~♣أَحْتَاْجٌكٌمْـ فَهَلُمُوْا لِمُسَاْعَدَتِيْ ♣~ - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > قسم الطّلبات

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

~♣أَحْتَاْجٌكٌمْـ فَهَلُمُوْا لِمُسَاْعَدَتِيْ ♣~

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-12-23, 11:18   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
نجمة المستقبل
عضو محترف
 
الصورة الرمزية نجمة المستقبل
 

 

 
إحصائية العضو










Icon24 ~♣أَحْتَاْجٌكٌمْـ فَهَلُمُوْا لِمُسَاْعَدَتِيْ ♣~

السلام عليكم و رحمة الله و بركاااته


أعضاء و مشرفي منتدى الجلفة الكرام

أتقدم لكم بطلبي هذا و هو بحث عن الاستعمال العدولي في القرآن الكريم في مقيااس علم الدلالة تخصص أدب عربي سنة ثانية جامعي

اليكم الخط









 


رد مع اقتباس
قديم 2012-12-23, 17:59   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
نجمة المستقبل
عضو محترف
 
الصورة الرمزية نجمة المستقبل
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟










رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 06:59   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
الورود المنسية
عضو متألق
 
الصورة الرمزية الورود المنسية
 

 

 
الأوسمة
وسام المرتبة الأولي 
إحصائية العضو










افتراضي

يارب يساعدوك نودا اسفة










رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:04   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

محاضرات وتطبيقات علم الدلالة

https://www.4shared.com/office/cH7_1NLn/___.html


دراسة دلالية
https://www.4shared.com/office/Jv3c0ww9/__online.html



مفهوم المصطلح في التراث:
بدايةً: نشير إلى المعنى اللغوي لمصطلح العدول، يقال: "عَدَلَ عنه يَعْدِلُ عَدْلاً وعُدُولاً: حَادَ، وإليه عدولاً: رجع ... وماله مَعْدِل ولا مَعْدُول: مَصْرِف".

"عدل عن الطريق عدولاً: مال عنه وانصرف... وعِدْلُ الشيء بالكسر: مثله من جنسه أو مقداره ... وعَدلُه بالفتح: ما يقوم مقامه من غير جنْسه"[1].

والعدول عند النحاة: خُرُوج الاسم عن صيغته الأصليَّة إلى صيغة أخرى[2].

والملاحظ على ما سبق اتِّفاق المادَّة اللغوية المنقولة من المعاجم، على أنَّ من معاني العدول: الميل والانحراف، أو التحوُّل والانصراف، وهي معانٍ شديدة الصِّلة بالمعنى الاصطلاحي.

ومصطلح "العدول" جاء في تراثنا اللغوي والنحوي والبلاغي وتعدَّدت أنماطه، واطَّرد العلماء - قديمًا وحديثًا - على استخدامه في مؤلفاتهم بشكل ملحوظ، ولكن بمسمَّياتٍ مختلفة اللفظ متَّفقة الدلالة، وهدفهم من العدول غالبًا التوسُّع في المعنى، أو لأجل الإيجاز والاختصار، أو للمناسبة، أو لمشاكلة المقاطع، أو لمراعاة الفواصل، كما أنَّ فكرة العدول تُعد من سنن العرب التي حرصوا عليها في لُغتهم، حرصًا على دقَّة اللفظ وانسجام العبارة، وجمال الإيقاع، وتناسب المقاطع.

أوَّلاً: المصطلح عند اللغويين والنحاة:
استخدم سيبويه (ت185هـ) مصطلح "العدول" بمعنى "الاتِّساع"، وورد عنده مفهوم "التوسُّع" على أربع صيغ صرفية هي: الاتِّساع، والسَّعة، وأوسع، واتسع[3].

ونلاحظ أنَّ "السَّعة" عنده تعني "المجاز"، والمجاز لونٌ من العدول من حيث هو خروج عن الأصل؛ إذ المجاز انحراف بالمعنى عن الحقيقة لفائدة أو لنكتة بلاغية، وهو لم يبعد كثيرًا عن فهم البلاغيين، فقد استخدم عبدالقاهر "الاتِّساع" بهذا المعنى عند حديثه عن الكناية والاستعارة والمجاز في مواضع متفرقة من دلائل الإعجاز[4].

ولسيبويه حديث طويل عن الاتساع في الكلام للإيجاز والاختصار[5]، كما أنَّ له أبوابًا صريحة في بيان "العدول" في لغة الشعر دون سائر الكلام، منها: "باب ما يحتمل الشعر"[6]، و"باب ما يجوز في الشعر ولا يجوز في الكلام"[7] و"باب ما رخَّمت الشعراء في غير النداء اضطرارًا"[8]، و "باب وجوه القوافي في الإنشاد"[9].

يقول سيبويه في باب "استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى لاتّساعهم في الكلام والإيجاز والاختصار": "ومثله في الاتساع قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً ﴾ [البقرة: 171]، فلم يشبهوا بما يَنعِقُ - وهو الرَّاعي - وإنَّما شُبِّهوا بالمنعوق به، وإنَّما المعنى: مثلكم ومثل الَّذين كفروا كمثل النَّاعق والمنعوق به الَّذي لا يسمع، ولكنَّه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلْم المخاطَب بالمعنى"[10].

فالآية الكريمة تدخل تحت ما يسمَّى بـ"تشْبيه التمثيل"، الذي دلَّ سيبويه على معناه دون أن يصرِّح باسمه، وهو يقوم على تشبيه شيئين بشيئَين - كما هو متحقّق في الآية - بتشبيه الدَّاعي والكفَّار، بالرَّاعي مع الغنم، "ولكنَّه اكتفى بذكر الكفَّار من المشبه، والرَّاعي من المشبَّه به، فدلَّ ما أبقى على ما ألقى، وهذا معنى كلام سيبويه"[11].

بَيْدَ أنَّ سيبويه قد أجرى جُلَّ التراكيب التي خرجت عن نمطيَّتها، وعُدِل بها عن أصلها في الأداء اللغوي، وسارتْ في ذلك العدول على سنن العرب في كلامها، على ما أسماه بـ"الاتِّساع"، سواء كانت هذه التراكيب تشتمل على مجاز أو تشبيه أو استعارة أو غير ذلك ... ولكن حسْبُه - بما تثبته نصوصه - ما قام من ربط بين عُرى النَّحو واللغة، وما يترتَّب على توخِّي سننها من وجوه بلاغيَّة اتَّسمتْ بسطحيَّة التناوُل أحيانًا، وبجودة الملْمح أحيانًا، وعُذره في ذلك قائم؛ فهو نحوي أصيل.

وتأثَّر بهذا الفهم - أعني: العُدول بمعنى المجاز - كلٌّ من: الفرَّاء وأبي عبيدة وابن قُتيبة، وأبي العباس ثعلب وغيرهم[12].

فأبو زكريَّا الفرَّاء (ت207هـ) تناوَل المصطلح نفسه "المجاز" في العدول عن التثنية إلى الجمع؛ حيث يقول في قولِه - عزَّ وجلَّ -: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾ [الحج: 19] -: "لم يقُل: اختصما، لأنَّهما جمعان ليْسا برجُلين"[13].

ويقول - في تعليقه على قوله تعالى: ﴿ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾ [الطارق: 6] -: "أهل الحجاز أفعل لهذا من غيرهم، أن يجعلوا المفعول به فاعلاً إذا كان في مذهب نعت، كقول العرب: هذا سر كاتم، وهمٌّ ناصب، وليل نائم ... وأعان على ذلك أنَّها توافِق رؤوس الآيات التي هنَّ معهنَّ"[14].

وفي تفسيره لقوله سبحانه: ﴿ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 20، 21]، يقول: "رويت عن عليّ بن أبي طالب - رحمه الله - "بل تحبّون وتذرون" بالتَّاء، وقرأها كثير "بل يحبُّون" بالياء، والقُرآن يأتي على أن يخاطب المنزل عليهم أحيانًا، وحينًا يُجعَلون كالغَيْب؛ كقوله: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾ [يونس: 22]"[15].

وقال في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 4] -: "وقد قرأ القرَّاء "يسري" بإثبات الياء و"يسر" بحذفها[16]، وحذفُها أحبُّ إليَّ لمشاكلتِها رؤوس الآيات، ولأنَّ العرب قد تحذِف الياءَ وتكتفي بكسْر ما قبلَها منها، أنشدني بعضُهم:




ويقول في موضعٍ آخر في قوله تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46]: "وإنَّما ثنّاهما لأجل الفاصلة؛ رعايةً للَّتي قبلها والَّتي بعدها على هذا الوزْن ... والعرب تفعل ذلك في الشعر، والشعر له قوافٍ يُقيمها الوزن والزيادة والنقصان، فيحتمل ما لا يحتمله الكلام"[18].

فالفرَّاء هنا يتَّخذ من سنن العرب وطرقهم في الكلام وسيلةَ ترجيح لبعض القراءات القرآنيَّة، وطريقًا من طُرق العدول، فربَّما يعدل الأسلوب القرآني عن لفظ إلى آخَر أو عن صيغة إلى أخرى، ويسوق رأْيَه مدْعومًا بما أُثِر عنهم في شِعْرهم ونثْرهم.

أمَّا أبو عبيدة (ت210هـ)، فإنَّه يَعُدُّ كلَّ عدول أو انحِراف عن مقتضى الظَّاهر من "المجاز"، فمن ذلك قوله: "ومن مجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد الَّذي له جمع منه ووقع معنى هذا الواحد على الجميع؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾ [غافر: 67]، في موضع "أطفالاً" ... ومن مجاز ما جاء من لفظ خبر الجميع على لفظ الواحد، قال: ﴿ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [التحريم: 4] في موضع ظهراء"[19].

وعند تناوُله للعدول عن الجمْع إلى الإفراد في قوله سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ ﴾ [يس: 34 - 35]، يقول: "مجاز، هذا مجاز قول العرب يذْكرون الاثنين ثمَّ يقتصِرون على خبر أحدِهِما، وقد أشركوا ذلك فيه، وفي القرآن: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34]، وقال الأزرق بن طرفة:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي
بَرِيئًا وَمِنْ دُونِ الطَّوِيِّ رَمَانِي


ولَم يقل: بريئين، واقتصر على خبر واحد وأدْخَل الآخر معه"[20].

والغاية التي أرادها أبو عبيدة مِن توسُّع مفهوم المجاز: هي التدليل على أنَّ البيان القرآني المعجز لَم يَحِد في معجمه أو في أساليبه عن سنن العربيَّة في التَّعبير والبيان، ففي القرآن - على حدِّ تعبيره - "ما في الكلام العربي من الغريب والمعاني، ومن المحتمل من مجاز ما اختصر، ومجاز ما حُذف، ومجاز ما كف عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين، ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر الواحد، ومجاز ما جاء الجميع في موضع الواحد إذا أُشرِك بينه وبين آخر مفرد ... ومجاز ما جاءتْ مخاطبته مخاطبة الغائب ومعناه مخاطبة الشَّاهد، ومجاز ما جاءتْ مخاطبته مخاطبة الشَّاهد، ثم تُركت وحُوِّلت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب ... ومجاز المجمل استغناءً عن كثرة التَّكرير، ومجاز المقدَّم والمؤخَّر ... وكل هذا جائز قد تكلَّموا به"[21].

وعلى أساس تلك الغاية اقتصر تناوُل أبي عبيدة لظاهرة المجاز - والتي تُعدُّ لونًا من ألوان العدول - على مجرَّد الإشارة إليها، والاستشهاد لها بما ورد على نهجها من كلام العرب شعرًا ونثرًا.

وعلى النهج نفسه يسير ابن قتيبة (ت276هـ) في كتابه "تأويل مشكل القرآن"، فقد ابتدأ كتابه ببيان حال العرب في مباني ألفاظِها وإعرابها، وتحدث عن مكانة الشعر عندها، وهو "الذي أقامه الله مقام الكتابة لغيرها، وجعله لعلومها مستودعًا، ولآدابها حافظًا ولأنسابها مقيدًا"[22] إلى أن قال مقاربًا بين لغة الخطاب القرآني وغيره من أنواع الخطاب: "وللعرب المجازات في الكلام، ومعْناها طرق القول ومآخذه، ففيها الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقديم والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين ... وبكل هذه المذاهب نزل القرآن"[23].

ويلحظ القارئ عند ابن قتيبة إشارة مهمَّة إلى صعوبة الفصل بين الشكل والمضمون، أو اللفظ والمعنى في لغة العرب عامَّة، وفي لغة القرآن خاصَّة، ومردُّ ذلك إلى اتِّساع المجاز في الخطابين.

وعقد ابن قتيبة في كتابه الآنِف بابًا بعنوان "مخالفة ظاهر اللفظ معناه"[24]، يقول: "ومنه واحد يُراد به جميع، كقوله: ﴿ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ ﴾ [الحجر: 68]، وقوله: ﴿ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 16]، وقوله: ﴿ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾ [الحج: 5]... والعرب تقول: فلان كثير الدِّرهم والدينار، يريدون الدراهم والدنانير، وقال الشاعر:

هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا
وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ[25]


ويقول ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن": "وإنَّما يجوز في رؤوس الآي أن يزيد هاءً للسكت، كقوله: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ ﴾ [القارعة: 10]، وألفًا كقوله: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ [الأحزاب: 10]، أو يحذف همزة من الحرف؛ كقوله تعالى: ﴿ أَثَاثاً وَرِءْياً ﴾ [مريم: 74]، أو ياءً كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 4]؛ لتستوي رؤوس الآي على مذاهب العرب في الكلام إذا تمَّ فآذنت بانقطاعه وابتداء غيره؛ لأن هذا لا يزيل معنًى عن جهته ولا يزيد ولا ينقص"[26].

وابن قتيبة في كل هذه الأبواب ينطلق - كسابقيه - من أنَّ القرآن جاء على سنن العربية، وأن لغة العرب عرفت كل هذه الأبواب؛ لأن للغة العرب من الاتساع في المجاز ما ليس لسائر اللغات، ويؤيد ذلك بالنصوص من شعر العرب ونثرهم.

أمَّا ابن جني (ت392هـ) فاستعمل مصطلحات: "العدول" و "الانحراف" و "الخروج عن الأصل" حيث يقول: "من تكثير اللفظ لتكثير المعنى العدول عن مُعتاد حاله، وذلك "فُعَال" في معنى "فَعيل"، نحو: "طُوَال"، فهو أبلغ معنًى من "طَويل"، و "سُرَاع" أبلغ من "سَريع"، ففُعَال - لعمري - وإن كانت أخت "فعيل" في باب الصفة، فإن فعيلاً أخصُّ بالباب من "فُعَال"، ألا تراه أشدَّ انقيادًا منه، تقول: "جَميل"، ولا تقول: "جُمَال"، و "بَطيء" ولا تقول: "بُطَاء" ... فلمَّا كانت "فعيل" هي الباب المطرد وأُريدَت المبالغة، عُدِلَت إلى "فُعَال"، فضارعت "فُعَال" بذلك "فُعَّالاً"، والمعنى الجامع بينهما خروج كل واحد منهما على أصله، أما "فُعَّال" فبالزيادة، وأما "فُعَال" فبالانحراف به عن "فَعيل"[27].

ولقد سبق أن نبَّه ابن جني إلى إمكانات "العدول" في الحركات الإعرابية للبسملة في أربعة أشكال، وربط بين العدول ودلالته في السياق، فنجده يقول: "... وكل ذلك على وجه المدح، وما أحسنه ههنا! وذلك أنَّ الله - تعالى - إذا وُصِف فليس الغرض في ذلك تعريفه بما يتبعه من صفته ... وإذا كان ثناءً فالعدول عن إعراب الأول أولى به ... فإذا عدل به عن إعرابه، عُلم أنه للمدح أو الذمّ في غير هذا ... فلذلك قَوِيَ عندنا اختلاف الإعراب في "الرحمن الرحيم" بتلك الأوجه التي ذكرناها، ولهذا في القرآن والشعر نظائر كثيرة"[28].

وذهب ابن جني إلى أبعد من ذلك، فقرَّر أن كثيرًا من أنواع المجاز من باب "شجاعة العربية"[29] من المحذوف والزيادات والتقديم والتأخير وغيرها، مستدلاًّ على ذلك بأمثلة سيبويه مدللاً على ما بها من مجاز واتساع، فيقول: "ألا ترى أنك إذا قلت: بنو فلان يطؤهم الطريق، فيه من السعة إخبارك عمَّا لا يصح وطؤه بما يصح وطؤه، وكذلك قوله سبحانه: ﴿ وَاسْأَلِ القَرْيَةَ الَتِي كُنَّا فِيهَا ﴾ [يوسف: 82] فيه المعاني الثلاثة (الاتساع، والتشبيه، والتوكيد)؛ أمَّا الاتساع فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله"[30].

وأشار ابن جني إلى أن وقوع المفرد موقع الجمع شائع عند العرب فاشٍ في اللغة، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾ [غافر: 67]؛ أي: أطفالاً، وعلَّق عليه بقوله: "وحُسن لفظ الواحد هنا شيء آخر أيضًا، وذلك أنه موضع إضعاف للعباد وإقلال لهم، فكان لفظ الواحد لقلَّته أشبه بالموضع من لفظ الجماعة؛ لأن الجماعة على كل حال أقوى من الواحد فاعرف ذلك"[31].

وهذا تعليل طريف من ابن جني؛ إذ رأى أنَّ علَّة العدول من الجمع إلى المفرد هي الاختصار والتخفيف، وذلك أمر قد نحسُّه في كثير من الأساليب، وبذلك ربط ابن جني بين غرض الكلام والصياغة التي يرد عليها، وهو تحليل فذُّ يذكِّرنا بصنيع البحث الأسلوبي المعاصر.

ويقول في باب "استِعْمال الحروف بعضها مكان بعض" - وهو لون من العدول -: "ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لكنَّا نقول: إنَّه يكون لمعناه في موضع دون موضع على حسب الأحوال الداعية إليه والمسوِّغة له، فأمَّا في كل موضع وعلى كل حال فلا"[32]، وهذه لفتة جيدة من ابن جنّي؛ إذ يولي السياقَ وقرائنَ الأحوال أهميةً كبرى في توجيه المعنى والوقوف على بلاغة استعمال الحرف، فهو يرى أنَّ تناوب الحروف بعضها مكان بعض أمر لا يخضع لقياس، بل يخضع للأحوال الداعية إليه والمسوِّغة له، وقد استفاد من هذه الفكر من جاء بعده من النحاة والمفسرين والبلاغيين والنقاد العرب، بله الغربيين"[33].

إذًا فابن جنَّي يرى أنَّ من شجاعة العربية وقوع المفرد مكان الجمع، وتبادل الحروف بعضها مكان بعض، كل ذلك على سبيل المجاز والاتساع؛ لذلك نراه يقول في موضع آخر: "وإنَّما يقع المجاز ويُعدل إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة وهي: "الاتِّساع"، و "التوكيد"، و "التشبيه"، فإن عدِم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتَّة"[34].

فالحقيقة هي المتصوَّر المثالي، والمجاز هو الاستعمال العدولي، والربط بين العدول والمجاز في نص ابن جني ربطٌ صريح، وتكمن أهميته في أداء جملة من الوظائف ... ومهْما يكن من قول في الحقيقة والمجاز، فإنَّ "العدول عن الأصل" تولُّد ذاتي في اللغة يرتبط بتولد الأفكار وتشعبها وتحاورها وتجادلها، وأنه لا يُحكم بشرعية العدول إلا إذا أضاف فضلاً و مَزيَّة[35].

لقد عالج ابن جني كثيرًا من ظواهر الانحراف بالدلالة الحقيقيَّة إلى دلالات أخرى مجازيَّة، وقدم - لمن جاء بعده - مادَّة جيدة للبحث الأسلوبية في مسألة الدلالة المجازية في بابه المعروف بـ "شجاعة العربيَّة"، كما وسَّع دائرة "العدول" لتشمل الخطاب الأدبي دون مراعاة لاختلاف أجناسه، فذهب إلى أنَّ "العدول" في الشعر ليس من الاضطرار، وإنَّما الدافع إليه رغبة الشاعر في التعبير المبني على الاختيار، فيقول: "... فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها، فاعلم أنَّ ذلك على ما جَشِمَهُ منه وإن دل من وجه على جَوْرِه وتعسُّفه؛ فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمُّطه وليس دليلاً على ضعف لغته، ولا قصورًا عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته، بل مَثَلُهُ في ذلك عندي مَثَلُ مُجْرِي الجَمُوح بلا لجام، ووارد الحرب الضَّروس حاسرًا من غير احتشام، فهو وإن كان ملومًا في عنفه وتهالكه، فإنَّه مشهود له بشجاعته وفيض مِنَّتِه"[36].

ونلتقي بابن فارس (ت 395هـ) حيث يقدِّم حديثًا مطولاً عن سنن العرب التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم والتي نزل القرآن بها فيقول: "وقد جاء القرآن بجميع هذه السنن لتكون حجَّة الله عليهم آكد، ولئلا يقولوا: إنَّما عجزنا عن الإتيان بمثله؛ لأنَّه بغير لغتنا وبغير السنن التي نستنها، فأنزله - جلَّ ثناؤه - بالحروف التي يعرفونها، وبالسنن التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم، ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أظهر وأشهر"[37].

ويرى ابن فارس أنَّ العجم لم تتَّسع في المجاز اتساع العرب، فيقول: "أين لسائر اللغات من السعة ما للغة العرب؟"[38]، ويستشهد على ذلك بقوله: "لو احتجنا إلى أن نعبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية، لما أمكننا لذلك إلا باسم واحد، ونحن نذكر للسَّيف بالعربية صفات كثيرة، وكذلك الأسد والفرس ..."[39]، ويذهب إلى أبعد من ذلك في بيان قيمة الاتِّساع فيقول: "لو أنه لم يُعلم توسُّع العرب في مخاطبتها لَعَيّ بكثير من علم محكم الكتاب والسنة"[40]، وكأن معرفة الاتساع والإلمام بخباياه شيء ضروري لمن يرغب في فهم النص القرآني وتذوقه، وإلا فسيظل النص مغلقا يعسر فهمه.

ومما ذكر ابن فارس من سنن العرب: الحذف والاختصار، وذكر الجمع والمراد الواحد، ومخاطبة الواحد بلفظ الجميع، وخطاب الواحد بلفظ الاثنين، والبسط والقبض، والتقديم والتأخير، والاعتراض[41].

وذكر أيضًا "المحاذاة" وعرفها بـ "أن يُجعل كلام بحذاء كلام، فيؤتى به على وزنه لفظًا، وإن كانا مختلفين، فيقولون: "الغدايا والعشايا"، فقالوا: الغدايا لانضمامها إلى العشايا"[42].

وحديث ابن فارس عن سنن العرب حديث طويل، يتميَّز بأنَّه يدل على رؤية مبكرة لقواعد الخطاب ممَّا يحاول العصر الحديث رصده وتنظيمه، من دور المتكلم والمتلقي والظروف المحيطة، وفيه أيضًا مزج ممتاز لما كان مقصورًا على البنية اللغوية، ولما استقرَّ عند البلاغيين، وهذا المزج بين "اللغة" و "البلاغة" هو الذي يكشف عن منهج عربي مبكِّر في درس الوظيفة الاتصالية للغة[43].

وقد تابع الثعالبي (ت429هـ) في "فقه اللغة" ابنَ فارس متابعة تامَّة في جلِّ ما ذكره من سنن العرب[44]، يقول في إجراء الاثنين مُجْرَى الجمع: "قال الشّعبي في كلام له في مجلس عبد الملك بن مروان: رجلان جاؤوني، فقال عبد الملك: لَحَنت يا شعبيّ، قال: يا أمير المؤمنين، لم ألْحَن مع قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾ [الحج: 19]، فقال عبدالملك: لله درُّكَ يا فقيه العِراقَيْن! قد شَفَيْتَ، وكَفَيْتَ"[45].

ويلقانا بعد ذلك ابن سيدة (ت458هـ) صاحب كتاب "المحكم" الذي يقول عند تعرُّضه لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً ﴾ [الكهف: 51]: "أي: أعضادًا، وإنما أفرد ليعدل رؤوس الآيات بالإفراد"[46]، فقد جعل مراعاة رؤوس الآي "الفواصل" سببًا من أسباب العدول، وهذا وارد عند كثير من القوم.

أمَّا ابن هشام (ت761هـ) فهو يستخدم مصطلح "التحويل" مرادفًا لمصطلح العدول، في أثناء حديثه عن أقسام التَّمييز المبيِّن لجهة النسبة فجعلها أربعة: أحدها: أن يكون محولاً عن الفاعل، نحو: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾ [مريم: 4]، أصله: "واشتعل شيب الرأس" وقوله تعالى: ﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً ﴾ [النساء: 4]، أصله: "فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء منه" فحول الإسناد فيهما عن المضاف، ثمَّ جيء بذلك المضاف الذي حوّل عن الإسناد فضلةً تمييزًا، والثاني: أن يكون محوَّلا عن المفعول، نحو: ﴿ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً ﴾ [القمر: 12]، والثالث: أن يكون محوّلاً عن غيرهما، نحو: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً ﴾ [الكهف: 34]، والرابع: أن يكون غير محوّل، نحو "لله درُّه فارسًا"[47].

إذًا؛ "العدول" - عند اللغويين والنحاة - هو كلُّ تحوُّل أسلوبي، أو انحراف عن الأصل المثالي، لا يتغيَّر به جوهر المعنى؛ أي: "البنية العميقة" له، أو هو العدول بالكلام من نمط إلى نمط آخر من أنماط التوسع في المعنى، أو "العدول عن مساق الكلام إلى مساق آخر"[48].

ومن خلال مبحث المطابقة الذي أقامه النحاة واللغويون يظهر "الالتفات/ العدول/ الانحراف" كخاصّيَّة تعبيريَّة تتميز بطاقتها الإيحائيَّة من حيث كان بناؤه يعتمد على العدول، وطبيعة المطابقة بعلاقاتها السياقيَّة تتمثَّل لغويًّا في العلامة الإعرابيَّة، كما تتمثل في الضمائر (التكلم والخطاب والغيبة)، وفي العدد (الإفراد والتثنية والجمع )، وفي النَّوع (التذكير والتَّأنيث)، ثم أخيرًا في التَّعيين "التعريف والتنكير".

ما أعظم جهود هؤلاء الأعلام! وخصوصًا ابن جني الذي سبق فِكْرُه زمانَه بآلاف السنين، وقدَّم في مؤلفاته مادَّة جيِّدة يفيد منها أصحاب الأسلوبية المعاصرة.

[1] راجع القاموس المحيط "عدل" 4 /13, 14، والمصباح المنير "عدل" ص44، ومختار الصِّحاح, ولسان العرب "عدل"، ومفردات الرَّاغب "عدل" ص 487.

[2] تعريفات الجرجاني ص152 والتَّوقيف على مهمَّات التعاريف ص705.

[3] انظر في ذلك : الكتاب: 1 /211، 212، 214، 235

[4] دلائل الإعجاز، ص: 66، 293، 295، 302، وراجع كذلك: الأصول البلاغية في كتاب سيبويه وأثرها في البحث البلاغي ص 127، وما بعدها، 180، وما بعدها.

[5] الكتاب: 1/176، 211 وما بعدها.

[6] نفسه: 1/26 وما بعدها.

[7] نفسه: 2 /124، 125.

[8] نفسه: 2 /269، وما بعدها.

[9] نفسه: 4 /204، وما بعدها.

[10] الكتاب: 1 /212، وراجع: أثر النحاة في البحث البلاغي ص 115، ومناهج البحث البلاغي ص 81.

[11] إعراب القرآن المنسوب للزجَّاج: 1 /47.

[12] انظر: المزهر (1 /393)، وما بعدها.

[13] معاني القرآن: 2 /220.

[14] معاني القرآن: 2 /255.

[15] معاني القرآن 3 /211 - 212، وانظر مواضع أخرى: 1 /43، 44، 2 /176، 3 /224، 231، 268.

[16] قرأ ابن كثير "يسْرِ" بالياء، وصلٌ أو وقفٌ ... وقرأها نافع بياءٍ في الوصل، وبغير ياء في الوقف ... وقرأها كل من ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف ... وقرأها أبو عمْرو فيما روى عباس "يسْرِ" جزمًا إذا وصل وإذا وقف.
كتاب "السبعة في القراءات" ص 683، 684.

[17] معاني القرآن: 3 /260، وانظر مواضِع أُخرى: 1 /16، 200، 201.
قال ابن منظور: "وما يليق بكفِّه درهم، أي ما يحتبس، وما يُلِيقُه هو، أي ما يحبسه ولا يلصق به، ثم ذكر البيت".
"لسان العرب" مادة "ليق".

[18] معاني القرآن: 3 /118.

[19] مجاز القرآن: 1 /9، وانظر مواضع أخرى: 1 /279، 339، 410، 2 /96، 268، 363.

[20] مجاز القرآن: 2 /161، وتفسير القرطبي م/4 ج/8 ص 82.

[21] مجاز القرآن: 1/18، 19.

[22] تأويل مشكل القرآن: ص 14.

[23] تأويل مشكل القرآن: ص 20، 21.

[24] انظر المرجع السابق: ص 275 - 298.

[25] تأويل مشكل القرآن، ص 284، 285، وانظر: مجاز القرآن: 1 /66، 67، 2 /44، والصَّاحبي ص 351.

[26] تفسير غريب القرآن، ص 440.

[27] الخصائص: 3 /270، 271.

[28] الخصائص: 1 /399، 400.

[29] الخصائص: 2 /446، 447.

[30] الخصائص: 2 /446، 447.

[31] المحتسب: 1 /202، 246، 2 /87.

[32] الخصائص 2 /306 - 308.

[33] انظر ص 17 - 19 من هذا البحث.

[34] الخصائص: 2 /444، وما بعدها، وانظر مواضع أخرى: 3 /247، 3 /267.

[35] مصطفى السعدني، العدول أسلوب تراثي في نقد الشعر، ص 49، 50.

[36] الخصائص: 2 /394.

[37] الصاحبي: 323، انظر: "المزهر" حيث عقد السيوطي فصلا عن هذه السنن نقلاً عن الصَّاحبي وغيره، ص 1 /332، وما بعدها.

[38] الصاحبي، ص 71.

[39] الصاحبي، ص 71.

[40] الصاحبي، ص 4.

[41] راجع الصاحبي لابن فارس، ص 337، 349، 353، 363، 380، 381، 412، 414 على الترتيب، وانظر: السيوطي، المزهر: 1 /342 و 266.

[42] الصاحبي ص 384، وانظر : المزهر 1/339.

[43] د/ عبده الراجحي: مقدمة الصاحبي ص 22.

[44] فقه اللغة 2/568، وما بعدها.

[45] فقه اللغة 2/575، ويقصد بالعراقَيْن : البصرة والكوفة.
ينظر: معجم البلدان: 4 /105.

[46] المحكم: 1/241، مادة (عضد).

[47] شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب، ص 273.

[48] أصول البلاغة، ص83.

يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــع...













رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:07   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

ثانيًا: المصطلح عند البلاغيين والمفسرين:
وكما شاع مصطلح العدول عند اللُّغويِّين والنُّحاة، شاع كذلك عند البلاغيِّين والمفسِّرين، ولكن بمسميات مختلفة اللفظ، مرادفة في المعنى، متَّفقة في الدلالة، فاستخدم ابن وهْب مصطلح "الصرف"[1]، واستخدم ابن منقذ مصطلح "الانصراف"[2]، وكذلك استخدمه ابن شيث في "معالم الكتابة"، ولعلَّ الأصمعي أولُ مَن سماه "التفاتا"[3]، ثم أخذ التسمية منه ابن المعتز في "البديع"، وجعله أوَّل محاسن البديع، ثم تناقل البلاغيُّون المصطلح من بعده، ومنهم الزمخشري والرازي، وابن الأثير والعلوي، والسكاكي والقزويني، ومن تلاهم من شرَّاح التلخيص[4]، ومنهم من سماه "الخروج على مقتضى الظاهر"[5]، أو "الخروج عن الأصل"[6]، وسمَّاه الفيروزآبادي المفسر "التلون"[7].

والمستقرئ لهذه المصطلحات يُدرِك أنَّ المادة اللغوية أو المعجمية للعدول تدور في عمومها حولَ محور دلالي واحد، هو التحوُّل أو الميل والانحراف عن المألوف، أو الخروج عن القاعدة المطَّردة، أو انحراف - غير متوقَّع لدى المتلقي - عن نمط من أنماط اللغة الأصلية في نسقها المثالي.

وعبدالقاهر الجرجاني (ت 471 هـ) استخدم لفظ العدول كثيرًا، ورَبَط بينه وبين مصطلح المجاز، حيث يقول: "وإذا عُدل باللفظ عمَّا يوجبه أصل اللغة، وُصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعَه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وُضع فيه أولاً"[8].

ويقول في باب "التقديم والتأخير" في سياق العدول إلى التقديم وبلاغته: "اعلم أنَّه إذا كان بيِّنًا في الشيء أنه لا يحتمل إلاَّ الوجه الذي هو عليه حتى لا يُشكل، وحتى لا يحتاج في العلم بأنَّ ذلك حقه وأنَّه الصواب إلى فكر ورويَّة، فلا مزية، وإنما تكون المزية، ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجهًا آخر، ثم رأيت النَّفْس تنبو عن ذلك الوجه الآخر، ورأيت للذي جاء عليه حسنًا وقبولاً، تعْدَمُهُمَا إذا أنت تركته إلى الثاني، ومثال ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ﴾ [الأنعام: 100] ليس بخافٍ أنَّ لتقديم "الشركاء" حُسنًا وروعة، ومأخذًا في القلوب، أنت لا تجد شيئًا منه إن أنت أخَّرْت، فقلت: "وجعلوا الجن شركاء لله"، وأنك ترى حالك حال مَن نُقِل عن الصُّورة المُبهجة إلى الشيء الغُفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل... والسبب في أن كان ذلك كذلك، هو أنَّ للتقديم فائدةً شريفة، ومعنًى جليلاً، لا سبيل إليه مع التأخير.

بيانه: أنَّا وإن كنَّا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاءَ وعبدوهم مع الله - تعالى - وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإنَّ تقديمَ الشرَكاء يُفيد هذا المعنى، ويُفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك، لا من الجن ولا غير الجن، وإذا أُخِّر، فقيل: "جعلوا الجن شركاء لله" لم يُفِدْ ذلك، ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنَّهم عبدوا الجن مع الله تعالى"[9].

فعبدالقاهر في هذا النص يُميِّز بين نوعين من التراكيب، أحدهما نمطي أو مثالي، والآخر فنِّي أو عدولي، وفنية هذا النوع الأخير أو مزيته تتجلَّى عن طريق المقارنة بين الوجهين "المثالي والمنحرف"، ومسوِّغ المقارنة بينهما أنهما يتماثلان في الدلالة على ذات المعنى المراد بالعبارة، فأصْل المعنى واحد بين "وجعلوا لله شركاء الجن"، و"وجعلوا الجن شركاء لله"، غيرَ أنَّ العبارة القرآنيَّة - بتقديم الشُّركاء على الجن - قد أحدثتْ في هذا المعنى خصوصيةً نفتقدها في العبارة المفترضة، وهذا هو السِّرُّ في إيثار العبارة القرآنية.

إذًا فتغيير الترتيب (بالتقديم أو التأخير) يُمثِّل عدولاً عن هذا الأصل المثالي، واختراقًا للحركة الأُفُقية المنتظِمة المسيطرة على بنيته العميقة، تبعًا لعنصر القصد عند المبدع، حيث تتوافق البِنيةُ السطحية المخالفة مع اتِّجاه الحركة الذهنية عند المبدع؛ "لأنَّ مجرَّد مخالفة الترتيب المثالي، ينبئ عن غرضٍ ما، هو إبراز كلمة أو نكتة لتوجيه الْتفات المتلقي إليها... ومن ثَمَّ فهذا الإجراء الأسلوبي يتطلَّب مِن صاحبه حسًّا لغويًّا مدربًا، ولطفا عاليًا في الذوق الأدبي، يُضاف إليه معرفةٌ بالظروف الفيلولوجية للغة المدروسة"[10]، التي تتدخَّل في التركيب اللغوي للعبارة.

واستخدم عبدالقاهر لفظ "العدول" بمعنى "التحوُّل" من دلالة اللفظ لمعناه إلى "معني المعنى" في قوله: " الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده... وضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانيةً تصل بها إلى الغرض... وإذ قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول: المعنى، ومعنى المعنى، تعني بـ"المعنى": المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبـ"معنى المعنى": أن تعقل من اللفظ معنًى، ثم يُفضِي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"[11].

فالتوصُّل بدلالة المعنى على معنى آخرَ لا يتمُّ إلا بالعدول عن الأصل لفوائد يقصر اللفظ وحْدَه عن أدائها.

ونظرية "معنى المعنى" التي طَرَقها عبدالقاهر - أو " المعاني الثواني " كما هي عند حازم[12] - لها تعلُّق بمفهوم "التوسع"، ومفهوم "المجاز" - ولعلَّه متأثر في ذلك بابن جِنِّي - حيث يقول: " إنَّ صور المعاني لا تتغيَّر بنقلها من لفظ إلى لفظ، حتى يكون هناك اتساعٌ ومجاز، وحتى لا يُراد من الألفاظ ظواهر ما وُضِعتْ له في اللغة، ولكن يُشار بمعانيها إلى معانٍ أُخر"[13].

وهكذا يتَّضح لنا من خلال ظاهرة الاتِّساع تعالُق الجانب النحوي بالجانب البلاغي، حيث الانتقالُ من الحقيقة إلى المجاز، وحيث يقوم الاتِّساع على أساس الدلالة اعتمادًا على المعنى - كما يرى عبدالقاهر[14].

ولم تَفُتْ عبدالقاهر الإشارةُ إلى مفهوم الاتساع، وذلك في مناقشته لقضية الصِّدْق والكذب في الشِّعر، فمن النقاد مَن قال: "أحسن الشعر أصدقه"، ومنهم مَن قال: "أحسن الشعر أكذبه"، أما من قال: أكذبه، فقد ذهب إلى "أنَّ الصنعة إنما تمد باعها، وينشر شعاعها، ويتسع ميدانها، وتتفرَّع أفنانها حيث يعتمد الاتساع والتخييل، وحيث قصد التلطُّف والتأويل، وهنا يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يُبدِع ويزيد، ويُبْدئ في اختراع الصورة ويُعيد، ويُصادِف مضطربًا كيف شاء واسعًا، ومددًا من المعاني متتابعًا"[15].

يبدو من هذا النص: أنَّ عبدالقاهر قارن بين الاتساع والتخييل، وهما عنصران فاعلانِ في تشكيل الأسلوب المجازي الذي يُعدُّ مَعْلمًا بارزًا من معالِم الإبداع، واختراع الصور، ولذلك يستطيعُ الشاعر أن يصنع اللُّغة بالطريقة التي يراها تخدم غرضه، وتجسد رؤيته، ومن هنا يكون الاتِّساع ذا قُدرة على تجاوز حدود المألوف والعادي.

إنَّ "معنى المعنى"، أو "المعاني الثواني" إنَّما مدارها على الكناية والاستعارة والتشبيه، من أجْل هذا قال عبدالقاهر كلمته المشهورة: "إنَّ من الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلاَّ مِن بعد العلم بالنظم، والوقوف على حقيقته... ومن دقيق ذلك وخفيه أنَّك ترى الناس إذا ذكروا قوله - تعالى -: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4] لَم يزيدوا فيه على ذِكْر الاستعارة، ولم ينسُبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجبًا سواها، هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك... ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يُسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لِمَا هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي للفعل له في المعنى منصوبًا بعده مُبيِّنًا أن ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأوَّل إنَّما كان من أجْل هذا الثاني، ولِمَا بينه وبينه من الاتصال والملابسة... ثم يدعونا عبدالقاهر إلى المقارنة بين قولنا: "اشتعل شيب الرأس"، أو "الشيب في الرأس"، وبين نص الآية الكريمة فيقول: "ثم تنظر: هل تجد ذلك الحُسن، وتلك الفخامة؟ وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السببُ في أن كان "اشتعل" إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل، ولِمَ بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟

فإنَّ السبب أن يُفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصلُ المعنى الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخَذَه من نواحيه، وأنه قد استقرَّ به، وعمَّ جملته... وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس... واعلم أنَّ في الآية شيئًا آخر من جنس النظم، وهو تعريف الرأس بالألْف واللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزية، ولو قيل: واشتعل رأسي، فصرَّح بالإضافة لذهب بعض الحسن"[16].

إنَّ هذا النَّص يدلُّ على أنَّ "معنى المعنى" لا يكون في اللغة المباشرة العادية التقريرية، إنَّما يكون في استخدامات اللغة التي تمثِّل خروجًا عن النمط المثالي للغة، وانتهاكًا لِمَا هو مألوف وعادي.

كذلك كان شأن الاستعارة عندَ سابقيه، كابن وهب (ت328هـ)، حيث يقول: "وأمَّا الاستعارة، فإنَّما احتيج إليها في كلام العرب؛ لأنَّ ألفاظَهم أكثرُ من معانيهم، وليس هذا في لسانٍ غيرِ لسانهم، فهم يعبِّرون عن المعنى الواحد بعبارات كثيرة، ربَّما كانتْ مفردةً له، وربما كانتْ مشتركة بينه وبين غيره، وربما استعملوا بعضَ ذلك في موضع بعض على التوسُّع والمجاز"[17].

أمَّا القاضي الجرجاني (ت366هـ) فقد جَعَل التوسُّع مرتبطًا بالاستعارة، فقال: "فأمَّا الاستعارة، فهي أحدُ أعمدة الكلام، وعليها المعول في التوسُّع والتصرف، وبها يُتوصَّل إلى تزيين اللفظ، وتحسين النظم والنثْر"[18].

وبهذا تكون الاستعارةُ عند البلاغيِّين والنقَّاد أداةً من أدوات التوسُّع الذي يُمكِّن المبدع مِن كسْر قواعد اللغة، ومنحها مجالاتٍ أوسع للتعبير عمَّا يشعر به، فاستخدام الشاعر للألفاظ يعتمد فيما يعتمد على المعنى السيكولوجي لها؛ أعني: دلالتها الارتباطيَّة الذاتية والجماعية، ولكنَّه اعتمادٌ يتجه فنيًّا بهذه الإيحاءات الخاصة إلى سياق أوسع وأشمل؛ ليفكَّ ارتباطها التقليدي، فيتحوَّل على يده كلُّ ما هو ذاتي وخاص من دلالات الألفاظ إلى كلِّ ذي طابع عام[19].

إذًا فمن النقَّاد مَن سَمَّى هذا التصرُّف العدولي "اتساعًا"، ومنهم مَن سمَّاه "توسُّعًا"، مع أنَّ المفهومين يحملان الدلالة نفسها، وحتى لا يظن ظانٌّ بأنَّ هناك فرقًا بينهما، فإنَّ مفهوم الانحراف - الذي استخدمه بعضُ النقاد[20] - يدلُّ دلالة كبيرة على هذا التصرُّف العدولي، كما أنه يُبرز أنَّ إدراك النقاد العرب لهذه القضية مرتبطٌ بإدراكهم لطبيعة الأسلوب الذي يُعدُّ انحرافًا عن القاعدة العامة أو المألوفة، ومِن ثَم يكون "الانحراف" مُعادلاً لـ"الاتِّساع أو التوَسُّع"، وبخاصة انحراف اللغة عن أصْلها الحقيقي بوضعها في إطار التعبير المجازي، ولا شكَّ أنَّ هذا الإجراء العدولي يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على خيال المبدِع، وقدْرته على التغيير في ماهية الأشياء، ومنْحها أبعادًا جديدة[21]، "وذلك في الجهاد الفني فوزٌ غير قليل"[22].

ثم نلْتقي بالزمخشري (ت538هـ)، فنجده استخدم مصطلح "العدول" بمسمًّى آخَرَ، وهو "الالْتفات"، وبيَّن فائدته في الكشف عن بلاغة النص القرآني من خلال منهجه التحليلي الذي اتَّبعه في "الكشَّاف"، حيث لاءم بين فِكرتَي تخيُّر اللفظ، وتخير الموقع، فتحقَّق له بمصطلح "العدول" بيان كيفية تحقيق تجاوب النظم.

يقول الزمخشري في قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ ﴾ [فاطر: 9]: إن قلت: لِمَ جاء ﴿ فتُثِير ﴾ على المضارع دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكيَ الحال التي تقع فيها إثارة الرِّياح السحاب، وتستحضر تلك الصور البديعية الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوْع تمييز، وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب، أو غير ذلك"[23].

إنَّ العدول بالخطاب من الماضي إلى المضارع - ونحن نعلم دلالة المضارع - يُمثِّل الفعل كأنَّه واقع ماثل مشاهد، على نحوٍ يحقق في الحكاية المعايشةَ الفعلية للحدث مِن قِبَل المتلقِّي.

وكذلك العدول عن المضارع إلى الماضي يجعل المتوقَّع في النسق الطبيعي المطرد للزمن في حُكم الواقع لدفْع المخاطب إلى التيقُّن منه؛ كقوله - تعالى -: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [النحل: 1].

قال الزمخشري: "كانوا يستعجلون ما وُعِدوا من قيام الساعة... فقيل لهم: أتى أمر الله، الذي هو بمنزلة الآتي الواقع المُتيقَّن، وإن كان منتظرًا لقرب وقوعه"[24].

ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنَّ جملة ﴿ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ "قرينة لغوية سياقية تصرف الفعل (أتى) عن دلالته على الماضي إلى دلالته على المستقبل، والعدول بالفعل عن دلالته يصرف الفاعل (أمر الله) بدوره عن دلالته، أو بعبارة أخرى يحدِّد دلالته؛ لأنَّ العناصر المكونة للجملة لن تبقى بدون تغيُّر إذا صُرِف عنصر منها عن دلالته الأولى بقرينة ما، و(أمر الله) في سياق هذه الآية (قيام الساعة)، وقد أتى الفعل بصيغة الماضي لتحقُّقِ وقوع الأمر وقربه...

إنَّ اختيار المفردات ووضعها معًا في إطار جملة واحدة يقوم بدَور كبير في تحديد دلالة السياق اللغوي، الذي ينعكس بدوره على دلالة المفردات في الجملة"[25].

وكأنَّ الزمن المسَيْطر على السياق هو الزمن المستقبل، فيصير البناء الروائي رجوعًا بالذاكرة لمشهدٍ قديمٍ حَدَث منذ زمن بعيد، مع أنه ما زال جنينًا في رَحِم المستقبل؛ ليتمَّ التأكيد على حدوثه، والتحقُّق من وقوعه، وإن تأخَّر به الزمن.

قال المرادي: "الأمور المستقبلة لَمَّا كانت في أخبار الله متيقنة مقطوع بها، عبّر عنها بلفظ الماضي"[26].

والزمخشري - دومًا - يلتمس الأسبابَ والعِلل لتجاوز النسق القرآني للأسلوب العادي أو المألوف، ويوضِّح قيمةَ ذلك بلاغيًّا وجماليًّا؛ لذلك يأخذ بنا الزمخشريُّ إلى قضية الترتيب في الكلام والأصل فيها، وقيمة تقديم ما حقُّه التأخير، ففي قوله - تعالى -: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11]، و﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]، و﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]، و﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾ [النساء: 12]

نلاحظ تَقدُّم الوصية على الدَّيْن في الآيتين السابقتين أربعَ مرَّات، مع أنَّ الدَّيْن مقدَّم على الوصية شرعًا بالإجماع، وما يرتبط بالشرع يتقدَّم ويعلو دائمًا في الموروث الإسلامي، وبذلك خالف خطُّ التنسيق اللفظي خطَّ التنسيق الاستحقاقي (الشرفي)، وفي ذلك يقول الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ قُدِّمت الوصية على الدَّيْن، والدَّين مقدَّم عليها في الشريعة؟ قلت: لَمَّا كانت الوصية مُشْبِهَةً للميراث في كونها مأخوذةً من غير عِوَض كان إخراجها مما يشُقُّ على الورثة، ويتعاظمُهم، ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مَظِنَّةً للتفريط بخلاف الدَّين، فإنَّ نفوسهم مطمئنةٌ إلى أدائه، فلذلك جِيء بالكلمة "أو" للتسوية بينهما في الوجوب"[27].

وهنا يُجلِّي الزمخشري مفهومًا دقيقًا للبلاغة من حيث هي، "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، حيث يُصبح الكلام نقطةَ الْتقاء فاعلة بين المتكلِّم والمتلقِّي، كما أنَّ فيه بيانًا بأن البلاغة تتدرَّج من الأقل إلى الأكثر، وأنها تتدرَّج من الأدْنى، وتتطوَّر إلى الأعلى.

ويُعلِّل الزمخشري بلاغةَ الالْتفات أو العدول من أسلوب إلى أسلوب بأنَّ فيه إيقاظًا للسامع، وتطرية له، بنقله من خطاب إلى خطاب آخر، ولكنَّ ابن الأثير يأخذ على الزمخشري أنَّ هذا التفسير يتَّسم بالتعميم، ويرى أنَّ كل موطن جاء فيه عدول إنما جاء لنوع خصوصية اقتضتْ ذلك.

والحق أنَّ الزمخشري لم يُهْمِل وجهة نظر ابن الأثير، بل يتَّفق معه تمامًا، فقد قال بعد الإشارة السابقة: "وقد تختصُّ مواقعه بفوائد"[28]، إذًا فقد بيَّن الزمخشري أنَّ كل موقع جاء فيه عدول يشتمل على فائدة، أو نكتة بلاغية تُستنبط عند تأمُّل السياق، والمتصفِّح للكشاف يتضح له ذلك بسهولة.

ثم يصل بنا الزمان إلى السكاكي (ت626هـ)، فنجده أكثرَ البلاغيين فَهْمًا واستيعابًا لهذا المبحث "المثالي والمنحرف"، حيث نظر لكلٍّ من الإيجاز والإطناب باعتبارهما أمرين نسبيين، من حيث كانَا ممثلين لعدول عن أصْل مفترض، هو "المساواة"، وهي متعارف أوساط الناس[29].

فقد يكون ظاهرُ الكلام مطنبًا وهو موجز بالقياس إلى كلام آخَر؛ ولذا فإنَّ تقرير مواضع الإيجاز والإطناب إنما يَرجِع إلى متعارف الأوساط؛ لأنَّ الأوساط في مُتعارفهم "لا يقدرون في تأدية المعاني على اختلاف العبارات والتصرُّف في لطائف الاعتبارات"[30].

من ذلك يتبيَّن لنا مدى إدراك السكاكي لطابع الانحراف، والمنحى الفني فيه في كلٍّ من الإيجاز والإطناب، وذلك في ضوْء وصْفه لهما بأنهما نسبيَّان[31].

كما أظهر أنَّ الكلام كلَّما فارق الأصل المثالي ازداد جمالاً بظهور التفاوت بين ذلك الأصل المثالي، وبين ما جاء عليه نَظْم القرآن، ففي قوله - تعالى -: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4] جملةُ لطائفَ لا تبرز إلا بمعرفة أصْل معنى الكلام؛ إذ "لا شُبهةَ أنَّ أصل معنى الكلام ومرتبته الأولى: يا ربي قدْ شخت، ثم تُرِكتْ هذه المرتبة لتوخِّي مزيد التقدير إلى تفصيلها في: ضَعُف بدني، وشاب رأسي، ثم تُرِكت هذه المرتبة الثانية؛ لاشتمالها على التصريف إلى ثالثة أبلغ، وهي: الكناية في: وَهَنتْ عظام بدني... ثم لقصد مرتبة رابعة، أبلغ في التقدير بنيت الكناية على المبتدأ، فحصل: إني وهنتْ عظام بدني، ثم لطلب تقرير أنَّ الواهن هي عظام بدنه، قصدت مرتبة سادسة، وهي سلوك طريق الإجمال والتفصيل، فحصل: إني وَهَن العظم مِن بدني... ثم لطلب شمول الوهن العظام فردًا فردًا، قصدت مرتبة ثامنة، وهي ترْك جمع العظم إلى الإفراد لصحة حصول وهن المجموع بالبعض دون كلِّ فردٍ فردٍ فحصل ما ترى، وهو الذي في الآية... وهكذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ، وهي الاستعارة... ثم تُركت إلى أبلغ، وهي اشتعل رأسي شيبًا"[32].

ويرَى السَّكَّاكي: أنَّ العدول هنا أبلغُ مِن عدَّة جهات: إحداها: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس؛ إذ وزان (اشتعل شيْب رأسي، واشتعل رأسي شيبًا) وزان (اشتعل النار في بيتي، واشتعل بيتي نارًا)، والفرق نيِّر، وثانيتها: الإجمال والتفصيل في طريق التمييز، وثالثتها: تنكير "شيبًا" لإفادة المبالغة، ثم ترك (اشتعل رأسي شيبًا)، ثم ترك لفظ "مني" لقرينة عطف (واشتعل الرأس) على (وهن العظم مني) لمزية مزيد التقرير، وهي إبهام حوالة تأدية مفهومه على العقْل دون اللفظ[33].

ويَبنِي السكاكي قوةَ التشبيه أيضًا على أساس فكرة العدول؛ حيث إنَّه قال: "والحاصل مِن مراتب التشبيه ثمانٍ، أحدها: ذكْر أركانه الأربعة... وثانيتها: ترْك المشبَّه... وثالثتها: ترْك كلمة التشبيه، كقولك: زيد أسد في الشجاعة، وفيها نوع قوَّة، ورابعتها: ترْك المشبَّه وكلمة التشبيه... وثامنتها: إفراد المشبَّه به في الذِكْر، كقولك: "أسد" في الخبر عن زيد، وهي كالسابعة"[34].

فقوله: "ذكر أركانه الأربعة"، ثم قوله: "ترك المشبه"، ثم قوله: "ترك كلمة التشبيه"؛ يعني بهذه الأقوال: العدول عن الذِّكْر لغرض بلاغي.

وتبدو براعة السكاكي في نقله لمبحث الالْتفات من " البديع " إلى المعاني؛ لاشتماله على خاصية في التركيب يُرَاعى بها مقتضى الحال، كما تتمثَّل براعته أيضًا في إدراكه لعملية العدول، وتوسيع دائراتها فيما مثَّل به من قول امرئ القيس:

تَطَاوَلَ ليَلُكِ بِالْإثْمِدِ
وَنَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ

وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ
كَلَيْلَةِ ذِي الْعَائرِ الأَرْمَدِ

وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي
وَأُنْبِئْتُهُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ[35]


فظاهرُ الحديث كان يقتضي البَدْءَ بلسان المتكلِّم، فالعدول هنا ليس بالنسبة لكلام سابق؛ وإنما بالنسبة للأصل الذي يجب أن يكون عليه الكلام، وبهذا يدخل التجريد في مجال الالتفات[36].

ولتوضيح ذلك نتأمَّل أنواع الضمائر الثلاثة في الأبيات، وهي كالآتي (مخاطب، غائب، متكلم)، تشير كلُّها إلى شخص واحد، وهو الشاعر نفسه، والضميران في البيت الأول للمخاطب، وهذا هو ما يُسمَّى في البلاغة بالتجريد: (أن يُجرِّد الشاعر من نفسه شخصًا آخر يخاطبه)، وهي طريقة مسلوكة عندَ الشعراء، ولذلك يمكن أن نعدَّها جزءًا من اللغة الشعرية[37]، فهي لا تلفت انتباهَ القارئ أو المستمع الذي تهيَّأ لقراءة هذا اللَّوْن من الشعر أو سماعه، ولكننا نَعدُّ تغيير الضمير في البيتين التاليين سِمتَين أسلوبيتين؛ لأنَّ القارئ أو المستمع للشعر لا يتوقَّع في كل تجريد أن يعقبه الْتفات، ولا في الالتفات الأول أن يعقبه التفاتٌ ثانٍ، ولذلك يمكن أن نمثِّل تركيب هذا النسق الكبير على الوجه التالي:

نسق - مخالفة تبتدئ نسقًا جديدًا - مخالفة.

ودلالة التجريد والالتفات - معًا في هذه الأبيات - على الاضطراب النفسي واضحة.

فليستِ العِبرة في السمة الأسلوبية بأن يكون لها اسمٌ في البلاغة، استعارة أو غيرها؛ إنَّما العِبرة بأن تفاجئ القارئ أو المستمع، ولو مفاجأة خفيفة، وأن تكون لها دلالةٌ مرتبطة بالموقف[38].

إنَّ الانتقال المفاجئ من ضمير إلى ضمير مغاير، يُحدِث اهتزازًا في مرجعية الضمير على المستوى السطحي للصياغة، ويُوهِم بتعدُّد الأصوات، وهنا يتمُّ إدخال المتلقي كطرَف مهمٍّ في إتمام دلالة بنية العدول، حيث يقوم بتوجيه الضمائر (والأفعال)، ويُعيدها إلى الوحدة والاستقرار في البنية العميقة، وربما اقتضتْ بنية العدول حذْفَ بعض الدوال لإبراز عُمْق النقلة الصياغية، مما يُحفِّز عنصر التخييل عندَ المتلقِّي، ويدفعه إلى محاولة إعادة الدوال المحذوفة لتكتمل الدلالة... وإذا لم يتنبه إلى هذا العدول عن مقتضى الظاهر، حَدَث خَلَلٌ لديه في مرجعية الضمير، وفقدَ تواصله مع النصّ، وقلَّ بالتالي انفعالُه به، وإدراكه لمراميه وجمالياته؛ لأنَّ بنية العدول المخالِفة لمقتضى الظاهر تُسهم في توليد ثنائية ضدية على المستوى الصياغي مِن خلال الانتقال من الغِياب إلى الحضور الخطابيّ، كذلك يُتيح العدول في الضمائر للمبدع حريةً كبيرة من إضفاء الحيوية على النص، من خلال تعدُّد زوايا الرؤية، والتحولات الدائمة من الذاتية إلى الموضوعية، والعكس[39].

وبذلك يتَّضح أنَّ السكاكي يميل إلى توسيع نِطاق البنية المثالية (القاعدة)، التي يمثل الالْتفات عدولاً عنها، فليستِ القاعدة عنده "ما يمثله ظاهر العبارة؛ وإنما يوسِّع دائرة النمط؛ لتشملَ هذا البُعدَ الميتافيزيقيَّ للغة، البعد المعتمد على التقدير أيضًا، إمعانًا في تسجيل الخِلاف، وتعميق فجْوة الانحراف بين المقولة النحوية، والأسلوب البليغ "[40].

أما ابن الأثير (ت 637هـ)، فقد تناول فكرة "العدول" من خلال حديثه عن "الالْتفات"، وهو يرى أنَّ حدَّ الالتفات هو العدول، أو "الانتقال مِن صيغة إلى صيغة، كانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو مِن خطاب غائب إلى حاضر، أو مِن فعل ماضٍ إلى مستقبل، أو مِن مستقبل إلى ماضٍ، أو غير ذلك... ويُسمَّى أيضًا شجاعة العربية"[41]. ومن ثَمَّ جعله خُلاصة علم البيان.

وقد قسم ابنُ الأثير الالتفات إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الانتقال مِن الغَيْبة إلى الخطاب، ومِن الخطاب إلى الغَيْبة؛ وذلك لفوائدَ متعددة، يُحدِّدها سياق الخطاب؛ ولذلك لا يمكن أن تُحدَّد فوائده بجزئية محددة بالتفنن، أو بتطرية نشاط السامع، وإيقاظه للإصغاء إليه، كما يَرَى الزمخشري[42].

فمن شواهد العدول مِن الغَيْبة إلى الخطاب قوله - تعالى -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 2 - 5] عدل فيها عن الغَيْبة ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، إلى الخطاب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾؛ لأنَّ الحمد دون العبادة، ألاَ تراك تحمد نظيرَك ولا تعبده؟ فلمَّا كانت الحال كذلك، استعمل لفظ الحمد لتوسُّطه مع الغَيْبة في الخبر، فقال: الحمد لله، ولم يقلِ: الحمد لك، ولَمَّا صار إلى العبادة التي هي أقْصى الطاعات، قال: إيَّاك نعبد، فخاطب بالعبادة إصراحًا بها، وتقرُّبًا منه - عزَّ اسمه - بالانتهاء إلى محدود منها، وعلى نحو من ذلك جاء آخِر السورة، فقال: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، فأصرح بالخطاب لَمَّا ذَكَر النعمة، ثم قال: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، عطفًا على الأول؛ لأنَّ الأول موضع التقرُّب من الله بذِكْر نعمه، فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفًا عن ذكر الغاضب، فأسند النِّعمة إليه لفظًا، وزوى عنه لفظ الغضب تحنُّنًا ولطفًا[43].

وهذه السورة قد انتقل في أوَّلها من الغَيْبة إلى الخطاب؛ لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرِها من الخطاب إلى الغَيْبة[44] لتلك العلة نفسها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضًا، فمخاطبة الربِّ - تبارك وتعالى - بإسناد النِّعمة إليه تعظيمٌ لخطابه، وكذلك ترْك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيمٌ لخطابه.

مِن هذا المثال يتضح أنَّ الهدف المعنويَّ الواحد، وهو هنا تعظيم شأن المخاطب، قد اقْتضى في مرَّةٍ العدولَ عن الغيبة إلى الخطاب، وفى مرة أخرى - في النص نفسه - العدولَ عن الخطاب إلى الغيبة، وهذا ما يُؤكِّد أنَّ المنحى الأسلوبي في ذاته لا يرتبط بقيمة ثابتة، أو بدلالة تعبيريَّة حاسمة ونهائية، تكون هي وحدَها الصادقة، وأنَّ المعول في استخدام منحى أسلوب بعينه في سياق بعينه على المعنى أو الهدف المعنوي، الذي يتَّجه إليه مُنشِئ الخِطاب، فإذا كان تعظيمُ شأن المخاطب هدفًا من أهداف منشئ الخطاب، فإنَّ تحقيق ذلك الهدف هو الذي دعاه إلى العدول عن خِطاب الغائب إلى خطاب الحاضر مَرَّة، وعن خِطاب الحاضر إلى خِطاب الغائب مرَّة أخرى[45].

ومن شواهد العدول عن ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب قوله - تعالى -: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴾ [مريم: 88 - 89].

وهذا الشاهد يتعلَّق أيضًا بالعدول عن ضمير الغائب إلى ضمير المخاطَب، ومع أنَّ هذا الأسلوب متحقِّق في فاتحة الكتاب كما رأيْنا، فإننا آثرنا إيرادَ هذا المثال كذلك بمغزًى خاص سيتضح في استخلاصاتنا، "وإنما قيل: ﴿ لقد جئتم ﴾ وهو خطاب للحاضر، بعد قوله: ﴿ وقالوا ﴾، وهو خِطاب للغائب؛ لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل عليهم بالجراءة على الله - تعالى - والتعرُّض لسخطه، وتنبيه لهم على عِظَم ما قالوه، كأنَّه يخاطب قومًا حاضرين بين يديه مُنكرًا عليهم، وموبِّخًا لهم"[46].

فالانتقالُ هنا من الغَيْبة إلى الحضور كان موجهًا بهدف معنوي، لم يكن ليتحقَّق بالقوَّة نفسها إلا عن طريق هذا الانتقال (من المهم - جماليًّا - في هذا المثال ملاحظة أنَّ المخاطب ليس حاضرًا حضورًا حقيقيًّا؛ وإنما هو حاضر على "التمثيل")، وهكذا يكون الانتقال من الغَيْبة إلى الحضور مدفوعًا مرة بهدف معنوي، هو تعظيم شأن المخاطَب، كما هو الحال في المثال الأوَّل، ومرة بهدف توبيخ المخاطَب، كما هو الشأن في المثال الثاني؛ أي: إنَّ الصيغة الواحدة قد تؤدِّي وظيفتَين متضادتين في سياقَيْن مختلفين.

وأما العدول من الخطاب إلى الغَيْبة، كقوله - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ [يونس: 22].

"إنَّما صرف الكلام ها هنا من الخطاب إلى الغَيْبة لفائدة، وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبَهم منها كالمخبر لهم، ويستدعي منهم الإنكارَ عليهم"[47]، ولو قال: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها)، وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية، لذهبتْ تلك الفائدة التي أنتجَها خِطاب الغيبة، وليس ذلك بخافٍ على نَقَدةِ الكلام "[48].

يجب أن نلاحِظ أنَّ الكلام في مستهلِّ النص موجَّه إلى المخاطَبين الحاضرين (حضورًا فعليًّا أو مفترضًا، فلا أهمية لهذا الآن)، ثُم إذا به فجأة ينحرِف عن هذا النسق ليدخل في نسق الرواية عن الغائبين (هم - فرحوا - جاءهم - وظنُّوا - أنهم - بهم - دعوا)، ولو أنَّ النسق الأول اطَّرد، لجرى الخطاب كلُّه على النحو التالي: هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة، وفرحتم بها جاءتها ريح عاصف، وجاءكم الموج من كل مكان، وظننتم أنكم أحيط بكم دعوتم الله... لكن الخطاب لم يطَّرد على هذا النحو، بل ما لَبِث أنِ انحرف من حالة الحضور إلى حالة الغَيبة.

والسبب في هذا الانحراف - كما يرصده ضياءُ الدِّين - هو افتراض أنَّ هناك آخرين - غير المخاطَبين في مستهل النص - يصور لهم المشهد، وليسوا هم المعنيِّين به، فاقتضى الأمر عندئذٍ الدخولَ في نسق الغَيْبة، كما تُحكَى لمستمعين - حاضرين أو متوهمين - تفصيلاتُ حادثٍ قد وقع لشخصٍ ما، أو لأشخاص بأعيانهم، فتُثير عندئذٍ فيهم الدهشة لِمَا حدث، وتمهدهم بذلك لاستنباط العِبرة أو المغزى الأخير للرواية كلها، والمغزى أو المقصد المعنوي الذي تهدف الروايةُ إليه هنا هو استنكارُ أن يقع من هؤلاء المُرْوِيِّ عنهم ما وقع.

والحقيقة: أنَّ المخاطَبين في صدر النص قد انقلبوا إلى الغائبين، فأحدث هذا الانقلاب مسافةً يتأملون فيها أنفسهم، وما وقع منهم كأنَّهم آخرون، وعندئذٍ يكونون أقدرَ على الشهادة على أنفسهم، فالمتورِّط في الخطيئة لن يعيَ موقفه وعيًا صحيحًا إلا إذا سلخ نفسه من نفسه، وتأملها من بُعْدٍ مناسبٍ؛ أي: جعلها موضوعًا للنظر، وهذا ما حقَّقه الرجوع من الخطاب إلى الغَيْبة في هذا المثال، أو ما "أنتجه" - بلفظ ضياء الدين - من دلالة[49].

القسم الثاني: هو العدول عن الفِعْل المستقبل إلى فِعْل الأمر، وعن الفِعْل الماضي إلى فِعْل الأمر:
"وليس الانتقال فيه مِن صيغة إلى صيغة طلبًا للتوسُّع في أساليب الكلام فقط... وإنَّما يقصد إليه تعظيمًا لحال من أُجْرِيَ عليه الفعلُ المستقبلُ، وتفخيمًا لأمره، وبالضد من ذلك فيمن أُجْرِيَ عليه فعل الأمر"[50].

فمن شواهد العدول عن الفعْل المستقبل إلى فعْل الأمر قوله - تعالى -: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [هود: 53 - 54].

تتحرَّك الآية الكريمة في سِياق الزمن الحاضر، أو ما يُعرف بـ "حاضر السرد"؛ لأنَّها واردةٌ في سياق حكاية قصَّة نبي الله هود - عليه السلام - مع قومه، ويهيمن على الصياغة طرفان متباعدان: هود - عليه السلام - في معية الله تعالى، وقوم هود وآلهتهم المزعومة، وقد بدأتِ الصياغة باستخدام صيغة المضارع (أُشهِد) حين ذكر لفظ الجلالة (الله)، لإفادة أنَّ إشهاد الله على البراءة من الشِّرْك صحيحٌ ثابت، ووسيلة لتثبيت دعائم اليقين، وشدِّ معاقِد التوحيد.

ثم تتباعد المواقِفُ بين الطرفَيْن، وتتسع الهوة بينهما، فيكون الانتقال إلى صيغة الأمر (واشهدوا)، التي تستلزم طرفين: آمِر مطاع، مهيب مفخم (هود - عليه السلام -)، ومأمور ضعيف مهين (قوم هود)، فالانتقال إلى صيغة الأمر أفاد حدوثَ الجفاء التام، والتهاون بدِينهم وآلهتهم المزعومة، والتهكُّم بحالهم، ومعتقداتهم الباطلة.

وقد جسَّد "الأسلوب العدولي" بصياغته المخالفة لمقْتضى الظاهر مواقفَ الطرفين المتباعدين، عن طريق ذكر صيغة المضارع التي توضح تشريف الطرف الأول وقوته وعظمته - وهو هود - عليه السلام - ثم العدول عنها إلى صيغة الأمر الدالَّة على حقارة شأن الطرف الثاني - وهم قومه - وبُطلان موقفهم الذليل.

قال ابن الأثير: "فإنَّما قال: ﴿ أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا ﴾، ولم يقل: "وأشهدكم"، ليكون موازنًا له وبمعناه؛ لأنَّ إشهادَه اللهَ على البراءة من الشِّرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم، ودلالة على قلَّة المبالاة بأمرهم؛ ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجِيء به على لفظ الأمر، كما يقول الرجل لِمَن يبس الثرى بينه وبينه: "اشهدْ على أني أحبك"، تهكمًا به، واستهانةً بحاله"[51].

إذًا فاطِّراد النسق هنا - لو تحقَّق - يكفل التوازن بين الفِعلين، ويوحِّد المعنى فيهما، لكن اطراد النسق عندئذٍ يضعهم - في حق الشهادة - على مستوى واحد مع مَن له الشهادة - جلَّ شأنه - ولا يمكن لإنسان - فضلاً عن نبيٍّ - أن يوحد بين شهادة خالقه عليه وشهادة البشر، خصوصًا إذا كان منكرًا لهم أصلاً، فهنا شهادتان، لا شهادة واحدة، وسلكهما في نسق واحد - وإن كان هو النسق اللغوي الأصلي - من شأنه أن يذهب بالتفرِقة الحاسمة بينهما.

نحن في هذا النص أمام "إشهاد" "أُشْهِد الله"، و"شهادة"، "اشهدوا"، ولا يملك الإنسان/ النبي إلاَّ أن يُشهد اللهَ - تعالى - على ما في نفسه، أن يكشف له نفسه على حقيقتها، لكنَّه لا يملك أن يأمره سبحانه، أما بالنسبة إلى البشر، فإنه يأمرهم بأن يشهدوا بأنفسهم ما يكون منه؛ لأنَّه لا يجد نفسه أمامهم مطالبًا بأن يشهدهم على ما في نفسه، خصوصًا إذا كان منكرًا لهم، ورافضًا لمعتقدهم، ومستهينًا بهم[52].

ومثال العدول عن الفعْل الماضي إلى فعْل الأمر، يقول ابن الأثير: "... وإنما يُفعل ذلك توكيدًا لِمَا أُجْري عليه فعل الأمر، لمكان العناية بتحقيقه، كقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [الأعراف: 29].

وكان تقدير الكلام: أَمَر ربي بالقسط، وبإقامة وجوهكم عندَ كل مسجد، فعدَل عن ذلك إلى فِعْل الأمر؛ للعناية بتوكيده في نفوسهم، فإنَّ الصلاة من أوْكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عملُ القلب؛ إذ عملُ الجوارح لا يصحُّ إلا بإخلاص النية.

رأيْنا من قبلُ أنَّ الانتقال من الغَيْبة إلى الحضور يكون مرَّة تعظيمًا لشأن المخاطب، ومرَّة أخرى تحقيرًا لشأنه؛ أي: إنَّ الصيغة الواحدة قد تؤدِّي وظيفتين متضادتين في سياقين مختلفين، وكذلك الأمر هنا في العدول عن نسق الأفعال المطَّرد، حيث يكون الانتقال إلى فعْل الأمر دالاًّ على الاستهانة والاستخفاف بالمخاطَب في مرة، ودالاًّ على العناية والاهتمام به - كما في هذا المثال الأخير - في مرَّة أخرى.

القسم الثالث: الإخبار عن الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي، فمثال العدول عن الماضي إلى المستقبل قوله - تعالى -: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحج: 63].

ألاَ ترى كيف عدل عن اللفظ الماضي ﴿ أنزل ﴾ ها هنا، إلى المستقبل ﴿ فتصبح الأرض مخضرة ﴾، ولم يقل: "فأصبحت" عطفًا على "أنزل"؛ وذلك لفائدة بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجودُه، واخضرار الأرض باقٍ لم يمض..."[53]، واستمرار الأرض خضراء يشيع البهجة، ويطمئن الناس على دوام أرزاقهم.

ورأى السكاكي: أنَّ العدول في هذه الصورة - من الماضي إلى المضارع - يصير أصلاً بلاغيًّا ثابتًا، إذا اقتضى السياق اللجوءَ إليه، فقال: "وإنه - أي: الانتقال من التعبير بالماضي إلى المضارع - طريقٌ للبلغاء لا يعدلون عنه، إذا اقتضى المقام سلوكَه"[54].

وأطلق عليها (فندريس) مصطلح "المضارع التاريخي"، وقال: "الماضي يمكن أن يُعبَّر عنه بالحاضر، وهو استعمالٌ شائع في الحكاية"[55].

إنَّ صيغة الماضي تخيِّل للسامع صورة حَدَث وقع في لحظة من الزمان وانقطع، وعندئذٍ لا يكون هناك ما يحمله على أن ينهمك فيه؛ لأنَّه انتهى، لكن الانتقال إلى صيغة الفعْل المستقبل تخلق وضعًا جديدًا، إذ "تخيل للسامع أنه مباشر للفعل"[56] - على حدِّ قول ضياء الدين - وكأنَّ الفعل يقع أمامَ ناظرَيْه في حالة حضور.

"فالإخبار البلاغي" عن الماضي بالمستقبل يؤدِّي إذًا وظيفةً، ما كان اطراد النسق الماضي ليؤديَها، وتتمثَّل هذه الوظيفة في العدول بالخطاب من مجرَّد الإعلام بالحدث إلى حكاية الحَدَث نفسه؛ أي: تمثيله في صورة حيَّة (وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من السَّرْد الملحمي إلى التجسيد الدرامي)، فالإخبار عن الحَدَث الماضي بفعلٍ مستقبل من شأنه استحضارُ صورة هذا الحدث أمامَ مخيلة المتلقي؛ ليعايشَها بنفسه، فيكون إحساسه بها وتفاعله معها أقوى وأوثق[57].

ومن شواهد العدول عن صيغة المضارع إلى صيغة الماضي قوله - تعالى -: ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 87].

يقول ابن الأثير: "إنما قال: ﴿ فَفَزِعَ ﴾ بلفظ الماضي بعدَ قوله: ﴿ يُنْفَخُ ﴾ - وهو مستقبل - للإشعار بتحقيق الفَزَع، وأنه كائن لا محالة؛ لأنَّ الفعل الماضي يدلُّ على وجود الفعل، وكونه مقطوعًا به"[58].

هكذا يعمل "الأسلوب العدولي" هذه البلاغاتِ بما يحدث من انحراف في الزمن، فترى المستقبل حاضرًا، ومنحلاًّ في الماضي، كما ترى الماضيَ حالاَّ في الحاضر، ممتدًّا في المستقبل.

وبعد، فقد بيَّنَّا جهدَ ابنِ الأثير وتطويره لمصطلح "الالتفات/ العدول" إذ نقل المصطلح إلى مجال أوسعَ من سابقيه، فأحدث بذلك تآلفًا تامًّا بين ثنائية التخير والتركيب، أو المستوى الأفقي والمستوى الرأسي، كما أنه كَشَف عن علاقة العدول بالإيجاز؛ لأنَّ ترابط الأساليب وتلاحقَها، وبحث العلاقة فيما بينها ممَّا يُدلِّل على أنَّ اللغة الأدبية كانت تعتمد على الإيجاز لاستيفاء المعنى، وإشراك المتلقي.

وممَّن تَبِع مذهب ابن الأثير في توسيع دائرة العدول ليشمل أنماطًا شتَّى الطوفي[59] والتنوخي[60] وابن النقيب[61] ونجم الدين ابن الأثير[62] والعلوي[63] والسبكي[64] والسيوطي[65].

وبهذا يتَّضح لنا: أنَّ البلاغيِّين لا يعتدُّون - غالبًا - من حيث القيمة الجمالية إلا بما يُمثِّل عدولاً عن أصل معنى الكلام؛ بل يمكن أن نخلص إلى أنَّ البحث البلاغي عند العرب يتركز على مقولتين، هُمَا: الأصل المألوف، ثم العدول عنه، مع بيان مراتب العدول وآثارها الجمالية، التي تتصل بالمعنى وتلونه، وتصله بحالة المخاطَب في غالب الأحيان، وبحالة المتكلِّم في القليل منها"[66].

كذلك ترى أنَّ كُلاًّ من اللُّغويِّين والنُّحاة والبلاغيِّين قد الْتقَوْا جميعًا حول تصوُّر مشترك لقضية "العدول"، ولم يكن هذا التصور قائمًا على مفهوم اللفظ دون المعنى؛ إذ "العدول" لا يتمُّ إلا لأداء معنى جديد، بل أوغل عبدالقاهر في بيان درجة هذا المعنى، وجعله "معنى المعنى" متساوقًا مع تقسيم الفارابي للغة الخِطاب، فكان معنى المعنى الذي يحدث بفاعلية "العدول" هو فحوى شعرية اللغة عند الفارابي[67].

إنَّ ثُنائية اللغة والخِطاب الأدبي في الفكر البلاغي كانتْ تعبيرًا عن تطوُّر الوعي الجمالي، ومقياسًا لمقدار العدول، ومِن ثَمَّ مدى التأثير في المتلقِّي، فمبحث العدول كان تعميقًا لفلسفة التأمل، وتأسيسًا لاستبطان النص وتأويل محاسنه[68].

في ضوْء هذا المنظور كان تعريف الأسلوب العدولي بأنه: "انحراف عن قاعدةٍ ما"، أو بأنه: "لحن مبرَّر"، أو هو: "انحراف عن نموذج آخرَ من القول، ينظر إليه على أنه نمط معياري"، أو هو: "مجموع المفارقات التي نلاحظها بين نظام التركيب اللُّغوي للخطاب الأدبي، وغيره من الأنظمة"[69]؛ أي: إنَّ الأسلوب العدولي يُعدُّ لونًا من ألوان الاجتراء على نظام تلك اللغة، بالانحراف عن أنماطها، والانتهاك المطَّرد لتقاليدها وأعرافها، وخروجًا متعمَّدًا على تلك الأعراف، فيتولَّد بواسطة هذا الإجراء من طاقات التعبير والإيحاء ما تَعجِز به اللُّغة في مستواها النمطيِّ السائد عن تحقيقه.

وعلى ذلك، فإنَّ "الشجاعة" في هذا المصطلح لا تَعني شجاعة اللغة العربية بالعدول؛ بل شجاعة العدول في تلك اللغة.

[1] هكذا سماه ابن وهب في البرهان (ص: 122). تح/ حفني شرف.

[2] هكذا سماه ابن منقذ "البديع في نقد الشعر" (ص: 200)، وكذلك سماه ابن شيث "معالم الكتابة" (ص: 76).

[3] "حلية المحاضرة" (1/157)، و"العمدة" (2/46).

[4] راجع "معجم المصطلحات البلاغية وتطورها" (ص: 173، 196، 483).

[5] سماه بذلك السيوطي في "شرح عقود الجمان" (ص: 27).

[6] هكذا سماه ابن الصائغ في "إحكام الراي في أحكام الآي"، ونقل عنه التسمية السيوطي في "الإتقان" (3/ 345)، و"معترك الأقران" (1/49).

[7] هكذا سماه الفيروزآبادي في أثناء حديثه عن أصناف الخطابات والجوابات في القرآن، وجعل منه ثلاثة وجوه؛ انظر: "بصائر ذوي التمييز" (1/ 109، وما بعدها).

[8] "أسرار البلاغة" (365) (تح/ ريتر).

[9] "دلائل الإعجاز" (ص: 286، 287) (تح/ شاكر).

[10] فندريس، "اللغة" (ص: 188)، وينظر: "اللغة والإبداع الأدبي" (ص: 20).

[11] "دلائل الإعجاز" (ص: 263، 264)، تح/ شاكر، وينظر: "من قضايا النقد والبلاغة" (ص: 146).

[12] "منهاج البلغاء" (ص: 18، 19).

[13] "دلائل الإعجاز" (ص: 265"، وقارن ذلك بما جاء في "الخصائص" (2/466، وما بعدها).

[14] كتاب "المقتصد في شرح "الإيضاح"؛ عبدالقاهر الجرجاني، تح/ كاظم المرجان، بغداد، دار الرشيد. 1982م.

[15] "أسرار البلاغة" (343).

[16] المرجع السابق ص 100 - 102، وانظر: "قضايا النقد الأدبي" (ص 317 - 319).

[17] "البرهان في وجوه البيان" (ص: 142).

[18] "الوساطة" (ص: 428).

[19] "بلاغة العطف في القرآن الكريم (ص: 151) (بتصرف).

[20] من هؤلاء النقاد د/ صلاح فضل في كتابيه "علم الأسلوب" (ص: 236، وما بعدها)، و "بلاغة الخطاب وعلم النص" (ص: 54 - 69)، و د/ شكري عياد في كتبه "مدخل إلى علم الأسلوب"، و"اتجاهات البحث الأسلوبي"، و"اللغة والإبداع" مبادئ علم الأسلوب العربي"، و د/ محمد عبدالمطلب في كتابيه "البلاغة والأسلوبية" (ص: 150 - 255)، و"قضايا الحداثة عند عبدالقاهر" (ص: 74، 11)، ود/ موسى ربابعة في كتابه "جماليات الأسلوب والتلقي" (ص: 47، وما بعدها)، و د/ شفيع السيد في كتابه "الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي" (ص: 95 - 98، 138 - 142)، ويُنظر: "الانزياح في منظور الدراسات الأسلوبية" (ص: 42، 43).

[21] "جماليات الأسلوب والتلقِّي" (ص: 50، 51).

[22] "دفاع عن البلاغة" (ص: 83).

[23] "الكشاف" (3/301، 302).

[24] "الكشاف" (3/400).

[25] انظر: "النحو والدلالة" (ص: 116).

[26] المرادي: "الجني الداني في حروف المعاني" (ص: 212)، تحقيق طه محسن ، دار الكتاب، الموصل، العرا، سنة 1976.

[27] "الكشاف" (1/508، 509)، وانظر مواضع أخري (1/174، 202، 351، 2/160، 221، 341،423، 449، 3/110، 301، 322، 385، 4/87، 86).

[28] "الكشاف" (1/65).

[29] "مفتاح العلوم" (ص: 133).

[30] السعد - ضمن شروح التلخيص - (3/168، 169)، وراجع: "نظرية اللغة في النقد العربي" (ص: 229، 230).

[31] "نظرية اللغة في النقد العربي" (ص: 230).

[32] "مفتاح العلوم" (ص: 137، 138).

[33] نفسه (ص: 138).

[34] "مفتاح العلوم" (168).

[35] "مفتاح العلوم" (ص: 96، 97)، وانظر: "ديوان امرئ القيس" (ص: 185)، تح/ محمد أبو الفضل.

[36] "بين البلاغة والأسلوبية" (ص: 232).

[37] يرى موكاروفسكي: أنَّ اللغة الشعرية تمتاز عن اللغة العربية بـ"انحرافها عن قانون اللغة المعيارية وخرقها له، فضلاً عما تمتاز به من معجم خاص، وصيغ نحوية سمَّاها الضرائر الشعرية poetisms "، انظر: مجلة فصول "اللغة المعيارية واللغة الشعرية"، تر: ألفت كمال الروبي، مج 5 ع1 /1985م. (ص 41).

[38] "اللغة والإبداع" (ص: 96).

[39] "تحولات البنية في البلاغة العربية" (ص: 317، 318) (بتصرف) .

[40] د/ عبدالحكيم راضي: "نظرية اللغة في النقد العربي" (ص: 250).

[41] "المثل السائر" (2/167، 168)، وانظر: "الطراز" (2/131، وما بعدها)، وقد سبق أن أشرْنا إلى أن ابن جنِّي له فضل السبق في هذه التسمية، راجع ص: 40 من هذا البحث.

[42] "المثل السائر" (2/168)، لم يحدد الزمخشري فائدةَ الالتفات في جزئية محددة كما زعم ابن الأثير، وإنما أطلق فوائدَ الالتفات، حيث قال: "وقد تختص مواقفه بفوائد"، راجع "الكشاف" (1/64).

[43] "المثل السائر" (2/170)، و"مفتاح العلوم" (ص: 96).

[44] اعترض السبكي على هذا الالتفات بأنه ليس في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} ضمير غيبة، حيث قال: "الفاعل في {المغضوب} لم يُذكر بالكلية، فكيف يقال: انتقلْنا إليه على سبيل الالتفات؟"؛ "عروس الأفراح" (1/478).

[45] "جماليات الالتفات" (ص: 892)، د/ عز الدين إسماعيل ضمن "قراءة جديدة لتراثنا النقدي" المجلد الآخر، النادي الأدبي الثقافي بجدة، 1988.

[46] "المثل السائر" (2/171).

[47] "المثل السائر" (2/178).

[48] نفسه (2/178).

[49] "جماليات الالتفات" (ص: 898)، يراجع: "المثل السائر" (2/178).

[50] "المثل السائر" (2/179).

[51] "المثل السائر" (2/179، 180)، و"الكشاف" (2/276).

[52] "جماليات الالتفات" (ص: 899، 900).

[53] "المثل السائر" (2/184، 185).

[54] السكاكي: "مفتاح العلوم" (ص: 139).

[55] ج. فندريس: "اللغة"، ترجمة عبدالحميد الدواخلي، ومحمد القصاص، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، سنة 1950، (ص: 138).

[56] "المثل السائر" (2/183).

[57] "جماليات الالتفات" (ص: 902).

[58] "المثل السائر" (2/185).

[59] "الإكسير في علم التفسير" (ص: 140).

[60] "الأقصى القريب" (ص: 45، 46).

[61] "مقدمة تفسير ابن النقيب" (ص: 202 - 213).

[62] "جوهر الكنز" (ص: 119 - 125).

[63] "الطراز" (2/131، وما بعدها ).

[64] "عروس الأفراح" (1/491 - 493).

[65] "الإتقان في علوم القرآن" (3/258، وشرح عقود الجمان (ص: 30).

[66] "البلاغة والأسلوبية" (ص: 270).

[67] "العدول" (ص: 20).

[68] "فلسفة الجمال في البلاغة العربية" (ص: 256).

[69] انظر في هذه التعريفات وغيرها: "الأسلوبية والأسلوب" (ص: 27)، "علم الأسلوب" (ص: 179)، "دليل الدراسات الأسلوبية" (ص: 37)، "بناء لغة الشعر" (ص: 24 - 25).


يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع...










رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:11   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

ثالثًا: تداولية العدول وأسبابه:
إنَّ "الأسلوب العدولي" ظاهرةٌ أسلوبية بارزة في حركة اللغة الأدبية، حيث تتحوَّر اللفظة في موضعها تحورًا غير مألوف، يفرز دلالةً فيها كثيرٌ مما لا يتوقَّعه المتلقي، وفيها كثيرٌ من إمكانات المبدع في استعمال الطاقات التعبيرية الكامِنة في اللغة[1].

يكتسب العدول تداوليتَه من تغيير الأساليب والصِّيَغ الزمانية والمكانية والكلمات، أضِفْ إلى ذلك التجنيسَ في الكلمات، والتلوين في الألفاظ والحروف لمباغتة المتلقِّي، والتأثير فيه بنقلِه من قضية إلى قضية، وتكمن تداولية العدول في مراعاة منشئ الخطاب للمتلقِّي، فهذا الأخير هو السببُ الأول في لجوء منشئ الخطاب إلى إحداث العدول في الأساليب والصِّيَغ والضمائر والمعجم، وكما سبقتِ الإشارة فإنَّ العدول لون بلاغي نابع من تجارِبنا الكلامية، ومعارفنا حولَ أنفسنا التي ترفُض التَّكْرار المملّ، وتجنح نحو البديل والتغيير، والتلوين في أساليب الكلام وصِيَغِه وأشكاله، كما تنفِرُ نفوسنا وأذواقنا وأحاسيسنا الجمالية المتطوِّرة دومًا من النَّبْرة نفسِها، والنغمةِ نفسِها، والإيقاعِ عَينِه.

يقول الزمخشري: "إنَّ الكلام إذا نُقِل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسنَ تطريةً لنشاط السامع، وإيقاظًا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وتختص مواقعه بفوائد"[2].

ولعلنا نلحظ تعبير الزمخشري بلفظة "فوائد" جمعًا ونكرة، لتعني تعدُّد جماليات العدول بتعدُّد مواقعه، كما أنها تعني التأثيرَ المُفضِي إلى التجديد، والتحديث والتطوير في فنون القول، وضروب الكلام، وأنماط الحديث، وأنواع الأدب القائِم على التمثيل، زيادة على التقدُّم في الأفعال والأعمال، والممارسات والمنجزات، الفكرية والمادية، حيث يتفاعل الماديُّ والفكريّ، الواقعيُّ والأدبيّ، مثلما تتفاعل التجرِبة والبلاغة.

فإذا كان بعض البلاغيِّين يعتبرون الالْتفات - وهو أحد أنواع العدول - هو الوجهَ البلاغي المُجسِّد لشجاعة العربية، فإنهم يقصدون بذلك شجاعةَ منشئ الخطاب، ومدى قدرته على الإبداع في التعبير بما يُحدِثه فيه من تشكيلات عدولية، وتنويع الأسلوب؛ استجابةً لأفق انتظار المتلقي أو لإدهاشه، أو مفاجأته بالانتقال من حال إلى حال، أو من معنى إلى آخرَ، أو من طريقة إلى أخرى، والانتقالُ أو التغيير أساسٌ من أسس التداولية، مثل تكييف أفعال الكلام بحسب المتلقِّي ومقامه[3].

وبقدر ما يُرَاعى حال المتلقي في أسلوب العدول بتنشيطه، وإزالة السآمة عنه، وتنبيهه - بنقْل الكلام من صِيغة إلى صيغة أخرى - إلى وجوه من الحُسْن لا بدَّ أن يعيَها، فإنَّ الأسلوب العدولي مدينٌ بما فيه من قِيم بلاغية إلى الحضور الواضح للمبدِع الذي يتطلَّع إلى إيصال رسالة إلى المتلقِّي بكل ما فيها من قِيَم جمالية، فينحرف بالأسلوب عن نمط الأداء المألوف (المعتاد)؛ ليحقِّقَ ما يريده من أهداف يعجز عن توصيلها التركيبُ العادي، كما قد يمثِّل العدول نازعًا نفسيًّا يوحي بتضارب الأشياء والأحداث، وتداخلها في العقل الباطن للمبدِع، ويكون العدول هو التمثيلَ اللُّغوي لهذا النزوع النفسي.

وقد جعله ابن جِنِّي من أبواب "شجاعة العربية"[4]، واقتبس ابن الأثير تسميةَ ابن جني، وتبعه الطوفي في "الإكسير"[5]، والعلوي في "الطراز"[6].

وقد اتَّجه بعضُ البلاغيِّين في رصدهم للقيمة الجمالية للالتفات/ العدول، إلى النظر إلى الصيغة وما تحويه من إمكانات لُغوية مجاوزة تخرق المألوف، وتكسِر آلية اللغة المعتادة[7] مِن خلال العدول عن صيغة إلى أخرى مخالفة لمقتضى الظاهر، وهذا العدول يُعدُّ تفنُّنًا في الكلام وتصرفًا فيه، يُكسب النص قيمةً جمالية، وينبه إلى أسرار بلاغية كثيرة يتعمدها المبدِع، أو منشئ الخطاب.

وقد جلَّى ابنُ جني أبعادَ هذا المقصد الفني حين صرَّح بأن انحراف الشاعر عن أعراف لغته لا يرجع إلى قصوره أو عجزه عن السَّيْر في مسارها الممهد؛ بل لأنَّه يحس بأنَّ المسار الآخر الذي يسلكه (الأسلوب العدولي) هو - رغم ما يحفُّ به من نتوء ومنحنيات - أقدرُ تصويرًا لرؤاه المتفرِّدة، وتبليغًا لغاياته ومراميه البعيدة، فيقول: "... فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثلَ هذه الضرورات على قُبْحها، وانخراق الأصول بها، فاعلم أنَّ ذلك على ما جَشِمَهُ منه وإن دلَّ من وجه على جَوْرِه وتعسُّفه؛ فإنه من وجه آخر مؤذِن بصياله وتخمطه، وليس دليلاً على ضعْف لغته، ولا قصورًا عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته؛ بل مَثلهُ في ذلك عندي مَثلُ مُجْرِي الجَمُوح بلا لجام، ووارد الحَرْب الضَّرُوس حاسرًا من غير احتشام، فهو وإن كان ملومًا في عنفه وتهالكه، فإنَّه مشهود له بشجاعته، وفيْض مِنَّتِه"[8].

ثم نجد الزمخشريَّ يشير إلى أنَّ وظيفة العدول البلاغية تتمثَّل في فائدتين: إحداهما عامَّة في كل صورة، وهي إمتاع المتلقِّي، وجذْب انتباهه بتلك النتوءات، أو التحولات التي لا يتوقَّعها في نسق التعبير، والأخرى خاصَّة تتمثَّل فيما تشعه كل صورة من تلك الصور - في موقعها من السياق الذي تَرِد فيه - من إيحاءات ودلالات خاصة، وهاكَ قولَه: "إنَّ الكلام إذا نُقِل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسنَ تطريةً لنشاط السامع، وإيقاظًا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختصُّ مواقعه بفوائد"[9].

يُفهم من العبارة السابقة: أنَّ الزمخشري جعل لكلِّ موطن من مواطن العدول فائدةً تتحقق من خلال السياق الذي وردتْ فيه.

ورغم إشارة الزمخشري الواضحة إلى اختصاص كلِّ موقع من مواقع العدول بفائدة تُستنبط من السياق، فإنَّ ابن الأثير ينتقده بالتوقُّف عند العامل النفسي في تفسير الظاهرة، قبل أن يطرحَ تفسيره البديل، وهو غير مُحقٍّ في ذلك؛ لأنَّنا نجده ينقل عن الزمخشري تحليلاتِه في هذا المبحث نقلاً يكاد يكون حرفيًّا، دون أن يشير إلى ذلك[10]، ولكن على كلِّ حال، إنَّ ما قدَّمه ابن الأثير من بيان فائدة الالْتفات وبلاغة الأسلوب العدولي يتَّفق مع الزمخشري اتفاقًا بيِّنًا.

وممَّن تابع الزمخشريَّ في ذلك السكاكيُّ، الذي علَّق قيمة العدول بوجود "المتلقي المثالي" الذي يُحْسِن تلقي النص، ويتفاعل معه، ويدرك أنماطَ العدول في بِنيته ومراميه، فقال: "وهذا النَّوْع قد تختصُّ مواقعُه بلطائف معانٍ، قلَّما تتضحُ إلا لأفرادِ بلغائِهم، أو للحُذَّاق المَهَرَةِ في هذا الفن، والعلماءِ النحارير، ومتى اختصَّ موقعه بشيء من ذلك كساه فضلَ بهاء ورونق، وأوْرث السامعَ زيادةَ هِزَّةٍ ونشاط، ووجد عنده من القَبول أرفعَ منزلةٍ ومحلٍّ، إن كان ممن يسمع ويعقل، وقليلٌ ما هُم... ولأمرٍ ما وقع التباين الخارج عن الحدِّ بين مُفسِّرٍ لكلام ربِّ العِزَّة ومفسِّر، وبين غوَّاص في بحر فرائده وغوَّاص، وكل الْتفاتٍ واردٍ في القرآن متى صرتَ من سامعيه عرَّفك ما موقعه"[11].

ويقول ابن الأثير مبيِّنًا الهدف الذي يقصد إليه المبدِع من سلوك طريق العدول: "اعلم أيُّها المتوشِّح لمعرفة علم البيان، أنَّ العدول من صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلاَّ لنوع خصوصية اقتضتْ ذلك، ولا يتوخَّاه في كلامه إلا العارفُ برموز الفصاحة والبلاغة... فإنَّه من أشكل ضروب عِلم البيان، وأدقها فهمًا، وأغمضها طريقًا"[12].

ويقول في موضعٍ آخرَ مبينًا تعدُّدَ الأغراض المقصودة من العدول بتعدُّد مواقعه: "إنَّ الغرض الموجِب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يَجري على وتيرة واحدة؛ وإنما هو مقصورٌ على العناية بالمعنى المقصود، وذلك المعنى يتشعَّب شعبًا كثيرة لا تنحصر، وإنما يُؤْتى بها على حسب الموضع الذي تَرِد فيه"[13]؛ لذلك قد تتعدَّد الأهداف الدلالية للعدول، وقد تنقلب الدلالة في أسلوب إلى نقيضها في أسلوب آخرَ مماثلٍ للأوَّل في بِنْيته المخالفة لمقتضى الظاهر، ويَرجع ذلك إلى اختلاف السِّياق، وقرائن الأحوال.

ففي تحليل ابن الأثير لسورة "الفاتحة" بيَّن أنَّ العدول في أولها من الغَيْبة إلى الخطاب لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرِها من الخطاب إلى الغَيْبة لتلك العِلَّة نفسها، وهى تعظيمُ شأن المخاطَب أيضًا، فمخاطبة الربِّ - تبارك وتعالى - بإسناد النِّعمة إليه تعظيمٌ لخطابه، وكذلك ترْك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيمٌ لخطابه.

ومِن هذا المثال اتَّضح أنَّ الهدف المعنوي الواحد - وهو هنا تعظيم شأن المخاطب - قد اقتضى في مرَّة العدولَ عن الغَيْبة إلى الخطاب، وفى مرة أخرى - في النص نفسه - العدولَ عن الخطاب إلى الغيبة، وهذا ما يؤكِّد أنَّ المنحى الأسلوبي في ذاته لا يرتبط بقيمة ثابتة، أو بدلالة تعبيرية حاسمة ونهائية، تكون هي وحْدَها الصادقة، وأنَّ المعول في استخدام منحى أسلوب بعينه في سياق بعينه على المعنى، أو الهدف المعنوي الذي يتَّجه إليه منشئ الخطاب، فإذا كان تعظيمُ شأن المخاطب هدفًا من أهداف منشئ الخطاب، فإنَّ تحقيق ذلك الهدف هو الذي دعاه إلى العدول مرَّة عن خطاب الغائب إلى خطاب الحاضر، ومرَّة عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب[14].

ويتَّفق مع هؤلاء بلاغيٌّ آخر هو نجم الدين ابن الأثير الحلبي (ت 737هـ) الذي نصَّ على أنَّ الالْتفات "من نعوت المعاني"[15]، ذلك بأنَّ كل حالة من حالات العدول تنطوي على معنًى بعينه، يقصد إليه منشئُ الخطاب، فقد تَرِد صيغةٌ ما مِن صِيَغ العدول في سياق بعينه؛ لتشيرَ إلى المعنى المقصود، ثم تَرِد هذه الصيغة نفسُها في سياق آخر؛ لتشيرَ إلى معنى آخرَ مقصود، هو نقيضٌ للمعنى الأول، وهذا يعني خصوصية الدلالة في كلِّ حالة، وهذا يتَّضح من قول ضياء الدين: إنَّ "الانتقال مِن الغَيْبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب، ثم رأينا ذلك بعينه وهو ضدُّ الأول، قد استعمل في الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فعَلِمْنا حينئذٍ أنَّ الغرض الموجِب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يَجري على وتيرة واحدة؛ وإنما هو مقصورٌ على المعنى المقصود"[16].

ونظرة الرجُلَين إلى بلاغة الأسلوب العدولي بهذه الإشارة العميقة، قريبةٌ من التنظير النقدي المعاصر، حيث يرى صاحبَا نظرية الأدب أنَّه ليس ممكنًا القول بأن لكلِّ أداة تعبيرية تأثيرًا محدَّدًا، أو قيمة تعبيرية محدَّدة في جميع السياقات التي تقع فيها، فتوالي الجُمل المعطوفة بحرف العطف (And) مثلاً، قد يوحي في الكتاب المقدَّس أو كتب الأخبار بالسَّرْد البطيء للأحداث، ولكنَّه قد يوحي في قصيدة رومانسية بمشاعرَ هائجة متدفقة، والمبالغة قد تخلق جوًّا تراجيديًّا أو شجيًّا، ولكنها في الوقت نفسه قد تخلق جوًّا كوميديًّا، أو فكاهة سوداء[17].

إذًا في كلِّ حالة من حالات استخدام العدول هناك أصلٌ لمعنى مقصود، هو "سياق الخطاب"، فالسياق هو الذي يَحسِم ما إذا كان هذا النوع من العدول أو ذاك قد قُصِد به هذا المعنى أو نقيضه[18]، أو لِنقُلْ: إنَّ السياق هو الذي يوجِّه منشئ الخطاب في موضع بعينه إلى استخدام هذا الأسلوب أو ذاك، أو هذه الصِّيغة أو تلك، ومِن ثَمَّ فهو يعمِد في كلِّ حالة إلى استنطاق السياق والاسترشاد به؛ ذلك لأنَّ الكلمة في الاستعمال لا تحمل معناها المعجميَّ فقط "dictionary meaning"، وإنَّما تُثير معها طائفةً من المترادفات والمشتركات اللفظية... فهي لا تحمل معناها وكفَى؛ وإنما تثير معانيَ الكلمات التي ترتبط بها ارتباطًا صوتيًّا أو معنويًّا، أو اشتقاقيًّا أو دلاليًّا، أو حتَّى الكلمات التي تتضاد معها وتتخالف[19].

ولَمَّا كان للسياق هذه الأهميَّة الأكيدة؛ لأنَّه هو الوجه الغائب لنصِّ الخطاب، فقد وجب على متأمِّل الأسلوب العدولي في قراءته للنصوص ألاَّ يعتمدَ على وجهها الظاهر- أي: على صياغتها اللغوية - بل على ذلك الوجه الغائب الذي يتطلَّب في قراءته وتأويله بصيرةً نافذة، وحِسًّا مرهفًا، ويقظة مفرطة.

والعدولُ من الأساليب البلاغية التي ترتبط بالمبدِع، وتأكيد دَوْره وحضوره فيها، بوصفه القاصد إلى تشكيل صور العدول المختلفة، حيث نلمس ذلك في دراستهم لمواضع الالْتفات في الشِّعر، وفي القرآن الكريم أيضًا.

إذًا نستطيع أن نقرِّر أنَّ وظيفة العدول هي: الْتقاطُ الانحرافات بالنسق عن مقتضى ظاهره، أو التحوُّلات التعبيرية في لغة الأدب، للكشف عن شحناتها التأثيرية أو الدلالية؛ لذلك فهو يقوم على اختيار واعٍ بين الإمكانات التي تُتيحها اللُّغةُ للمتكلِّم، والمعنى الذي يتحرَّك في نفسه، سواء كان هذا الاختيار في نِطاق المعجم (كما في إيثار لفظة بعينها، والعدول إليها دون مرادفها)، أم في نظام النحو (كما في إيثار صورة بعينها من صُور تركيب العبارة، والعدول إليها دون أخرى تُعادِلها في أداء أصْل معناها).

ولا شكَّ أنَّ الأسلوب العدولي يُحدِث إثارةً لدى المتلقي نتيجةَ التضاد الناجم عن الاختلاف الحادث من كَسْر النِّظام؛ لأنَّ كسر النظام أو النسق اللغوي المثالي يُحدِث لونًا من "المفاجأة الأسلوبية"[20] التي يتعمَّدها منشئ الخطاب، وبالتالي فليس من المعقول أن ينكشفَ المعنى في الأسلوب العدولي لكلِّ متأمل بصورة واحدة لا تتغيَّر؛ لأنَّ مِن طبيعة التأمل أن تتنوعَ فيه زوايا النظر، وأن يتنوَّع ما يبدو للمتأمِّلين، لا سيَّما أنَّ تأمُّل العدول في حاجة من صاحبه إلى خِبْرة واسعة لإدراك التوفيق بين الصِّيَغ أو الأساليب، وبخاصة في النص القرآني.

والأسلوب العدولي في النص القرآني قادرٌ على أن يَستثير العقولَ في مختلف العصور، وهو في حالة إرسال مستمرّ، برغم اختلاف الزمان والمكان والظروف.

وبذلك نستطيع أن نقول بأنَّ "الأسلوب العدولي" ليس حيلةً من حِيَل جذْب اهتمام المتلقي وتشويقه فحسبُ؛ لأنَّ ما يحدث من انحراف للنسق ليس مِن قبيل التطرية والترويح عن المتلقي، وإنَّما ينحصر الأمرُ في بيان معنًى على قدْر كبير من الرهافة والخفاء، لا يلتفت إليه إلاَّ متلقٍّ حاذقٌ متمرِّسٌ بأساليب اللغة، وأنماط التعبير المختلفة، قادر على قراءة الوجه الغائب للنصِّ من خلال وجهه الحاضر[21].

[1] د/ محمد عبدالمطلب: "جدلية الإفراد والتركيب" (ص: 188).

[2] "الكشاف" (1/64).

[3] "اللغة ودلالاتها"؛ محمد سويرتي، مجلة عالم الفكر، م 28، ع 3، يناير - مارس /2000م، (بتصرف كبير من جانبنا).

[4] ذكره ابن جني عند توجيهه لقراءة الحسن لقوله - تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] حيث قرأها (يُرجعون) بياء مضمومة، يراجع "المحتسب" (1/145)، تحقيق علي النجدي ناصف وآخرين، القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميَّة، سنة 1386هـ.
وذكر ابن جني أبواب شجاعة العربية، وعدَّ منها الحذف، والتقديم والتأخير، والحمل على المعنى، في كتابه "الخصائص" (2/362 وما بعدها).

[5] الطوفي: "الإكسير في علم التفسير" (ص: 140)، تحقيق د/ عبدالقادر حسين.

[6] العلوي: "الطراز" (2/131).

[7] من النقاد المعاصرين من سمّاه (كسر النظام وقرنه بالانحراف، يُنظر: "نظرية البنائية" (ص: 375، وما بعدها)، و"علم الأسلوب" (ص: 236، وما بعدها).

[8] "الخصائص" (2/394).

[9] "الكشاف" (1/)65، وانظر: "مفتاح العلوم" (ص: 96، 97)، و"الإيضاح" (ص: 77)، و"الطراز" 2(/133)، و"البرهان في علوم القرآن" (3/314)، حاشية الدسوقي على مختصر السعد ضمن شروح التلخيص (1/472).

[10] انظر "المثل السائر" (2/170-180) وقارن بالكشاف (1/65، 2/276، 3/38).

[11] السكاكي: "المفتاح" (ص: 96).

[12] "المثل السائر" (2/180).

[13] "المثل السائر" (2/170)، و"الطراز" 2(/132).

[14] "جماليات الالتفات" (ص: 892).

[15] "جوهر الكنز" (ص: 119).

[16] "المثل السائر" (2/169) (بتصرف)

[17] Wellek، Rene / Warren، Austin، Theory of Literature، Penguin Books، Great Britain (1982) p. 178 وينظر: "اللغة والإبداع الأدبي" (ص: 20)

[18] جون لايمز: "اللغة والمعنى والسياق"؛ تر/ عباس صادق، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1987 (ص: 226).

[19] Wellek، Rene / Warren، Austin، Theory of Literature، Penguin Books، Great Britain (1982) p. 175 وينظر: "اللغة والإبداع الأدبي" (ص: 20).

[20] يعرف جاكبسون المفاجأة الأسلوبية بأنها: "تولد اللامنتظر من خلال المنتظر"؛ انظر: "الأسلوبية والأسلوب" (ص: 86)، ويُنظر: "علم الأسلوب" (ص: 236، وما بعدها).

[21] "جماليات الالتفات" (مقال للدكتور عز الدين إسماعيل ضمن قراءة جديدة لتراثنا النقدي - المجلد الآخر (ص: 904، 905)، بتصرف.




يتبـــــــــــــــــــــــــــع...









رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:13   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

بعد الانتهاء - بفضل الله تعالى - من القسم الأوّل "التنظير للمصطلح" ننتقل بعون الله تعالى إلى "التطبيق على المصطلح"...

فإذا كان الكلام كله صعبًا، وتمييزه شديدًا، والوقوع على اختلاف فنونه متعذرًا – وهذا في كلام الآدميين – فما ظنُّك بكلام رب العالمين؟!".

تبيَّن لنا ممَّا سبق من عرْض مفهوم المصطلح في التراث تعدُّدُ أنماط العدول وصُورِه عند العلماء (لغويين ونحويين، ومفسرين وبلاغيين)، وتبين لنا أنَّ العدول قد يكون في البِنية، أو في الصيغة، أو في الرتبة، أو في العدد، أو في الضمائر، أو في زمن الفِعْل، ومنه ما يتصل بتسخير اللفظ لتوليد المعنى، ومنه ما يتصل بالتعريف والتنكير، أو بالتذكير والتأنيث، ومنه ما يكون لأجْلِ الترخُّص في الإعراب، ومنه ما يكون للتغليب، ومنه ما يتصل بالتضامِّ، الذي يشمل الزيادةَ والحذف، والفصل النحوي، ومنه ما يتَّصل بمراعاة المناسبة أو الفاصلة، وغير ذلك.

ولَمَّا وجدتُ هذه الأنماط/ الصور كثيرة متنوِّعة، قمتُ بتصنيفها حسب المجال الذي تنتمي إليه.

والذي يجب أن ننبهَ إليه قبل أن نعرِض لهذه الأنماط أو الصور العدولية، هو أنَّ "العدول" عن الأصل تولُّدٌ ذاتي في اللغة، يرتبط بتولُّد الأفكار وتشعُّبها، وتحاورها وتجادلها، وأنه لا يُحكَم بشرعية "العدول" إلا إذا أضاف فضلاً ومزيَّة، فهناك عدول عن الأصل في القواعد كالعدول عن قاعدة "عدم الابتداء بالنكرة " عندما تتحقَّق الإفادة مع التنكير، وكالعدول عن عدم الإخبار بظرْف الزمان عن أمر ماديٍّ عندما تتحقَّق الإفادة به أيضًا، وهلمَّ جرًّا، مما يدلُّ على أنَّ الإفادة هي المطلب الأول للعدول في الاستعمال اللغوي[2]، وقد رأينا شيئًا من ذلك في الشواهد السابقة الذِّكْر.

كما نُنبه على أنَّ أنماط العدول في القرآن وصوره تَنِدُّ عن الحصر، وليس بوسع أيِّ باحث أن يحصرها؛ لأنَّ النص القرآني بطبيعته لا يخضع لأيِّ نوع من التقييد الصوري، ولا يحتكم إلى أسلوب بعينه؛ وإنما هو حدائقُ ذات بهجة من الأساليب التي لا تنتهي أعاجيبها، والتي نعدُّ منها:

أولاً: العدول في البنية:
يُعدل عن أصْل البنية إما بإجراء تصريفي، أو بتسخير اللَّفْظ لتوليد معانٍ هامشية لم تكن للأصل اللغوي المجرد.

1) الإجراء التصريفي: من طبيعة الاستعمال اللغوي أن يعمد إلى طلب الخِفَّة، وتجافي الاستثقال؛ اقتصادًا للجهد الحركي في النطق، وتلك ظاهرة لا نعلم لغة بمنأًى عنها، ولقد حَرَصتِ اللغة العربية (أو بعبارة أخرى حَرَص الذوق العربي) على كراهية توالي المثلَيْن والمتقاربين والمتعارضين، وكان حفيًّا بتوالي المختلفين والمتناسبين، ومِن هنا وجدْنا إجراءات عدولية تصريفية تُتَّبع في صياغة البنية، كالإدغام، والإخفاء، والإقلاب، والنقل عن طريق التضمين، أو عن طريق النيابة، والإعلال والإبدال، والنقل والقلْب، والحذف والزيادة والمناسبة، علاجًا لمشاكل تجاور الأصوات الذي يتَّسم بالثِّقل[3].

ومن الإجراء التصريفي "التضمين"[4]، وهو أن يُضمَّن لفظٌ معنَى لفظٍ آخر، كقوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء: 2].

فِعْلُ الأكلِ متعدٍّ بنفسه إلى مفعوله الواحد، ولا يحتاج بعدَ ذلك أن يتعلق به "إلى"، ولو جاز له أن يتعلَّق به الحرف لكان الحرف "من" نحو ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121]، والمقصود بالنهي عن الأكْل في آية النساء النهي عن "الضم"، والمعروف أنَّ الفعل "ضمَّ" يَنصب أحدَ المضمومين على المفعولية، ويتعدَّى إلى المضموم الآخر بواسطة "إلى"، ففي استعمال الأكْل في الآية تضمين هذا الفعل معنى فعل "الضَّمِّ"؛ أي: "ولا تضمُّوا أموالَهم إلى أموالكم"، فوقع فِعْل الأكلِ في البنية اللفظية لفِعل الضمِّ، وأدَّى معناه، وهذا هو المقصود بالتضمين الذي هو صورةٌ من صور النقل الأسلوبي، واستعمل الأكْل؛ لِمَا فيه من الشراهة، بعكس مطلق الضم[5].

2) تسخير اللفظ لتوليد المعنى:
إنَّ طاقةَ اللفظ تتسع لِمَا هو أكثر من مجرَّد المعنى العرفي الاجتماعي، بأن تشمل تسخيرَ هذا اللفظ لتوليد معانٍ أخرى فنية أسلوبية، ولكونها أسلوبيةً يمكن وصفُها بأنها فردية أو شخصية؛ أي: ترجع إلى قدرة منشئ الخطاب/ المبدع في اختيار الألفاظ التي تُحدِث الأثر النفسي المناسب لدى المتلقي، وتسخيرُ اللفظ لتوليد المعنى نمطٌ من أنماط العدول، له طرق متعدِّدة، منها:

أ - حكاية اللفظ للمعنى، نحو قوله - تعالى -: ﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ [فاطر: 27]، كان يمكن لهذا المعنى أن يوصل إليه بواسطة استعمال لفظ "صخور"، ولكن حروف هذه الكلمة هي "صاد" رخوة، ثم "خاء" رخوة أيضًا، ثم "راء" تكرارية، وفي الرخاوة رخاوة، وفي التكرار تخلخل، أمّا لفظ "جُدَدٌ" فالشدة واقعة في جُلِّحروفه، مما يُوحِي بالقوة التي تتناسب مع تركيب الجبال[6].

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ﴾ [الأحقاف: 17] تكاد كلمة "أُفٍّ"، تنقلب بجرسها من اسم فِعْل إلى اسم صوت، فإنَّ ما في الفاء من طرْد النَّفَس من الصدر حكايةٌ للرفض، وإرادة التخلص من موقفه وصاحبه، ولو أنَّ الرافض بَحَثَ عن تعبير مناسب للرفض ما وجد أفضلَ من لفظ "أُفّ"؛ بسبب ما فيها من دلالة طبيعية تدعم دلالتَها العرفية... فهي تدلُّ بجرسها على ما تدلُّ عليه بوضعها[7].

وهكذا تَرْقى القيمة الصوتية إلى حكاية معنًى عرفيٍّ رصده المعجم للفظ أو معنى طبيعي، مما تستوحيه النفس ولا تستطيع وصْفَه، فإن أمكن أحيانًا أن نشير إليه من بُعد، فإنَّنا لا نستطيع تفسيرَ العِلَّة التي جعلته موحيًا على هذا النحو، فَمَثلُ التأثُّر به كمثل التأثر باللحن الموسيقي، نطرب له ولا ندري لماذا، ولعلَّنا نجد جوابًا لذلك عند الرَّافعي أنَّ ذلك هو "الاستهواء الصوتي في اللغة"[8].

ومما يتَّصل بإيحاء اللَّفْظ إيحاء من نوْع آخر لا يعود إلى أصوات الكلمة؛ وإنما يعود إلى الدلالات الهامشية للألفاظ، فمِن ذلك مثلاً، سأل زكريا ربه: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ [آل عمران: 40]، وسألت مريم ربَّها: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران: 47]، فأجاب الله زكريا بقوله: ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 40]، وأجاب مريم بقوله: ﴿ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 47].

بداية، لا بدَّ أن نفهم الفرق اللغوي بين "يَخلق"، و"يفعل"، حيث يُفهم من الأوَّل معنى التقدير والإنشاء من عدم، أما الثاني ففيه تصْيير شيء من شيء موجود أصلاً، أو نقْلِه من حال إلى حال.

وبناءً على هذا الفَهْم نرى أن التعبير بلفظ "يفعل" في قول زكريا لا يُثير خواطرَ سيِّئة؛ لأنَّ زكريا وامرأته زوجان، فلا شبهة إن حملت المرأة؛ لأنَّ زوجها بجانبها، وقد كان إخصابها بواسطة تسخير زوْجها لذلك، والتسخير والإخصاب مِن فعل الله، أما في حالة مريم، فإنَّ التعبير بلفظ "يفعل" ربما أثار خواطرَ سيِّئة، فاللفظ لهذا غير مناسب، ومِن هنا جاء الفعل "يخلق" ليوحي بطلاقة القدرة، وهيمنة الإرادة والمشيئة الإلهية[9].

ولعلَّنا نلتفت إلى عدول آخرَ في السؤالين، حيث كان "غلام" في سؤال زكريا، وكان "ولد" في سؤال مريم، وذلك أنَّ الغلام ابن لأبيه، والولد من الولادة، والولادة مِن خصوصيات المرأة، وهذا هو ما كان يشغل مريم، كيف تلد بدون زوج؟!

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ [ص: 21]، الذي فعله المتخاصِمون المحتكمون إلى داود - عليه السلام - هو أنهم تسلَّقوا السُّور، والصيغة الصرفية في "تسلَّقوا" هي "تفعلوا"، والأصول الاشتقاقية في "السور"، هي "س و ر"، وقد ضمّت الآية الصيغة إلى الأصول الثلاثة، فكان نتيجة ذلك لفظ "تسَوَّروا" الذي هو أخصر مِن كلمتين، وأجمع للدلالة على المعنى، وأكثر حكاية له[10].

ب - العدول إلى تنكير اللفظ أو تعريفه؛ وذلك للوصول إلى إفْهام التعميم، وما يتولَّد عنه من إيهام أو تهويل، أو تحقير أو تعظيم، بحسب موقع الكلمة من سياقها اللغوي والاجتماعي.

فمن شواهد إيثار التنكير قوله - تعالى -: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر: 28]، نكَّر الرجل، والمقصود موسى - عليه السلام - ليحوِّل القضية من قضية شخص بعينه إلى قضية عامَّة من قضايا منطق العدالة[11].

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18]، دليل إرادة العموم هو: أنَّك لو وضعتَ لفظ "كل" قبل كلمة "نفس" لظلَّ هيكل المعنى وإطاره العام كما هو، ومعنى هذا أنَّ التنكير أغنى عن لفظ "كل" بما أفاده التنكيرُ من معنى العموم، ففي الآية أمرٌ من الله - سبحانه وتعالى - للذين آمنوا جميعًا أن يُحاسِبوا أنفسَهم قبل أن يُحاسبوا[12].

قال الزمخشريُّ: "فإن قلت: ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت: أما تنكير النفس، فاستقلالٌ للأنفس النواظِر فيما قدَّمْن للآخرة، كأنه قال: فلتنظر نفسٌ واحدة في ذاك، وأما تنكير الغَدِ، فلتعظيمه وإبهام أمره، كأنَّه قيل: لغدٍ لا يُعرف كُنهه لعِظَمه"[13].

ومن شواهد إيثار التعريف قوله - تعالى -: ﴿ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت: 17]، والسبب في هذا الإيثار والعدول: أنَّ تعريف الرزق هنا أفاد أنه لا رازقَ إلا الله، لإفادة "أل" معنى استغراق الجِنْس، وما كان يمكن الوصول إلى هذا القَصر في المعنى لو أنَّ الرِّزْق قد جاء على صورة النكرة، فلو قيل: "فابتغوا عند الله رزقًا" ما كان هذا القول حائلاً دون فَهْم التعدُّد لمصادر الرزق[14].

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى: 49]، جاءت الإناث نكرة، والذكور معرفة من أجْل الفاصلة، ولو نكر فقيل: "ويهب لمن يشاء ذكورًا" لتغيَّر جرسُ الفاصلة، واختلفتْ عما قبلها من قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ [الشورى: 48]، ولكن لا يَكفي في تعريف "الذكور" القولُ بمراعاة الفاصلة، ولكن لا بدَّ من بيان دَوْر المعنى الذي كان سببًا أسلوبيًّا في العدول، "فالآية سِيقت للاعتداد بالنِّعم، وإنما أتى بذِكْر الحرمان ليتكمَّل التمدُّح بالقدرة، كما يُمدح بالهِبة وبالعطاء، فيُعلم أنَّه لا مانع لما أعطى، ولا معطيَ لما منع، وقال - سبحانه - مُخبرًا عن الحِرمان بلفظ: "ويجعل"، عدولاً عن لفظ الحرمان والمنع إلى لفظ هو رِدْفُه وتابعه، وهو لفظ الجَعْل... فأخبر - سبحانه - أنَّه الفاعل لذلك كلِّه على الحقيقة"[15].

وللألوسي رأيٌ في هذا الصدد نميل إليه؛ لاتِّصاله بالمعنى، فضلاً عن المبنى، حيث يقول: "... وفي تعريف الذُّكور، التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم، أول كل خاطر، وأنه الذي عَقدُوا عليه مُناهم"[16]، فبناءً على هذا الرأي يكون سِرُّ تنكير الإناث هو الإشعارَ بتجاهل العرب وكراهيتهم لهذا الجِنْس، فكأنَّ الآية الكريمة تُقرِّر لهؤلاء - من خلال ظاهرة التعريف بعد التنكير - أنَّ الجِنْس الذي هو معقد آمالكم في أنَّ كلاًّ منهما هو عطاء مالك السموات والأرض، الذي يهب ما يشاء لِمَن يشاء.

جـ - العدول إلى الوصف بالموصول[17] استغناءً عن تعيين الذات، ووفاءً بإرادة العزوف عن تحديد مدلوله لفَرْض أسلوب معيَّن كالتحقير - مثلاً - كما في قوله - تعالى - مشيرًا إلى امرأة العزيز -: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ [يوسف: 23]، فلا هي "زليخا"، ولا هي "امرأة العزيز"، ولا هي "سيدته"؛ وإنما هي تلك التي تُقيم معه في بيت واحد هو بيتُها، وفي إضافة البيت إليها لا إلى زوجها من الإشارات المُهينة ما لا يَخْفى[18].

وأحسبُ أن تجنُّب التعبير القرآني لفظ "سيدته" تكريمًا ليوسف، وتحقيرًا لها، بدليل الآية الأخرى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ [يوسف: 21]، فليس هو سيِّدًا ليوسف، وليستْ هي سيدة له، ومما يدلُّ على تجنُّب النص الشريف لفظ السيادة في حالة يوسف بذاته قوله - تعالى -: ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف: 25]، فجعله سيِّدَها، لا سيِّد يوسف - عليه السلام.

وقد يُساق الموصول مساق التعظيم بسبب ما يحتمله التعميم من التهويل والتضخيم والتكريم، كما في قوله - تعالى -: ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: 1]؛ أي: "والقرآن هو الحق"[19].

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ﴾ [الرعد: 3]؛ أي: وهو الله[20].

[1] نقصد بنمط "العدول": (النسق)، أو (الصورة)، أو (النظم) الذي وردتْ عليه العبارة القرآنية مخالفًا النسق المثالي - أي: الأصل المثالي - للغة.
وقد عقد الدكتور تمام حسان فصلاً بعنوان: (الأسلوب العدولي، أو المؤشرات الأسلوبية)، في كتابه "البيان في روائع القرآن" (ص: 345 وما بعدها)، ذكر فيه بعض أنواع "العدول" مشيرًا إلى الفائدة منها، وقد أفدْنا من هذا في دراستنا هذه.

[2] "البيان في روائع القرآن" (ص: 346)، ويُنظر: "العدول" (ص: 20).

[3] "البيان في روائع القرآن" (ص: 347)، ويُنظر تفصيل ذلك في: "الأصول دراسة أبيستومولوجية" (ص: 136، وما بعدها)، و"اللغة العربية معناها ومبناها" (ص: 261، وما بعدها).

[4] لفظ التضمين يعني معانيَ أخرى، ففي الشعر: تعلق قافية بيت بالبيت الذي يليه، وفي البديع: أن يأخذ الشاعر أو الناثر آية أو حديثًا، أو بيتًا أو شطرًا من بيت، أو عبارة من كلام غيره دون أن يغير لفظًا منه أو معنى، والتضمين في البيان: أن تعدِّي الفعل بغير حرفه، أما في النحو: فهو إشرابُ كلمة معنى كلمة لتقعَ موقعها، وتتبوأ بيئتها في الكلام، وتؤدي وظيفتها النحوية؛ "البيان في روائع القرآن" (ص: 191)ويُنظر: "معجم المصطلحات البلاغية وتطورها" (ص: 371 - 372).

[5] "البيان" (ص: 349).

[6] "البيان" (ص: 353).

[7] "البيان" (ص: 355)، وراجع: "تأويل مشكل القرآن" (ص: 147، 148).

[8] "تاريخ آداب العرب" (2/215 - 21).

[9] "البيان في روائع القرآن" (ص: 297) بتصرف.

[10] "البيان في روائع القرآن" (ص: 354).

[11] "البيان" (ص: 357).

[12] "البيان" (ص: 357، 358).

[13] "الكشاف" (4/86).

[14] "البيان" (ص: 358)، وراجع: "الكشاف" (3/201).

[15] "بديع القرآن" (ص: 68، 69).

[16] "روح المعاني" (25/54)، وراجع "الكشاف" (3/475).

[17] الموصول يأتيه العموم من بين يديه ومن خلفه؛ لأنَّ دلالته في الأصل إنما هي على مطلق غائب (وبين الإطلاق والتعميم رحم وقُرْبى)، ولأنه مفتقد إلى صلة تمنح معناه شيئًا من التحديد (والافتقار في اللفظ دليل على فقر في الدلالة)، والدليل على عموم معناه أيضًا أن ينقل، فيكون من روابط الجملة؛ "البيان في روائع القرآن" (ص: 365).

[18] "البيان" (ص: 365).

[19] "البيان" (ص: 365).

[20] "البيان" (ص: 366).


يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع...









رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:15   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

استكمالاً لِما عرضناه في الحلقة السابقة حول بعض أنماط العدول في القرآن الكريم وصوره.. نقول:


ثانيًا: العدول في الصيغة:
من بلاغة العدول: المغايرةُ في الصيغة، بمعنى العدول إلى صيغة معيَّنة في سياق معيَّن، وإيثارها على غيرها في هذا الموضع.

ومن شواهد ذلك: قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 64]، فالحياة والحيوان بمعنى واحد؛ إذ إنَّ كلاًّ منهما هي مصدر للفعل "حيّ" غير أنَّ في الثانية من المبالغة في أداء هذا المعنى ما ليس في الأولى، ومَردُّ ذلك - كما يقرِّر بعض المفسِّرين - هو "ما في بناء فعَلان - بفتح العين - من معنى الحركة والاضطراب، كالنَّزَوان والنغَصان واللهَبان، وما أشبه ذلك، والحياة حركة، كما أنَّ الموت سكون، فمجيئُه على بناء دالٍّ على معنى الحركة مبالغةٌ في معنى الحياة، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضِي للمبالغة"[1].

إذًا في العدول إلى صيغة الحيوان مع الدار الآخرة مبالغةٌ في تحقق معنى الحياة في تلك الدار، والإشعار بأنَّها هي الجديرة بأن تُسمَّى حياة.

ولكنَّ أمورًا أخرى من المعاني حفلتْ بها الآية الكريمة تدعم هذا العدول، وتعمِّق دلالته على سموِّ الحياة الأخروية بالقياس إلى الحياة الأولى، فمنها:

أ- بينما بولغ في استعمال معاني اللهو واللعب للحياة الأولى بأسلوب القَصْر "ما - إلا"، بُولِغ في المقابل في إثبات معنى الحياة للدار الآخرة بـ "إن، واللام، وتعريف طرفي جملة الخبر "لهي الحيوان".

ب- بينما وردتْ صيغة "الحياة" مقيَّدة بالوصف "الدنيا"، وردت صيغة "الحيوان" مطلقةً بلا وصف، وذلك للإشعار بأنَّ الحياة الأخروية في تساميها أبعدُ من أن يحيطَ بها وصف.

جـ- بينما وقعت صيغة "الحياة" مبتدأً أخبر عنه باللهو واللعب، وقعتْ صيغة "الحيوان" في جملة الإخبار عن الدار الآخرة، فكأنَّ هذه الدار ليستْ مجرَّد وعاء أو مسرح للحياة الأخروية؛ بل إنها ذاتها حياة[2].

ومن شواهد العدول في الصيغة أيضًا، قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 142].

حيث جاء العدول عن صيغة المضارع "يخادعون" إلى صيغة اسم الفاعل "خادعهم" مؤديًا دَورَه في تبكيت هؤلاء المنافقين، الذين تُسوِّل لهم نفوسُهم الملتاثة بمرض النفاق أنَّ ظاهرهم الإيماني الزائف قد آتى ثمارَه في خِداع المؤمنين، وأنَّ كفرهم في مأمن من الافتضاح، غافلين عن أنَّ الخالق - عزَّ وجلَّ - عليم ببواطنهم، وأنه - سبحانه - إذا كان قد أمر المؤمنين بعصمة دمائهم، فإنه بذلك يُملي لهم، ويمدُّهم في طغيانهم يعمهون.

ولعلنا نلاحظ أنَّ العدول عن صيغة المضارع إلى صيغة اسم الفاعل قد واكبه - متآزرًا معه في دلالته - عدولٌ آخر، يتمثَّل في صياغة اسم الفاعل من الثلاثي (خَدَعَ)، لا من الرباعي الدال على المفاعلة، والذي يقتضيه ظاهر السياق لمجيء المضارع منه (خادَع) بفتح الدال، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ هؤلاء المنافقين الذين يمعنون في محاولات الخداع، هم - لو عقلوا - المخدوعون؛ أي: إنَّ الآية الكريمة بهذا العدول الأخير تدلُّ على ذلك المعنى الذي أكدتْه آيةٌ أخرى في شأن هؤلاء المنافقين[3]، وهي قوله - سبحانه -: ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 9].

ومما يتَّصل بالعدول في الصيغة إيثارُ بعض أوصاف المبالغة على بعض، نحو قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5]، يرى بعضُ المفسِّرين أنَّ الوصف "عُجاب" عُدل إليه، وأوثر على "عجيب" لأجْل الفاصلة[4].

ونقول: هَبْ أنهم محقُّون في ذلك، لكن ليس من الإنصاف للبيان الأعلى، والكلام المعجز أن يلتفت إلى النسق اللفظي دون الالْتفات إلى الملْحَظ البياني الذي يقتضيه المعنى، وحينما نستعرِض السياق الذي وردتْ فيه الآية الكريمة ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 4، 5].

فالكافرون أَلِفوا تعدُّد الآلهة وحياة الهمجية، فلما جاءهم محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدْعوهم إلى عبادة إله واحدٍ أَحَد، وترْك عبادة الأصنام التي ألِفُوها، ووجدوا آباءهم يعبدونها، فكان هذا بالنسبة لهم شيئًا عجيبًا أشدَّ العجب؛ بل شيئًا بليغًا في العجب؛ "أي: مبالغة في العجب، فإن "فُعالاً" بناء مبالغة، كرجل طُوال وسُراع، ووجه تعجُّبهم أنه خلاف ما ألْفَوا عليه آباءهم الذين أجمعوا على تعدد الآلهة، وواظبوا على عبادتها، وقد كان مدارهم في كل ما يأتون ويذرون التقليد، فيَعدُّون خلاف ما اعتادوه عجبًا، بل محالاً"[5].

قال صاحب "العين": " بين العَجيب والعُجاب فرق، أما العجيب: فالعجب يكون مثله، وأما العُجاب: فالذي تجاوز حدَّ العجب، واستدلَّ بقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5][6].

جاء في "البرهان" قول المعري في "اللامع العزيزي"[7] "فعيل" إذا أريد به المبالغةُ نقل به إلى "فعَال"، وإذا أُريد به الزيادة شدَّدوا، فقالوا: "فعّال"، ذلك من عجيب وعُجَاب وعُجَّاب، وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي: "إن هذا لشيء عُجَّاب" بالتشديد[8].

جاء في سورة "ق" قوله - تعالى -: ﴿ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 2]، فمناط العجب هنا كونُ الرسول منهم، وكونه بشرًا مثلهم، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، وقد كانوا يظنُّون أن يكون الرسول مَلَكًا.

وجاء في سورة "ص" قوله - تعالى -: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5]، عدولٌ من صيغة "فعيل" إلى صيغة "فعَال" للدلالة على شدَّة التعجُّب؛ لأنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتاهم بغير ما ألِفُوه واعتادوه، فكانتْ نسبة العجب أشدّ.

وجاء في سورة "نوح": ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح: 22] في "كبارا" بالتشديد "فعال" عدل إليها؛ لإفادة شدة المكر.

قال الراغب: "والكبَار" أبلغ من "الكبير"، و"الكُبَّار" أبلغ من ذلك[9].

واستدلَّ بقوله - تعالى -: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ﴾، وبمثل ذلك قال الزمخشري[10].

إذًا فليس العدولُ عن صيغة إلى أخرى - في البيان المعجِز - سببُه مراعاة الفاصلة فحسبُ؛ وإنما حسبما يتطلَّب المعنى من الدلالة على العجب، ودرجة شدَّته.

ومن أنماط العدول في الصيغة، وقوع "مفعول" موقع "فاعل"، نحو قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء: 45]؛ أي ساترًا، وقوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم: 61]؛ أي: آتيًا.

جاءتْ آية الإسراء في سِياق آيات رويُّ فواصلها راءٌ مسبوقة بحرف "مد"، والحجاب يكون ساترًا لا مستورًا، فكان أن يُقال "ساترًا"، وهذا ما جعل بعضَ المفسرين يرى أنَّ وقوع "مفعول" موقع "فاعل" من أجْل مراعاة رؤوس الآي، وهذا ملحظ شكلي؛ وإنما الداعي إلى ذلك هو المبالغةُ في قوة المعنى وتأكيده، وأنَّ الحجاب الذي جعل بين الكافرين وبين الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما يتلوه من آيات بيِّنات - لعدم انتفاعهم بها، وشدَّة نفورهم عنها - كاد يكون لقوَّة سترِه مستورًا؛ أي: إنَّ أثره تعدَّى موضعه، حتى شمل الحجابَ نفسه، ففي التعبير تخييلٌ، على حدِّ قول الشاعر:


ففي العبارة مجازٌ عقلي[11]، وكذلك يقال في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم: 61]، ففي هذا العدول مبالغةٌ في قوَّة المعنى وتأكيده أنَّ وعد الله آتٍ لا محالة.

ومن أنماط العدول في الصيغة أيضًا، وقوع "فاعل" موقع "مفعول"، نحو: ﴿ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة: 21]، و﴿ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق: 6].

قال أبو عبيدة: "عيشة راضية" مجاز مرْضِيَّة، فخرج مخرجَ لفظ صفتِها، والعرب تفعل ذلك إذا كان من السبب في شيء، يقال: نام ليله؛ وإنما ينام هو فيه[12].

وقال الشريف الرضي: "وكان الوجه أن يُقال: في عيشة مرْضِيَّة، ولكن المعنى خرج على مخرج قولهم "شعرٌ شاعر"، "وليلٌ ساهر"... وقال بعضُهم: إنما قال - تعالى -: ﴿ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ؛ لأنها في معنى ذات رِضًا، كما قالوا لذي الدّرْعِ: دَارِع، ولذي النَّبْل: نابل، ولصاحب الفَرَس: فارس، وإنما جاؤوا به على النسب، ولم يجيئوا به على الفعْل... فكأن العيشة أُعطيتْ من النعيم حتى رضيت، فحَسُن أن يقال: راضية؛ لأنَّه بمنزلة الطالب للرِّضا... "[13]، وهذا من تصريف القرآن للقول بحسب المقام.

إذًا ليس هناك معيارية يُحكَم بها على الصيغة في حالة من حالاتها دون أخرى بأنَّها أفضلُ من غيرها، إلا بقَدْر ما توحي أو تلفت إلى المعنى المقصود في هذا السياق، أو غيره، فالهدف ليس في معياريته، ولكن في وظيفة الأداء اللغوية القادرة على توصيل المعنى، أو الإيحاء به.

[1] "الكشاف" (3/195)، وانظر: "تفسير أبي السعود" (7/47).

[2] "أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية" (ص: 87، 88).

[3] راجع: "أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية".

[4] "الإتقان" (3/ 343)، و"معترك الأقران" (1/37).

[5] "معترك الأقران" (1/37)، و"الإتقان" (3/343).

[6] "روح المعاني" (23/166)، ويُنظر "الكشاف" (4/360)، و"التفسير الكبير" (26/155).

[7] "اللامع العزيزي" كتاب لأبي العلاء المعري في شرح غريب شرح أبي الطيب المتنبي، عمله للأمير معز الدولة ثابت بن الأمير معز الدولة أبي العوان (إنباه الرواة 1/65).

[8] "البرهان" (2/513، 514).

[9] "مفردات الراغب" (ص: 423).

[10] "الكشاف" (4/164).

[11] "خصائص التعبير القرآني" (1/217، 218).

[12] "مجاز القرآن" (2/268).

[13] "تلخيص البيان" (ص: 330).












رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:16   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

ثالثًا: العدول في الرتبة (التقديم والتأخير):
يُعدُّ التقديم مظهرًا من مظاهر كثيرة تمثِّل قدرات إبانة، أو طاقات تعبيرية يُديرها المتكلِّم اللَّقِن إدارة حيَّة وواعية، فيسخرها تسخيرًا منضبطًا للبَوْح بأفكاره، وألوان أحاسيسه، ومختلف خواطره، ومواقع الكلمات من الجملة عظيمة المرونة، كما هي شديدة الحساسية، وأيُّ تغيير فيها يُحدِث تغييراتٍ جوهريةً في تشكيل المعاني، وألوان الحسّ، وظلال النفس، فليس قولك: زيد جاءني، كقولك: جاءني زيد، فقولك: زيد جاءني، أفاد فوق الإخبار بالمجيء ضربًا من الاهتمام بزيد، والحفاوة بأمره، وتوكيد تلك الحقيقة لسامعك لأهميتها، أو لأنه على حال لا يتوقع مجيء زيد، وما أشبه ذلك من تلك الألوان النفسية التي يبوح بها تقديم المسند إليه، فإذا قلت: جاءني زيد، انقطع هذا الفَيْض من الهواجس والخواطر، وكان الكلام كلامًا مرسلاً، يجري في سياق خالٍ من تلك النبضات التي جَرَى فيها السياق الأول.[1]

وبناء العبارة في الحقيقة بناءُ خواطر ومشاعر واختلاجات، قبل أن يكون هندسة ألفاظ، وتصميم قوالب، وإذا كان السياق سياقًا فيَّاضًا وحافلاً أبدتْ هذه الزحزحات الخفيفة للكلمات - أي: العدول - غِنًى وفيضًا.

ولعلَّ هذا ما الْتفتَ إليه عبدالقاهر حين قال في صدر حديثه في هذا الباب: "إنه جمُّ المحاسن، واسع التصرُّف، بعيد الغاية، لا يزال يفتر لك عن بديعةٍ، ويُفضِي بك إلى لطيفٍة، ولا تزال تَرَى شعرًا يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سببَ أنْ راقك ولطف عندك أنْ قُدِّم فيه شيءٌ، وحوِّل اللفظ عن مكانٍ إلى مكان".[2]

وشواهدُ العدول في التقديم - في القرآن الكريم - كثيرة، تندُّ عن الحصْر، وتتعدَّد أنماطه، نعدُّ منها في هذا المقام: تقديم المعمول على العامل، نحو قوله - تعالى -: ﴿ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40]، الخطاب للملائكة، وهو تقريع للكفَّار... وفيه إقناطٌ للمشركين عمَّا علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعتهم، وتخصيص الملائكة؛ لأنَّهم أشرف شركائهم، والصالحون للخطاب منهم، إذًا فتقديم المعمول "إياكم" على العامل "يعبدون" اقتضاه المعنى، كما يُفهم من السياق، هذا فضلاً عن مراعاة المناسبة.[3]

ومن أنماطه تقدُّم المفعول لأجْله، وهو الآخِرُ رتبةً، كما في قوله - تعالى -: ﴿ أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات: 86].

الآية - كما نعلم - استفهام إنكاري، وما دام معناها الإنكار، فإنَّ ترتيب ألفاظها ينبغي أن يكون بحسب الأوليَّة في استحقاق الإنكار، وأَوْلَى الألفاظ بالإنكار هنا لفظ "إفكًا"؛ لأنَّ الكفر قد يكون ميراثًا عن الآباء، ولكنه قد يكون انحرافًا عن الحقِّ متعمدًا، لا ينفع معه الدليلُ على فساده، فذلك هو "الإفك"، ثم يلي في الإنكار أن ينصب الإفك على إشراك آلهة مع الله، فإذا كانتِ الآلهة دون الله لا مَعَه، فهذا أوغل في الشِّرْك، ويُضاعف من سوء ذلك أن يكونَ ذلك بإرادتهم وباختيارهم، ولو تصورْنا النظم في غير القرآن "أتريدون آلهة دون الله إفكًا"، لانطفأ كلُّ ما في الكلام من حرارة الإنكار، ولبدَا الكلام وكأنه سؤالٌ لهم عما يُفضِّلونه من أنواع الشِّرْك، وثمَّة ملحظ آخر أنَّ المفعول لأجْله "إفكًا" تقدَّم، وهو الآخر رتبةً، وتلاه المفعول به ونعته، وهذا يدلُّ على أنَّ أوَّل ما تعلق به الاهتمام هو السببية التي عبَّر عنها المفعول لأجْله؛ لأنَّ الكفر عن ضلال قد تُرْجَى له الهداية، أما الكفر عن إِفك، فذلك انحرافٌ مع تدبير، وكيْد وإصرار.[4]

ومن أنماطه أيضًا تقديم الضمير على ما يفسره، نحو قوله - تعالى -: ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه: 67]، والنكتة في هذا التقديم والتأخير: أنَّ النفس تتشوَّف لفاعل "أوجس"، فإذا جاء بعد أن أُخِّر وقع من النفس بموقع.[5]

وهذا التعليل يغلب عليه طابعُ العموم، والحقُّ أنَّ موسى مؤيَّد من ربِّه، فهو - سبحانه - معه يسمع ويرى، ولَمَّا كان توجس الخوف يُشعر بدنو منزلة موسى - عليه السلام - في هذا الموقف، أشعر النظم الكريم بأنَّ ذلك ينبغي أن يكون بعيدًا عنه، لذلك أعقبه بقوله: ﴿ قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه: 68]، والأعلى لا ينبغي أن يخافَ ظاهرًا ولا باطنًا، وتقديم الجار والمجرور (في نفسه) على المفعول (خيفة)؛ لبيان أنها كانت في نفسه، ولم تكن ظاهرة، وإن كان لفظ "أوجس" يوحِي بكون الخوف في نفسه، لكن النظم الكريم حَرَص على التصريح به؛ ليؤكِّد المعنى، ولا يظهر موسى في مقام الخائف، لا سيَّما في هذا الموقِف أمام أعدائه.

ومنه تقديم ما هو متأخر في الزمان، نحو قوله - تعالى -: ﴿ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى [النجم: 25].

قال ابن الصائغ: "ولولا مراعاةُ الفاصلة لقُدِّمت "الأولى" كقوله: ﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ [القصص: 70] "[6]، والحقُّ أنَّ هذا ملحظ شكليّ، ولا بدَّ أنَّ هناك ملحظًا بيانيًّا يتطلَّبه المعنى، ويُستنبط من السياق، فعندما ننظر إلى الآيات المصاحبة للآية، حتى يساعدَنا السياق على فَهْم المعنى الصحيح، فالسياق - كما يقولون - الحارس الأمين على المعنى، قال - تعالى -: ﴿ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 22 - 26].

﴿ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّىأم منقطعة مقدَّرة بـ "بل"، وهى للانتقال مِن بيان أنَّ ما هم عليه غيرُ مستند إلا إلى توهمهم وهوى أنفسهم، إلى بيان أنَّ ذلك لا يجدي نفعًا لهم في الآخرة، فليستْ لهذه الأصنام شفاعة عندَ الله، والهمزة للإنكار والنفي؛ أي: بل ليس للإنسان كلُّ ما يتمناه... وفي تقديم الآخرة تعليلٌ لانتفاء أن يكون للإنسان كلُّ ما يتمناه حتمًا، فإنَّ اختصاص مِلْك أمور الآخرة والأُولى به - تعالى - مقتضٍ لانتفاء أن يكون للإنسان أمرٌ ما، وقُدِّمت الآخرة لقطع أهمِّ أطماعهم عندَهم من الفوز فيها؛ لذا أردف ذلك بقوله - تعالى -: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا، وإقناطهم عمَّا طمعوا به من شفاعة الملائكة، موجِب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق أولى، "وكم" خبرية، مفيدة للتكثير... وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى، وتقديم الجار والمجرور على المبتدأ في قوله:﴿ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ﴾يُفيد القصْر بأنَّ الأمور تسير وَفقَ إرادة الله - تعالى - لا وفق ما يتمنَّاه الإنسان.[7]

وإذا كان ما يتمنَّاه هؤلاء من شفاعة الأصنام لهم - وهذا لا يكون إلاَّ في الآخرة وعندَ الحساب - مستحيلة؛ لأنَّ أحدًا لا يملك الشفاعةَ إلا مَن أَذِن له الله بها؛ لذلك قُدِّمت الآخرة على الأُولى في هذا الموضع، إذًا فتقديم الآخرة على الأولى في هذا الموضع هو الأنسبُ، والذي يقتضيه السياق، ولأنه ينسجم لفظيًّا مع الإيقاع الموسيقي للفاصلة، فضلاً عن انسجامه المعنويّ.
معنى ذلك: أنَّ التقديم - وهو أسلوبٌ عدولي عن أصل الرتبة، ومؤشر أسلوبي - إنما يكون لغاياتٍ تتصل بالمعنى، وذلك شأن الأسلوب العدولي مع كلِّ القرائن.

رابعًا: العدول في الضمائر:
سبق أن تناولْنا الحديث عن العدول في الضمائر من الغَيْبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة.

ومن العدول في الضمائر المغايرة بين التكلُّم والغَيْبة، أو بين الغَيْبة والتكلم، أو بين التكلم والخطاب.

فمِن العدول عن التكلُّم إلى الغَيْبة، قوله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 31 - 33].


بداية، نودُّ أن نلاحظ أنَّ العدول عن التكلُّم إلى الغَيْبة في الآية الثالثة قد واكبه وتآزر معه - كما سنرى - عدولٌ معجمي، يتمثَّل في إيثار الفعل "خَلَقَ" في تلك الآية دون الفِعْل "جعل"، الذي وَرَد ثلاث مرَّات في الآيتين الأوليين.

لقد ذكر المفسِّرون أنَّ الفرق بين "الخلق" و"الجعل" هو أنَّ الأول يتضمَّن معنى التقدير والإبداع من عدم، أما الثاني ففيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء موجود أصلاً، أو تَصْيير شيء من شيء، أو نقْله مِن حال إلى حال.[8]

وثَمَّ فارقٌ آخر بين الجَعْل والخلق يتجلَّى بوضوح في السياقات القرآنية التي تدور حولَ اللفت إلى مشاهدة الكون وآياته، إثباتًا لقُدرة الخالق - عزَّ وجلَّ.

ولو تأملنا هذه السياقات، تبيَّن لنا أن هذه المشاهد والآيات حين ترد مع الفعل "جعل" فإن الجانب المحسوس أو الشكل الماثل فيها يكون هو موطنَ اللفت ومناط الاعتبار، أما عند ورودها مع الفعل "خلق" فإن اللفت لا يكون إلى هذا الجانب المحسوس؛ بل إلى ما وراء تكوينه من لطيف الحكمة، وخفي التدبير.

ففي الآيتين الأُوليين مِن آيات سورة الأنبياء، كان اللَّفْت - مع فعل الجعل - إلى الهيئات المحسوسة التي نعاينها في شموخ الجبال، وتمهيد الفِجاج، ونطالعها في ارتفاع السماء، كالسقف المحفوظ بغير عَمَد، أمَّا في الآية الثالثة - حيث العدول إلى فعل الخلق - فلم يكن اللَّفْتُ إلى الجانب المحسوس، أو المشاهد من الليل والنهار والشمس والقمر؛ أعني: جانب الظلمة والنور؛ بل إلى القدرة الخفية التي بها يتعاقَب اللَّيْلُ والنهار، وتدور الشمس والقمر.

لقد ورد الفعل "جعل" متعلِّقًا بالليل والنهار والشمس والقمر في سياقات أخرى متعدِّدة في القرآن الكريم، وبتأمُّل هذه السياقات يتبيَّن لنا أنَّ المظهر المحسوس في تلك الظواهر الكونية هو مثارُ اللَّفْت، وموطن العِبرة.[9]

نستطيع القول - إذًا -: إن العدول عن فعل "الجعل" إلى فعل "الخلق" في آيات الأنبياء، يَرْجع إلى اللَّفْت إلى الشكل المحسوس الذي بيده الحسُّ المستبصر في الآيتين الأوليين، واللَّفْت إلى ما يكمن خلفَ هذا الشكل مِن حِكَم وأسرار في الآية الثالثة، وبناء على ذلك نستطيع القول بأنَّ نكتة العدول عن ضمير التكلُّم في "جعلنا" إلى ضمير الغَيْبة في "خلق" هي ملاءمةُ طرقِ التكلم - وهو قرين الحضور والمشاهدة - لحسيَّة الاستدلال على عظمة الخالق في الآيتين الأوليين، وملاءمة طريقِ الغيبة - وهو قرينُ التواري والخفاء - لعقلانية هذا الاستدلال في الآية الثالثة، وبهذه الملاءمة، وتلك التي تؤدِّي المخالفة بين الضميرين دورَها في هذا السياق الذي يلفت الأبصار، ويستثير البصائر والعقول إلى تأمُّل تلكم المشاهِد الكونية الدالَّة على قدرته - سبحانه - وأنَّه هو الظاهر الباطن.

ونوَدُّ أن نبادر بالإشارة إلى أنَّ هذا الذي نلاحظه في آيات الأنبياء من ارتداد المخالفة بين (ضميري الخطاب والغَيبة)، إلى المخالفة بين (المشاهد الجليَّة المحسوسة، والخفية غير المحسوسة) يُقدِّم فيما نحسُّ - والله أعلم - تفسيرًا يكاد يكون مطردًا للعدول عن كل شيء منهما إلى الآخر في غير هذا الموطن، لنتأمَّل - على سبيل المثال - قولَ الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ [فاطر: 9 حيث أسْند فعل الإرسال إلى ضمير الغيبة، ثم عدل[10]عن ذلك إلى ضمير التكلُّم عند إسناد فِعْلَيِ السَّوق والإحياء.

يقول الزمخشري: ولَمَّا كان سوق السحاب إلى البلد الميِّت، وإحياء الأرْض بالمطر بعد موتها من الدلائل على القدرة الباهرة، قيل: فسُقنا، وأحيينا، معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخلُ في الاختصاص، وأدل عليها[11] (أي: تقدير الأرزاق التي لا يتولاها إلا الله)، فناسَب ذلك أن ينتقل الإسنادُ إلى ضمير ذي الجلالة، فهو الذي يسوق السحاب، ويقسِّم الأرزاق، وينشر رحمتَه على عباده، ولا يدع شيئًا من ذلك لأحد من خَلْقه.

هذا، والذي نطمئن إليه في تفسير هذا العدول هو ما نلاحِظُه من المغايرة بين المحسوس، وغير المحسوس من الأحداث أو الظواهر، فنحن لا نرى فعْل إرسال الرِّياح، ولا نرى كيف تُثير الرِّياح السحب؛ وإنما نرى السحب ذاتها مسوقة، والأرْض حيَّة تكسوها الخضرة وتزينها بعدَ أن كانت مواتًا جامدة، ومِن ثَمَّ كان التعبير عن الإرسال بطريق الغيبة، وعن السَّوْق والإحياء بطريق التكلُّم أو الحضور.

خامسًا: العدول في زمن الفعل:
سَبَق أن تناولْنا الحديث عن العدول في زمن الفِعل في قسم التنظير، فلا داعي للتكرار.[12]

[1] "دلالات التراكيب" (ص: 170).

[2] "دلائل الإعجاز" (ص: 73).

[3] "تفسير أبي السعود" (7/136، 137).

[4] "البيان" (ص: 379)، وانظر شاهدًا آخر على التقديم: "دلائل الإعجاز" (ص: 286، 287)، حيث تعرَّض عبدالقاهر لبيان الفائدة من التقديم في قوله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ [الأنعام: 100].

[5] "البرهان" (1/62).

[6] "الإتقان" (3/339)، و"معترك الأقران" (1/32).

[7] "تفسير أبي السعود" (8/158، 159)، الألوسي (27/58، 59).

[8] انظر "مفردات الراغب" (ص: 94 - 157)، و"بصائر ذوي التمييز" (2/ 384، 556)، و"الكشاف" (2/571)، و"تفسير أبي السعود" (3/104، 105)، فالجعل على أساس هذا الفارق الذي ذكره المفسرون هو خطوة تالية للخلق مترتبة عليه، وهذا ما يتجلى بوضوح في قوله - عز وجل -: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ﴾ [النحل: 81].

[9] انظر - على سبيل المثال - قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ [يونس: 5]، أو قوله: ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ [نوح: 16]، أو قوله: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾ [الفرقان: 61].

[10] يلاحظ أنَّ في الآية الكريمة عدولاً آخر في مجال الصيغ، حيث بدأت بصيغة الماضي في "أرسل"، ثم عدل عنها إلى صيغة المضارع "فتثير"، ثم عاد إلى صيغة الماضي مرة أخرى (فسقنا - فأحيينا).

[11] "الكشاف" (3/302).

[12] راجع ص 36 من هذا البحث.












رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:19   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

سادسًا: العدول في العدد:
ومن ذلك المغايرة بين الإفراد والجمع، أو بين الإفراد والتثنية، أو بين التثنية والجمع.

ومِن شواهد العدول عن الجمع إلى الإفراد، قوله - تعالى -: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81 - 82]، ففي الآية الثانية جاء اسمُ يكون - العائد على الآلهة - ضميرَ جمع، ثم جاء الخبر عنه مفردًا "ضدًّا"، عدولاً عن "أضدادًا" التي يقتضيها ظاهرُ السياق، وهو عدول يحقِّق في الآية الكريمة فائدتين: الأولى هي الدلالة على (توحُّد) موقف الآلهة يومَ القيامة في معاداة هؤلاء الكفَّار الذين عبدوهم من دون الخالق، أو أشركوهم في عبادته - عزَّ وجلَّ - فتوحيد الضد هو - كما ذَكَر المفسِّرون - لتوحيد المعنى الذي تدور عليه مضادةُ هؤلاء الآلهة للكفَّار، إذ إنهم يتفقون على هذه المضادة، فيكونون كالشيء الواحد[1].

يقول الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ وحَّد؟ قلت: وحَّد توحيد قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((وهم يدٌ على مَن سواهم))؛ لاتفاق كلمتهم، وأنهم كشيء واحد لفَرْط تضامِّهم وتوافقهم".[2]

والثانية: اطِّراد الإيقاع الموسيقي بين فواصل الآيات؛ إذ بصيغة الإفراد "ضدًّا" تتوازى فاصلةُ الآية الكريمة مع فواصل الآيات السابقة عليها، واللاحقة لها في السورة (مدًّا، فردًا، عزًّا، ضدًّا، أزًّا، عدًّا... إلخ).

ونلحظ أنَّ في العدول عن الجمْع إلى الإفراد، إبرازًا للمفارقة بين موقف الكفَّار من آلهتهم في الدنيا، وموقفها منهم يوم القيامة، فتلك التي توزَّعت أهواؤهم، وأذلُّوا أعناقهم لها من دون الله؛ أملاً في التعزُّز بها، سوف تتناصر يومَ القيامة على تكذيبهم، وتتحد على مضادتهم والتنكُّر لهم[3]، ولا أجد تعقيبًا على ذلك أفضلُ مِن قول الله - تعالى -: ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 19 - 23].

ومنه - عكس ما سبق - العدول عن المفرد إلى الجمع، نحو قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [إبراهيم: 31]، عَدَل عن المفرد "خلة" إلى الجمع "خِلال"، ولعلَّ وجه إيثار الجمْع - في إبراهيم - على المفرد - في البقرة[4] -: أنَّه لَمَّا لم يذكر "شفاعة في إبراهيم - كما ذكرت في البقرة - ذكر الجمع ليتناولَ نفيَ الخلة، وكلِّ ما يشابهها، أو يرتبط بها كالشفاعة وغيرها، ولا يغيب عنَّا ما بين الخلة والشفاعة مِن ارتباط.

ويؤيد هذا قول الألوسي في المقصود بالإفراد أو الجمع بأنَّ: "المراد واحدٌ وهو نفي أن يكون هناك خليلٌ ينتفع به بأن يشفع له أو يسامحه بما يفتدي به".[5]

ولو تأمَّلْنا عبارة الألوسي هذه، نجد أنها تنفي الخلة، وكلَّ ما يشابهها، أو يتعلَّق بها، كالشفاعة أو المسامحة، أو الافتداء بشيء.

ومِن شواهد العدول عن التثنية إلى الإفراد قوله - تعالى -: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 117].

ففي العدول إسنادُ فعْل الشقاء إلى الضمير المفرد في "فتشقى" العائد على آدم - عليه السلام - عن إسناده إلى ضميرِ التثنية الذي يقتضيه ظاهرُ السياق في "يخرجنكما"، وقد ذكر المفسِّرون في بيانهم لدلالة هذا العدول رأيَيْن:

الأول: أنَّ في ضمن شقاء الرجل - وهو قيِّم أهله وأميرهم - شقاءَهم، كما أنَّ في ضمن سعادته سعادتهم، فاختصَّ الكلام بإسناده إليه دونها، مع المحافظة على رعاية الفاصلة، قال الفرَّاء: "ولم يقل: "فتشقيَا"؛ لأنَّ آدم هو المخاطَب، وفي فعله اكتفاءٌ مِن فعل المرأة".[6]

الثاني: أنَّ المراد بالشقاء التعب في طَلَب القُوت، وذلك على الرجل دون المرأة.

يقول القرطبي: "ولم يقل: "فتشقيَا"؛ لأنَّ المعنى معروف، وآدم هو المخاطَب، وهو المقصود، وأيضًا لَمَّا كان هو الكادَّ عليها، والكاسب لها، كان بالشقاء أخصّ... ومِن ذلك يعلم أنَّ نفقة الزوجة على الزوج، وأنَّ النفقة التي تجب للمرأة على زوْجها هذه الأربعة: الطعام والشراب، والكسوة والمسكن".[7]

ومِن شواهد العدول عن التثنية إلى الإفراد كذلك قوله - تعالى -: ﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16]، حيث وردتْ لفظةُ "رسول" مفردةً، مع أنَّ ظاهر السياق يقتضي تثنيتَها "فقولاَ إنَّا".

وقد نتساءل عن سرِّ إفرادها هنا، وتثنيتها في سِياق آخر: ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [طه: 47].

وقد أجاب بعضُ المفسِّرين عن هذا التساؤل بأنَّ لفظة "رسول" من الألفاظ أو الأوصاف المشتركة؛ فهي تعني المرسَلَ أو متحمِّلَ القول حينًا، والرسالةَ أو القولَ المتحمَّل حينًا آخر، فهي بالمعنى الأول في سورة طه، وبالمعنى الثاني في سورة الشعراء، ومِن ثَمَّ ثُنيِّت في الأولى؛ لأنَّهما رسولان، وأفردتْ في الثانية؛ لأنَّها رسالة واحدة.[8]

لكننا نطمئن إلى القول بأن لفظة "رسول" في كلٍّ من الآيتين الكريمتين لا تعني سوى الشخص المرسل، أما تثنيتها في آية طه وإفرادها في آية الشعراء، فإنَّه يرجع فيما نحسب - والله أعلم بمراده - إلى اختلاف السِّياق في كلٍّ من السورتين عنه في الأخرى، فكلٌّ من الآيتين الكريمتين قد سُبقت في سياقها بإعلان الخوْف من بطش فرعون وطغيانه، غير أنَّ هذا الإعلان قد ورد في سورة طه على لسان الرسولين - موسى وهارون - عليهما السلام - ومِن ثَمَّ جاءت لفظة "رسول" مُثنَّاه لبعث الطمأنينة والثِّقة في قلبيهما، واقتلاع جذور الخَوْف من نفسيهما معًا: ﴿ قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ [طه: 45-47].

ومن شواهده أيضًا قوله - تعالى -: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه: 117] وقد سبق بيانه.

سابعًا: العدول في الأدوات والحروف:
أ- المغايرة بين الأدوات؛ أي: إيثار أداةٍ على غيرها في سياق معيَّن، كالمخالفة في السياق الواحد بين أداتي الشرط (إنْ - إذا)، وهذه المخالفة أو العدول لا بدَّ أن يترتَّب عليه هدفٌ مقصود، هو الذي توحِي به الدلالة الجديدة المترتِّبة على هذا العدول، وهذا يتبيَّن لنا في قول الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ﴾ [الأعراف: 131]، فالأداتان تتَّفقانِ في تأدية معنًى وظيفيٍّ عام هو (الشرط في الزمن المستقبل)، غير أنَّ لكلٍّ منهما خصوصيتَها في تأدية هذا المعنى؛ لأنَّ الشرط مع "إن" أمر محتمل مشكوك فيه، أما مع "إذا"، فهو أمرٌ مؤكَّد مقطوع بوقوعه[9]، ولهذا الفارق - كما ذكر النحاة والبلاغيُّون - غلب اقتران الأولى "إنْ" بصيغة المضارع، والثانية "إذا" بصيغة الماضي؛ وذلك لأنَّ الماضي هو أقربُ للقَطْع من المستقبل.[10]

على أساس هذا الفارِق جاء العدول في الآية الكريمة عن "إذا" إلى "إن" مؤديًا دَورَه في إبراز المفارقة التي سِيقتْ لتصويرها؛ أعني: المفارقة بين حال آل فرعون حين يشملُهم الرخاء، ويعمُّ ربوعَهم الخيرُ والخصب، وحالهم حين ينزل عليهم الجَدْب، ويكون القحْط والضيق، فهم في الحال الأولى راضون مطمئنُّون، واثقون من أنَّ الخير حقُّهم، ونتيجة طبيعية لسعيهم وجِدِّهم في الحياة، أما في الحال الثانية فيشتدُّ بهم الجزع، ويبادرون إلى نسبة ما نَزَل بهم من الجدْب والقحط إلى وجود موسى - عليه السلام - وأتباعه بينهم، على أساسِ أنَّ هؤلاء - في زعمهم - هم الشُّؤم الذي غيَّر حالهم من رخاء ونعيم إلى بؤس وشقاء!

ولإبراز هذه المفارقة كانتِ المخالفة بين أداتي الشرط، فأوثرتْ في جانب الحسنة "إذا"؛ لتفيد كثرةَ تتابع الخيرات، وتواردها على هؤلاء القوم، وفي ذلك تجسيدٌ لِمَا هم عليه من غفلة وجحود، أما في جانب السيئة فقد أوثرت "إنْ"؛ لتفيد أنَّهم ما يجزعون هذا الجزع المبالغ فيه ليس إلاَّ أمرًا نادرَ الوقوع.

ولعلَّنا نلاحظ أنَّ مما يصور شدَّةَ هذا الجزع لديهم العدولَ المعجمي في صيغة الشرط عن لفظ "المجيء" إلى لفظ "الإصابة".

وقد لحظ كثيرٌ من المفسِّرين أنَّ هذه المخالفة بين الأداتين تتآزر بدلالتها مع المخالفة بين صيغتي الشَّرْط؛ إذ بينما جاء فعْل الشرط في جانب الحسنة بصيغة الماضي الدالة على تحقُّق وقوع الحَدَث "جاءتهم"، جاء في جانب السيئة بصيغة المضارع الدالة على نُدرة الوقوع، كما أنها تتآزر كذلك مع المخالفة بين التعريف والتنكير (الحسنة - سيئة)؛ إذ إنَّ تعريف "الحسنة" يفيد كثرة النعم والخيرات على آل فرعون، فهي بالنسبة لهم أمرٌ معهود مألوف، كثيرًا ما نعِمُوا به جاحدين فضْلَ المنعِم عليهم - عزَّ وجلَّ - به، أما تنكير "سيئة" فيُفيد أنها أمر طارئ عليهم لا عهدَ لهم به، وعلى الرغم من ذلك فإنهم يُبادرون عند وقوعها إلى التنصُّل منها، والادعاء - سفاهةً وجهلاً - أنها من شؤم موسى - عليه السلام - وتابعيه، ناسين أو متناسين أنَّ مقام هؤلاء بينهم ليس مقصورًا على وقت السيِّئة فحسبُ![11]

ومن شواهد العدول إلى أداة الشرط "إنْ"، وإيثارها على الأداة "إذا" ما لحظه الزمخشري في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24] حيث يقول: "فإن قلت: انتفاء إتيانهم بالسورة واجب، فهلاَّ جِيء بـ"إذا" الذي للوجوب، دون "إنْ" الذي للشكّ؟ قلت: فيه وجهان:

أحدهما: أن يُساق القولُ معهم على حسب حسبانهم وطمعهم، وأنَّ العجز عن المعارضة كان قبل التأمُّل كالمشكوك فيه لديهم؛ لاتِّكالهم على فصاحتهم، واقتدارهم على الكلام.

والثاني: أن يتهكَّم بهم، كما يقول الموصوف بالقوَّة، الواثق من نفسه بالغلبة على مَنْ يُقاويه: إنْ غلبتُك لم أبْقِ عليك، وهو يعلم أنَّه غالبه ويتيقنه؛ تهكمًا به".[12]

ب - التبادل الدلالي بين حروف الجر:
وهذا الإجراء العدولي يخرج الصياغة عن بنائها المألوف، فتكتسب تأثيرًا جماليًّا بالنظر إلى نَظْم العبارة، وإلى تأويلها من جانب المتلقي، وقد تتبَّع النحاة - باستقصاء - معاني حروف الجر، وذكروا شواهدَ كثيرة لمواضعِ التبادل الدلالي بينها[13]، وأشار البلاغيُّون والمفسِّرون إلى بعض الملامح البلاغية والجمالية التي يفرزها التقارضُ بين حروف الجر.

ومن شواهد ذلك قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 5 - 6]، يقول ابن قتيبة: "تقول العرب: شربتُ بماء كذا وكذا؛ أي: من ماء كذا، قال - تعالى -: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [المطففين: 28]، و﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾، ويكون بمعنى: يشرب بها عباد الله، ويشرب منها".[14]

أفاد ابن قتيبة[15] أنَّ "الباء" في الآية بمعنى "مِن"، وبمثل ذلك قال الهروي في كتاب "الأزهية".[16]

والتبادل الدلالي هنا بين "الباء" و"من" يسمح باتِّساع الصياغة لعِدَّة دلالات وتأويلات، منها:
1- حين يكون المفعول "العين" متوحِّدًا بكلية الفعْل ذاته ووسيلته، تصبح المسافةُ بين الرغبة وموضوعها مسافةً محذوفة.

2- الإيحاء بعدم الانتقاص من مصدر النهل، ويؤكِّد ذلك الإيحاء مفارقةٌ ذكية، نستطيع أن نستشفَّها في المقابلة بين المألوف وضده (يشربون من كأس/ يشربون بالعين)، وربما عضَّد فعل ﴿ يُفَجِّرُونَهَا ﴾ مقرونًا بالمفعول المطلق ﴿ تَفْجِيرًا ﴾ دلالة اللامألوف ذاته (الديمومة أو اللاتناهي).

3- كأنَّ "العين" و"الكأس" صنوان، يشرب الشاربون "منهما"، أو ربما "بهما"، وفي هذه المبالغة في وصْف النعيم تأكيدٌ لاتساع مستويات العطاء، أو المتعة بلا حدود، فأنت تشرب بالكأس من العَيْن، وتشرب بالعين مما هو أكبر وأكثر منها تدفقًا (العين كأس لشراب آخر)، هنا تقوم "قوة تحرير الخيال" بتعديد سطوح الحُلم إلى غير مدًى، وتجعل من ذلك الحلم أيضًا حقيقةً تقبل الوجود[17].

4- دخول الباء هنا لا يقصر الدلالةَ على معنى الشُّرْب فقط؛ بل يضيف إليه فضاءاتٍ دلاليةً أخرى، تُضْفي على الشرب جوًّا من النشوة الرُّوحية والحسية، كدلالة الالْتذاذ والمتعة، حيث تصير البنية العميقة للصياغة: "فيشربون منها، فيلتذون بها"[18]، ودلالة الارتواء والشِّبع، تكون البنية العميقة: يرتوي بها عباد الله.

5- ونجد في الباء هنا دلالةً تهمس بأنَّ العين هي مستراحهم، والمكان الذي يجدون فيه متعة العَيْن، وسعادة النفس، فالكأس بأيديهم، وهم على حافَّة العين يشربون، كلَّما فرغتِ الكأس ملؤوها منها، ولذَّة الشرب ممزوجة بلذَّة العين، ويؤيده وصْفُ القرآن للجنَّات ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾، وليس جريان الأنهار تحت المؤمنين إلاَّ متاعًا لأنظارهم، وإسعادًا لأنفسهم، وليس لمجرَّد الشرب دنتْ منهم الأنهار.[19]

تتمثَّل بلاغة العدول - إذًا - في كسْر أفق التوقُّعات بالمخالفة بين حرفَي الجر "من" و"الباء"، في مستوى البنية السطحية؛ ليُنتج نظم الآية الكريمة مستويين دلاليين متغايرين، مع أنَّهما يجمعهما - ظاهريًّا - سياقٌ واحد، فلله درُّ التنزيل!

ومن شواهد تبادل الحروف، والعدول إلى حرْف، وإيثاره على غيره، قوله - تعالى -: ﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة: 5].

والأصل "إليها"، قال أبو حيان (ت745هـ)- وتابَعه ابن الصائغ (ت776هـ) -: "وعُدِّي أوْحَى باللام، وإن كان المشهور تعديتها بـ"إلى" لمراعاة الفواصل ".[20]

وتلتفت الدكتورة عائشة عبدالرحمن في تفسير هذه الآية إلى ملحظٍ بياني طريف، تتمثَّل فيه بلاغة العدول، فتقول: "ونستقرئ مواضع فعْل الإيحاء في القرآن كله، فلا نراه يتعدَّى إلى "إلى" إلا حين يكون الموحَى إليه من الأحياء، يطَّرد ذلك في كل آيات الإيحاء بـ "إلى"، وعددُها سبع وستون آية.[21]

وأما حين يكون الموحَى له جمادًا، فالفعل يتعدَّى باللام كآية الزلزلة، أو بحرف "في" كما في آية فصلت ﴿ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت: 12]، ودلالة "اللام" الإيحاء المباشِر على وجه التسخير، ودلالة "في" البثُّ والملابسة.

وأما الإيحاء بـ "إلى" فيأخذ دلالتَه الخاصة في المصطلح الدِّيني للوحي، إذا كان الموحَى إليه من الأنبياء، وإلى غير الأنبياء - بشرًا أو حيوانًا - يكون الإيحاء بمعنى الإلهام، وللجماد بمعنى التسخير، ومن هنا كان إيثارُ التعدية بـ "اللام"؛ لما في معنى "اللام" من اختصاص وإلْصاق، وصيرورة وتقوية الإيصال، وهى معانٍ عرَفها اللغويُّون أنفسهم فيها، وعدُّوها فيما عدُّوا من معانيها التي أحصاها ابنُ هشام في "مغنى اللبيبوإن لم يلتفتوا إليها هنا في البيان القرآني؛ بل قالوا إنَّ "اللام" تقوم مقام "إلى" بشاهد من آية الزلزلة: ﴿ أوحى لها ﴾.[22]

إذًا فالتعدية بـ "اللام" هنا متعيّنة مقصودة؛ لأنَّ الموحَى إليه جماد، كما هَدَى الاستقراء القرآني، وهكذا يرقى الحسُّ البياني بإيضاح بلاغة العدول في الآية الكريمة.

[1] انظر: "البحر المحيط" (6/215)، و"تفسير أبي السعود" (5/280)، ومن الجدير بالذِّكْر أن بعض هؤلاء المفسرين قد أشار إلى أنَّ ضمير الجماعة في (سيكفرون ويكونون) يحتمل أن يكون عائدًا على الكفَّار لا على الآلهة، وهو - فيما ترى - احتمال بعيد؛ إذ إنَّ مضادة الكفار للآلهة لا تبلغ ما تبلغه مضادة تلك الآلهة لهم في تجسيد الإحساس بخيبة الأمل وضلال المسعَى لديهم في هذا الموقف.

[2] "الكشاف" (2/523).

[3] "أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية" (ص: 114، 115).

[4] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ [البقرة: 254].

[5] "روح المعاني" (13/22).

[6] "معاني القرآن" (2/19).

[7] "تفسير القرطبي" (11/168)، ويُنظر: "الكشاف" (2/555، 556)، و"تفسير أبي السعود" (6/45)، و"البحر المحيط" (6/184).

[8] "أسرار التكرار في القرآن" (ص: 140)، "بصائر ذوي التمييز" (3/69، 70).

[9] قال سيبويه: "ويبيّن هذا أنَّ "إذا" تجيء وقتًا معلومًا، ألاَ ترى أنك لو قلت: آتيك إذا احمرَّ البسر، كان حسنًا، وإن قلت: آتيك إنِ احمر البسر، كان قبيحًا؟ فـ "إنْ" أبدًا مبهمة"؛ "الكتاب" (3/6)، ويُنظر: "المُقتضب" (2/54، 55).

[10] انظر: "مفتاح العلوم" (ص: 104)، "الإيضاح" (ص: 91)، و"البرهان" في علوم القرآن" (4/200 201).

[11] يُنظر: "الكشاف" (2/106)، "تفسير البيضاوي" (3/24)، "تفسير أبي السعود" (3/246)، و"البرهان في علوم القرآن" (4/201).

[12] "الكشاف" (1/247)، ويُنظر موضع آخر (2/278، 279).

[13] يراجع: "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" (3/21 - 52)؛ ابن هشام، و"مغني اللبيب" (1/118،88،163،168،191... مواضع كثيرة).

[14] "تأويل مشكل القرآن" (ص: 575).

[15] "تأويل مشكل القرآن" (ص: 575).

[16] كتاب "الأزهية في علم الحروف" (ص: 283).

[17] "النص القرآني من الجملة إلى العالم" (ص: 48، 49)، د/ وليد منير، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، ط1. 1997م.

[18] يراجع: "الانتصاف" - على هامش الكشاف - (4/196)، و"الفتوحات الإلهية" (4/454).

[19] "من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم" (ص: 197).

[20] "البحر المحيط" (8/501)، و"الإتقان" (3/345)، و"معترك الأقران" (1/49).

[21] يُنظر: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" (ص: 746، 747) مادة (وحي).

[22] انظر "الإعجاز البياني" (ص: 377)، و"التفسير البياني" (ص: 92)، وراجع "مغني اللبيب"؛ لابن هشام (1/193).












رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:21   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

ثامنًا: التبادل الدلالي بين طرق القصر (العدول من طريق إلى آخر):
نبَّه البلاغيون القدماء إلى أنَّ الناتج الدلالي المباشر لطرق القصر وأدواته، يتصل بالمتلقِّي وردود أفعاله تُجاه مفردات العالَم الخارجي، والأشياء المختلفة المحيطة به.

وطريق القصر (بالنفي والاستثناء) أصلُ استعماله أن يكون فيما يجهله المخاطَب وينكره، وأصل القصر (بإنَّما) أن يكون فيما يعلمه المخاطَب ولا ينكره.[1]

يقول عبدالقاهر: "وجملة الأمر: أنَّك متى رأيت شيئًا هو من المعلوم الذي لا يُشك فيه قد جاء بالنفي، فذلك لتقدير معنى صار به في حُكم المشكوك فيه".[2]

وهذا يُمثِّل الصياغة في تشكيلها الموافِق لمقتضى الظاهر، ولكن قد يتحوَّر تشكيل الصياغة عدولاً بالدلالة إلى خلاف مقتضى الظاهر؛ لتنتج أدوات القصر وبقية الدوال الأخرى واقعًا صياغيًّا مفارقًا للواقع الفِعْلي للمتلقِّي، وهنا يبرز عنصرُ القصدية من جانب المرسل/ المنشئ حيثُ يَتوخَّى من صياغته المخالفة لمقتضى الظاهر تحقيقَ أهدافٍ جمالية، كأن ينزلَ المعلوم منزلةَ المجهول، فيعدل عن "إنَّما" - التي هي الأصل في المعلوم - إلى "النفي والاستثناء"؛ ليلفتَ انتباه المتلقي إلى حالة الانفصام بين موقفِه الباطني العميق (وهو علمه بمضمون الرسالةوبين ردِّ فعْله الظاهر (وهو جهله بمضمون الرسالة).

وردُّ فعْل المتلقي الظاهر هو الذي يلتقطه المرسل/ المنشئ، ويشكل واقعَه الصياغي وفق مقتضياته؛ ليحثَّ المتلقي على المسارعة بالتوفيق بين اعتقاده الباطني، وبين ردِّ فعله الظاهري.[3]

ومن شواهد ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ [آل عمران: 144].

نلحظ أنَّ طريق القصْر هنا (النفي والاستثناء)، وهو يشكل واقعًا صياغيًّا يُجسِّد دلالته جهل المتلقي بمضمون الخطاب، وإنكاره له، ولكنَّ الواقع الفعليَّ للمتلقي الخاص - وهم الصحابة رضوان الله عليهم - مفارِقٌ للواقع الصياغي؛ لأنَّ الصحابة - رضوان الله عليهم - يعلمون أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بشر، رسولٌ كغيره من الرُّسل، يموت كما يموتون، ويؤمنون بذلك إيمانًا جازمًا، ولكن ردود أفعالهم التي ظهرتْ عليهم عقبَ إشاعة قتْل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزوة أُحُد تخالِف هذا الإيمان الباطني الجازم، فكثيرون منهم استعظموا موته، وتركوا القتال غير مصدِّقين هذا الخبرَ ومنكرين له، فلما كان حالهم كذلك وردت الصياغة وفق مقتضى رد الفعل الظاهري - وهو حالهم - لتلفت المتلقي الخاص - وهم الصحابة رضوان الله عليهم - إلى أنَّ استعظام خبر موت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنكارهم له كجهلِهم برسالته، وإنكارهم لها؛ لأنَّ كلَّ رسول مكتوبٌ عليه الموتُ، فمَن استبعد موته فقد استبعد رسالته، وفي هذا حثٌّ للمتلقي على وجوب المواءمة دائمًا بين اعتقاده الباطني، وبين أفعاله الظاهرة.

ويشير التركيب بصياغته الظاهريَّة إلى عِدَّة دلالات؛ ففيه عتابٌ عنيف للمخاطَبين، واستجهالٌ، وإشارة إلى غفلتهم، وأنهم لا يسلكون في المواقف الصعبة مسلكًا ينبثق من مضمرات قلوبهم، ويلتزم بما ترسَّخ فيها من اعتقاد، وأنَّ أصول الاعتقاد توشِك أن تهتزَّ بالنوازل العارضة، مع أنكم لا تزالون في نضارة اليقين، ولا يزال صليلُ الوحي يتردَّد صداه في آفاقكم.[4]

القصر بـ "إنما" فيما يعلمه المخاطَب ولا ينكره - كما سبق أن بيَّنَّا - لذلك التركيب يُنتج دلالةً تعريضيَّة، موازية لدلالتها المباشرة؛ لأنَّ المتلقي لن يفيدَ شيئًا إذا وجهت له رسالة يعلم مضمونها تمامَ العلم؛ لذلك يقول عبدالقاهر: "اعلم أنَّك إذا استقريتَ وجدتَها – يقصد: "إنما" - أقوى ما تكون، وأعْلق ما تكونبالقلْب، إذا كان لا يُرادُ بالكلامِ بعدَها نفسُ معناه، ولكنِ التعريضُ بأمرٍ هو مقتضاه".[5]

فنحن نعلم أنَّه ليس الغرض من قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد: 19] أن يعلم المتلقِّي ظاهرَ معناه، ولكن أن يدرك أنَّ المراد ذمُّ الكفار؛ لأنَّهم مِن فَرْط العناد، ومِن غلبة الهوى، في حُكم مَن ليس بذي عقل، وأنكم إذا طمعتم منهم في أن ينظروا ويتذكَّروا، كنتم كمَن طمع في النظر والتذكُّر مِن غير أُولى الألباب.[6]

وقد يكون مضمون الرسالة/ الخطاب مجهولاً، ولكن المرسل يدَّعي ظهوره ووضوحه، فيقدِّم صياغة على خلاف مقتضى الظاهر؛ كأن ينزل المجهول منزلةَ المعلوم، فيستعمل "إنما" عدولاً عن طريق "النفي" الذي هو الأصل فيما هو مجهول لدَى المخاطب، أو مشكوك فيه؛ لتوصيلِ رسالة خروجه على خلاف مقتضى الظاهر؛ لتعكسَ الصياغةُ هذا القصدَ الادعائيَّ، كما في قولة تعالى - حكاية عن المنافقين -: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ [البقرة: 11 - 12].

فالخطاب/ الرسالة ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ معلومةٌ ظاهرة، والمرسل/ المتكلِّم هم المنافقون الذين يدَّعون الإصلاح، والمتلقِّي العام للخطاب: (المسلمون)، وقد وقعتِ الرسالة بين رسالتَين تهدف صياغتهما إلى كشْف ادعاء المنافقين وكذبهم، فكان من خصائص صياغة هذه الرِّسالة أن صدرتْ بأداة الشرط "إذا" التي تُفيد تحقُّقَ ما بعدها، وكثرة وقوعه، وهذا يشير إلى كثرة إفسادهم، بدليلِ كثرة نهيهم عنه.

وهنا يُنكِر المنافقون حدوثَ الفساد منهم، ويدَّعون أنهم مصلحون، وأنَّ صلاحهم ظاهر، بل يتمادَوْن في الادعاء، فيقصرون أنفسهم على الإصلاح، وتأتي الرِّسالة الثانية لتهدمَ ادِّعاء المنافقين، وتكشف كذبَهم، وتنبه على إفسادهم تنبيهًا محسوسًا عن طريق تكثيف دلالة التأكيد بتوالي المؤكِّدات الآتية:

1- بدئت الصياغة بـ "ألاَ" التي تفيد تنبيهَ المخاطب على تحقيق ما بعدها؛ لئلاَّ يفوتَ المقصود بغفلة منه.[7]

2- جاءتِ الجملة بعدَها اسمية؛ لتفيدَ الثبوت بأصل وضعها الدلالي.

3- وصدرت الجملة بـ"إن" التي تفيد التوكيد.

4- وعرف الخبر (المفسدون) بـ"أل"؛ لزيادة التوكيد.

5- جاء ضمير الفصل (هم)؛ ليكثفَ دلالة التوكيد، ويعلي نبرة الصياغة؛ لتهدِم - تمامًا - ادعاءَ المنافقين، وتكشف زيفَهم وكذبهم.[8]

قال الزمخشري: "ردَّ الله ما ادعَوْه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغَ ردٍّ وأَدَلَّه على سخطٍ عظيمٍ، والمبالغة فيه مِن جهة الاستئناف، وما في كِلْتا الكلمتين "ألا" و"إن" من التأكيدين، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصْل".[9]

مما سبق ندرك أنَّ التبادل الدلالي بين طرق القصر يقترن دائمًا بإزاء النص الأدبي، ويُسهم في إخراج دلالته من دائرة الوَحْدة إلى منطقة تعدُّد الدلالات المحتملة، وانفتاح النص، واحتماله تأويلات متعدِّدة، تبعًا لقدرة المبدع/ المنشئ على استخدام طرق القصر بأُسس فنية تخدُم البِنية الكبرى للنص؛ "لأنَّ قدرة المبدع/ المنشئ على استعماله لهذه الأدوات الثانوية قد تتجاوز كلَّ ما يظنه البلاغيُّون أنهم أحاطوا بأبعاده، وهي في السِّياق يومئ وضعُها فيه إلى ما يشبه "الرمز الإشاري" لتفجير ظلال من الإيماءات الفنية الخاصة".[10]

تاسعًا: التبادل الدلالي بين الجُمل:
ونعني به العدولَ عن الجملة الفعلية إلى الاسميَّة وعكسه، أو العدول عن الجملة الخبرية إلى الجملة الإنشائية وعكسه.

مِن المعروف أنَّ الفعل موضوعٌ لإفادة الحدوث والتجدُّد، "والمراد بالتجدُّد في الماضي الحصول، وفي المضارع أنَّ من شأنه أن يتكرَّر ويقع مرة بعد أخرى"[11]، ومعروف أنَّ الجملة الاسمية تدلُّ على ثبوت الحَدَث بالمطابقة، والفعلية تدلُّ عليه بالتضمُّن، ومن هنا قيل: التعبير بالجملة الاسمية أقوى من التعبير بالجملة الفعلية[12]، غير أنَّا نرى أنَّ قوة التعبير وبلاغته متعلِّقة بالسياق اللغوي والموقفي، والداخلي والخارجي؛ لذلك فالتحليل الأسلوبي لا يتحدَّث عن الأفضل؛ وإنما عن الأنسب.

وبناءً على ذلك فللسِّياق أثر مهمٌّ في إنتاج جماليات/ بلاغات أخرى لأنواع الخِطاب بالجملة الاسمية أو الفعلية، وقد يَفرِض سياقُ الموقف الانتقالَ من أحد الخطابينِ إلى الآخر؛ تحقيقًا لأسرارٍ بلاغيةٍ يجب الانتباهُ إليها، وتوجيه ذهن المتلقِّي للبحث عنها، مشاركًا منشئَ الخطاب في إبداعها، ولا سيَّما أنَّ البحث الأسلوبي ينصُّ على التفاعل بين المبدِع والمتلقي.

أ- العدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية وعكسه: ذكرْنا أنَّ السياق قد يفرِض العدولَ عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية، أو عكس ذلك حسبما يقتضي المقام، وأحوال الخطاب.

فمِن شواهد العدول عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة: 14]، تحكي الآيةُ الكريمة موقفَين للمنافقِين، وقد أثَّر سياق كلِّ موقف وحالُ طرفي الاتصال في الصياغة؛ فالمنافقون في خطابهم المؤمنين الذين يعرفون أماراتِ المنافقين، يُعبِّرون بالجملة الفعلية (آمنَّا)؛ لأنهم يتحدَّثون عن إيمانهم المزعوم، وهو شيءٌ عارِض، استلزمه موقف التقية والمداجاة[13]، فليس له أصل ثابت في نفوسهم يدفعهم إلى توكيده، والتعبير عن ثبوته، كما أنَّهم يعلمون أنَّ حديثهم لن يروج عندَ المؤمنين، حتى لو أكَّدوه بأوكدِ لفظ، إلا رواجًا ظاهرًا لا باطنًا.

وهم في خطاب شياطينهم من المنافقين والكافرين يتحدَّثون عن أصل ثابتٍ مكين يجمعهم معًا، وهو كُفرُهم المستقرُّ في قلوبهم، فعبَّروا بالجملة الاسمية (إنا معكم) المؤكدة بـ "إن"، وهي تصوِّر ثبوت الشِّرْك في قلوبهم، وتمسُّكهم به، وحِرْصهم على استمراره، فحديثهم عن الكفر صادرٌ عن صِدق ورغبة، ووفور نشاط؛ لذلك كان مُتقبلاً منهم، ورائجًا عندَ إخوانهم.[14]

وقد جَسَّدتِ المفارقةُ في الصياغة، وعدولُها عن الفعلية إلى الاسمية حالَ الشتات والازدواجية التي تسيطر على المنافقين، وتصوِّر مواقفهم تُجاهَ الحياة والأحداث، فهُم في تقلُّب دائم من النقيض إلى النقيض، تبعًا للمواقف المتقلِّبة، وللمخاطبِين المختلفين.

ومثل ذلك أيضًا (أي: العدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية) قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33].

فلقد أوثرتِ الجملة الفعلية في نفي جزاءِ الوالد عن ولده، ثم عدل عنها إلى الجملة الاسمية عندَ نفي جزاء الولد عن الوالد ﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ... ﴾، يقول الزمخشري في نكتة هذا العدول: "إنَّ الخطاب للمؤمنين، وعِلْيتُهم قُبِضَ آباؤهم على الكفر وعلى الدِّين الجاهلي، فأريد حسْم أطماعهم وأطماع الناس فيهم أن ينفعوا آباءَهم في الآخرة، وأن يشغلوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئًا، فلذلك جيء به على الطريق الآكد".[15]

وقد تعقب ابن المنير السُّنِّي هذا الرأي قائلاً: "إنَّ صحته تقتضي أن يكون الخطابُ خاصًّا بالموجودين حينئذٍ، والصحيح أنَّه عام لهم، ولكل مَن يُطلق عليه اسمُ ناس"، أما وجه ذلك العدول في نظر ابن المنير فهو أنَّه "لما كان إجزاء الولد عن الوالد مظنونَ الوقوع؛ لأنَّ الله حضَّه عليه في الدنيا، كان جديرًا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم، ولا كذلك العكس".[16]

ويُضيف الألوسي - إلى ما تقدَّم - رأيًا آخر في تفسير تلك المخالفة، فيقول: "إنَّ العرب كانوا يدَّخرون الأولاد لنفعِهم، ودفع الأذى عنهم، وما يهمهم، ولعلَّ أكثر الناس اليوم كذلك، فأُريد حسْمُ توهُّم نفعهم ودفعهم، وكفاية المهمِّ في حقِّ آبائهم يوم القيامة، فأكدت الجملة المفيدة لنفي ذلك عنهم".[17]

والحقُّ أنَّ هذا الرأي الأخير هو - فيما نحسُّ - أرجح ما قيل في تفسير هذا العدول في الآية الكريمة، غير أنَّا لا نرى وجهًا لتخصيصه بالعرب دون غيرهم من الأجناس، ولا بالناس - أو أكثرهم - في عصر دون عصر، فالأبناء - دائمًا - هم مثار افتتان الإنسان واغتراره بالحياة، وهم لا الآباء - عادة - مَعْقد الرجاء، مَغْرس الأمل، وحلم المستقبل، ومِن ثَمَّ فإنَّ مراد العدول في الآية هو اقتلاعُ ما قد يتسلَّل إلى مسارب النفس البشرية - من أي جنس، وفي أي عصر - من توهُّم نفع الأبناء، ولعلَّنا نلاحظ أنَّ تعميم مرد العدول على هذا النحو هو ما يلائم سياقَ الآية الكريمة التي جاء النداءُ في صدرها {يا أيها الناس} عامًّا مستوعبًا جميعَ أفراد الجنس البشري دون تخصيص.

ولعلَّنا نلاحظ أيضًا: أنَّ العدول عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية قد واكَبَه العدولُ في الجملة الأخيرة عن لفظة "ولد" إلى لفظة "مولود"، والفرْق بينهما - كما ذكر الزمخشري وغيره -: أنَّ المولود لا يُطلق إلا على مَن وُلِد منك "بلا واسطة"، أما الولد فإنَّه عام يشمل الولد، وولد الولد[18]، وعلى أساس هذا الفرْق، فإنَّ العدول عن الأولى إلى الثانية يتآزَرُ مع العدول إلى الجملة الاسمية في تأكيد العموم في معنى "عدم الانتفاع بالذريَّة"، إذ إنَّ نفي انتفاع الإنسان بولده الذي هو مِن صُلْبه يقتضي نفي انتفاعه بمَن عداه مِن باب أولى.[19]

ومنه أيضًا قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]، ومنه أيضًا قوله - تعالى -: ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 2 - 3].

أما العدول عن الجملة الاسمية إلى الجملة الفعلية، فنحو قوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون: 15 - 16].

تصِف الآيةُ الكريمة موقفَين مختلفين (الموت والبعث)، فجاء الحديثُ عن "الموت" بـ"دال الاسمية" (ميتون)؛ ليرسخ معنى السكون والخمود، وينشر ظلالَه وهيمنته على الصياغة، ويوقِظ المتلقي خالي الذهن، الذي يعبُّ من لذَّات الحياة، وكأنه مخلَّد فيها، فأنزلتْه الصياغة المخالِفة لمقتضى الظاهر منزلةَ المنكر للموت، وخُوطب بالجملة الاسمية المؤكدة بمؤكدين: "إن"، و"اللام" (لميتون)؛ ليتنبه - بعد غفلة - إلى أن الموت هو اليقين الحقيقي في هذه الحياة.

وعندما انتقلتِ الصياغة إلى الحديث عن البَعْث، جاء الخطاب بالجملة الفعلية (تُبعثون)؛ لتصوير الحركة الدائمة، وسرعة الانتشار، ولكي يستحضر المتلقِّي هذه الصورة.

إذًا، فالعدول إلى الجملة الفعلية لتصوير عملية البعْث تصويرًا متحرِّكًا يتلاءم مع تفاصيلها السريعة، ولردْع المنكرين له وتوبيخهم؛ لأنَّ إنكارهم ينهار من أساسه إذا تفكَّروا في مظاهر الطبيعة المتجدِّدة من حولهم؛ لذلك خُوطبوا خطابَ المترددين - أي: بخلاف مقتضى الظاهر - فجاءتِ الجملة مؤكدة بمؤكد واحد "إن".

وهكذا أسهمتِ المفارقة اللفظية في انتقالها من الجملة الاسمية إلى الجملة الفعلية في تجسيم المفارقة المعنوية بين الموت والبعث، بين حالة السُّكون والجمود، وبين حالة الحَرَكة والسرعة والانتشار، وأدخلتِ المتلقي في عملية إتمام الدلالة إدخالاً غير عاديّ، عن طريق تنزيله منزلةَ المنكِر؛ لأنَّ تصرفاته الظاهرية تنمُّ عن إنكار، وعدم اعتقاد حقيقي؛ لذلك خوطب خطابَ المنكِر؛ وذلك ليعيد تصورَ مواقفِه وآرائِه في الوجود من حوله.

ومنه أيضًا قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].

ب - العدول عن الجملة الخبرية إلى الإنشائية وعكسه:
إنَّ التبادُل الدلالي بين الخبر والإنشاء يُعدُّ لونًا من العدول عن الأصل، أو الخروج عن مقتضى الظاهر، أو الانحراف بالأسلوب عن قاعدته المثالية، وإنَّما يكون ذلك لتحقيق غايات جمالية تُضْفي على الخِطاب الأدبي تأثيرًا بالغًا، يقول السكاكي: "واعلم أنَّ الطلب كثيرًا ما يخرج لا على مقتضي الظاهر، وكذلك الخبر، فيذكر أحدهما في موضع الآخر، ولا يُصار إلى ذلك إلا لتوخِّي نُكت، قلَّما يتفطن لها مَن لا يرجع إلى دربة في نوعنا هذا، ولا يعضُّ فيه بضِرس قاطع، والكلام بذلك متى صادف متمِّمات البلاغة افترَّ لك عن السِّحْر الحلال بما شئت".[20]

فمن شواهد العدول عن الإنشاء إلى الخبر قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الصف: 10 - 11]، نلحظ في قوله - تعالى -: ﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أنَّ ظاهر الصياغة خبرية، ولكن المقصود حثُّ المخاطَبين على فعْل ذلك، والإسراع إلى تنفيذه، بدليل الاستفهام التشويقي الوارد في الآية السابقة {هل أدلُّكم}؟ فَفُهِم من ذلك الحثِّ والتشويق أنَّ الصياغة تتضمَّن الأمر، كأنه قيل: آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيل الله، ولكن أسلوب القرآن آثَر العدول عن الإنشاء إلى الخبر؛ لتحقيق عدَّة دلالات:

1- حث المتلقِّي علي الإسراع لتنفيذ التوجيهات الواردة في الخِطاب الموجَّه، حيث ظهرتِ الصياغة في المستوى السطحي، كأنَّ المأمورين سارعوا بتنفيذ ما أُمِروا به، وها هي الآية تخبر عن امتثالهم بالأسلوب الخبري الوصفي.

2- توجيه المتلقِّي إلى الحرص على استمرار الإيمان، والجهاد، والإنفاق؛ لأنَّ ذلك هو سبيلُ تحقيق الخير والفَوْز، وإيثارُ الأفعال المضارِعة الدالة على التجدُّد والاستمرار دليلٌ على ذلك.

ومن شواهد العدول عن الإنشاء إلى الخبر قوله - تعالى -: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة: 233]، فالنصُّ القرآني هنا عَدَل عن صيغة الأمر، فلم يقل: يا والدات أرْضعن، وإنما قال بأسلوب الخبر: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ ﴾؛ لأنَّ الأمر عرضة لأنْ يُطاعَ أو يُعصى، لكن الله أظهر المسألة في أسلوب خبريٍّ على أنها أمرٌ واقعيٌّ طبيعيٌّ لا يُخالَف، والمعوّل في فَهْم المعنى على السياق.

ومِن شواهد العدول عن الخبر إلى الإنشاء قوله - تعالى - حكايةً عن هود - عليه السلام - وخطابه لقومه -: ﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [هود: 54]، حيث يُنتج العدولُ عن الأسلوب الخبري إلى الأسلوب الإنشائي في هذا الخِطاب دلالةَ الاحتراز عن مساواة شيء لاحِق بشيء سابق، وهذه الدلالة تَرْجع إلى النظم نفسه، حيث يُقيم فارقًا ملحوظًا بين دوالَّ سابقةٍ، ودوالَّ لاحقة، أو بين نوعين متفاوتين في الأهمية والقَدْر من المخاطَبين[21]، كما جاء في الآية السابقة، حيث جاء التعبير: {أشهد الله} مضارع/ خبري، ثم عُدل إلى و{اشهدوا} أمر/ إنشائي، فشكَّلت الصياغة فارقًا لفظيًّا ملحوظًا بين إشهاد الله، وإشهاد قوم هود.[22]

عاشرًا: تجاهل المناسبة المعجمية:
وهذا باب واسع؛ لأنَّه بابُ الإفادة والمجاز، أما الإفادة فيأتي ترتُّبُها على المناسبة من جهةِ أنَّ كلمات المعجم ينسجم بعضها مع بعض، ولا ينسجم مع بعضها الآخر، بمعنى أنَّ العروج - مثلاً - إنما يناسبه أن يكون من أسفل إلى أعلى، فيقال مثلاً: "عرج إلى السماء"، والسقوط بالعكس، فيقال: "سقط من حالق"، فلو قيل: "يسقط من أسفل"، لكان في ذلك إحالة، وانتفت الفائدة، والعلاقة العنادية بين كلِّ كلمتين متنافيتين في هذه الأمثلة تُسمَّى "المفارقة المعجمية".

فإذا كانتْ علاقات الكلمات في المعجم عُرفية، فقد يخرج المتكلِّم عن هذا الأصل بواسطة أسلوب عدولي يطرح العلاقة العرفية، وينشئ في مكانها علاقة أخرى عقلية أو فنية، فإذا كانتِ العلاقة عقلية سُمِّي الأسلوب العدولي مجازًا مرسلاً أو كناية، وإذا كانت فنية تشبيهيَّة سُمِّي استعارة، ومِن هنا كان طلب فرعون إلى هامان أن يبني له صرْحًا ﴿ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا [غافر: 36] مجازًا مرسلاً؛ لأنَّ المطلوب من هامان لم يكن البناء ذاته، وإنما كان الأمر به، وكذلك كان شراء الضلالة بالهدى ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [البقرة: 16، و175]، ليس على حقيقته، وإنما هو أسلوب عدولي عن الحقيقة؛ لأنَّ الضلالة ليست سلعة، والهدى ليس ثمنًا إلا على طريق التشبيه بهما، وكذلك كان قوله: ﴿ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ ﴾ [المنافقون: 5] بمعنى أعْرضوا؛ لأنَّ ذلك إنما يكون عند الإعراض دليلاً عليه، ومن ثَمَّ فهو كناية عنه.

أما الاستعارة- وهي ضرْب من المجاز - فيقول عنها ابن وهب (ت 328 هـ): "وأما الاستعارة، فإنَّما احتيج إليها في كلام العرب؛ لأنَّ ألفاظهم أكثرُ من معانيهم، وليس هذا في لسانٍ غيرِ لسانهم، فهم يعبِّرون عن المعنى الواحد بعبارات كثيرة، ربما كانت مفردة له، وربَّما كانت مشتركةً بينه وبين غيره، وربَّما استعملوا بعضَ ذلك في موضع بعض على التوسُّع والمجاز".[23]

من أجْل هذا قال عبدالقاهر كلمتَه المشهورة: "إنَّ من الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلاَّ مِن بعد العلم بالنَّظْم، والوقوف على حقيقته"، ثم يوضِّح ذلك مبينًا دقَّة النظم، ولُطْفه بأنك "ترى الناس إذا ذكروا قوله - تعالى -: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مريم: 4] لم يزيدوا فيه على ذِكْر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرفَ إلا إليها، ولم يرَوْا للمزية موجبًا سواها، هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك... ولكن لأن يسلكَ بالكلام طريق ما يُسند الفعْل فيه إلى الشيء، وهو لِمَا هو من سببه، فيرفع به ما يُسند إليه، ويُؤتَى بالذي للفعْل له في المعني منصوبًا بعده، مبينًا أن ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنَّما كان من أجْل هذا الثاني، ولِمَا بينه وبينه من الاتصال والملابسة"، والتعبير القرآني أفاد "مع لَمَعان الشيب في الرأس - الذي هو أصل المعنى - الشمولَ، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من نواحيه، وأنه قد استقر به، وعمَّ جملته، وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعلَ شيب الرأس، أو الشيب في الرأس... ثم ترى بلاغةَ النظم في تعريف "الرأس" بالأَلف واللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحدُ ما أوجب المزية، ولو قيل: واشتعل رأسي، فصُرّح بالإضافة لذهب بعض الحسن".[24]

ويأتي في سياق الحديث عن تلك النصوص التي تخدم المجاز قولُ الحق - سبحانه -: ﴿ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن: 6]، وقوله: ﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا [نوح: 17]، وقوله: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88]، وقوله: ﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير: 18].

إنَّ الوجود هنا ينحلُّ بعضه في بعض، حيث تصير الشجرة إنسانًا، ويصير الإنسان نباتًا أو طائرًا؛ إذ يُعير الإنسانُ وعيَه للطبيعة الكونية (اليابس والنجوم والسحاب والزروع)، ودبيب رُوحه للوقت (الصبح الذي يتنفس)، فيما تعيره الطبيعةُ تكوينها (النبت)، ومخلوقاتُ الطبيعةِ حركتها (حركة الجناح)؛ بل إنَّ الطبيعةَ والإنسانَ كليهما تذوبان في ذلك المطلق، إذ تحينُ اللحظة المؤجلة، فتنمُّ نهايةُ الدورةِ عن أولها﴿ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: 67]، و﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42]، تمثل كل استعارة إذًا في سياق "رؤيا النص" افتنانًا بالانحراف عن لُغة العين الواقعية الواصفة، إنها مجاوزة للحِياد البارد الذي يجعل من الأشياء في ذاتها هدفًا للرصْد والتعيين والمقاربة، فبالبصر تستبدل البصيرة، التي تكشِف وتضيء، والصورة تنفذ إلى الأثَر الذي تستدعيه الأشياء على صفحة العقل المنفعِل بها، وتمتدُّ إلى إدراك تفاعلها مع بعضها البعض... ولا يكشِف المجاز فقط عن الصِّلات الإيجابية المتناغمة بين العناصر الجزئية داخلَ فَلَكِ الحقيقة الكلية، ولكنَّه يكشف كذلك عن الصِّلات السالبة بينها ليقع على الوجه الآخَر من رمزية الرؤيا.[25]

هذه أثارةٌ من علمٍ يسير، وقلٌّ من كثرٍ؛ "فالقرآن الكريم حافلٌ بالأساليب العدولية التي تحُلُّ فيها علاقة عقلية أو فنية محلَّ العلاقة الأصلية العرفية، فيؤول الكلام إلى أحد الأساليب البيانية العدولية، وكلُّ أساليب البيان عدول".[26]

[1] "الإيضاح" (2/18)، و"مفتاح العلوم" (ص: 142)، طبعة الحلبي.

[2] "دلائل الإعجاز" (ص: 333) (تح/ شاكر).

[3] "تحولات البنية في البلاغة العربية" (ص: 193).

[4] "دلالات التراكيب" (ص: 111).

[5] "دلائل الإعجاز" (ص: 354) كقولنا على مسمع من المهمل: "إنما ينجح المجد".

[6] نفسه (ص: 354).

[7] يرى الإربلي أنَّ (ألا) حرف مركَّب من همزة الإنكار وحرف النفي، والإنكار نفي، ونفي النفي إثبات، فرُكِّب الحرفان لإفادة التوكيد والتحقيق؛ "جواهر الأدب في معرفة كلام العرب" (ص: 416).

[8] "المفتاح" (ص: 143)، و"تلخيص المفتاح" (2/20).

[9] "الكشاف" (1/180 - 181 ).

[10] رجاء عيد: "البلاغة العربية" (ص: 105).

[11] "الإتقان في علوم القرآن" (2/317).

[12] "عروس الأفراح" (1/220).

[13] داجاه: ساتره بالعداوة ولم يُبدها له (اللسان - مادة: د ج و).

[14] يراجع: "الكشاف" (1/186، 187)، و"المثل السائر" (2/234)، 235)، و"المفتاح" (ص: 126).

[15] "الكشاف" (3/217)، وانظر "تفسير أبي السعود" (7/77)، و"تفسير البيضاوي" (4/154).

[16] "الانتصاف" - بحاشية "الكشاف" - (3/217 - 218)، ويُنظر: "غرائب القرآن"، هامش الطبري (21/63)، و"البحر المحيط" (7/194).

[17] "روح المعاني" (21/107).

[18] ونضيف: أنَّ الولد يطلق كذلك على المتبنَّى؛ انظر: "الراغب" (ص: 532).

[19] انظر: "الكشاف" (3/217)، و"روح المعاني" (21/107)، يُنظر: "أسلوب الالتفات في القرآن الكريم" (ص: 207 - 209).

[20] "المفتاح " (ص: 154).

[21] يراجع: السكاكي: "المفتاح" (ص: 155)، وعبدالمتعال الصعيدي: "بغية الإيضاح" (2/60) (هامش 2)

[22] راجع تحليل ذلك ص 34 من هذا البحث، وينظر: "الكشاف" (2/276)، "تفسير البيضاوي" (3/112)، و"تفسير أبي السعود" (4/218)، و"برهان" الزركشي (3/336).

[23] "البرهان في وجوه البيان" (ص: 142)، ويؤيده في ذلك كلٌّ من ابن قتيبة، وابن فارس، يُنظر: "تأويل مشكل القرآن" (ص: 16)، و"الصاحبي" (ص: 71).

[24] "دلائل الإعجاز" (ص: 100 - 102)، وانظر: "قضايا النقد الأدبي" (ص: 317 - 319)، بتصرف.

[25] وليد منير: "النص القرآني من الجملة إلى العالم" (ص: 98، 99).

[26] تمام حسان: "البيان في روائع القرآن" (ص: 394).














رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:23   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

حادي عشر: العناية بالمناسبة ورعاية الفاصلة:
لا شكَّ أنَّ للنسق الموسيقي أثرًا لا يخفى، وعناية العرب به لا تقلُّ بحال عن عنايتهم بالمعاني التي يريدون إقرارَها وتثبيتها في النفوس؛ لذلك شغفوا بموسيقا اللفظ، وازدانتْ بها لغتهم؛ إذ كانوا مفتونين بالوزن، شديدي العناية بالتنغيم في كلامهم عن طريق التناسب بين المقاطِع، والمزاوجة بين العبارات.

قال الثعالبي (ت429هـ): "كانت العرب تُزاوِج بين كلمات تتجانس مبانيها، وتتكافأ مقاطعها ومعانيها، فيقولون: القِلَّة ذِلَّة، والوَحْدة وَحْشة، واللَّحْظة لَفْظة، والهوى هوان... والرَّمَد كمَد".[1]

يقول ابن منظور معلِّقًا على قول ابن مُقبل: "هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلاَّجُ أَبْوِبَةٍ" فإنما قال: أبوبة، للازدواج لمكان أَخْبية.[2]

وقد يُخرجون الكلمة عن أوضاعها، فيغيرون بِنيتَها من أجل التوافق النغمي، أو يحذفون منها، أو يزيدون فيها لحُسْن التعادل، وتكافؤ المقاطع.

فيقولون: "آتيك بالغدايا والعشايا"، و"هنأني الطعام ومرأني"، مع أنَّ فيه ارتكابًا لِمَا يخالف اللغة".[3]

والغداة لا تجمع على الغدايا، ولكنَّهم كسروه على ذلك؛ ليطابقوا بين لفظه ولفظ العشايا، فإذا أفْردوه لم يكسروه؛ لأنَّ "الغدايا" إذا أفردت، قيل: الغدوات، و"مرأني" إذا أفردت قيل: أمرأني.[4]

إذًا، فلا عجب أن يراعيَ القرآنُ ذلك الجانبَ المؤثِّر؛ لأنه نزل بلغة العرب، وجرى على مطابقة سُنَنهم في ذلك كله - أعني: الترخصات اللغوية، كالحذف أو الزيادة، أو تغيير بِنية الكلمة، أو غير ذلك مِن أنماط العدول - ليكون عجزُهم عن الإتيان بمثله أظهر وأشهر.

ولكن الذي يجب التنبيهُ إليه بدايةً، ما جاءت الفاصلة إلا لمعنى جِيء مختومًا به ختامًا حَسُنَ شكلُه ومبناه، كما حسن مضمونُه ومحتواه، وفواصل القرآن كلُّها بلاغة وحِكمة؛ لأنها الطريقُ إلى إفهام المعاني[5]، ولأنها تتضمَّن وظائف معنوية، وتتغيَّا أن يكون لها وقعٌ في الآذان، لكي تنفذَ الآيات منها إلى القلوب؛ إذ الهدفُ ليس هو إمتاعَ الآذان، بل استرعاءَها للسماع والإصغاء.

وهذا ما يتغيَّاه الاتِّجاه العام في النقد الحديث من عدم الفصْل بين ما يُسمَّى بـ "الشكل والمضمون"؛ لصعوبة ذلك الفصل، وعدم إقناعه، وإذا كان الأمرُ كذلك، فإنه يتأكَّد في النص القرآني، حيث يبدو "الدال والمدلول" في وَحْدة عضوية وثيقة، ومِن ثَمَّ كان "إنتاج الدلالة" فيه أمرًا مميزًا.

والآن نفصِّل ما أجملناه مِن صور العدول، التي ارتبطتْ بهذه السنن في لغة العرب، والتي جاء بها القرآن:
أ - في تغيير بنية الكلمة:
ومن شواهد ذلك في القرآن قوله - تعالى -: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾ [الشمس: 11]، وقوله - عزَّ وجلَّ - : ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8].

يقول الفراء في آية الشمس: "أراد بـ "طغيانها" إلا أنَّ الطغوى أشكل برؤوس الآيات، فاختير لذلك".[6]

قال ابن عبَّاس: "الطغوى هنا: العذاب، كذَّبوا به حتى نزل بهم[7]؛ لقوله - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5].

ومن ذلك أيضًا: قوله - تعالى -: ﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] والأصل: وميكائيل، ونحو قوله - تعالى -: ﴿ سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130]، والأصل: إلياس، ونحو قوله - تعالى -: ﴿ وَطُورِ سِينِينَ [التين: 2] والأصل: وطور سَيْناء؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ [المؤمنون: 20]، فالطُّور الجبل الذي ناجى عليه موسى - عليه السلام - ربَّه، وسِينين: الحُسْنُ، بلغة النبط، فالكلمتان "سينين"، و"سيناء" لغتان، فالأولى بلغة الحبشة، والثانية بلغة النبط[8].

وقال الزمخشري تعليقًا على آية الصافات: "وقرئ على: إل ياسين وإدريسين، وإدراسين، على أنَّها لغات في إلياس وإدريس، ولعلَّ لزيادة الياء والنون السريانية معنى... وأما مَن قرأ على: "آل ياسين"، فعلى أنَّ ياسين اسم أبي إلياس أُضيف إليه الآل".[9]

وأرى أنَّ لهذا العدول في البنية فائدتين أُخريين، الأولى: أنَّ في إعادة الاسم المُظهر تنويهًا بشأن إلياس - عليه السلام - وتقريرًا لاسمه في الأذهان، تأكيدًا لتعظيمه فيها، وإعلاءً لقَدْره في مقام الدعوة، والثانية: أنَّ زيادة الياء والنون اللتين أُلحقتَا باسمه - عليه السلام - أعطتا الفاصلة نوعًا من التنغيم الموسيقي بما يُحَسُّ من النون المردوفة بالياء الممدودة، مما يصوِّر كمال العناية بإلياس - عليه السلام - وإعلاء شأنه.

ومما يتَّصل بتغيير البنية ما نجده في قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا [نوح: 17]، والأصل: "إنباتًا" فعدل عن مصدر الفعل الأصلي إلى اسم المصدر "نباتًا"؛ لأنَّ الإنبات هنا استعارة في الإنشاء (أنشأ آدم من الأرض، وصارت ذريته منه)[10]، وفيه إشارة إلى أنَّ الإنسان هو من وجهٍ نبات، من حيث إنَّ بدأه ونشأه من التراب، وإنه ينمو نموه، وإن كان له وصفٌ زائد على النبات، وعلى هذا نبَّه بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ﴾ [غافر: 67].[11]

ولَمَّا كان له وصف زائد على النبات صار مُغايرًا من وجه للنبات، فغاير في صيغة المصدر، والله أعلم بمراده.

إذًا، فقوله: "نباتًا" موضوع موضع "الإنبات"، وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا، كأن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم: تكلَّم فلانٌ كلامًا، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل: تكلم فلان تكلُّمًا.[12]

وخلاصة القول: مِن بلاغة العدول في هذه الشواهد مراعاةُ الفاصلة كما يرى بعضُ المفسِّرين[13]، فهم يصفون مدى ارتباط الشكل بالمضمون، وموسيقا الفاصلة جزءٌ من الشكل، وجزء من المضمون، ويرون أنَّ التعبير القرآني قد يلجأ أحيانًا إلى الحَذْف إذا عُرف المعنى، أو دلَّ عليه دليلٌ سابق، فيجتمع الحذف ومراعاة الفاصلة، كما نشاهد فيما يلي:

ب - في الحذف:
ومن شواهده قوله - تعالى -: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 1- 11].

ففي قوله - تعالى -: ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾، حيث حُذف ضمير الخِطاب المضاف إلى الفِعْل "قلى"، فمِنهم مَن قال: حُذِف للدلالة عليه في "ودعك"، ومنهم مَن قال: حُذِف مراعاةً للفاصلة، وكذلك فيما بعدها من الفواصل (فآوى - فهدى - فأغنى).[14]

وترى الدكتورة عائشة عبدالرحمن رأيًا وجيهًا في تعليل هذا الحذف نميل إليه؛ إذ ليس من المقبول مطلقًا أن يقوم البيانُ القرآني على اعتبار لفظي محض، وإنما الحذف جاء لمقتضًى معنويٍّ بلاغي، يقويه الأداء اللفظي دون أن يكون الملحظُ الشكلي هو الأصل، ولو كان البيان القرآني يتعلَّق بمثل هذا لَمَا عدل عن رعاية الفاصلة في آخر سورة الضحى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 9-11]، وليس في السورة كلها "ثاء" فاصلة، بل ليس فيها حرف "ثاء" على الإطلاق، ولم يقل الحق - سبحانه -: "فخبِّر" بدلاً من "فَحَدِّث"؛ لتتفق الفواصل أو لتتشاكل رؤوس الآيات على مذهب أصحاب الصَّنْعة، ومن يتعلقون به.

والذي نراه ونطمئن إليه في هذا المقام، والذي يفرِضه السياق: أنَّ الحذف هنا تقتضيه حساسيةٌ معنوية مرهفة، بالغة الدِّقَّة في اللطف والإيناس، هي تحاشي خطابه - تعالى - لرسوله وحبيبه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مقام الإيناس بصريح القول "وما قلاك"؛ لِمَا في القِلَى من سوء، أو عدم حسن الطرد والإبعاد، وشدَّة البُغض، أما التوديع فلا شيءَ فيه من ذلك، بل لعلَّ الحسَّ اللغوي فيه يؤذِن بأنه لا يكون وداع إلا بيْن الأحباب، كما لا يكون توديعٌ إلا مع رجاء العَوْدة، وأَمَل اللِّقاء".[15]

أما قول الفراء وغيره بأنَّ الحذف لدلالة ما قبله على المحذوف، فذلك اعتبار نحوي يتعلَّق باللفظ، وإنما ما بينَّاه يتعلَّق بالمعنى، وهو لُبُّ المقصود، والله أعلم.

ومن أمثلة حذف المفعول في الفاصلة قوله - تعالى -:
﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 72، 73]، فقد ذكر مفعول النفع، ولم يذكر مفعول الضر، وقد تظن أنه إنما فعل ذلك لفواصل الآي، ولا شكَّ أنه لو ذكر المفعول به لم تنسجِمِ الفاصلة مع فواصل الآي، ولكن الحذف اقتضاه المعنى أيضًا، فقد ذكر مفعول النفع فقال: ﴿ يَنْفَعُونَكُمْ ﴾؛ لأنهم يريدون النفع لأنفسهم، وأطلق الضر لسببين:

الأول: أنَّ الإنسان لا يُريد الضرر لنفسه؛ وإنما يريده لعدوِّه.

والآخر: أنَّ الإنسان يخشى مَن يستطيع أن يلحق به الضرر، فأنت ترى أنَّ النفع موطن تخصيص، والضر موضع إطلاق، فخصَّ النفع، وأطلق الضر، والمعنى: أنَّ هذه الآلهة لا تتمكن من الإضرار بعدوكم، كما أنها لا تستطيع أن تضرَّكم، فلماذا تعبدونها؟ ولو ذكر المفعول به، فقال: (أو يضرونكم) لَمَا أفاد هذين المعنيين، فانظر كيف أنَّ العدول إلى الإطلاق في الضُّرِّ اقتضاه المعنى، علاوةً على الفاصلة.[16]

ومِن شواهد الحذف لأجْل الفاصلة حذفُ ياء المنقوص نحو قوله - تعالى -: ﴿ يَوْمَ التَّلاَقِ [غافر: 15]، ﴿ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر: 32] وحذف ياء المضارع غير المُنجزم نحو قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر: 4]، وحذف ياء الإضافة نحو قوله - تعالى -: ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر 16، 18، 21، 30].

الياء المحذوفة في "التلاق" و"التناد" من أصول الكلمة، ولعلَّ سبب العدول إلى حذفها في هذين الموضعين وأمثالهما الرمز إلى أنَّ كلاًّ من "يوم التلاق"، و"يوم التناد" هو يوم القيامة، وهو أمرٌ ملكوتي أُخروي غَيْبِي، فلما كان غيبيًّا حُذِفت الياء لترمز إلى ذلك.

هذا مِن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ، فلأنَّ حذف الياء سوَّغ الوقوف على كل منهما بالسكون، كما هو الشأن في الفواصل التي قبلها والتي بعدها.[17]

أما بالنسبة إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾، فالسِّرُّ هنا هو أنَّ السُّرى هو السرى الملكوتي، الذي يُستدلُّ عليه بآخِرِه من جهة الانقضاء، أو بمسير النجوم.[18]

قال سيبويه: "وجميع ما لا يُحذف في الكلام، وما يُختار فيه ألاَّ يحذف، يحذف في الفواصل والقوافي، فالفواصل قول الله - عزَّ وجلَّ - : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر: 4]"[19]، وتابعه الفرَّاء، فقال: "وقد قرأ القُرَّاء "يسري" بإثبات الياء، "ويسر" بحذفها، وحذفها أحبُّ إليَّ؛ لمشاكلة رؤوس الآيات، ولأنَّ العرب قد تحذف الياء، وتكتفي بكسِر ما قبلها".[20]

فهو يرى أنَّ العدول إلى حذف الياء أوفقُ من إثباتها؛ لمراعاة الفاصلة.

جـ - في الزيادة:
أحيانًا تأتي الفاصلة وبها زيادة حرف المدِّ، نحو: " الظنونَا، والرسولاَ، والسبيلاَ"، ففي قوله - تعالى -: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10]، و﴿ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ [الأحزاب: 66]، و﴿ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [الأحزاب: 67]، يقول الفَرَّاء في تعليل هذه الزيادة: "يُوقَف عليهنَّ بالألف؛ لأنَّها مثبتة فيهنّ، وهي مع آيات بالألف، وكان حمزة والأعمش يَقِفان على هؤلاء الأحرف بغير ألف فيهنّ، وأهل الحجاز يقفون بالألف، وذلك أحبُّ إلينا لاتِّباع الكتاب، ولو وصلت بالألف لكان صوابًا؛ لأنَّ العرب تفعل ذلك، وقد قرأ بعضُهم بالألف في الوصل والقطع".[21]

ويرى بعضُ الباحثين المعاصرين: أنَّ من المقرر في القواعد أنَّ الألف تنوب عن التنوين الذي بعدَ الفتحة عند الوقف، كما سبق في قوله - تعالى -: ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 46، 155]، ولأنَّ التنوين الذي نابت عنه الألف لا يجتمع مع أداة التعريف "أل"، وقد خلت النصوص العربية من الجمع بينهما حتَّى في قوافي الشعر؛ لأنَّ الألف التي تجامع "أل" في قوافي الشعر ألف إطلاق، وليست ألف إبدال أو تعويض، ومع ذلك تأتي ألف الإبدال في القرآن في كلمات اقترنتْ بأداة التعريف، وكانت الألف في هذه الحالة لرعاية الفاصلة، كما في الآيات السابقة من سورة الأحزاب.[22]

ولا يكفي القولُ بأنَّ الزيادة هنا لرعاية الفاصلة - وإن كنَّا لا ننكر ذلك - ولكنَّنا نتفق مع رأي باحِث آخرَ في أنَّ هذا العدول يتعلَّق بالأداء الصوتي للكلمة، فيقول: "وقد يخيل إليك وأنت تسمع هذه الجملة: ﴿ وتظنون بالله الظنونا ﴾ إذا أحسنت الإصغاء النفسي والوجداني إليها، أنَّك تسمع هذه الهمهمات، وهذه الوسوسات، التي تهمس بها نفوسُهم في خفاء، وكأنَّ هذه الألف في {الظنونا} تُؤذِن بإطلاق العِنان للخيال الفزِع، والخواطر الشُّرُد حين زاغتِ الأبصار، وبلغتِ القلوب الحناجر".[23]

ثم إنَّنا نلحظ في الآية نوعًا آخَرَ من العدول، حيث جيء بالفعل المضارع "تظنون" عدولاً عن الماضي "ظننتم"؛ لأنه معطوف على "زاغت الأبصار"، ولأنَّ الحَدَث قد انتهى زمانه، والمقام مقامُ تذكير بالنِّعمة، والسرُّ في ذلك - كما يقول البلاغيون -: أنَّ المضارع يدلُّ على استحضار الصورة؛ أي: إنَّ صيغته تحمل الحديث مِن قلْب الزمان الغابر؛ لتضعه أمام الحاضر الراهن في جلاء ووضوح، ولهذا تراهم يُؤثِرون صيغة المضارع عند ذكر الحَدَث الأهم، والظنُّ هنا أهم الأحداث في قصتنا؛ لأنَّ القضية قضية ابتلاء وتمحيص؛ ابتلاء إيمان، وتمحيص عقيدة، لذلك كان حديثُ القلوب، وهمس النفوس، وحركة الشعور، وكل ما هو داخل الكيان النفسي وينتمي إليه من أهمِّ ما يعنينا في هذا الموقف، ومِن أجْلِ ذلك خالف القرآن نسقَ الأفعال، وجاء بهذا الفعل مضارعًا، ومؤكدًا بمصدره، ومجموعًا على خلاف المألوف في المصادر، وذلك ليكشفَ أتَمَّ كشف، ويتصوَّر أوضح تصوير مُسْتسرّ نفوس هذه الجماعة في هذا الموقِف الصعب، والمضارع أيضًا يدلُّ على الاستمرار والتجدُّد، فكأنَّ الظن هنا حَدَثٌ يتتابع وقوعُه، وتتوالى صوره.

وثمة ملحظ آخر في الآية إذ تصوِّر ما بداخل النفس، وتصِف الخواطر والهواجس والظنون، وهذه قُصوى مراحل الابتلاء بالنسبة للمؤمنين في هذه الواقعة، و" الظن" مصدر يُطلق على القليل والكثير، ولكنَّه جُمِع هنا للإشارة إلى كثرة الهواجس والظنون، وتعدُّد ضروبها وأنواعها، وقد ورَدَ هذا في كلامهم، أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان (من الوافر):



هذا هو الرأي الذي نستريح إليه مِن خلال تدبُّر السياق، وفَهْم المعنى، ونحن نعلم أنَّ الصياغة لها مستويان يختلفان باختلاف السياق، المستوى الأول: هو المستوى اللغوي الذي ترِدُ فيه الصياغة حسب مقتضيات الإيصال فحسب، أمَّا المستوى الثاني: فهو الذي عبّر عنه بالوظيفة البيانية، واللغة الأدبية؛ لاختصاصه بصياغة أخرى تتميَّز بطبيعتها الجمالية، وما تحويه من مفردات رُكِّبت على غير المألوف في المستوى الأوَّل الذي تأتي فيه الصياغة، وما يتَّفق دون قصد.

ومِن الزيادة أيضًا إلحاق هاء السَّكْت في آخر الكلمات المنتهية بالياء المفتوحة، كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19، 20]، و﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 25-29]، يقول ابن قُتيبة: "وإنما يجوز في رؤوس الآي زيادة هاء للسَّكْت، كقوله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ [القارعة: 10] أو "ألف" كقوله: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10]

... لتستويَ رؤوس الآي على مذاهب العرب في الكلام".[24]

والرأي عندي: أنَّ السبب في هذا العدول المتمثِّل في زيادة الهاء لا يتضح إلاَّ إذا تأمَّلْنا سياق الآيات، فالآيات تتحدَّث عمَّن يُؤتَى كتابه بشماله يوم القيامة، وما يعتريه حينئذٍ من ندم وحسرة ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 25 - 29].

إنها وقفةٌ مع نفسه تُنبئ عن حسْرة مديدة، ولهجة بائسة، وتنهيد وتهديج، والسِّياق يُطيل عَرْض هذه الوقفة، حتى ليخيل إلى السامع أنَّها لا تنتهي إلى نهاية... وهنا يُراد طبع موقف الحسرة، وإيحاء الفجيعة من وراء ذلك المشهد الحسير... ثم يتحسَّر أنْ لا شيء نافعُه ممَّا كان يعتزُّ به، أو يجمعه ويكنزه ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ، فجاء السَّكْتُ على هذه الهاء في "ماليه" يُصوِّر لحظة الندم على ما فعل به حبُّ المال من الإعراض والتقصير، مصحوبًا بتلك الهاء الحَلْقِية الساكنة، مع ما يتبعها من تفريغ التأوُّه الصادر من أعماق القلْب، يؤدِّي رنَّة حزينة حسيرة مديدة في نهاية الفاصلة الساكنة، ويَزيد مِن ذلك الياء قبلَها بعد المدِّ بالألف في تحزُّن وتحسُّر، ولا شكَّ أنها بصوتها ترسم جزءًا من ظلال الموقِف الموحِي بالحسرة والأسى.

هذا ما يكشف عنه زيادةُ هاء السكت، وما يُوحِي به من ظلال المشهد، ولكن لا يجب الوقفُ على "ماليه" رغم أنها رأس آية لاتِّصال المعنى بما بعدها، فقوله: {هلك عني سلطانيه} مِن تمام الكلام.

ونخلص من هذا أن السكت على "ماليه" أفاد فائدتين: الأولى: لفظية، وهي الرنَّة الحزينة المديدة في نهاية الفاصلة الساكنة؛ لينسجمَ الأداء الصوتي مع باقي الفواصل السابقة واللاحقة (كتابيه، حسابيه، القاضية، ماليه، سلطانيه)، والثانية: معنوية، وهي تجسيدُ لحظة الندم، وتجلية موقف الحسرة، وإيحاء الفجيعة وفداحة المصير.

د - الاعتراض:
وممَّا يتَّصل بالنمط السابق مِن أنماط العدول "الاعتراض".

الأصلُ في الجملة أنْ تتَّصل أجزاؤها؛ لتتضحَ فيها الرتبة والاختصاص والعلاقات، ولكن الأغراض الأسلوبية ربَّما أباحتِ العدول عن هذا الأصل بواسطة اعتراض مجرَى الكلام بجملة يتطلَّبها الموقف، تُسمَّى الجملة المعترضة، ولا يكون الاعتراضُ إلا بجملة، وهي لكونِها معترضةً غريبةٌ عن سياق الكلام، ولا ينسب إليها محلٌّ من الإعراب؛ لكونها لم تحُل محلَّ أحد مفردات السِّياق الأصلي[25]، إنما يُؤتَى بها لوظيفة بلاغية مهمَّة، هي المبادرة بإبلاغ السامع معنى، لولا إبلاغُه إيَّاه في حينه، لورد على الكلام بدونه ما لا يرِدُ عليه بوجوده، وهذا ما اشترطه ابن مُنقذ في الجملة المعترضة.[26]

والاعتراض في كلام العرب "كثيرٌ قد جاء في القرآن، وفصيح الشِّعر، ومنثور الكلام، وهو جارٍ عندَ العرب مجرى التأكيد، فلذلك لا يُستنكَر عندهم أن يُعترض به بين الفعْل وفاعله، والمبتدأ وخبره، وغير ذلك ممَّا لا يجوز الفصْل فيه بغيره، إلا شاذًّا أو متأولاً".[27]

ومن شواهده في القرآن قوله - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران: 36]، وفائدة الاعتراض التنبيهُ إلى سبق عِلم الله بذلك.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]، والاعتراض للمبادرة ببعْث المسرَّة والطمأنينة إلى قلوب المستغفِرين التائبين.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران: 127 - 128]، جاء الاعتراض ليدلَّ على أنَّ النصر أو الهزيمة مِن عند الله، لا من عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة: 75 - 77].

قال الزمخشري: "وقوله: ﴿ وإنَّه لقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، اعتراض في اعتراض؛ لأنَّه اعترض به بين المقسَم به، وهو ﴿ مَوَاقِع النجوم ﴾، والمقسَم عليه، وهو قوله: ﴿ إنَّه لقرآنٌ كريم، واعترض بقوله: {لو تعلمون} بين الموصوف وصِفته"[28]، وقد أفاد الاعتراضُ الأول لفْتَ الأنظار إلى أهمية القَسَم، كما أفاد الاعتراضُ الثاني التهويلَ من شأن القَسَم.

ومِن بلاغة النظم في الاعتراض المناسبةُ بين المقسَم به، وهو النجوم، وبين المقسَم عليه، وهو القرآن؛ لأنَّ الله قد جعل النجوم ليهتديَ الناس بها في ظلمات البر والبحر، كما جعل القرآن ليهتديَ به الناس في ظلمات الجهل والضلال، فتلك ظُلمات حِسيَّة، وهذه ظلمات معنوية، فجاء القَسَم هنا جامعًا بين الهدايتين (الحِسيَّة للنجوم، والمعنوية للقرآن)، فهذا وجه المناسبة، والله أعلم.

[1] "يتيمة الدهر" (4/202).

[2] "لسان العرب" - مادة: (ب و ب).

[3] "البرهان في علوم القرآن" (1/71)، و"نهاية الأرب في فنون الأدب" (7/103).

[4] راجع "لسان العرب" - مادة (غدا)، و"الصاحبي" (ص: 384)، و"المزهر" (1/339).

[5] "بيان إعجاز القرآن" - ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز - (ص: 24 - 26) بتصرف.

[6] "معاني القرآن" (3/267).

[7] "البحر المحيط" (8/475).

[8] انظر: "تفسير القرطبي" (20/76)، و"تفسير النيسابوري" (30/120)، و"البرهان في علوم القرآن" (1/62).

[9] "الكشاف" (4/352، 353).

[10] "البحر المحيط" (8/334)، ويُنظر: "الكشاف" (4/163).

[11] "المفردات في غريب القرآن" (ص: 480).

[12] "تفسير الطبري" (3/162)، ويُنظر: "تفسير القرطبي" (18/197).

[13] ينظر على الترتيب: الثعالبي: "فقه اللغة" (2/579)، وابن سيده: "المحكم" (1/241)، وابن سنان: "سر الفصاحة" (ص: 173)، والنيسابوري: "غرائب القرآن" (12/108)، والفخر الرازي: "مفاتيح الغيب" (31/209)، والسيوطي: "الإتقان" (3/342)، و"المعترك" (1/36)، وسيِّد قطب: "التصوير الفني في القرآن" (ص: 89).

[14] "معاني القرآن" (3/273)، و"غرائب القرآن" (30/108).

[15] انظر: "التفسير البياني" (1/35)، 36)، و"الإعجاز البياني" (268، 269).

[16] فاضل السامرائي: "التعبير القرآني" (ص: 197).

[17] مجلة منبر الإسلام (ص: 16) من مقال للدكتور/ عبدالعزيز المطعني بعنوان: خصوصيات الرسم العثماني.

[18] "البرهان" (1/403).

[19] "الكتاب" (4/185).

[20] "معاني القرآن" (3/260).

[21] "معاني القرآن"؛ للفراء (2/350)؛ يقصد بالقطع: "الوقف".

[22] "البيان في روائع القرآن" (ص: 283، 284).

[23] "أسرار التعبير القرآني" (ص: 102).

[24] "تفسير غريب القرآن" (ص: 440).

[25] "البيان في روائع القرآن" (ص: 386).

[26] "البديع في نقد الشعر" (ص: 130).

[27] "الخصائص" (1/335).

[28] "الكشاف" (4/58، 59).














رد مع اقتباس
قديم 2012-12-24, 12:24   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

ثاني عشر: العدول إلى الألفاظ الفرائد:
وأعني بـ "الفرائد": اللفظةَ الفريدة التي لم تتكرَّر في القرآن كلِّه، وإنما أتتْ مرة واحدة في موضعها الذي وردتْ فيه؛ لما لها من دلالة خاصَّة، لو أدرتَ اللغة ما وجدت لفظة تصلُح في موضعها، وذلك شأنُ كل لفظةٍ في القرآن؛ لأنَّ كلمات القرآن معتبرة بأصوات حُروفها وحركاتها، ومواقعها من الدلالة المعنوية.

ومن شواهده كلمة "ضِيزى" في قوله - تعالى -: ﴿ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 22]، ولم يقل: "جائرة"، لقد عدَّها ابن الأثير - "ضيزى" - من الألفاظ الغريبة[1] التي حسُنتْ بحُسْن موقعها، ثم علَّل ذلك بأنها جاءتْ على الحرف المسجوع الذي جاءتِ السورة جميعها عليه، وغيرها لا يسدُّ مسدَّها، وقد يكون هناك لفظةٌ آلف منها، مثل جائرة أو ظالمة، ولكنَّها في هذا الموضع لا تَرِد ملائمةً لأخواتها ولا مناسبة؛ لأنَّها تكون خارجةً عن حرْف السورة، فلو قلنا: "ألكم الذَّكَر وله الأنثى تلك إذًا قسمة ظالمة"، لم يكن النظم كالنظم الأول، وصار الكلام كالشيءِ المعْوَز الذي يحتاج إلى تمام، وهذا لا يخفى على مَن له ذوق، ومعرفة بنظم الكلام".[2]

وهذا كلام صائب مسلَّم به بحُكم السمع والذوق معًا، ولكن ما يُؤخذ على ابن الأثير هو ما أخَذْناه على غيره، من أنَّه أرْجع الحسن إلى شيءٍ لفظي محضّ، وهو مراعاة التقارُب في مقاطع الفواصل؛ ليتمَّ لها الائتلاف، والانسجام الإيقاعي، ولكن الرَّافعي نظر إليها نظرةً عميقة شاملة، تناولتها من ناحيتيها في إفاضة وحُسْن عرض، حيث قال: "وفي القرآن لفظةٌ هي أغربُ ما فيه، وما حَسُنتْ في كلام قط إلا في موضعها، وهى كلمة "ضيزى"، ومع ذلك فإنَّ حسنها في نظم الكلام من أغربِ الحُسْن وأعجبه، ولو أدرت اللغة عليها ما صلح لهذا الموْضع غيرُها[3]، فإنَّ السورة التي هي منها - وهى سورة النجم - مفصلة كلُّها على حرف (الياء)، فجاءت الكلمة فاصلةً من الفواصل.

ثم هي في معرِض الإنكار على العرب، إذ وردتْ في ذِكْر الأصنام، وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكةَ والأصنام بناتٍ لله، مع وأْدِهم البنات، فقال - تعالى -: ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 21 - 22]، فكانتْ غرابة اللفظ أشدَّ الأشياء ملائمةً لغرابة هذه القِسمة التي أنكرها، وكانتِ الجملة كلها كأنَّها تُصوِّر في هيئة النطق بها الإنكارَ في الأولى، والتهكُّمَ في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغَ ما في البلاغة، وخاصَّة في اللفظة الغريبة التي تمكَّنت في موضعها من الفصْل، ووصف حال المتهكِّم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذَيْن المدَّيْن فيها، وجمعت - إلى ذلك - غرابةَ الإنكار لغرابتها اللفظية، والعرب يعرفون هذا الضَّرْب من الكلام، وله نظائرُ في لغتهم، وكم مِن لفظة غريبة عندَهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حُسْنها - على غرابتها - إلا أنها تؤكِّد المعنى الذي سِيقتْ إليه بلفظها، وهيئة منطقها، فكأنَّ في تأليف حروفها معنًى حسيًّا، وفي تأليف أصواتها معنى مثله في النفس.

ثم يقول: وإن تعجب فعجبٌ نظمُ هذه الكلمة الغريبة، وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مدٌّ ثقيل، والآخر مدٌّ خفيف، وقد جاءَتْ عقب غُنَّتَين في "إذًا" و"قسمةٌ"، وإحداهما خفيفة حادَّة، والأخرى ثقيلة متفشِّية، فكأنَّها بذلك ليستْ إلا مجاوبة صوتية لتقطيع الموسيقا، وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددْناها آنفًا، أما خامس هذه المعاني، فهو أنَّ الكلمة التي جمعتِ المعاني الأربعة إنما هي أربعةُ أحرف أيضًا".[4]

الرافعي يلفتُنا إلى الأداء الدقيق لكلمة "ضيزى" في هذا التركيب البياني المعجِز، فهي متناسقة مع غيرها من الفواصل، ممَّا يُبرز جمالَ الإيقاع الذي انتظم فواصل السورة كلها عدَا بعض آيات في آخرها، ورغم ثقلِها في ذاتها فإنَّ انسجامها مع اللفظتين السابقتين عليها جعلها سهلةً في نطقها؛ إذ أَعْقَبت غُنَّتَين في "إذًا"، و"قسمة"، فألفت مع غيرها مجاورةً صوتية لتقطيع موسيقيّ، هذا إلى ما أوحتْ به غرابة اللفظة إلى غرابة القِسمة، فأتت مناسبةً لجو الكراهة والإنكار الذي صوَّرتْه الآية في معرِض إنكارها على المشركين قسمتهم الجائرة.

ويرى الدكتور "تمَّام حسان" ملحظين آخرَيْن - غير رعاية الفاصلة - أحدهما: الإيحاء بما في "الضاد" من تفخيم بأنَّ الجور في هذه القسمة لا يزيد عليه، وثانيهما: ما في "ضيزى" - وهى للتفضيل - مِن زيادة في معناها على معنى "جائرة" التي هي صفة مشبَّهة.[5]

فلله دَرُّ البيان الأعْلى! يستعمل الكلمة في موضعها، فتكون أمسَّ رحمًا بالمعنى، وأوضح في الدلالة عليه، وأشدَّ إيحاءً به.

ومن شواهد ذلك أيضًا: كلمة "الحُطمَة" في قوله - تعالى -: ﴿ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [الهمزة: 4]، ولم يقل: "جهنم"، أو "النار".

بداية يجب أن نفهم معنى "النبذ"، وهو إلقاء الشيء وطَرْحه؛ لقلَّة الاعتداد به، ولذلك يقال: "نبذتُه نبذَ النعل الخَلَق"[6]، ولك أن تتصوَّر ما في هذا التعبير من إيحاء بكلِّ معاني الحقارة والذلَّة والهوان، هذا فضلاً عن توكيد الفعْل توكيدًا واجبًا باللام والنون.

و"الحُطمة" هي اسم من أسماء النار، كما ذُكِر من أسمائها في مواضع أخرى "جهنم"، و"سقر"، و"لظى"... وهي من شأنها أن تَحْطِم العظام، وتأكل اللحم (وفي ذلك إشارة إلى غاية تعذيب الهُمَزة اللُّمَزة)، ويقال للرجل الأكول: "حطمة"، ووزنها فُعَلة كهُمَزة ولُمَزة... كأنه قيل له: كنت همزة لمزة، فقابلناك بالحُطمة، وأيضًا في الحطمة معنى الكسْر والتحطيم، والهمَّاز اللمَّاز يُكسِّر أخلاق الناس بالاغتياب، ويحطم أعراضَهم بالعيب، أو يأكل لحومَهم كما يأكل الرَّجل الأكول[7]، كما أنَّ سُهولة الحركات في (الهمزة واللمزة والحطمة) توحي بسُهولة ذلك عليه، فهو يأتيه كثيرًا ولا يُبالي، كالأكول الشَّرِه الذي يأكل دون مراعاة الآخرين.

والقرآن يُغْنِينا عن تأويلٍ بما تولَّى من بيان الحطمة في الآيات بعدَها، وتبدأ بالسؤال ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴾ [الهمزة: 5]؟، ويأتي الجواب ببيان مناط الرَّهْبة والهول في قوله - تعالى -: ﴿ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 6 - 7]، وباستقراء الاستعمال القرآني للنار نلحظ غلبةَ مجيئها لنار الجحيم في الآخرة[8]، ومع كَثْرة هذا الاستعمال لم تأتِ مضافةً إلى الله - تعالى - إلا في "الهمزة"، فشهد ذلك بفداحة النُّكرِ لفِتنة المال...".[9]

ومن شواهد ذلك أيضًا: كلمة "دحاها" في قوله - تعالى -: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات: 30]، دحاها؛ أي: جعلها كالدِّحية (البيضة)، وهو ما يوافِق أحدثَ الآراء الفلكية عن شكل الأرض... ولفظة "دحا" تعني أيضًا البسط... وهي اللفظةُ العربية الوحيدة التي تشتمِل على البسط والتكوير في ذات الوقت، فتكون أدلَّ الألفاظ على الأرض المبسوطة في الظاهر المكوَّرة في الحقيقة، وهذا منتهى الإحكام والخفاء في اختيار اللَّفْظ الدقيق المبين.[10]

ومن شواهد ذلك أيضًا: كلمة "تُدْلُوا" في قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]، فكلمة "تُدْلُوا" مأخوذة من الإدلاء، والإدلاء في الأصل: إرسال الدَّلْو في البئر، ثم جُعِل كلُّ إلقاء أو دفع لقول أو فعل إدلاءً، يُقال: أدْلى بحُجَّته؛ أي: أرسلها، والمراد بالإدلاء هنا الدفْع إلى الحاكم بطريق الرِّشوة، والرِّشوة من "الرِّشاء"، وهو الحبل الذي يُعلَّق فيه الدلو، ﴿ وتُدْلوا ﴾ بالأيدي إلى الحُكَّام، مع أنَّ الحاكم هو الأعْلى، والمحكومين هم الأسفل... والسِّرُّ واضح... إنَّ الحاكم إذا قبل الرِّشوة أصبح في الأسفل، وأصبحتِ اليد التي تُعْطي هي الأعلى، ومن هنا كانت اللفظة المحكمة الدقيقة "تُدْلوا" هي أشدُّ تعبيرًا وتصويرًا للمعنى المقصود... ويستحيل عليك أن تتصوَّر لفظةً أخرى أدقَّ وأحكم للمناسبة.[11]

ومن ذلك أيضًا: كلمة "التَّهْلُكة" في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]، فـ"التهلُكة" على وزن "تفْعُلة"، ولا نظيرَ لها في اللغة العربية، فهي كلمةٌ فريدة، لا يوجد على وزن تَفْعُلة سواها.

قال اليزيدي: "التهلُكة: من نوادر المصادر، ليستْ ممَّا يجري على القياس".[12]

والتهلكة: ما يؤدِّي إلى الهلاك، والهلاك خروجُ الشيء عن حال إصلاحه، بحيث لا يُدرَى أين يذهب، ومثال ذلك هلاك الإنسان يكون بخروج رُوحه، وبناءً على هذا المعنى اللغوي نفهم أنَّ قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ يكشِف لنا بعضًا من روائع الأداء البياني في القرآن، ففي الجملة الواحدة تُعطيك الشيءَ ومقابلَ الشيء، وهذا أمرٌ لا نجده في أساليب البشر، ومعنى ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: في الجهاد، ويقول بعدها: ﴿ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، فكأنَّه رَبَط بين الإنفاق في سبيل الله - الجهاد - بالإلقاء إلى التهلكة؛ لأنَّ الامتناع عن الإنفاق يؤدِّي إلى التهلكة، بمعنى أنَّ الإنفاق الذي هو إخراج المال إلى الغَيْر الذي يؤدِّي لك مهمةً تفيد الإعدادَ لسبيل الله كصناعة الأسلحة، أو الإمدادات التموينية، أو تجهيز مبانٍ وحُصونٍ، هذه أوجه إنفاق المال.

وكلمة "تُلْقوا" تفيد أنَّ هناك شيئًا عاليًا، وشيئًا أسفل، فكأنَّ الله يقول: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة... وهل يفعل أحدٌ ذلك بنفسه؟! لا، إنما اليدُ المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلْقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لأنَّه إنِ امتنع عن الإنفاق في سبيل الله، والإعداد للجهاد، والأخْذ بالأسباب لمواجهة العدوّ، اجترأ العدوُّ عليه، وما دام اجترأ العدو عليه فسوف يَفْتنه في دِينه، وإذا فَتَنه في دِينه، فقد هَلَك.

إذًا فالاستعداد للحرْب أنفَى للحرْب؛ بمعنى: أنَّ العدو حين يراك قويًّا يهابك ويتراجع عن قِتالك، هذا هو المعنى الأوَّل... أما المعنى الثاني: لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلُكة، بأن تُقْبِلوا على القِتال بلا داعٍ، أو بلا إعداد كافٍ.[13]

وقد أشار عبدالقاهر إلى مزايا القرآن التي أعجزتِ العرب في نَظْمه، وخصائصه التي صادفوها في سِياق لفظه... فلم يجدوا في الجميع كلمةً ينبو بها مكانها، ولفظةً ينكر شأنها، أو يُرى أنَّ غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحْرى أو أخْلق؛ بل وجدوا اتِّساقًا بَهَرَ العقول، وأعجز الجمهور.[14]

والمتأمِّل في هذا النص يَجِد إشارةً يمكن أن تقابِل في النقد الحديث ما يُسمَّى بمحور الاختيار أو الاستبدال، وهو محور يتقاطَع مع محور التركيب أو التوزيع، فينتج من ذلك ما يُسمَّى الأسلوب.[15]

أي: إنَّ محور الاختيار في القرآن محورٌ حَازَ من درجات الجمال والكمال أتَمَّها، وهو أمرٌ لا يتَّفق لغيره من الكلام.

ثالث عشر: العدول في مرسوم خط القرآن:
من الخصوصيات التي اختصَّ بها النص القرآني "مرسوم خطه".

وإنَّ المتأمِّل في رسم كلمات المصحف يرى كلماتٍ كُتبت برسم مُعيَّن في مواضعَ تخالف رسمَها في مواضعَ أخرى، بحسب اختلاف أحوال معاني الكلمات، كحذف الياء من "يسري"، أو حذف الواو من "يدعو"، أو زيادة الياء في "بأييكم"، أو زيادة الألف في "لِشَائْ"، أو اختلاف الحرْف بين السين والصاد، كما في "بسطة وبصطة"، أو اختلاف هيئة التاء بقبضها في مواضعَ، وبسطها في مواضعَ أخرى، كما في نحو "رحمة، ورحمت" و"كلمة، وكلمت" و"قرة، وقرت"، أو فصل "إن" عن "ما" في مواضعَ، ووصلها بها في مواضعَ، إلى غيرِ ذلك من صُور العدول في مرسوم الخط القرآني.

هذه المخالفة تُعدُّ نوعًا من العدول في الرسم، ولا شكَّ أنَّ ذلك يتعلَّق بسرٍّ من أسرار إعجاز القرآن في ألفاظه ومعانيه، التي اختصَّ الله بها كتابه العزيز، دون سائر الكتب السماوية، ومن اللاَّفت: أنَّ مرسوم خط القرآن لا يخضع لقواعدَ محدَّدة، ولا أصول مُقنَّنة تضبطه، مما يجعل العدولَ بارزًا في رسم بعض الكلمات، وكونه عدولاً فلا يخلو من طرافة أو مغزًى، ربما نهتدي - مع التدبُّر والتأمُّل - إلى إدراكه، وربَّما لا نهتدي، فنقول: سبحانك ربِّي هل كنتُ إلا بشرًا قَصُورًا.

وإذا كان هناك فريقٌ يرى أنَّ الالتزام بالخط العثماني فيه مشقَّة في قراءته، وفيه إلباس على البعض[16]، فالرأي عندي: أنَّ القرآن يُؤخَذ بالتلقِّي، وما دام يُؤخَذ بالتلقي، فلا مجالَ للقول بالإلباس.

ومع طول مصاحبتنا للمصحف الشريف تلاوةً ودراسةً، تبيَّن لنا أنَّ كثيرًا من الكلمات حَدَث في كتابتها عدول اتَّضح لنا في رسمها، فرُحْنا نلتمس التوجيه المناسِب لهذا العدول في مرسوم الخط - وذلك يُعدُّ من الجديد في هذا البحث.

ونذكر فيما يلي بعضَ الشواهد لهذا النمط من أنماط العدول المتعدِّد الصور، المختلف الهيئات:
أ- المخالفةُ بين إثباتِ الألف، أو حذفها من كلمة "اسم"، حيث نلحظ أنَّها إذا أضيفت إلى لفظ الجلالة، نحو: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ [الفاتحة 1، هود 41، النمل 30] حُذِفت الألف، أما إذا أضيفت لغيرِ لفظ الجلالة ثبتت الألف، نحو: ﴿ بِاسْمِ رَبِّكَ [الواقعة 74، 96، الحاقة 52، العلق 1].

ولعلَّ السِّرَّ في هذا العدول - أي حذف الألف في: "بسم الله" - التنبيهُ على عُلوِّه في أول رُتْبة الأسماء وانفراده، فهو علم على الذات الإلهية المقدَّسة، ولهذا لم يتسَمَّ به غيرُ الله، بخلاف غيرِه من أسمائه، فلهذا ظهرتِ الألف معها تنبيهًا على ظهور التسمية في الوجود.

وحُذِفت الألف التي قبل الهاء من اسم الله، وأظهرت التي مع اللام من أوَّله؛ دلالةً على أنه الظاهر من جهة التعريف والبيان، الباطن مِن جِهة الإدراك والعِيان، أما إذا أُضِيفت لغير الله ثبتت، نحو "باسم ربك"[17]؛ لأنَّ كلمة "ربك" تأتي مشتركة بين "الله" - عزَّ اسمُه - وبين خَلْقه، فمِن ذلك مثلاً: ﴿ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف: 42]؛ يعني: العزيز أو الملك، وهذا الاسم الجليل لا يُعرَف له اشتقاقٌ من فِعْل، كما أنَّ الألف واللام فيه لازمة، وجميع أسماء الله الحسنى إذا أُسقط منها حرْف ذهبت دلالته على "الله"، ولم يَعُدْ له معنى، أما اسم "الله" خمسة حروف، إذا أسقط منها حرْف أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة فما بقي من الاسم يدلُّ عليه - سبحانه.

وحَذْف الألف من "بسم الله" يُعدُّ لونًا من الإيجاز بالحذف، وهو حذف لا يُؤثِّر في النطق بالبسملة، في حين أنَّ له دلالةً قيمة؛ إذ يدلُّ حذفه على بناء الصِّلة بالله - تعالى - بأقصر طريق وأخصره، وهو صراط الله المستقيم.[18]

ب- المخالفة بين إثبات الألف وحذفها في كلمة "كتاب" (مُعرَّفة أو مُنكَّرة)، حيث وردتْ بدون الألف في المصحف كله، عدَا أربعة مواضع جاءتْ فيها بالألف.[19]

قال الزركشي: "وكذلك كل ما في القرآن من "الكتاب" أو "كتاب"، فبغير ألف؛ إلا في أربعة مواضعَ بأوصاف خصصتْه من الكتاب الكلي:

في الرعد: ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد: 38]، فإنَّ هذا "كتاب الآجال"، فهو أخصُّ من الكتاب المطلق، أو المضاف إلى الله.

وفي الحِجْر: ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: 4]، فإنَّ هذا "كتاب إهلاك القرى"، وهو أخصُّ من كتاب الآجال.

وفي الكهف: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف: 27]، فإنَّ هذا أخصُّ من "الكتاب" الذي في قوله: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت: 45]؛ لأنَّه أطلق هذا، وقَيَّد ذلك بالإضافة إلى الاسم المضاف إلى معنى الوجود، والأخصُّ أظهرُ تنزيلاً.

وفي النمل: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 1]، هذا "الكتاب" جاء تابعًا للقرآن، والقرآن جاء تابعًا للكتاب، كما جاء في الحِجْر: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر: 1]، فما في "النمل" له خصوصُ تنزيل مع الكتاب الكلي، فهو تفصيلُ الكتاب الكلي بجوامع كليته.

هكذا وقفْنا على شيء من الأسرار المُرادة من حذف "الألف" في "الكتاب" أو "كتاب"، وهذا الحذف أو الإثبات يجريانِ على منهج حكيم له دلالتُه، وحاشَا لله أن يكون في هذه الخصوصيات نوعٌ من السهو أو الجهل؛ لأنَّ كتاب الله مُنزَّه عن كل نقص أو عيب في مفرداته وجُمَله، وتراكيبه ومعانيه.

جـ- المخالفة بين إثبات المدِّ وحذفه، تأمل في سورة "الكافرون" ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1 - 6].

تأمّل قوله: ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ تَرَ إيضاح ما يلي:
1) تر المدَّ على "مَا أَعْبُدُ" (في المرتين)، ولا تَرَ ذلك المدَّ في "مَا تَعْبُدُونَ"، وفي ذلك إشارةٌ إلى تفخيم وتعظيم ما يعبده النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو الله - سبحانه - وتحقيرِ ما يعبده الكافرون من أصنام وحِجارة.

2) توَحُّد الفعل " أَعْبُدُ" المسْنَد إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بنصِّه في المرَّتين، وتغيُّره زمنًا بين المضارِع والماضي المسنَد إلى ضمير الكافرين، ففي توحُّد الأول: إشارة إلى توحُّد معبود النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتفرُّده بالوحدانية، فهو اللهُ الواحد الأحَدُ الفرْد الصمد، وفي تغيُّر الثاني إشارةٌ إلى تعدُّد معبوداتهم وحقارتها؛ لأنَّ التغيُّر جارٍ عليها.

3) المدّ على لاَ أَعْبُدُ "لام" بعدها "ألف" يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه ضِيق النَّفَس، فآذن امتداد الصوت بلفظها بامتداد معناها، وهو النفي الجازِم الشامل للحال والاستقبال؛ قطعًا لأطماعهم وبراءة من أفعالهم، ولأنَّ "لاَ" لا تدخُل إلاَّ على مضارع في معنى الاستقبال.[20]

4) العدول عن "مَن" إلى "ما"، قال الزمخشري: "فإن قلت: لمَ عدل عن "مَن" إلى "ما"؟ قلت: لأنَّ المراد الصفة، كأنَّه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحقّ".[21]

5) العدول عن "ما عبدتُ" - في مقابلة " مَا عَبَدْتُمْ "- إلى "مَا أَعْبُدُ "، قال الزمخشري: "لأنَّهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المَبعث".[22]

قال أحمد بن المنير: "أو يكون العدولُ إلى المضارع لقصْد تصوير عبادته في نفس السامع، وتمكينها من فَهْمه".[23]

6) العدول عن جمْع التكسير "الكفار" إلى جمع السلامة "الْكَافِرُونَ" لمراعاة الفاصلة، وانسجام نهايات الآيات.

يقول الكرماني: "قوله: ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾في تَكْراره أقوال جمَّة، ومعانٍ كثيرة... هذا التَّكْرار اختصار وإيجاز، وهو إعجاز؛ لأنَّ الله نفَى عن نبيِّه عبادةَ الأصنام في الماضي، والحال، والاستقبال، ونفى عن الكفَّار المذكورين عبادةَ الله في الأزمنة الثلاثة أيضًا؛ فاقتضى القياسُ تَكْرار هذه اللفظة ستَّ مرَّات، فذكر لفظ الحال؛ لأنَّ الحال هو الزمان الموجود، واسم الفاعل واقعٌ موقعَ الحال، وهو صالح للأزمنة الثلاثة، واقتصر من الماضي على المسند إليهم، فقال: ﴿ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ... واقتصر من المستقبل على تَكْرار هذه اللفظة مع المسند إليه، فقال: ﴿ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾، وكأنَّ أسماء الفاعلين بمعنى المستقبل".[24]

د - المخالفة بين الفصل والوصل في مرسوم الخط القرآني، فمِن شواهده قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ [الأنعام: 134]، حيث نلحظ الفصْلَ بين "إنّ" و"ما" في هذا الموضع فقط من القرآن؛ عدولاً عن الوصْل بينهما الذي ورَدَ في القرآن 137 مرَّة[25]، ولعلَّ السِّرَّ في هذا العدول إلى الفصل أن يلفت انتباهَنا إلى أنَّ هناك ملحظًا بلاغيًّا وراءَ هذا العدول، وهذا يدعونا إلى النظر إلى السِّياق الذي وردتْ فيه الآية، حيث يُبيِّن أنَّ البشر فريقان؛ مهتدٍ وضالٌّ، منهم مَن شرح الله صدرَه، وأنار قلبَه فاهتدى، ومنهم مَن اتَّبع هواه، واتبع الشيطان فضلَّ وغوَى، فبيَّن الله - تعالى - أنَّه سيَحشر الخلائق جميعًا يومَ القيامة للحساب؛ لينال كلُّ فريق جزاءَه العادل، فجاءتِ الآية تعقيبًا على ذلك الفصْل بين الفريقين في موعودهم، فناسب ذلك الفصل في الموعود الفصل في المرسوم.

وقد أشار الزركشيُّ إلى رأي آخر، فقال: "إنَّ حرف "ما" هنا وقع على مُفصَّل، فمنه خيرٌ موعود به لأهْل الخير؛ ومنه شرٌّ موعود به لأهل الشر؛ فمعنى "ما" مفصول في الوجود والعلم"[26]، فناسب ذلك كتابتها مفصولة.

فكأنَّ الموصول في الوجود توصل كلماتُه في الخط، كما توصل حروف الكلمة الواحدة، والمفصول معنًى في الوجود يفصل في الخط، كما تُفْصل كلمة عن كلمة.

ومِن شواهد ذلك أيضًا: جاء إدغامُ نون "إنْ" في لام "لم" في القرآن مرَّة واحدة في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه [هود: 14]، وجاءتْ بدون إدغام مرَّة واحدة في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص: 50]، ولعلَّنا نتساءل عن سبب هذا العدول، فيُجيبنا الزركشيُّ: "أظهر حرْف الشرط في آية القصص؛ لأنَّ جوابه المترتِّب عليه بالفاء هو ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ متعلِّق بشيء ملكوتي ظاهر سُفلي، وهو اتِّباعهم أهواءَهم، وأخفى في آية هود؛ لأنَّ جوابه المترتِّب عليه بالفاء ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه ﴾، هو علم متعلِّق بشيء ملكوتي خفي علوي، وهو إنزالُ القرآن بالعلم والتوحيد".[27]

هـ - المخالفة بين "يبسط" و"يبصط"، حيث نلحظ في قوله - تعالى -: ﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾، ورد الفعل "يبسط" بالسين، وتكرَّر ذلك تسعَ مرات في تسعةِ مواضع[28].

وورد بالصاد "يبصط" مرَّة واحدة في البقرة: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]، علَّل الزركشيُّ لهذا العدول بقوله: "البسط" بالسين يشير إلى السَّعة الجزئية، كذلك علَّة التقييد المشار إليها بقوله: ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾، أما "البصط" بالصاد، فيشير إلى السَّعة الكلية؛ بدليل علوِّ معنى الإطلاق، وعُلوِّ الصاد مع الإطباق والتفخيم.[29]

هذا فضلاً عن دَلالة التقابُل على التنويع والتعدُّد؛ تقريرًا لشموله على سبيل التفصيل، وإرضاءً لطمأنينة النفس بالإشارة إلى مشيئة الله المبنية على الحِكَم والمصالح، وأنَّه هو المتصرِّف في شؤون الخلق جميعًا.


بعد هذه الصُّحْبة الشاقة الشائقة لأسلوب العدول في النصِّ القرآني، انتهينا إلى النتائج الآتية:
1- تُوقِفنا مقولة "الأسلوب العدولي" - في مجملها - على حقيقة أنَّ النظام المعنوي - بما هو مستوى من التواصل أكثر تركيبًا وتعقيدًا واتساعًا من النظام اللغوي - إنَّما يُحقِّق نفسه من خلال النظام اللُّغوي أحيانًا، حين يكون هذا النِّظام في المستوى قابلاً للإفضاء بالمعنى في حدود قواعده وأَنْساقه القارَّة والمطرِدة في الاستخدام؛ أي: في المستوى الذي عُرِف منذ "سوسير" بمستوى اللُّغة، كما أنه يحقِّق نفسه في أحيان أخرى من خلال اختراق هذا النِّظام والتعديل فيه على نحوٍ يسمح بالإشارة إلى المعنى الذي لم يتَّسع له النظام الأصلي/ المثالي، والنصوص الأدبية - شِعريةً كانتْ أو نثرية - تُعوِّل كثيرًا في الإفضاء بالمعنى - أو لفت النظر إليه - على هذا النَّوْع من الأسلوب العدولي.

2- إنَّ فكرة العدول ليستْ أصيلة في الفِكر البلاغي والنقدي فحسبُ؛ بل تُوشِك أن تكون أصيلةً في حركة اللُّغة أيضًا، فهي خاصية لُغوية يكاد يتميَّز بها الخِطاب الأدبي؛ إذ تُتيح لمنشئ الخِطاب التصرُّفَ في أساليب اللغة، والانحرافَ بها عن أنماطها القارَّة الشائعة الاستعمال إلى العديد من صور التعبير، التي يراها المبدِع محقِّقةً لهدفه، وهو التأثير في المخاطَب وإمتاعه؛ لذلك عُدَّ الالتفات - وهو صورة من صور الأسلوب العدولي - من شجاعة العربية، لذا أضمر هذا الوصف معنى القوى الماثلة في حَركة اللُّغة، وحريتها في التعبير عن الغَرَض المقصود؛ لأنَّ رُوح اللُّغة من السيولة بحيثُ لا تنضبط في مقولات، ومِن هنا كان وصْف البيانيِّين العرب لصيغ الالتفات المنحرفة عن النسق الأصلي بأنَّها أقوى وأبلغ؛ لأنَّ شجاعة اللغة وحريتها في التعبير تعْني قدرتها على أنْ تقبل أيَّ شيء متاح، وتنحية أيِّ شيء، من أجْل تحقيق معانيها، ولا سيَّما في قانون اللغة الأدبية/ لغة الفن، التي تُتيح لمنشئ الخطاب أن يتجاوزَ حدود الأشكال المعيارية للُّغة وقواعدها المطَّردة، ويُحدِث أشكالاً شخصية من التعبير وفقًا لحدسه الإبداعي.

3- يتعلَّق الأسلوب العدولي إذًا - من الناحية الاصطلاحية - بما يجرِي في حدود الخطاب الأدبي من انحراف في النسق اللُّغوي، أو اختراق له بنسق لُغوى آخر لا يطَّرد معه، والدافع إلى هذا الانحراف أو الاختراق مِن جانب منشئ الخِطاب إنما هو دافعٌ معنوي صرْف؛ لذلك ينتفي في حالة العدول أن يقال: إنَّ منشئ الخِطاب قد لجأ إليه لمجرَّد أنه ضرب من التنويع في الأسلوب يُروِّح به عن نفس المخاطَب، حيث يبدو الخِطاب العدولي مُركَّزًا في أصغر حيِّز كلامي ممكن له، وحيث تنتفي مع هذا الحيِّز فكرة المراوحة، ومِن ثَمَّ لا يتعلَّق الأسلوب العدولي بسيكولوجية التلقِّي - أي: القوْل بالترويح عن النفس - بل الأوْلى أن يكون متعلِّقًا بالهدف الخِطابي على مستوى الإقناع والإمتاع.

4- إن الصيغة المنحرفة (المعدول إليها) قد تنتج معنى في سياق، وتنتج ضده في سياق آخر؛ ومن ثم تتأكد حقيقةٌ على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية عند تحليل الخطاب، مؤداها أنه ليس هناك تراتب في القيمة بين صيغ الخطاب الثلاث المسندة إلى الضمائر المختلفة أو إلى أزمنة الفعل المختلفة، فليس لواحدة من هذه الصيغ في ذاتها قيمة ثابتة ترجح بها غيرَها؛ لأن العدول من زمن إلى زمن يتعلق بالمعنى، وما دام المعنى مجاوزًا بطبيعته التصنيف الزماني، كان طبيعيًّا أن يخترق "الأسلوب العدولي" نسق الزمن المطَّرد، ويصبح الزمن كله - ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً - زمنًا واحدًا، يتحرَّك فيه في حريةٍ تامَّة، وبكل مرونة، كما تَحرَّك بين ضمائر الفاعلين بالحرية والمرونة نفسيهما.

5- إنَّ انتقال الخِطاب في النص القرآني من صيغة إلى أخرى، أو مِن ضمير إلى آخر، أو بأيِّ صورة من صور العدول التي سبق أن عرضْناها؛ إنما الهدف من العدول فيها - في المقام الأوَّل - محكوم بـ"المقصد المعنوي" الذي يكمن في إعجازه وعجائبه، والذي جَعَل لإحدى الصِّيغ في سياقٍ ما رُجْحانًا على غيرها في تحقيق هذا المقصِد، وكل أداة أو صيغة - مهما صغرت حجمًا - وأوثر العدول إليها عن غيرها؛ فذلك لأنَّها تؤدِّي مهمَّةً لا يمكن تهميشها بحال من الأحوال.

6- إنَّ الأسلوب العدولي - لا سيَّما في النص القرآني - من الأساليب التي تتَّسع فيها الاحتمالاتُ، وتتنوَّع الأنماط، والاتِّساعُ والتنوُّع يرجعان إلى طبيعة التفكير والتأمُّل، وما يصحب ذلك من تنوُّع زوايا النظر؛ إذ ليس من المعقول أن ينكشِف المعنى في الأسلوب العدولي لكلِّ متأمل بصورة واحدة لا تتغيَّر.

7- إنَّ تأمُّل العدول في حاجةٍ من صاحبه إلى خِبرة واسعة لإدراك التوفيق بين الصِّيَغ المتغايرة، أو الأساليب الرفيعة، أو البِنَى المتغيِّرة بالزيادة أو الحذْف، أو التقديم والتأخير، أو التعريف والتنكير، أو مراعاة المناسبة، أو إيثار لفْظَة معيَّنة على غيرها من مرادفاتها، أو مخالفة مرسوم الخطِّ القرآني، إلى غير ذلك من أنماط العدول التي تَنِدُّ عن الحصر، وليس في مقدور باحِث حصرُها، ولا الكشْف عن أسرار كلِّ نمط منها إلا بمقدار ما يفتح الله له، ويُهيِّئ له من أدوات التعامل مع النصِّ القرآني، ولا يزال عطاءُ القرآن مستمرًّا برغم اختلاف الزمان والمكان والظروف؛ لأنَّ فيه من الخصائص وأوجه الإعجاز ما يجعله قادرًا على استثارةِ العقول في مختلف العصور، ومَنْجمًا يُستخرَج منه كثيرٌ من النفائس.

8- تتحدَّد الوظيفة التعبيرية/ الجمالية لأيِّ عدول تبعًا للسياق الذي يَرِد فيه؛ لأنَّ العدول - كما سبق أن ذكَرْنا - يتعلَّق بشكل أساسي بالمقصد المعنوي، والسِّياق هو الحارس الأمين على المعنى.

9- ومن نافلة القوْل أن نذكر أنَّ النظم القرآني لم يعدل عن مقتضى الظاهِر في التركيب اللغوي مراعاةً للفاصلة دون مراعاةِ المعنى، ولكن يجب أن نعلم أولاً - وقبل كل شيء - أنَّ المعنى هو الذي فَرَض هذا العدول عن المقتضى، وكانت موسيقا الفاصلة نتيجةً من نتائج الوفاء بالمعنى، إذًا فلا عجب أن يُراعِي القرآن ذلك الجانب المؤثِّر؛ لأنَّه نزل بلغة العرب، وجرَى على ما يَستحبُّ العرب من موافقة المقاطع، ومراعاة التناسب.

ولهذا أتتْ لغة القرآن محافظةً على ذلك التناسب الصوتي، في كلماته وجُمله، ومقاطعه ومفاصله، ببعض الترخيصات اللُّغوية؛ كالحَذْف أو الزيادة، أو التغيير في بِنية الكلمة، وببعض صور العدول عن الأصل؛ كتقديم كلمة، أو تأخير أخرى، أو إيثار صِيغة على أخرى، ممَّا يثبت أنَّ العطاء الموسيقيَّ مراعًى بجانب العطاء اللغوي، وموضوع في مقابله، وكأنَّ للحفاظ على التناسب الصوتي في القرآن قيمةً أكبر من الحفاظ على بعض العلاقات الجُزئية ما دام الترخُّص فيها لا يُشكِّل غموضًا أو الْتباسًا، أو إخلالاً بالمعنى والذَّهاب ببلاغته.

والقرآن الكريم حافلٌ بالأساليب العدولية التي تَحُلُّ فيها علاقة عقلية أو فنية محلَّ العلاقة الأصلية العُرفية، فيؤول الكلام إلى أحد الأساليب البيانيَّة العدولية (وكل أساليب البيان عدولي).

10- وخلاصة القول: أرى أنَّ الأسلوب العدولي باعتباره ظاهرةً مميزةً للخِطاب الإبداعي، إنما هو - أساسًا - دَربٌ من التحرير لغاية توفِيرِ أكثرِ ما يمكن من ضمانات تعدُّد القراءة، وفي رأيي أنَّ ربْط ظاهرة العدول بفِكرة القراءة يمكن أن يُفيدَنا في تعميق القضية، وفي دَرْسها، وفي فَهْم تخصُّصها بالنصوص الإبداعية.

[1] يُنظر: "في غريب القرآن"؛ لابن عزير (ص: 315)، تح/ محمد أديب جمران، دار ابن قتيبة دمشق، 1995.

[2] "المثل السائر" (1/176-178).

[3] يبدو أنَّ الرافعي متأثِّر في ذلك بابن عطية (ت542ه) في "المحرر الوجيز"، حيث يقول: "لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم توجد"؛ "المحرر الوجيز" (1/57).

[4] "تاريخ آداب العرب" (2/230-231).

[5] "البيان في روائع القرآن" (288).

[6] "مفردات الراغب" (ص: 480).

[7] "تفسير النيسابورى" - على هامش الطبري - (30/162، 163) (بتصرف)، ويُنظر: "غريب القرآن"؛ لابن عزير (ص: 201).

[8] وردت نحو مائة وعشرين مرة في مقابل خمس وعشرين مرة للنار في الدنيا حقيقة أو مجازًا.

[9] "التفسير البياني" (2/175-177) (بتصرف).

[10] د/ مصطفى محمود: "القرآن" (ص: 255).

[11] مصطفى محمود: "القرآن" (ص: 256).

[12] "الفتوحات الإلهية" (1/232).

[13] "تفسير الشعراوي" (2/831)، ويُنظر: "التحرير والتنوير" (1/214).

[14] "دلائل الإعجاز" (ص: 39).

[15] "ثنائية الشعر والنثر في الفكر النقدي" (ص: 381).

[16] الزركشي: "البرهان" (1/379)، والزرقاني: "مناهل العرفان" (1/378).

[17] الزركشي: "البرهان" (1/390).

[18] "تحليل الرسم القرآني" دراسة عرضها د/ أحمد إبراهيم البعثي، أهرام الجمعة 10/12/2000.

[19] راجع في ذلك "البرهان في علوم القرآن" (1/389، 390).

[20] "الكشاف" (4/392).

[21] "الكشاف" (4/392).

[22] "الكشاف" (4/392).

[23] "الانتصاف من الكشاف" (4/392).

[24] الكرماني: "البرهان" (ص: 307)، وراجع: "بصائر ذوي التمييز" (1/548، 549).

[25] راجع: برنامج قالون - الإصدار 1.0 - رمضان 1421 هـ.

[26] "البرهان" (1/417)، وينظر: "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" (ص: 78).

[27] "البرهان" (1/427)، وينظر: "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" (ص: 75، وما بعدها).

[28] راجع: برنامج قالون - الإصدار 1.0 - رمضان 1421 هـ، وانظر: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" - مادة (ب س ط).

[29] "البرهان" (1/429)، 430 (بتصرف).












رد مع اقتباس
قديم 2012-12-26, 01:56   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
« أبْجَدِيَّاتْ »
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي

وعليكِ السَّلام وَ رحمةُ الله ..

هُنا :

https://www.djelfa.info/vb/showpost.p...21&postcount=2










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
♣~ أدب عربي, لِمُسَاْعَدَتِيْ, فَهَلُمُوْا, ~♣أَحْتَاْجٌكٌمْـ


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 01:21

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc