شهر «رجب» بين المشروع والممنوع / إدارة موقع الشيخ فركوس
بسم الله الرحمن الرحيم
شهر «رجب» بين المشروع والممنوع
الحمدُ لله الواحد القهَّار، مكوِّرِ الليل والنهار، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ المختار، وعلى صحابته الأطهار وبعد:
فإنَّ الله سبحانه وتعالى كما اصطفى بعض البشر على بعضٍ، فإنه فضَّل بعضَ الأمكنة على أخرى، واختار بعض الأزمنة وشرَّفها على غيرها قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]، فجعل الله سبحانه السنة اثني عشر شهرًا، انصرامُها وانقضاؤها بسير القمر وطلوعه، لا بسير الشمس وانتقالها كما يفعله أهل الكتاب. ومن هذه الأشهر اختار سبحانه أربعةً معظَّمةً، وقد فسَّرها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»(1). قال كعبٌ: «اختار الله الزمانَ فأحبُّه إلى الله الأشهرُ الحُرُمُ»(2)، ومنها شهر رجبٍ الذي هو الشهر الرابع من الأشهر الحرم(3)، والسابع من شهور السنة، وإنما بالغ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في وصف شهر رجبٍ تأكيدًا للشأن والإيضاح، لأنهم كانوا يؤخِّرون بعضًا من الأشهر الحرم من شهرٍ إلى آخَرَ، فيتحوَّل من محلِّه الذي يختصُّ به، فجاء البيان النبويُّ مزيلاً للَّبس عنه، وفي نسبته إلى قبيلة «مضر» بيان ما كان بين قبيلتي «مُضَرَ» و«ربيعة» من اختلافٍ في تحديده، فكانت «ربيعة» تجعله رمضان، و«مضر» تجعله الشهر المعروف بين جمادى وشعبان، وقيل لأنهم كانوا يعظِّمونه أكثر من غيرهم(4)، ويطلقون عليه لفظة «رجبان» إذا ضُمَّ إليه شعبان من باب التغليب.
سُمِّي «رجب» بذلك لأنه كان يُرجَّب أي: يُعظَّم. قال ابن فارسٍ: «رجب: الراء والجيم والباء أصلٌ يدلُّ على دعم شيءٍ بشيءٍ وتقويته ... ومن هذا الباب: رجبت الشيءَ أي عظَّمته ... فسُمِّي رجبًا لأنهم كانوا يعظِّمونه، وقد عظَّمته الشريعة أيضًا»(5)، وذكر أبو الخطَّاب بن دحية الكلبيُّ أنَّ لرجبٍ ثمانية عشر اسمً(6).
وقد جاء في الإسلام ممَّا يتعلَّق بتعظيم شهر رجبٍ: تحريمُ القتال فيه، فإنَّ أهل الجاهلية كانوا ينزعون أسنَّة رماحهم إذا استهلَّ شهر رجبٍ تركًا منهم للقتال كما قال أَبو رَجَاءٍ العُطَارِدِيُّ، «فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا: مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ، فَلاَ نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ، وَلاَ سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ، إِلاَّ نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ»(7). وصنيعهم هذا لأجل التمكُّن من زيارة الكعبة بيت الله بأمانٍ دون أن يتعرَّض بعضهم لبعضٍ بسوءٍ أو أذيَّةٍ. قال ابن كثيرٍ: «وإنما كانت الأشهر المحرَّمة أربعةً، ثلاثةٌ سردٌ وواحدٌ فردٌ؛ لأجل أداء مناسك الحجِّ والعمرة، فحُرِّم قبل شهر الحجِّ شهرٌ، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذي الحجَّة لأنهم يوقعون فيه الحجَّ ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحُرِّم بعده شهرٌ آخَر، وهو المحرَّم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحُرِّم رجبٌّ في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يَقْدَم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثمَّ يعود إلى وطنه فيه آمنا»(.
وأقرَّ الإسلام تحريمَ القتال في هذه الأشهر حكمًا ثابتًا غير منسوخٍ على أظهر قولَيِ العلماء، قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: «وقال الله تعالى في سورة المائدة، وهي من آخر القرآن نزولاً، وليس فيها منسوخٌ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلَائِدَ﴾ [المائدة:2]، وقال في سورة البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ [البقرة:217]، فهاتان آيتان مدنيتان بينهما في النزول نحو ثمانية أعوامٍ، وليس في كتاب الله ولا سنَّة رسوله ناسخٌ لحكمهما، ولا أجمعت الأمَّة على نسخه، ومن استدلَّ على نسخه بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة:36] ونحوها من العمومات، فقد استدلَّ على النسخ بما لا يدلُّ عليه، ومن استدلَّ عليه بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعث أبا عامرٍ في سريَّةٍ إلى أوطاسٍ في ذي القعدة، فقد استدلَّ بغير دليلٍ؛ لأنَّ ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال، ولم يكن ابتداءً منه لقتالهم في الشهر الحرام»(9).
هذا، وقد تعلَّق بشهر «رجبٍ» جملةٌ من البدع والمحدثات في أبوابٍ متفرِّقةٍ من العبادات والقربات منها:
* في الدعاء:
ممَّا تعلَّق بشهر رجبٍ من المحدثات في باب الدعاء: تخصيصه بدعاءٍ عند استهلاله، فإنه لم يصحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك شيءٌ يُعتمد عليه، وما ورد عَنْ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ»، فلا يُحتجُّ به لضعفه، قال ابن رجبٍ -رحمه الله--: «وروي عن أبي إسماعيل الأنصاري أنه قال: لم يصحَّ في فضل رجبٍ غير هذا الحديث وفي قوله نظرٌ، فإنَّ هذا الإسناد فيه ضعفٌ»(10).
ومن المحدثات أيضًا: تحرِّي الدعاء فيه اعتقادًا بأنَّ الله يستجيب فيه دعاء المظلوم، وإنما كان يصنع ذلك أهل الجاهلية، فيستجاب لهم(11)، وقد قيل لعمر بن الخطَّاب بعد أن ذكروا له جُملاً من حوادث الجاهلية: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ كَانَ اللهُ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا تَرَى فَأَهْلُ الإِسْلاَمِ أَحْرَى بِذَلِكَ»، فأجاب بقوله: «إِنَّ أَهْلَ الجَاهِلِيَّةِ كَانَ اللهُ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا تَسْمَعُونَ لِيَحْجُزَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ السَّاعَةَ مَوْعِدَكُم، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ»(12). فلا يُعَدُّ شهر رجبٍ من الأزمنة الفاضلة التي تستجاب فيها الدعوات كالأوقات المرغَّب فيها.
قال بكر أبو زيد -رحمه الله-: «لا يثبت في الشرع شيءٌ من دعاءٍ أو ذكرٍ لشهر رجبٍ، وما يتداوله الناس من دعاءٍ يسمُّونه «دعاء رجبٍ» فهو محدثٌ مخترعٌ لا أصل له»(13).
* في ليلة الإسراء والمعراج:
ممَّا أحدث الناس وتتابعوا على العمل به حتَّى صار مسلَّمًا لدى كثيرٍ منهم: الاحتفالُ بليلة «الإسراء والمعراج» ظنًّا منهم أنَّ هذه الكرامة الإلهية للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حدثت في ليلة السابع والعشرين منه، قال الحافظ أبو الخطَّاب بن دحية -رحمه الله-: «وذكر بعض القُصَّاص أنَّ الإسراء كان في رجبٍ، وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب..»(14)، وقد اختلف المؤرِّخون في وقت حدوثه على أقوالٍ شتَّى(15) أصحُّها: أنه لم يثبت تحديدُه بما يُعتمد عليه صحيحًا، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «هذا إذا كانت ليلة الإسراء تُعرف عينها، فكيف ولم يقم دليلٌ معلومٌ لا على شهرها ولا على عشرها ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعةٌ مختلفةٌ ليس فيها ما يُقطع به»(16)،وقال الألباني -رحمه الله- معلِّقًا على كلام ابن دحية السابق: «وليس فيها قولٌ مسندٌ إلى خبر صحابيٍّ يطمئنُّ له البال»(17)، وقال الإمام ابن بازٍ -رحمه الله-: «والصحيح من أقوال العلماء أنها لا تُعرف، وقولُ من قال: إنها ليلة سبعٍ وعشرين من رجبٍ قولٌ باطلٌ لا أساس له في الأحاديث الصحيحة»(1.
وعلى فرض التسليم بربط الإسراء بهذا التاريخ فإنه لا يُشرع ألبتَّةَ الاحتفالُ به، شأنه شأن جميع المناسبات والعوائد السنوية إلاَّ ما ثبت -نصًّا- تشريعُ الاحتفال به، وهُما عيدا الفطر والأضحى، فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي عُمِّر ثلاثًا وستِّين سنةً قضى منها حوالَيْ عشرين سنةً بعد الإسراء والمعراج لم يُنقل عنه لا في صحيحٍ يُحتجُّ به ولا ضعيفٍ يُستأنس به ويُستشهد به أنه أقام احتفالاً بمقامها تخليدًا لذكراها، وكذا صحابته المعظِّمون له، السالكون سبيله، ولا أتباعهم السائرون على منهجه، وسائر القرون المفضَّلة المأمورِ باتِّباعهم، المزكَّوْن بالنصِّ القرآنيِّ والنبويِّ. ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وما لم يكن يومئذٍ دينًا فلا يكون -اليومَ- دينًا، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فمن البدع في العبادات: إحداثُ أعيادٍ واحتفالاتٍ لم يشرعها الله ولا رسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، إنما فعلتها الأمم الأخرى كاليهود والنصارى، أو فارس والروم، ونحوهم، كالاحتفال بيوم عاشوراء، وبالمولد النبويِّ، وبليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان»(19). ناهيك عمَّا يحدث في هذه الاحتفالات من منكراتٍ ومخالفاتٍ تزيدها شناعةً وقبحًا: كإحيائها بالغناء والرقص، وإقامةِ الحفلات منها: المختلطة بين الجنسين، وعرضِ أفلامٍ يسمُّونها زورًا وبهتانًا «إسلاميةً» من شأنها الحطُّ من كرامة الجيل المزكَّى، كنسبة الممثِّلين إليهم التغزُّلَ بالنساء، أو التشكيك في التزامهم عقيدة الولاء والبراء وغيرها من القبائح التي يتنزَّه عنها ذاك الرعيل المصطفى لصحبة النبيِّ المجتبى عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وكذا إقامة محاضراتٍ ودروسٍ تتلى فيها أحاديث جلُّها موضوعةٌ ومكذوبةٌ، تَسْرُد تفاصيلَ مطوَّلةً عن الإسراء والمعراج، ووقائعَ تُنسب إليه صلَّى الله عليه وسلَّم لم تُنقل في صحيح الأخبار وسليمها، وقد صحَّ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبِينَ»(20)، فلا يحلُّ رواية المكذوب إلاَّ مقرونًا ببيان حاله، فكيف بالاحتجاج به؟ ولا يُتدرَّع بزعم أنها وسيلةٌ للوعظ، واستمالة قلوب السامعين إلى محبَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتعظيم معجزاته، وتذكيرهم بأيَّامه العطرة، وسيرته الزكيَّة، فإنَّ في صحيح الأخبار وسليمها غُنيةً عن ضعيفها وسقيمها، فضلاً عن موضوعها ومختلَقها، فالدعوة بالموعظة الحسنة المرقِّقة للقلوب، المؤسَّسةِ على العلم المصفَّى دعوةُ الحقِّ والبصيرة، وغيرها مما يُنافيها دعوةٌ موتورةٌ ضررها أكبر من نفعها إن وُجد فيها، قال الإمام ابن باديس -رحمه الله-: «فمن دعا إلى ما دعا إليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فهو من دعاة الله، يدعو إلى الحقِّ والهدى، ومن دعا إلى ما لم يدعُ إليه محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم فهو من دعاة الشيطان يدعو إلى الباطل والضلال»(21).
* في الصلاة:
ممَّا تعلَّق بشهر رجبٍ من بدعٍ في عبادة «الصلاة»: اعتقادُ بعض المسلمين اختصاصَ رجبٍ بصلواتٍ مرغوبٍ فيها لكثرة ثوابها وفضائلها:
• ك «صلاة الرغائب» وكأنَّها سُمِّيَتْ بذلك لأجل العطايا الحاصلة لمصلِّيها بزعم واضع الحديث فيها، يؤدُّونها في ليلة أوَّل جمعةٍ من رجبٍ، بين صلاتَيِ المغرب والعشاء، يسبقها صيام الخميس الذي هو أوَّل خميسٍ في رجبٍ، وأوَّل ما أُحدثت صلاة الرغائب ببيت المقدس(22) سنة ثمانين وأربعمائةٍ (480ه). وقد تواترت كلمة العلماء في التحذير منها، والتشنيع على من استحسنها ودعا إلى إقامتها وهما صنفان: إمَّا جاهلٌ من عامَّة الناس لا بصيرة له بفقه الأحكام ومستندها، أو منتسبٌ للعلم أراد إصابة الحقِّ فأخطأه والوزر عنه مدفوعٌ إن شاء الله تعالى لاجتهاده(23). قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وهي بدعةٌ باتِّفاق أئمَّة الدين، والحديثُ المرويُّ فيها كذبٌ بإجماع أهل المعرفة بالحديث»(24)، وقال الحافظ ابن رجبٍ -رحمه الله-: «وأمَّا الصلاة، فلم يصحَّ في شهر رجبٍ صلاةٌ مخصوصةٌ تختصُّ به، والأحاديث المرويَّة في فضل صلاة الرغائب في أوَّل ليلة جمعةٍ من شهر رجبٍ كذبٌ وباطلٌ لا تصحُّ»(25) وقال النوويُّ -رحمه الله-: «الصلاة المعروفة ب«صلاة الرغائب»، وهي ثنتي عشرة ركعةً تُصلَّى بين المغرب والعشاء ليلة أوَّل جمعةٍ في رجبٍ، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعةٍ، وهاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحتان، ولا يغترَّ بذكرهما في كتاب «قوت القلوب» و«إحياء علوم الدين» ولا بالحديث المذكور فيهما، فإنَّ كلَّ ذلك باطلٌ، ولا يغترَّ ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمَّة فصنَّف ورقاتٍ في استحبابهما، فإنه غالطٌ في ذلك، وقد صنَّف الشيخ الإمام أبو محمَّدٍ عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسيُّ كتابًا نفيسًا في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد -رحمه الله-»(26).
وقال أبو شامة -مبيِّنًا بعضَ المفاسد المترتِّبة على إقامة هذه الصلاة المبتدَعة-: «.. وكان من الغيرة لله ولرسوله ولدينه تعطيل ما كُتب عليه وهجرُه واطِّراحه واستقباحه وتنفير الناس عنه، إذ يلزم من الموافقة عليه مفاسد: الأولى: اعتماد العوامِّ على ما جاء في فضلها وتكفيرها، فيحمل كثيرًا منهم على أمرين عظيمين: أحدهما: التفريط في الفرائض، والثاني: الانهماك في المعاصي وينتظرون مجيءَ هذه الليلة، ويصلُّون هذه الصلاة فيرَوْن ما فعلوه مُجزيًا عمَّا تركوه وماحيًا ما ارتكبوه، فعاد ما ظنَّه واضع الحديث في صلاة الرغائب حاملاً على مزيد الطاعات مكثرًا من ارتكاب المعاصي والمنكرات»(27).
• وك «صلاة أمِّ داود»، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وكذلك يومٌ آخَر في وسط رجبٍ، يُصلَّى فيه صلاةٌ تسمَّى صلاة أمِّ داود، فإنَّ تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلاً»(2 وعمدةُ معظِّميه حديثٌ موضوعٌ مكذوبٌ(29).
• وكصلاة «الألفية»، وصلاة «الاثني عشرية»، وصلاة ليلة «سبعٍ وعشرين» قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وكصلاة الألفية التي في أوَّل رجبٍ ونصف شعبان، والصلاة «الاثني عشرية» التي في أوَّل ليلة جمعةٍ من رجبٍ، والصلاة التي في «ليلة سبعٍ وعشرين» من رجبٍ، وصلواتٍ أُخَرَ تُذكر في الأشهر الثلاثة، وصلاة ليلتَيِ العيدين، وصلاة يوم عاشوراء، وأمثال ذلك من الصلوات المرويَّة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع اتِّفاق أهل المعرفة بحديثه أنَّ ذلك كذبٌ عليه، ولكن بلغ ذلك أقوامًا من أهل العلم والدين فظنُّوه صحيحًا فعملوا به، وهُم مأجورون على حُسن قصدهم واجتهادهم لا على مخالفة السنَّة، وأمَّا من تبيَّنت له السنَّة فظنَّ أنَّ غيرها خيرٌ منها فهو ضالٌّ مبتدعٌ بل كافرٌ»(30).
والحاصل أنَّ شهر رجبٍ لم يُخصَّ بصلاةٍ مرغَّبٍ فيها، تَفْضُل غيرَها بكثير الثواب وبركة الأجر، قال الحافظ ابن دحية -رحمه الله-: «وفي هذا الشهر أحاديثُ كثيرةٌ من رواية جماعةٍ من الوضَّاعين.. فلا يصحُّ منها لا في الصلاة في أوَّل رجَبٍ ولا في النصف منه ولا في آخره»(31) وقال الشقيري: «كلُّ حديثٍ في صلاة أوَّل رَجَبٍ أَو وَسطه أَو آخِره فَغير مَقبُولٍ، لا يُعْمل به ولا يُلتَفت إليه»(32).
* في الزكاة:
وممَّا تعلَّق بهذا الشهر من بدعٍ في عبادة «الزكاة»: تأخير إخراجها إلى شهر رجبٍ قصْدَ نيل الثواب الجزيل، وفي إحياء هذا الصنيع المحدَث والعمل به إماتةٌ لنقيضه المشروع: من ربط الزكاة الواجبة بحولها الذي يختلف باختلاف دورانه من مكلَّفٍ إلى آخَر، ممَّا يعود على عموم الفقراء والمساكين وسائر المستحقِّين من الأصناف الثمانية بالنفع، بحيث لا يخلو العام من متصدِّقٍ عليهم، بخلاف ربطها بموسمٍ واحدٍ يجدون فيه حاجتهم، ويدفعون به خلَّتهم، ويفتقرون في غيره، كما قد يترتَّب على ربط الزكاة بشهر رجبٍ مخالفةٌ أخرى تتمثَّل في تأخير الزكاة عن وقتها الذي وجبت فيه، وكلُّ عبادةٍ مؤقَّتةٍ بوقتٍ محدَّدٍ وجب أداؤها فيه، ولا يجوز تأخيرُها إلاَّ بمسوِّغٍ شرعيٍّ أو عذرٍ معتبَرٍ، ويُفتقد الأمران في الصورة المتحدَّث عنها، إذ لم يَرِدْ شرعًا تعليق الزكاة بشهرٍ مخصَّصٍ بعينه.
قال ابن رجبٍ -رحمه الله-: «وبكلِّ حالٍ فإنما تجب الزكاة إذا تمَّ الحول على النصاب، فكلُّ أحدٍ له حولٌ يخصُّه بحسب وقت ملكه للنصاب، فإذا تمَّ حوله وجب عليه إخراج زكاته في أيِّ شهرٍ كان، فإن عجَّل زكاته قبل الحول أجزأه عند جمهور العلماء، وسواءً كان تعجيله لاغتنام زمانٍ فاضلٍ، أو لاغتنام الصدقة على من لا يجد مثله في الحاجة، أو كان لمشقَّة إخراج الزكاة عليه عند تمام الحول جملةً»(33).
* في الصيام والاعتكاف: وممَّا تعلَّق بشهر رجبٍ من البدع في عبادة «الصيام»، تخصيصُه بكثرة التطوُّع فيه، وكذا تخصيصه بعبادة «الاعتكاف»، وقد أنكر الصحابةُ ذلك باللسان تذكيرًا ونصحًا، وباليد منْعًا وزجرًا: فعَنْ خَرَشَة بْنِ الحُرِّ، قال: رَأَيتُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَضْرِبُ أَكُفَّ النَّاسِ فِي رَجَبٍ، حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الجِفَانِ، وَيَقُولُ: «كُلُوا، فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ»(34)، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إِذَا رَأَى النَّاسَ، وَمَا يَعُدُّونَ لِرَجَبٍ كَرِهَ ذَلِكَ وقال: «صومُوا منه وأفطرُوا»(35)، وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه دَخَلَ عَلَى أَهلِهِ، وَعِنْدَهُمْ سِلاَلٌ جُدُدٌ وَكِيزَانٌ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: رَجَبٌ نَصُومُهُ. قَالَ: أَجَعَلْتُمْ رَجَبًا رَمَضَانَ، فَأَكْفَأَ السِّلاَلَ، وَكَسَرَ الكِيزَانَ»(36). فهو كغيره من الشهور التي لم يَرِدْ ما يخصِّصها بكثرة الصيام، إلاَّ ما كان داخلاً في عادة المكلَّف وَوِرْده، كصيام ثلاثة أيَّامٍ، أو الإثنين والخميس، وغيرها، لا لتعلُّقها بذات الشهر، وإنما لاندراجها ضمنَ عُمومات النصوص المرغِّبة في صيام التطوُّع، كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لاَ مِثْلَ لَه»(37). قال ابن تيمية -رحمه الله-: «أمَّا تخصيص رجبٍ وشعبان جميعًا بالصوم أو الاعتكاف فلم يَرِدْ فيه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم شيءٌ، ولا عن أصحابه، ولا أئمَّة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصوم إلى شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر ممَّا يصوم من شعبان، من أجل شهر رمضان. وأمَّا صوم رجبٍ بخصوصه فأحاديثه كلُّها ضعيفةٌ بل موضوعةٌ لا يعتمد أهل العلم على شيءٍ منها، وليست من الضعيف الذي يُروى في الفضائل، بل عامَّتها من الموضوعات المكذوبات»(3. وقال ابن القيِّم -رحمه الله-: «وحديث «مَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ كَذَا وَكَذَا» الجميعُ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ»(39)، وقال ابن رجبٍ -رحمه الله-: «وأمَّا الصيام فلم يصحَّ في فضل صوم رجبٍ بخصوصه شيءٌ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا عن أصحابه»(40).
ومن محدثات هذا الشهر: صومُه مع شعبان سردًا لوصله برمضان، قال ابن القيِّم -رحمه الله- ذاكرًا هديَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الصوم: «ولم يَصُمِ الثلاثةَ الأشهر سردًا كما يفعله بعضُ الناس، ولا صامَ رجبًا قطُّ، ولا استحبَّ صيامَه، بل رُوي عنه النهي عن صيامه، ذكره ابن ماجه(41)»(42).
وقال أبو بكرٍ الطرطوشيُّ المالكي -رحمه الله-: «وفي الجملة: أنه يُكره صومه على أحدِ ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه إذا خصَّه المسلمون بالصوم في كلِّ عامٍ؛ حسِب العوامُّ ومن لا معرفة له بالشريعة -مع ظهور صيامه- أنه فرضٌ كرمضان.
أو: أنه سنَّةٌ ثابتةٌ خصَّه الرسول بالصوم كالسنن الراتبة.
أو: أنَّ الصوم فيه مخصوصٌ بفضل ثوابٍ على سائر الشهور، جارٍ مجرى صوم عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوَّله في الصلاة، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان من باب الفضائل؛ لسنَّه عليه السلام أو فعله ولو مرَّةً في العمر، كما فعل في صوم عاشوراء، وفي الثلث الغابر من الليل، ولمَّا لم يفعل بَطَل كونه مخصوصًا بالفضيلة، ولا هو فرضٌ ولا سنَّةٌ باتِّفاقٍ، فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجهٌ، فكره صيامه والدوام عليه حذرًا من أن يُلحق بالفرائض والسنن الراتبة عند العوامِّ. فإن أحبَّ امرؤٌ أن يصومه على وجهٍ تؤمن فيه الذريعة وانتشار الأمر حتَّى لا يُعَدَّ فرضًا أو سنَّةً فلا بأس بذلك»(43).
* في العمرة: وممَّا تعلَّق بهذا الشهر من البدع فيما يخصُّ عبادة «العمرة»: اعتقادُ فضل الاعتمار فيه، فيزدحم الزوَّار على بيت الله بأعدادٍ هائلةٍ تخلو منهم في غيره من الشهور، ولم يَرِدْ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حضُّه على الاعتمار في هذا الشهر قولاً ولا عملاً، فعن مجاهدٍ، قال: «دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ المَسْجِدَ، فَإِذَا عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ».. فسأله أحدهما: «كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ: وَسَمِعنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ فِي الحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا أُمَّاهُ، يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، أَلاَ تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَتْ: مَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ»، قَالَتْ: «يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً، إِلاَّ وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ»(44). فالاعتمار في هذا الشهر دون سائر الشهور اعتقادًا لخصوصيته، تخصيصٌ بلا مخصِّصٍ، واستحسانٌ بلا دليلٍ، مع التنبيه إلى أنَّ وقوعها مقرونةً به من غير تخصيصٍ مقصودٍ، كمصادفتها لإجازةٍ سنويةٍ ممنوحةٍ إداريًّا للمعتمر يستغلُّ تفرُّغه فيها لهذه العبادة، أو لعدم تمكُّنه من الحصول على تأشيرةٍ تسمح له بدخول الأراضي الحجازية إلاَّ في هذا الشهر، وما شابه ذلك من المسوِّغات فلا مانع يقترن بها، ولا نكير في فعلها والحال كذلك. وأمَّا ما ورد من آثار الصحابة في استحبابهم الاعتمارَ بشهر رجبٍ فمحمولٌ على استحبابهم إفرادَ العمرة بسفرةٍ مستقلَّةٍ، والحجِّ بأخرى مستقلَّةٍ كذلك. قال ابن رجبٍ: «واستحبَّ الاعتمار في رجبٍ عمرُ بن الخطَّاب وغيره.. فإنَّ أفضل الأنساك أن يُؤتى بالحجِّ في سفرةٍ، والعمرة في سفرةٍ أخرى في غير أشهر الحجِّ، وذلك من جملة إتمام الحجِّ والعمرة المأمورِ به»(45). فتبيَّن أنَّ المحدَث اعتقادُ ارتباط عبادة الاعتمار بشهر رجبٍ كارتباطها بشهر رمضان ترغيبًا وأجرًا.
* في الذبائح: ممَّا كان جاريًا في عادات الجاهلية ونسخت الشريعة تعظيمه: العتيرة(46)، فإنَّ الإسلام أبطل تخصيص الذبيحة برجبٍ كما أبطل الفَرَعَ وهو ذبحُ أوَّل نتاجٍ قربانًا للأصنام والطواغيت، في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ»(47)، وأمر بالذبح لله وحده لا شريك له، من غير تخصيص شهرٍ دون آخَر إلاَّ ما نصَّ عليه وشرعه كتخصيص الأضحية بأيَّامٍ مخصوصةٍ من شهر ذي الحجَّة، ويشهد له حديث الحارث بن عمرٍو أنَّ رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ، العَتَائِرُ وَالفَرَائِعُ، قَالَ: «مَنْ شَاءَ عَتَرَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ، وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ فِي الْغَنَمِ أُضْحِيَّتُهَا»(4. وحديث نُبَيْشَةَ الهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «اذْبَحُوا للهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا اللهَ وَأَطْعِمُوا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نُفَرِّعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَعًا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فِي كُلِّ سَائِمَةٍ فَرَعٌ تَغْذُوهُ مَاشِيَتُكَ، حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَلَ ذَبَحْتَهُ، فَتَصَدَّقْتَ بِلَحْمِهِ»(49)، وقد أفاد الحديثان مشروعية الفرع على أن يكون لله تعالى، ومشروعية الذبح في رجبٍ وغيره بدون تمييزٍ وتخصيصٍ لرجبٍ على ما سواه من الأشهر، فلا تعارُض بينهما وبين الحديث المتقدِّم: «لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ»، لأنه إنما أبطل صلَّى الله عليه وسلَّم به الفرعَ الذي كان لأصنامهم، والعتيرةَ التي يخصُّون بها رجبًا(50)، هذا أظهر الأقوال وأعدلُها في المسألة، وإليه أشار الشافعيُّ بقوله: «وقوله عليه السلام حيث سُئِل عن العتيرة على معنى: «اذْبَحُوا للهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ»، أي: اذبحوا إن شئتم واجعلوا الذبح لله لا لغيره في أيِّ شهرٍ ما كان، لا أنها في رجبٍ دون ما سواه من الشهور»(51).
* في الجنائز:
وممَّا تعلَّق بشهر رجبٍ في باب «الجنائز» من محدثاتٍ: اعتقادُ اختصاصه بفضلٍ زائدٍ في زيارة القبور وانتيابها، قال القشيريُّ -رحمه الله-: ««وذهابهم إلى المقابر في يومي العيدين ورجبٍ وشعبان ورمضان بدعةٌ ضلالةٌ»(52) فجرَّ ذلك إلى بدعٍ ومخالفاتٍ شنيعةٍ:
كاتِّخاذه موسمًا للاجتماع عندها اجتماعاتٍ معيَّنةً، وهذا بعينه هو الذي نهى عنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: «لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا»(53)، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «حتَّى إنَّ بعض القبور يُجتمع عندها في يومٍ من السنة، ويُسافَر إليها إمَّا في المحرَّم أو رجبٍ أو شعبان أو ذي الحجَّة أو غيرها، وبعضها يُجتمع عنده في يوم عاشوراء، وبعضها في يوم عرفة، وبعضها في النصف من شعبان، وبعضها في وقتٍ آخَر، بحيث يكون لها يومٌ من السنة تُقصد فيه» إلى أن قال: «فإنَّ اعتياد قصد المكان المعيَّن، وفي وقتٍ معيَّنٍ عائدٍ بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع، هو بعينه معنى العيد، ثمَّ يُنهى عن دِقِّ ذلك وجِلِّه»(54).
أو كتخصيصه -أي: شهر رجبٍ- بزيارة قبر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالمدينة النبوية، قال الألباني -رحمه الله- في البدعة رقم (223) من بدع الجنائز: «زيارته صلَّى الله عليه وسلَّم في شهر رجبٍ»(55). وزيارة قبره صلَّى الله عليه وسلَّم مشروعة طوال السنة دون مزيَّة شهرٍ على آخَر.
أو كقصدِ التصدُّق على الأموات فيه، قال الألبانيُّ -رحمه الله- في البدعة رقم (121) من بدع الجنائز: «التصدُّق عن روح الموتى في الأشهر الثلاثة رجبٍ وشعبان ورمضان»(56) علمًا أنَّ الصدقة على الميِّت تنفعه ويصله ثوابها بإجماع العلماء(57)، ولكن يُنكر تخصيصها بهذه الأشهر دون غيرها من أشهر السنة.
* تعظيم الشهر أكثر من الشهور:
إنَّ كثرة الأحاديث المختلَقة الموضوعة في فضل شهر رجبٍ حملت عموم الناس على اعتقاد ميزة شهر رجبٍ عن غيره من شهور السنة القمرية، وتفضيله عليها تفضيلاً وصل بالبعض إلى حدِّ الغلو والإفراط المنهيِّ عنهما في كثيرٍ من النصوص الصحيحة.
فمن صُور تعظيم شهر رجبٍ تعظيمًا مبتدعًا يُهلك صاحبَه: اعتقادُ أفضليته على شهر رمضان المبارك، المصطفى لإنزال أفضل كتابٍ فيه كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185]، ولأجل بركته كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يبشِّر أصحابه بقدومه ليجهِّزوا أنفسهم لتتزوَّد من الأعمال الصالحة وتجتهد فيه(5، ولم يفعل مثل ذلك حين قدوم شهر رجبٍ، فمن المنكر الشنيع تفضيل شهر رجبٍ عليه، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ورمضان أفضل الشهور ويكفر من فضَّل رجبًا عليه»»(59).
ومن صور تعظيمه: اعتقادُ أنَّ ليلة القدر المعظَّمة إنما تُدرك في شهر رجبٍ لا في شهر رمضان، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «والأحاديث المرويَّة أنها في أوَّل ليلة المحرَّم، أو ليلة عاشوراء، أو أوَّل ليلةٍ من رجبٍ، أو أوَّل ليلة جمعةٍ من رجبٍ، أو ليلة سبعٍ وعشرين، أو ليلة العيدين، وفي الصلاة الألفية ليلة النصف، كلُّها كذبٌ موضوعةٌ، ولم يكن أحدٌ يأمر بتخصيص هذا الليالي بقيامٍ ولا صلاةٍ أصلاً»(60).
ومن صُور تعظيمه: اتِّخاذُه موسمًا للاحتفال به. قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وأمَّا اتِّخاذ موسمٍ غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيعٍ الأوَّل التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجبٍ، أو ثامن عشر ذي الحجَّة، أو أوَّل جمعةٍ من رجبٍ، أو ثامن شوَّالٍ الذي يسمِّيه الجهَّال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبَّها السلف ولم يفعلوها»(61).
وقال ابن النحَّاس -رحمه الله- في معرض ذكر محدثات المواسم : «ومنها: ما اصطلحوا عليه من اتِّخاذ أوَّل خميسٍ من رجبٍ موسمًا: يتَّخذون فيه أنواع الحلاوات رياءً وسمعةً، ويجعلون منها الصور المحرَّمة التي يسمُّونها التعاليق، وقد تقدَّم الكلام في التصوير وما ورد فيه من الوعيد الشديد والنهي الأكيد، وهذه بدعةٌ عظيمةٌ ومكيدةٌ من اللعين شديدةٌ إذ زيَّن لهم ما تنفر بسببه الملائكة عن بيوتهم ويحرمهم بركتهم وتنزُّلهم بالرحمة، فإنَّ الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلبٌ ولا صورةٌ»(62).
ومن صور تعظيمه: ذكرُ الخطباء للأحاديث الواهية المرويَّة في فضل رجبٍ على المنابر، الشيء الذي يقلِب المقصود من خطبة الجمعة إلى ضدِّه، ويعدم الثمرة المرجوَّة من تشريعها، وكذا إيقادُ المصابيح وزيادةُ التنوير بالمساجد في أوَّل جمعةٍ من رجبٍ، قال القاسميُّ -رحمه الله-: «عادة هذا التنوير ليلتئذٍ في المساجد ومآذنها هو من بقايا بدع في تلك الليلة، ذلك أنها كانت أُحدثت فيها صلاةٌ بين العشاءين تسمى صلاة الرغائب، ثمَّ فَشَتْ وعمَّت وعظمت الفتنة بها، فكانت توقد فيها المصابيح، وتزدحم الأفواج على إحيائها في المساجد»»(63).
ومن صور تعظيمه: اعتقادُ وقوع حوادثَ عظيمةٍ فيه، قال ابن رجبٍ -رحمه الله-: «وقد رُوي أنه كان في شهر رجبٍ حوادثُ عظيمةٌ، ولم يصحَّ شيءٌ من ذ%u