البعض, فترى منهم من يستعين بالأجنبي الكافر على أخوه المسلم, مما يناقض عقيدة الولاء و البراء و يناقض حتى العقل السليم. فلا يمكن لإنسان سوي أن يتخيل أن الأجنبي سيأتي لمساعدة فريق من المسلمين ضد فريق آخر دون أي أهداف و مصالح ذاتية يريد أن يحققها على حساب المسلمين. و قد تكرر حدوث هذا مرارا مع المسلمين حتى أصبح الطفل الصغير يفهم اللعبة, و لكن للأسف لا تزال المصالح الدنيوية و الأموال و العصبية المذهبية و القبلية تدفع بعض المسلمين إلى الوقوع في مثل هذا, و الله المستعان.

ثم يحكي كعب بن مالك اشتداد المقاطعة بأمر النبي صلى الله عليه و سلم الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم: "حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال لا بل اعتزلها ولا تقربها . وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟ قال ( لا ولكن لا يقربك ) . قالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا . فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أميه أن تخدمه ؟ فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب ؟ فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا".

ثم تاب الله على كعب و على صاحبيه, فيقول كعب بن مالك: "فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهونني بالتوبة يقولون لتهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) . قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال ( لا بل من عند الله ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) . قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر."

فوائد وعبر
و هنا درس هام جدا لا بد لنا أن نتعلمه. فقد كانت المعصية التي ارتكبها هؤلاء الثلاثة معصية مباشرة لرسول الله صلى الله عليه و سلم و متعلقة بالتخلف عن المعركة, فلا بد أنها معصية كبيرة, و لكن انظر إلى كيف استقبل المسلمون نبأ توبة الله سبحانه و تعالى عليهم! تسابق المسلمون لتبشيرهم بالخبر و لتهنئتهم و مصافحتهم. انظر إلى المحبة و الأخوة و خلو الصدور من الغل و الضغينة! سبحان الله الذي ألف بين قلوبهم, اللهم ألف بين قلوب المسلمين اليوم كما ألفت بين قلوب الصحابة! فهذه أخلاق الصحابة التي لا بد لنا أن نتأسى بها. فلا نتذكر دائما أخطاء الناس, و لا نقول دائما للمذنب هذا الذي فعل كذا و كذا, بل لا بد لنا من أن نفرح فرحا شديدا بكل تائب إلى الله مهما كانت ذنوبه من قبل!

و من أجمل ما يقول كعب بن مالك من قصته هو الدرس الذي تعلمه من هذا البلاء و هذه المحنة التي مر بها. فيقول: "فقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا مالقيت . فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت . وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار - إلى قوله - وكونوا مع الصادقين } . فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا - حين أنزل الوحي - شر ما قال لأحد فقال تبارك وتعالى { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم - إلى قوله - فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }. قال كعب وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } . وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه."
أهمية الصدق مع الله
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل وكونوا من الصادقين، اصدقوا مع الله واصدقوا مع عباد الله {فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً}.

أيها المسلمون! إن الصدق بجميع أنواعه محبوب، وإن الصادق محبوب إلى الله وإلى الخلق، إن الله يرفع ذكره، ويزيد أجره، وإن أبين دليل على ذلك ما يحصل من ثناء الناس على الصادقين، في حياتهم وبعد مماتهم.

نعم. أهل الصدق أخبارهم مقبولة، وأماناتهم موثوقة، يكفي لذلك ما حصل لـكعب بن مالك رضي الله عنه عندما صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع الله ذكره، وأنزل في شأنه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.

نعم يا عباد الله! إن هذه هي الغبطة، والنعمة والفائدة الكبيرة.

مشروعية هجر أهل الفسق والمعاصي
عباد الله! لقد سمعتم ما حصل لهؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم من الهجر والمقاطعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة رضي الله عنهم، ومن أقاربهم؛ وذلك من تمام الإيمان، امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هجروهم وقاطعوهم، حتى ضاقت الحال، وتراكمت الكربات، وضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، حتى جاء الفرج من الله، فتاب الله عليهم، وأعلنت توبتهم في كتاب الله، تتلوها الأمة إلى يوم القيامة.

أما الذين نافقوا وكذبوا الله ورسوله فأنزل الله فيهم: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95-96]. أيها المسلمون! اعتبروا بهذه الآيات، يا ليتنا نطبق هذا الأدب الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة.

فسبحان الله, كان أهم ما استفاده كعب بن مالك من هذا الموقف هو أهمية الصدق بل و أن الصدق كان أعظم نعمة أنعمها الله عليه بعد نعمة الإسلام! اللهم اجعلنا ممن يفهمون الإسلام و يطبقونه في حياتهم كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم, اللهم و أنعم علينا بالصدق كما أنعمت به على هؤلاء الثلاثة, رضي الله عنهم.










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-30, 13:14   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
lenovodz
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية lenovodz
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

مشكور اخي الكريم










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-24, 14:30   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

قصة موسى والخضر عليهما السلام.لابي اسحاق الحويني 00تفريغ نصي00

روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سعيد بن جبير رحمه الله، قال: قيل لـابن عباس رضي الله عنهما: إن نوفل المثالي يزعم أن موسى الذي صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، قال ابن عباس : كذب عدو الله، حدثني أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خطب موسى في بني إسرائيل يوماً حتى ذرفت العيون ووجلت القلوب، فلما انصرف تبعه رجل، فقال: يا نبي الله! هل هناك أعلم منك في الأرض؟ قال: لا. فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرجع العلم إليه، قال: بلى، إن لي عبداً في مجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي رب! وكيف لي به؟ قال: خذ حوتاً واجعله في مشكل ..) وفي رواية: (قال: خذ نوناً ميتاً -والنون: هو الحوت، وإليه نسب يونس عليه السلام وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء:87]، فالنون هو الحوت، وكل سكان البحر يعد من الحيتان، فالسمك اسمه حوت، قال ابن عباس : اشتهيت حيتاناً، أي: أسماكاً- قال: خذ نوناً ميتاً واجعله في مشكل، فحيث فقدته فهو ثم -أي حيث فقدت هذا الحوت فالخضر هناك، فانطلقا، حتى إذا كانا ببقعة من الأرض قال موسى لفتاه: لا أكلفك كثيراً، أيقضني إذا رد الله الحياة في الحوت، قال: ما كلفت كثيراً، ثم إن الحوت ارتدت إليه الحياة وقفز في البحر، فأمسك الله عليه الماء وحبسه فلم يستطع أن يذهب.

فلما استيقظ موسى عليه السلام نسي غلامه أن يخبره أن الحوت قفز في الماء، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كانا من الغد قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، تذكر الفتى أن الحوت المشوي الذي كانا سيتغديان به قفز في الماء، قال: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63].. فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] رجعا يقصان الآثار مرة أخرى.

فلما ذهبا إلى هناك وجدا عبداً مسجى ببردة خضراء تحت قدميه وتحت رأسه، كالذي يلتحف بلحاف فيجعله تحت رأسه وتحت قدميه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: وهل بأرضي سلام؟ من أنت؟

قال: أنا موسى.

قال: أنت موسى بني إسرائيل؟

قال: نعم.

-هذا هو السؤال الذي من أجله قال ابن عباس : كذب عدو الله؛ لأن الخضر عليه السلام قال: أنت موسى بني إسرائيل؟-

قال: وما تريد؟

قال: أريد أن أتعلم.

قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67].

قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69].

فجاء عصفور فنثر من ماء البحر نثرة، فقال الخضر: يا موسى! إن مثل علمي وعلمك بجانب علم الله عز وجل كمثل الماء الذي أخذه هذا العصفور بمنقاره فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70].

فانطلقا، ووقفا على شاطئ البحر، فمر مركب فأراد الخضر وموسى أن يركبا، فقال الغلمان: عبد الله الصالح لا نحمله بأجر، فعمد إلى مكان في السفينة فخلع منه لوحاً بقدوم ووضع مكانه خشبة، قال موسى: قوم حملونا بغير أجره تخلع لوحاً من سفينتهم لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وكانت هذه من موسى نسياناً.

فلما نزلا من السفينة وجدا أُغيلمة يلعبون، فعمد الخضر إلى ولد وضيء جميل ذكي، فأخذه من رأسه وأضجعه على الأرض وذبحه بالسكين، فقال موسى: عمدت إلى نفس لم تعمل الحل فقتلتها بغير نفس، لقد جئت شيئاً نكراً، قال الخضر عليه السلام: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وكانت هذه شرطاً)؛ لأن موسى عليه السلام قال له: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76] وهناك فرق في التحذير بين المرة الأولى والثانية، ففي المرة الأولى قال له الخضر: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، وفي المرة الثانية قال له: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:75]، فكأنه استدار إليه وأشار إليه، ولذلك فرق النبي عليه الصلاة والسلام بينهما وبين أن الأولى كانت من موسى نسياناً فلم يشدد الخضر عليه، وكانت الثانية شرطاً في المفارقة، لذلك كأنه التفت إليه وحذره وأشار: ألم أقل لك -أي: في المرة الثانية- إنك لن تستطع معي صبراً.

فدخلوا إلى قرية: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77].. قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يرحم الله موسى -وفي رواية: رحمة الله علينا وعلى موسى- وددنا أنه صبر حتى يقص الله عز وجل علينا من أخبارهما).

إن قصة موسى والخضر من القصص التي تشتمل على كثير من العبر، وقد عُني القرآن الكريم جد العناية في عرض القصة؛ لأن النفس مجبولة على التأسي بغيرها، كما قالت الخنساء لما قُتل أخوها:

ولولا كثرة الباكين حولـي على إخوانهم لقتلت نفسي

فبمصاب غيرك يهون عليك مصابك، إذا شعرت أن غيرك يشاركك في هذا المصاب خف عليك المصاب، وإنما يعظم الأمر إذا كنت متفرداً بالبلية، وإلى هذا المعنى إشارة في قوله تبارك وتعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، فالله تبارك وتعالى ينفي من أذهان أولئك هذه المشاركة التي يجدها العبد في الدنيا، فيقول له: ليس الأمر في الآخرة كالدنيا، إنك إذا رأيت غيرك في مثل مصابك هان عليك مصابك .. كلا! لا ينفعك أنك ترى جهنم كلها مليئة بالخلق يعذبون مثلك، إن هذا لا يخفف عنك شيئاً؛ لأن التسلية التي كنت تراها في الدنيا قد ذهبت: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39].

وفي حديث الإفك أن عائشة رضي الله عنها لما بلغتها التهمة قالت: (بكيت يومي وليلتي حتى ظننت أن البكاء فالقٌ كبدي، فاستأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي).

قد يقول البعض: وما الفائدة من قول عائشة رضي الله عنها: (جلست تبكي معي)؟ فنقول: الفائدة هنا هي المشاركة التي تخفف عن الإنسان ألمه.

ولما بعث النبي عليه الصلاة والسلام ودعاء إلى الله تعالى في مكة، وعذب أصحابه العذاب الأليم، نزل القرآن الكريم يقص عليهم كثيراً من القصص، وأكثر النبي عليه الصلاة والسلام من ذكر القصص، فقص عليها آنذاك قصة الساحر والراهب، وفيها البلاء في الدين، حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: (نالنا من الكفار شدة، فذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نستنصره، فوجدناه عند الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟! فاعتدل وقال: لقد كان يؤتى بالرجل من قبلكم فينشر بالمنشار حتى يشق نصفين لا يرده ذلك عن دينه).

فإذا علمت أن أصحاب الأنبياء جميعاً عذبوا وأوذوا؛ علمت أنك لست في الطريق وحدك، هذا الطريق المستقيم طريق الله عز وجل الممتد من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، لست الضحية فيه وحدك.

كم من العلماء عذبوا بل طارت رقابهم! بل كم من الأنبياء عذبوا وقتلوا! ألم يقتل يحيى عليه السلام وتقطع رقبته وتهدى إلى امرأة بغي، وهو نبي؟!

إذا تذكرت ما فعله اليهود بموسى عليه السلام هان عليك مصابك، وقد جاء في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ ببرده وجذبه حتى أثرت حاشية البرد في عنقه عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: يرحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، هنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام، ويقول: (قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وليس المعنى أن موسى عليه السلام أوذي أكثر من نبينا صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، لكن المعنى: أنه أوذي أكثر من هذا، أي: أكثر من هذا الفعل بعينه فصبر، فهنا يذكر سلفه في الأذى وفي البلاء فيحمله ذلك على الصبر.

فميل الناس إلى القصص فطري، وهو ميل شديد قوي؛ لذلك فقد عني القرآن الكريم عناية كبيرة بالقصص، وقد حدد الهدف من هذه القصص، فقال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111]، أي: للذين يتفكرون ويأخذون الأسوة.

فقصة موسى والخضر من القصص التي قصها علينا القرآن الكريم، وزادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضوحاً.

وفي هذه القصة مطالب:

هل الخضر ولي أم نبي؟
المطلب الأولى: هل الخضر ولي أم نبي؟ وقد يقول البعض: وهل ينبني على ذلك حكم؟ نقول: نعم.

قال ابن المنادي : أول عقده تحل من الزندقة أن يكون الخضر نبياً؛ لأن الصوفية يزعمون أن الولي أعظم من النبي، يقولون:

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

إذاً: فالولي عندهم أعظم من النبي، وهذا ضلال مبين وزندقة؛ لأن النبوة ليست مكتسبه؛ بل هي منحة من الله عز وجل.

فإثبات أن الخضر نبي أول عقدة تحل من هذا الحبل الطويل من الزندقة، وقد استدل العلماء على أنه نبي بقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، أي: ليس لي دخل في الذي فعلت، ويؤكد أنه نبي أن الله تبارك وتعالى قال: وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، والله تبارك وتعالى لا يؤتي هذا العلم إلا لنبي.

أما كونه لم يرسل إلى قوم فهذا هو الغالب على الأنبياء، ولذلك فإن من الفروق التي يذكرها العلماء بين الرسول والنبي: أن النبي قد يشرف بالنبوة لذاته ولكن لا تناط به رسالة، فكثير من الأنبياء لم يبلغوا رسالة تذكر، لكنهم شرفوا بهذا المنصب بأن صاروا أنبياء، بخلاف الرسول؛ فإنه لا بد أن يرسل إلى قوم.

ولذلك قال العلماء: إن عدد الرسل أقل بكثير من عدد الأنبياء؛ لأن النبوة رتبه قد يشرف بها العبد بغير رسالة إلى قوم، بخلاف الرسل.

وأشهر الرسل خمسة هم أولو العزم الذين نوه الله تبارك وتعالى بشرفهم، وهم:

نوح عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام، وموسى وعيسى عليهما السلام، ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

وإنما كانوا من أولي العزم؛ لأنهم أرسلوا إلى جبابرة، وذاقوا من العذاب الأليم ما لم يذقه كثير من الرسل فضلاً عن الأنبياء؛ ولذلك وصفهم الله عز وجل بأنهم من أولي العزم.

إذاً: الخضر عليه السلام على قول أغلب العلماء نبي، فليس بعجيب أن يتعلم نبي من نبي، إن اليهود هم الذين أنكروا أن يكون موسى هو موسى بني إسرائيل؛ لأنهم قالوا: كيف يتعلم موسى من آخر وموسى نبي، والمفترض في النبي أنه أعلم أهل الأرض؟ لأنه غلب على ذهن موسى عليه السلام أنه أعلم الناس، ولم يتصور قط أن يكون هناك أعلم منه، لذلك لم يتردد في الإجابة بقوله لما سئل: هل هناك أعلم منك؟ قال: لا. لظنه أن الله تبارك وتعالى لا يعطي أحداً علماً أكثر منه، فأنكر بنو إسرائيل أن يكون موسى هو موسى بني إسرائيل.

الخضر ليس أعلم من موسى عليه السلام
هل الخضر أعلم من موسى عليه السلام؟

الجواب: لا ثم لا؛ لأن الخضر عليه السلام كان أعلم منه بهذه الجزئية التي علمه الله تعالى إياها؛ ليثبت لموسى عليه السلام أنه ليس أعلم من في الأرض فقط، أما في بقية العلم فلا شك أن موسى أعلم، ولا شك أن موسى أفضل من الخضر، ولذلك قال له الخضر لما نقر العصفور من ماء البحر: يا موسى! إنني على علم من الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك هو لا أعلمه أنا.

بل لما قال له موسى عليه السلام: جئت أتعلم منك، قال: أما يكفيك أن الله كتب لك التوراة بيده.

إذاً: الخضر عليه السلام إنما هو أعلم من موسى بهذه الجزئية فقط، أما أنه أعلم من موسى بكافة الجزئيات الأخرى فلا.

وقد أراد الله عز وجل أن يؤدب موسى، وكذلك كل عالم ومفتي يجب أن يُرجع العلم إلى الله عز وجل، وهذا هو مستند قول العلماء بعد ذكر الفتوى: والله أعلم.

