التغيير التربوي في الإسلام, رقابة من داخل النفْس و ضَّمير يقظ - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات إنشغالات الأسرة التربوية > منتدى الانشغالات البيداغوجية والتربوية والانشطة التثقيفية

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

التغيير التربوي في الإسلام, رقابة من داخل النفْس و ضَّمير يقظ

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2009-08-20, 00:21   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
bermareme
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B11 التغيير التربوي في الإسلام, رقابة من داخل النفْس و ضَّمير يقظ

بســم الله الـرحمــن الرحيــم

السلام عليكــم ورحمـة الله وبركاتــه ،،

التَّالي لكتاب الله - تعالى - يلمس بوضوح صورةً للأسلوب القرآني في تغيير المجتمعات من الجاهليَّة الشَّديدة إلى الإسلام، ومن الضَّياع المحيق إلى الأمن والطُّمأنينة والهدى، ومن الشَّتات والحيرة إلى الأمان.

والمتتبِّع لسيرة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرى كيف عالج الرَّسول من خلال منهج القرآن داءاتِ الجاهليَّة وعللها، وأمراضها المزمنة الفتَّاكة.

إنَّه أخذ بِيَد البشريَّة في رِفْقٍ وتؤدة، وهوادةٍ ولين، ووعْي بالنَّفس البشريَّة، وما فُطِرت عليْه وجُبِلت، وما يمكن أن تصِل إليه من خلال منهج الإصْلاح والتَّربية والتزكية، وما يمكن أن تنحطَّ إليْه من خلال الإفساد والتدسية.

ونأخذ المثال هنا عن الخمر، هذا الداء الوبيل الذي فتك بأهل الجاهليَّة وأفسد حياتها، وجعلها نهبة للفساد الخُلقي والفكري، والعقلي والسياسي والاجتماعي، إلى مختلف مناشط الحياة المختلفة.



لقد سيْطرت على هذه النُّفوس هذه العادة القبيحة، وتَملَّكت في حياة هؤلاء كلّ مناشطها؛ ولكنَّ المنهجَ القُرآني الَّذي جاء يُعالج داءات الجاهليَّة كلّها عالَج إدْمان الخمر في رِفقٍ وتؤدة ومعرفة بالنَّفس البشريَّة.

لقد كان في البداية تصْحيح العقيدة والتصوُّر عن الكون والحياة والإنسان.

لقد عرَّفت هذه العقيدة الإنسان بدوْرِه ومهمَّته، وأنَّه لَم يُخْلَق عبثًا؛ بل قد جاء هذه الحياة لمهمَّة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2].

وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7].

وعرَّفت هذه العقيدةُ الإنسان بأنَّه كريم على الله - عزَّ وجلَّ - إن هو استقام على النَّهج السَّويِّ والصِّراط المستقيم؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70].

وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 4 - 6].

وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36].

وقد وكل إلى هذا الإنسان مهمَّة الخلافة في الأرْض على وفق المنْهج القويم والصراط المستقيم، وأحلَّ له كل طيب وحرَّم عليه كلَّ خبيث؛ قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلاَتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 168].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 172، 173].

وهكذا عندما استقرَّ هذا التصوُّر في النفس واستقرَّت معه العبوديَّة لله - عزَّ وجلَّ - والعقيدة الصَّحيحة التي تهذِّب النَّفس وترْقى بالأخلاق، وعندما أيْقن مَن آمن أنَّه لا حلال إلاَّ ما أحلَّه الله، ولا حرام إلاَّ ما حرَّمه الله، عندما رسخت عقيدةُ التَّوحيد وحقيقته في نفسه وقلبه، بدأت الشَّرائع في التَّحليل والتَّحريم تنزل على النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فيُسارع المسلمون إلى الاستِجابة والطَّاعة؛ لأنَّهم علموا وفهموا وآمنوا بقوْل الله - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [النور: 51].

وعندما علموا آمنوا بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36].

وهكذا كان الشَّأن في أمْر الخمْر، فهِي لَم تحرَّم في البداية تحريمًا جازمًا قاطعًا، بل ظلَّ القُرآن يهيئ نفوسَ المسلِمِين للتغْيير والتحوُّل عن هذه العادة، فربَّاهم أوَّلاً على العقيدة الصَّحيحة والأخلاق الفاضِلة، وإرْجاع الأمر لله - عزَّ وجلَّ - في كل جوانب الحلال والحرام؛ قال - تعالى -: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} [النحل: 116].

ونزل قول الله - عزَّ وجلَّ - في شأْن المسكرات وما تتَّخذ منه: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67].

فتهيَّأت نفوس المُسلمين الأول إلى نوْعيْن من الأشْياء التي تتَّخذ من ثمرات النَّخيل والأعناب، فهناك السكر وهناك الرِّزْق الحسَن، وهما متبايِنان مُختلِفان، ثُمَّ نَجد الصَّحابة في المدينة بعد الهِجْرة يسألون النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أشياء يَجِدون في صدورِهم تساؤلاتٍ عنها، ومن هذه الأشْياء الخمر، وذلك كلُّه أثر من آثار التَّربية القُرآنيَّة الَّتي أخذهم بها القُرآن الَّذي ربَّى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - صحابتَه على معانيه ومفاهيمِه ومبادئِه.

سُئِل النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عنِ الخمر فنَزل قوْل الله - عزَّ وجلَّ -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219].

وهكذا اتَّضحتْ صورة الخمر وموقف الإسلام منها أكثر من ذي قبل، لقد بيَّن لهم القُرآن أنَّ فيها إثمًا كبيرًا برَغْم ما فيها من المنافع التي كان ينتفع بها أهل الجاهليَّة، ممَّا تَجلبه لهم من أرْزاق وممَّا يعود على ضُعَفائِهم من الميْسِر واللَّعب بقداحه، وتقسيم أجزاء الذَّبيحة التي كانوا يُقامِرون عليْها بين هؤلاء الضُّعفاء والفقراء.

ونجِد القُرآن بعْد ذلِك يهيِّئ نفوسَهم للتَّحريم ويعرِّفهم بما فيها من الإثم، وما يجب أن يكون عليْه المسلِم من الوقار والفهْم والعلم، وما يُناط به من دوْرٍ، فينْزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].

فبيَّن لهم القرآن منافاة السُّكر للذِّكْر والخشوع والدُّعاء، ومباينة الذَّاكر القانت الخاشع العابد المتبتِّل لحال السكِّير العربيد، الغافل اللاَّهي، الزَّائغ العقْل، كل هذا يَحدو بعقلاء المسلمين أن يُصبِحوا في أرقٍ من أمْر الخمر، حتَّى ليدعو الفاروق عُمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْه - وكان ممن يعاقر الخمر في الجاهليه -: "اللَّهمَّ بيِّن لنا في الخمْر بيانًا شافيًا".

لقد كان هذا كلُّه بفعل التَّربية القرآنية الرَّشيدة، والمنهج القويم الَّذي تربَّى عليْه الصَّحابة - رضوان الله عليْهم جَميعًا - في هدوء وتؤدة ومعرفة بِما في النَّفس من ضعف وقوَّة، وما جُبِلَت عليْه وفُطِرَت، وما تحب وما تكره، وما تخافه وما تَخشاه وتحبُّه وتهواه، لقد أثَّر الإيمان هذا التأثير العميق، يقول الأستاذ أبو الحسن النَّدوي: "فانقلبتْ نفسيَّتهم بهذا الإيمان الواسِع العميق الواضح انقلابًا عجيبًا، فإذا آمن أحدٌ بالله، وشهِد أن لا إله إلاَّ الله، انقلبتْ حياتُه ظهرًا لبطن، تغلغل الإيمان في أحشائِه وتسرَّب في جميع عروقه ومشاعره، وجرى منه مجرى الروح والدم، واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها، وغمر العقل والقلْب بفيضانه، وجعل منه رجلاً غير الرَّجُل"[1].

أجل، لقد أثَّر الإيمان هذا الأثر العميق، فجعل النُّفوس سهلةَ الانقِياد إلى المنهج، مطيعةً إذا أُمِرَت، منتهيةً إذا أمرت بالانتهاء، مسلمةً لحُكْم الله وقضائِه في كلِّ أحْوالها، تبادر إلى الطَّاعات بنفس القوَّة التي تَمتنع بها عن المحرَّمات.

يروَى أنَّ رجُلا من أصحاب النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان في مجلس شرابٍ مع بعض القوْم، ثمَّ خرج فأتى النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعلم أنَّ تحريم الخمر قد نزل في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90، 91]، فقال مَن في المجلس: "انتهينا، انتهيْنا"، حتَّى إنَّ مَن كان في فمِه جرعةً من الخمْر قام يمجُّها.

ويروِي الرُّواة: "حتَّى إنَّ طرقات المدينة سالت بالخمْر" عندما سُكِبَت على إثر نزول الآية، وأهريقتْ تنفيذًا لأمْرِ الله - عزَّ وجلَّ.

وهذا المثال الحي من واقِع سيرة المجتمع الإسلامي في عهْد النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يوضِّح لنا الأثَرَ العميق للتَّربية الربَّانيَّة لهذه الجماعة، وأسلوب التَّغْيير التَّربوي الَّذي يقتلع من النَّفس الإنسانيَّة كلَّ طرائق وأساليب وإشْباعات الجاهليَّة، ليحلَّ محلَّها الإيمان والالتِزام بالتَّعاليم الإلهيَّة، والآيات المنزَّلة في الوحْي، واليقين الجازم بالسُّنن الربَّانية الهادية إلى الإيمان والهدى.

وبعد أن يصل المجتمع لهذه الدَّرجة من الالتزام والتربية، يظلُّ بعض الأفراد ممن لا تؤثِّر فيهم هذه الأساليب التَّربويَّة، فلا يكون معهم إلا أسلوب واحدٌ هو الحسْم، وهذا يوضِّح لنا دور الحدود والتَّعازير التي تأتي لمعالجة أمثال هؤلاء وتأديبهم، وهذا ما حدث بالفِعْل؛ فالحدود لم تنزِل إلاَّ في آخر مراحِل التَّشريع في العهد المدني من الرِّسالة المباركة.

وممَّا يوضِّح أثر التغيير التربوي حادثتان فريدتان، حدثتا في مجتمع المدينة.

إنَّ دور التربية أعمق من أن يَحتاج إلى رقيبٍ من البشر على تصرُّفات الإنسان المسلم داخل المجتمع الإسلامي؛ بل تكون الرقابة من داخل النفْس ويكون الضَّمير اليقظ والشُّعور الحي بِمراقبة الله - عزَّ وجلَّ - هو المحرِّكَ الدَّائم للإنسان، فإذا وقع من الإنسان ذنبٌ أو فرَطَ منه إثمٌ تذكَّر رقابة الله - عزَّ وجلَّ - عليْه، وعلِم أنَّ كلَّ كبيرة وصغيرة يُحصيها الله - عزَّ وجلَّ - وأنَّ العبد بين يدَي ربِّه الَّذي يعلم خائنة الأعيُن وما تُخْفي الصُّدور؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّه وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

ومن هُنا يظلُّ المسلِم في مراقبة ومحاسبة ومرابطة، تزداد بها نفسُه اتِّصالاً بالله، ويتوثَّق الإيمان في القَلْب أكثر وأكْثر، ويزيد الله الذين اهتدَوا هدى.

وهاتان الحادثتان هما حادثتا ماعز والغامديَّة؛ روى الإمام مسلم في صحيحِه: أنَّ ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، إنِّي ظلمت نفسي وزَنَيْت وإنِّي أريد أن تطهِّرني، فردَّه، فلمَّا كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله، إنِّي قد زنيت، فردَّه الثَّانية، فأرسل رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى قومِه فقال: ((أتعْلمون بعقلِه شيئا تنكرون منه شيئًا؟)) فقالوا: ما نعلم إلاَّ وهو في العقْل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثَّالثة فأرسل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا فسأل عنه، فأخبروه أنَّه لا بأس به ولا بعقله، فلمَّا كانت الرَّابعة، حفر له حُفْرة ثمَّ أمر به فرجم، فجاءتِ الغامديَّة فقالت: يا رسول الله، إني قد زنَيْت فطهِّرني وإنَّه ردَّها، فلمَّا كان الغد قالت: يارسول الله، لِم تردُّني؟ لعلَّك أن تردَّني كما رددتَ ماعِزًا، فوالله إنِّي لحبلى، قال: ((أما لا فاذهبي حتَّى تلِدي))، قال: فلمَّا ولدتْ أتتْه بالصبي في خرْقة، قالت: هذا قد ولدتُه، قال: ((فاذْهبي فأرضعيه حتَّى تطعميه، فلمَّا فطمته أتتْه بالصبيِّ في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبيَّ الله، قد فطمتُه وقد أكل الطعام، فدفع الصَّبيَّ إلى رجُل من المسلمين، ثم أمر فحفر لها إلى صدرها، وأمَر النَّاس فرجَموها، فاستقْبلها خالدُ بن الوليد بحجرٍ فرمى رأسَها، فنضح الدَّم على وجه خالد، فسمِع نبي الله سبَّه إيَّاها، فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيدِه، لقد تابت توبةً لو تابَها صاحبُ مكس لغُفِر له))، ثم أمر بها فصلَّى عليْها ودفنت"[2].

في هاتيْن الحادثتين نرى أثَر التَّربية حين تستوعِب أقطار النفس، فيرى المسلم الَّذي تربَّى على هذا النَّهج ذنوبَه كأنَّها الجبال الرَّواس، ويحسُّ أنَّ تنفيذ الحدود - حدود الله - على نفسِه هو الذي يطهِّر النُّفوس ممَّا علق بها من الذُّنوب، كلُّ ذلك؛ لأنَّ الشُّعور برقابة الله قدِ استمكن من القلْبِ البشري، وأنَّه - سبحانه - مطَّلع على أسْرار كلِّ عبدٍ وخفاياه؛ قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].

هكذا نرى الضَّمير الحيَّ اليقِظ يعي ما عليْه قِبَل ربِّه وقبل دينه، فيرى حياتَه هينة، ويرى نفسه قد ضاقت عليه حين يُقارف ذنبًا أو يحدث معصية، وهؤلاء الثَّلاثة الَّذين تخلَّفوا عن رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في غزْوة تبوك دون أن يكون هُناك عذْرٌ، ثمَّ عادوا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد عودته من غزْوه، فلا يتحايلون بِحجج واهية كما اعتذر المنافِقون؛ ولكنَّهم يقرُّون ويعترِفون بذنوبهم، ويأمر الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِمقاطعة المسلمين لهُم، ثمَّ يصبحون في غاية الهمِّ والحُزْن والضِّيق، حتَّى يصفهم القرآن: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118].

وحتَّى يقول كعب بن مالك - وكان أحد الثلاثة -: "تنكَّرت لي الأرض، فما هي بالَّتي أعرف"[3].

لا شكَّ أنَّ هذا كلَّه يعطينا نموذجًا للشُّعور الحي اليقِظ، الذي ربَّاه القرآن في قلوب صحابة النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - والَّذي يعطي صورةً صادِقة لحقيقة التَّغيير التَّربوي الَّذي حدث من خلال منهج القرآن في تربية هؤلاء الرِّجال، الَّذين استطاعوا بتوْفيق الله لهم أن ينتقِلوا هذه النقْلة البعيدة في السُّلوك والأخْلاق والالتِزام والاسْتِمْساك بالوحْي، ثمَّ بعد ذلك استطاعوا أنْ يُحدثوا هذا التَّغيير العظيم في واقع البشرية آنذاك، هذه البشريَّة الَّتي كانت قد وصلتْ إلى درجة من الانْحِطاط في كافَّة جوانب الحياة لا تُتصوَّر؛ ولكنَّه القرآن وهؤلاء الرجال الذين تربَّوا على يد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فحوَّلوا مسار التَّاريخ، وأضاؤوا ليْل البشرية بعد طول ظلام بنور القرآن وضياء التَّوحيد، وهدْي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكانوا كما وصفهم الحقُّ - سبحانه - في كتابه العزيز: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].

منقوووووووووول ( موقع الألوكة)

ــــــــــــــــــــ

[1] - ماذا خسر العالم بانْحطاط المسلمين: أبو الحسن الندوي، ص: 90.
[2] - صحيح مسلم: كتاب الحدود.
[3] - حديث الثَّلاثة الذين خلِّفوا كما رواه كعْب بن مالك، أخرجه الشيخان.











 


رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 04:21

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc