حكم بيع الكلاب البوليسية
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، الفعال لما يريد، خلق فسوّى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين والأنبياء، محمد -صلى الله عليه، وعلى آله وسلم- وعلى أصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد توسعت أمور الناس واحتياجاتهم وتعاملاتهم توسعاً عظيماً في ظل الثورة العلمية العظيمة والتكنولوجيا العلمية الهائلة وتطورت الجريمة في إثر ذلك، وتوسعت أساليبها، فاستحدث الناس لأجل ذلك أساليب جديدة؛ لكشف الجريمة، ومتابعة المجرمين، ومن هذه الطرائق التي استجدت في كشف المجرمين استخدام بعض أنواع الكلاب، التي يتم تدريبها تدريباً خاصاً، والتي تمكنت من كشف كثير من الجرائم والمجرمين في أرض الواقع، وربما احتاجت بعض الدول إلى شراء هذه الكلاب لعدم القدرة لديها على تدريب هذه الكلاب أو لعدم توفر الكلاب المؤهلة لهذا التدريب، ومن هنا كانت الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي لهذه المسألة، وهو ما سيتم بحثه في هذا البحث، وذلك كالآتي:
1. الأحاديث الواردة في بيع الكلاب.
2. حكم بيع الكلاب عموماً.
3. الأدلة على جواز بيع الكلب مطلقاً.
4. الأدلة على جواز بيع المعلَّم وغير المعلَّم بخصوصهما.
5. الأدلة على تحريم بيع الكلاب عموماً.
6. الأدلة على حرمة بيع الكلب العقور بخصوصه.
7. حكم بيع الكلاب البوليسية.
8. الخلاصة.
فأقول مستعيناً بالله تعالى، وهو حسبي ونِعم الوكيل:
الأحاديث الواردة في بيع الكلاب:
وردت أحاديث كثيرة تُبيِّن أن الأصل في تربية الكلاب أو بيعها وشرائها هو التحريم، ومن هذه الأحاديث ما يأتي:
1. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أمسك كلباً، ينقص من عمله كل يوم قيراط، إلا كلب حرث، أو كلب ماشية»(1). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من اقتنى كلباً إلا كلباً ضارياً؛ لصيد أو كلب ماشية، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان»(2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من اتخذ كلباً، إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع، انتقص من أجره كل يوم قيراط»(3). وهذه الأحاديث قد نصت على حرمة تربية الكلاب عموماً، إلا المتخذة لحراسة الزرع أو الماشية، وكذا المتخذة للصيد، فإنه يجوز تربيتها.
2. وعن عون بن أبي جحيفة قال: رأيت أبي اشترى عبداً حجاماً، فسألته، فقال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، وثمن الدم، ونهى عن الواشمة والموشومة، وآكل الربا وموكله، ولعن المصور»(4). وفي رواية: «نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن»(5). وفي رواية: «شر الكسب مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام»(6). وفي رواية: «نهى عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً»(7). وفي رواية: «وقال: طعمة جاهلية»(8). وفي رواية: «ثمن القينة سحت، وغناؤها حرام، والنظر إليها حرام، وثمنها مثل ثمن الكلب، وثمن الكلب سحت، ومن نبت لحمه على السحت، فالنار أولى به»(9). وهذه الأحاديث قد دلَّت بعمومها على منع المسلم من بيع الكلاب. قال الترمذي:"والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم كرهوا ثمن الكلب"(10).
3. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، إلا الكلب المعلَّم»(11). وفي رواية:«نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب والهر، إلا الكلب المعلَّم»(12). وهذه الروايات قد استثنت أيضاً الكلب المعلَّم من حرمة بيع أو شراء الكلاب، إلا أن الاستثناء هنا واقع على الكلب المعلَّم، من غير تقييده بحراسة ولا صيد، وهذه الروايات التي جاءت بلفظ: "المعلَّم" قد تفرد بها الحسن بن أبى جعفر، وهو ضعيف(13)، ومع ذلك فقد حسَّن الألباني هذه الرواية(14). وقد بيَّن الشافعي -رحمه الله- ما هو المقصود بالكلب المعلم، فقال: "الكلب المعلَّم: الذي إذا أشلى استشلى المعنى، وإذا أخذ حبس ولم يأكل، فإذا فعل هذا مرة بعد مرة كان معلَّماً" (15). كما أن بعض طرق الحديث أيضاً قد جاءت بلفظ: «وثمن الكلب، إلا كلباً ضاريا»(16)، وفيها المثنى بن الصباح، وهو ضعيف(17). وأما بقية طرق الحديث فهي بلفظ: «نهى عن ثمن السنور والكلب إلا كلب صيد»(18).
4. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ذ«أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد، أو كلب ماشية»(19). وفي رواية عن ابن عمر: «أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلاب، حتى أن كانت المرأة لتجيء بكلبها، فنقتله»(20). وفي رواية: «أمر بقتل الكلاب بالمدينة، فأخبر بامرأة لها كلب في ناحية المدينة، فأرسل إليه فقُتِل»(21). وهذه الأحاديث قد دلَّت على أن المشروع في الكلب غير المأذون بتربيته هو القتل، إلا أنه قد ورد نسخ هذا الأمر المفضي إلى قتل الكلاب، إلا الكلب الأسود البهيم. فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين؛ فإنه شيطان»(22). وعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم»(23). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بقتل الكلاب. يقول: «اقتلوا الحيات والكلاب، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر؛ فإنهما يلتمسان البصر، ويستسقطان الحبالى»، وفيه أيضاً عن زيد بن الخطاب وأبي لبابة: «قد نهى عن ذوات البيوت»(24). قال الترمذي:"والكلب الأسود البهيم: الذي لا يكون فيه شيء من البياض"(25).
حكم بيع الكلاب عموماً:
اختلف العلماء في حكم بيع الكلاب على أقوال، كالآتي:
1. يجوز بيع الكلب مطلقاً، وهذا ما قال به الحنفية. قال في تبيين الحقائق: " قال رحمه الله: صح بيع الكلب"(26). وقال في العناية: "بيع الكلب وكل ذي ناب من السباع جائز، معلماً كان أو غير معلَّم، في رواية الأصل"(27).
وبناء على هذا القول يمكن القول بجواز بيع أو شراء الكلاب البوليسية التي تستخدم لكشف الجرائم والمجرمين.
2. يحرم بيع الكلب مطلقاً، ولا يجب الضمان على من قتله. وهذا ما قال به الشافعية والحنابلة، وهو قولٌ عند المالكية. قال في المجموع: "مذهبنا أنه لا يجوز بيع الكلب، سواء كان معلماً أو غيره، وسواء كان جرواً أو كبيراً، ولا قيمة على من أتلفه، وبهذا قال جماهير العلماء، وهو مذهب أبي هريرة، وحسن البصري، والأوزاعي، وربيعة، والحكم، وحماد، وأحمد، وداود، وابن المنذر وغيرهم"(28). وقال ابن قدامة: "ولا يجوز بيع الكلب، أيّ كلب كان، لا نعلم فيه خلافاً في المذهب. وبه قال الحسن وربيعة، وحماد والشافعي وداود"(29). وقال في شرح كفاية الطالب: "ونهي عن بيع الكلاب، أشار بذلك لما في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم: «نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن»(30). وبناء على هذا القول يقال: إنه لا يجوز بيع أو شراء الكلاب البوليسية التي تستخدم لكشف الجرائم والمجرمين.
3. يجوز بيع الكلب مطلقاً، إلا الكلب العقور، وهذا ما ذهب إليه أبو يوسف. قال في تبيين الحقائق: "وعن أبي يوسف أنه لا يصح بيع الكلب العقور؛ لأنه لا يُنتفع به، فصار كالهوام المؤذية"(31). وقال في العناية: "وعن أبي يوسف أن بيع الكلب العقور، أي الجارح، لا يجوز؛ لأنه غير منتفع به، ولأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إمساكه، وأمر بقتله"(32).
وبناء على هذا القول يمكن القول بجواز بيع أو شراء الكلاب البوليسية، التي تستخدم لكشف الجرائم والمجرمين.
4. يجوز بيع الكلب المأذون في اتخاذه، وهو كلب الحراسة، والصيد. وهذا قولٌ عند المالكية. قال في شرح كفاية الطالب: "ونهي عن بيع الكلاب... واختلف في جواز بيع ما أذن في اتخاذه منها، أي من الكلاب للحراسة، والصيد في جوازه ومنعه على قولين مشهورين"(33). وقال الحطاب الرعيني: "ومما يشترط في المعقود عليه أن لا يكون منهياً عن بيعه، فيجوز بيع ما لم ينه عن بيعه، لا ما نهي عنه، ككلب الصيد، والماشية، والزرع، فأحرى ما لم يؤذن في اتخاذه؛ لما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الكلب» من غير تقييد، وشُهِر أيضاً القول بالجواز في المأذون في اتخاذه، واختاره ابن رشد في آخر كتاب الجامع واقتصر المصنف على الأول لقوته إذ هو قول مالك، وابن القاسم، وشهره ابن رشد وغيره. قال في التوضيح: والمشهور المنع. قال في البيان: وهو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك"(34). قال العدوي في حاشيته على شرح الكفاية:"قوله: عن بيع الكلاب. المنع متفقٌ عليه إن كان غير مأذون في اتخاذه، وإذا وقع كان باطلاً"(35).
وبناء على هذا القول يمكن القول بجواز بيع أو شراء الكلاب البوليسية، التي تستخدم لكشف الجرائم والمجرمين.
أدلة الحنفية على جواز بيع الكلب مطلقاً:
استدل الحنفية على جواز بيع الكلب بأدلة، منها:
1. الأحاديث المتقدمة التي فيها النهي عن بيع الكلب، إلا كلب صيد أو ماشية(36).
2. واستدلوا ببعض الآثار الدالة على أن للكلب قيمة، منها: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه قضى في كلب الصيد أربعون درهماً، وفى كلب الغنم شاة، وفي كلب الزرع فرق من طعام، وفي كلب الدار فرق من تراب، حقٌ على الذي قتله أن يعطى، وحقٌ على صاحب الكلب أن يأخذ، مع ما نقص من الأجر(37)، وعن محمد بن يحيى بن حبان قال: كان الناس يقضون بالكلب بأربعين درهما.ً(38)
3. واستدلوا بقياسه على البازي؛ لأن كلاً منهما مالٌ متقوَّم، إذ كل منهما آلة للاصطياد، وعليه فيصح بيع الكلب كالبازي.(39)
4. ولأن الشرع قد أباح الانتفاع به حراسةً واصطياداً، فكذا بيعاً كالفهد.(40)
وقد أجيب عن هذا بالفرق بين الفهد والكلب، فالفهد ونحوه طاهر، بخلاف الكلب.(41)
5. ولأنه يجوز تمليكه بغير عوض كالهبة والوصية، فكذا بعوض بخلاف الخنـزير؛ لأنه نجس العين كالميتة، ولذا لا يجوز الانتفاع به شرعاً، والكلب ليس بنجس العين، وبخلاف الهوام المؤذية؛ لأنها لا ينتفع بها.(42)
وقد أجاب في المجموع عن هذا، فقال: "والجواب عن قياسهم على الوصية أنها محتمل فيها ما لا يحتمل في غيرها، ولهذا تجوز الوصية بالمجهول والمعدوم والآبق"(43).
دليل الحنفية على جواز بيع الكلب المعلَّم وغير المعلَّم بخصوصهما:
وقد استدل الحنفية على جواز بيع المعلَّم وغير المعلَّم، فقالوا: أما الكلب المعلَّم فلا شك في جواز بيعه؛ لأنه آلة الحراسة والاصطياد فيكون محلاً للبيع؛ لأنه منتفع به حقيقة وشرعاً فيكون مالاً. وأما غير المعلَّم؛ فلأنه يمكن أن ينتفع به بغير الاصطياد، فإن كل كلب يحفظ بيت صاحبه، ويمنع الأجانب عن الدخول في بيته، ويخبر عن الجائي بنباحه، فساوى المعلَّم في الانتفاع به.(44)
قلت: أما هذا الاستدلال على جواز بيع غير المعلَّم فهو استدلال ضعيف؛ لأن الانتفاع ليس على وِزان واحد، فالانتفاع المعتبر شرعاً، هو انتفاع الكلب المعلَّم للحراسة أو الصيد، وهذا ما دلت عليه النصوص، وأما سائر الانتفاعات المتحققة في غير المعلم، فهي غير معتبرة؛ لأن هذه الانتفاعات موجودة في المعلَّم أيضاً، ولكن الجواز المربوط بالمعلَّم ليس مرتبطاً بهذه الانتفاعات، وإنما هو مربوط بنفع زائد، تحصَّل من تعليمه، على أن استدلال الحنفية بأن الكلب غير المعلَّم، والذي ينتفع به لحماية البيت ونحوه داخلٌ في الانتفاع بالكلب في الحراسة.
الأدلة على تحريم بيع الكلاب عموماً:
احتج من قال بحرمة بيع الكلاب على العموم بأدلة، منها:
1. الأحاديث المتقدمة في النهي عن بيع الكلاب، قالوا: والنهى عن هذا البيع يقتضى فساده، وعليه فلا قيمة على متلفه.(45)
2. ولأنه حيوان نجس، فلم يجز بيعه، كالخنـزير.(46)
أدلة أبي يوسف على حرمة بيع الكلب العقور بخصوصه:
وقد استدل أبو يوسف على حرمة بيع الكلب العقور بأدلة منها:
1. أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن إمساكه وأمر بقتله(47)، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قالت حفصة -رضي الله عنها-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور»(48).
2. أنه غير منتفع به.(49)
وقد حاول الحنفية الردَّ على أبي يوسف بأن هذا كان قبل ورود الرخصة في اقتناء الكلب للصيد أو للماشية أو للزرع.(50)
قلت: وهذا يحتاج إلى دليل.
هذا وللحنفية مناقشات لا حاجة إلى تطويل المقام بها، ومن شاء ذلك فليراجع العناية شرح الهداية.(51)
وحاصل النظر في هذه الأقوال وأدلتها، هو ترجيح القائل بجواز بيع الكلب المأذون في اتخاذه، للآتي:
1. لأن هذا القول يجمع بين النصوص الدالة على التحريم والنصوص الدالة على الجواز، وذلك لأن النصوص المحرِّمة عامة، والنصوص المبيحة خاصة، كما في رواية جابر: «نهى عن ثمن السنور والكلب، إلا كلب صيد» ولا تعارض بين عام وخاص، فيعمل بالعام فيما تناوله وهو حرمة بيع أو شراء الكلاب ويعمل بالخاص في الباقي، وهو جواز بيع أو شراء الكلب لغرض الحراسة أو الصيد.
2. ولأن بقية الأدلة الأخرى التي استدل بها من لم يقل بالحل بإطلاق، أو الحرمة بإطلاق، أو الحرمة للعقور فقط يمكن الرد عليها، وذلك كالآتي:
أما النصوص التي استدل بها الحنفية على الجواز، فهي أخص من المستدل له؛ لأنها في الكلب المعلم، والمستدل له هو المعلَّم وغير المعلَّم. ثم اطلعت بعد ذلك على مثل هذا الرد في المجموع من كتب الشافعية، حيث يقول: "وأما الجواب عما احتجوا به من الأحاديث والآثار، فكلها ضعيفة باتفاق المحدثين، وهكذا وضَّح الترمذي والدارقطني والبيهقي ضعفها، ولأنهم لا يفرقون بين المعلَّم وغيره، بل يجوزون بيع الجميع، وهذه الأحاديث الضعيفة فارقة بينهما"(52). ولأنها معارضة بالنصوص الدالة على التحريم. وإنما لم يقل الحنفية بالتخصيص؛ لأنهم لا يقولون بتخصيص العام.
وأما استدلال الحنفية بالقياس على البازي وكذا الفهد، فهو قياس مصادمٌ للنصوص الدالة على الحرمة، ولا قياس مع النص. ومثل هذا قياسهم الكلب على الوصية في جواز التملك.
وأما ما احتج من قال بحرمة بيع الكلاب من الأحاديث الدالة على التحريم -وهي عامة- مخصصة بالأحاديث الدالة على الجواز -وهي خاصة- ولا تعارض بين عام وخاص.
وأما استدلالهم بالقياس على كالخنـزير، فهو أيضاً قياس مصادمٌ للنصوص الدالة على الجواز.
وأما ما احتج به أبو يوسف على حرمة بيع الكلب العقور من الأحاديث الآمرة بقتل الكلب العقور، فهي في غير موضع الخلاف؛ لأن عدم قتل سائر الكلاب، ليس معناه جواز بيعها وشرائها، فالقتل شيءٌ، والبيع والشراء شيءٌ آخر.
وأما استدلاله على الحرمة بأن الكلب العقور غير منتفع به، فمفهومه جواز بيع أو شراء المنتفع به، بأيِّ نفع كان، حتى ولو كان لغير الحراسة والصيد، وهذا غير مسلَّم في المنافع غير المعتبرة شرعاً؛ لأن الانتفاع المعتبر هو الانتفاع الذي أقره الشرع كالحراسة والصيد، وأما الانتفاع الذي لا يقره الشرع فهو غير معتبر، وعلى ذلك فليس مدار الحكم على الانتفاع به بأي نفع، وإنما مداره على الانتفاع به بنفع مخصوص، وهو الحراسة والصيد، وما يمكن أن يقاس عليهما.
حكم بيع الكلاب البوليسية:
يجوز بيع الكلاب البوليسية بناء على القول بجواز بيع الكلاب المأذون في اتخاذها -وهو الراجح كما تقدم- ككلب الحراسة، والصيد؛ قياساً؛ لأن كلاً منها معلَّم، لا سيما وقد ورد التنصيص على هذه العلة -أعني تعليم الكلب- في بعض طرق الحديث، كما تقدم.
وبيان ذلك: أن كلاب الصيد والحراسة هي الأصل، والكلاب البوليسية هي الفرع، والعلة الجامعة بينهما هي أن الكل معلَّم، والحُكم هو جواز بيع الكلاب البوليسية، وهذا من جهة العلة.
وأما من جهة تحقق الحكمة، فالجميع منتفع به، حيث ينتفع بكلب الحراسة في الحفاظ على النفس والمال، فهو لدفع مفسدة متوقعة عن صاحبه، والكلب البوليسي مثله؛ لأن استعماله في كشف الجرائم والمجرمين يفضي إلى الحفاظ على النفس والمال.
وأما كلب الصيد فالانتفاع به واقع في جلب مصلحةٍ لصاحبه، والكلب البوليسي مثله؛ لأن في استعماله تحقيق مصلحة للناس؛ إذ هو مما يساعد في المحافظة على حقوق الناس وعدم ضياعها، بكشف المجرمين.
وعليه يقال: إن الكلب المعلّم مما يجوز بيعه أو شراؤه، ولا شك أن الكلاب البوليسية معلَّمة.
كما أن بيع الكلاب البوليسية جائز تخريجاً عند القائلين بجواز بيع الكلاب مطلقاً، وهم الحنفية وكذا عند أبي يوسف القائل بالجواز إلا في الكلب العقور.
الخلاصة:
يحرم تربية المسلم للكلاب إلا لحراسةِ زرعٍِ أو ماشيةٍ أو المتخذ للصيد.
اختلف العلماء في حكم بيع الكلاب على أقوال، كالآتي:
1. يجوز بيع الكلب مطلقاً، وهذا ما قال به الحنفية.
2. يحرم بيع الكلب مطلقاً، ولا يجب الضمان على من قتله. وهذا ما قال به الشافعية والحنابلة، وهو قولٌ عند المالكية.
3. يجوز بيع الكلب مطلقاً، إلا الكلب العقور، وهذا ما ذهب إليه أبو يوسف.
4. يجوز بيع الكلب المأذون في اتخاذه، وهو كلب الحراسة، والصيد. وهذا قولٌ عند المالكية، وهذا القول هو الراجح عندي.
يجوز بيع الكلاب البوليسية قياساً على الكلاب المتخذة للحراسة أو الصيد.
من موقع مكتبة الايمان مؤسسها الشيخ عبد الحميد الزنداني و كوكبة من العلماء
____________