فليس معنى قول المفتي: (الله أعلم) أنه يشك في فتواه؛ بل إنه يكل علم ذلك على الحقيقة إلى الله عز وجل، فإن المفتي قد يفتي في القضية ويرى أن هذا هو الصواب من وجهة نظره، ويكون الأمر على خلاف ذلك، وعلى هذا الأمر تُخرَّج فتاوى العلماء التي أخطئوا فيها بأنهم كانوا يظنون أن الحق فيما ذهبوا إليه.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جاءه رجل قد قطعت إصبعه، فقال: هل عندكم من شيء في دية الأصبع؟ فسكتوا، فاجتهد عمر رضي الله عنه رأيه، ورأى أن دية الأصابع تختلف باختلاف منافعها، فهذه الإصبع لا تساوي هذه؛ لأن هذه الإصبع تملك حركة الأصابع الأربع الباقية، فيقول: لا أساوي بينها في الدية؛ بل هي تختلف باختلاف منافعها. فهل هذا هو الصواب؟

الجواب: لا. لكن لم يكن عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم أكثر من ذلك، فاجتهد رأيه في هذا الأمر، وظل المسلمون يعملون بهذا الحكم حتى خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.

فلما بلغ هذا الأمر ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (هذه وهذه وهذه سواء، عشر من الجمال)، فساوى النبي عليه الصلاة والسلام بينها، فكل إصبع ديتها عشر من الجمال، فلو افترضنا أن الجمل بألفي جنيه، فإن دية الإصبع عشرون ألف جنيه.

إذاً: عمر رضي الله عنه أفتى بخلاف الصواب، لكن هل عليه إثم؟

الجواب: لا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران)، أما الذي له أجر؛ فلأنه اجتهد فله أجر على الاجتهاد، وهو إفراغ الوسع في طلب الحق، فإن أصاب فله أجران: أجر إفرغ الوسع وأجر إصابة الحق.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.



تم كلام ابو اسحاق الحويني


فوائد وعبر
قال تعالى (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ـ60)

1ـ إطلاق الفتى على التابع . فتح الباري

2ـ سبب قوله هذا أن الله أوحى إلى موسى أن عبدا لنا هو أعلم منك عند مجمع البحرين ، فسار موسى إليه طلبا للعلم . ابن عثيمين

3ـ جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر ، لكفاية المؤن وطلب الراحة . السعدي

4ـ أن المسافر لطلب علم أو جهاد أونحوه ، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه وأين يريده ، فإنه أكمل من كتمه فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته وإتيان الأمر على بصيرة وإظهار الشوق لهذه العبادة الجليلة . ابن سعدي



(فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا ـ61)

1ـ أضاف الفعل إليهما مع أن الناسي هو الفتى وليس موسى ، ولكن القوم إذا كانوا في شأن واحد نسب فعل الواحد منهم أو القائل إلى الجميع ، ونسيان الحوت نسيان ذهول وليس نسيان ترك ، وهذا من حكمة الله وهو علامة لموسى أنك متى فقدت الحوت فثّم الخضر . والحوت قد اتخذ طريقه في البحر سربا ، والسرب هو السرداب أي أنه يشق الماء ولا يتلاءم عليه وهذا من آيات الله وكذلك كونه ميتا ثم صار حيا . ابن عثيمين



(فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ـ62 )

1ـ جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس من نصب أو جوع أو عطش إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا . السعدي

2ـ استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله وأكلهما جميعا . السعدي

3ـ طواعية الخادم لمخدومه ، وجواز الإخبار بالتعب ويلحق به الألم من مرض ونحوه ، إذا كان على غير سخط ، وفيه جواز طلب القوت والضيافة . فتح الباري

4ـ أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به ، وأن الموافق لأمر الله يعان مالا يعان غيره . السعدي

5ـ هذا من آيات الله فقد سارا قبل ذلك مسافة طويلة ولم يتعبا ، ولما جاوزا المكان الذي فيه الخضر تعبا سريعا من أجل ألا يتماديا في البعد عن المكان . ابن عثيمين



(قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباـ 63)

1ـ قيام العذر بالمرة الواحدة وقيام الحجة بالثانية . فتح الباري

2ـ إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره . السعدي

3ـ أن محل العجب أن الماء سيال يمر به هذا الحوت ولم يتلاءم الماء عليه . ابن عثيمين



(قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاـ 64 ـ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ـ65)

1ـ استحباب الحرص على الازدياد من العلم والرحلة فيه ، ولقاء المشايخ وتجشم المشاق في ذلك ، والاستعانة في ذلك بالاتباع . فتح الباري

2ـ فضيلة العلم والرحلة في طلبه وأنه أهم الأمور ، كما فعل موسى . السعدي

3ـ البداءة بالأهم فالأهم ، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم ، والجمع بين الأمرين أكمل . السعدي

4ـ أن ذلك العبد وهو الخضرالذي لقياه ليس نبيا بل عبدا صالحا لأنه وصفه بالعبودية وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم ولم يذكر رسالته ولا نبوته ، ولو كان نبيا لذكر ذلك ، وأما قوله (وما فعلته عن أمري ) فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث ، كما لأم موسى والنحل . السعدي

5ـ أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان : علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده ، وعلم لدّنيّ يهبه الله لمن يمن عليه من عباده . السعدي

6ـ النصوص تدل على أن الخضر ليس برسول ولا نبي إنما هو عبد صالح أعطاه الله كرامات ليبين أن موسى لا يحيط بكل شىء علما ، وأنه يفوته من العلم شىء كثير . ابن عثيمين ... واختار الإمام ابن باز أنه نبي لقوله (وما فعلته عن أمري)

7ـ علم الخضر هو علم الغيب وليس علم نبوة ولكنه علم خاص ، حيث أطلعه الله على معلومات لا يطلع عليها البشر . ابن عثيمين



(قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت رشدا ـ66)

1ـ التأدب مع المعلم وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكِبر الذي لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه ، فالذل للمعلم وإظهار الحاجة إلى تعليمه من أنفع شىء للمتعلم . السعدي

2ـ تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ، فموسى بلا شك أفضل من الخضر ، فعلى هذا لا ينبغي للفقيه المحدث إذا كان قاصرا في أحد العلوم أن لا يتعلمه ممن مهر فيه وإن لم يكن محدثا ولا فقيها . السعدي

3ـ أدب موسى مع الخضر وتواضعه مع أفضليته ! ، وفي هذا دليل أن على طالب العلم أن يتلطف مع شيخه وأستاذه ، وأن يعامله بالإكرام . ابن عثيمين

4ـ كل إنسان أعطاه الله علما ينبغي أن يفرح أن يؤخذ منه هذا العلم ، لأن العلم الذي يؤخذ من الإنسان في حياته ينتفع به بعد وفاته كما ورد في حديث (أو علم ينتفع به ) صحيح مسلم . ابن عثيمين

5ـ إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى ، والإقرار بها وشكره عليها . السعدي

6ـ أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير ، وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارا أو ليس فيه فائدة . السعدي



(قال إنك لن تستطيع معي صبرا ـ 67 ـ وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا ـ68)

1ـ أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم وحسن الثبات على ذلك أنه يفوته من العلم بحسب عدم صبره ، فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه أدرك به كل أمر سعى إليه . السعدي

2ـ أن السبب الكبير لحصول الصبر إحاطة الإنسان علما وخبرة بذلك الأمر الذي أُمر بالصبر عليه ، وإلا فالذي لا يدري غايته وثمرته ليس عنده سبب الصبر . السعدي



(قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ـ 69ـ قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شىء حتى أحدث لك منه ذكرا ـ70ـ)

1ـ الأمر بالتأني والتثبت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشىء حتى يعرف ما يراد منه وما هو مقصود . السعدي

2ـ تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة . السعدي

3ـ أن العزم على فعل الشىء ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : (ستجدني إن شاء الله صابرا) فوطّن نفسه على الصبر ولم يفعل . السعدي

4ـ أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها . السعدي

5ـ فيه توجيه من معلم لمن يتعلم منه ألا يتعجل في الرد على معلمه ، بل ينتظر حتى يحدث له بذلك ذكرا ، وهذا من آداب المتعلم ألا يتعجل في الرد حتى يتبين الأمر . ابن عثيمين



(فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ـ 71)

1ـ جواز ركوب البحر في غير الحالة التي يخاف منها . السعدي

2ـ في قوله (فانطلقا) الفاعل موسى والخضر ، وسكت عن الفتى ، والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه كان تابعا ، لكن لم يكن له تعلق بالمسألة ، فطوي ذكره . ابن عثيمين

3ـ أن موسى كان شديدا قويا في ذات الله ، فهو أنكر على الخضر ، وبين أن فعله ستكون عاقبته الإغراق ، وزاده توبيخا بقوله (لقد جئت شيئا إمرا) . ابن عثيمين



(قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ـ 72 ـ قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ـ73)

1ـ أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ، لا في حق الله ولا في حق العباد . السعدي

2ـ أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها وما سمحت به أنفسهم ، لا أن يكلفهم ما لا يطيقون لأنه مدعاة إلى النفور والسآمة . السعدي

3ـ أن الإنسان ينسى ما سبق ، من شدة وقع ذلك في النفس . ابن عثيمين



(فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا ـ 74 )

1ـ أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها ، فظاهر هذه الأمور أنها من المنكر ، وموسى لا يسعه السكوت عنها في غير هذه الحال التي صحب عليها الخضر ، فاستعجل ، وبادر إلى الحكم ولم يلتفت إلى هذا العارض الذي يوجب عليه الصبر وعدم المبادرة إلى الإنكار . السعدي

2ـ القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير ، ويراعى أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما ، فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شرا منه ، فالخير ببقاء دين أبويه وإيمانهما خير من بقائه دون قتل وعصمته . السعدي

3ـ أن الغلام الصغير تكتب له الحسنات ولا تكتب له السيئات فهو زكي . ابن عثيمين

4ـ عبارة ( لقد جئت شيئا نكرا ) أشد من الأولى لأن خرق السفينة قد يكون به الغرق وقد لا يكون وهذا هو الذي حصل ، فلم تغرق السفينة ، أما قتل النفس فهو منكر حادث ما فيه احتمال . ابن عثيمين

5ـ أن القتل من أكبر الذنوب . السعدي

6ـ أن القتل قصاصا غير منكر لقوله (بغير نفس) . السعدي



(قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ـ 75 ـ قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ـ76)

1ـ شدة لوم الخضر لموسى ، لأنه قال له (ألم أقل لك) ولم يقلها في الأولى ، يعني أن الخطاب ورد عليك ورودا لا خفاء فيه ، ومع ذلك خالفت . ابن عثيمين

2ـ في قول موسى ( فلا تصاحبني ) إشارة إلى أنه يرى أن الخضر أعلى منه منزلة وإلا لقال (فلا أصاحبك) ! . ابن عثيمين



(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجراـ 77ـ)

1ـ القاعدة الكبيرة هي أن عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة أنه يجوز ، ولو بلا إذن ، حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير ، كما في أفعال الخضر . السعدي

2ـ ما أبهمه الله فلا حاجة إلى أن نبحث عن تعيينه . فالقرية لم يعينها الله عزوجل . ابن عثيمين

3ـ عدم الكرم نقص في الإيمان كما في الحديث ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) متفق عليه . ابن عثيمين

4ـ في قول موسى (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) لا شك أنه أسلوب رقيق فيه عرض لطيف . ابن عثيمين



(قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ـ 78)

1ـ أنه ينبغي للصاحب أن لايفارق صاحبه في حالة من الأحوال حتى يعتبه ويعذر منه . السعدي

2ـ أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها ، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة . السعدي



(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباـ 79)

1ـ أن العمل يجوز في البحر كما يجوز في البر . السعدي

2ـ أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ، فأخبر الله أن هؤلاء لهم سفينة . السعدي

3ـ استعمال حسن الأدب مع الله تعالى في الألفاظ ، فالخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه . السعدي



(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ـ80ـ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ـ81)

1ـ الغالب أن الوالد يؤثّر على ولده ، ولكن قد يؤثر الولد على الوالد . ابن عثيمين

2ـ أن الله أراد أن يتفضل عليهما بمن هو أزكى منه في الدين ، وأوصل في صلة الرحم ، ويؤخذ منه أنه يقتل الكافر خوفا من أن ينشر كفره في الناس . ابن عثيمين



(وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ـ 82)

1ـ أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه وفي ذريته . السعدي

2ـ أن خدمة الصالحين أو من يتعلق بهم أفضل من غيرها . السعدي

3ـ استعمال الأدب مع الله في الألفاظ ، فالخضر أضاف الخير إلى الله ( فأراد ربك) . السعدي

4ـ ما فعل الخضر كان بإلهام من الله وتوفيق ، لأنه فوق ما يدركه العقل البشري . ابن عثيمين .

5ـ أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح ليستدل العباد على ألطافه في أقضيته ، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا وهي صلاح دينه كما في قضية الغلام ، أو هي صلاح دنياه كما في قضية السفينة . السعدي .
تتمـــة فوائد قصة موسى مع الخضـر ::
====================


تأملات تربوية من القصة للدكتور عثمان قدري مكانسي :ـ

القصة هذه من بدايتها إلى نهايتها نبع ثرٌّ من المعاني التربوية القرآنية الرائعة . في كل كلمة منحى بديع ولفتة راقية :
- " وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حقباً " إن لموسى هدفاً محدداً يسعى لتحقيقه وهو ..
ا- يريد أن يلقى معلماً يتعلم منه صلاح أمره في دنياه وآخرته .
ب- في مكان محدد يلتقيان فيه .
ج- في وقت ينتظره المعلم فيه .
- وعلى التلميذ أن يسعى إلى المعلم لا أن يسعى المعلم إليه فهذا أكرم للعلم والمعلم والمتعلم فالعلم إن جاء سهل المتناول زهد المتعلم فيه . وأعظم للمعلم في عين المتعلم أن يسعى الأخير إلى الأول ليعرف قدره وقدر ما يحمله ، فيتعلق بهما .
- ونرى الإصرار العجيب على لقاء المعلم والنهل من علمه في قوله : " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً " فهو مصمم على بذل الجهد ليصل إلى مبتغاه – لقاء الأستاذ في المكان المنشود - ولو أمضى عمره يبحث عنه " أو أمضي حقباً " والحقبة أربعون سنة كما قال العلماء ، فما بالك بذكر الجمع " حقباً " ؟! .إنه دليل على الهمة العالية والسعي الحثيث إلى العلم والعلماء . وما يزال العلم بخير مادام طالبوه يطلبونه في مجالسه ويوقرون حامليه ... وهذا نبي كريم موسى على جلال قدره وعلوّ مكانته يسعى إلى الرجل الصالح حين علم أن لديه علماً يُستفاد لم يحزْه موسى " وفوق كل ذي علم عليم " .
- مصاحبة الكبيرِ الصغيرَ فائدة لكليهما فالأول يشرف على تربيته ، ويعلمه الحياة ، ويصوب أخطاءه ، ويسدد خطاه . والثاني يخدمه ، ويعينه على قضاء حوائجه . وقد أفلح موسى في تربية الفتى " يوشع بن نون " إذ بعثه الله تعالى نبيا ً، فقاد مسيرة المؤمنين وحمل لواء الدعوة بعد أستاذه ، وفتح الله على يديه القدس الشريف" !.
- الإنسان ضعيف على الرغم من جلده في كثير من أموره ، ولو كان من أولي العزم . وأول دليل على ذلك أنّ موسى أصر على لقاء الرجل ولو طوى الأرض في سبيل هذا الهدف . لكنه إذ شعر بالجوع بعد السير الطويل واجتياز مكان اللقاء دون أن ينتبها إليه قال لفتاه " آتنا غداءنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً " .
- ولا بد أن نشير هنا إلى الأدب الذي ربّيَ عليه الصغير في التعامل مع الكبير، وإلى آفة النسيان التي ابتلي بها الإنسان للدلالة على ضعفه . فلما استيقظ موسى وسارا بحثاً عن الرجل الصالح نسي الفتى قصة الحوت على غرابتها وعجيب أمرها .
- ومن الأدب أيضاً مع الله تعالى أنْ نسَب الفتى نسيانه أمر الحوت إلى الشيطان ، واعتبر هذا النسيان عيباً. والعيب كله في الشيطان عدو الإنسان . مع أن الله تعالى كان أخبر نبيه موسى أنه سيلقى الرجل الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت . فهو أمر مخطَّط له كي يحدد المكان فلا يخطئه .ً " .
- ومن الأدب التربوي في هذه القصة كذلك أن موسى حين علم بخطئه وخطأِ فتاه لم يشغل نفسه بلوم نفسه أو لوم صاحبه فهناك أمر مهم جداً عليهما تداركه قبل فواته . إنه لقاء الرجل المعلم . فماذا فعلا ؟ إنهما
أ – عادا سريعاً لم يضيعا الوقت ، والدليل على ذلك قوله تعالى : " فارتدا ..." وهذه الكلمة مع الفاء – حرف العطف والترتيب والتعقيب - تدلان على سرعة الحركة والعزم على الوصول بقوة إلى الهدف .
ب- عادا من حيث جاءا ، يستهديان بآثار الخطوات التي مشياها كي لا ينحرفا عن الصخرة " ... على أثارهما قصصاً ..." .
جـ - فكان عاقبة سرعتهما وجَدِّهما أن وصلا إلى الهدف فوراً " فوجدا عبداً من عبادنا ..." .
- بعض صفات المعلم الرباني :
أ- هو عبد من عباد الله تعالى ، والعبودية لله أعلى مراتب الإنسانية ، لأن صلة العبد بربه تسمو به، وتفتح له مغاليق الأمور . وقد ورد عن النبي أن هذا الرجل الصالح هو الخضر ، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله :" إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء " هذا حديث صحيح غريب ، والفروة هنا وجه الأرض . ... قيل : إنه عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي ..
ب- " آتيناه رحمة من عندنا " قيل هي النبوة . وقيل النعمة أيضاً . فهو رحيم . والمعلم الرحيم بتلاميذه يعمل على تعليمهم برفق ، ويتقرب إليهم ، ويتحبب إليهم ليأنسوا إليه فيحبوه ويأخذوا عنه علمه .
جـ- كان علم موسى بظواهر الأحكام ، وعلم الخضر معرفة بواطنها . كما أن العلم اللدني من الله مباشرة ، ليس لأحد من البشر فضل تعليمه .

- من أدب التعلم :
أ- التلطف في الطلب ، فلم يفرض موسى نفسه على الخضر على الرغم أن الله تعالى أخبر الخضر بلقائه ليتعلم منه . إنما تلطف في عرضه بصيغة الاستفهام التي تترك مجالاً للمسؤول أن يتنصل إن أراد .
ب- جعل نفسه تابعاً حين سأله " هل أتبعك .." فالتلميذ تابعٌ أستاذه مسلمٌ إليه قياده ، وهذا أدعى إلى التناغم بينهما .
ت- العلم يرفع صاحبه . وهذا ما أقرّ به موسى للخضر حين عرض عليه أن يتابعه شرط أن يعلمه " على أن تعلمن .. " وهذه التبعية ترفع المتعلم . أما التبعية من ذل أو لعاعة من دنيا يصيبها فسقوط للمتبوع ، وكبر للتابع .
ث- الواقعية في الطلب : فهو لم يطلب منه أن يعلمه كل شيء ، إنما طلب أن يعلمه شيئا مما علمه الله تعالى : " ... مما عُلّمْتَ .. " وهذا تواضع في الطلب فهو لم يكلف أستاذه شططاً ... لقد طلب العلم المفيد الذي تسمح به نفس معلمه .
ج- طلب النفيس من العلم : فالله تعالى علم الخضر علماً لدنياً نفيساً يريد موسى بعضه ، ولم يطلب العلم الدنيوي ، وإن كان مفيداً إنما طلب الهدى والرشاد الذي يبلغه المقام الأعلى في الدنيا والآخرة ، وحدد نوع العلم فقال :" مما علمت رشداً " وضد الرشد الهوى والضلال ، وهذا ما لا نريده .
ح- قوله تعالى " مما عُلّمْت رشداً " تذكير للمعلم أن الله تعالى أنعم عليه بالرشاد والهدى والسداد . ومن شُكْرِ النعم أن يعلّم عبادالله بعضاً مما أكرمه الله به ، فتزداد حظوته عند خالقه ، ويزيده علماً. ومن دل على خير كان له مثل أجر فاعله .
- وقد يشترط المعلم على تلميذه أن لا يستعجل في السؤال عن أمر من الأمور إلى أن
يحين الوقت المناسب لشرحه " قال : "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً " . فقد لا يرغب بالتوضيح حتى يستكمل الأمر . وقد يرى المعلم اختبار
تلميذه في الصبر . وقد يكون المعلم نفسه قليل الكلام . وقد يكون ممن يعتمدون في التعليم على الملاحظة ... ولكل شيخ طريقته ، إن جاريته فيها تعلمت منه ، وإن خالفته فارقك وفارقته .
- لابد أن يخطئ الإنسان فقد خلق من عَجَل ، أي من النقصان فوجب أن يترك له فسحة يستدرك فيها خطأه فقد اتفق النبيان في صحبتهما على أن يرى موسى مايجري دون أن يتدخل مستنكراً أو معلقاً على ما يراه إلى أن يرى الأستاذ رأيه في توضيح بعض الأمور . لكن التلميذ لم يف بالوعد فقال في الأولى " لقد جئت شيئاً إمراً " وشدد النكير في الثانية حين قال : " لقد جئت شيئاً نكراً " وقال في الثالئة معترضاً ومقترحاً" لو شئت لاتخذت عليه أجراً " .
ونبهه أستاذه في الأولى " ألم أقل : إنك لن تستطيع عليه صبراً ؟ " وعاتبه في الثانية بزيادة " لك " في قوله : " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ " وأعلن في الثانية أن الفرصة الممنوحة انتهت فلا بد من الفراق لأنه استنفدها " هذا فراق بيني وبينك " . ولكنه لم يشأ أن يتركه يجهل أسباب الحوادث فأخبره بها " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً "
- زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى : قبل أن يخبره بالأسباب أضاف للفعل تاء التعدية " تستطع " على وزن تفتعل وحين أخبره بها حذف التاء لأن المعنى انتهى " تسطع " على وزن تفعل . وسوف نجد هذا في قصة ذي القرنين " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً " فعلوّ الجدار على صعوبته أسهل من نقبه فحذف التاء مع علو الجدارفي قوله " فما اسطاعوا " وأثبتها في صعوبة النقب " وما استطاعوا " .


تأملات تربوية
--------------------------

1. العجب بالعلم مكمن الخطر. فعلى الإنسان ألاّ يعجب بعلمه أو بظنّ بنفسه وصول المنتهى. ويظهر ذلك في معاتبة الله تعالى لموسى بعد أن سئل عن أعلم الناس فنسب ذلك إلى نفسه، وهو درس لمن وراءه، أن لا يرى في نفسه إعجاباً بعلمه أو فهمه أو تميزه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وما أوتي الإنسان من العلم إلا قليلاً حتى لو كثر.
2. تُلحظ مسألة حب الاستطلاع واضحة جليّة، وتتمثل في ذهاب موسى وتساؤله عن الرجل الأعلم منه، لا لمجرد الرؤية، بل قرن ذلك بنية صحيحة وهي التعلم منه.
3. الحرص على التعلم محمدة مهما بلغ شأو الإنسان العلمي وشأنه المعرفي، وهذا هو نهج الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين والعلماء، فالعلم ميراث النبوة، ورفعة الشأن، وصلاح الأسس، حتى لو استغرق الأمر من الإنسان زمناً طويلا يسعى به لتحقيق مرامه، ونيل أهدافه. ويظهر ذلك في قوله تعالى: ( أو أمضي حقبا ).
4. يتجلى الأدب الجميل .. أدب المتعلم مع المعلم: ( على أن تعلّمني ). وفيه أيضاً فائدة لطيفة، فالمتعلم له أن يبيّن حاله التي سيكون عليها مع معلمه، لينال رضاه عليه، وإقباله لتعليمه. ورغم أنّ المتعلم هنا أرفع قدراً بحكم النبوة والرسالة ( باعتبار نبوة الخضر ) ، إلا أنه يقدم عرضاً للمعلم كي تطيب نفسه بصحبته بشيئين:
أ. (ستجدني إن شاء الله صابراً ). أي صبر على التعلم مع تعليقه الصبر بالمشيئة.
ب. ( لا أعصي لك أمراً ). وفيه تمام الامتثال والطاعة.
5. على المعلم أن ينصح تلميذه غاية النصح، بتبيين حال العلم حتى لا يُدخله فيما لا يطيقه من العلم: ( قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً). مع تبيين السبب فيما يرده عنه أو يمنعه منه. وذلك في تبيين الخضر لموسى : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً).
6. من الأدب التربوي أيضاً ألاّ يتعجل التلميذ بسؤال معلمه حتى ينهي حديثه، فربما عرض الجواب في ثنايا الحديث، وذلك يؤخذ من قوله: (فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً )
7. يُتعلم من القصة المبادرة إلى الإنكار في حال وقوع المنكر، فرغم أنّ موسى قد شرط للخضر ألاّ يسأله، إلا أنه أنكر عليه ما رأى ظاهره المنكر، وقد أنكر ناسياً الشرط في البداية حين خرق السفينة، إلا أنه لم يكن قد نسيه حين قتل الغلام، لكون المنكر عظيماً في نظره. (أخرقتها لتغرق أهلها) ، ( لقد قتَلتَ نفساً زكيّةً بغيرٍ نَفس).
8. للمعلم العتاب حين يخطئ تلميذه أو يجاوز: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لن تستطيعَ معيَ صبراً). وعلى المتعلم الاعتذار: (قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً).
9. يجوز إتلاف بعض الشيء لإصلاح باقيه، أليست قاعدة عظيمة من قوله تعالى: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا).
10. صلاح الأب ممتد الأثر ودائم النفع، إذ في الآية دعوة لأن يبدأ الآباء بتربية أنفسهم قبل تربية أبناءهم، فستكون الثمار يانعة وباقية. (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً). حتى قال بعض المفسرين : أنه الأب السابع للغلامين .

دروس وعبر من القصة للشيخ الدكتور عبدالله القرشي :
-------------------------------

- التعبير بـ: فتى فيه تأديب للسان ، وعدم جرح المشاعر، قال القرطبي : ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي : «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي» فهذا ندب إلى التواضع .
- في قوله لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فيه توطين للنفس على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم ، وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك .
- وفيه كذلك بيان علو همـة موسى وشدة رغبة في الاستزادة مـن العلم
- اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامة والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار؛ هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد . وفي الحديث: إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى وتزودوا (البقرة: 197) .
- في قوله :وما أنسانيه إلا الشيطان فيه جواز إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ، على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره .
- في إيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإيتائه قيل: للتصريح بما في فقده إدخال السرور على موسى مع حصول الجواب .
- العلم اللدني هو علم الوحي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله ، وفي هذا دليل " أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل، وما جاؤوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: وما كنا معذبين حتىٰ نبعث رسولاولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما ... وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره " قاله الشنقيطي .
- أنه قال على أن: تعلمني وهذا إقرار له على نفسه بنقص العلم وعلى أستاذه بالعلم . قاله الرازي . " وهذا بخلاف ما عليه أهل الجفاء والكبر الذين لا يظهرون للمعلم افتقارهم إلى علمه بل يدعون أنه يتعاونون هم وإياه ، بل ربما ظن أحدهم أنه يعلم معلمه ، وهو جاهل جدا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه من أنفع شيء للمتعلم "
- أن السبب الكبير لحصول الصبر إحاطة الإنسان علما وخبرة بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه ، وإلا فالذي لا يدريه ، أو لا يدري غايته ولا نتيجته ولا فائدته وثمرته ليس عند سبب الصبر ، لقوله وكيف تصبر على ما لم تحط به صبرا فجعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر .
- أن المعلم إن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعا وإرشادا إلى الخير. فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم.
- في قول موسى أخرقتها لتغرق أهلها كمال شفقة موسى ، ونصحه للخلق ، فلم يقل لتغرقنا فنسي نفسه ، في الحالة التي لا يلوي فيها أحد على أحد !.

تأملات للشيخ الدكتور عبدالعظيم بدوي :
---------------------------
= مهما علا كعبُ الإنسان في العلم، و ارتفعتْ درجتُه فيه إلا أنَّه سيظل هناك من هو أعلمُ منه ولو في بعض العلوم فإن الله - – قال ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾[يوسف: 76]. فموسى – – على جلالة قدره لمَّا علم أنَّ على وجه الأرض من هو أعلم منه سَأَلَ الوصولَ إليه وخرج إليه وطلب لقاءه ليتعلم منه .
= قال العلماء في طلب موسى – – من الغلام أن يأتي بغدائهما ﴿ آَتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ في ذلك تواضع موسى – – حيث لم يقل: للفتى آتني غدائي، ولم يقل: أحضر لي الطعام وإنما قال: ﴿ آَتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ فيستفاد من ذلك: أنه ينبغي لمن وَّسع الله تعالى عليه واتخذ الخادم في الحضر أو في السفر أنْ يُكرم هذا الخادم وأن يحسن صحبته وأن يطعمه مما يأكل وأن يكسوه مما يكسى، فإن النبي – – أمرنا بذلك، أمر النبي – – بإكرام الخادم وإطعامه وكسوته .










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-25, 13:38   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

قصة قارون


قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:76-83].


قارون
فتح الله عليه أبواب النعيم، وسبل الرزق، وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاء في العيش، وكثرة في المال؛ فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء. طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية. فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة.

فمن هو هذا الغني، ومن يكون ذلك الثري، وما هي قصته، وكيف كانت نهايته؟!!

استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية:

قال الله تعالى: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة[القصص:76].

بدأت القصة بتحديد البطل؛ فبطل القصة: قارون، وحددت قومه من قوم موسى، ويقال ابن عم موسى عليه السلام، وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.

فقارون موجود في زمن نبي من أنبياء الله وهو موسى عليه السلام، وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:

الأمر الأول: أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.

والأمر الثاني: الإشارة إلى أن قرابته لموسى، وصلته به، لم تغن عنه شيئاً من عذاب الله تعالى.

فبغى عليهم فلم يحدد نوع ذلك البغي، وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه. بغى عليهم بالكبر، بغي عليهم باغتصاب أموالهم، بغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، بغى عليهم بالظلم بغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.

وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، آتيناه فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون، ولا بعلمه، ولا بأفضليته، فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.

هو الرزق لا حل لـديك ولا ربط ولا قلم يجـدي عليـك ولا خط

فطير يطوف الأرض شرقاً ومغرباً وآخر يعطى الطيبات ولا يخطو

يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تحمل على ستين بغلاً أغرّ محجلاً.

هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة، رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، بغى على قومه.

المشهد الثاني: مشهد أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ، وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب فإن لله حقاً، وللناس حقاً، وللنفس حقاً، وللزوجة حقاً، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه. ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة، فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقاً لسعادته في الآخرة. وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وعظ بها قارون، فقال تعالى: إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين [القصص:77].

فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟ أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان قال إنما أوتيته على علم عندي.

أوتيته بعلمي، بمهارتي، بقدراتي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافياً في رده، جريئاً في مقولته؛ مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر.

ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته الفاجرة، جاء ذلك قبل تمام الآية، ونهاية القصة، فقال تعالى: أولم يعلم أن الله أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون[القصص:78].

كانت المشاهد الأولى تحكي البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي عن العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.

ثم يجيء بعد ذلك مشهد من مشاهد القصة، وهو المشهد الذي يخرج فيه قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه ويستخف بمشاعرهم، ويبالغ في إيلامهم، فيخرج في منتهى الزينة، وغاية الكبر، ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم، وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية، وأفكار دنيوية.

فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم[القصص:79]. وهنا يتدخل أهل العلم والحكمة مرة أخرى، ويتأنقون في النصيحة، ويجتهدون في الموعظة، قال تعالى: وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون[القصص:80].

فذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فجيب أن يكونوا أعلى نفساً، وأكبر قلباً، ولا يلقاها إلا الصابرون الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا، لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.

ثم يجيء المشهد المرعب في القصة، مشهد الخاتمة المشينة، والمصرع الوخيم، والانتقام العظيم فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [القصص:81].

هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة، واشتدت المحنة. هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره.

يقول : ((بينا رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما، أمر الله فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) [رواه أحمد].

وبعد هذه النهاية الخاسرة، أصبح الذين تمنوا مكان قارون يحمدون الله أن منَّ عليهم ونجاهم من الخسف، قال تعالى: وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون [القصص:82].

ثم تختم القصة بهذا المقطع الجميل الذي يؤكد أن الفوز والفلاح هو في الدار الآخرة وأن الله تعالى يجعل جناتها ونعيمها، وأنسها وسرورها وأنهارها وحورها، لأهل الإيمان والتواضع والتقوى والإحسان، والبعد عن الفساد، قال سبحانه: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين [القصص:83].

بعض الدروس المستفادة من القصة:

1- أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئاً.

2- أن الرزق هو من عند الله تعالى فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.

أما ترى البحر والصياد منتصبٌ لرزقـه ونجـوم الليـل محتبكـه

قد غاص في لُجة والموج يلطمه وعينه لـم تزل فـي كلكل الشبكة

حتى إذا بات مسـروراً بليلتـه بالحوت قد شق سفّود الردى حنكه

شراه منه الذي قـد بات ليلتـه خِلْواً من البرد في خير من البركه

سبحان ربي يعطي ذا ويحرم ذا هـذا يصـيد وهذا يأكـل السمكه

3- عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.

يقول أحد المتكبرين:

أتيه على جن البلاد وإنسـها فلو لم أجـد خلقاً لتهت على نفسـي

أتيه فما أدري من التيه من أنا سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي

4- مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.

5- أن الإسلام يدعو إلى إعمار الأرض والسير في مناكبها، والأخذ بنصيب من الدنيا، ولكن يجعل ذلك كله طريقاً إلى الدار الآخرة، ويحسن الإنسان كما أحسن الله إليه.

6- أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله. فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟!

7- يجب على أهل العلم والخير أن يقوموا بمسؤولية الدعوة وواجب النصيحة.

8- أن الصبر سبب للخير والفلاح، والتوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة.

9- أن العاقبة للمتقين، والفوز للصالحين، والآخرة للمؤمنين المجتهدين المتواضعين.


قارون ...دروس وعبر


لنشرع في شرح الآيات الكريمات، فإنها أقوى تأثيراً، وأقوم قيلاً، يقول تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76]، قال القرطبي : إن قارون كان من قوم موسى، قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا [القصص:60] فبين أن قارون أوتيها، واغتر بها، ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون.

يقول: ولستم أيها المشركون! بأكثر عدداً ومالاًمن قارون وفرعون، فإنه لم ينفع فرعون جنوده وأمواله كما لم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه.

قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى.

وقال ابن إسحاق : كان عم موسى لأب وأم، وقيل: كان ابن خالته.

ونحن نقف مع التنزيل حيث أوقفنا، فليس هناك دليل على ذلك، فنقول: إنه كان من قوم موسى، ولا نجزم بشيء لم يأت في القرآن، ولا صحت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر وصايا ونصائح قوم قارون لقارون

قال القاسمي : إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى [القصص:76] أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان، وقوم موسى: هم جماعته الذين أرسل إليهم وإلى طاغيتهم فرعون.

فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76] أي: بالكبر والاستطالة عليهم؛ لما غلب عليه من الحرص ومحبة الدنيا، ولغروره وتعززه برؤية زينة نفسه، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ [القصص:76] أي: من الأموال المدخرة، مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ [القصص:76] أي: مفاتيح صناديقه على حذف المضاف، ولا ملابسة في ذلك، وقيل: خزائنه.

لَتَنُوءُ [القصص:76] أي: تثقل، بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] أي: الجماعة الكثيرة من الرجال والبغال، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ [القصص:76] أي: بزخارف الدنيا فرحاً يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] لما فيه من إيثار الدنيا على الآخرة والرضا بها عنها والإخلاد إليها، وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.

قال الزمخشري : وذلك أنه لا يصلح للدنيا إلا من رضي بها واطمأن، وأما من قلبه معلق بالآخرة فإنه يحن ويعلم أنه مفارق ما هو فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح، وما أحسن ما قيل:

أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالاً

أي: يعيش في نعيم، ومع ذلك فإنه يوقن بأنه سيفارق هذا النعيم، وهذا يورثه شيء من الغم، فإن الإنسان في زينة في الدنيا وفي راحة، فإذا أيقن بأنه سوف ينتقل من هذه الزينة والراحة، حصل له شيء من الغم، أما في الآخرة يبشر أهل الجنة بدخول الجنة والخلود فيها، فلا يتكدر عيشهم، ولا يخرجون من هذا النعيم.

قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].

قال الرازي ما ملخصه: ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور:

أحدها: قوله تعالى: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] والمراد: ألا يضحك ولا يبطر، ولا يلهيه تمسكه بالدنيا عن أمر الآخرة.

وثانيها: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77] والظاهر: أنه كان مقراً بالآخرة، والمراد: أن يصرف المال في السبل التي تؤدي به إلى الجنة، وأن يسلك طريق التواضع.

ومعلوم أنه ليس كل من يقر بالآخرة يكون من أهل النجاة؛ لأن الإنسان قد يقر بالآخرة ولكنه لا يعمل لها، فهذا لا ينفعه الإقرار.

ثالثها: قوله تعالى: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] فيه عدة أوجه:

الوجه الأول: لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا، فلم يتفرغ للتنعم والالتذاذ، فنهاه الواعظ عن ذلك وقال: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]؛ لأن كثيراً من الناس يجمعون المال، وتجده فعلاً لا يتمتع بالدنيا، مثل كثير من الأطباء الذين يعملون في المستشفيات، فإن الواحد منهم يمتلك عدة عبادات وينشغل بعدة عمليات جراحية، فتجده يشتغل في الدنيا وفي جمع المال، فيومه كله جمع للمال، فمتى يستفيد بهذا المال ويتمتع به؟

فلعل قارون أيضاً كان مستغرق الهم في جمع المال، فلم يجد فرصة للتمتع بهذا المال؛ ولذلك قال له الناصح: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] يعني: تمتع بهذا المال قبل أن تتركه.

الوجه الثاني: لما أمره الواعظ بصرف المال في سبيل الآخرة بين له أنه لا بأس بالتمتع به في الوجوه المباحة، فالإنسان يعمل للآخرة ولكنه لا يحرم نفسه زينة الدنيا، بل يجوز له أن يتمتع بهذه الدنيا في حدود ما أباح الله عز وجل وشرع.

الوجه الثالث: المراد من قول الواعظ: الإنفاق في طاعة الله عز وجل، فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب.

رابعها: قوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77] أمره بالإحسان بالمال، وأمره بالإحسان مطلقاً، فقوله: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77] يعني: من المال، ثم أمره بالإحسان مطلقاً في كل أمر من أموره، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر، فإن الله سبحانه يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] يعني: إذا أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، فإن هذا الشكر يستوجب المزيد من الخير والنعمة.

خامسها: قوله: وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ [القصص:77] والمراد: ما كان عليه من الظلم والبغي، وقيل: إن هذا القائل هو موسى عليه السلام، وقال آخرون: بل هو مؤمن قومه.

ومع كل هذه النصائح أبى قارون أن يقبل، بل زاد كفراً بالنعمة فقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، فلم ينسب الفضل إلى الله عز وجل، بل قال: عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، قيل: كان عنده علم الكيمياء وحصل به هذا المال، أو أن الله عز وجل أعطاه، وهو على علم بأن الله سيعطيه لاستحقاقه هذا المال.

أقوال المفسرين في قوله تعالى (إنما أوتيته على علم عندي)

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أي: أنا لا أفتقر إلى ما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ولمحبته لي، والتقدير: إنما أعطيته لعلم الله في أني أهل له، وهذا كقوله تعالى: فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [الزمر:49].

فالإنسان إذا أعطاه الله نعمة اعتقد أن الله عز وجل أعطاه لأنه يعلم حاله، فأعطاه هذا من باب التكريم.

فقوله: عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أي: على علم من الله بي، كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت:50] أي: أستحقه.

وقد روي عن بعض المفسرين في قوله: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أنه كان عنده علم الكيمياء، وهذا القول ضعيف؛ لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل؛ وقلب الأعيان لا يقدر أحد عليه إلا الله عز وجل.

وقال بعض المفسرين: قارون كان يعرف الاسم الأعظم، فدعا الله به فتمول بسببه، أي: حصل له هذا المال العظيم، وهذا القول ضعيف أيضاً.

والقول الصحيح هو المعنى الأول: على علم عندي؛ ولهذا قال الله تعالى رداً عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78].

فكل من عنده مال ليس معناه: أن الله عز وجل يحبه، وأنه أعطاه هذا المال على علم منه بأنه يستحق هذا المال؛ لأن الله تعالى يقول: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78]؛ أي: قد كان من هو أكثر منه مالاً، وما كان ذلك من محبة منا له، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم؛ ولهذا قال: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78] أي: لكثرة ذنوبهم.

وقال القاسمي : وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]؛ أي: لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال يعتذر عنه، بل متى حق عليهم القول لفسقهم أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر.

إعجاب قوم قارون بزينة قارون وإهلاك الله له

ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، فقال سبحانه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:79-80].

قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين: أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس ومراكب وخدم وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه لما عنده، فلما سمع مقالتهم العلماء وذوو الفهم الصحيح من الزهاد قالوا لهم: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80] أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى.

وهذه الهمة إلى الدار الآخرة عند النظر إلى زهرة الدنيا لا يلقاها إلا من استنار قلبه، وثبت فؤاده؛ لذلك قال تعالى: وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80] يعني: لا يعطى هذا العلم وهذا الفهم، وهذا النظر الثاقب والمعرفة بحقارة الدنيا وقيمة الآخرة إلا الصابرون الذين هداهم الله عز وجل ووفقهم، وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.

قوله تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].

قال الشوكاني : فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81] يقال: خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض حتفاً أي: غاب فيها، والمعنى: أن الله سبحانه غيبه وداره وماله في الأرض، فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [القصص:81] أي: ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه، وما كان هو في نفسه من المنتصرين، أي: من الممتنعين مما نزل به من الخسف.

قوله تعالى: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] قال الزمخشري : قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي مضى، وإنما يراد به: الماضي، فقوله: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:82] أي: في الوقت الماضي وهذه الجملة تحتمل الاستعارة، يعني: كأنه قال: في الماضي القريب كانوا يقولون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79] فعند ذلك حمدوا الله عز وجل، وعرفوا أن الدنيا يبسطها الله عز وجل لمن يشاء من عباده، ولولا أن الله رفق بهم لخسف بهم؛ لأنهم تمنوا ما هو فيه.

وقوله: مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:82] أي: منزلته في الدنيا، قوله: يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ [القصص:82] (وي) مفصولة عن كأن، وهي كلمة تشير إلى الخطأ والتندم، والمعنى: أن القوم قد تنبهوا لخطئهم في تمنيهم وقولهم: لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79] فندموا على هذا التمني، ثم قالوا: وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] أي: ما أشبه الحال بحال الكافرين الذين لا ينالون الفلاح وهو مذهب الخليل وسيبويه فقال كقول القائل:

ويكأن من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر

وحكى الفراء أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت.

وعند الكوفيين: ويك بمعنى: ويلك، والمعنى: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون، فعلى قولهم تصير الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي، كقول عنترة بن شداد :

ويك عنتر أقدم

وقال القاسمي : وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [القصص:82] أي: من شقي وسعيد، ويقدر أي: يقبض، فلا دلالة في البسط على السعادة، ولا في القبض على الشقاوة، بل يفعل سبحانه كلاً من البسط والقدر بمحض مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يقتضي القبض، فالمال لا يدل على الرضا ولا على غضب.

فقد يكون الإنسان تقياً وعنده مال كثير، وقد يكون تقياً فقيراً جداً، وقد يكون فاجراً وليس عنده مال، وقد يكون فاجراً وعنده مال كثير، فالله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولا علاقة في ذلك بالصلاح أو بالمحبة من الله عز للشخص الذي له بسط له في الرزق.

قال تعالى: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا [القصص:82] أي: بعدم إيتائه متمنانا، لَخَسَفَ بِنَا [القصص:82] كما خسف به، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] أي: الكافرون بنعمة الله في صرفها في غير سبيلها، أو المكذبون برسله اغتراراً بدنياهم.

ثم عقب الله عز وجل هذه القصة بالعبرة الظاهرة، وذكر السنة التي لا تبدل والقانون الذي لا يتغير ولا يتحول، فقال: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

فالدنيا أصلاً ليست هدفاً للمؤمن، فهو لا يطلب الدنيا لتعلم العلم، أو للحصول على الشهادات العالية، ولا يطلبها لكي يكون إنساناً مشهوراً، أو غنياً، فهي ليست مقصوده.

فالآخرة هي مقصود المتقين وهدفهم، إذ إن المتقي يريد أن يعلو في الآخرة، سواء ارتفع في الدنيا أو لم يرتفع؛ لذلك يقولون: من أحب أن يذكر في الدنيا لم يذكر، ومن كره أن يذكر في الدنيا ذكر.

قال القرطبي : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83] يعني: الجنة، قال ذلك على جهة التعظيم لها، فكلمة تلك تشير إلى البعيد؛ لقوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] أشار إلى علو منزلة جميع الرسل. فمعنى قوله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83] تلك التي سمعت ذكرها وبلغك وصفها، نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ [القصص:83] أي: رفعة وتكبراً على المؤمنين، وَلا فَسَادًا [القصص:83] أي: عملاً بالمعاصي. قاله ابن جريج ومقاتل . وقال عكرمة ومسلم : الفساد: أخذ المال بغير حق، وقال الكلبي : ضاف إلى غير عبادة الله، وقال يحيى بن سلام : هو قتل الأنبياء والمؤمنين. وعاقبة المتقين قال: الجنة.

وقال ابن كثير : ثم أخبر تعالى أن الدار الآخرة هي دار القرار وهي الدار التي يغتبط من أعطيها، ويعزى من حرمها، إنما هي معدة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، فالعلو: التكبر والفخر والأشر والبطر، والفساد: عمل المعاصي اللازمة والمتعدية من أخذ أموال الناس وإفساد معيشتهم، والإساءة إليهم وعدم النصح لهم، قال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فهذه بعض الفوائد الإيمانية في قصة قارون .

اختلاف أقوال المفسرين في قوله تعالى (وابتغ فيما آتاك الله...)

قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] أي: اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإنه من الواجب على المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي.

ولذلك يقول بعض السلف: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن وذلك لأنه عمل فيها قليلاً وأخذ منها زاده إلى الجنة، وبئست الدار الدنيا كانت للكافر والمنافق؛ وذلك لأنه أضاع فيها لياليه وأخذ منها زاده إلى النار.

وقوله تعالى: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] اختلف تفسيرها، فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملاً صالحاً في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح.

فالكلام على هذا التأويل فيه شدة في الموعظة.

وقال الحسن وقتادة : معناه: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك في عاقبة دنياك.

فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به، وإصلاح الأمر الذي يشتهيه. وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة، قاله ابن عطية .

فهو إن كان من أهل الدنيا والرغبة فيها يبين له الناصح أنه لا يطلب منه أن يترك كل ما في الدنيا، وألا يتمتع بشيء من طيباتها.

قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: أحرز لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وهذا القول يرويه بعض الناس مرفوعاً، أي: منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الواقع: هو من كلام ابن عمر رضي الله عنهما، وأحياناً يضع أناس في الأسانيد، أو يظنون أن شيئاً من كلام السلف وحكمهم هي أحاديث مرفوعة، فينسبونها ظلماًً وزوراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مثال ذلك: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه، هذا من كلام بكر بن عبد الله المزني ، والناس ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن الحسن قال: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ، يسألونك ماذا ينفقون، فالإنسان ينفق الفضل من ماله، وينفق ما يبلغه قدر الكفاية.

وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف.

وقيل: أراد بنصيبه الكفن، وهذا فيه موعظة، كأن المعنى: لا تنس أنك ستترك جميع مالك إلا نصيبك من هذه الدنيا وهو الكفن، ونحو هذا قال الشاعر:

نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط

فالحنوط: الطيب الذي يوضع للميت، وكأنه يقال للإنسان: لن تأخذ من الدنيا إلا الكفن والحنوط.

وقال آخر:

هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن

انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن

والأفضل أن يقول: بغير الزاد والكفن.

قال ابن العربي : وأبدع ما فيه عندي: قول قتادة : ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا.

ذكر قارون في القرآن الكريم والسنة وذم الله له

قال ابن كثير : وقد ذكر الله تعالى فذم قارون في غير ما آية من القرآن، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:23-24].

فقارون كذب بموسى وكذب بالآخرة فهو كافر، كذلك النصارى يكذبون بالآخرة فهم كفار، فليس كل إنسان يقر بالآخرة يكون بذلك محسناً.

وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:39-40].

فالذي خسف الله به الأرض قارون -كما تقدم- والذين أغرقهم الله فرعون وهامان وجنودهما إنهم كانوا خاطئين.

كذلك روى الإمام أحمد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)، انفرد به الإمام أحمد .

ولذلك يقولون: من شغله المال كان مع قارون ، ومن شغله الحكم أو السلطان كان مع فرعون ، ومن شغلته الوزارة كان مع هامان ، ومن شغلته التجارة كان مع أبي بن خلف .

قال الدكتور أحمد جمال العمري : تمثل قصة قارون في القرآن الكريم جانب الطغيان بالمال، والغرور بالعلم، وكيف مآلهما إلى الفناء إذا تطوقت الأهواء، وسيطرت الأطماع، وتحول الإنسان من مجرد مخلوق من مخلوقات الله إلى متجبر متكبر يعلو بنفسه فوق الناس، ويزهو ويتعالى عليهم، وينظر إليهم بمنظار الاستعلاء والاستكبار.

وقد وردت هذه القصة في القرآن على سبيل العظة والعبرة في إثبات أن كل شيء مآله إلى الزوال، وأن الباقي هو وجه الله ذو الجلال والإكرام.

ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: في كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، ويظهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها، فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته، ولا بأي وسيلة نال ما نال من عرض الحياة من مال أو منصب أو جاه، ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.

إن الكثير من أصحاب الأموال يصلون إلى الملك بطرق محرمة، فهم يستبيحون لأنفسهم أشياء حرمها الله عز وجل، إما بتجارات محرمة، أو بالظلم والبغي أو بالنفاق.

قال: فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم حياتهم، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفساً وأكبر قلباً من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد، وهؤلاء هم الذين أوتوا العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم.

قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80].

يقول: ثواب الله خير من هذه الدنيا، وما عند الله خير مما عند قارون ، والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلا الصابرون .. الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون، وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة، درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضا وثقة واطمئنان.










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-25, 16:32   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

قصة اصحاب الجنة

ورد ذكر القصة في سورة القلم . آية ( 17 - 33 ) .
قال الله تعالى:
(( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ))

وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش، فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة، كما قال تعالى:
(( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار ))

القصة:
قال إبن عباس:
إنه كان شيخ كانت له جنة، وكان لا يدخل بيته ثمرة منها ولا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه. فلما قبض الشيخ وورثه بنوه -وكان له خمسة من البنين- فحملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملته من قبل ذلك، فراح الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر, فأشرفوا على ثمرة ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم. فلما نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا، وقال بعضهم لبعض: إن أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله وخرف، فهلموا نتعاهد ونتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئا، حتى نستغني وتكثر أموالنا، ثم نستأنف الصنعة فيما يستقبل من السنين المقبلة. فرضي بذلك منهم أربعة، وسخط الخامس وهو الذي قال تعالى: (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون).

فقال لهم أوسطهم: إتقوا الله وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا، فبطشوا به، فضربوه ضربا مبرحا. فلما أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم، غير طائع، فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله أن يصرموه إذا أصبحوا، ولم يقولوا إن شاء الله.فإبتلاهم الله بذلك الذنب، وحال بينهم وبين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه. [تفسير القمي،ج2،ص381].

إنها سنة إلهية:
ولعل في القصة إشارة إلى أن الله تعالى أجرى نفس السنة على المترفين أو طالهم منه شيء من العذاب في الدنيا. وفي رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر تأكيد لذلك، اذ قال: (إن اهل مكة أبتلوا بالجوع كما أبتلي أصحاب الجنة).

فهذه السنة تنطبق على كل من تشمل الآيات التالية: (ولا تطع كل حلاف مهين* هماز مشاء بنميم* مناع للخير معتد أثيم* عتل بعد ذلك زنيم* أن كان ذا مال وبنين* إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين* سنسمه على الخرطوم) [القلم/ 10-16].

بعد ذلك يقول ربنا عزوجل: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمونها مصبحين ولا يستثنون).

أي إختبرناهم بالثروة بمثل ما إختبرنا أصحاب المزرعة. ومادامت السنن الإلهية في الحياة واحدة، فيجب إذن أن يعتبر الإنسان بالآخرين، سواء المعاصرين له أو الذين سبقوه، وأن يعيش في الحياة كتلميذ، لأنها مدرسة وأحداثها خير معلم لمن أراد وألقى السمع وأعمل الفكر وهو شهيد.

بهذه الهدفية يجب أن نطالع القصص ونقرأ التاريخ. فهذه قصة أصحاب الجنة يعرضها الوحي لتكون أحداثها ودروسها موعظة وعبرة للإنسانية. ومن الملفت للنظر، إن القرآن في عرضه لهذه القصة لا يحدثنا عن الموقع الجغرافي للجنة، هل كانت في اليمن أو في الحبشة، ولا عن مساحتها ونوع الثمرة التي أقسم أصحابها على صرمها.. لأن هذه الأمور ليست بذات أهمية في منهج الوحي، إنما المهم المواقف والمواعظ والأحداث لمعبرة، سواء فصل العرض أو إختصر.

ومكروا ومكر الله:
فأشار القرآن إلى أنهم كيف أقسموا على قطف ثمار مزرعتهم دون إعطاء الفقراء شيئا منها، وتعاهدوا على ذلك. ولكن هل فلحوا في أمرهم؟ كلا.. (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم).

إن الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ما كان ليغفل عن تدبير خلقه، وإجراء سننه في الحياة. فقد أراد أن يجعل آية تهديهم إلى الإيمان به والتسليم لأوامره بالإنفاق على المساكين وإعطاء كل ذي حق حقه.. وأن يعلم الإنسان بأن الجزاء حقيقة واقعية، وإنه نتيجة عمله.

وهكذا يواجه مكر الله مكر الإنسان، فيدعه هباء منثورا، (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين). وإذا إستطاعوا أن يخفوا مكرهم عن المساكين، فهل إستطاعوا أن يخفوه عن عالم الغيب والشهادة؟ كلا.. وقد أرسل الله تعالى طائفة ليثبت لهم هذه الحقيقة:
(فتنادوا مصبحين* أن أغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين* فإنطلقوا وهم يتخافتون* ان لايدخلنها اليوم عليكم مسكين* وغدوا على حرد قادرين* فلما رأوها قالوا إنا لضالون* بل نحن محرومون) [القلم/ 21-27].
في تلك اللحظة الحرجة إهتدوا إلى ان الحرمان الحقيقي ليس قلة المال والجاه، وإنما الحرمان والمسكنة قلة الإيمان والمعرفة بالله. وهكذا أصبح هذا الحادث المريع بمثابة صدمة قوية أيقظتهم من نومة الضلال والحرمان، وصار بداية لرحلة العروج في آفاق التوبة والإنابة، والتي أولها إكتشاف الإنسان خطئه في الحياة.

ومن هنا نهتدي إلى أن من أهم الحكم التي وراء أخذ الله الناس بالبأساء والضراء وألوان من العذاب في الدنيا، هو تصحيح مسيرة الإنسان بإحياء ضميره وإستثارة عقله من خلال ذلك، كما قال ربنا عزوجل: (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون).

قصة تستحق التأمل:
فما أحوجنا أن نتأمل قصة هؤلاء الأخوة الذين إعتبروا بآيات الله، وراجعوا أنفسهم بحثا عن الحقيقة لما رأوا جنتهم وقد أصبحت كالصريم، فنغير من أنفسنا ليغير الله ما نحن فيه. إذ ما أشبه تلك الجنة وقد طاف عليها طائف من الله بحضارتنا التي صرمتها عوامل الإنحطاط وال تخلف ولو أنهم إستمعوا إلى نداء المصلحين لما أبتلوا بتلك النهاية المريعة. وهكذا كل أمة لا تفلح إلا إذا عرفت قيمة المصلحين، فإستمعت إلى نصائحهم، وإستجابت لبلاغهم وإنذارهم.

لهذا الدور تصدى أوسط اصحاب الجنة، فعارضهم في البداية حينما أزمعوا وأجمعوا على الخطيئة، وذكرهم لما أصابهم عذاب الله بالحق، وحملهم كامل المسؤولية، وإستفاد من الصدمة التي أصابتهم في إرشادهم إلى العلاج الناجع.

(قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) من هذا الموقف نهتدي إلى بصيرة هامة ينبغي لطلائع التغيير الحضاري ورجال الإصلاح أن يدركوها ويأخذوا بها في تحركهم إلى ذلك الهدف العظيم، وهي: إن المجتمعات والأمم حينما تضل عن الحق وتتبع النظم البشرية المنحرفة، تصير إلى الحرمان، وتحدث في داخلها هزة عنيفة (صحوة) ذات وجهين، أحدهما القناعة بخطأ المسيرة السابقة، والآخر البحث عن المنهج الصالح. وهذه خير فرصة لهم يعرضوا فيها الرؤى والأفكار الرسالية، ويوجهوا الناس اليها. من هذه الفرصة إستفاد أوسط اصحاب الجنة، بحيث حذر أخوته من أخطائهم، وأرشدهم إلى سبيل الصواب. (قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين* فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون* قالوا ياويلنا إنا كنا طاغين* عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون).

وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى:
((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ))

قيل: هذا مثل مضروب لأهل مكة . وقيل: هم أهل مكة أنفسهم، ضربهم مثلا لأنفسهم. ولا ينافي ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.










رد مع اقتباس
قديم 2015-07-28, 18:00   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

قصة سيدنا موسى من موقع اسلام ويب

الجزء 1
تعد قصة موسى وهارون عليهما السلام وما حدث بينهما وبين فرعون وبين قومهما من بني إسرائيل تعدُّ على رأس القصص التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم؛ حيث ورد الحديث عنها في أكثر من عشرين سورة، تارة بصورة مفصلة، كما هو الحال في سور (البقرة)، و(الأعراف)، و(طه)، و(الشعراء)، و(القصص). وأخرى بصورة مختصرة، كما هو الحال في سور (الروم)، و(الدخان)، و(النازعات) وغيرها.

تكرر ذكر موسى عليه السلام في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يشتد به الأذى، يقول: (رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) متفق عليه.

حاصل القصة

كان موسى عليه السلام واحداً من بني إسرائيل؛ إذ ينتهي نسبه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وقد أرسله سبحانه إلى فرعون وقومه؛ ليدعوهم إلى إخلاص العبادة لله تعالى؛ ولينقذ بني إسرائيل من ظلم فرعون وملئه؛ حيث كانوا يذبحون الأبناء، ويستحيون النساء. وبقي يكرر الدعوة لفرعون وقومه، وينهاهم عن ظلم الناس، لكن من غير فائدة. وكانت نتيجة إصرار فرعون على الكفر والجحود والعناد أن أغرقه الله وقومه، وجعله عبره لمن بعده من الجبابرة.

في سورة القصص أكثر من أربعين آية تحدثت عن الظروف التي ولد خلالها موسى، وعما فعلته أمه بعد مولده، وعن حاله بعد أن بلغ أشده واستوى، وعن هجرته إلى أرض مدين، وعن تشريفه بالنوبة وهو في طريقه من أرض مدين إلى مصر، وعن دعوته فرعون وقومه، إلى إخلاص العبادة لله الواحد القهار.

ولادة موسى وتربيته

وُجد موسى عليه السلام في ظرف كان فيها فرعون مصر قد تمادى في غيه، وعلا في الأرض عتواً وفساداً، وأنزل الخسف بطائفة من رعاياه، هم بنو إسرائيل؛ إذ عاشوا في ظلاله عيشة البلاء، وبينما هم في نكد من العيش، إذ تقدم كاهن من فرعون، وقال له: يولد مولود في بني إسرائيل، يذهب ملكك بيده! فثارت ثائرة فرعون واشتط غضباً، وأخذ يذبِّح الأبناء، ويستبقي النساء أحياء.

كانت أم موسى في تلك الأثناء تجلس في بيتها قلقة خائفة، وهي على وشك أن تضع مولودها، فلما جاءها المخاض، دعت قابلة لتدبر أمر الولادة، فلما وضعت أم موسى حملها، كتمت أمره عن الناس؛ مخافة أن يصيبه ما يُصيب أمثاله من قاتل الأطفال. ثم ألهمها الله أن تضع وليدها في صندوق، وتلقي به في نيل مصر، مسلِّمة أمرها إلى الله، عسى أن يقع في يد بعيدة تحفظه مما يراد به.

وقد طلبت أم موسى من ابنتها أن تتبع أثر أخيها؛ لتنظر ماذا سيكون من أمره. سارت أخت موسى تتتبع أثر أخيها هنا وهناك، وما كان أشد هلعها حينما حُمِل الصندوق إلى فرعون، ولم تكد تقع عين امرأة فرعون على هذا الطفل الوليد الجديد حتى ألقى الله محبته في قلبها، فطلبت من زوجها أن يكون ابناً لها، وبقدر ما فرحت امرأة فرعون بهذا المولود الذي دخل حبه إلى قلبها من غير استئذان، بقدر ما كان قلب أم موسى يكابد الهم ويعتصر إشفاقاً على وليدها، بيد أنها كانت واثقة بحفظ الله له، ورعايته إياه. وأخذت امرأة فرعون تحضر للمولود الجديد مرضعة تقوم بشأنه، بيد أن موسى الرضيع لم يقبل ثدي أي واحدة من المرضعات، ثم هدى الله أخت موسى إلى بيت فرعون، فطلبوا منها أن تأتي بمن يكفله، فجاءت بأمها على أنها مرضعة من المرضعات، فعرضوا عليه ثديها فقبله، فطلبوا منها أن تأخذ الطفل، وتعتني به ريثما يكبر ويشب عن الطوق.

أتمت أم موسى رضاع وليدها، ثم أسلمته إلى القصر الفرعوني، وهناك كبر وأصبح ذا شأن في البلاط، وعندما بلغ موسى تمام الأربعين، أوحى الله إليه بالرسالة، وأمره أن يبلغها إلى فرعون وقومه، واتجهت أنظار المغلوبين والمظلومين إليه؛ ليحميهم مما أثقل كاهلهم من الظلم والآلام.

ثم إن موسى عليه السلام بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى عن الأنظار وغاب. وذات يوم وهو يمشي في شوارع المدينة، إذا برجلين يقتتلان، أحدهما عبري من مشايعيه، والآخر قبطي من قوم فرعون، ويبدو أن القبطي كان هو المعتدي، فطلب العبري من موسى النصرة والحمية، فهمَّ موسى فضرب القبطي، فكانت القاضية، ثم ندم على فعلته، واستغفر ربه على ما كان منه.

واستمر القلق يساور موسى بعد قتله للقبطي، فأصبح يسير في طرقات المدينة خائفاً من مغبة فعله، ومترقباً لما سيؤول إليه الأمر. وبينما هو على هذه الحالة إذا بالشخص العبري يستغيث به مرة أخرى من قبطي آخر، ويطلب منه العون عليه، فما كان من موسى إلا أن قال له، وهو على حالة من الغضب: إنك لضال بيُّن الضلالة، وجاهل واضح الجاهلة؛ لأنك تسببت في قتلي لرجل، ما كان ينبغي أن يُقتل.

وانتشر خبر قتل موسى للقبطي بالمدينة، فأخذ فرعون وقومه في البحث عن موسى عليه السلام؛ لينتقموا منه، في تلك الأثناء جاء رجل مسرعاً، فأخبر موسى أن السلطات الفرعونية، تبحث عنه، وتريد القبض عليه والنيل منه، ونصحه بالخروج من مصر والتوجه إلى مكان آمن، لا تطاله فيه يد البطش ولا تصل إليه قوى العدوان. واستجاب موسى عليه السلام لنصح الرجل، فغادر المدينة تحت جنح الظلام، وأخذ يتضرع إلى الله أن ينجيه من القوم الظالمين، ويحفظه من كيد المعتدين.

توجه موسى تلقاء مدين وزواجه

توجه موسى عليه السلام تلقاء مدينة مدين -منطقة الأردن اليوم- وكان يقيم فيها النبي شعيب عليه السلام، ولم تكن هذه المنطقة داخلة تحت السلطان الفرعوني، ووصل موسى عليه السلام بعد رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر والصعاب إلى أرض مدين، وعند وصوله إلى ذلك البلد، قصد مكاناً يستقي الناس منه، وصادف أن وجد في ذلك المكان فتاتين كانتا تريدان سقاية أغنامهما والتزود بالماء، وكان الطلب على الماء شديداً، والناس يتدافعون للحصول عليه ، بيد أن تلك الفتاتين كانتا تقفان جانباً، تنتظران الوقت المناسب للتزود بالماء، فتقدم منهما موسى عليه السلام، وسألهما عن شأنهما: فأخبرتاه أنهما ليس من عادتهما أن يطلبا الماء حتى ينصرف الناس عنه، ويصبح الماء خالياً من قاصديه، وأخبرتاه أيضاً أنهما لا يليق بهما مزاحمة الرجال على الماء، وليس عندهما من يقوم بهذه المهمة بدلاً عنهما، وأن أباهما رجل كبير لا يقوى على القيام بهذه المهمة الشاقة.

وبعد أن سمع موسى عليه السلام منهما هذه الإجابة سارع إلى معاونتهما، فسقى لهما مواشيهما، ثم تنحى جانباً؛ ليستظل تحت شجرة تقيه حر الشمس الحارقة، وأخذ يناجي ربه طالباً منه المدد والعون والتوفيق والتسديد، وكانت الإجابة سريعة.

لما رجعت الفتاتان سراعاً بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما ومجيئهما سريعاً على غير المألوف من عادتهما، فسألهما عن خبرهما، فقصتا عليه خبر موسى عليه السلام، وأخبرتاه أنه رجل قوي وأمين. فسألهما أبوهما: وكيف علمتما بذلك؟ فأجابته إحداهما: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإنه لما جئتُ معه تقدمت أمامه، فقال لي: كوني من ورائي، فإذا اجتنبتُ الطريق، فاقذفي لي بحصاة، أعلم بها كيف الطريق، فأهتدي إليه. فبعث إحداهما إلى موسى لتدعوه إلى مقابلته، فجاءته إحداهما وهي تمشي على استحياء، وأخبرته أن أباها متشوف لرؤيته والتعرف عليه، ومكافأته على فعله. فلاقت الدعوى قبولاً لدى موسى عليه السلام، فذهب معها للقاء والدها، ولما وصل إلى بيت العجوز والتقى به، وقص عليه ما كان من أمره وقتله القبطي، وخروجه من مصر، قال له الشيخ: لا تخف، فأنت في مأمن وحرز من أن ينال منك أحد.

ثم إن الفتاة طلبت من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام، وعللت طلبها بقوته وأمانته، وأخبرت والدها بأن في استئجاره كفاية لهم من تعب الرعي، ومشقة السقي، فاستجاب الشيخ لاقتراح ابنته، ثم استدعى موسى وأخبره أنه راغب في مصاهرته، وتزويجه أي الفتاتين يرغب، وشرط عليه العمل عنده مدة ثمانية أعوام، وأنه سيعامله المعاملة التي تليق بمكانته، وإن رغب في إتمامها إلى عشر، فذلك فضل منه وكرم. وأبدى موسى موافقته على هذا العرض النبيل.

ومضت السنون التي قضاها موسى عليه السلام أجيراً عند الشيخ الكبير، ووفى كل واحد منهما بما وعد به صاحبه، وتزوج موسى بإحدى الفتاتين، ثم قرر الرجوع إلى مصر، فماذا حدث في طريق العودة؟

الجزء 2عودة موسى إلى مصر

سار موسى بزوجته قاصداً مصر، وفي أثناء رحلته ضل طريقه، وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال، في برد وشتاء، وسحاب وظلام وضباب، وجعل يقدح بزند معه ليشعل ناراً، كما جرت له العادة به، فجعل لا يقدح شيئاً، ولا يخرج منه شرر ولا شيء. فبينا هو كذلك، إذ ظهر له من جانب جبل الطور ناراً، فاستبشر بخير، وأخبر زوجته بما رآى، ولما قصد إلى النار سمع نداء يخاطبه {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} (طه:14). ثم جاءه نداء ثان يطلب منه أن يلقي عصاه التي يستعين بها في سفره، فلما ألقاها انقلبت العصا ثعباناً يتحرك بسرعة، ويضطرب في حركته، فما كان من موسى إلا أن ولى هارباً من هول الموقف، ولم يلتفت إلى شيء. ثم جاءه نداء ثالث يطلب منه أن يعود إلى مكانه الذي فرَّ منه، ويخبره أنه ليس ثمة ما يُخاف، وأنه آمن بأمان الله. ثم جاءه نداء رابع يطلب منه أن يُدْخل يده في ثوبه تخرج بيضاء من غير مرض أو عيب، وطمئنه أن لا خوف عليه ولا فزع، بل هو في حفظ الله وكنفه.

ثم أتاه نداء يخبره أن الله سبحانه زوده بهاتين المعجزتين؛ لتكونا له برهاناً على صدق ما جاء به، ويحاجج بهما فرعون ومن سار على دربه ونهج نهجه. وتضمن النداء أمراً لموسى بالذهاب إلى فرعون، ودعوته للخضوع والإذعان لله رب العالمين. وهنا تذكر موسى ما كان بينه وبين فرعون من عداوة، فقال: {رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون} (القصص:33)، فاستجاب موسى لأمر ربه، واستدعى أخاه هارون طلباً منه مرافقته في سفره، ومن أجل دعوة فرعون إلى الحق؛ وليأمراه بإخلاص العبادة لله.

لما جاء موسى وهارون فرعون، وأبلغاه رسالة ربهما، ما كان من الأخير إلا أن أنكر دعوى موسى وهارون، وأعرض عنهما، بل فعل أكثر من ذلك، فأخبر أتباعه وأنصاره أنه لا إله سواه! وقد قابل قوم فرعون هذا الهراء والهذيان بالسكوت والتسليم، شأن الجهلاء الجبناء.

المحاورات والمناقشات بين موسى عليه السلام وبين فرعون وملئه

قال موسى في رده على فرعون ودعواه: يا فرعون! ربنا وربك الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي أعطى كل مخلوق من المخلوقات، وكل شيء من الأشياء الصورة التي تلائمه، والهيئة التي تتحقق معها منفعته ومصلحته، ثم هداه وظيفته التي خلقه من أجلها، وأمده بالوسائل والملكات التي تحقق هذه الوظيفة.

قال فرعون لموسى مهدداً ومتوعداً: {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا} (طه:57-85) للمباراة والمبارزة، ونتخلف نحن ولا أنت عن هذا الموعد، على أن تكون منازلتنا لك في وسط المدينة، بحيث يستطيع جميع سكانها الحضور؛ ليعاينوا عن قرب نتائج هذا التحدي.

وافق موسى على اقتراح فرعون، واتفق الطرفان على أن يكون الموعد بينهما يوم العيد، حيث يكون الناس في فراغ من العمل، ويكون حضورهم أوفى وأيسر. واستشار فرعون حاشيته، فأشاروا عليه بأن يرسل إلى جميع المدن التي تقع تحت سلطانه أن يرسلوا إليه سحرتهم، وطلب منهم الاستعداد للموعد المحدد لمنازلة موسى، ووعدهم الأجر الجزيل، والعطاء الجميل، والمنزلة الرفيعة، وحُسن الرعاية والعناية، على أن يوافوه في الموعد المحدد، والمكان المقرر.

وأقبل السحرة على وجه السرعة -وهذا شأن الأتباع ومنتهزي الفرص- على فرعون، فقالوا له بلغة المحترف والمستوثق، الذي مقصده الأول والأخير مما يعمله الأجر والعطاء: هل ستكافئنا بالأجر العظيم، والعطاء الوفير إذا غلبنا موسى؟ وهنا يجيبهم فرعون بقوله: نعم، لكم أجر مادي جزيل إذا انتصرتم عليه، وفوق ذلك، فأنتم تكونون بهذا الانتصار من الظافرين بقربي، والمحاطين برعايتي.

اطمأن السحرة على الأجر العظيم، والمنـزلة الموعودة، والمكانة المشهودة. وجاء الموعد واليوم المشهود، ووقف الجميع ينتظرون أمر الطاغية! كان ابتداء الكلام للطاغية، قال مخاطباً موسى: ألست أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا، وغذيناه وكسوناه، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بأن قتلت منا رجلاً، وجحدت نعمتنا عليك؟ قال موسى ردًّا على سؤال الطاغية: أنا لا أنكر أني قد فعلت تلك الفعلة، ولكنني فعلت ما فعلت قبل أن يشرفني الله بوحيه، ويكلفني بحمل رسالته، وفضلاً عن ذلك، فأنا كنت أجهل أن تلك الضربة التي ضربتها لذلك القبطي سوف تؤدي إلى قتله، بل كان قصدي تأديبه، وكفه عن الظلم.

وكان من بين التهم التي وجها الطاغية -وكذلك يفعل كل الطغاة- إلى موسى وأخيه هارون تهمة قديمة جديدة، حاصلها أنهم إنما يمتنعون عن قبول دعوة موسى؛ لأنه في نظرهم إنما جاء بما جاء به طلباً للسيادة عليهم، ونزعاً للسلطان من بين أيديهم.

في ساحة المبارزة قال فرعون بحنق وغضب مخاطباً موسى: لئن اتخذت معبوداً من دوني، لأزجُّن بك في غياهب السجون، وأجعلك عبرة لغيرك، فهذا شأني ومذهبي مع كل من يخالف أمري، ويتمرد على طاعتي.

بيد أن موسى لم يلق بالاً لهذا التهديد والوعيد، بل طلب من فرعون أن يقدم البراهين والأدلة على صحة دعواه، وعلى صواب طريقته. وهنا ألقى السحرة بسحرهم، وقد أخبر عنه القرآن بأنه سحر عظيم، أرهب المجتمعين، وسحر أعينهم، بيد أن هذا السحر وما نتج عنه سرعان ما تهاوى، وانطوى في ومضة، وزالت آثاره بعد أن قذفه موسى بسلاح الحق الذي سلحه به ربه، حيث ألقى موسى عصاه، فإذا هي حية عظيمة، أفزعت الجمع بأسره، وأصابت الهزيمة المنكرة فرعون وملأه، بعد أن أنزل موسى بهم الخذلان والخيبة، ولما رأى سحرة فرعون الأمر كذلك، علموا أن ما جاء به موسى هو الحق، فآمنوا به، وعبروا عن هذا الإيمان بالسجود لله رب العالمين؛ وتحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق أمام صولة الحق الذي لا يجحده إلا مكابر حقود.

غير أن فرعون وملأه لم يرقهم ما شاهدوا من إيمان السحرة، ولم يدركوا -لطمس بصيرتهم- فعل الإيمان في القلوب، فأخذ يتوعدهم بالموت الأليم، ويتهمهم بأن إيمانهم لم يكن عن قناعة، وإنما كان حيلة احتالوا بها على الناس. وقد ضرب السحرة صفحاً عن تهديد فرعون واتهامه، وضربوا للناس في كل زمان ومكان أروع الأمثال في التضحية من أجل العقيدة، وفي الوقوف أمام الطغيان بثبات وعزة، وفي الصبر على المكاره، وفي المسارعة إلى الدخول في الطريق الحق، وفي التعالي عن كل مغريات الحياة.

وهكذا، بعد أن شاهد السحرة الحق يتلألأ أما أبصارهم، لم يملكوا إلا أن ينطقوا به على رؤوس الأشهاد، وتحولوا من قوم يلتمسون الأمر من فرعون، ويطمعون في المال الجزيل، ويرغبون في المنزلة المقربة إلى قوم آخرين، هجروا الدنيا ومغانمها، واستهانوا بالتهديد والوعيد، ونطقوا بكلمة الحق في وجه من كانوا يقسمون بعزته منذ وقت قريب.

ثم إن موسى بعد الانتصار الذي حققه على فرعون وملئه مكث حيناً من الزمن يدعو فرعون وقومه إلى عبادة الله الواحد القهار -وعلى عادة الطغاة والمتجبرين والمتكبرين- لم يجد آذاناً صاغية لدعوته، وتعرض ومن معه من المؤمنين لصنوف من العذاب، إلى أن جاءه الأمر الإلهي بالخروج ومن معه من المؤمنين من مصر إلى بلاد الشام.

خروج موسى من مصر

بعد ما جاء الأمر الإلهي استعد موسى للخروج من مصر، وسار بقومه من بني إسرائيل تلقاء بلاد الشام، ولما علم فرعون بخروج موسى ومن معه، جمع جنوده وأسرع في طلب موسى، وما إن وصلوا إلى شاطئ البحر حتى انفلق البحر أمام موسى ومن معه، وتمهد الطريق أمامه لعبور البحر، فأتبعهم فرعون وجنوده للظفر بهم، بيد أن الله بقدرته العظيمة، وانتقامه لعباده المؤمنين ما إن دخل فرعون البحر حتى انطبق عليهم فأغرقهم أجمعين، ولما أدرك الغرق فرعون أقر بالإلوهية لله تعالى، وجاءه الرد الإلهي سريعاً ومباشراً بأن الوقت قد فات، وأن المصير الذي ينتظره لا مفر منه، وأنه سيكون عبرة لمن بعده من الظالمين والطاغين والمتجبرين والمتكبرين.

بعد أن أغرق الله فرعون ونجا موسى ومن معه من بني إسرائيل، سار موسى بقومه إلى بيت المقدس، وحدث له في طريقه قصة مع قومه ، نعرض لها في موضوع آخر .

الجزء 3

قصة عبادة بني إسرائيل العجل

بعد أن أهلك الله فرعون وجنوده، سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى بيت المقدس، ثم تركهم مستخلفاً عليهم أخاه هارون، وذهب لمناجاة ربه، وفي تلك الأثناء جاءه الخبر الإلهي بما أحدثه قومه في غيبته من عبادة العجل، بعد أن زين لهم ذلك شخص يدعى السامري -نسبة إلى السامرة من مدن فلسطين- وقالوا عندما رأوا العجل الذي صنعه لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه؛ لأن موسى نسي إلهه هنا، وذهب ليبحث عنه في مكان آخر.

وقد نصح هارون عبدة العجل من قومه قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم، فبيَّن لهم أنهم على ضلال مبين بعبادتهم هذا العجل، الذي لا يضر ولا ينفع، وأن المعبود الحق إنما هو الله وحده، وحثهم على العودة واتباع الحق الذي عليه هو وأخوه موسى. بيد أن هذه النصيحة لم تجد آذاناً صاغية، بل قابلت تلك النصيحة بالاستخفاف والاستهزاء، والتصميم على المضي قُدُماً في طريق الضلال.

ولما عاد موسى عليه السلام إلى قومه، عاتب أخاه؛ لأنه لم يتخذ موقفاً حازماً وحاسماً من عبادة القوم العجل، فأخبره هارون أنه لم يقاتلهم جراء فعلتهم؛ مخافة أن تحدث فتنة بينهم، فينقسموا شيعاً وأحزاباً، وآثر أن ينتظر عودة موسى ليتدارك الأمر. وبعد أن انتهى موسى من سماع اعتذار أخيه هارون، وجَّه كلامه إلى قومه، ليعرف السبب وراء عكوفهم على عبادة العجل، فقدموا له معاذير واهية، تدل على بلادة عقولهم، وانتكاس أفكارهم، فذكروا أن عبادتهم العجل كانت أمراً خارجاً عن طاقتهم واختيارهم، وكانت بتسويل السامري، ولولا ذلك -كما ادعوا- لبقوا على العهد والوعد. وتوجَّه موسى عليه السلام مغضباً إلى السامري، وأخذ في زجره وتوبيخه، ثم أمر الناس باجتنابه وعدم الاقتراب منه؛ لأنه مفتر أثيم وشر مستطير. ثم أخذ موسى العجل المصنوع وأتلفه، وألقى ذراته في البحر، وبين لمن كان يعبده أن عبادته جهل ليس بعده جهل، ولا ينبغي لعاقل أن يفعل ذلك. وختم حديثه لهم بأن المعبود الحق إنما هو الله الذي لا إله غيره وسع كل شيء علماً.

قصة السبعين الذين اختارهم موسى

اختار موسى عليه السلام سبعين رجلاً من خيرة قومه للميقات الذي وقَّته الله له، ودعاهم للذهاب معه. وكان هذا الميقات -على الراجح من الأقوال- بعد عبادة بني إسرائيل للعجل في غيبة موسى. ثم إن هؤلاء السبعين المختارين من بني إسرائيل طلبوا من نبيهم موسى ما لا يصح لهم أن يطلبوه، فأخذتهم الرجفة بسبب ذلك. وتوجه موسى عليه السلام إلى ربه قائلاً: يا ربِّ! كنت أتمنى لو سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معي إلى هذا المكان، وأن تهلكني معهم حتى لا أقع في حرج شديد مع بني إسرائيل؛ لأنهم سيقولون لي: قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم. وقد قال موسى عليه السلام هذا القول لاستجلاب العفو من ربه عن هذه الجريمة التي اقترفها قومه، بعد أن منَّ الله تعالى عليهم بالنعم السابقة الوافرة، وأنقذهم من فرعون وقومه. ثم دعا موسى ربه أن ييسر له في هذه الحياة ما يحسن من نعم وطاعة وعافية وتوفيق، وأن يكتب له في الآخرة أيضاً ما يحسن من مغفرة ورحمة وجنة عرضها السموات والأرض.

ثم قال الله تعالى لموسى ردًّا على دعائه: يا موسى! إن عذابي الذي تخشى أن يصيب قومك، أصيب به من أشاء تعذيبه من العصاة والطغاة، فلا يتعين أن يكون قومك محلاً له بعد توبتهم، فقد اقتضت حكمتي أن أجازي الذين أساؤوا بما عملوا وأجازي الذين أحسنوا بالحسنى. فلا خوف على قومك، ولا على غيرهم من خلقي ممن هم أهل له.

قصة موسى والقوم الجبارين

بعد أن أغرق الله فرعون ونجَّا موسى ومن معه من بني إسرائيل، سار موسى بقومه إلى بيت المقدس، وما إن جاوزوا البحر حتى وقعت أبصارهم على قوم يعبدون الأصنام، فعاودتهم طبيعتهم الوثنية، فطلبوا من موسى أن يصنع لهم آلهة. وهنا غضب عليهم موسى غضباً شديداً، ووصفهم بأنهم قوم يجهلون الحق، وبيَّن لهم فساد ما عليه المشركون، وذكَّرهم بما حباهم الله به من نعم جزيلة، توجب عليهم إفراده بالخضوع لأمره، والتسليم لمشيئته. ثم مضى موسى يستنكر عليهم هذا الطلب، ويبين لهم أن الله وحده هو المستحق للعبادة، وذكَّرهم بنعمة الإنجاء من العذاب الأليم والتنكيل المهين.

في تلك الأثناء أوحى الله تعالى لموسى أن يختار من قومه اثني عشر رجلاً من أشرف من معه، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة؛ ليستطلعوا أحوال سكانها؛ وليعرفوا شيئاً من أخبارها. ونفذ موسى أمر ربه، وأرسل المختارين من قومه إلى الأرض المقدسة. فلما دخل النقباء الأرض المقدسة، واطلعوا على أحوال سكانها، وجدوا منهم قوة عظيمة، وأجساماً ضخمة، فعاد النقباء إلى موسى، وقالوا له: قد جئنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها، فإذا هي في الحقيقة تدر لبناً وعسلاً، غير أن ساكينيها قوم أقوياء، ومدينتهم محصنة تحصيناً قويًّا، وأخذ كل نقيب من النقباء ينهى سبطه عن القتال، إلا اثنين منهم، فإنهما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى وبقتال الكنعانيين معه، ولكن بني إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين، وأطاعوا أمر بقية النقباء، وأصروا على عدم الجهاد، ورفعوا أصواتهم بالبكاء، وقالوا: يا ليتنا متنا في مصر، أو في هذه البرية!

وأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان، وأن يحملهم على قتال الجبارين، ولكنهم صموا آذانهم عن أمره، وأعرضوا عنه. ثم إن الرجلين المؤمنين، استنكرا إحجام قومهم عن الجهاد، وحرضاهم على طاعة نبيهم، ودعيا قومهما بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب، وأن يعقدوا العزم على مبادرة أعدائهم بالقتال. غير أن هذه النصيحة من هذين الرجلين المؤمنين، لم تصادف من بني إسرائيل قلوباً واعية، ولا آذاناً صاغية، بل قابلوها بالتمرد والعناد، وكرروا لنبيهم موسى عليه السلام نفيهم القاطع للإقدام على دخول الأرض المقدسة، ما دام الجبارون مقيمين فيها؛ وتذرعوا بأنه لا طاقة لهم على مواجهتهم؛ لأنهم قوم أقوياء أشداء. وأخبروا موسى أنه إذا كان دخول هذه الأرض أمر يهمه، فإن عليه أن يذهب وربه لقتال سكانها الجبابرة، وإخراجهم منها. أما هم فإنهم قاعدون في مكانهم، لن يغادروه؛ لأن قتال الجبابرة لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد!

وعندما رأى موسى من قومه ما رأى من عناد وجبن، لجأ إلى ربه يشكو إليه أمرهم، ويلتمس منه أن يفرق بينه وبينهم؛ لأنهم ليسوا أهلاً لصحبته واتباعه، ثم قال مخاطباً ربه: لقد علمت يا إلهي أني لا أملك لنصرة دينك إلا أمر نفسي وأمر أخي، أما قومي فقد خرجوا عن طاعتي، وفسقوا عن أمرك، وما دام هذا شأنهم، فافصل بيننا وبينهم بقضائك العادل، فإنك أنت الحكم العدل بين العباد، وأنت أحكم الحاكمين. وأجاب سبحانه دعاء نبيه موسى عليه السلام، فأخبره أن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة، يسيرون خلالها في الصحراء تائهين حيارى، لا يستقيم لهم أمر، ولا يستقر لهم قرار، فإن هذا جزاء كل من يعصي أمر الله، ولا يلتزم حدود شرعه. وكان لموسى خبر آخر نقف عليه فيما سيأتي من مواضيع .












رد مع اقتباس
قديم 2015-07-28, 18:06   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

[FONT="Amiri"]القصة العاشرة قصة سيدنا موسى 2
مواعدة موسى
كان موسى عليه السلام مشوقاً للحديث مع خالقه عز وجل والنظر إليه ، وقد أمره سبحانه أن ينقطع لمناجاته أربعين ليلة؛ تمهيداً لإعطائه التوراة؛ لتكون هداية ونوراً له ولقومه. وقبل أن ينقطع موسى لمناجاة ربه طلب من أخيه هارون أن يخلفه في قومه، وأن يراقبهم فيما يأتون وما يذرون؛ لضعف إيمانهم، واستيلاء الشهوات والأهواء عليهم. ويبدو أن موسى عليه السلام كان متوقعاً شراً من قومه، ولقد صح ما توقعه، فإنهم بعد أن فارقهم استغلوا جانب اللين في هارون، فعبدوا عجلاً جسداً له خوار، صنعه لهم رجل يقال له: السامري.

ولما وصل موسى إلى الميقات الذي حدده له ربه، خاطبه سبحانه من غير واسطة مَلَك، ثم التمس موسى من ربه أن يراه، فأخبره سبحانه أن رؤيته في الدنيا خارجة عن طوق أحد من البشر، وطلب منه سبحانه أن ينظر إلى الجبل، الذي هو أقوى من أي أحد من البشر، فإن استقر مكانه حين يتجلى له، ولا يتفتت من هذا التجلي، فسوف يتمكن من رؤيته سبحانه، وإن لم يستقر الجبل مكانه، بل تزعزع واضطرب، فإن رؤيته سبحانه غير ممكنة في الدنيا .

وحين تجلى سبحانه للجبل على الوجه اللائق بجلاله، لم يثبت الجبل أمام عظمته سبحانه، بل تفتت وسحق، فلما رأى ذلك موسى علم أن لا طاقة له برؤيته سبحانه، وسقط من هول ما رأى مغشياً عليه، كمن أخذته الصاعقة. وعندما أفاق موسى من غشيته، وعاد إلى حالته الأولى، توجه مخاطباً المولى عز وجل: إني أنزه جلالك أن تشبه أحداً من خلقك في شيء، وإني قد تبت إليك من أن أسألك شيئاً خارجاً عن طاقتي، وأنا مؤمن كل الإيمان بعظمتك وقدرتك، وأنه لا قدرة لأحد من البشر أن يراك في هذه الحياة الدنيا.

ثم أخبر سبحانه موسى عليه السلام أنه اصطفاه على الناس الموجودين في زمانه، وأخبره أن من جملة هذا الاصطفاء أنه أنزل إليه التوراة فيها هدى ونور، وأنه كلَّمه بغير واسطة أحد. وأخبره أن يأخذ ما أعطاه من شرف النبوة والمناجاة، وأن يشكر الله على ما أنعمه عليه من نِعم لا تعدُّ ولا تحصى.

وبيَّن سبحانه لموسى أنه ضمَّن التوراة من الأحكام كل شيء يحتاج إليه من أُرسل إليهم، من الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح؛ ليكون ذلك موعظة لقومه، وطلب منه أن يعمل بما جاء فيها بكل عزم وحزم؛ لأنه أُرسل إلى قوم طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وضعفت عزائمهم، وانحرفت نفوسهم، فإذا لم يكن المتولي لإرشادهم وإلى ما فيه هدايتهم ذا قوة وصبر ويقين، فإنه قد يعجز عن تربيتهم، ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم. وختم سبحانه خطابه لموسى بإنذار من يخالف أمره، ويعرض عن هديه، بأن عاقبته أليمة، وحسابه عسير.

قصة موسى وبقرة بني إسرائيل

كان في بني إسرائيل رجل غني، وله ابن عمٍّ فقير لا وارث له، فلما طال عليه موته، قتله؛ ليرثه، وحمله إلى قرية أخرى، فألقاه فيها: ثم أخذ يطلب ثأره، وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل، فسألهم موسى، فجحدوا، فسألوه أن يدعو الله؛ ليبين لهم بدعائه القاتل الحقيقي، فدعا موسى ربه، فأوحى الله تعالى إليه أن يطلب منهم أن يذبحوا بقرة. وقد أمرهم الله تعالى بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات؛ لأنها من جنس ما عبدوه، وهو العجل.

فكان رد القوم على هذا الطلب أن قالوا: أتهزأ بنا، وتسخر منا؟ فأجابهم موسى: إني لا أهزأ بكم، ولا أسخر منكم، فليس هذا من شأني، ولا هو من خُلقي، فلما رأى القوم أنه جاد فيما يقول، طلبوا منه أن يبين لهم حال البقرة التي يُراد ذبحها، فأخبرهم موسى بأن المطلوب أن تكون معتدلة السن، ليست بالصغيرة ولا بالكبيرة. ومع ذلك فقد أبى القوم إلا التنطع في الطب والاستقصاء في السؤال، فأخذوا يسألون عن لونها بعد أن عرفوا سنَّها، فأجابهم موسى بقوله: إن البقرة التي أمركم الله بذبحها صفراء شديدة الصفرة، تُعجب في هيئتها ومنظرها وحسن شكلها الناظرين إليها.

بيد أن هذا الأوصاف التي سألوا عنها لم تغنهم من الحق شيئاً، وأخذوا يسألون عما هم في غنى عنه، فطلبوا من موسى أن يسأل ربه؛ ليزيدهم إيضاحاً لحال البقرة التي أمروا بذبحها، فأجابهم موسى أن من صفاتها أن تكون سائمة، ليست مذللة بالعمل في الحراثة، ولا في السقي، وأن تكون سليمة من كل عيب، ليس فيها لون يخالف لونها. فلما وجدوا أن جميع صفاتها ومميزاتها قد اكتملت، أقروا أن الأمر قد أصبح واضحاً لديهم، وأحضروا البقرة المستوفية لتلك المواصفات فذبحوها. ثم إن موسى أمرهم أن يضربوا القتيل بأي جزء من أجزاء البقرة، فضربوه، فعادت إليه الحياة -بإذن الله- وأخبر عن قاتله.

ورغم عِظَم هذه المعجزة التي تزلزل المشاعر، وتهز القلوب، وتبعث الإيمان في النفوس، إلا أنها لم تؤثر في قلوب بني إسرائيل الصلدة؛ لأنها قد طرأ عليهم بعد رؤيتها ما أزال آثارها من قلوبهم، ومحا الاعتبار بها من عقولهم.

قصة موسى والخضر

قصَّ علينا القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام والخضر، وقد ثبت في السنة أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل ، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه، فقال له: بل لي عبد بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال: أي رب! ومن لي به، قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت، فهو ثَمَّ، فأخذ حوتاً، فجعله في مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما، فرقد موسى ، واضطرب الحوت، فخرج فسقط في البحر. فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما، حتى إذا كان من الغد، أدرك موسى التعب والجوع، فطلب من مرافقه أن يحضر له الطعام، فأخبره المرافق أنه قد نسي الحوت عند الصخرة، فرجعا يتبعان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم موسى فردَّ عليه، فقال: وأنى بأرضك السلام! قال: أنا موسى! قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمك الله، قال: يا موسى! إني على علم من علم الله، علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه، قال موسى للخضر: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله؟ فأجابه الخضر: ليس لك القدرة على مرافقتي والأخذ عني، ثم أخبره موسى أن لديه القدرة على تحمل طلب العلم، والصبر على ملازمة العلماء.

فانطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فعرضوا عليهم أن يحملوهما، فعرفوا العبد الصالح، فحملوه بغير أجر، فلما ركبا في السفينة، جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر: يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. ثم أخذ الخضر فأساً، فنزع لوحاً من السفينة، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير أجر، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها؛ لتغرق أهلها، إن هذا لأمر منكر. فقال الخضر: ألم أخبرك يا موسى أنك لا تقدر على متابعتي والأخذ عني، فاعتذر موسى إليه، وأخبره أنه قد نسي ما وصاه به قبل أن ينطلقا معاً.

فلما خرجا من البحر، مروا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده، كأنه يقطف شيئاً، فأنكر موسى فعل الخضر، واعترض عليه بقوله: كيف تقتل نفساً لم ترتكب إثماً؟ فردَّ عليه الخضر: لقد أخبرتك في بادئ الأمر أنك غير قادر على متابعتي والأخذ عني. وهنا اعتذر موسى إليه ثانية، ووعده أنه لن يكرر عليه الاعتراض ثانية، وإن هو فعل واعترض، فإنه في حلٍّ من الأمر.

ثم إن موسى والخضر تابعا مسيرهما، فمرا على قرية، وكان الجوع قد أخذ منهما كل مأخذ- فسألوا أهل القرية الضيافة، فأبوا أن يقدموا لهما شيئاً من الطعام، في تلك الأثناء رأى الخضر جداراً مائلاً على وشك السقوط، فعمد إلى إصلاحه وإسناده بالدعائم؛ ليمنع سقوطه، ولم يطلب الخضر من أهل القرية أجراً على عمله، فاستغرب موسى لهذا الموقف، كيف يقوم الخضر بهذا الفعل، مع أن القوم لم يقدموا لهم شيئاً يدفع عنهم غائلة الجوع؟ ثم توجه إلى الخضر وخاطبه بقوله: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم فأقمته، كيف يكون هذا؟ ألم يكن من العدل أن تطلب أجراً على عملك هذا، أو على الأقل أن تطلب طعاماً مقابل ما قمت به من عمل جميل؟ فأجاب الخضر موسى: لقد آن لنا أن نفترق بعد كل الذي حصل، لقد أثبتت الأحداث والوقائع أنك غير قادر على متابعتي وملازمتي، وعلى الرغم من هذا فسوف أخبرك بحقيقة ما فعلت.

ثم أخذ الخضر يقص على موسى الحِكَم والعِبَر من كل ما فعله، فأخبره أن السفينة كانت ملكاً لأناس فقراء، يتعيشون عليها، وكان من عادة قراصنة البحر أنهم كانوا يأخذون كل سفينة صالحة لا عيب فيها، ويتركون كل سفينة فيها عيب أو عطب، فعمد إلى خرقها وإحداث عيب فيها؛ منعاً لأولئك القراصنة من مصادرتها واغتصابها.

أما الغلام فكان أبواه مؤمنين، وكان هو كافراً، وكان يُخشى عليهما منه، فقتله منعاً من أن يفتنا أبويه، ويردهما عن إيمانهما بالله، فإن العاطفة الأبوية قد تجر أحياناً إلى ما لا يحمد عقباه، وقد تدفع المؤمن إلى ترك إيمانه؛ انجراراً وراء تلك العاطفة.

أما إقامة الجدار الذي أشرف على السقوط والتهاوي، فقد كان مخبوءاً تحته كنز لغلامين، ولو سقط الجدار قبل أن يبلغ الغلمان لذهب ذلك الكنز؛ إذ ليس لهما القدرة على الدفاع عن حقوقهما، فكان الغرض من إقامته رعاية حق هذين الغلامين اليتيمين في هذا المال؛ إكراماً لأبيهما الصالح.

وقد ورد بخصوص قصة موسى والخضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وددنا أن موسى كان صبر، فقص الله علينا من خبرهما) متفق عليه.

تعقيبات على القصة

وردت في قصة موسى بعض الآيات التي تحتاج لتوضيح معناها، ودفع ما يتوهم مما هو خلاف المراد منها. وها نحن نقف عليها، ونذكر ما يتعلق بها من أقوال وتوجيهات:

قوله تعالى: {وأبونا شيخ كبير} (القصص:23)

وردت هذه الآية في سياق الحديث عن موسى عند ذهابه إلى مدين والتقائه بالمرأتين، اللتين كانتا تتزودان بالماء. وقد اختلف المفسرون في هذا الشيخ: من هو؟ على أقوال: أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أُرسل إلى أهل مدين. وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين، وقد قاله الحسن البصري وغير واحد، ورواه ابن أبي حاتم.

وقال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة؛ لأنه قال لقومه: {وما قوم لوط منكم ببعيد} (هود:95)، وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد عُلِم أنه كان بين موسى و الخليل عليهما السلام مدة طويلة، تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد. قال ابن كثير: "من المقوي كونه ليس ب شعيب، أنه لو كان إياه لأوشك أن يُنَصَّ على اسمه في القرآن ها هنا. وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده. ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه: "ثبرون". وقد نقل ابن كثير أقوالاً أُخر في المراد من هذا الشيخ، ثم عقب عليها بقوله: "الصواب أن هذا لا يُدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك". وما ذكره ابن كثير يفيد أن ما ذهب إليه كثير من المفسرين من كونه شعيباً غير مُسَلَّم به؛ لأن هذا لا يُعرف إلا بنص، ولا نص فيه.

قوله تعالى: {هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} (الزخرف:52)

هذا القول قاله فرعون كذباً وافتراء، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد، وهو ينظر إلى موسى عليه السلام، بعين كافرة شقية، وقد كان موسى عليه السلام، من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الأبصار والألباب. وقوله: {ولا يكاد يبين} افتراء أيضاً؛ فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة، فقد سأل الله عز وجل أن يحل عقدة من لسانه؛ ليفقهوا قوله، وقد استجاب الله له في ذلك في قوله: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى} (طه:26)، وبتقدير أن يكون قد بقى شيء لم يسأل إزالته -كما قاله الحسن البصري- وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام، فالأشياء الخَلْقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها، ولا يذم عليها، و فرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا، وإنما أراد الترويج على رعيته، فإنهم كانوا جهلة أغبياء.

قوله تعالى: {واشدد على قلوبهم} (يونس:88)

هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام؛ غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه، بعد أن تبين له أنه لا خير فيهم، كما دعا نوح عليه السلام، فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} (نوح:26-27)؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة، التي أمَّن عليها أخوه هارون، فقال تعالى: {قد أجيبت دعوتكما} (يونس:89).

قوله تعالى: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} (يونس:91)

هذا الذي حكاه الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك من أسرار الغيب، التي أعلم الله بها رسوله، وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قال فرعون: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} قال: قال لي جبريل: يا محمد! لو رأيتني، وقد أخذت حالاَ من حال البحر -أي: طيناً أسود من طين البحر-، فدسسته في فيه؛ مخافة أن تناله الرحمة". وقد رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

قوله تعالى: {قوما جبارين} (المائدة:22)

ذكر كثير من المفسرين ها هنا أخباراً من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء القوم الجبارين، وأنه كان فيهم عوج بن عنق بن آدم عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع! وهذا شيء عجيب غريب، يُستحَى من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى خلق آدم وطوله ستون ذراعاً، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن)، متفق عليه.

وقد ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب السفينة، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته، وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} (نوح:26)، وقال تعالى: {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين} (الشعراء:119-120)، وقال تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود:43)، وإذا كان ابن نوح الكافر غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، وهو كافر وولد زنية؟! هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له: "عوج بن عنق" نظر.

قال الآلوسي بعد أن حكى ما قيل من صفات هؤلاء القوم الجبارين: "وهي عندي حديث خرافة".

قوله تعالى: {اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم} (غافر:25)

قد يُفهم أن المراد من هذه الآية ما جاء في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم} (القصص:4)، إلا أن الصحيح غير ذلك، كما قال الرازي: "أن هذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام؛ لأن في ذلك الوقت أخبره المنجمون بولادة عدو له يظهر عليه، فأمر بقتل الأولاد في ذلك الوقت، وأما في هذا الوقت ف موسى عليه السلام قد جاءه، وأظهر المعجزات الظاهرة، فعند هذا أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه؛ لئلا يُنشَّؤوا على دين موسى، فيقوى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات، فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء".

قوله تعالى: {فقبضت قبضة من أثر الرسول} (طه:96)

ذهب عامة المفسرين إلى أن المراد بـ {الرسول} في الآية جبريل عليه السلام، وأراد بـ (أثره) التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. غير أن بعض أهل العلم قال: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون؛ والظاهر أن يكون المراد بـ {الرسول} موسى عليه السلام، وبـ (أثره) سنته وهديه الذي أمر به، يقال: فلان يقفو أثر فلان، ويقبض أثره: إذا كان يمتثل طريقته. وتقدير الكلام -بحسب هذا القول- أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في عبادة العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به، أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت أخذت شيئاً من سنتك ودينك، فطرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. قال الرازي: "واعلم أن هذا القول ليس فيه إلا مخالفة المفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق؛ لوجوه...". ثم ذكر أربعة وجوه تعضد هذا القول. وبحسب هذا القول، يكون المراد بـ {الرسول} موسى عليه السلام، ويكون المراد بـ (أثره) دينه وسنته وعلمه. وهذا القول أقرب لظاهر القرآن، إذا استبعدنا الروايات التي ذكرها المفسرون، ولا حرج في استبعدها؛ لأنها عارية من السند الصحيح، والأغلب أنها من الإسرائيليات.

قوله تعالى: {فأرسله معي ردءا يصدقني} (القصص:34)

قد يقال هنا: ما الفائدة في تصديق هارون لأخيه موسى؟ أجاب الزمخشري عن هذا السؤال بما حاصله: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، بل المراد أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل صاحب المنطق والبيان، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني} (القصص:34)، وفضل الفصاحة إنما يُحتاج إليه لذلك، لا لقوله: صدقت، فإن هذا القول يستوي فيه صاحب البيان وغيره.
قوله سبحانه: {قال رب إني أخاف أن يكذبون} (الشعراء:12)

شكا موسى إلى ربه خوفه من تكذيب قوم فرعون له، وضيق صدره من طغيانهم، وخشيته من قتلهم له عندما يرونه...وليس هذا من باب الامتناع عن أداء الرسالة، أو الاعتذار عن تبليغها، وإنما هو من باب طلب العون من الله تعالى، والاستعانة به سبحانه على تحمل هذا الأمر، والتماس الإذن منه في إرسال هارون معه؛ ليكون له عوناً في مهمته، وليخلفه في تبليغ رسالة ربه في حال قتلهم له.

قوله تعالى: {حية تسعى} (طه:20)

ورد في سياق قصة موسى عليه السلام وَصْفُ عصاه بعد إلقائها مرة بأنها {حية تسعى} (طه:20)، وأخرى بأنها {ثعبان مبين} (الأعراف:107)، وثالثة بأنها {تهتز كأنها جان} (النمل:10)، قد يبدو أن ثمة تناقضاً بين هذه الأوصاف، والواقع أنه لا تنافي بينها؛ لأن (الحية) اسم جنس، يطلق على الصغير والكبير، والذكر والأنثى. و(الثعبان) هو العظيم منها. و(الجان) هو الحية الصغيرة الجسم السريعة الحركة. وقد ذكر بعض المفسرين روايات عن ضخامة هذا (الثعبان) وأحواله، وهي روايات ضعيفة، لا يعول عليها، ولا ينبني على معرفتها فائدة.

قوله تعالى: {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم} (الشعراء:38)

اختلف المفسرون في عدد هؤلاء السحرة، فقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحراً، وقيل كانوا أكثر من ذلك بكثير. وهذا الاختلاف ليس بذي شأن، ولا ينبغي إطالة الوقوف عنده.

قوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا} (الأعراف:143)

اختلفت روايات المفسرين في سبب هذا الميقات وزمانه؛ فمنهم من يرى أنه الميقات الكلامي الذي كلم الله فيه موسى تكليماً، فقد كان معه سبعون رجلاً من شيوخ بني إسرائيل ينتظرونه في مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة، فلما تمت مناجاة موسى لربه، طلبوا منه أن يكلموا الله تعالى كما كلمه موسى، وأن يروه جهرة، فأخذتهم الصاعقة، وكان ذلك قبل أن يُخبر الله تعالى موسى أن قومه قد عبدوا العجل في غيبته.

والذي عليه المحققون من المفسرين، والسياق القرآني يؤيده أن هذا الميقات الذي جاء في هذه الآية غير الميقات الأول، وأنه بعد عبادة بني إسرائيل للعجل في غيبة موسى، وأن الله أخبر موسى بذلك عند ذهابه لتلقي التوراة، فرجع موسى إليهم مسرعاً، ووبخهم على صنيعهم، وأحرق العجل، وأمره تعالى بعد ذلك أن يأتيه مع جماعة من بني إسرائيل؛ ليتوبوا إليه من عبادة العجل، فاختار موسى هؤلاء السبعين.

ثم إن هؤلاء السبعين المختارين من بني إسرائيل طلبوا من نبيهم موسى ما لا يصح لهم أن يطلبوه، فأخذتهم الرجفة بسبب ذلك، أو بسبب أنهم عندما عبد بنو إسرائيل العجل في غيبة موسى، لم ينهوهم عن المنكر الذي فعلوه، ولم يأمروهم بالمعروف.

عبر وعظات من قصة سيدنا موسى تضمنت قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم في أحداثها المختلفة ووقائعها المتعددة جملة من الدروس والعبر والعظات، نقف عليها فيما يلي:

أولاً: قصة موسى عليه السلام -وكذلك قصص غيره من الأنبياء- تدعو كل مسلم في كل زمان ومكان إلى المداومة على ذكر الله تعالى في كل موطن بقوة لا ضعف معها، وبعزيمة لا فتور فيها.

ثانياً: أن الله سبحانه إذا أراد أمراً هيَّأ أسبابه، ويسر له وسائله، وأن رعايته إذا أحاطت بعبد من عباده صانته من كل أعدائه، مهما بلغ مكر هؤلاء الأعداء وبطشهم. فرعاية الله لموسى جعلته يعيش بين قوى الشر والطغيان آمناً مطمئناً.

ثالثاً: أن الأخيار من الناس هم الذين في شتى مراحل حياتهم يقفون إلى جانب المظلوم بالتأييد والعون، ويقفون في وجه الظالم حتى ينتهي عن ظلمه، وينهضون لمساعدة كل محتاج، وهم الذين يقفون إلى جانب الحق والعدل ومكارم الأخلاق في كل المواطن، وأمام جميع الأحداث.

رابعاً: أن الحق لن يَعْدَم له أنصاراً، حتى ولو كثر عدد المبطلين -المثال هنا مؤمن آل فرعون - وأن سنة الله أن لا يهدي إلى الحق والصواب من كان مسرفاً في أموره، متجاوزاً الحدود التي شرعها الله، ومن كان كذاباً في إخباره عن الله سبحانه.

خامساً: أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ضحى الإنسان في سبيله بكل شيء، وأثر الإيمان عندما تخالط بشاشته القلوب الواعية يصنع المعجزات؛ فقد قال سحرة آل فرعون لفرعون عندما تبين لهم الحق الذي جاء به موسى: {لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض} (طه:72). قال الزمخشري: "سبحان الله ما أعجب أمرهم! قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!".

سادساً: أن العقلاء الأخيار من الناس قد يختلفون في موقفهم من الأحداث التي تواجههم، وقد يتصرف كل واحد منهم التصرف الذي يراه متناسباً مع هذه الأحداث حسب اجتهاده، ولكن هذا الغير سرعان ما يعود إلى رأي صاحبه متى اقتنع به. المثال هنا موقف هارون عليه السلام من عبدة العجل، ومعاتبة موسى له.

سابعاً: أن سنة الله اقتضت في هذه الحياة أن يجعل نصره وثوابه في النهاية للأخيار من عباده، وأن يجعل خذلانه وعقابه للأشرار. وأن النصر يحتاج إلى تأييد من الله تعالى لعباده، وإلى توكل عليه وحده، وإلى عزيمة صادقة ومباشرة للأسباب توصل إليه. والمثال هنا نجاة موسى ومن معه، وإغراق فرعون ومن تبعه.

ثامناً: أن على الدعاة إلى الله أن يعتمدوا في دعوتهم أسلوب اللين والملاطفة، وأن يتجنبوا أسلوب الشدة والغلظة؛ فإن الله سبحانه أمر موسى -وهو من صفوة الله في خلقه- ألا يخاطب فرعون -وهو سيد العتاة والطغاة- إلا بالملاطفة واللين.

تاسعاً: منطق الطغاة في كل العهود أنهم يلجؤون إلى قوتهم المادية؛ ليحموا عروشهم وشهواتهم وسلطانهم، ففي سبيل هذه الأمور كل شيء عندهم مباح ومستباح. وشأنهم في كل عصر ومصر أنهم عندما يرون الحق قد أخذ يحاصرهم، ويكشف عن ضلالهم وكذبهم، يرمون أهله -زوراً وبهتاناً- بكل نقيصة ووضيعة = {إن هؤلاء لشرذمة قليلون} (الشعراء:54).

عاشراً: أن الطغاة والظلمة في كل زمان ومكان يضربون الحق بكل سلاح من أسلحتهم الباطلة، ثم يزعمون بعد ذلك أمام العامة والبسطاء المغلوبين على أمرهم، أنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل الحرص على مصالحهم!

حادي عشر: أن الطغاة والجبابرة حين يدفعهم الحق، ويطاردهم الدليل الساطع، تأخذهم العزة بالإثم، فيأبون الرجوع إلى الحق. وأن الطغيان في كل عصر ومصر لا يعجبه منطق الحق والعدل، ولكن يعجبه التكبر في الأرض بغير الحق، وإيثار الغي على الرشد.

ثاني عشر: أن من عادة الطغاة أن يستخفوا بأتباعهم، ومن عادة الأتباع أن يطيعوا سادتهم وكبراءهم، ويتابعوهم على باطلهم وما يزينون لهم من الأعمال {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} (غافر:29)، {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} (الزخرف:54).

ثالث عشر: أن الباطل قد يسحر عيون الناس ببريقه لفترة من الوقت، وقد يسترهب قلوبهم لساعة من الزمان، حتى ليخيل إلى الكثيرين الغافلين أنه غالب وجارف، ولكن ما إن يواجهه الحق الهادئ الثابت المستقر بقوته التي لا تُغَالب، حتى يزهق ويزول، وينطفئ كشعلة الهشيم، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصَّغار، والضعف والهوان، وهم يرون صروحهم تتهاوى، وآمالهم تتداعى، أمام نور الحق المبين.

رابع عشر: أن منطق حاشية السوء على مر العصور أنهم يرون الدعوة إلى الله إفساداً في الأرض؛ لأنها ستأتي على بنيانهم من القواعد؛ ولأنها هي الدعوة التي ستحرر الناس من ظلمهم وجبروتهم، وتفتح العيون على النور الذي يخشاه الظالمون، ويتحاشاه الطاغون.

خامس عشر: أن كثيراً من الناس غافلون عن آيات الله الدالة على وحدانيته، وسادرون عن سنته المقتضية إهلاك كل ظالم جبار، وكل متكبر مختال.

سادس عشر: أن موقف الدعاة إلى الحق في كل العهود أنهم لا يلقون بالاً لتهديد الظالمين، ولا يقيمون وزناً لوعيد المعاندين، بل يمضون في الطريق غير هيَّابين ولا وجلين، مستعينين بالله رب العالمين، ومسلِّمين قيادهم لأمره وقدره ومشيئته، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف:21).

سابع عشر: أن الدعاة إلى الحق يحتاجون في مقاومتهم لأهل الباطل إلى إيمان عميق، واعتماد على الله وثيق، وثبات يُزيل المخاوف، ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة.

ثامن عشر: أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان، إذا لم تنفع معه النصيحة، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة، وعلى الأخوة الخالصة، وأن يجعلوا توكلهم عليه وحده سبحانه، فإنه {نعم المولى ونعم النصير} (الأنفال:40).

تاسع عشر: أن من علامات الإيمان الصادق أن يكون الإنسان غيوراً على دين الله، ومن مظاهر هذه الغيرة أن يتمنى زوال النعمة من أيدي المصرِّين على الكفر بأنعم الله؛ لأن وجود النعم بين أيديهم سبب في إيذاء المؤمنين، وإدخال القلق والحيرة على نفوس بعضهم.

العشرون: أن الاعتصام بحبل الله المتين يجعل المستمسك به لا يبالي بوعيد الظالمين، ولا يخشى تهديد المتوعدين، ولا يتراجع أمام التهديد والوعيد عن تبليغ رسالة ربه.

الحادي والعشرون: أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لمن رجع عن غيِّه، وعمل عملاً صالحاً يُرضي ربه، وواظب على طاعة خالقه، وداوم على نهج الاستقامة والرشاد.
[size="<font><font>6</font></font>"]

العبر والعظات من قصة موسى وبقرة بني إسرائيل

أولاً: تدل هذه القصة على ما جُبل عليه بنو إسرائيل من فظاظة وغلظة، وسوء أدب مع مرشديهم، وإلحاف في الأسئلة بلا موجب، وعدم استعداد للتسليم بما يأتيهم به الرسل، ومماطلة في الانصياع للتكاليف، وانحراف في الطريق المستقيم.

ثانياً: دلالتها على صدق النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخبر بهذه القصة الواقعية، التي لم يشهد أحداثها بما أوحاه الله إليه، وهذا الإخبار من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، كما أنها تدل على صدق نبوة موسى عليه السلام، وأنه رسول ربِّ العالمين.

ثالثاً: دلالتها على أن التنطع في الدين، والإلحاف في المسألة يؤديان إلى التشديد في الأحكام؛ لأن بني إسرائيل لو أنهم عَمَدوا من أول الأمر لفعل ما أُمروا به لقضي الأمر، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم.

رابعاً: دلالتها على قدرة الله تعالى؛ فإن إحياء الميت عن طريق ضربه بقطعة من جسم بقرة مذبوحة دليل على قدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة، وما هذا الضرب إلا وسيلة كشف للناس عن طريق المشاهدة عن آثار قدرته تعالى، التي لا يدرون كيف تعمل، فهم يرون آثارها الخارقة، ولكنهم لا يعرفون كنهها وحقيقتها.

العبر والعظات من قصة موسى والخضر

أولاً: أن الإنسان مهما أوتي من العلم فعليه أن يطلب المزيد {وقل رب زدني علما} (طه:114)، وأن لا يعجب بعلمه {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء:85).

ثانياً: أن الرحلة في طلب العلم من صفات العقلاء؛ فموسى -وهو من أولي العزم من الرسل- تجشم المشاق والمتاعب لكي يلتقي بالخضر؛ لينتفع بعلمه، وصمم على ذلك مهما كانت العقبات. وهذا دأب العلماء، قال البخاري: "ورحل جابر بن عبد الله رضي الله عنه مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث".

ثالثاً: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى الطبيعة البشرية، كالجوع والعطش والتعب والنسيان {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} (الكهف:62).

رابعاً: أن العلم قسمان: علم (مكتسب) يدركه الإنسان باجتهاده وتحصيله بعد عون الله له، وعلم (لدني) يهبه الله لمن شاء من عباده {وعلمناه من لدنا علما} (الكهف:65).

خامساً: أن على المتعلم أن يخفض جناحه للمعلم، وأن يخاطبه بأرق العبارات وألطفها، حتى يحصل على ما عنده من علم {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا} (الكهف:66).

سادساً: لا بأس للعالم أن يعتذر للمتعلم عن تعليمه؛ إذا لمس المعلم من المتعلم أنه لا يطيق تحمل العلم الذي يعلمه {إنك لن تستطيع معي صبرا} (الكهف:67).

سابعاً: من علامات الإيمان القوي أن يقدم الإنسان (المشيئة) عند الإقدام على الأعمال، وأن العزم على فعل شيء ليس بمنزلة فعله {ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا} (الكهف:69)، وأنه لا بأس على العالم أن يشترط على المتعلم أموراً معينة قبل أن يبدأ في تعليمه {فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} (الكهف:70).

ثامناً: يجوز دفع الضر الأكبر بارتكاب الضرر الأقل، وهذا واضح من خلال فعل الخضر في الأحداث الثلاثة: خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار.

تاسعاً: أن التأني في الأحكام، والتثبت في الأمور، ومحاولة معرفة العلل والأسباب كل ذلك يؤدي إلى صحة الحكم، وسلامة القول والعمل.

عاشراً: أن من دأب العقلاء والصالحين الأدب مع الله تعالى في التعبير؛ فالخضر أضاف (خرق السفينة) إلى نفسه {فأردت أن أعيبها} (الكهف:79)، وأضاف الخير الذي فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله {فأراد ربك} (الكهف:82).

حادي عشر: أن على الصاحب أن لا يفارق صاحبه حتى يبين له الأسباب التي حملته على المفارقة {قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} (الكهف:78)، ويُفهم من ذلك أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير معصية الله من أهم الأسباب التي تعين على دوام الصحبة، كما أن عدم الموافقة، وكثرة المخالفة تؤدي إلى المقاطعة. ويُفهم من ذلك أيضاً، أن المناقشة والمحاورة متى كان الغرض منها الوصول إلى الحق وإلى العلم، وكانت بأسلوب هادئ مهذب، وبنية طيبة، لا تؤثر في دوام المحبة والصداقة، بل تزيدهما قوة ومتانة.

هذه بعض الدروس النافعة والعظات البليغة التي نأخذها من قصة موسى وهارون في القرآن الكريم.













رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
القصص القراني


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 21:08

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc