الى محبي الروايات - الصفحة 3 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > قسم الإبداع > قسم القصة ، الرّواية والمقامات الأدبية

قسم القصة ، الرّواية والمقامات الأدبية قسمٌ مُخصّصٌ لإبداعات الأعضاء في كتابة القصص والرّوايات والمقامات الأدبية.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

الى محبي الروايات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2015-06-21, 12:40   رقم المشاركة : 31
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل السابع عشر
الخدعة

ما إن أصبحا وحيدين داخل الشقة .. حتى انتزعت أماني نفسها انتزاعا من بين ذراعي هشام .. وابتعدت عنه وكأنه يحمل فيروسا معديا .. قالت بجفاف :- ما الذي تفعله هنا ؟
لوى فمه بابتسامة ساخرة وهو يقول :- ليس هذا هو الشكر الذي توقعت أن أناله بعد إنقاذي لك من الموقف المحرج الذي وجدتك فيه
قالت بعصبية :- لم أكن بحاجة لمساعدتك
:- ولكنك لم تترددي في مجاراتي لخداع ابن عمك .. متلهفة للخلاص منه
آخر ما تريده أماني هو مناقشة مشاكلها مع هذا الرجل .. فزفرت قائلة وهي تغير الموضوع :-
:- أظنني قد قمت بما طلبته مني وغادرت منزل خالك وبسرعة .. صحيح ؟
رد بهدوء :- هذا صحيح
:- إذن ما الذي تريده بعد يا سيد هشام ؟ كيف عرفت عنواني على أي حال ؟
:- سمر هي من أطلعني على العنوان بعد أن طلبته منها
حدقت فيه بتوتر :- ولماذا طلبته ؟ ما الذي تريده مني ؟
اشتم رائحة الخوف في صوتها فعبس قائلا :- ما أريده هو الاعتذار إليك
ارتسمت الريبة على وجهها وهي تردد :- تعتذر .. عن ماذا ؟
قال بحزم :- لأنني أسأت الحكم عليك .. وعاملتك بطريقة غير متحضرة خلال لقائنا الأخير في شقة سمر
بدا عليها الارتباك من اعتذاره المفاجئ .. بطريقة ما لم يبد لها من النوع الذي يتراجع عن موقفه ويعترف بخطأة بسهولة .. ما الذي غير رأيه ؟
سألته بحذر :- ما الذي أخبرتك به سمر بالضبط ؟
راقب كيف بدأت ملامحها بالتغير أثناء حديثه :- كل شيء .. عن السبب الحقيقي الذي دفع والدك لحرمانك من الميراث .. والمشاكل التي تعانينها معه منذ سنوات
شعرت بالدماء تغلي في جسدها وهي تصيح بغضب :- لم يكن من حقها إخبارك .. لقد طلبت منها أن تبقي الأمر سرا
قطب فجأة قائلا :- هناك شيء يحترق
تسللت رائحة احتراق المعدن إلى أنفها فصاحت بجزع :- إبريق الشاي
كما توقعت .. وجدت فور دخولها إلى المطبخ أن محتوى الإبريق قد تبخر تماما.. وبدأ المعدن بالالتواء والمقبض البلاستيكي بالذوبان بفعل الحرارة .. أطفأت النار ورفعت الإبريق بقطعة قماش سميكة .. وألقته في الحوض .. وقد عرفت بأن نهاية الإبريق الحتمية هي سلة المهملات
تأملت الفوضى التي تسببت بها بسهوها بحسرة .. لا شراب ساخن هذا المساء .. سمعت هشام يقول من خلفها :- هل تحتاجين لأي مساعدة ؟
استدارت لتكتشف لحاقه بها إلى المطبخ .. بدا أكثر ضخامة وهو واقف عند الباب الضيق .. أحست أماني بأن مساحة المطبخ الصغيرة أصلا قد تقلصت .. حتى أنها لم تعد قادرة على التنفس .. كان ينظر إليها بعينين ضيقتين يتفحص اضطرابها .. والطريقة التي أخذت تنظر بها حولها وكأنها فأر علق في مصيدة .. تذكر فجأة رد فعلها الخائف عندما حاصرها منذ أسابيع في شقة خالته وكادت تفقد صوابها .. فتراجع خارجا من المطبخ وهو يقول بانزعاج :- لم لا نعود إلى الصالة لنتابع حديثنا .. أعدك بأنني لن أتهجم عليك إن كان هذا ما يخيفك
تمتمت بحرج :- لم .. أفكر بهذا
ولكنها فكرت به .. كما تفعل عادة كلما جمعها مكان واحد برجل غريب .. أجبرت نفسها على التزام الهدوء والتصرف بصرامة على الأقل حتى تعرف هدف زيارته
لحقت به إلى الصالة فوجدته جالسا بارتياح في انتظارها على الأريكة القديمة
قالت بتكلف :- اعذرني لعدم استطاعتي تقديم شيء لك كضيافة .. فكما رأيت بنفسك .. أفسدت الإبريق الوحيد الذي أمتلكه
رفع رأسه قائلا بحزم :- لم آت إلى هنا لأختبر ضيافتك يا أماني .. بل لأتحدث .. وسأبدأ بموضوع سمر.. أرجو ألا تغضبي منها لإفشائها أسرارك .. ولكنها كالعادة لم تحتمل رؤيتي أخطئ دون أن تصحح لي خطأي
جلست أماني متردة فوق مقعد بعيد وهي تنظر إليه بحذر فأكمل :- لقد أخبرتني عن معركتك الطويلة مع والدك التي استمرت لسنوات .. وصمودك الشجاع في وجه معاملته السيئة لك كي تقبلي الزواج برجل لا تريدينه .. أخبرتني عن قطعه المال عنك و .....
قاطعته بكبرياء :- أنا من رفض أخذ المال منه
ارتسمت شبه ابتسامة على شفتيه وهو يقول :- وهل يشكل هذا فارقا ؟ في الحالتين أنا أخطأت في حقك مرارا .. وأهنتك متهما إياك بالفساد والدلال والجري خلف المال .. بينما كنت تكافحين لكسب لقمة عيشك بجهدك الخاص .. من النادر أن تمتلك فتاة ولدت ثرية القوة والشجاعة لفعل هذا
أحرجها ثناءه وبدا غريبا لصدوره منه بالذات .. عرفت فجأة بأنها كانت تكره بشدة رأيه السيء بها .. تمتمت بخفوت :-
:- أي فتاة كانت لتفعل المثل في ظروف كتلك التي واجهتني
:- أي فتاة كانت لتستسلم بالزواج من رجل يمتلك فعليا كل ما تحتاج إليه من مال ومكانة بدلا من مغادرة المنزل الذي ولدت فيه .. والاضطرار لمواجهة العالم القاسي وحدها والإقامة في مكان كهذا
نظر إلى تفاصيل الشقة الفقيرة .. فشعرت بالحرج والحاجة لأن تقول :- لم أستطع إيجاد مكان أفضل خلال وقت قصير
أطل الندم من عينيه القاتمتين وهو يقول بخفوت :- أعتذر لأنني أخرجتك من شقة سمر بتلك الطريقة الفظة
هزت رأسها وقد استيقظ كبريائها من جديد :- كل ما فعلته هو تعجيل المحتوم .. الوضع ليس سيئا كما يبدو .. ليست الشقة بالمستوى الذي اعتدت عليه ولكنها مريحة
لم يظهر عليه أنه صدقها .. بل شمل المكان بنظراته مجددا ثم قال مغيرا الموضوع :- ما الذي أراده ابن عمك منك بعد موقفك الصريح الرافض منه ؟
تمتمت بفتور :- جاء ليطمئن علي
أعاد ظهره إلى الخلف قائلا بسخرية :- كنت لأصدقك لو لم أر نظرة الاستغاثة الصامتة في عينيك لحظة فتحت الباب لي .. من حقي أن أعرف سبب استجابتك لكذبتي على ابن عمك
أسبلت عينيها وتساءلت عن ردة فعله لو أخبرته الحقيقة .. بأن وجودها مع صلاح في مكان واحد يعني تهديدا لإحساسها .. وكبريائها وحريتها .... وحتى شرفها
شيء ما أكد لها بأنها تستطيع منح هشام بعض الثقة رغم أنه كان منذ ساعات فقط ثاني أكره شخص لديها .. ولكن مساعدته ثم اعتذاره الصادق غيرا شيئا في نظرتها إليه .. ولم تعرف إن كان هذا جيدا أم سيئا
تمتمت أخيرا :- جاء آملا أن يجدني أعاني في الطريق الوعر الذي اخترته لنفسي .. وليؤكد لي بانني أضيع وقتي وجهدي هباء
سألها بهدوء :- وهل هذا صحيح ؟
لأول مرة .. تركت إرهاقها يظهر بوضوح عبر زفرة قوية انطلقت من أعماقها ثم قالت باكتئاب :- لا أعرف .. إنني أبذل جهدا كبيرا الآن لأستقل في مدينة لا تعترف باستقلال المرأة .. وما عليه إلا أن يقف متفرجا حتى يتمكن المجتمع مني .. وعندها لن أجد غيره ليتلقفني . . هذه كانت خطة والدي الذي وضعها قبل وفاته .. لقد عرف بأنني لن أتقبل شروطه ببساطة ... وهكذا سيكون علي أن أعاني من ويلات الواقع وصفعاته قبل أن أستسلم .. لطالما كان مقتنعا بأنني لن أعتدل إلا بضربة على الرأس
أدركت بأنه يراقبها بهدوء .. وعينيه الثاقبتين تلاحظان بدقة رعشة جسدها وهي تتكلم .. هزت كتفيها قائلة باكتئاب :-
:-إنني واقعية فقط .. لا فائدة من خداعي لنفسي
:- لماذا ترهقين نفسك إذن ؟ لم لا تتزوجين به ؟ .. إنه ابن عمك أولا وأخيرا .. سيحميك ويمنحك ما تحتاجين إليه من رفاهية وأمان
قالت بحدة مفاجئة :- آخر ما أتوقع الحصول عليه من صلاح هو الحماية والأمان
أحست بتوتر جسده وهو يقول :- ماذا تقصدين ؟
هذا ما كان ينقصها .. أن تحكي لهذا الرجل عن تاريخها الأسود مع صلاح.. قالت بعنف وهي تقف :- لماذا يجد الناس صعوبة في تقبل فكرة رفضي للزواج من رجل لا أحبه ؟ إنه ابن عمي .. ولكنني لا أرغب في الزواج منه
قال بصرامة :- هل لمشاعرك هذه علاقة برجل آخر ؟.
نظرت إليه باستنكار :- هذا ليس من شأنك.. ولكن حتى أرضي فضولك سأخبرك بأنني أرفض الزواج بصلاح .. وغير صلاح
هز رأسه متفهما :- أنت كارهة للزواج إذن
قالت ساخرة :- ليس من الغريب أن تتفهم هذا .. فقد سمعت بأنك مضرب عن الزواج بدورك .. أم أنك كغيرك تجد هذا متاحا للرجال وليس للنساء
قال بحزم :- أعرف الكثير من النساء اللاتي رفضن الزواج .. ولكن أسبابهن كانت مقنعة
قالت بخشونة :- تأكد بأن أسبابي مقنعة تماما
ساد صمت ثقيل للحظات التقت خلالها أعينهما .. كان ينظر إليها من مكانه وقد علا وجهه تعبير غير مفهوم .. فأحست برجفة توتر مفاجئة .. وتمنت أن يرحل سريعا ويتركها وحدها
نهض واقفا وكأنه قد قرأ أفكارها :- أظن بأن ابن عمك لن يزعجك بعد الفصل المسرحي الذي قدمناه له معا ... أليس كذلك ؟
أطلقت ضحكة قصيرة جافة وهي تقول بتهكم يائس :- لا تكن متأكدا .. أنا أعرف صلاح .. سرعان ما سيعود عندما يعرف بأن قصة خطوبتنا ملفقة وغير صحيحة .. ولكنه سيعود أكثر غضبا وتصميما ولن يردعه شيء هذه المرة
ارتعشت وقد تذكرت تحذيره السابق من تورطها مع رجل آخر .. أحست بخوف كبير ظهر في عينيها دون أ، تدري .. وبعد دقائق من الصمت قال هشام بهدوء :-- ليس من الضروري أ، يعرف الحقيقة
أجفلت غير متأكدة مما سمعته ثم قالت بحذر :- ماذا تقصد ؟
:- أقصد أنه لن يعود إذا وجد بأن خطوبتنا حقيقية .. ومعلنة أمام الجميع
تراجعت إلى الخلف مصدومة وهي تقول :- لا يمكن أن تكون جادا .. أنا لا أريد أن أتزوج بك
استحال هدوءه إلى جفاف وهو يقول :- أنا أفوقك رفضا لهذه الفكرة .. ولكنني لم أتحدث عن زواج
قالت بعصبية وهي تلوح بيديها نافذة الصبر :- هلا تحدثت مباشرة عما تعنيه ؟
:- أعني خطوبة مؤقتة .. نعلنها أمام الناس ونتصرف على أساسها حتى يقتنع ابن عمك بأنه قد خسر ويتركك بحالك
نظرت إليه بريبة وقد فاجأتها الفكرة .. نظريا .. كانت فكرته لامعة وكفيلة بإبعاد صلاح عنها .. ولكن مجرد التفكير بأي ارتباط بهذا الرجل بعث في جسدها قشعريرة فسرتها فورا على أنها رفض وازدراء
كان يقف أمامها طويلا شامخا .. ما يزال يرتدي ملابس العمل الأنيقة التي لم تخفي تكوين جسده الضخم القوي .. وقد عقد ساعديه أمام صدره العريض في انتظار ردها .. ولسبب ما شعرت بالخوف منه .. هذا الرجل بحد ذاته يشكل عليها خطرا غامضا لا تستطيع فهمه .. تمتمت أخيرا :- لماذا قد تفعل هذا لأجلي ؟
هز كتفيه بلا مبالاة قائلا :- ليس بالشيء الكثير .. فكما سبق واستنتجت .. أنا لا أفكر بالزواج قريبا .. ولن يشكل الأمر مشكلة بالنسبة لي .. ولا تنسي بأنني الشخص الذي ورطك بالفكرة منذ البداية
ثم نظر إلى عينيها وقال:- كما أنني أدين لك بالمساعدة بعد الطريقة التي عاملتك بها
إذن .. فهو شعور بالواجب والشفقة .. شمخت بأنفها قائلة :- لا أحتاج إلى أي مساعدة منك
زفر بقوة وقد نفذ صبره .. ثم قال بحدة :- سأتركك إذن لتواجهي ابن عمك وحدك .. ولنرى كيف ستساعدك كبريائك
تجاوزها تجها نحو الباب.. فشعرت بالذعر .. فرغم امتعاضها وحذرها منه .. إلا أنه منحها بمساندته إحساسا بالأمان .. وهي لا تريد فقدان هذا الإحساس .. صاحت من خلفه :- لا تذهب .. أرجوك
التفت ينظر إليها من فوق كتفه إلى كيانها المرتبك .. فجلست على الأريكة لتهرب من نظراته قائلة بيأس :- لا أستطيع مواجهة صلاح وحدي .... أنا ....
أغمضت عينيها للحظات كي تستجمع شجاعتها ثم أكملت :- أنا أحتاج إلى مساعدتك
ظل جامدا مكانه دون حراك .. فظنت بأنه سيتجاهلها ويتابع طريقه نحو الباب .. ولكنه استدار نحوها قائلا بجفاف :- في هذه الحالة .. توقعي زيارة قريبة من والدتي
رفع ترأسها مصدومة وقالت :- ماذا ؟ .. ولماذا تزورني ؟ .. ظننت بأن هذه الخطوبة ستكون زائفة
:- هذا ما سيعرفه كلانا .. أما أمي .. فهي لن تعرف هذا أبدا .. يجب أن نتبع جميع الخطوات التقليدية وبشكل طبيعي كي لا نثير الشكوك .. وأمي يجب أن تصدق بأن هذه الخطوبة حقيقيو .. لأنها لن تتقبل بعد كل هذا الإضراب عن الزواج أن أتورط في تمثيلية لا نفع لي منها
قالت بصراحة :- سترفض في كل الأحوال .. لن تقبل ارتباطك بي في الوقت الذي تستطيع فيه الزواج من أفضل فتيات المدينة
عقد حاجبيه واقترب خطوتين وهو يقول بحدة :- وما الذي يعيبك أنت ؟
نظرت إليه بمزيج من المرارة والحزن .. ثم قالت بانفعال :- أنت تعرف بالضبط ما يعيبني .. لقد كنت أول من حكم علي من خلال موقف أبي مني .. و الآن بعد أن عرفت المدينة كلها .. فإن الجميع يتحدثون عني ويتساءلون عن الأسباب التي دفعت أبي لحرماني من الميراث .. وأمك لن تكون مختلفة .. لن ترضى بارتباط اسم ابنها الوحيد بفتاة مثيرة للشكوك .. لن تكون أما طبيعية إن فعلت
رفعت رأسها إليه ورسمت على شفتيها ابتسامة مرارة وهي تقول متهكمة :-
:- كما ترى .. لست مخيرة في رفضي التام للزواج .. لن يقبل رجل محترم الزواج بفتاة سيئة السمعة وتعيش وحيدة في هذا المجتمع المتحفظ .. ربما علي اختصار الجهد والوقت .. والقبول بما يعرضه علي صلاح مهما كان كرهي له شديدا
رغم محاولتها الاحتفاظ بالهدوء والواقعية أثناء حديثها إلا أن صوتها قد تهدج في النهاية عندما سرت رعشة اشمئزاز في جسدها .. مما أظهر مقدار التعاسة التي تبذل جهدا خرافيا لإخفائها عن الآخرين .. ولكنه تمكن من ملاحظة الدموع الحبيسة في عينيها .. فقطع المسافة بينهما ببطء.. وجلس إلى جوارها .. فانكمشت على نفسها .. وقد أربكها قربه .. ولكنه لم يكن ينظر إليها .. بل كان شارد الذهن وقد استغرق بالتفكير .. رائحة عطره المميزة كانت واضحة هذه المرة .. وبالرغم من الضيق الذي تثيره فيها روائح العطور .. إلا أن انجذابا مفاجئا أثار ذعرها نحو رئيسها الذي كرهته دائما .. فكرت بالقفز مبتعدة عنه .. ولكنها ستظهر نفسها أمامه مجددا كالحمقاء المذعورة .. فسيطرت على ارتعاش جسدها وأقنعت نفسها بأن حالتها النفسية السيئة وأزمتها الحالية تصوران لها أشياء لا وجود لها ..
قال هشام فجأة قاطعا استغراقها في تحليل مشاعرها :- بالرغم من كل ش**** السابقة بك يا أماني .. فلطالما ظننت بأنك فتاة شجاعة وقوية .. تعرف جيدا ما تريده وتسعى إلى تحقيقه بعزم .. رغم ظروفك السيئة .. لم تفقدي ثقتك بنفسك وكنت دائما الفتاة الذكية والأنيقة والمتألقة .. مما أثار داخلي احتراما وتقديرا كبيرين لك .. ليس من العدل أن تفقدي كل ما لديك إرضاء لكلام الناس
نظرت إليه بحيرة .. أهكذا يراها حقا ؟ لم تتخيل أنها قد تسمع منه كلمات الإطراء يوما .. ولكنه يعيد إليها ثقتها بنفسها وشجاعتها بكلماته .. أكمل بهدوء :- بالنسبة لأمي قد تكونين محقة .. ولكنني واثق بأنها ستتفهم ظروفك وتقدرك كما أفعل أنا .. فهي أكثر من يعرف ما تعانيه المرأة الوحيدة في مواجهة المجتمع
تذكرت أماني ما أخبرتها به سمر عن والدته .. لطالما تمنت أن تقابل تلك المرأة المناضلة ولكن لقائها في هذه الظروف يخيفها كثيرا
قال هشام :- لقد رفضت بدورها الزواج مجددا بعد رحيل زوجها .. ولم يفهمها المجتمع .. ولكنها فضلت العناية بأبنائها والاعتماد على نفسها بدلا من الخضوع مجددا لسيطرة إنسان آخر يستغل مشاعرها وحاجتها إليه
لاحظت كيف تكلم عن والدته بصفته زوج والدته .. وأحست خلف كلماته بمرارة الذكرى .. فقالت بتردد:-
:- أهذا سبب رفضك للزواج ؟ كي لا تمنح امرأة امتياز السيطرة عليك من خلال مشاعرك ؟
أحست بجسده الضخم يتصلب .. وعلا وجهه انزعاج غاضب وهو يقول:- نحن نناقش حياتك أنت لا حياتي
نظر إليها فوقع بصره على أثر الجرح في جانب وجهها الأيسر .. تأمله صامتا وقد تراقص تساؤل في عينيه .. ارتبكت وأسرعت تتخلل شعرها بأصابعها وتسقطه فوق الجرح لإخفائه .. قال متأملا :-
:- ما أعنيه من هذا الحديث هو أنك لست مضطرة للقلق بشأن أمي .. قد تحتج في البداية كأي أم .. ولكنها ستفهم في النهاية .. ستتغلب عليها رغبتها في رؤيتي متزوجا
قالت بقلق :- ماذا عن ردة فعلها عندما ننهي الخطوبة ؟ ألن يزعجها هذا ؟
لوى فمه قائلا:- سيزعجها قليلا .. ولكن هذه الأمور تحدث .. سنختلق شجارا أو اثنين .. ثم ندعي بأننا لم نتفاهم
تمتمت :- أنت تسهل الأمر كثيرا
سقطت يده فوق يدها فجأة .. لتجفلها بملمسها الخشن والدافئ .. نظرت إليه باضطراب فقال مؤكدا :- ستنتهي الأمور بخير .. ولن يزعجك ابن عمك مجددا .. أنا أعدك بهذا
حزمه وهو يعدها بدعمه جعلها تشعر بالأمان والسكينة .. ولكنها لم تستطع تحمل لمسته أكثر ..فسحبت يدها بهدوء قائلة :- أشكرك .. أشكرك حقا على مساعدتك لي
منحها ابتسامة جانبية باهتة وهو يمسح وجهها بنظرات مبهمة .. ثم وقف قائلا :-
:- وفري شكرك حتى النهاية .. فنظرة ابن عمك أثناء خروجه من هنا أوحت إلي بأن الطريق أمامنا لن يكون سهلا
وقفت بدورها وهي تقول بتشكك :- سيد هشام .. أكرر بأنك لست مضطرا للتورط في هذه المشكلة .. لا أريد أن .....
قاطعها بحركة من يده وهو يقول بسلطته المعهودة :- لا أريد سماع المزيد من النقاش حول الموضوع .. غدا صباحا سأراك في مكتبي لأعلمك بموعد زيارة والدتي
ثم غادر شقتها تاركا إياها وحيدة .. تسترجع كل كلمة تبادلاها .. وتساءلت إن كانت محقة في منحه ثقتها .. فلطالما كان لئيما معها .. وموقفه المساند لها يبدو غريبا وغير مفهوما .. فما الذي يدفعه لمساعدتها ؟
أهي غريزة الحماية التي حدثتها عنها سمر ؟
أم شعور بالذنب لمعاملته السيئة لها ؟.. أم الشفقة بعد أن قرأ الخوف في عينيها من المستقبل؟
في جميع الحالات هي مسرورة لأنها لم تعد وحيدة في مواجهة صلاح .. ولأنها قد عقدت هدنة ولو مؤقتة مع رئيسها في العمل .. ولكنها بطريقة ما .. تشعر بأنها تتورط مع رجل قد يشكل عليها خطورة أكثر مما يفعل صلاح
خطورة من نوع آخر









 


رد مع اقتباس
قديم 2015-06-21, 12:41   رقم المشاركة : 32
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الثامن عشر
ضــائعة

لم تكن جودي تستمع حقا إلى ما يقوله طارق أثناء عودتهما بسيارته إلى بيتها بعد الأمسية الكارثية التي قضتها مع عائلته .. حاولت ألا تتذكر تفاصيل الوقت المزعج الذي مر بها هناك ولكنها لم تستطع .. لقد كانت أماني محقة عندما قررت بأن حماتها ستنتهز أقل فرصة لتظهر جانبها الأرستقراطي اللئيم .. فهي لم تتوقف عن التحدث عن أماني بلهجتها المهذبة المبطنة بالازدراء والاستنكار .. ملمحه بخبث عن السبب الغامض الذي دفع أماني لرفض الزواج من صلاح
عندها لم تستطع جودي منع نفسها من فعل ما قررت ألا تفعله .. وهو التصريح بخطوبة أماني لهشام عطار
ظهر الذهول على حماتها .. وبدا طارق مصدوما .. لا تستطيع لومهما إن كانت هي ماتزال غير قادرة على تصديق الخبر الذي أبلغتها إياه أماني صباح هذا اليوم
صاحت بها لحظتها مذهولة :- هل جننت ؟ أنت لا تطيقين هشام عطار
قالت أماني بفتور :- لقد سبق وأخبرتك بأنني أفضل الموت على الزواج من صلاح .. والزواج من هشام عطار لن يكون أسوأ من الموت
تعرف جودي تماما مدى يأس أماني وقلقها من مطاردة صلاح لها .. ولكنها تمنت لو أن أختها لا تكون جادة بقرارها هذا
قاطع طارق أفكارها وهو يخترق ظلام شوارع المدينة الهادئة بسيارته متسائلا :- هل قصة خطوبة أماني تلك حقيقية أم أنك اختلقتها لإسكات أمي يا جودي ؟
قالت جودي بضيق من شكوكه :- ما كنت لأذكرها لو لم تكن حقيقية
:- لماذا لم تخبريني بها من قبل؟
:- أنا نفسي لم أعرف بها إلا صباح اليوم من أماني
رمقها بنظرة جانبية سريعة وهو يقول :- وهل تصدقينها ؟
سألته بتوتر :- ماذا تقصد ؟
:- أقصد بأن القصة برمتها ليست منطقية .. ما الذي يدفع هشام عطار بعد كل هذا الإضراب عن الزواج إلى اختيار أماني ؟
قالت بحدة :- وما عيب أماني ؟
قال بواقعية :- لا عيب فيها .. ولكن الناس في المدينة بدأوا يتكلمون عنها .. وأختك ليست ملاك يا عزيزتي .. إنها سيئة الطباع وشرسة .. ما الذي يجبر رجلا كهشام عطار .. رجل الأعمال المعروف .. والذي يعتبر من أثرى أثرياء البلاد .. على الزواج بها ؟
كانا قد وصلا تقريبا إلى منزلها في اللحظة التي فارت فيها الدماء في عروق جودي .. ووجدت نفسها تصيح به بعنف :- :- إن تحدثت عن أماني بهذه الطريقة مجددا .. أقسم بأنك لن تراني بعد الآن .. إياك أن تنسى بأنها أختي وستبقى كذلك مهما حدث .. وإن كان لديك أي اعتراض على هذا .. فمن الأفضل أن تستعيد خاتمك
فتحت الباب عندما أوقف السيارة .. واندفعت نحو البيت .. تغلب على ذهوله بسرعة وقفز من السيارة لاحقا بها .. أوقفها عندما فتحت البوابة .. وأدارها إليه لاهثا وهو يقول :- جودي .. أنا آسف يا عزيزتي .. لم أقصد إغضابك .. إن كان انتقادي لأماني يزعجك فهذا لن يحدث مجددا .. أنت لم تكوني جادة في حديثك عن الخاتم .. صحيح ؟
أغمضت عينيها للحظات محاولة استعادة هدوئها .. طارق لا يستحق منها هذا الانفجار الغاضب في وجهه .. فهي تعرف بان حديثه عن أماني لم يكن السبب الوحيد لتوترها ..فهي قليلة الصبر .. متوترة ..تثور على طارق لأتفه الأسباب منذ دخل تمام إلى حياتها
تمتمت :- بل أنا من يعتذر .. فأعصابي مرهقة منذ أيام .. وقد جعلت منك كبش فداء .. وأنت لا تستحق هذا
نظر إلى عينيها المتعبتين وقال :- ما الذي يرهقك يا جودي ؟تستطيعين الثقة بي وإخباري
نظرت إلى عينيه الصادقتين .. وبحثت عن أي شيء يحرك مشاعرها وينسيها تمام..
ولكن مشاعرها كانت خامدة وجامدة تماما ..لماذا لا يبعث فيعا أي شوق أو عاطفة كما يفعل تمام ؟إنه الرجل الذي ستتزوج به بعد أشهر و تقضي معه ما تبقى من حياتها .. فلماذا لا تستطيع أن تحبه كما تحب تمام ؟
اتسعت عيناها بذهول عندما خطرت لها هذه الفكرة .. لا .. إنها لا تحب تمام .. بل تحب طارق .. يجب أن تحب طارق .. وقبل أن تفكر قالت :- قبلني
ارتد وجهه إلى الخلف .. وظن بأنه لم يسمع ما قالته .. فقال بحذر :- ماذا ؟
هتفت بحدة :- لقد طلبت منك أن تقبلني .. ما الأمر ؟ أنا خطيبتك .. والمرأة التي تحب .. ألم تفكر يوما أو ترغب بأن تقبلني
قال بارتباك :- بلى ولكن ....
قاطعته :- ما الذي تنتظره إذن ؟
تردد للحظات .. ثم أحاط وجهها بيديه .. وعندما التقت نظراتهما .. شعرت بالذعر للخطوة التي قامت بها .. ولكن الأوان كان قد فات على التراجع
أغمضت عينيها في اللحظة التي دنا منها .. ولمس شفتيها .. كانت قبلته رقيقة .. حنون
ولكنها أبعدت رأسها بعد لحظات قليلة .. ونظرت إليه من خلال الدموع التي غشت عينيها لتجده مضطربا .. محتارا من تصرفاتها المتناقضة وغير المتوازنة .. هزت رأسها بضعف وهي تقول :- تصبح على خير
ودون أن تتيح له الفرصة ليقول أي شيء تجاوزت البوابة المعدنية للفيلا وأقفلتها ورائها .. ثم اندفعت تجري إلى داخل البيت حيث ألقت نفسها فوق أول مقعد وجدته أمامها وأجهشت في البكاء الحار .. لقد اتضحت الحقيقة أمامها .. فهي لا تحب طارق .. لم تستطع احتمال قبلته بينما مع تمام ......
أغمضت عينيها بقوة كي لا تتذكر الإحساس الذي انتابها بين ذراعيه .. لقد فقدت عقلها . . ونسيت من تكون .. والمبادئ التي غرسها فيها والدها ..فقدت عقلها وإحساسها وواقعها .. أهذا ما يسمونه بالانجذاب الجسدي ؟
كيف ستتزوج طارق إذا كان هذا النوع من الانجذاب مفقودا بينهما ؟
رباه .. لكم تتمنى أن ينتشلها أحدهم من هذا الضياع .. وينقذها من هذه الحيرة القاسية
كان رنين هاتفها المحمول أشبه باستجابة لدعواتها .. وعندما سمعت صوت ريما .. هتفت بلهفة :-
:- ريما .. يسعدني اتصالك .. أحتاج إلى لقاءك بشدة
وفي الصباح .. وفي أحد المقاهي القريبة من الكلية حدقت ريما في جودي غير مصدقة وهي تقول :- هل قبلك طارق حقا أم أنك تمزحين ؟
قالت جودي بانزعاج :- وأين الغريب في هذا ؟ هل ستدعين بأنك وبشار بعد عام من الخطوبة لم تتجاوزا على الإطلاق مرحلة إمساك الأيدي ؟
هزت ريما كتفيها قائلة :- الأمر مختلف ..فطارق شاب مهذب ورصين .. لا يمتلك وقاحة وجرأة بشار .. كما أنني لا أستطيع تصورك من النوع الذي يسمح لشاب أن يقبله .. حتى لوكان خطيبك
احمر وجه جودي وتساءلت عن ردة فعل صديقتها لو عرفت بقصتها مع تمام .. قالت بعصبية :-
ولكنه حصل .. لقد قبلني طارق ولم أحتمل قربه مني أكثر من لحظات .. مجرد التفكير بحدوث هذا مجددا يثير النفور في نفسي
تمتمت ريما متفهمة :- وهذا يخيفك بشأن علاقتك به في المستقبل .. صحيح ؟ ما يحدث معك طبيعي يا عزيزتي .. أنت فقط لم تتقبلي بعد ذلك الجانب من العلاقة بين الرجل والمرأة.. ومترددة حول مشاعرك اتجاه طارق وهذا يحدث كثيرا في الزواج التقليدي .. ولكن بعد الزواج سيتغير كل شيء .. ستحبينه وتثقين به .. وترغبين بمنحه كل شيء .. كوني واثقة من هذا .. أنت تحبين طارق وتوترك هذا سيزول مع الوقت
كلماتها فعلت العجب بجودي .. هدأت وهي تفكر بأن صديقتها محقة .. ما الذي أصابها بحق الله .. إنه طارق الذي اختارته بنفسها ووافقت عليه بكامل قواها العقلية .. إنها تحبه .. وتثق به ..
وما حدث مع تمام ليس إلا خطأ شنيع يجب ألا يتكرر .. يجب أن تظل بعيدة عنه وعن تأثيره كي تتمكن من إصلاح ما أفسدته مع طارق .. وما هي إلا مسألة وقت قبل أن تخرجه من حياتها نهائيا
رغم الراحة التي أحست بها حول الفكرة .. إلا أن جزءا كبيرا منها عرف بأنها تخدع نفسها وحسب .. وأن ما تأمل به لن يحدث أبدا










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-21, 12:53   رقم المشاركة : 33
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل التاسع عشر
خطبة تقليدية

نظرت أماني حوها قائلة :- ما رأيك الآن ؟
تأملت جودي التغيير الذي حل بالشقة الصغيرة وقالت برضا :- أفضل بكثير.. وتشبه مكانا يقيم فيه البشر
منذ الصباح وهما تعملان معا في التنظيف والترتيب .. وتنسيق قطع الأثاث التي اشترتها أماني بثمن زهيد من متجر للأثاث المستعمل بدلا من القديمة القذرة .. أحضرت جودي معها بضع لوحات وتحف للزينة من المنزل .. قبلت بها أماني على سبيل الإعارة .. على الأقل حتى تمر زيارة والدة هشام بسلام
تابعت جودي :- إذا كانت حماتك المستقبلية مدركة لظروفك الصعبة فهي لن تنتقدك
تمتمت أماني :- أتعشم هذا
فهي كانت قلقة حقا من ألا تكسب إعجاب والدة هشام .. بالرغم من يقينها بأن هذه الخطوبة ماهي إلا مسرحية .. ولكنها تحترم تلك المرأة وتقدرها من خلال ما سمعته عنها .. حتى لو أ، لقاءا لم يجمع بينهما بعد
إخفاء أماني حقيقة زيف هذه الخطوبة عن جودي يزعجها .. ولكنها لن تخاطر بمصارحتها كي لا يزل لسانها أمام صلاح دون أن تدري فتفسد على أماني كل شيء
نظرت جودي إلى أختها وقالت بقلق :- أماني .. هل أنت متأكدة من الخطوة التي تقومين بها ؟
ترددت أماني في الإجابة .. فهي أكثر قلقا من جودي .. تورطها مع هشام قد لا يقل خطورة عن الزواج بصلاح . ولكنها قالت أخيرا بحزم :- بالطبع متأكدة
هنا انفجرت جودي قائلة :- ولكنك تكرهينه .. على الأقل صلاح ابن عمك .. وتعرفينه حق المعرفة ... ستعرفين تماما ما ينتظرك معه .. أما هشام عطار ....
صمتت أماني للحظات قبل أن تقول باقتضاب :- أنا لا أكره هشام عطار
اتسعت عينا جودي بدهشة .. ونظرت إلى وجه اماني الجامد .. ثم همست :- يا إلهي .. هل وقعت في حبه ؟
صدمت الفكرة أماني فصاحت باستنكار :- بالطبع لا
ألقت نفسها على مقعد قريب وهي تقول موضحة لأختها :- لقد تغيرت نظرتي إليه منذ فترة .. اكتشفت مؤخرا بأنه ليس بالسوء الذي ظننته
تذكرت لحظتها ما شهدته من رقة وحنان في تعامله مع سمر .. وغريزة الحماية العالية لديه .. لا .. لم تكذب على جودي عندما صرحت بعدم كرهها له .. ولكن مشاعرها نحوه انقلبت إلى خوف كبير .. وجودي محقة في جهل أماني كل شيء عنه .. إنه أشبه بالبئر العميق الممتلئ بالأسرار.. تذكرت كيف ربت على يدها محاولا بث الاطمئنان في نفسها .. فاقشعر بدنها لذكرى ملمس يده .. وأخفضت عينيها كي لا تلاحظ جودي ارتباكها وقالت :- أنه شخص جيد .. حياته الخشنة والقاسية هي ما جعله ضعيف الثقة في الآخرين وقاسي في معاملتهم
لم تنجح في بث الثقة في نفس جودي التي استعدت لمتابعة النقاش .. إلا أن جرس الباب منعها بصوته العالي الذي دوى في أنحاء الشقة الصغيرة
أحست أماني بقلبها يكاد يقفز من مكانه .. واضطربت وهي تنظر إلى جودي بحيرة
فابتسمت جودي متذكرة التوتر الذي كان يصيبها عند كل زيارة من عائلة طارق فقالت :- ما الذي تنتظرينه ؟ افتحي الباب
قالت اماني بتوتر :- كيف أبدو ؟
تأملت جودي تنورة اماني الطويلة البالغة الأناقة والانوثة والمتناسقة من القميص الحريري الذي عانق صدرها وذراعيها مظهرا تناسق قوامها .. وقالت مشجعة :- رائعة الجمال كالعادة
تأكدت أماني من اختفاء ندبتها تحت خصلات الشعر المنسدلة وهي تقول بفظاظة لتخفي ارتباكها :-
:- كوني مهذبة .. وإياك وذكر اسم صلاح
ثم اتجهت نحو الباب وأخذت نفسا عميقا قبل ان تفتحه
رحبت بتهذيب وخجل بسمر .. والسيدة الأكبر سنا التي بدت وقورة للغاية بحجاب رأسها وملابسها الأنيقة والمحتشمة .. وأطلت من عينيها السوداوين الناضجتين نظرات الفضول والاستكشاف وهي تتأمل اماني بإمعان
دعتهما للدخول والحرج يكاد يأكلها عندما تذكرت رؤيتها السابقة للمرأة خلال جنازة والدها .. وتساءلت بقلق إن كانت قد أساءت الظن بها ذلك المساء كما فعل ابنها تماما
سمر كانت أكثر بشاشة وهي تضم أماني وتقبلها بسرور دون أن تخفي حماسها للخطوبة بعكس أختها التي جلست بوقار تنقل بصرها بين جودي واماني .. ثم تركزه على أماني التي احمر وجهها بتأثير من تعليقات سمر اللاذعة
اعتذرت أماني .. وهربت إلى المطبخ .. وهناك وقفت مستندة إلى الحوض لعدة لحظات محاولة تمالك أعصابها .. ما الذي أصابها ؟لماذا تتصرف كمراهقة يزورها خاطبون للمرة الأولى ؟ لطالما كانت هادئة فب تعاملها مع الآخرين .. فلماذا تشعر بكل هذا القلق والتوتر ... والإحباط ؟
نعم .. لقد توقعت ان يرافق هشام والدته في زيارتها الأولى .. وعندما لم تجده خلف الباب كما توقعت أحست بخيبة امل .. فوجوده كان سيخفف من صعوبة الأمر بالنسبة عليها ... وعلى والدته التي يبدو رفضها للخطوبة واضحا .
ولكن ما الذي كانت تتوقعه ؟ أن يتجاهل أعماله ومشاغله الكثيرة لأجل خطوبة مزيفة ؟
شعرت بالخزي عندما تذكرت بأنها مجرد فتاة أشفق عليها ورغب بمساعدتها في حل مشكلتها .. استيقظ كبريائها فجأة .. ذلك الرجل لا يعني لها شيئا .. إنها تستغله فقط حتى ييأس صلاح من مطاردتها .. ثم ستنساه تماما
لحقت بها سمر إلى المطبخ في اللحظة التي وضعت فيها دلة القهوة فوق الموقد ..سألتها بقلق :- هل أنت بخير ؟
ردت أماني بفتور :- ألا أبدو كذلك ؟
:- لا .. بل يبدو عليك وكأنك فأر علق في المصيدة
نظرت إليها أماني بدهشة فقالت سمر :- أنا أعرفك .. وأعرف بأنك لا تميلين إلى ابن اختي .. ولا تفكرين حتى في الزواج .. وأعرف هشام أيضا .. لو كان يرغب في الزواج بك لفعل منذ 5 سنوات
لم تحتمل أماني ذكاء سمر فقالت بانزعاج :- ما الذي ترمين إليه ؟
نظرت سمر إلى عيني اماني قائلة :- لقد أخبرني هشام بأنك تعجبينه وأنا أصدقه .. فأنت جميلة جدا ويجب ان تنالي إعجاب اي رجل يملك إحساسا .. ولكن ماذا عنك .. هل يعجبك هشام ؟
ارتبكت أماني واحمر وجهها الشاحب .. ثم أشاحت ببصرها هربا من نظرات سمر الثاقبة ثم غمغمت
:- بطريقة ما .. نعم .. يعجبني كثيرا
ثم اجتاحها ذهول كبير عندما اكتشفت بانها لم تكن تكذب .. هشام عطار يعجبها .. متى حدث هذا ؟ وكيف ؟
تأملت سمر نظرات أماني المرتبكة فصدقتها .. واسترخت حواسها وابتسمت قائلة :- الحمد لله .. لقد ظننت هشام يمر بإحدى نوباته الحمائية بعد أن عرف بمشاكلك .. وأنك تستغلينه بدورك لتتخلصي من ابن عمك .. ولكن أي أحد يستطيع أن يعرف الحقيقة من مجرد النظر إليك
ضمتها بقوة وهي تقول بتأثر :- لو تعلمين مقدار سعادتي لأن هشام قرر الاستقرار أخيرا .. وأنك ستجدين السعادة بعد كل التعاسة التي عرفتها في حياتك .. مبارك لك يا حبيبتي
تقبلت أماني عناق سمر دون أن تصحو من ارتباكها .. وعندما تركتها سمر وحيدة في المطبخ حاولت أن تفكر بهدوء .. وتراجع التغير الكبير الذي طرأ على نظرتها نحو هشام
لم الدهشة ؟.. ألم يقف إلى جانبها ويساعدها .. ويضحي بوقته من أجل حمايتها من صلاح
من الطبيعي أن يختفي ازدرائها السابق له وتبدأ بالنظر إليه من زاوية مختلفة ..
ليس هناك مبرر لذعرها .. هشام عطار يعجبها .. كرجل أعمال ناجح وإنسان قوي صلب شاهد الكثير في حياته دون أن يتأثر .. وكصديق كما أظهر لها ذلك المساء الذي عقدا فيه اتفاقهما .. ولكنه لا يعجبها كرجل .. فهي لا تميل إلى الرجل الخشن المجرد من العاطفة
تذكرت فراس فجأة .. الشاب الوسيم المرح .. والعاطفة التي كانت تقطر من كل نظراته وكلماته .. ثم فكرت بمرارة .. بماذا نفعتها حساسيته وعاطفيته سوى بتحطيم قلبها وحياتها ؟
صبت القهوة في فناجين أنيقة أعارتها إياها جودي .. ثم حملت الصينية إلى غرفة الجلوس .. حيث كان حديثا مهذبا يدور بين الموجودين .. توقف الكلام .. و قطبت أم هشام وهي تراقب أماني بعينين حادتين قاسيتين شبيهتين بعيني ابنها
جلست اماني إلى جانب جودي بعد تقديمها القهوة .. ولأول مرة في حياتها تصاب بالخرس فلا تجد ما تقوله لحماتها المستقبلية الزائفة
ولكن السيدة الأكبر سنا لم تنتظر مبادرتها .. بل قالت بصوت هادئ ووقور :- أنت تعملين لدى ولدي إذن
تنحنحت اماني لتسلك حنجرتها وهي تقول :- نعم .. أعمل في شركته منذ خمس سنوات
:- وهل خطبت من قبل ؟
أدهش السؤال اماني التي أجابت حائرة :- لا
فقالت المرأة بحزم :- ما الذي منعه من خطبتك سابقا إذن ؟
هتفت سمر محذرة :- لميس ..
ولكن والدة هشام لم تعرها أي اهتمام .. بل تابعت استجواب كنتها العتيدة :-
:- لن أخفي عنك استيائي الشديد من خطوة هشام .. مع أنني انتظر زواجه منذ سنوات بفارغ الصبر .. ولكنني تمنيت له زوجة من اختياري .. أنا أثق برأي هشام .. ورغم جميع المزايا التي عددها حولك .. وجمالك الواضح الذي يرضي أي حماة .. إلا أنني ما زلت قلقة حول اختياره لك .. لا تسيئي فهمي .. ولكن الناس في المدينة يتحدثون .. وانا كنت موجودة في جنازة والدك
فهمت أماني ما قصدته المرأة بكلماتها المختصرة .. وجمدت للحظات تحدق فيها ببرود حتى ظنت جودي بانها ستنفجر صارخة في أي لحظة
ولكنها قالت أخيرا بهدوء :- أتفهم قلقك يا سيدتي .. ولا ألومك على ظنونك .. ولكن بالنسبة إلى سيدة قديرة مثلك رأت الكثير في حياتها وعانت من ويلات المجتمع .. ألا تجدين بأنك تتسرعين بالحكم علي دون منحي أي فرصة لأثبت لك وللآخرين من أنا حقا ؟
أخذت نفسا عميقا وهي تتابع :- أنا لست كاملة .. لا احد منا كذلك .. وعلاقتي بوالدي كانت مضطربة كما أخبرك هشام بالتأكيد .. قد أكون مسؤولة جزئيا عن شجاري معه .. وربما كان علي بذل مزيد من الجهد في إصلاح الأمور بيننا قبل فوات الأوان .. لا أعرف .. ولا أظنني سأعرف .. ولكنني أؤكد لك على الأقل بانني لست بالسوء الذي يحسبه الآخرون بي
كانت تتحدث بهدوء .. إلا ان صوتها اخذ يرتعش عند ذكرها لوالدها .. ثم اكملت بخفوت :- بالنسبة لهشام .. فانا محظوظة لأنه اختارني أنا .. ولأنه كان نبيلا بما يكفي كي يتجاهل لمزات الآخرين حولي .. وأعرف بأنني لن أستحقه مهما فعلت .. وسأتفهم تماما رفضك لارتباطه بي .. ولكن في حال حدث هذا الارتباط .. فتأكدي بأنني لن أسبب له الأذى ما حييت
مدت جودي يدها لتعانق أصابع أختها وقد أحست بالجهد الكبير الذي بذلته لتنطق بهذه الكلمات .. بدا على سمر التأثر .. بينما ظل وجه السيدة لميس جامدا حتى لانت ملامحها فجأة وهي تقول :- أتمنى ألا أندم على هذا .. ولكنني سأمنحك الفرصة .. فلسبب ما تبدين جديرة بالثقة يا اماني
أشرق وجه سمر وهي تقدم التهاني لشقيقتها وتبدأ التحدث عن الاستعدادات للزفاف وكيف سيتم نشر الخبر بين المعرف .. بينما انتاب أماني ارتياح شديد وإحساس مفاجئ بالرغبة في البكاء
ارتفع رنين الجرس في هذه اللحظة .. فاعتذرت اماني لتفتح الباب دون أن تصحو بعد من اضطرابها .. وبالرغم من توقعها لحضوره إلا ان رؤيتها لهشام واقفا أمام بابها .. بأناقته وصلابته المعهودة .. جعلت قلبها يرتجف .. قال بلطف :- أرجو ألا أكون قد تأخرت كثيرا
وقبل أن تحل عقدة لسانها .. كانت سمر قد وصلت إلى الباب وعانقته مهنئة وهي تطلق الزغاريد الطويلة لتسمع الجيران .. نظر هشام إلى أماني بعينين لامعتين جعلتها تشيح بوجهها بعيدا عنه لتخفي ارتباكها .. ثم تفسح له الطريق ليدخل إلى الشقة
صافحته جودي .. وتبادلت معه كلمات المجاملة .. وكل منهما يدرس الآخر بروية .. فكرت جودي بأنه يبدو كما وصفته أماني تماما .. رجل ضخم .. أنيق وقاسي المظهر .. ذو وسامة خشنة وداكنة .. عززتها الندبة الصغيرة التي قاطعت حاجبه الأيمن .. بالرغم من امتعاضها الشديد من فكرة ارتباط أماني بهذا الرجل إلا ان رؤيتها لندبته ذكرتها بندبة أماني المخفية تحت طبقات الشعر الأشقر الكثيف المنسدلة حول وجهها .. فتذكرت الحياة المرة التي عاشها هذا الرجل .. الشبيهة بحياة أماني المعقدة فاسترخت حواسها وزالت معظم مخاوفها .. فقد أيقن جزء منها بأن كل من شقيقتها وهذا الرجل قد قدر للآخر بطريقة ما .. وجدت نفسها تبتسم له قائلة :- سررت للقائك أخيرا .. لقد حدثتني أماني عنك كثيرا
قال متهكما :- أظنني قادرا على تخمين ما قالته عني
احمر وجه أماني عندما وجه نحوها نظرة ساخرة قبل أن يتوجه نحو أمه ويجلس إلى جانبها متناولا كفها بين يديه طابعا عليها قبلة تقدير وهو يقول :- آسف لتأخري .. لقد حدث طارئ في العمل
منحته أمه ابتسامة حنون وهي تقول :- لا تهتم .. لم يحدث إلا ما أردت تماما
نظر إلى أماني قائلا :- أتعنين بأن عروسي قد نالت إعجابك ؟
ضحكت أمه عندما احتقن وجه أماني وقالت :- عروس جميلة وذكية .. وامرأة مناضلة .. لم لا تنال إعجابي
اعتذرت أماني باقتضاب كي تعد له فنجان قهوة متأخر .. فلحقت بها جودي إلى المطبخ قائلة :- لم أتخيل أن يتغير شعوري نحوه بهذه الطريقة فور رؤيتي له
سألتها اماني بفضول :- هل أعجبك ؟
هزت جودي كتفيها قائلة :- لا أعرف .. ولكنني رأيت روحك في عينيه .. وهذا كاف بالنسبة إلي كي أتوقف عن القلق
نظرت أماني إليها بذهول وقد هزتها العبارة .. قالت باضطراب :- ما الذي تقصدينه برؤيتك لروحي في عينيه ؟
تمتمت جودي بحيرة :- لا اعرف .. لقد كان مجرد إحساس غريب أدهشني أنا الأخرى
أسرعت تطفئ النار أسفل القهوة قبل أن تفور قائلة :- أسرعي بتقديم القهوة إلى خطيبك قبل أن يمل الانتظار
عندما عادتا إلى الغرفة فتحت السيدة لميس موضوع الزفاف فأقفله هشام بحزم موضحا بأن الوقت ما يزال مبكرا للتفكير في الأمر .. عندها نهضت مع سمر راغبتين في المغادرة ..
وعندما نهض معهما منعته سمر وهي تقول غامزة :- سأوصل أمك بسيارتي .. لقد وصلت لتوك ولابد أنك تملك الكثير لتقوله لأماني
فور مغادرتهما وقفت جودي بدورها قائلة :- علي الرحيل أنا الأخرى
أسرعت أماني تقف وتقول بعنف لا شعوري :- ابقي
عقد هشام حاجبيه وهو يراقب الأختين .. بينما ردت جودي :- أود لو أبقى .. ولكن دوام الفصل الثاني يبدأ غدا .. ويجب أن انام مبكرة
رافقتها اماني إلى الباب وهناك همست بحدة :- أيتها الخبيثة .. تستطيعين البقاء لبعض الوقت
قالت جودي بعبث :- آخر ما تحتاجانه هو وجود متطفلة مثلي بينكما
ثم همست وهي تمسك بيد أماني :- لا تقلقي .. ستكونين بخير
منحتها ابتسامة تشجيع ثم غادرت .. وقفت أماني للحظات طويلة أمام الباب المغلق دون أن تجرؤ على العودة إلى حيث يجلس هشام .. ولكنه لم ينتظر عودتها إذ قال بكسل من مكانه فوق الأريكة :- أيخيفك البقاء معي إلى هذا الحد؟
توترت لسماع صوته الساخر الذي أعادها إلى الواقع .. فاستدارت تواجهه قائلة بعصبية :- هذا غير صحيح
اعتدل في جلسته وهو يقول بجدية :- لا تظني بأنني لم ألاحظ الهستيريا التي تصيبك كلما اقتربت منك وكأنك تخافين أن أفترسك في أي لحظة
قالت بانزعاج :- أنا لست خائفة منك
:- أثبتي هذا واقتربي
قاومت إغراءا كبيرا بان تفتح الباب المجاور لها وتهرب .. وأخذت نفسا عميقا .. ثم اقتربت منه بهدوء .. وجلست في الطرف البعيد من الأريكة
تأملها للحظات ثم قال :- يدهشني أن تعاني امرأة بقوتك وثقتك بنفسك من نقطة ضعف كهذه .. ماذا لديك ضد الرجال يا اماني ؟
ابتلعت ريقها وامتنعت عن النظر إليه .. ولكنها كانت تشعر بوجوده قويا وطاغيا يكاد يكتسح الغرفة .. قالت باقتضاب :-
:- لا أستطيع القول بأنني رأيت منهم الكثير من الخير
بدا وكأن اسئلة لا نهاية لها تتراقص في عينيه السوداوين .. ولكنه غير الموضوع قائلا :- ما رأيك بوالدتي ؟
خف توترها وهي تقول :- سيدة رائعة .. وترغب برؤيتك سعيدا
ابتسم قائلا :- أخمن من حديثك بأنها قد أخضعتك لاستجواب عنيف
نظرت إليه أخيرا وهي تقول :- كنت لأفعل المثل لو قرر ابني الوحيد الزواج بفتاة سيئة السمعة
التقت عيناهما طويلا قبل أن يقول بهدوء :- سمعتك ليست سيئة يا أماني .. الناس هنا يترددون حول كل ما هو خارج عن تقاليدهم وعاداتهم .. إنها زوبعة سرعان ما ستنتهي
ثم ابتسم بلطف قائلا :- كما أنك نجحت في الامتحان في النهاية .. أليس كذلك ؟
ابتسمت بتردد وقد فاجأها التغيير الذي طرأ على ملامحه بسبب ابتسامته .. وقالت :- لست متأكدة .. مازال علي مقابلة شقيقتيك
:- لبنة تقيم مع زوجها في السعودية .. وقد تنتهي القصة بأكملها قبل موعد إجازتهما .. أما نورا فأظنها ستحبك .. إنها فتاة مدللة وطائشة .. ولكن خطوبتها لرجل هادئ وناضج قد هذبت طباعها قليلا كما أرجو
تذكرت ما أخبرتها إياه سمر من قبل بأنه قد تعهد بألا يفكر بالزواج حتى يزوج شقيقتيه فسألته :-متى سيتم زفافها ؟
:- خلال أشهر قليلة .. ربما في نهاية شهر آب
عندها .. يصبح حرا ليتزوج المرأة المناسبة له .. في ذلك الوقت لن تكون موجودة لتعيق طريقه .. فقصتهما ستنتهي قبل ذلك بكثير
تمتمت فجأة :- أنا ممتنة لما تفعله لأجلي يا سيد ....
قاطعها بحزم قائلا :- هلا توقفت عن الشعور بالامتنان .. ما أفعله معك لا يخلو من الأنانية .. صدقيني
سألته بحيرة :- ماذا تقصد ؟
بدلا من أن يجيبها .. أخرج من جيبه علبة مخملية صغيرة وهو يقول :- كان من المفترض بي أن ألبسك إياه في حضور عائلتي وشقيقتك .. ولكنني خفت أن أحرجك وأضطرك لاحتمال لمستي .. ففضلت إعطاءك إياه على انفراد
تناولت العلبة منه بتردد.. ثم فتحتها لتتأمل المحبس الذهبي البسيط المرفق بخاتم ثمين زينه صف عريض من الأحجار الكريمة المبهرة للأبصار
قالت بارتباك :- لم تكن مضطرا للتكلف بهذا .. الأمر لا يستحق
قال ساخرا :- هل نسيت بأننا نعيش في مدينة صغيرة ؟ الكل سوف يتفحص يديك بحثا عن خاتم لائق في إصبعك .. وأمي لن تقبل بأن يتهمني أحدهم بالبخل على خطيبتي .. لقد اختارته لك بنفسها
شعرت بالتأثر وهي تتأمل بريق الماس .. وترقرقت الدموع في عينيها دون أن تتجاوزهما .. لوهلة .. شعرت بالخيبة لأن هذه الخطوبة ليست حقيقية .. وأن هذا الشعور بالأمان هو زائف ومؤقت
تمتمت :- ما كنت لتحرجني لو ألبستني إياه امام الآخرين
بدا عليه كأنه قد بوغت .. إذ تلاشى تماسكه للحظة وهو يقول غير مصدق :- حقا ؟
نظرت إلى عينيه القاتمتين والغامضتين التعبير .. وأدركت بأنه يستحق منها هذا على الأقل مقابل صنيعه معها .. أن تشعره بثقتها به فقالت :- بالتأكيد
نظر مطولا إلى عينيها الخضراوين اللتين بدتا لأول مرة خاليتين من البرود والتوتر .. فائضتين بالتأثر والامتنان
وبدون أن يتكلم .. اقترب منها وأخذ العلبة الصغيرة من بين يديها .. ثم تناول كفها المرتعشة .. رفع عينيه إليها ليراقب ردة فعلها وهو يخرج الخاتمين .. ثم يحيط بهما وبيد ثابتة بنصرها الأيمن
لم تعرف أماني كم من الزمن استمرت في حبس أنفاسها وهي تشعر بيديه الكبيرتين تحاصران كفها بتملك واضح .. منعت نفسها بصعوبة من الاستسلام لنوبة ذعر جديدة .. ولكن ذعرها كان مختلفا هذه المرة .. أليس كذلك ؟
قال بهدوء :- أنت الآن خطيبتي رسميا يا أماني
ارتعشت وسحبت يدها فورا لتقف قائلة بغلظة :- أمام الناس فقط يا سيد هشام .. ولفترة مؤقتة
وقف بدوره وظللت فمه ابتسامة باردة وهو يقول :- لم أنس هذا لحظة واحدة يا أماني .. ولكن إياك أنت أن تنسي
نظرت إليه وقد اشتعل غضبها .. واختفى بلمح البصر كل اضطرابها وإحساسها بالذنب لغلظتها المفاجئة .. هل يظن المغرور بأنها ستستغل الوضع لصالحها وتحاول إيقاعه في شباكها ؟
رغبت بأن تعبر له عن كرهها العميق .. ولكنه لم يترك لها الفرصة لتقوم بذلك .. إذ اتجه نحو الباب .. ونظر إليها بلا مبالاة قبل أن يخرج قائلا :- تعرفين رقم هاتفي المحمول في حال احتجت إلي في أي لحظة
دوى صوت انصفاق الباب تاركا إياها في حالة جنون وحيرة من أمرها .. فهذا الرجل مزيج غريب من المتناقضات ..
ما الذي يريده منها بالضبط
ألقت نفسها فوق الأريكة وقد بدأت تحس بتعب النهار وضغط وضعها الحالي .. هشام عطار رجل جدير بالثقة .. حدسها يؤكد لها هذا .. ولكنها ليست واثقة من أن نتيجة احتكاكها به ستكون لصالحها أبدا










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-21, 12:54   رقم المشاركة : 34
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل العشرون
تقتلينني

قالت ريما :- لنذهب إلى أحد المطاعم السريعة ونأكل شيئا
ردت جودي وهي تخرج برفقتها من الكلية :- لست جائعة
:- إذن لنذهب ونرى بشار .. لا محاضرات لديه الآن
:- هو خطيبك أنت .. اذهبي وحدك
توقفت ريما عن السير .. واستدارت تواجه صديقتها بغضب :- ما الأمر ؟ أي مزاج نكدي لك اليوم ؟ هل تشاجرت مع طارق مجددا وأنت تصبين غضبك علي كالعادة ؟
صمتت جودي للحظات أطل خلالها الحزن والاكتئاب نت عينيها وهي تتمتم :- لا .. لم نفعل
وكيف تفعل إذا كانت تتجاهل اتصالاته المستمرة منذ أيام .. في الوقت الذي تتجاهل فيه اتصالات تمام هو الآخر .. في كل مرة كانت ترة فيها رقمه على شاشة هاتفها يخفق قلبها بعنف وتقاوم حاجة قاسية للرد عليه .. ولكنها تحجم نفسها في آخر لحظة وتجبرها على تجاهله .. وفي المقابل هاهي تقضي الليالي في أرق مستمر يشغلها التفكير بحقيقة مشاعرها اتجاهه .. ويرهقها تأنيب الضمير كلما تذكرت لقائهما الأخير .. وكلما وقع بصرها على بريق الماس في خاتم خطوبتها إذ ترى فيها خيانتها لطارق أمام عينيها وكأنها قد حصلت للتو
أكملت كي تمنع ريما من استجوابها :- لا أريد التحدث في الأمر
تنهدت ريما قائلة :- حسنا .. أنت حرة .. وإن كنت متأكدة بأن ما يشغل بالك هو تلك القبلة اليتيمة التي صدمتك
أجفلت جودي إذ ظنت للحظة بأن صديقتها تشير إلى قبلة تمام .. ثم تذكرت طارق عندما قالت ريما مداعبة :- ما زلت طفلة بريئة بحاجة إلى اختبار الكثير لتفهمي الحياة
لم تستجب جودي لسخرية ريما كالعادة .. فقد دوى صوت الأزيز المميز لوصول رسالة من هاتفها المحمول .. فرفعته لتقرأ الكلمتين المختصرتين ( انظري خلفك )
خفق قلبها وهي تستدير على الفور ليقع بصرها على سبب أرقها واكتئابها يقف على مسافة أمتار عن سور الجامعة المعدني من الخارج .. يستند إلى سيارته عاقدا ساعديه أمام صدره .. وقد أخفت نظارته السوداء معالم وجهه
لم تدرك بأنها قد جمدت كقطعة ثلج حتى سمعت ريما تقول :- ما الذي حدث ؟ تبدين كمن شاهد شبحا
نظرت جودي إليها بذعر .. ثم إلى تمام وقد خشيت أن تكتشف صديقتها شيئا .. فقالت بسرعة :-
:- لا ... لقد تذكرت موعدا لي مع أماني يجب أن ألحق به .. إذهبي أنت لرؤية بشار وأبلغيه تحياتي .. وسأراك غدا
رفعت ريما بيديها لتحثها على الرحيل .. فرمقتها ريما بنظرات الدهشة والاستنكار ثم القلق وقد أحست باضطراب صديقتها .. ولكنها قالت في النهاية باستسلام :- حاضر .. أراك صباح الغد
انتظرتها جودي حتى ابتعدت ثم أخذت نفسا عميقا واستدارت لتواجه خصمها .. كان تمام قد بدأ يتململ في وقفته فحسمت أمرها أخيرا .. وسارت نحوه بساقين مرتعشتين وذكرى قبلته الملتهبة تبعث الحرارة في عروقها .. لقد ظنت بأنها قد نسيت .. ولكن مجرد رؤيته من جديد حركت في قلبها كل ما حاولت كبته منذ أيام من شوق إليه
اعتدل عندما اقتربت منه ووقفت امامه .. لفحتها جاذبيته فور أن أحست بدفء جسده الطويل على بعد سنتيمترات منها .. فأحاطت نفسها بذراعيها وهي تتحاشى النظر إليه وقد عقد الاضطراب لسانها .. قال بعد لحظات منت الصمت ببرود :- ألن تقولي شيئا ؟
فالت بارتباك :- ما الذي تريدني ان اقوله ؟
:- ان سببا طارئا منعك من الاتصال بي أو الإجابة عن مكالماتي
ردت بعصبية :- لقد كنت مشغولة
علق ساخرا :- على حد علمي لم يبدأ الفصل الدراسي الثاني إلا هذا الصباح .. بأي شيء كنت مشغولة ؟
أحست بغضبه في نبرات صوته .. ففاجأها ألم غريب ورغبة في محو غضبه دفعتها لذكر نصف الحقائق :-
:- لقد عقدت خطوبة أختي مساء الأمس
عقد حاجبيه وقد اختفى كل أثر لغضبه .. وحل محله اهتمام جاد وهو يقول :- حقا ؟ أهذا يعني بأن ابن عمك قد نال مراده؟
:- لا .. ستتزوج برجل آخر
ظهر الارتياح على ملامحه قبل ان يقول برضا :- لم تخيب شقيقتك ظني إذن .. لقد اصرت على رفض ما لا تريده .. ولا يوافق قناعاتها .. أختك امرأة جديرة بالتقدير والاحترام
تحركت الغيرة داخلها مما دفعها لأن تقول بحدة :- وما شأنك انت ؟
نظر إلى عينيها للحظات دون تعبير .. قبل ان يقول بهدوء :- شأني هو رغبتي الكبيرة بان تمتثلي بها يا جودي
ساد التوتر بينهما بشكل واضح .. .. نظر حوله قائلا :- لنجد مكانا آخر نتحدث فيه
قالت بقلق :- لا أظن هذا مناسبا .. أنا ...
قاطعها بجفاف :- ما الأمر ؟.. أمازلت خائفة من اكتشاف خطيبك للقائك السري بي ؟
احمر وجهها بارتباك وغضب .. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد .. بل امسك ذقنها ليجبرها على النظر إلى عينيه التين حررهما من النظارات السوداء .. ورؤية الغضب والقسوة فيهما وهو يقول :-
:- إن كنت تقدرينه حق قدره .. فستنهين خطوبتك السخيفة حالا يا جودي .. فأنا لن أتوقف عن رؤيتك والمطالبة بك .. وأنت لن تجرؤي على مقاومتي .. فما الفائدة من تعذيبه وربطه بك بدون فائدة
ارتعشت لإحساسها بأصابعه فوق بشرتها .. فتذكرت المرة الوحيدة التي احتضنها بها .. أحس فورا بمشاعرها .. فظللت عينيه سحابة حملت معها كل الذكرى .. وساد بينهما صمت مشحون استمر لثواني ولكنه بدا لها كالدهر .. تحركت يده لتداعب وجنتها فأغمضت عينيها متجاهلة وقوفهما في مكان عام يعرفها فيه العشرات .. مستسلمة للإحساس بحنانه .. همس فجأة :- أنت تقتلينني .. لو تعلمين كم اشتقت إليك .. لما تجرأت على الانقطاع عني كل هذه المدة
فتحت عينيها لتجد غضبه قد اختفى .. وقد حل مكانه حنان فياض جعل قلبها يغرد سعادة .. ابتسم برقة قائلا :-
:- هل جربت يوما تناول المثلجات في قلب فبراير ؟
نظرت إليه بذهول .. فاتسعت ابتسامته وهو يوضح :- سأدعوك اتناول البوظة في مكان يبيع أشهى بوظة في المدينة .. سنجلس هناك .. ونتحدث .. حتى ينسى كل منا مرور الوقت
لم تعرف كيف تركته يقودها إلى سيارته .. ولكنها كانت متأكدة بأنها لم تكن يوما أكثر سعادة






الفصل الحادي والعشرون
متسلط

بعد مرور أيام على انتشار خبر خطوبتهما اعتادت أماني على نظرات زملائها الفضولية وهمساتهم ذات المضمون الواضح .. فلا احد تقبل بسهولة خبر ارتباط مديرهم بموظفة كانت مضايقته هدف رئيسي لها .. وعندما كانت زميلاتها
تطرحن عليها الأسئلة الخبيثة حول المشاعر التي كانت مختبئة خلف العلاقة المتوترة .. كانت تكتفي بالصمت والابتسام بهدوء ..بينما هي تتآكل في داخلها من الإحباط والكآبة .. كانت قادرة على قراءة التساؤلات المستترة في الأعين المحدقة بها .. الكل في المدينة يعرف بقصتها .. بحرمان والدها لها من الميراث .. وصراعها مع صلاح .. وخطوبتها لهشام جعلت حياتها تبدو أمام الآخرين وكأنها مسلسل مكسيكي تقليدي ولكنه مسل
ليس ممتعا على الإطلاق أن يكون الإنسان موضوع حديث الألسن في جميع أنحاء المدينة
قاطع أفكارها اتصال من لندا سكرتيرة هشام .. تدعوها إلى مكتبه بطلب منه .. زفرت متسائلة عما يريده منها الآن .. ولكنها فكرت بأن ثلاثة أيام مرت منذ ارتدائها لخاتمه في شقتها .. وأن عدم زيارتها له في مكتبه مرة على الأقل في اليوم قد تثير الشكوك بين الموظفين
تأكدت من أناقة مظهرها .. وغادرت مكتبها .. استقبلتها لندا بعبارات التهنئة وقد بدا وجهها البشوش أشبه بقناع أخفى تساؤلات عدة وحيرة كبيرة .. فمنذ أسابيع فقط كانت أصوات شجار أماني ومديرها تصل إليها بوضوح من خلف الباب .. ولكنها كانت أذكى من أن تطرح أي سؤال على أماني التي أصبحت بين ليلة وضحاها خطيبة الرئيس
حاولت أماني تجاهل توترها الذي بدأ يتزايد عندما قرعت باب مكتبه وسمعت صوته يدعوها للدخول .. ذكرت نفسها بأنه لم يعد مجرد مدير صارم ومخيف .. بل خطيب لها .. وربما الشخص الوحيد القادر على حمايتها .. دخلت وأغلقت الباب ورائها بهدوء .. فلاحظت بانه لم يكن جالسا خلف مكتبه .. بل واقفا عند النافذة يتحدث بانزعاج إلى شخص ما عبر هاتفه المحمول
قارنت بحيرة بين هذا الرجل العملي الجاف .. والرجل الدافئ المتفهم الذي ألبسها خاتمه منذ أيام .. راقبت حركات يديه الكبيرتين وهو يتحدث فلاحظة رشاقة أصابعه الطويلة وتذكرت ملمسهما الخشن .. الدافئ والمتملك
أخذت نفسا عميقا لتعيد التوازن إلى أفكارها في اللحظة التي أنهى فيها المكالمة واستدار إليها قائلا :- تفضلي بالجلوس .. آسف لجعلك تنتظرين
ابتسمت وهي تجلس على مقعد مواجه لمكتبه وهي تتمعن في اعتذاره غير المألوف .. لم يكن هشام عطار يوما من النوع الذي يعتذر لموظف لديه عن فظاظته وتسلطه
نظر إليها باهتمام قائلا :- يبدو مزاجك حسنا وفقا لابتسامتك هذه
اختفت ابتسامتها وهي ترد بسرعة :- هذا يتوقف على سبب استدعائك لي
لوى فمه بابتسامة جانبية متهكمة قائلا :- كالعادة تشحن اماني النجار نفسها بكل طاقتها القتالية قبل حضورها إلى مكتبي
هزت كتفيها :- لم تستدعني يوما لأسباب سلمية .. فلماذا أفترض بان هذه المرة مختلفة ؟
خفت حدة صوته وهو يقول بهدوء :- هذه المرة انت خطيبتي يا اماني
قالت ساخرة :- هذا ما عرفه كل كائن حي يعمل في هذا المبنى
قال بحزم :- هذا ما يجب أن يعرفه كل مخلوق في المدينة .. أم تراك نسيت السبب الرئيسي للعبتنا هذه يا أماني ؟
شعرت بالضيق بسبب تذكيره لها باتفاقهما .. وردت باقتضاب :- لا .. لم أنس
:- على كل حال .. لقد طلبتك لأتحدث إليك في أمر الرحلة إلى العاصمة .. أظنك ستنضمين إليها
:- هذا ما أفعله كل سنة
في كل عام ينظم هشام رحلة لجميع موظفيه إلى العاصمة لحضور المعارض والمناسبات الثقافية التي تقام هناك .. وأماني كانت تحب هذه الفكرة .. وتنتظر كل سنة حضور معرض الكتاب الدولي السنوي ..
قال بهدوء :- هذا جيد .. سأمر عليك صباح الغد لننطلق معا
تصلبت وهي تحدق به مبغوتة .. ثم قالت بجمود :- لم أقل قط بأنني سأذهب معك
:- لا .. لم تفعلي .. ولكن كل موظف هنا سيجد صعودك في الباص المخصص للموظفين أمرا شاذا بدلا من مرافقتي في سيارتي
قالت بحرارة :- أستطيع الذهاب بسيارتي ولقاءك هناك .. ولن يعرف أحد بأننا سافرنا منفصلين
قال بصرامة :- لن أسمح لك بالسفر في تلك الخردة .. فهو أشبه بالانتحار
قالت بحدة :- لا عيب في سيارتي .. أستطيع السفر بها إلى أي مكان
قال ساخرا :- هذا صحيح .. رحلة بها إلى الجحيم لن تكون صعبة .. ولكنك مضطرة إلى تأجيل هذه الرحلة .. غدا صباحا سأنتظرك امام مبناك في تمام الثامنة
كانت لهجته قاطعة لا تحتمل النقاش .. فكرت على أسنانها بغيظ .. ونهضت قائلة :- هل من أوامر أخرى ... سيدي ؟
أضافت الكلمة الأخيرة لتعبر عن رفضها لتسلطه الغير مقبول .. ولكنه ابتسم وكأن غضبها قد أسعده .. وقال
:-:- لا شيء في الوقت الحاضر .. عودي إلى مكتبك
وأثناء خروجها من مكتبه .. أقفلت الباب بهدوء شديد أظهر بوضوح بأنها رغبت في صفقه بكل قوتها









الفصل الثاني والعشرون
سيدة الشتاء

استغرقت الرحلة إلى العاصمة ساعات قليلة .. بالكاد تبادلت خلالها أماني بضع كلمات مع هشام الذي تقبل صمتها ببساطة وكأنه قد أحس بخطتها في إزعاجه .. مما سبب لها هي الازعاج
ولكنها لم تستطع منع نفسها من الاسترخاء داخل سيارته الفارهة .. والاستمتاع بقيادته المتزنة .. تذكرت سيارتها القديمة وتخيلت بوضوح المشاكل التي كانت ستتعرض لها لو أنها أصرت على موقفها وسافرت بها
لم تندم على خضوعها لقراره المتسلط .. ولكنها قررت بإصرار على ألا تظهر له سرورها
بين لحظة وأخرى كانت تحيد بنظرها عن الطريق لتسترق النظر إليه .. كان مختلفا هذا الصباح بملابسه البسيطة .. ولكنه لم يتخلى عن أناقته و وقاره وكأن هذا قد أصبح جزءا من مظهره لا يستطيع التخلي عنه حتى لو حاول .. مهما تناقض هذا مع نظرة الرجل المكافح الذي شاهد الكثير في حياته والمطلة من عينيه .
راقبته وهو يتحكم بالسيارة بسهولة وسلاسة .. وهو يقطب مراقبا الطريق .. ثم تساءلت عما يفكر به في هذه اللحظة .. خلال استغراقها في تأمله .. ألقى نحوها نظرة عابرة .. سرعان ما عاد على إثرها يقابل نظراتها التي فاجأته .. فارتد وجهها إلى الخلف وقد أحست بعينيه اللامعتين تصفعانها في الصميم .. أشاحت بوجهها الشاحب نحو النافذة محاولة تهدئة خفقات قلبها .. ما الذي أصابها ؟
وماذا إن ضبطها تسترق النظر إليه ؟هذا ليس مبررا كي تفقد اتزانها وتتوتر بهذا الشكل .. خشيت أن يقول شيئا فيزيد من إحراجها ولكنه مد يده بكل بساطة ليدير جهاز التسجيل لتنساب منه موسيقى هادئة .. ثم عاد يوجه تركيزه نحو الطريق مما أراح أماني وأعاد إليها استرخائها
في طريق العودة مع حلول الظلام ..لم تكن أماني قد صحت بعد من ذهولها للطريقة التي مرت بها أحداث اليوم.. فقد استمتعت للغاية بوقتها برفقة هشام وأعجبت بذوقيهما المتشابهين بالنسبة للكتب .. وبشخصيته الآسرة التي ظهرت بوضوح خلال الغداء الذي دعا إليه جميع الموظفين في أحد أفضل المطاعم .. لم يمنحها معاملة خاصة .. ولكنه كان يحدثها بعفوية وبساطة وكأنهما حقا خطيبين .. وما أدهشها هو تجاوبها الفوري معه ونسيانها فجأة لكل ما قررته حول عدم التعاطي معه وكرهه
وأثناء قيادته للسيارة في طريق العودة .. دخلا في نقاش ممتع حول الأدب وميولهما الروائية .. فلم تملك إلا أن تبتسم مما لفت نظره فقال:- ما الأمر ؟ تبدين مصدومة لاكتشافك بانني أجيد القراءة
قالت بسرعة :- لا تعتبر الأمر شخصيا .. ولكنني ظننت رجال الأعمال وكل من يهتم بالتجارة منغلق الفكر وجاف الأحاسيس .. ولم أتخيل أن أجدك مختلفا
رمقها بنظرة عابرة وهو يقول :- هل تتكلمين عن خبرة ؟
هزت كتفيها قائلة :- لقد خالطت عددا منهم .. أبي .. صلاح .. وصدقني .. مفهومهما عن القراءة لا يتجاوز الصفحات المالية والاقتصادية في الجرائد اليومية
قال بشيء من الحدة :- حسنا .. كما ترين ليس كل الرجال متشابهون
تأملته لوهلة ثم رددت :- لا .. ليس جميع الرجال متشابهون
عندما نظر إليها كانت قد عادت ترمق الطريق المظلم .. وبدت ساهمة وكأنها تتخيل الأرواح التي سبق ومرت من هنا .. فقال محاولا قطع اكتئابها :- من جهة أخرى انا ايضا لم اتوقع أن اجدك مدمنة كتب إلى هذا الحد .. لقد صرفت نصف راتبك تقريبا هذا النهار في شراء الكتب
ابتسمت بشحوب وقالت :- اعتدت الهروب من الواقع إلى خيال الكتب في سنوات المراهقة .. ولازمتني هذه العادة حتى الآن
تفكر بكلماتها قليلا .. ثم قال بهدوء :- القراءة وسيلة فعالة أحيانا كي ينسى الانسان قسوة الزمن
فهمت أيضا سبب اختلافه عن الآخرين .. وسبب التشابه الذي أحسته بينهما .. هو أيضا كان يهرب من حياته المريرة والقاسية بالخيال .. لامس هذا التشابه قلبها وأحست وهي تنظر إلى جانب وجهه الجامد بأنها في هذه اللحظة أقرب إليه من أي وقت مضى
صدر صوت مزعج من السيارة .. قطب هشام وظهر عليه القلق في اللحظة التي توقف فيها محرك السيارة عن العمل .. قال بجفاف :- عن إذنك
غادر السيارة فراقبته وهو يفتح الغطاء الأمامي لها .. ويلقي نظرة على المحرك .. وعندما تأخر ارتدت معطفها ولحقت به .. قالت وهي تنظر إلى الأبخرة التي تصاعدت من المحرك :-هل المشكلة كبيرة ؟
بدا لها منزعجا وهو يعبث بيده هنا وهناك ويقول :- للأسف .. المشكلة كبيرة بالفعل .. لقد احترق المحرك بالكامل
قالت بقلق :- وماذا سنفعل ؟
دون أن يجيبها .. استل هاتفه وسرعان ما كان يطلب سيارة لتقلهما من حيث يقفان .. أنهى المكالمة وهو يقول باقتضاب :- :- ستستغرق السيارة بعض الوقت لتصل
لم تستطع إخفاء ارتجاف شفتيها بابتسامة خبيثة أثارت غيظه فقال :- هل تجدين الموقف مسليا؟
سيطرت على نفسها عندما لاحظت غضبه ثم قالت برزانة :- لقد تذكرت فقط موقفك المزدري من سيارتي عندما رفضت أن أسافر بها وأصريت على اصطحابي معك .. بماذا وصفتها ؟ .. نعم .. قطعة خردة قديمة .. قيادتها في طريق سفر هي أسهل طريقة للانتحار
أشارت بيدها نحو سيارته الفارهة وقالت بتهكم :- انظر إلى ما فعلته بنا سيارتك الخارقة .. أعرف بأن الوقت ليس مناسبا .. ولكنني أستمتع بالمرة الأولى التي يخطئ فيها السيد هشام كبقية البشر
نظر إليها ببرود حتى ظنته سيصرخ في وجهها غاضبا .. إلا أن شفتيه انفرجتا عن ابتسامة وهو يقول بهدوء :- استمتعي بلحظتك إذن لأن خطأ كهذا لن يتكرر
قالت باسمة :- تأكد بأنني سأفعل
فركت كفيها لتبث بهما بعض الدفء وهي تقول :- هل أنت متأكد بأن النجدة لن تتأخر ؟
أقفل الغطاء .. واستند إلى مقدمة السيارة قائلا بسخرية :-
:- هل يقلقك الانتظار في مكان موحش كهذا معي ؟
ردت عليه فورا :- وهل يجب أن أشعر بالقلق ؟
قال بجفاف :- أنت من يجب أن يخبرني .. ففي كل مناسبة نكون فيها وحدنا ترتجفين خوفا وكأنني أخطط لافتراسك
أدهشها اكتشافها بأنها لم تعد تشعر بالخوف منه كالسابق .. فتمتمت :- الأمر مختلف الآن .. أنت لم تعد غريبا
نظر إليها متمعنا قبل أن يقول :- إذا كان خوفك مقتصر على الغرباء فما سبب نوبة الذعر التي وجدتك تعانين منها أثناء وجود ابن عمك في شقتك ؟
ارتبكت وتجدد خوفها منه .. هذه المرة من محاولاته المتكررة للتوغل في أعماقها .. فقالت بتوتر :- هذا ليس من شأنك
ولكنه تجاهل تصريحها وقال بلطف :- أتكرهينه إلى هذا الحد؟
قالت بحدة :- الكراهية وصف باهت للغاية لما أحسه نحوه
صمت للحظات مرت خلالها سيارتين إلى جانبهما بسرعة كبيرة .. أضاء نورهما العابر وجهه الغامض .. قال بعدها :- هل كان والدك يعرف بمدى كراهيتك لابن عمك عندما أصر على زواجكما ؟
قالت ببرود :- كان أبي أكثر من يعرف بمشاعري اتجاه صلاح
اعتدل سائلا بحدة مفاجئة :- لماذا إذن أرغمك على قبوله؟
حمل صوته الغضب والحيرة .. وكادت هي تتجاهل سؤاله أو تمنحه ردا فظا .. ولكنها غيرت رأيها فجأة وضحكت بتهكم مرير وهي تقول :- لم يكن يثق باختياري لشريك حياتي بنفسي .. كان يخشى أن ينتهي أمري برفقة زوج حقير من أصل متواضع لا يرضي طموحاته
سألها بهدوء :- وهل لشكوكه هذه أسباب؟
التفتت إليه قائلة بحدة :- ما الذي تريدني أن أقوله ؟.. أن تجربة فاشلة لي كانت السبب ؟.. حسنا لقد قلتها .. هل أنت راض ؟
سألها بعد لحظة صمت :- ما الذي حدث ؟
ابتعدت عنه قائلة بعصبية :- لا أريد التحدث في الموضوع
:- قد يريحك أن تفعلي .. تعرفين بأنك قادرة تماما على الثقة بي
نظرت إليه بتردد وارتياب .. هل عليها اطلاعه على ما حدث ؟ شيء ما يحدثها بأنه جدير بالثقة .. ألم يكن الوحيد الذي وقف إلى جانبها في محنتها ؟
استندت إلى مقدمة السيارة إلى جانبه وهي تتمتم :- أشعر بالحرج لمجرد تذكر القصة .. ولكن ما يعزيني هو أنني كنت صغيرة .. مراهقة حمقاء تؤمن بالأحلام الوردية والأماني المستحيلة
لم يعلق خشية تغيير رأيها بالبوح له بسرها .. بل ظل ينظر إليها عبر الظلام الذي لم يبدده سوى مصابيح السيارة المضاءة
:- كان اسمه فراس .. التقينا خلال الدراسة في الجامعة .. وكما تتوقع كان شابا وسيما ورقيقا .. يكبرني بعامين .. ظننته الشخص الذي تمنيت دائما الارتباط به على أمل تحقيق حلمي الأكبر .. وهو الزواج برجل أحبه
فكرت بأسى .. حلمها وحلم أمها الضائع .. ضحكت بمرارة قائلة :- كما سبق وأخبرتك .. كنت رومانسية حمقاء .. لم يوفر أبي أي طريقة ليثبت لي هذا عندما اكتشف الأمر .. لم يعجبه اختياري لطالب فقير لا يملك والده إلا وظيفته البسيطة .. وعندما وجد مني إصرارا على موقفي ...
صمتت للحظات تحاول خلالها البحث عن طريقة تشرح فيها ما حدث .. فتنهدت قائلة :- عدت ذات مساء إلى البيت لأجد أبي مجتمعا بفراس داخل مكتبه .. لم يشعر أحدهما بوصولي فسمعت أبي يعرض عليه مبلغا من المال ليبتعد عني .. مبلغا ليس بالكبير .. ولكنه كاف ليقرر فراس اولوياته .. لقد قبل بالمبلغ وانصرف .. ولم أره بعد ذلك أبدا
هبت نسمة باردة تخللت معطفها فارتعشت .. وأحاطت جسدها بذراعيها لتبث فيه بعض الدفء .. سمعت صوت هشام فتذكرت وجوده فجأة :- من الواضح بأن الذكرى ما زالت تؤلمك
قالت بمرارة :- تؤلم كرامتي وكبريائي .. لقد ظننته أحبني حقا .. ولكنه كما يبدو وجد بي صيدا ثمينا .. ابنة ثرية لرجل ثري .. وعندما فهم من أبي أنه لن ينال شيئا باستمراره في خداعي .. قبل بالمبلغ و تخلى عني ببساطة .. كانت مواجهتي لأبي أشبه بالكارثة .. لم يراعي مشاعري وكبريائي المجروحة .. لقد أعادني إلى الواقع بأقسى الطرق محطما كل قناعاتي السابقة .. آمالي وأحلامي .. ثم بدأ ضغطه علي لأتزوج من صلاح
قال هشام ببرود :- ولكن حبك لزميلك هذا منعك من الارتباط بغيره حتى بعد تخليه عنك
قالت ساخرة :- لم يكن حبا منذ البداية.. بل كان سعيا يائسا خلف حلم أحمق .. لقد كنت رومانسية بما يكفي لأخدع بكلمات طامع أحب أموالي قبلي .. ولكنني كبرت وصحوت من هذه الغفلة .. وأقسمت على ألا أقع في الفخ مجددا
:- فخ الزواج ؟
:- بل الوقوع في فخ مشاعر زائفة لن تؤدي إلا إلى إهانتي وتحطيم كبريائي مجددا .. أما بالنسبة للزواج .. فقد كنت مشغولة برفض صلاح لدرجة أنني لم أفكر به مطلقا
نظرت إليه فوجدته قريبا منها حتى أنها تمكنت من تمييز ملامحه الغامضة رغم الظلام
تمتمت :- لابد أنك تظنني حمقاء وتافهة بعد سماعك هذه القصة
قال بهدوء :- بل ناضجة كفاية كي تنسي ما حدث ولا تسمحي له بالتأثير على ما تبقى من حياتك .. كل منا مر بتجربة فاشلة ذات يوم .. هذا لا يعني أن نتخلى عن براءة أحلامنا بسببها
سألته بفضول :- وهل مررت أنمت بواحدة ؟
ضحك قائلا :- بل أكثر من واحدة .. المرحلة الجامعية لم تكن مسلية جدا بالنسبة إلي
تأملته مليا غير قادرة على تخيل هشام عطار مرفوضا .. قرأ أفكارها بسهولة وقال :- لم أكن يوما مثاليا يا أماني .. في تلك المرحلة كنت طالبا فقيرا يسخر زملاءه من ارتداءه لنفس القميص طوال أيام السنة .. وأنا لا اخجل من ماضيي أبدا لأن الفقر لم يكن عيبا في يوم من الأيام .. وهذه لم تكن فكرة الفتيات في تلك السن .. هل كنت لتقبلين بتودد شاب لا يملك قوت يومه .. ومسؤول عن عائلة كاملة عليه أن يطعمها وينفق عليها ؟
تمتمت :- لقد كنت مستعدة للزواج من فراس رغم فقر حاله وغموض مستقبله .. في ذلك الوقت .. كانت الثقة والعاطفة في نظري هما أساس أي ارتباط
صمت للحظات طويلة وهو ينظر إليها .. ثم قال باقتضاب :- أظنك كنت مختلفة عن باقي الفتيات وما زلت
التقت نظراتهما .. فأسرعت تشيح بوجهها عنه وقد سرى بينهما ذلك التوتر المألوف .. قالت مازحة لتخفي اضطرابها :- هل تفسر قصتك هذه سر الندبة التي تحملها فوق عينك ؟
قال على الفور :- قد أحكي لك سرها إن حكيت لي عن ندبتك أنت يا أماني
ارتبكت وقد أحست بأنه يعني ندبتها الداخلية .. التي تفضل الموت على البوح بها لأحد.. أنقذها من الرد استنشاقها لرائحة عطره الثمينة والتي أصابتها بنوبة سعال حادة منحتها العذر لتبتعد عنه .. سألها باهتمام :- هل أنت بخير ؟
أخذت نفسا عميقا من الهواء البارد النظيف ثم قالت بصوت مختنق :- إنها رائحتك
قال بدهشة :- ماذا ؟
التفتت إليه قائلة بحرج :- رائحة عطرك .. تسبب لي العطور حساسية شديدة فلا أستطيع احتمالها
قال بارتياب :- لا أصدقك .. فأنت لا تتأثرين برائحة عطرك
قالت ببساطة :- أنا لا أستعمل العطور أبدا ومنذ سنوات
ضاقت عينيه وهو يقف على بعد أمتار منها يراقبها .. فأدهشها أن تلاحظ اضطرابه .. نظر بعيدا وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره القاتم .. ويقول بتوتر :- أظن رائحتك الخاصة قد أربكتني
لأول مرة منذ سنوات تشعر أماني بأنوثتها تعود إلى الحياة من جديد أمام رجل يلاحظها ويغازلها بارتباك يتناقض تماما مع رجولته الطاغية وثقته الشديدة بنفسه .. أحست بالضعف واللذة لهذا الإحساس مما فاجأها .. راقبته يقاوم توتر اللحظة برفع هاتفه .. والاتصال بشخص ما .. سمعته يتحدث بعصبية .. ثم ينهي مكالمته قائلا بانزعاج :- لقد تأخر السائق
تمتمت :- لم تمض أكثر من ساعة
شعرت في تلك اللحظة بأول قطرة مطر تهطل فوق انفها .. فرفع رأسه وهو يقول بسخرية :- لنرى إلى متى ستجدين الساعة قصيرة
اتجه نحو السيارة وهو يشير لها قائلا : من الأفضل أن ننتظر في السيارة
فتح لها الباب الأمامي فقالت باستفزاز :- أتخشى البلل؟
ازداد المطر حدة فالتفت إليها قائلا بجفاف :- بل أخشى عليك من المرض .. كما أنني لن أحتمل نوبة ذعر نسائية منك بسبب إفساد المطر لشعرك وزينتك
ارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة .. ثم رفعت رأسها إلى السماء لتستقبل قطرات الماء الباردة .. وقالت بنشوة :-
:- لا تقلق .. لن أعرضك لموقف كهذا
نظر إليها مليا يتأمل شعرها الأشقر الرطب الذي التصقت أطرافه بجبينها ووجنتيها .. واسترخائها الكامل وكأنها قضت حياتها كاملة تحت المطر .. قال بهدوء :- سيدة الشتاء
أقفل باب السيارة .. فنظرت إليه بحيرة ورددت :- سيدة الشتاء !!!
ابتسم بغموض قائلا:- تذكرينني بقصة قديمة عن فتاة أحبت الشتاء بجنون جعل أصدقائها يطلقون عليها اسم سيدة الشتاء لأنها ما كانت تمانع بالاغتسال تحت قطرات المطر مهما كان الجو باردا أو قارسا
أثار فضولها فسألته :- وما حكايتها ؟
:- كان لها حبيب يحمل في قلبه قسوة لم تناسبها .. تشاجرا ذات ليلة ممطرة وهو يقود سيارته بها في طريق مقفر .. فطلبت منه في لحظة غضب إنزالها من السيارة فلم يتردد في الإجابة على طلبها .. وسرعان ما تركها وحيدة في العراء ومضى في طريقه
تمتمت دون أن تفكر :- النذل
ابتسم ولم يعلق .. بل تابع :- بعد قيادته لبضع كيلو مترات وخزه ضميره وتذكر حبه العميق لفتاته .. ولم يستطع المضي أكثر .. فعاد أدراجه إلى حيث تركها ليفاجئ برؤية ملابسها وحذائها وجميع متعلقاتها .. ولكن بدون أي أثر لها
بالرغم منها .. أحست أماني بجسدها يقشعر من غرابة القصة .. سألت مترددة :- ما الذي حدث لها
:- اختلف الناس في تفسير ما حدث .. البعض قال بأنها قد سئمت من حبيبها وقررت الاختفاء من حياته ولكن ليس بدون تلقينه درسا وإثارة الذعر في نفسه .. وبما أن عائلتها لم تسمع عنها شيئا .. واستحالة تحركها بدون ملابسها .. عزا البعض ما حدث إلى ظاهرة الاحتراق الذاتي الشهيرة التي لم ينجح أحد في تفسيرها .. والبعض الآخر علل الحادث بهوسها القديم اتجاه المطر .. فدموع القهر والغضب التي ذرفتها بعد رحيل حبيبها امتزجت بقطرات المطر .. فحصل اتحاد مزج بين روحها وجوهر هذا الماء السماوي فذابت خلاياها معه .. وشربت الأرض العطشى بقاياها إلى آخر قطرة
صمت بعدها مراقبا وجهها المتصلب الذي فقد شيئا من لونه .. أحست أماني بأن الأمان الذي أحست به قبل دقائق قد اختفى .. وبدا لها المكان المقفر والمظلم الذي تخلل صمته صوت ضربات المطر الرتيبة على سطح الأرض الخشنة .... مخيفا
تحاشت النظر إليه وهي تقول بصوت مختنق :- لقد بدأت أشعر بالبرد .. أظنني سأعود إلى السيارة
فتح لها الباب من جديد فأسرعت تحتمي بحميمية ودفء السيارة
لم يلحق بها فورا .. بل بقي لدقيقة كاملة في الخارج .. يتأمل الطريق اللانهائي بعبوس قبل أن ينضم إليها دون أن يتكلم .. بعد دقائق طويلة من الصمت .. قال أخيرا بصوته العميق :- آسف لما سببته لك من الخوف
قالت بكبرياء :- لم أخف
ولكنها سألته بعد لحظات بتردد:- هل .. هل القصة حقيقية ؟
نظر إليها ففاجأها الحنان المطل من عينيه وهو يقول بحزم لطيف :- سواء كانت القصة حقيقية أم لا يا أماني .. فثمة حقيقة مؤكدة هي أنك لن تصابي بأي أذى ما دمت معي .. فهل تصدقين هذه الحقيقة؟
حاولت أن ترد عليه بالإيجاب ولكنها لم تستطع ... أبعدت نظرها عنه فزفر بقوة وامتنع عن قول أي كلمة إضافية حتى دوى رنين هاتفه المحمول .. وسرعان ما لمحا ضوء السيارة القادم من بعيد فقال باقتضاب :- لقد وصلت السيارة
أحست أماني بالراحة العميقة لانتهاء هذه الليلة الغريبة .. فقضاء الوقت مع هشام لم يزد مشاعرها نحوه إلا غموضا
وإحساسها بالخوف نحو المستقبل إلا قلقا وخوفا










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-21, 12:55   رقم المشاركة : 35
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الثالث والعشرون
الحقيقة المرة

أوقف تمام شاحنته الصغيرة والتفت إلى جودي ملقيا نحوها نظرة طويلة لاحظ خلالها مدى ضيقها وتوترها وهي تنظر عبر النافذة إلى مدخل المطعم .. قال بهدوء :- لقد وصلنا
أدركت هذا .. ولكنها لم تتوقع عندما وعدها بأن يأخذها إلى مكان مميز أن يعيدها إلى حيث التقيا أول مرة .. إلى مكان يرتاده طارق ومعارفه بانتظام .. سمعته يقول بحزم لطيف :- جودي .. انظري إلي
التفتت إليه على مضض .. فآخر ما أرادت إظهاره له هو خوفها وجبنها من مرافقته علانية .. ولكنها وجدت التفهم في عينيه وه يقول :- ما من مبرر لقلقك .. أعدك بهذا
صدمتها ثقتها الكبيرة به .. فقد أومأت برأسها مصدقة إياه بكل بساطة .. وترجلت معه من السيارة .. لاحظت بأنه لم يدخل من البوابة الرئيسية .. بل دار بها حول المبنى وأدخلها من باب جانبي صغير .. توقفت عندما صعد إلى درج ضيق وقالت بتوتر :- إلى أين تأخذني ؟
استدار إليها قائلا بنفاذ صبر :- هلا توقفت عن الشك بكل ما أقوم به .. فقط جارني قليلا ولن تندمي .. وأعدك بأنني سأوصلك إلى منزلك فور أن تطلبي مني هذا
ترددت للحظات ثم حسمت رأيها .. منذ أيام وهي تخرج مع تمام بانتظام وفي كل مرة كان يفاجئها بأخذها إلى مكان مميز أو القيام بعمل مجنون لم يخطر لها أبدا .. باختصار كانت تستمتع بوقتها دون أن يفرض عليها شيئا .. لا لمسات .. لا تلميحات مثيرة .. ولا حتى قبلات
لم يقترب منها بشكل حميم ولو مرة منذ قبلها ذلك اليوم فوق الجبل .. وذلك لكسب ثقتها وعدم ترك حجة لها تمنعها من رؤيته.. ولكن السؤال الذي كانت تطرحه على نفسها باستمرار هو كيف ستكون ردة فعلها إن حاول تقبيلها مجددا ؟
صعدت معه حتى وصلا إلى السطح .. وقفت في وسط المكان الفسيح والهواء البارد يلفحها بقوة فضمت معطفها إليها وجالت ببصرها حولها .. فلم تجد شيئا سوى غرفة صغيرة في نهاية السطح .. تسرب الضوء من أسفل الباب الخشبي المغلق فعرفت بأنها مقصدهما
شعرت بيده على ظهرها تحثها على السير .. فأخفت جاهدة الخوف والريبة اللذين تسللا إلى نفسها .. وسارت معه نحو باب الغرفة .. فتحه وأفسح لها الطريق لتدخل أمامه ..
تسمرت مكانها بعد خطوة واحدة من دخولها .. وأطلقت شهقة قصيرة .. فما رأته داخل الغرفة لم يكن متوقعا على الإطلاق .. همست بدون وعي :- يا إلهي
لم تكن الغرفة صغيرة كما ظنت .. بل فسيحة ورحبة .. بهرت نظرها بديكورها البديع الذي تجلى بالنوافذ المقنطرة الكبيرة المطلة على مشهد رائع للمدينة .. الجدران ذات اللون القوي التي توزعت عليها لوحات فنية بديعة .. ميزت من بينها اللوحة التي اشترياها معا منذ أسابيع .. وبعض الرفوف الخشبية التي تراصت عليها الكتب .. أما أثاث الغرفة فقد كان عبارة عن طنافس وثيرة على الأرض .. وسجادة شرقية متعددة الألوان مما جعل المكان يبدو كمشهد خارج من كتاب ألف ليلة وليلة .. أما إضاءة المكان .. فقد كانت معتمدة على مصابيح تقليدية قديمة الطراز .. منح نورها الأصفر الشاحب بالإضافة إلى النيران المشتعلة داخل موقد قرميدي جميل الشكل المكان طابعا خياليا
همست مجددا :- تمام .. ما هذا المكان بالضبط ؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامة رضا للتأثر الواضح عليها وقال :- مكان صمم ليثير ردة فعلك هذه بالضبط
التفتت إليه قائلة بتأنيب :- تمام محفوظ .. هذا مكان صمم خصيصا للتأثير على النساء وإفقادهن عقولهن .. ومن الأفضل أن تكون نواياك سليمة
أطلق ضحكته الرجولية الجذابة وهو يداعب شعرها الناعم الذي جمعته على شكل ذيلي حصان وقال :- ما أنويه حاليا هو منحك وجبة عشاء شهية ووقتا ممتعا لن تنسيه أبدا
نظرت إلى المائدة المنخفضة التي توسطت الغرفة والتي امتلأت بما لذ وطاب من الأطعمة الساخنة .. وزينتها باقة أزهار ناعمة في المنتصف .. فابتسمت قائلة :-من الواضح بان زملائك في المطعم مشتركون معك في إعداد هذه المؤامرة .. منذ متى وأنت تحضر لهذه الأمسية ؟..أم أنك معتاد على القيام بهذه الترتيبات مع كل صديقاتك ؟
أدارها إليه ونظر إلى عينيها قائلا بحزم :- ليس هناك صديقات يا جودي .. أنت أول امرأة أدعوها إلى هنا
ارتبكت جودي وضاعت بين الصدق في عينيه وقناعتها بأن شابا بوسامته وجاذبيته لا يمكن ان تخلو حياته من النساء .. فأسلوبه العفوي في إفقادها عقلها ينم عن خبرة واسعة في معاملة الجنس الآخر
قادها إلى المائدة وساعدها على الجلوس فوق الوسائد الوثيرة فيما قالت :- قد تكون صادقا .. ولكنني لن أصدق بأن نوايا صاحب المطعم كانت سليمة عندما صمم المكان .. بالمناسبة .. هل يعلم بأنك تستعمل عش الغرام الخاص به لأغراضك الشخصية ؟
جلس إلى جانبها والتسلية تطل من عينيه وكانه يستمتع بسماع رأيها السلبي في مديره . ومع هذا قال :-أنت تظلمين الرجل يا جودي .. قهو ليس سيئا إلى هذا الحد .. لماذا لا تصدقين بان رجلا قد يصمم مكانا جميلا كهذا لأجل الهروب إليه من مشاكل الواقع والانفراد بنفسه قليلا .. أو الاجتماع بأصدقائه المقربين بعيدا عن ضجيج المطعم وازدحامه ؟
هزت رأسها بعدم اقتناع قائلة :- حبيبي تمام .. إما انك بريء للغاية أ, انك تكن ولاءا غير عادي لرئيسك
وعندما لم يمنحها ردا نظرت إليه لتجد انفعالا في عينيه فسألته بقلق :- ما الامر ؟ هل قلت ما أغضبك ؟
ابتسم بدفء قائلا :- لا .. ولكنك ناديتني بحبيبي دون أن تشعري
احمر وجهها عندما أدركت ما قالته .. فأشاحت بوجهها منشغلة بتناول ما امامها من طعام متجاهلة التوتر الذي أخذ يتصاعد بينهما .. ثم قالت مغيرة الموضوع :- من الواضح ان رئيسك يكن لك مودة خاصة إذ سمح لك باستخدام مكان خاص كهذا
هز كتفيه قائلا :- إنه معجب بمواهبي .. وبما انني من قام بتصميم المكان .. منحت امتيازا عن باقي زملائي
عادت تتأمل المكان بطريقة مختلفة وهي تقول باستغراب :- أنت موهوب بشكل ملحوظ .. أما فكرت يوما بامتهان هذا العمل ؟
:- تقصدين كمصمم للديكور ؟
:- نعم
هز رأسه ماطا شفتيه بلا اقتناع :- ما قمت به هنا كان للمتعة فقط .. ولكنني لا اجد نفسي أقوم بهذا العمل لكسب الرزق
كان الطعام شهيا بالفعل .. ولكن عقلها كان مشغولا بكلامه .. لم تعرف إن كان سيتقبل منها ما ستقوله أم لا .. ولكن على احد ان يفتح عينيه ليرى الواقع .. قالت :- ألا ترى بانك تهدر طاقاتك بما تقوم به حاليا ؟
عقد حاجبيه قائلا :- ماذا تقصدين ؟
:- أقصد كعازف غيتار
ضاقت عيناه الداكنتان وهما تنظران إليها بتعبير غير مفهوم وقال :- أهذا رأيك ؟
:- انت تملك الكثير من المواهب والطاقات .. والشهادات العليا .. بالإضافة إلى شخصية مثيرة للاهتمام .. تستطيع كسب ثروة إن استثمرت ما لديك جيدا
برقت عيناه بغضب واضح .. ولكن صوته حافظ على بروده وهو يقول :- أعرف بانني لا أقارن بخطيبك الثري يا جودي .. ولكنني لم أخجل يوما من عمل قمت به ما دام شريفا .. أم انك تجدين عملي حقيرا إلى هذا الحد؟
أسرعت تقول بذعر :- لا .. أنا لم أقصد هذا
لم ينتظر منها تفسيرا .. بل قفز واقفا وابتعد عنها .. فعرفت بانها قد لمست وترا حساسا بإشارتها غير المتعمدة غلى الفروقات بينهما
لحقت به إلى حيث وقف ينظر عبر النافذة بنظرات واجمة .. وقالت :- لو لم أكن لك ما يكفي من الاحترام لما كنت هنا معك يا تمام
وضعت يدها فوق ذراعه وقالت بتوسل طفولي :- لا تغضب مني ... أرجوك
وعندما لم يتحرك أكملت بتردد :- أنت تعرف بانني أهتم لأمرك مهما كانت طبيعة عملك
استدار إليها ورمقها بنظرات غامضة وهو يقول :- أثبتي هذا إذن
اتسعت عيناها بريبة .. وقبل ان تفهم قصده أحاط خصرها بذراعيه وشدها إليه بقوة ... كتم شهقتها المذعورة بفم جائع ومتلهف .. فحاولت ان تبعده عنها مقاومة قبلته الشرسة فلم تستطع .. ولكن ما ان مرت ثوان قليلة حتى تبخرت مقاومتها ووجدت نفسها تقترب منه أكثر لتبادله قبلاته بنفس الحرارة واللهفة .. دارت الغرفة من حولها واختفت معالمها .. وسرى في جسدها إحساس لذيذ ومخيف من الإثارة .. شعرت بكل جزء منها يتوق إليه بجنون .. أحاطت عنقه بذراعيها واستسلمت تماما لشفتيه اللتين امتلكتا شفتيها ولم تبتعدا حتى قدرتا حاجتها إلى التقاط أنفاسها .. نظر إلى عينيها التائهتين وشفتيها المرتعشتين .. واهتز جسده بعاطفة جياشة وهو يهمس من بين أنفاسه اللاهثة :- لو تعلمين كم أحبك .. لو تعلمين كم أريدك
كلماته جعلتها تهبط إلى أرض الواقع شيئا فشيئا .. حتى تمكنت من انتزاع نفسها من قلب الغيبوبة التي سيطرت عليها بدفعه بعيدا عنها وهي تصيح بعنف :- توقف
نظر كل منهما إلى الآخر لاهثا .. هو برغبة وحشية كادت تضعفها مجددا .. وهي بذهول مما حصل
تمكن أخيرا من أن تهمس :- كيف تجرؤ على إهانتي بهذا الشكل ؟
رمشت عيناه وكأن ردة فعلها قد فاجأته .. قال بتوتر :- آخر ما قصدت فعله هو إهانتك أو إيذائك يا جودي
ولكنها لم تستمع إليه .. بدت وكأنها تتحدث إلى نفسها وهي تقول باضطراب :- أهذا هو ردك على إشارتي السابقة حول عملك .. أم أنه ما خططت له منذ البداية بإحضاري إلى هذا المكان الشاعري والمنعزل ؟
صاح بحدة ليوقف سيل الأفكار والوساوس من التدفق إلى رأسها :- جودي
نظرت إليه بذهول وهي تردد :- هذا صحيح أليس كذلك ؟ لقد أحضرتني إلى هنا لتنهي ما بدأته قبل أسابيع .. إنه الفصل الأخير من المسرحية الشاعرية الحمقاء التي ضممتني إليها بإلحاحك المستمر .. فكرت بأنني ما دمت سأرفض الارتباط بك .. فلم لا تستغل افتتاني الأحمق بك لتقضي وقتا ممتعا معي
تصلب جسده الطويل .. وارتسم غضب شديد في عينيه .. لم يسمح لها انفعالها بأن تدرك مدى قسوة كلماتها .. ولكنها لاحظت تغير ملامحه فتراجعت بقلق بينما قال هو بجفاف :- أتنعتينني بالانتهازي يا جودي ؟ وماذا عنك أنت ؟ .. من منا يستغل الآخر برأيك .. أنا أم أنت ؟ أنت هي الفتاة الثرية المدللة المخطوبة لرجل آخر ومع هذا لا تجد ضررا في قضاء الوقت مع عازف حقير مثلي
اقترب منها وقد قست ملامحه بشكل لم تعهده جودي منه أبدا .. مما زرع الخوف في أعماقها ودفعها للتلفت حولها بحثا عن مهرب .. قال بقسوة :- تحتقرين كوني فقيرا .. ولن تفكري أبدا بالارتباط بي ... ولكنك لم تترددي في مرافقتي عدة مرات .. ومبادلتي القبلات
صاحت بيأس :- هذا غير صحيح
لوى فمه بابتسامة ساخرة وقال :- حقا ؟ إن لم تخني ذاكرتي فقد كنت منذ لحظات قليلة بين ذراعي .. تبادلينني القبلات بحرارة ورغبة .. إن لم يكن هذا استغلال لي .. وخيانة لخطيبك .. فأنا لا أعرف له تسمية أخرى
تجمعت الدموع في عينيها وقد جرحتها الحقيقة المرة في كلماته .. هزت رأسها محاولة الدفاع عن نفسها وهي تصيح بألم :- لا تجعل من نفسك الضحية هنا .. فأنا ما كنت بالنسبة إليك أكثر من تحدي كدت تنجح في تحقيقه .. لم تكن تفكر بالزواج مني حتى لو اختلفت الظروف
صاح بعنف :- أنت محقة .. لن أتزوج أبدا بفتاة لا تستطيع معرفة ما تريده حقا .. ولا تجد الشجاعة الكافية حتى لتفسخ خطوبتها برجل لا تحبه
انكمشت وقد أخافها عنفه فخفت الحدة في لهجته وهو يقول :- لا تتوقعي مني أن أطلب منك تركه إن لم تفعلي من تلقاء نفسك .. ولا تلوميني على استغلالي لك في الوقت الذي لا تقلين فيه سوءا عني
اغرورقت عيناها بالدموع .. وبدون أي كلمة .. اندفعت عبر باب الغرفة مسرعة .. فلحق بها قبل أن تصل إلى الدرج وأمسك بذراعها .. وأدارها إليه لتنظر إلى عينيه .. وقال ضاغطا على حروفه :- لن تستفيدي شيئا من هروبك هذا يا جودي .. إنما أنت تهربين من نفسك .ومشاعرك .. ومن الحقيقة التي تحاولين إنكارها .. ستدركين في النهاية أننا قد خلقنا من طينة واحدة .. وأنك لن تجدي أنسب لك مني
انتزعت نفسها من بين يديه وقد علت وجهها نظرة اشمئزاز ... ثم تابعت طريقها خارجة من المكان دون أن يعترض طريقها هذه المرة .. وبينما هي تقطع طريقها شبه راكضة فوق الرصيف .. انهمرت دموعها بغزارة مترافقة مع نشيج مكتوم لم تستطع السيطرة عليه .. لم تكن تبكي بسبب إهانة تمام لها .. ولا بسبب الحقيقة التي ألقاها في وجهها .. بل كانت تبكي بسبب اكتشافها بأنها رغم اتضاح سوء نية تمام ونذالته .. فهي تحبه بجنون
تحبه بلا أمل




الفصل الرابع والعشرون
ندبة في روحها

ارتفع رنين هاتف اماني المحمول .. فأقفلت الكتاب الذي كانت تقرأه ونهضت الأريكة لتلتقط الهاتف من حيث ألقته فوق طاولة الطعام متسائلة عمن يتصل في هذا الوقت المتأخر .. سمعت صوت سمر عندما اجابت يقول بمرح :-
:-هل أيقظتك من النوم أيتها العروس؟
قالت أماني ساخرة :- لم أتحول إلى دجاجة بعد.. مازال الوقت مبكرا على النوم .. فالساعة لم تتجاوز العاشرة
:- ممم..... ما الذي تفعلينه إذن ؟ بالتأكيد تنتظرين اتصالا من هشام .. أخبريني كيف هو كخطيب ؟ هل تستمر مكالماتكما حتى الصباح كباقي العشاق؟
احمر وجه أماني لسماعها هذا الوصف البعيد جدا عن وضعها مع هشام ..وكادت تنفي لولا تذكرها بأن سمر كغيرها تظن بأن هذه الخطوبة حقيقية فقالت :- ليس بهذا الشكل أنت تعرفين بأن ابن اختك لا يحب الثرثرة
نجحت في أداء دور الخطيبة الشاكية فقد ردت سمر :- أنت محقة .. ولكنك لا تقلين عنه سوءا .. يجب على أحدكما أن يتنازل قليلا....
استمرت سمر في حديثها مع أماني حتى دوى صوت جرس الباب منقذا أماني من سؤال سمر عن فستان الزفاف .. قالت بسرعة :- إنه صوت جرس الباب ..سأفتحه وأعود إليك
ما إن ادارت قبضة الباب حتى خطر لها بانها لا تنتظر أحدا .. وان الوقت متأخر على زيارة مفاجئة .. ولكن الاوان كان قد فات عندما دفع الباب بقوة حتى كادت اماني تفقد توازنها .. ثم انتابها ذعر شديد لرؤية صلاح يدخل الشقة ويقفل الباب ورائه بإحكام .. ثم يستدير إليها .. أطلقت شهقة مكتومة وهي ترى نار الغضب المشتعلة في عينيه .. فتراجعت إلى الخلف وهي تفكر بأنها لم تر صلاح من قبل بهذه الحالة من الانفعال .. وبدون هدوءه المعتاد ..فقالت بتوتر:-
:- ما الذي تريده يا صلاح؟ لقد سبق وأخبرتك بأنك غير مرحب بك هنا
لمح الهاتف الذي تحمله فسار نحوها بسرعة وانتزعه من بين أصابعها ليقفله ويرميه جانبا كي لا تفكر بطلب النجدة .. أدركت بغريزتها بأن هذه المرة مختلفة فحاولت التزام الهدوء والتعقل وعدم استفزازه وهي تخاطبه :- ماذا تريد ؟
قال بصوت خرج منه أشبه بالفحيح :- ما الذي تظنيني أريده ؟
كانت على وشك فقد اعصابها .. فملامح صلاح الوسيمة فقدت وقارها وغرورها لأول مرة .. وبدا من انفعاله وغضبه أنه في حالة لا تسمح له بحديث مهذب .. قالت محاولة إظهار القوة :- ما من فائدة ترجى من محاولاتك يا صلاح ..أنا امرأة مخطوبة الآن ..وإن عرف .....
صرح مقاطعا إياها :- كاذبة
انتفضت وتراجعت تحتمي خلف أريكة صغيرة وقد اخذ جسدها يرتعش بخوف لم تعرفه سوى مرة واحدة .. راقبته وهو يحل ربطة عنقه بإرهاق وهو يقول :- كاذبة لعينة .. هل ظننتني أحمقا إلى هذا الحد ؟ وأنني لن أكتشف لعبتك بطريقة ما
سألته بحذر :- أي لعبة ؟
:- لعبة الخطوبة المزيفة التي كدت تقنعينني بها .. أنت لست مخطوبة إلى هشام عطار ..إنها تمثيلية الهدف منها إبعادي
أحست أماني وكأن صفعة قوية قد اصابت وجهها .. حدقت به بذهول فضحك بمرارة :- تتساءلين عن الطريقة التي عرفت بها الحقيقة ..أنسيت بأن لدي مصادري داخل مقر عملك ؟ ليس هناك أسهل من معرفة ما يدور بينك وبين مديرك عندما تنفردان داخل مكتبه
أول اسم خطر في ذهن أماني هو لندا .. سكرتيرة هشام الرقيقة الطبع والملامح .. وتذكرت شجارها الدائم مع هشام كلما انفردت معه داخل مكتبه .. وبالذات شجارهما صباح اليوم .. هل كانت لندا تستمع إلى أحاديثهما بطريقة ما لحساب صلاح ؟
تابع حديثه ببغض :- كان علي أن أعرف بأن هشام عطار لن يتزوج بك بعدما أصبحت حديث المدينة بأكملها .. وبالتأكيد لن يورط نفسه معك دون أن يحصل على شيء في المقابل
اقترب منها قائلا بصوت جمد الدماء في عروقها :- ما الذي منحته لهشام عطار مقابل مساعدته لك يا أماني؟
تصاعد الخوف في أعماقها حتى وصل إلى حدود الهستيريا .. وجدت أطرافها ترتعش تكاد تصاب بالشلل ..ركزت بصرها على الباب القريب منها وفكرت بانها إذا فاجأته فإنها تستطيع الهرب قبل ان يمنعها .. ولكنه قرأ أفكارها فأمسك بها قبل أن تصل إلى الباب
قاومته بشراسة وهي تصيح :- اتركني وإلا صرخت وجمعت الجيران في لحظة
ولكنه بدا وكأنه لم يسمعها عندما هزها بعنف وهو يكرر:- ما الذي أعطيته لذلك الرجل ؟
صاحت به وقد طفح بها الكيل :- هذا ليس من شأنك .. وإن كنت مصرا فلتعلم بانني أعطيته شيئا لم ولن تحصل عليه أبدا
لم تكن تنوي استفزازه .. ولكن غضبها منه وخوفها شلا تفكيرها .. وعندما تجد اماني نفسها في موقف ضعف تتفوه عادة بما تندم عليه لاحقا .. وهذا ما حدث عندما فسر صلاح عبارتها بالأسوأ... فاحمرت عيناه .. واحتقن وجهه وهو يقول من بين أسنانه :- أيتها الفاسقة .. كان يجب ان أحصل عليك قبل سنوات خلت .. لما استطعت أن تتحديني بهذا الشكل .. على أي حال لم لا نكتشف معا ما حصل عليه هشام عطار
أحنى رأسه محاولا الوصول إلى شفتيها ... فأشاحت بوجهها وتلوت بين ذراعيه محاولة الافلات وهي تصيح بيأس :- اتركني يا صلاح .. أرجوك
ولكنها لم تزد بمقاومتها إلا من جنون غضبه إذ قال بحدة :- تختارين دائما الطريق الأصعب ..أليس كذلك ؟لا بأس .. لك ما تريدين
صرخت برعب عندما حملها ودخل بها إلى غرفة النوم .. ألقاها فوق السرير وثبتها فوقه مثبتا تفوقه الجسدي عليها .. تحول رعبها إلى جنون هستيري وهي تحاول إبعاده بيديها وقدميها دون فائدة .. تفجرت ا لدموع من عينيها وهي تبكي متوسلة إليه أن يتركها ..
هذا ما عاشت حياتها كلها خائفة من حدوثه .. أنه أبشع كوابيسها يتحقق على أرض الواقع وبأقسى طريقة .. وللحظات اختفت معالم الغرفة من حولها .. وبدأ الظلام يخيم حول وعيها المصدوم .. ولم تعد إلى الواقع إلا عندما تحررت من مهاجمها فجأة.. فتحت عينيها لتدرك بأن صلاح إنما قد انتزع من فوقها انتزاعا ..رات غير مصدقة هشام يمسك بتلابيب قميص صلاح وقد حوله الغضب إلى وحش مخيف لم تره منه من قبل .. قال بصوت أشبه بالرعد :-
:- أيها الجبان الحقير .. لقد حذرتك من الاقتراب منها
حاول صلاح التخلص منه وهو يصرخ :- أنت هو الغريب هنا .. أنا أعرف بانك لا تنوي الزواج بها .. إنها ابنة عمي وأنا اولى حتى بالفتات الذي تركته
إذ بصلاح يطير عبر الغرفة ليصطدم بمنضدة الزينة ويسقط ما عليها بدوي قوي .. بعد ان لكمه هشام بقبضته غير قادر على السيطرة على غضبه .. تفجرت الدماء من أنف صلاح بينما هدر صوت هشام :- إياك أن تهين المرأة التي ستصبح زوجتي
مسح صلاح الدماء بكم قميصه وهو ينهض ويقول لاهثا :- انت تكذب .. ما بينكما مجرد خطبة زائفة .. انت لن تتزوج بها أبدا
ولكن غضب هشام الكبير من مرأى تهجمه على اماني لم يبرد بعد .. عاد يمسك بقميص صلاح وقد بدا عليه الإجرام .. عرفت اماني وهي تجر نفسها فوق السرير لتحيط نفسها بالبطانية مخفية ما طهر من جسدها عبر ملابسها الممزقة .. بان هشام يبذل جهدا كبيرا كي لا يفتك بصلاح في تلك اللحظة .. لم يكن صلاح غبيا .. فالفرق في القوة الجسدية بينه وبين خصمه كان كبيرا .. فلم يحاول استفزازه اكثر بينما قال هشام بصرامة :- أنا واماني سنتزوج خلال أسبوعين .. وإن جرؤت على الاقتراب منها مجددا أقسم بأن أتجاهل القرابة التي تجمعك بها .. وأقتلك بدون تردد
ثم سحبه إلى خارج الغرفة تاركا أماني الذاهلة .. العاجزة عن التفكير بحقيقة ما حدث .. أو بما جاء بهشام إلى هنا وكيفية دخوله إلى الشقة .. كانت في حالة من الصدمة وبالكاد أحست بان الهدوء التام قد ساد المكان
ظهر هشام على باب غرفتها لاهثا .. نظر إليها حيث كانت تجلس منكمشة على نفسها فوق السرير .. وأجبر نفسه على استعادة الهدوء .. ونسيان المشهد الذي كاد يبخر كل ذرة عقل لديه .. والتفكير بانه وصل في الوقت المناسب على الأقل ..
وبالفتاة التي لم تصحو من صدمتها بعد .. قال بهدوء:- لقد رحل يا أماني
لم تمنحه ردا .. بل لم تستطع النظر إليه بينما تابع :- لقد تحطم قفل الباب أثناء دخولي إلى الشقة .. ولكنني سأصلحه لك صباح الغد .. ذلك الرجل لن يعود مجددا
همست :- بل سيعود .. إنه يعود في كل مرة .. وفي المرة القادمة .. في المرة القادمة ..
كانت قد توقفت عن البكاء .. ولكنها كانت ترتعش وبدت على وشك الانهيار .. انقبضت عضلات جسده الطويل عندما أدرك معنى كلماتها .. فقال بغضب :- هل سبق لذلك الحيوان أن تهجم عليك ؟
أشاحت بوجهها وقد عادت دموعها تتدفق بغزارة فوق وجنتيها .. اقترب منها فانكمشت مبتعدة بشكل غريزي .. جلس إلى جانبها على طرف السرير وقال بهدوء :- أنا لست صلاح يا اماني .. تعرفين جيدا بانني لن أؤذيك .. انظري إلي ..
كانت تتحاشى النظر إليه منذ البداية .. خوفا واضطرابا .. وحرجا أيضا مما حدث .. ولكن عندما امرها .. رفعت بصرها إليه فقال :- انت بخير الآن
هذا صحيح .. ما دام موجودا .. بطريقة ما أحست اماني بان هذا الرجل هو ما يمثل الأمان في حياتها .. عندما أحس بتشنجها يخف .. مد يده نحوها فترددت للحظات قليلة .. قبل ان تجد نفسها بين ذراعيه .. ووجهها مدفون في صدره العريض .. تبخر الخوف فجأة من أعماقها ليحل محله الضعف .. الضعف التام .. عادت تبكي من جديد مستسلمة لحاجتها الشديدة منذ سنوات غلى صدر تبكي عليه .. فربت على شعرها الناعم برفق .. وهمس في أذنها بكلمات مهدئة .. غير قادر على استيعاب التغيير الذي وجده فيها .. لقد سقط أخير قناع القوة الذي ارتدته لسنوات .. وظهرت الطفلة الضعيفة الخائفة التي حرصت على إخفائها عن الآخرين
عندما هدأت قليلا . ابتعدت عنه لتمسح دموعها بظهر يدها قائلة :- آسفة .. لقد بللت قميصك
قال واجما :- لا مشكلة
لم تستطع النظر إليه وهي تقول :- اعرف بانني سأبدو ناكرة للجميل .. ولكنني أتساءل عما جاء بك في هذا الوقت بالذات
قال :- اتصلت بي سمر واخبرتني بانك ربما تواجهين مشكلة .. ولحسن الحظ كنت انا قريبا من هنا
رفع ذقنها بسبابته ليجبرها على النظر إليه وردد سؤاله بإصرار:- منذ متى وصلاح يشكل لك هذا النوع من التهديد يا أماني ؟
صمتت للحظات فبدت وكأنها سترفض الإجابة .. ولكنها تمتمت أخيرا:- طوال حياتي .. ولكن الأمر لم يبدأ حقا إلا منذ خمس سنوات
أي منذ بدأت تعمل لديه تقريبا .. أكملت :- كان أبي قد فقد صبره عندما أصريت على رفضي لصلاح .. حتى الآن لا اعرف إن كان هو من شجع صلاح .. أو ان صلاح هو من بادر بتلك الخطوة من تلقاء نفسه
أحست وهي تتكلم وكأنها تعيش ما حصل مجددا .. فارتعش صوتها وهي تتابع :- كنت نائمة عندما أحسست بأحد داخل غرفتي .. لم اعرف من كان في البداية بسبب الظلام .. ولكن عندما أمسك بي عرفته .. كانت صدمتي شديدة في البداية إلى حد أنني لم أفهم ما كان يحصل .. ثم بدأ ذهولي يتحول إلى ذعر .. قاومته .. صرخت طلبا للعون ..فلم يسمعني أحد .. وعندما تحررت منه أخيرا ركضت إلى خارج الغرفة لأجد أبي هناك
لا يمكنها أن تنسى كيف كان والدها ينظر إليها .. ببرود كالثلج وكأنه يعرف ما كان يحصل
:- صرخت به يائسة .. افعل شيئا .. قل شيئا على الأقل .. ابنتك كادت تتعرض للاغتصاب على يد الرجل الذي تثق به أكثر من نفسك .. ولكنه رد بكل هدوء بأن صلاح سيصبح زوجي في النهاية .. وأن حصوله على ما هو له ليس اغتصابا
كبت هشام غضبه من ذلك الأب الذي لم يراع شعور ابنته .. ولكنه كتم أفكاره مدركا بأنها لن تحتمل أي تعاطف منه .. بل استمع إليها وهي تكمل :-
:- كانت صدمتي شديدة وغضبي أشد .. فوجدت نفسي أواجه أبي بكلمات لم أتخيل أبدا أن أوجهها إليه
لقد واجهته برأيها الصريح به .. بأنه قاسي القلب بلا رحمة .. لا يعرف كيف يحب أحدا .. واجهته بما عرفته من خلال قراءتها ليوميات والدتها .. بأنها لا تستغرب وفاة والدتها تعيسة بعد أن فشلت في أن تحب طاغية مثله
لم يحتمل والدها الحقيقة التي ألقتها في وجهه.. الحقيقة التي كان أذكى من ألا يعرفها منذ سنوات .. تمتمت :-
:- فقد سيطرته على نفسه .. ورفع عصاه في لحظة أعماه فيها الغضب وضربني بها
توتر وقد بدأت الصورة تتضح له .. وسألها :- أين ؟
مدت يدها لتلمس رأسها حيث استقرت الندبة التي لن تزول أبدا .. أزاح بيده شعرها الأشقر .. ونظر إلى الندبة البيضاء .. كانت هذه المرة الأولى التي يراها فيها عن قرب
لم تشعر أماني هذه المرة بالحرج من ندبتها أو بالارتباك .. بل شعرت بشيء آخر لم تعرفه بينما كانت يده تلمس الأثر الباقي من الجرح .. نظرت إلى عينيه لتجده مقطبا يفكر .. كان أذكى من أن يظن بأن الضربة لم تخلف إلا جرحا سطحيا .. سألها :- ما الذي حدث ؟
تنهدت وقالت :- لم أعرف ساعتها ما حدث .. ولكنني أفقت لاحقا لأجد نفسي في المستشفى .. وعرفت بأنني نتيجة للضربة دخلت في غيبوبة لمدة 3 أسابيع دون أن يعرف أحد إن كنت سأفيق مجددا أم لا .. وطبعا .. لم يزرني أبي خلال إقامتي في المستشفى ولو لمرة واحدة .. وعندما عدت إلى البيت .. كان كل شيء قد انتهى بيننا كأب وابنته
دخلت يومها إلى البيت فوجدته واقفا في وسط الصالة في انتظارها .. نظر كل منهما إلى الآخر في انتظار الحصول على اعتذار ما .. ولكن ما حدث هو أن تركها واقفة حيث هي .. ودخل إلى مكتبه .. وأقسمت هي يومها على ألا تأخذ منه شيئا بعد ذلك على الإطلاق
أمسك هشام بيدها لتشعر بتفهمه وقال :- لابد أن الأمر كان صعبا عليك
قالت بمرارة :- لم أستطع أبدا تجاوز عدم حبه لي .. لطالما فهمت حبه الشديد لجودي .. فهي صغيرته .. وشبيهة أمي التي أحبها كثيرا .. ولكنني لم افهم لماذا فضل صلاح علي إلى حد أن رخصني بذلك الشكل .. لقد كنت ابنته .. ابنته
كانت على وشك فقد أعصابها مجددا .. فأسرع هشام يشد على يدها قائلا :- أظنه أحبك بطريقته الخاصة يا أماني ... وأنا لا ادافع عنه .. والدك كان رجلا قاسي القلب وعديم الضمير .. ولكنني متأكد بأن عدم اهتمامه بك بعد الحادث كان بسبب شعوره بالذنب .. فوالدك كان رجلا مغرورا إلى حد عدم اعترافه بأخطائه .. أما ما حدث مع صلاح فأظن بـأن كل ما طلبه منه والدك هو إخافتك فقط .. فما من رجل قادر على التفريط بكرامة وشرف ابنته حتى لأجل ابن أخيه
تمتمت :- وماذا عما حدث هذه الليلة ؟
:- هنا يتضح الخطأ الذي ارتكبه والدك .. لقد منح صلاح صلاحيات كثيرة حتى اختلطت على ابن عمك الأمور وظن بأنه قد امتلكك حقا
لمس وجنتها .. فسرى داخلها شعور مريح بالهدوء .. قال :-
:- لا وجود للأب المثالي يا أماني .. فالآباء بشر مثلنا يخطئون أيضا .. فوالدك مثلا قد اتبع الطريقة الخاطئة لفعل ما ظنه صوابا .. فأنا متأكد بأن نية والدك من كل قسوته معك هو تأمين حياتك ومستقبلك .. ربما كان مؤمنا بأنك ستجدين السعادة مع ابن عمك .. هناك آباء يديرون ظهورهم لعائلات بأكملها دون الاهتمام بمصير أي فرد منها أو مستقبله
تذكرت ما عاناه في حياته وبسبب والده أيضا .. قالت بخفوت :-
:- لابد أنني أبدو سخيفة في هذه اللحظة مقارنة بما عانيته أنت وعائلتك من مشاكل
قال بحزم :- ليس هناك مشاكل سخيفة .. أنت امرأة وقد اضطررت وحدك لمواجهة ظروف كانت لتسبب الانهيار لأي امرأة طبيعية
تنهدت قائلة :- هذا ما يجعلني أتمنى لو أنني ولدت رجلا
لوى فمه بابتسامة صغيرة حركت شيئا لم تعرف ماهو داخل أعماقها .. وقال :- ماكنت امتلكت وقتها الشخصية الفريدة التي تتمتعين بها .. وربما ما كنا التقينا على الإطلاق
بدت لها نظراته حميمة للغاية وهو يتأمل وجهها المتورد .. لأول مرة منذ زمن طويل تحمر أماني خجلا .. فأخفضت عينيها بحرج مستغربة من اضطراب مشاعرها ..فهذه الجلسة بينهما قد غيرت الكثير من نظرة كل منهما إلى الآخر .. وبالنسبة إليها أحست بأنه أقرب إليها من أي وقت مضى .. خاصة وقد نجح في تهدئة نفسها .. وتخفيف الضغينة التي لطالما حملتها اتجاه والدها .. فهي الآن – لدهشتها – تعذر والدها على بعض تصرفاته .. فلطالما كانت مسببة للمشاكل .. وبعد تورطها السابق مع شخص طماع وغير جدير بها كفراس كان قلق والدها مبررا ..
لم يكن الصمت الذي ساد بينها وبين هشام مريحا .. فقد تشبع جو الغرفة بالتوتر .. وغزت الحرارة اماني وهي تشعر بقرب جسد هشام منها .. كانت هذه المرة الأولى التي يجتاحها هذا النوع من المشاعر .. من الحرارة والتوق إلى شيء مجهول لم تستطع اكتشافه .. وبحركة لا إرادية .. مدت يدها لتسدل شعرها فوق ندبتها فسارع ليمسك بمعصمها يمنعها وهو يقول بلطف :- لست مضطرة إلى إخفائها يا اماني .. على أي حال .. هي ليست بالبشاعة التي تظنين
التقت عيناهما .. فتسارعت أنفاس اماني .. كما احس هو بنبضها المضطرب من حيث يمسك بها .. أطلت من عينيه الداكنتين شعلة من اللهب أخافتها واثارتها في الوقت نفسه .. ولسبب ما أدركت بان مشاعره أوضح بالنسبة إليه من مشاعرها المجهولة إليها
سحبت يدها وقد قررت ألا تسمح له باكتشاف ما يسببه لها من اضطراب .. وقالت بابتسامة مرتجفة :-
:- أشكرك .. ماكنت أظنها بشعة على الإطلاق قبل الآن
ابتسم .. وكالعادة غيرت ابتسامته من ملامح وجهه .. فبدا أصغر سنا .. وازدادت جاذبيته خطورة
لاحظ النعاس الذي بدأ يداعب جفنيها فقال بهدوء :- من الأفضل ان تنامي الآن .. فانت متعبة وقد مررت بيوم عصيب .. يمكنك اخذ يوم الغد إجازة
ما إن تحرك حتى قالت قبل ان تمنع نفسها :- هل سترحل ؟
نظر إليها مطولا قبل ان يسألها :- هل تريدينني ان أرحل ؟
ازدردت ريقها وقد عجزت عن الرد عليه بالإيجاب .. بل وجدت نفسها تهمس :- ابقى قليلا .. قليلا فقط
عرف سبب خوفها .. فما زال احتمال عودة صلاح قائما .. فقال مطمئنا :- لن أذهب حتى اتأكد من انك نائمة بأمان
حثها على التمدد فوق سريرها .. وغطاها جيدا .. نظرت إليه من بين رموشها وهو جالس على طرف السرير .. وقد اخفت إضاءة الغرفة الخافتة نصف ملامح وجهه .. فقالت بصوت ناعس :- قد أندم على ما سأقوله فيما بعد .. ولكنني حتى الآن .. أظنك أفضل ما حدث في حياتي يا هشام عطار
ثم أغمضت عينيها .. وخلال ثوان كانت قد استغرقت في النوم
ظل هشام لدقائق يتأمل وجهها المستسلم والمسترخي .. بوجه عابس لا تعبير فيه .. قبل أن يحمل نفسه على الخروج من غرفتها وإغلاق الباب خلفه جيدا










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-21, 12:59   رقم المشاركة : 36
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الخامس والعشرون
بين نارين

عندما فتحت اماني عينيها في صباح اليوم التالي .. كان اول ما أحست به هو الارهاق الشديد والرغبة في العودة إلى عالم النوم المريح والخالي من الهم .. حتى نبهتها حركة قادمة من خلف باب غرفتها المغلق .. في تلك اللحظة .. تذكرت كل ما حدث في الليلة السابقة فهبت من السرير بذعر وفكرة عودة صلاح تكاد تفتك بها .. ولكن باب الغرفة ظل مغلقا .. والحركة المكتومة والمتقطعة لم تتوقف .. تسللت نحو الباب وفتحت جزءا منه بحذر دون أن تصدر أي صوت .. وعندما ألقت نظرة عبره حبست أنفاسها وعجزت عن الاتيان بأي حركة
لقد كان هشام هناك .. جاثيا على إحدى ركبتيه امام باب الشقة الخارجي يحاول إصلاح قفله المكسور.. لم يكن وجود هشام في هذا الوقت المبكر من الصباح هو ما أثار اضطراب اماني .. بل مظهره المدمر بعد أن تخلى عن سترته .. وحل أزرار قميصه العليا حتى الصدر .. ورفع أكمامه حتى مرفقيه مبرزا عضلات ساعديه القوية
أحست بخفقات قلبها تتسارع امام جاذبيته الجسدية الطاغية رغم المسافة التي تفصل بينهما .. لطالما أدركت قوة بنيته حتى من خلال ملابسه الانيقة .. ولكنها أدركت الآن وخاصة عندما اعتدل واقفا ليدير المقبض مختبرا جودته .. مدى بدائية ووحشية تكوين جسده الرجولي الضخم .. كان طويلا للغاية .. ولم يكن الطول الفارع بالصفة النادرة بين رجال مدينتها .. ولكن أن يترافق طول قامته مع كمال وضخامة عضلات جسده المفتولة جعله يبدو بعيدا عن رجل الأعمال الانيق الطبع والملبس الذي عرفته دائما .. لقد بدا في هذه اللحظة أقرب إلى ذلك الشاب الذي لم يترك عملا شاقا ومهينا إلا وقام به كي يطعم نفسه وعائلته
انسحبت بهدوء مغلقة الباب خلفها . واستندت إليه بظهرها محاولة تهدئة خفقات قلبها المجنونة .. ما الذي أصابها ؟ .. لم تعتد أبدا على النظر إلى الرجال بهذه الطريقة المتفحصة والمقيمة .. حتى أثناء معرفتها لفراس .. لم تحتل جاذبيته الجسدية جزءا كبيرا من تفكيرها .. فهي بالكاد الآن تستطيع تذكر ملامح وجهه
تذكرت ما حدث ليلة الأمس والدعم الذي قدمه هشام لها .. لا يمكنها أن تتخيل ما كاد يحصل لو لم يصل في تلك اللحظة .. تكره الاعتراف بهذا .. ولكن ديونه عليها قد زادت كثيرا .. وما تخشاه هو ان يأتي ذلك اليوم الذي تصل فيه حاجتها إليه إلى حد المرض ..
تذكرت تعاطفه معها وتفهمه .. لقد تحدثت للمرة الاولى عما حدث بينها وبين والدها مع شخص غريب ببساطة وراحة .. وبدون تفكير .. والمصيبة أن رده عليها كان ما تحتاج إليه بالضبط
كلما زادت معرفتها به .. كلما أدركت مدى كمال صفاته ومثاليته .. إنه الرجل الذي ربط نفسه بها أمام الناس لينقذها من صلاح .. وينقذ سمعتها التي تلطخت في المدينة دون ان يطلب مقابلا لنفسه
وحتى الآن لم تر منه أي تصرف سيء ومعيب يثلج صدرها ويزيد من قناعتها بعدم وجود رجل يستحق احترامها
أخذت نفسا عميقا لتستعيد هدوئها .. ثم بدلت ملابسها استعدادا لمواجهته .. وعندما خرجت من غرفته أخيرا.. كانت تبدو أفضل وقد ارتدت سروالا من الجينز وكنزة رقيقة
رفع رأسه من خلف الجريدة التي كان يقرأها من حيث يجلس فوق الأريكة .. والتقت نظراتهما للحظات طويلة أشعرتها بالارتباك والرغبة بالعودة إلى غرفتها هربا من مشاعرها
قطع الصمت بصوته القوي :- صباح الخير
حاولت ان ترد فلم تستطع .. ولكنه تابع بنبرة هادئة :- كيف تشعرين الآن ؟
أجبرت نفسها على النطق فخرج صوتها متحشرجا :- أفضل بكثير
تنحنحت لتسلك حنجرتها ثم سألت :- منذ متى وانت هنا ؟
لم يمنحها ردا .. بل انتقلت عيناه من وجهها إلى جسدها الرقيق .. لم تكن نظراته تشبه بأي طريقة نظرات صلاح الوقحة والمهينة .. ولكنها أحست بالانزعاج .. فتململت في وقفتها قائلة بعصبية :- ألن تجيب عن سؤالي ؟
قال اخيرا:- ما الذي تظنينه أنت ؟
توترت وحاولت ان تستوضح تلك المعلومة التي عرفتها منذ البداية ورفضت الاعتراف بها .. ثم ارتدت متفاجئة وهي تهتف :- لقد بقيت هنا طوال الليل
انتبهت في تلك اللحظة إلى الوسادة والبطانية الإضافية المكومتين بترتيب فوق أحد المقاعد .. قال بهدوء :-
:- ما كنت لأتركك وحدك بتلك الحالة .. ومع باب بقفل مكسور
مررت يدها بتلقائية عبر شعرها لسدله فوق ندبتها وهي تحاول السيطرة على ارتباكها .. لقد قضى الليلة هنا .. في شقتها .. لا يفصل بينهما سوى باب وجدار ..
لم تستطع احتمال فكرة مراقبته لها أثناء نومها عند دخوله لأخذ الوسادة والبطانية .. ثم تذكرت طلبها الطفولي منه بان يبقى .. فاحمر وجهها خجلا .. لا تستطيع لومه ما دامت هي من طلب منه البقاء .. صح ؟
لكم تتمنى أن تختفي ليلة الأمس من ذاكرتها إلى الأبد عل إحراجها يخف قليلا ..
تمتمت متلعثمة :- لم تكن .. ليس هذا .. كيف ..؟
قال بحزم لطيف :- أماني .. اهدئي .. لم يحدث شيء ليلة الامس
أحاطت جسدها بذراعيها وأخذت نفسا عميقا حاولت به تمالك أعصابها وهي تقول :- لم أقصد هذا .. كيف بررت غيابك لعائلتك .. لوالدتك .. هل ...
عضت شفتها السفلى حرجا مما حدث في الليلة الماضية .. فقال :- اختلقت حجة ما .. وقصة مناسبة عن سفر مفاجئ إلى العاصمة .. لن اتجول في المدينة ناشرا قصتك
قالت بتوتر :- أنا متأكدة بأنك لن تفعل .. أشكرك على اهتمامك .. فانت لم تكن مضطرا للتورط بكل هذا .. كما انني واثقة بان الأريكة لم تكن مريحة
طبعا .. مع ضخامته وطول ساقيه .. لابد ان ليلته كانت قاسية .. قال ساخرا :- لقد عرفت ليال أسوأ
نهض واقفا فتراجعت غريزيا إلى الخلف .. عبس للحظات مخطئا تفسير خوفها .. فقلقها كان من تأثير جاذبيته عليها والذي اكتشفته حديثا
قال بجفاف:- أنت آمنة معي تماما يا اماني
أطلقت ضحكة عصبية وهي تقول :- أعرف هذا .. ولكن التخلص من عادة قديمة ليس سهلا
نظر إليها بعطف فخشيت بأن يعلق .. ولكنه أخذ الأمر ببساطة وقال :-
:- قد ينعشك تناول بعض الطعام .. لقد سمحت لنفسي بإحضار ما يؤكل خاصة بعد اكتشافي خلو ثلاجتك من أي شيء صالح للأكل
نظرت إلى طاولة الطعام الصغيرة التي امتلأت بأصناف متعددة من الطعام .. وعندما دغدغت الرائحة الشهية أنفها أصدرت معدتها ذلك الأزيز المميز فعرفت بأنها جائعة حقا
تمتمت :- أشكرك .. لم تكن ...
قاطعها :- لم أكن مضطرا لفعل هذا .. ولكنني فعلته .. من الأفضل أن نبدأ بتناول الطعام قبل أن يبرد .. لست بحاجة إلى إخبارك بأن شقتك هذه أشبه بالثلاجة
جلست فجلس مقابلا لها .. ووضع في طبقها الذي سبق أن وضعه بنفسه مع باقي أدوات المائدة .. قطعة من الكروسان الساخن وبعض الفطائر .. شكرته ثم قالت ردا على كلامه :-
:- إنها باردة وخالية من وسائل التدفئة .. ولكنني اعتدت عليها
بدأت بتناول الطعام سعيدة بمذاقه الشهي .. لاحظت بانه لا يشاركها الأكل .. بل يراقبها بدقة وهو يقول :-
:- لا تنسي بأنني قضيت الليلة هنا .. وأعرف تماما كيف يصبح البرد لا يطاق بالليل
احمر وجهها وقد أحست بالحرج من اطلاعه على سوء وضعها .. قالت بلا مبالاة :-
:- لا استطيع تحمل تكلفة مكان أفضل في الوقت الراهن .. ولكنني سرعان ما سأبدأ بالبحث قريبا
قل ببطء وهو يراقب كل انفعال منها :- لن يكون هذا ضروريا ما دمت ستنتقلين للإقامة في منزلي .. بعد زواجنا
كادت تختنق بطعامها عندما استوعبت كلماته .. رفعت رأسها إليه محدقة في وجهه الخالي من التعبير وقالت بحذر :-
:- كلانا يعرف بان خطوبتنا مؤقتة .. وان لا زواج سيتم في النهاية
اعتدل قائلا بحزم :- ليس بعد ما حدث ليلة الامس .. لقد سمعت ما قلته لابن عمك .. زفافنا سيتم بعد أسبوعين
حدقت به مصدومة للحظات قبل ان تهب واقفة بعنف أدى إلى سقوط كرسيها على الأرض وارتطامه به بدوي قوي .. صاحت بحدة :- لابد انك قد جننت
نهض ببطء من كرسيه وقد لمعت نظرة تحذير في عينيه نبعتها إلى وقاحتها في مخاطبته .. ولكنها لم تبالي .. بل تابعت :- أنا لن اتزوج منك
قال بحزم :- بل ستفعلين يا اماني .. أعرف مدى كرهك للفكرة .. ولكنها الطريقة الوحيدة الكفيلة بإبعاد صلاح إلى الأبد .. لقد اكتشف زيف خطوبتنا .. و إن ادرك بانني لم اكن جادا بما قلته ليلة الامس جول زفافنا فسيعود أكثر جنونا .. خاصا مع احتمال علمه ببقائي هنا طوال الليل .. وفي المرة القادمة .. قد لا اكون موجودا لإيقافه
ارتعد جسدها للفكرة .. ولكن ذعرا من نوع آخر تصاعد داخلها لاحتمال ارتباطها بهذا الرجل بزواج شرعي .. ابتعدت عنه وهي تقول بانفعال :- انا لن اتزوج بك أو بأي رجل آخر .. أنا حتى لا أحبك .. أو أحتمل البقاء معك في مكان واحد .. لا تستطيع إجباري على القبول بك
كانت الهستيريا تتصاعد خلا كلماتها تدريجيا حتى علا صوتها عن الحد .. وأدى إلى قطع هشام المسافة بينهما ليمسك بذراعيها ليهزها قائلا بحدة :- هلا هدأت قليلا
انتزعت نفسها من بين يديه صارخة :- لا تلمسني
تراجعت حتى التصقت بالجدار .. تلاحقت أنفاسها بشكل ظهر واضحا مع اهتزاز صدرها صعودا وهبوطا
استعادت خلال لحظة تفاصيل معركتها الطويلة التي خاضتها لسنوات في سبيل استقلالها ومقاومتها لكل من حاول فرض نفسه على حياتها وتسييرها كما يشاء .. لم ينجح والدها بهذا .. ولم ينجح صلاح .. ولن تسمح لهشام أيضا بان يمتلكها .. قالت بصوت حمل كل ما تحمله داخلها من حقد اتجاه الرجال :- لن تستطيع إرغامي على الزواج بك
ارتعدت عندما لمحت غضبه يتصاعد .. ويفوح من كل عضلة منتفخة في جسده .. كان غاضبا من تمردها .. من رفضها وخوفها غير المبرر منه.. والاهم .. من الكراهية التي كانت تقطر من عينيها ..اقترب منها وهو يقول ببرود :-
:- انت لست مخيرة يا اماني .. أمامك طريقان لا غير كما تعرفين .. إما ان تمضي حياتك كلها هاربة من صلاح وخائفة من نواياه نحوك ومن ان ينال مأربه منك في احد الأيام .. وإما الزواج بي والتمتع بحمايتي ورعايتي لك .. حتى ييأس صلاح من مطاردتك .. فأي منهما تختارين ؟
هزت رأسها عاجزة عن الاختيار بين طريقين احلاهما مر .. ثم وجدت نفسها تصيح في وجهه يائسة :- أنا أكرهك
تشنج جسده وكسا وجهه برود شديد .. اقترب فأطلقت شهقة مكتومة عندما ارتعش جسدها بعنف متأثرا بقربه .. إذ لفحتها قوة لا مرئية صدرت عن كل قطعة ثائرة في جسده .. أغمضت عينيها بقوة عندما تقلصت المسافة بينهما حتى أحست بأنفاسه تلفح وجهها .. قال بعد لحظات :- انظري إلي يا أماني
وعندما لم تستجب له كرر آمرا :- انظري إلي
فتحت عينيها ورفعتهما لتقابلا عينيه .. كان غضبه قد اختفى ليحل محله شيء آخر .. ذلك الشيء الذي رأته دائما في عينيه دون ان تفهمه او تحبه ..
قال بخفوت :- أنت لا تكرهينني
ارتعد جسدها عندما تسلل همسه عبر أذنها ليهز مشاعرها ويشل أطرافها .. أزاحت عينيها عن وجهه لتصطدما بصدره الأسمر القوي الذي برز من بين أزرار قميصه المفتوحة .. وعندما شعرت بأحاسيسها تتكدس وتثقل على اعصابها .. صرخت بانهيار:- بل أكرهك .. وأكره كل مل يتعلق بك .. انت مبتز وانتهازي .. كان يجب ان اعرف بانك لا تختلف عنه البتة .. أنت نسخة مكررة منه
شهقت بعنف عندما أمسك وجهها بين سبابته وإبهامه بقسوة ليجبرها على النظر إليه .. ارتعدت عندما رأت عينيه الداكنتين مظلمتين بغضب شديد اخافها .. تشنجت عضلات وجهه واستحال فمه إلى خط رفيع أبيض اللون
تكلم أخيرا فكان صوته منخفضا .. ولكنه مختلف بفعل الغضب .. مما جعل جسدها يقشعر خوفا :-
:- لم تمنعك هوية أبي سابقا من قبول مساعدتي
منعتها الصدمة من أن تتفوه بأي كلمة توضيحا لكلامها .. فتح فمه وكاد يثول شيئا ولكنه ابتعد عنها فجأة .. تناول سترته ثم غادر المكان بصمت تام
أحست اماني ببرودة المكان تزداد بعد رحيله .. وفجأة .. الشقة الصغيرة والضيقة أصبحت واسعة وفارغة بشكل كئيب .. أحاطت نفسها بذراعيها لتوقف رعشة جسدها وهي تتذكر نظرة عينيه قبل ان يتركها ويرحل .. لقد سببت الألم دون ان تقصد للإنسان الوحيد الذي وقف إلى جانبها منذ وفاة والدها .. لم يترك لها حتى فرصة التراجع عما قالته أو توضيحه
لا .. هشام لا يستحق منها ابدا ردة الفعل العنيفة التي واجهت بها عرض الزواج .. فهو لم يدع الوقوع في حبها .. لم يسع لامتلاكها والتحكم بها .. أو حتى يحاول ان يلمسها .. كل ما اراده هو مساعدتها في الخلاص من صلاح إلى الأبد
صلاح الذي ما زال يشكل تهديدا خاصة بعد ان يعرف ببقاء هشام في شقتها طوال الليل .. وهي متأكدة بانه سيعرف هذا بطريقة ما .. ولكن .. هل يستحق الأمر ان تقبل بعرض هشام وتتزوج منه ؟
نظرت إلى المائدة العامرة بالطعام .. وابتعدت عنها وقد اختفت شهيتها للأكل .. تكومت فوق الأريكة التي قضى ليلته عليها .. فأحست برائحته ما تزال عالقة بها ... لا .. ليست رائحة عطره الثمين .. بل رائحة الصابون الممزوجة بماء ما بعد الحلاقة .. ورائحته الرجولية الخاصة التي تنفستها جيدا عندما كان قريبا منها للغاية منذ دقائق
ستفعل هذا الصباح كما امرها بالضبط وتبقى في البيت .. ولكن صباح الغد ستراه مجددا .. وتصلح الأمور بينهما مهما كلفها هذا غاليا





الفصل السادس والعشرون
وداع

تسلل صوت طارق إلى عقل جودي ليوقظها من شرودها بقوله :-
:- جودي .. أنت تعبثين بطبقك منذ دقائق
نظرت إلى طبقها الذي بالكاد لمسته ثم قالت بأسف :- لست حقا جائعة
التقت نظراتهما عبر المائدة المختارة بعناية في زاوية أحد أفضل مطاعم المدينة .. ثم سرعان ما أشاح كل منهما بعينيه بعيدا .. بالرغم من أن جودي تحاول جاهدة إصلاح الأمور مع طارق .. إلا أن الوضع بينهما قد تغير منذ قبلها أمام باب منزلها قبل أسابيع بناءا على طلبها .. شيء ما قد فقد أو كسر .. وتعرف جودي بأنها هي الملامة في هذا بعد تجاهلها القاسي وعديم الذوق لطارق لفترة طويلة ..
قال طارق محاولا كسر الارتباك الذي ساد بينهما :- يبدو أن ثمة ما يشغل بالك
ردت باقتضاب :- لا شيء.. مجرد مشاكل بسيطة مع أماني
همهم دون معنى وعاد يركز اهتمامه على طبقه .. لقد أدرك جيدا بأن اماني هي أحد المواضيع المحظر عليه مناقشتها مع جودي ..ولم يرغب بزيادة علاقتهما توترا وسوءا ..تنهدت جودي وهي تتابع العبث بطبقها دون ان تأكل منه شيئا ..على الأقل هي لم تكذب على طارق هذه المرة ..فما زال عقلها مشغولا باتصال أماني بها هذا الصباح ..
لقد كان صوتها متوترا وهي تتحدث بشكل غير مترابط .. فلم تفهم منها جودي إلا بان صلاح كان في شقتها ليلة الامس ..وعن زواجها بهشام
ما الذي قصدته بزواج سريع خلال أسبوعين ؟ بالكاد خطبت للرجل وها هي تتحدث عن زواج .. شعرت جودي بأن أماني لم تطلعها على كل شيء .. فمن الواضح أنها قد تشاجرت مع صلاح مجددا ..وهي لن تطلعها على التفاصيل كالعادة .. فمنذ وفاة والدهما .. وبالرغم من سوء معاملة صلاح لأماني فإن مشاعره الأخوية نحو جودي لا شك في صدقها .. وعمليا هو الشخص الوحيد المتبقي لها من العائلة ..وأماني لا تريد إفساد علاقتهما .. وهذا ما يدفع جودي للتفكير في الأسوأ .. ما الذي حدث بين صلاح وأماني ؟
ارتفع صوت ضحك جماعي صاخب من طاولة قريبة .. قطعت أفكارها وذكرتها بالرجل الجالس أمامها .. والذي بدا عليه التفكير العميق قبل أن يقول :- لقد قابلت صلاح قبل أيام .. وتحدثنا مطولا حول الزفاف
رمشت جودي بعينيها ورددت ببلاهة :- زفاف ! .. أي زفاف ؟
رد طارق بعصبية :- زفافنا انا وأنت بالتأكيد .. أم أنك نسيت بأنها النهاية الطبيعية لأي خطوبة
تنحنحت بحرج قائلة :- لا .. لم أنس .. ولكنك فاجأتني فقط .. لم أفكر بالأمر مؤخرا
قال ساخرا :- أعرف بأنني لا أخطر كثيرا على بالك في الآونة الأخيرة
احمر وجهها لسخرية طارق غير المعهودة .. وامتنعت عن التعليق .. فأكمل :- نرى أنا وصلاح بأن أفضل وقت لإقامة الزفاف هو الاسبوع الذي يلي انتهاء الامتحانات .. أي في شهر ...
قاطعته بتوتر :- أرى أنكما قد اتخذتما كل القرارات بدوت استشارتي .. ألا يحق لي إبداء رأيي في الموضوع ؟
قال ببرود :- وهل لديك أي مشكلة اتجاه الموضوع ؟.. أظن بأن خطوبتنا قد طالت بما يكفي .. أليس كذلك ؟
تململت بانزعاج وقاومت رغبة جامحة في الصراخ به عن عدم استعدادها لأي حديث عن الزفاف .. ولكنه محق .. فهما خطيبان .. أليس كذلك ؟ .. هي لا تخطط للبقاء مخطوبة إليه إلى الأبد .. عاد صوت الضحك الصاخب ليقطع تسلسل أفكارها .. فتناولت حقيبة يدها وقالت بعصبية :- سأغيب للحظات قليلة
وأمام نظراته الثاقبة .. اختفت داخل ممر جانبي مؤدي إلى استراحة السيدات .. اتكأت فوق المغسلة وهي تزفر بقوة .. لقد كان تصرفها جبانا بالهرب من مواجهة طارق .. فهي ستحصل عاجلا أم آجلا .. ولكن ليس قبل أن تواجه نفسها أولا ..
نظرت إلى صورة وجهها المنعكسة على المرآة حيث لاحظت الشحوب الذي علا وجهها الجميل .. وأطل الذبول من عينيها .. لقد فقدت بعض الوزن خلال الأسابيع السابقة بسبب قلة النوم والطعام .. والتفكير المضنى ليل نهار .. والشوق اليائس إلى حب مستحيل لا أمل منه
ترقرقت الدموع في عينيها .. وهي تهمس :- تمام
لو أنها فقط لا تشتاق إليه بهذا الشكل .. ولا تستعيد في كل لحظة صورة وجهه ونبرة صوته .. لمسة يديه .. رقة شفتيه
أغمضت عينيها المرهقتين بقوة .. عندما واجهتها أماني قبل أشهر بشكوكها حول حبها لطارق لم تبالي بكلامها .. والآن أدركت كم كانت أماني صادقة ..
فجودي لم تحب طارق قط .. ليس كما يجب أن تحب المرأة الرجل .. بل هي تحب رجلا آخر .. رجل لا ينتظرها منه إلا السعادة المؤقتة والندم الأبدي
رجل أهانها وقلل احترامها وأوضح لها بصراحة عدم رغبته في الزواج منها .. يجب أن تنساه .. أن تلغيه من عقلها وقلبها وكيانها .. أن تتجاهل مشاعرها نحوه كما تجاهلت لأيام اتصالاته الملحة ومحاولاته اليائسة لمخاطبتها
مسحت دمعتها الفارة .. وقررت العودة إلى طارق وإعلامه بموافقتها على الزواج منه في الموعد الذي اختاره
جددت زينتها لتخفي آثار اكتئابها .. ورسمت ابتسامة مشرقة على شفتيها .. ثم حملت حقيبتها وغادرت المكان .. وقبل أن تصل إلى صالة الطعام ..أطبقت أصابع قاسية على ذراعها مما جعلها تطلق شهقة ذعر قوية وتستدير نحو مهاجمها الذي سحبها بدون لطف عبر باب جانبي إلى خارج المطعم حيث وجدت نفسها وقد لفحها الهواء البارد في شارع خلفي مظلم خلا من أي أثر لوجود آخر
حررت نفسها وابتعدت لتواجه غريمها .. وتلهث مراقبة ملامح وجهه .. والغضب الأعمى الذي ارتسم في عينيه الداكنتين .. لا .. لم يكن الخوف هو ما شعرت به جودي وهي ترى تمام بعد أيام من فراقهما العنيف .. وقد انتفضت كل عضلة في جسده النحيل والطويل ثورة وغضبا .. بل كان الشوق .. الشوق التام والمؤلم إلى حد المرض ..
أحاطت جسدها بذراعيها لتقي نفسها من البرد .. ورمقته بنظرة هزت كيانه بما تحمله من حزن عميق وألم .. قالت بصوت أجش :- ما الذي تريده مني ؟
حاول السيطرة على صوته وهو يقول :- بل ما الذي تفعلينه انت معه ؟
هزت رأسها غير مصدقة وهي تهتف :- طارق هو خطيبي
صرخ بها بعنف :- إياك أن تقوليها
ترقرقت الدموع المريرة في عينيها .. وبدأ قناعها الهش بالتلاشي وهي تقول :- ولكنه كذلك .. انا ألبس خاتمه منذ أشهر .. وسنتزوج بعد انتهاء الامتحانات
قطع المسافة بينهما بخطوات واسعة .. وأمسك كتفيها ليهزها بقوة قائلا :- وماذا عني أنا ؟
اقترابه منها إلى هذا الحد والشعور بأصابعه من فوق قماش قميصها الرقيق كاد يذهب بعقلها .. التقت نظراتهما .. واستعاد كل منهما خلال لحظة ما جمع بينهما خلال الأسابيع التي مضت .. كل يوم قضياه معا .. كل كلمة تبادلاها .. كل نظرة .. كل لمسة
انسدلت رموشه الكثيفة لتضفي المزيد من الحرارة على نظراته التي تأملت بشغف كل تفاصيل وجهها
ولكن هذه المرة .. كان تمام أي شيء إلا ذلك الشاب الواثق من نفسه .. المعتاد على سرقة قلوب الفتيات بابتسامة واحدة .. لقد كان يماثلها توترا وقلقا وعذابا ..
وهو يتنفس بسرعة محاولا السيطرة على انفعالاته .. كرر سؤاله همسا هذه المرة :- وماذا عني أنا يا جودي ؟
يا إلهي .. كم تحتاج إلى أن تضمه إليها .. أن تنهل من حبه وحنانه .. أن تضيع بين ذراعيه إلى الأبد .. هل يدرك تمام كم كان يبدو بهيئته المرتبكة واليائسة رائعا ومثيرا ؟.. هل يعرف بأنه قادر على سحق قلبها بنظرة واحدة فقط ؟
أطلقت شهقة مرتعشة وهي تبعد عينيها عنه وتهمس :- أت لا شيء بالنسبة إلي يا تمام
هز رأسه غير مصدق وهو يقول باضطراب :- تكذبين
كررت بصوت هزه البكاء :- أنت لا شيء بالنسبة إلي يا تمام
دفعته عنها وركضت إلى داخل المطعم تكاد لا ترى طريقها .. قفز طارق واقفا عندما لاحظ حالتها .. وقال بقلق :-
ما الأمر ؟ ما الذي حدث ؟
بذلت جهدا كبيرا كي لا تجهش أمامه بالبكاء وقالت :- أريد العودة إلى البيت
بدون تعليق .. دفع الحساب .. وتناول سترته .. ثم قادها من مرفقها إلى خارج المطعم .. وداخل السيارة وقبل أن يشغل المحرك .. ساد الصمت طويلا بينهما قبل أن يقطعه قائلا بجمود :- ألن تطلعيني على ما يحدث معك ؟
تمتمت وهي تنظر بعيدا :- ليس الآن
أصر بجفاف :- يجب أن أعرف ما غيرك يا جودي .. إن كنت ستصبحين زوجتي بعد أشهر فعليك اطلاعي على مشاكلك قبل أن نبدأ حياتنا معا
استغرقت فترة طويلة قبل أن تتمتم دون أن تنظر إليه :- امنحني بعض الوقت
هتف بسخط :- جودي
قاطعته وقد بدأت تفقد أعصابها :- هلا أعدتني إلى البيت
أدار المحرك بعنف وانطلق بالسيارة بتهور غير معهود منه .. وعندما أوقف السيارة أمام منزلها قال لها :- سأتصل بك لاحقا
قالت وهي تترجل من السيارة :- لا .. أنا من سيتصل بك
سارت نحو البيت بسرعة ودموعها تنهمر من عينيها .. لكم تتوق إلى الاختلاء بنفسها والبكاء فوق وسادتها حتى الصباح
فتحت الباب وأقفلته خلفها .. فأثار منظر البيت الخالي والموحش مشاعرها .. وأحست في تلك اللحظة كم هي وحيدة
وكم هي بحاجة إلى الرجل الذي أخرجته من حياتها بلا تردد هذه الليلة إلى تمام
الفصل السابع والعشرون
بلا شروط

جرت اماني قدميها جرا نحو مكتب هشام بعد مرور يومين على خروجه العاصف من شقتها.. لصباحين متتاليتين لم تجرؤ على الحضور إلى العمل خوفا من مواجهته ..كانت تتصل في الصباح وتعتذر عن الحضور لسبب طارئ ثم تبقى في البيت وحدها تفكر حتى أرهقها التفكير .. جزء منها انتظر أن يتصل بها هشام .. أو أن يسأل عنها بعد غيابها عن العمل .. ولكنها لم تسمع عنه شيئا .. فقررت بأن تفعل كما خططت من قبل وتحضر إلى مكتبه لتعتذر منه .. من حقه عليها ان توضح له رأيها الحقيقي به
طلبت من سكرتيرته الجديدة مقابلته .. وهي موظفة لطيفة كانت تعمل تحت إمرة أحد الإداريين .. فمنحتها ابتسامة لطيفة قائلة :- لا أظنه يمانع إن دخلت إليه مباشرة .. فانت لست كأي شخص في الشركة
تذكرت أماني الغضب الذي رأته في عينيه قبل أيام ..وتساءلت إن كان يكرهها الآن أكثر من أي شخص آخر في الشركة ..طرقت الباب الخشبي الكبير وانتظرت حتى سمعت صوته الصارم يدعوها إلى الدخول .. فتحت الباب لتجده منهمكا في العمل على حاسوبه الشخصي .. خفق قلبها بشدة لرؤيته مجددا .. تأملت التقطيبة التي علت جبينه .. والتركيز الشديد الذي بدا عليه ..وتساءلت إن كان سيغفر لها وإن كانت علاقتهما ستعود إلى ما كانت عليه
رفع رأسه عن شاشة الحاسوب وهو يقول :- ما الذي ...؟
قطع كلامه .. وقطب متأملا إياها بصمت .. أزعجها بروده الظاهر وكانه رؤيته لها مجددا قد ضايقته .. ولكنها هنا الآن في مهمة محددة ..وستقوم بها مهما كانت النتيجة .. قالت بتوتر وهي تغلق الباب خلفها :- هل أستطيع أخذ دقائق من وقتك ؟
تراجع مستندا إلى ظهر مقعده العريض دون أن يقول شيئا .. بل استمر في النظر إليها بطريقته الصارمة المخيفة منتظرا ما ستقوله ..
تقدمت خطوتين إلى الامام قائلة :- أردت الاعتذار عما حدث ذلك الصباح داخل شقتي .. أعرف جيدا بانك غاضب مني ..
قاطعها بهدوء :- لست غاضبا
وترها هدوءه كما يفعل كل ما يتعلق به .. فقالت بارتباك :- ما قلته ذلك الصباح .. لم أعنه حقا .. ليس ما فهمته على الأقل .. لم أقصد أبدا إهانتك أو جرحك بأي طريقة
أومأ برأسه مؤكدا :- بل قصدت هذا
قالت بعصبية وهي تمرر يدها عبر شعرها :- هذا صحيح .. أردت أن أؤلمك .. لا اعرف السبب .. ربما لأنك كنت محقا ..أو لأنك حشرتني في الزاوية فوجدت نفسي أتعرض للضغط مجددا بعد أن ظننت نفسي قد تحررت من تسلط أبي وصلاح .. ولكنني عندما قلت ما قلته لم أقصد أبدا الإشارة إلى والدك
لمع الاهتمام في عينيه بينما أخذت نفسا عميقا وهي تكمل :- التجربة علمتني ألا أثق برجل أبدا .. وبعدما حصل مع صلاح .. أعني مهاجمته لي بتلك الطريقة .. شكل عرضك ما يشبه الصدمة لي .. خيل إلي بأن التاريخ يعيد نفسه .. وأصر عقلي الباطن بانك لا تختلف عن النموذج الذي عرفته طوال حياتي .. فاندفعت الكلمات تلقائيا من فمي تقارنك بصلاح
نهض من مقعده .. فتقلص المكان على الفور مما جعل ركبتيها ترتعشان .. دار حول مكتبه ببطء بينما تابعت بحذر :- ما كان علي فعل هذا .. فأنت لا تشبه صلاح بأي طريقة .. أنت ..
عجز لسانها عن المتابعة عندما وقف أمامها مستندا إلى مقدمة مكتبه .. قال بهدوء :- ماذا عني انا ؟
ابتلعت ريقها وقد أحست بقربه بكل جزء من جوارحها .. أجبرت نفسها على الصمود وقالت بارتباك :- أنت .. أنت مختلف .. لقد ساعدتني ووقفت إلى جانبي دون انتظار لمقابل .. وقد أنقذتني تلك الليلة من مصير بشع كنت أخشاه منذ سنوات ..أنا أدين لك ....
قاطعها بحزم :- ليس لي ديون عليك يا أماني
قالت بانفعال :- كيف تقول هذا ؟ لقد فعلت لأجلي ما لم يفعله أقرب الناس إلي .. وبالمقابل كنت انا ناكرة للجميل حيث أغضبتك و ...
قاطعها مجددا :- أخبرتك بأنني لم أعد غاضبا
نظرت إليه بارتباك فقال :- أنا أيضا فقدت أعصابي .. ما كان لي ان أستبق الامور بتلك الطريقة .. بعد ان خرجت من شقتك فكرت جيدا وعرفت بأنني ضغطت عليك في الوقت الذي لم تصحي فيه بعد من صدمة تهجم ابن عمك عليك .. أنا من عليه أن يعتذر لك
تحرك شيء داخلها أمام اعتذاره المفاجئ .. التقت نظراتهما فاقشعر بدنها خوفا وقلقا من غرابة مشاعرها
رسم على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول :- لذلك قررت منحك المزيد من الوقت لتفكري في الموضوع .. فلم أتصل بك أو أزرك تاركا لك حرية اتخاذ القرار .. وإبلاغي به في أي وقت
ساد الصمت للحظات قبل أن تتمتم :- لا داعي لإهدار المزيد من الوقت
قال باهتمام :- أهذا يعني أنك اتخذت قرارك ؟
تحاشت النظر إليه وهي تتمتم :- لقد فكرت جيدا خلال الأيام السابقة بما قلته لي .. ووجدت بأنك محق تماما .. صلاح لن يهدأ حتى يراني متزوجة بغيره
قال بشيء من الحدة :- أهذه موافقة ؟
نظرت إليه قائلة بثبات :- هذا إن بقيت راغبا في خوض هذه المغامرة
بالكاد ابتسم وهو يقول :- أظنها مغامرة تستحق التجربة
أخذت نفسا عميقا وهي تتراجع قائلة بصوت عملي :- هلا تكلمنا عن التفاصيل إذن ؟..إلى متى تتوقع ان يستمر هذا الزواج ؟
أحست بجسده الضخم يتصلب .. إلا ان تعابير وجهه بقيت جامدة وهو يقول :- يمكنك طلب الطلاق في أي وقت تريدينه
مررت أصابعها عبر شعرها مجددا بعصبية وهي تقول :- وماذا عن .. عن حياتنا معا ؟...أقصد
لوى فمه بابتسامة خفيفة ملاحظا ارتباكها فأكمل بهدوء :- تقصدين العلاقة الزوجية
احمر وجهها واتجه نظرها نحو الباب فظهرت نيتها للهرب .. صاح بها بحزم :- انظري إلي يا اماني
نظرت إليه فصدمت من قربه الشديد منها .. سمرتها نظراته مكانها فلم تقوى على الابتعاد .. أحست بوجوده وقوته يكتسحانها بعنف جعل الذعر يطل واضحا من عينيها
قال ببرود :- لن نتجه إلى أي مكان ما دمت ترمقينني بهذه النظرة الشبيهة بنظرة أرنب مذعور وقع بين أنياب الذئب
تمالكت أعصابها بسرعة وهمست :- أنا آسفة
تجاهل اعتذارها وأكمل :- يجب أن تكون الامور واضحة فيما بيننا يا أماني .. ما أريده انا هو ان تكتمل جميع الشروط في زواجنا
ابتلعت ريقها ومعاني كلماته تستقر تدريجيا داخل عقلها .. كان وجهه غير مقروء .. ولكن عندما التقت عيناهما .. رات بريقا شديدا جعل الرجفة تسري في أوصالها
قال بصوت منخفض النبرات :- نعم يا اماني .. أريدك .. وهذا يجب الا يدهشك .. فانت امرأة وانا رجل ..وما أسعى إليه هو إزالة الخوف الذي يسري في عروقك بدلا من الدماء .. والحصول على ثقتك بي في النهاية
تلاحقت أنفاسها وهي تهمس : - أنا أثق بك
هز رأسه ببطء وهو يقول :- أبحث عن نوع آخر من الثقة
تراجعت حتى كادت تلتصق بالجدار .. وقد ارتعش جسدها لمجرد التفكير به يلمسها .. لم يبتعد عنها كما في كل مرة تنتابها فيها نوبة ذعر كهذه .. بل اقترب منها حتى تقلصت المسافة بينهما إلى سنتيمترات قليلة
مد أنامله ليرفع ذقنها ويجبرها على النظر إليه وقال بكلمات واضحة :- لن أجبرك على فعل ما لا تريدينه يا أماني .. سأمنحك كل الوقت الذي تحتاجين إليه .. لن ألمسك مالم أجد القبول في عينيك
حدثت نفسها بأن هذا لن يحدث أبدا .. حركت رأسها لتبعد أصابعه عنها قائلة بعصبية :- سأعود إلى مكتبي إذا أذنت لي
تراجع فورا وهو يقول بعملية :- اذهبي .. وانتظري مكالمة من والدتي لتتفاهما حول تفاصيل الزفاف
بدون أي تعليق .. غادرت المكتب مسرعة .. لم تعرف كيف وصلت إلى استراحة السيدات .. وهناك فتحت صنبور الماء .. ورمت وجهها بالماء البارد قبل أن تنظر إلى نفسها في المرآة لاهثة وهي تردد :- ما الذي أصابك أيتها الحمقاء ؟
لقد خافت مجددا من الرجل الوحيد القادر على حمايتها .. إنها بحاجة إلى هذا الزواج كي تأمن نفسها من صلاح .. وهشام لن يلمسها ما لم تطلب منه ذلك .. لقد وعدها .. وهشام لن يخلف وعدا
لماذا تستمر إذن نوبات الذعر باجتياحها في كل مرة يقترب فيها منها هشام .. إنه مختلف تماما عن صلاح ..نعم .. هذا ما يخيفها بالضبط ..
الشعور الذي يجتاحها كلما كلمها او لمسها .. لم يكن الاشمئزاز و الخوف كما مع صلاح .. بل كان شيئا آخر .. شيئا لم تعرفه من قبل
جففت وجهها بمنديل ورقي .. وتنهدت متأملة وجهها الشاحب في المرآة .. مهما كانت حقيقة مشاعرها اتجاه هشام .. فعليها ان تتجاهلها .. فهشام هو ورقتها الرابحة .. وسيلتها لبلوغ الحرية ..
وكي تؤكد لنفسها ما ظنته أكيدا .. رددت بحزم :- كل ما علي فعله هو ان أقول لا










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-21, 13:00   رقم المشاركة : 37
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الثامن والعشرون
نعم .. أحبه
قضت اماني نهار جمعة طويل في السوق تنتقل من متجر إلى آخر برفقة سمر ونورا شقيقة هشام الصغرى التي تماثلها في السن .. تشترين لها جهازا مناسبا بناء على طلب هشام الغير قابل للمناقشة .. وهكذا وجدت اماني نفسها تجرب الثوب بعد الآخر وقد علا الملل وجهها الجميل .. وفي كل مرة كانت تقول فيها متذمرة :- هل هذا ضروري
سمر كانت تقول :- الزفاف بعد أسبوع .. لا يمكنك مواجهة الناس كزوجة لهشام بدون جهاز فاخر يليق بك
أما نورا ذات الطابع الضاحك والمرح والمختلفة تماما عن شقيقها الأكبر فقد كانت تضحك بخبث قائلة :- أو قمصان نوم مناسبة لشهر عسل ساخن
مع احمرار وجهها .. وتجاهلها للمزات نورا الخبيثة .. لم تكن قادرة على خداع سمر التي انتهزت فرصة ابتعاد نورا لتهمس في أذن أماني :- في الخميس القادم ستكونين زوجته .. هذا يجعل شراءه ما يلزمك طبيعيا
زفرت أماني وقالت بجفاف :- اعرف هذا

دخلت أماني إلى شقتها .. ورمت الأكياس الكثيرة جانبا
( في الخميس القادم .. ستكونين زوجته )
خلعت معطفها فواجهت كالعادة برودة الشقة الشديدة
( في الخميس القادم )
فركت يديها وهي ترفس حذائها .. لم تر هشام خارج مبنى الشركة منذ أعلنت موافقتها على الزواج منه .. فقد كان يكتفي باتصال هاتفي كل مساء ليسألها عن حالها .. ويستفسر عن احتياجاتها .. أما باقي الترتيبات فقد تكفلت بها أمه التي كانت تحدثها يوميا .. بالإضافة إلى سمر ونورا .. وحتى جودي رغم تعاستها الظاهرة وإرهاقها .. لم تتأخر عن مساعدتها
إنها بحاجة إلى الاستحمام بعد تعب نهار طويل .. وكالعادة كانت هذه أصعب مهمة تقوم بها في هذا الجو البارد وفي حمام لا يحوي سخانا للماء
كان عليها في كل مرة أن تسخن الماء في قدر كبير وتحمله إلى الحمام الذي يتحول إلى ثلاجة بسبب تسرب الهواء من نافذته ذات الزجاج المشروخ.. خلعت ملابسها وهي ترتجف .. ورمتها في سلة الغسيل .. ثم خطت إلى داخل الحوض المتصدع .. حتى مع سكبها المستمر للماء الساخن فوق رأسها لم تتوقف عن الارتعاش
بصعوبة أخرجت نفسها من الحوض .. وارتدت روب الحمام وأسنانها تصطك بقوة وكل خلية في جسدها تتوق إلى التمدد تحت أطنان البطانيات فوق السرير والتماس بعض الدفء .. ولكن الكارثة التي لم تتوقع حدوثها هي ان تحاول فتح باب الحمام لتجده مقفلا بإحكام
أدارت المقبض عدة مرات غير مصدقة للمأزق الذي وضعت نفسها فيه بغباء لا يمكن أن تكون قد أقفلت الباب ورائها وهي تعرف جيدا بأنه لا يفتح إلا من الخارج .. كادت تفقد اعصابها بعد نصف ساعة من المحاولات اليائسة لفتح الباب باستعمال أي أداة ممكنة وجدتها في الحمام ..في النهية أخذت تضرب الباب بقبضتيها وتصيح على أمل أن يسمعها احد
أبعدت شعرها الرطب والمشعث عن وجهها .. والتفتت تتأمل الحمام بعجز ودموعها تكاد تغلبها .. لماذا تحصل لها الامور السيئة باستمرار ؟ لماذا هي بالذات ؟
جلست على حافة الحوض وهي تدلك ذراعيها علها تحصل على بعض الدفء دون فائدة .. حاولت تهدئة نفسها هامسة :-
:- لا بأس .. ستتصل بك جودي او تمر لزيارتك كالعادة وتخرجك من هنا
ولكن جودي لا تملك مفتاحا للشقة ..
مع تزايد إحساسها بالبرد كومت نفسها داخل الحوض وهي تردد بأنفاس مرتعشة .. اهدئي .. ستكونين بخير .. لا حاجة للشعور بالذعر
مع مرور الوقت .. بدأت تفقد الاحساس بأطرافها كبداية .. ثم بدأ الخدر يتسرب إلى عقلها .. لم تعرف كم مر عليها من الزمن عالقة هناك .. فاقدة للإحساس بما حولها ..حتى وصل إلى مسامعها صوت ضجة مكتومة .. رفعت رأسها واثقة تماما بانها تتوهم .. ثم سمعت بوضوح صوتا مألوفا يهدر باسمها :- أماني
إنه هشام ..كالعادة ينتشلها من مآزقها كالفارس المغوار .. تدفقت دموعها عندما حاولت ان تتحرك فلم تستجب لها عضلاتها
حاولت ان تصيح فخرج صوتها همسا مرتجفا :- أنا هنا
سمعت صوته يصيح من خلف الباب بقلق :- هل انت هنا ؟
بسهولة شديدة تحرك الباب فور ان أدار المقبض .. وخطا إلى داخل الحمام الضيق .. صاح باستنكار :- ما الذي ...؟
ولكن نظرة واحدة منه كانت كافية كي يفهم الموقف جيدا .. سقط قلبه امام مظهرها المثير للشفقة .. ملتفة بروب الحمام وقد التصق شعرها الرطب برأسها وجبينها .. وازرقت شفتاها المرتعشان .. وأطل العجز التام من عينيها الواسعتين
شتم بغضب وهو يهتف بها :- منذ متى وانت عالقة هنا ؟
حركت شفتيها دون أن يخرج منها صوتا .. فقال بغلظة وهو يتجه نحوها :- أنت كارثة تمشي على قدمين .. تحتاجين إلى من يراقبك على مدى الساعة كي يمنعك من أذية نفسك
انحنى نحوها .. وبحركة قوية أوقفها فخذلتها ساقاها .. وسقطت مستندة إليه بعجز .. أخذ نفسا غاضبا وهو يحملها بين ذراعيه بسهولة شديدة .. ويسير بها إلى خارج الحمام .. بدأ عقلها يعمل مجددا .. وتذكرت فجأة وضعها .. عاجزة بين ذراعيه لا يسترها إلا روب الحمام الطويل 00 ولكنها لم تخف منه هذه المرة .. بل شعرت بالراحة والدفء بعد ساعات من الخوف والاحساس بالبرد في ذلك السجن الجليدي .. أسندت نفسها إليه وتركته ينزلها فوق السرير بعد ان أزاح البطانيات جانبا ودثرها جيدا .. فأتيحت لها الفرصة للنظر إلى وجهه عن قرب ورؤية التوتر الواضح في ملامحه .. والتغير في لون وجهه .. لقد كان قلقا عليها
اعتدل ونظر إليها وهو يصيح بها غاضبا :- هل تعلمين كيف كان شعوري بعد ساعات من الاتصال بك على هاتفك المحمول دون أي رد منك ؟ هل تتخيلين الظنون التي كادت تفتك بي وأنا أقود السيارة كالأعمى إلى هنا للاطمئنان عليك ؟
أخفضت عينيها وقد أثقلها الاحساس بالذنب .. لابد أن الأفكار السيئة قد أطاحت بعقله .. ابتداءا بعودة صلاح وانتهاء بحدوث مكروه لها
خرج صوتها أخيرا كهمس مختنق :- لم أستطع فتح الباب .. فعلقت في الداخل
كان عليه ان يكبح أعصابه ويكتم غضبه الشديد عندما تذكر المشهد الذي وجده في الحمام .. ولكن صوته كان قاسيا عندما قال :- لطالما كنت ضد العنف في معاملة النساء .. ولكن ما أغب به الآن هو تجاهل هذه القاعدة .. وضربك بقسوة حتى يعود إليك عقلك وتعترفي بأن هذا الجحر غير مناسب أبدا للاستعمال الآدمي
ثم خطرت على باله فكرة مفاجئة جعلته يدور حول نفسه ويفتح خزانتها بدون استئذان فقالت بتوتر :- ماذا تفعل ؟
أخرج حقيبة سفر كبيرة .. وهو يقول بغلظة :- لن اتركك في هذا المكان لحظة واحدة .. ستقيمين مع سمر حتى موعد الزفاف
عاد إليها طبعها المتمرد فصاحت بحدة :- لا تستطيع إرغامي .. لن أذهب إلى .....
قاطعها بصرامة :- لا يحق لك الاعتراض بعد المأزق الذي وضعت نفسك فيه اليوم .. إن كنت لا تجيدين العناية بنفسك سأفعل أنا .. من حسن الحظ أنني احتفظت بنسخة عن المفتاح عندما أصلحت القفل وإلا لبقيت سجينة تلك الثلاجة حتى الصباح
استسلمت بضعف وهي تراقبه يفتح الحقيبة فوق الطرف الآخر من السرير ويبدأ برمي أغراضها عشوائيا داخلها .. فتمتمت :- امنحني بعض الوقت
استدار نحوها وهو يقول عابسا :- ماذا ؟
همست بضعف :- امنحني بعض لأستعيد حرارة جسدي الطبيعية وسأوضب أغراضي بنفسي
طار غضبه بعيدا في لحظة واحدة .. وأطل القلق من عينيه وهو يلاحظ من جديد شحوب وجهها وارتعاش جسدها .. لم تعرف أبدا كم بدت ضعيفة في تلك اللحظة
أشبه بطفلة صغيرة تائهة تسعى لشيء من الدفء والحنان
قال بندم :- أنا آسف .. لم أفكر جيدا
فاجأها اعتذاره .. ولكن ما صدمها هو اقترابه المفاجئ وجلوسه إلى جانبها فوق السرير إذ شدها إليه بدون إنذار .. وضمها بقوة إلى صدره .. تشنجت في البداية .. ولكنها سرعان ما بدأت تسترخي عندما أخذ يدلك ذراعيها
سرى الدفء سريعا في أوصالها .. لا .. بل كانت حرارة شديدة انبثقت من جسده .. وانتقلت حارقة ومثيرة إلى جسدها
تعالى صوت نبضات قلبها المجنونة وهي تشعر بقوة جسده الذي احتواها بين أحضانه .. أغمضت عينيها تكافح المشاعر الغريبة التي اكتسحت جسدها .. أحست بالخوف والاضطراب .. وفي الوقت نفسه بالإثارة والبهجة لقربه منها .. لإحساسها بالانتماء إليه .. وكأنها أمضت 25 عاما تتخبط في حياتها حتى وجدت بيتها أخيرا
لأول مرة تبدا مشاعرها بالاتضاح أمامها .. شيئا فشيئا كان الغموض يتلاشى .. وما كانت خائفة منه ومن جهلها له .. يتراءى أمامها بوضوح
غمغم سائلا :- كيف تشعرين الآن ؟
صوته الخشن بدا حميما للغاية في قربه الشديد منها .. رفعت رأسها إليه .. والتقت نظراتهما .. فأحست بجسده الضخم يتصلب .. ورأت القلق والاهتمام يختفيان من عينيه .. وحل مكانهما الذهول والصدمة لما رآه مرتسما في عينيها
اكتسحت كيانها حمى غريبة فتعالى لهاثها .. في الوقت الذي شعرت فيه بخفقات قلبه تتسارع تحت كفيها التين انبسطتا على صدره
قال بصوت خشن :- أماني
أسبلت عينيها بخوف .. من نفسها هذه المرة .. مما بدات تكتشفه وتخاف من التصريح به .. فأمسك بذقنها يجبرها على النظر إليه .. فلم تستطع إزاحة عينيها عن اللهب المشتعل في عينيه الداكنتين :- أنت ترتجفين
دغدغت نبرة صوته الخشنة كيانها .. وشوشت تفكيرها ... بالكاد سمعته عندما قال :- أظنني لم أدفئك بالطريقة المناسبة
وقبل ان تفهم قصده .. قطع المسافة القصيرة بينهما .. ولمس شفتيها بشفتيه بقبلة خاطفة .. شهقت على إثرها مصدومة من ردة فعل جسدها العنيفة .. فلم يترك لها فرصة للتراجع .. إذ غرس أصابعه بين خصلات شعرها الرطبة .. وتناول شفتيها بقبلة عاصفة .. جائعة .. ومتطلبة بقسوة .. انتفض جسدها بعنف .. وارتفعت يداها غريزيا نحو كتفيه تحاولان إبعاده .. ولكنهما عجزتا بضعف شديد كان سببه المشاعر العاصفة التي اجتاحتها
بذل شديد تخلص جسدها من سيطرة عقلها .. والتصق به بتهور .. فشدتها ذراعاه إليه اكثر .. ومرت لحظة نسي فيها كل منهما ما حوله حتى تركها فجأة
نظر كل منهما إلى الآخر بذهول .. بأنفاس مضطربة .. كان عليه ان يبتعد عنها ويقاوم اللهب المتراقص في عينيها الذاهلتين .. اعتدل واقفا وهو يقول بفظاظة :- سأعد لك شيئا ساخنا تشربينه
راقبته يختفي خارج الغرفة .. فأحاطت جسدها بذراعيها محاولة السيطرة على ارتجافها .. يا إلهي .. ما الذي حصل لتوه ؟
لقد قبلها هشام .. قبلها حقا ..الرجل الذي ظنته لفترة لا يعرف كيف يكون إنسانا .. غمرها بعاطفة لم تعرف مثلها من قبل .. وقبلها
وما صدمها اكثر هو انها لم تمنعه .. لم تقاومه .. لم تخف كما في كل مرة يقترب فيها منها رجل .. بل رغبت بأن يقبلها ومنذ لفظ اسمها بتلك الحرارة التي أذابتها .. ومازالت تسري في كل عرق من عروقها ..
هل حررها هشام من عقدها اخيرا ؟
أم أن الأمر أكبر من هذا بكثير ؟
في المطبخ الصغير .. كان هشام يحاول جاهدا السيطرة على ثورة جسده
أن يكتشف فجأة وبدون إنذار ان اماني .. الموظفة المتحفظة والمتكبرة .. ملكة الثلج التي عرفها منذ أكثر من خمس سنوات تخفي بعيدا عن العيون كتلة ملتهبة من الأحاسيس والمشاعر .. كثير عليه
أخيرا .. نظر إلى عينيها دون أن يرى الخوف والتوتر فيهما .. ولكن ما رآه عوضا عن هذا أطاح بصوابه .. لقد اشتعل الون الاخضر في عينيها وانقلب نارا اعمت بصيرته .. وأغشت تفكيره ..
وعندما تركها اخيرا .. كل ما فيها كان يدعوه للبقاء معا .. وألا يتركها أبدا
هل اكتشف صدفة أماني القديمة .. الشابة الصغيرة المفعمة بأحلام البنات والرومانسية .. والتي ماتت قبل سنوات بفعل قسوة أبيها وهمجية ابن عمها ؟
بعد ان حطم قلبها وآمالها .. وثقتها بالناس الرجل الذي أحبته ؟
عند هذه الفكرة انقبض صدره بما يشبه الغيرة والحقد على ذلك الرجل الذي عرف تلك المراة ولم يستحق مشاعرها النبيلة
خرج من المطبخ ليجد اماني واقفة عند باب غرفة النوم وقد ارتدت سروالا من الجينز .. وكنزة دافئة بلون كرزي قاتم أظهرت شحوب وجهها .. والهالات المحيطة بعينيها
بدت عيناها أشبه ببركتين خضراوين واسعتين امتلأتا بالحيرة والاضطراب .. فكبح رغبة عنيفة بقطع الطريق نحوها .. واحتوائها بين ذراعيه .. وطمأنتها بانه لن يؤذيها أبدا
وضع الصينية التي كان يحملها فوق المائدة قائلا بهدوء :- كيف تشعرين الآن ؟
كيف تشعر ؟ كيف يستطيع هو التحدث إليها بهذا الهدوء وكأن شيئا لم يحدث بينهما .. ؟ تأملت مليا وجهه الأسمر الجذاب .. وملامحه الغامضة .. وكأن الرجل الذي قبلها قبل دقائق لم يتواجد أبدا ..
ارتفع رنين جرس الباب لينقذهما من التوتر الذي تشبع في الجو فجـأة .. فقال باقتضاب :- إنها جودي .. لقد اتصلت بها قبل دقائق
فتح الباب بنفسه لجودي التي اندفعت نحو أماني بقلق قائلة :- أصحيح ما أخبرني به هشام يا أماني ؟ هل أنت بخير ؟
وقبل أن يتسنى لأماني أن ترد .. قال هشام من مكانه عند الباب بصوت جاف :-
:- سأذهب الآن .. وسأمر صباح الغد لأخذ أغراضك قبل ذهابك إلى العمل
ودع جودي بكلمات قصيرة .. ثم غادر مغلقا الباب خلفه بهدوء



الفصل التاسع والعشرون
دفتري الصغير

نظرت جودي إلى اماني متسائلة :- ما الذي قصده يا اماني ؟ إلى أين سيأخذ أغراضك ؟
ثم لاحظت شحوب وجه أختها فقالت بقلق :- أماني .. ما الذي حدث ؟ الأمر أكبر من مجرد حبسك لنفسك في الحمام ..صحيح؟
فهي لم تغفل عن النظرة الهائمة في عيني أماني التي نظرت إلى جودي بجمود للحظات بدت خلالها كمن أصيب بصدمة أخرسته .. ثم همست أخيرا :- لقد قبلني
رددت جودي بارتباك :- ماذا ؟ من ؟ .. هشام ؟
جلستا في غرفة النوم فوق السري الواسع .. وحكت أماني لجودي ما حصل بالتفصيل .. فقالت جودي بحذر :-
:- وهل هذه مشكلة بالنسبة إليك ؟ أعني أنه خطيبك .. وستتزوجان
تمتمت أماني بخفوت :- المشكلة هي أنني اكتشفت اليوم بأنني أحب هشام عطار
ساد صمت طويل بين الأختين ولسان جودي يكاد يهتف باستنكار .. ما الأمر ؟ لماذا لا يسعدك هذا يا اماني ؟ ستتزوجين اخيرا بالرجل الذي تحبين .. أليس هذا ما رغبت به وحلمت به طويلا ؟
ولكنها لم تجرؤ على البوح بأفكارها .. فهي تعلم بان أماني مختلفة عن غيرها من الفتيات .. بل هي مختلفة عن أماني التي وضعت لنفسها هذا الحلم قبل سنوات .. وإن كانت أماني قد وقعت في حب هشام .. فهذا يعني انها قد التقت أخيرا بند لها .. الرجل الذي يستحق حبها حقا .. ويعني أيضا بان اماني تعاني من ارتباك كبير .. وخوف عميق سببته لها صدمتها القديمة فيمن تحب
تمتمت جودي مترددة :- أماني .. هل أنت بخير ؟
رفعت أماني عينين مريرتين إلى أختها .. كيف ستقول لها انها ليست بخير لانها عندما احبت اخيرا من جديد .. أحبت رجلا لا يبادلها المشاعر .. بل يشفق عليها ويشعر بالمسؤولية اتجاهها ؟
لا .. لا تحتاج جودي إلى ان تزيد من همومها الأن .. لذا قالت بابتسامة شاحبة :- طبعا بخير بعكسك انت التي تبدين كمن لم تنم منذ أسبوع
ارتبكت جودي قائلة :- أجهد نفسي هذه الأيام في الدراسة على امل أن أتخرج هذه السنة
عرفت بأن أماني لم تصدقها .. فتنهدت بعمق وهي تنظر بعيدا إلى أنحاء الغرفة الصغيرة .. لماذا لا تنام في الليل ؟ لأنها تبقى مستيقظة تفكر بزفافها القادم الذي تجري الاعدادات له على قدم وساق منذ أيام .. تفكر بعلاقتها بطارق التي تسوء باستمرار في كل مرة يلتقيان فيها او يتحدثان
تفكر بتمام الذي تحبه اكثر من حياتها .. ومع ذلك أخرجته منها بكل قسوة ..دون أن تتوقف عن الاشتياق إليه في كل لحظة
أو محاربة رغبتها العميقة في اللجوء إليه .. والبكاء على صدره طالبة السماح
وفي الوقت نفسه تفكر بمصيبة ريما الجديدة التي لم تكن لتخطر على بال احد
تمتمت :- لقد هربت ريما مع بشار وتزوجا سرا
ظهر الاهتمام على اماني التي قالت :- ولماذا فعلا هذا ؟ ألم يكونا خطيبين ؟
هزت جودي كتفيها قائلة بحزن :- لقد قرر والدها فجأة بان بشار ليس الصهر الذي أراده لابنته .. فهو ما يزال طالبا ويحتاج إلى وقت كثير كي يكون مستعدا لتوفير حياة كريمة لريما .. خاصة وأن هناك الكثير من معارفه الأثرياء المتلهفين لمصاهرته .. وعندما يئست ريما من إقناع والدها .. لم تجد حلا أمامها إلا الهرب مع بشار
صمتت اماني للحظات مفكرة .. لم تكن يوما مقربة من ريما .. ولكن لطالما احترمت شجاعتها وقوة إرادتها .. وما فعلته قد لا ينال التقدير من المجتمع المعقد الذي يعيشون فيه .. ولكنها سعت اولا واخيرا خلف سعادتها هي .. لا سعادة الآخرين
وبما انها تعرف أختها جيدا .. وتخمن الصراعات التي تدور منذ فترة داخل رأسها .. أدركت بانها تعاني في هذا الوقت من اضطراب كبير سألتها بهدوء :- وما رأيك انت بما فعلته ؟
عرفت جودي بان سؤال اماني هو اعمق بكثير مما يبدو .. نظرت إليها بتردد وحيرة قبل ان تقول :-
:- أنا أكثر من يعرف مدى حب كل من بشار وريما لبعضهما البعض .. لم يكن من حق والدها ان يفصل بينهما بهذه القسوة بعد قبوله السابق لخطبتهما .. وبشار شاب جيد .. مازال في بداية الطريق .. ولكن النجاح سيكون حليفه فور تخرجه وحصوله على عمل مناسب .. ولكن ..
شعرت جودي بصعوبة كبيرة في البوح بأفكارها .. فشجعتها أماني قائلة :- ولكن ....
هتفت جودي :- انا لا أفهم .. كيف استطاعت تحدي الجميع بفعل ما يمليه عليها قلبها رغم استنكار عائلتها والناس ؟ هل ستكون سعيدة الآن وهي معرضة لنبذ المجتمع لها ؟ للحياة الصعبة مع بشار في غرفة صغيرة مع والديه بعيدا عن دعم والدها وأصدقائها ؟ هل يستحق بشار ان تقدم على كل هذه التضحيات من أجله ؟
سألتها أماني بهدوء :- هل تظنينها ستكون أكثر سعادة بزواج مرتب من عريس لا تعرف عنه شيئا أو حتى تميل إليه .. هل ستتمكن من إدارة ظهرها للرجل الذي تحب وتتظاهر بانها لم تعرفه يوما أو تعشقه بكل جوارحها لأجل حياة مرفهة خالية من المعنى قد تزول في اي لحظة بقدرة قادر ؟
نظرت إليها جودي بعجز غير قادرة على التعليق .. هنا نظرت اماني إلى عينيها وقالت :- الزواج المرتب ليس خاطئا يا جودي .. أحيانا يجمع بين قلبين غريبين بحب يستمر إلى الأبد .. وقد ينجح حتى بدون الحب الكبير والعاصف إذا كان مبنيا على الاحترام والتقدير .. ولكن المصيبة الكبرى إذا كان أحد الطرفين واقعا رأسا على عقب في حب شخص آخر
انتفضت جودي بعنف على إثر صفعة اماني المباشرة .. نهضت وهي ترتجف .. وابتعدت عن اختها قائلة باضطراب :- أنت لا تتحدثين عن ريما .. أليس كذلك ؟
قالت اماني بدون ان تحاول المراوغة :- أنا أتحدث عنك انت يا جودي .. لا تحسبي أنني في خضم انشغالي بمشاكلي غافلة عما يحدث معك .. إلى متى ستمضين قدما في مهزلة زفافك القادم ؟ متى ستعترفين بأنك لا تحبين طارق .. وأنك لن تجدي السعادة معه
الأيام التي قضتها جودي تتعذب في التفكير في الموضوع والليالي التي جافاها فيها النوم وهي تقلب الأمر داخل عقلها .. ومحاولاتها اليائسة لنسيان تمام .. ثم اكتشافها بان أماني كالعادة على اضطلاع بكل صراعاتها جعلها تنفجر بمقاومة غاضبة :- طارق هو الرجل المناسب لي .. لماذا لا تملين من تكرار الموضوع كلما التقينا .. ما كان والدي ليبارك زواجنا لو لم يكن واثقا من هذا
وقفت أماني قائلة بازدراء :- ما الذي عرفه والدك بالضبط عن السعادة ؟ لا شيء على الإطلاق .. حياته كانت كئيبة ومظلمة مثل قلبه .. لا يحق له أن يدير لك حياتك وقد عجز عن التحكم بحياته كما يريد
هزت جودي رأسها باستنكار :- كيف تقولين هذا ؟ أبي كان سعيدا مع امي .. حياتهما كانت كاملة ومثالية .. وقد أراد لي ما حصل عليه بالضبط
ساد الصمت طويلا عندما لم تعلق اماني .. النظرة التي ارتسمت في عينيها جعلت قلب جودي يرتجف من الخوف ..
همست بتردد :- أليس ما أقوله صحيحا ؟
هزت اماني رأسها قائلة :- كنت أنتظر الوقت لاطلاعك على الحقيقة يا جودي .. وأظنك بالشكوك التي تراودك والصراع الذي تعانين منه بحاجة إلى معرفتها
كادت جودي تفقد أعصابها وهي تقول :- أي حقيقة يا اماني .. ما الذي تخفينه عني ؟
اتجهت اماني إلى خزانتها وأخرجت منها ذلك الدفتر القديم الذي كاد يهترئ من كثر ما قرأته .. ومدت يدها به إلى جودي التي أخذته منها مترددة .. فتحته بحذر لترتسم الدهشة على وجهها وهي تقول :- هذا خط أمي .. هل كتبت أمي هذه الأشياء ؟
هزت اماني رأسها قائلة :- بدأت تكتب فيه بعد زواجها بسنوات قليلة .. بعد ولادتك بالضبط .. شعورها بالكبت والضغط
.. والفراغ الهائل الذي عانت منه دفعها لإفراغ مشاعرها في هذا الدفتر خفية عن والدنا .. عثرت عليه بعد وفاتها بأيام
تصفحته جودي سريعا وهي تقول باضطراب :- لماذا اخفيته عني طوال هذه السنوات ؟
:- خشيت ان تصدمك كلمات امي يا جودي .. لقد كنت صغيرة .. ومؤمنة تماما بمثالية والدنا .. كانت علاقتكما وطيدة فلم أرغب بأن تفقدي هذه الميزة كما حدث معي .. لم أرغب بتحطيم أحلامك و ثوابتك في تلك السن المبكرة .. انتظرت حتى يحين الوقت المناسب .. وأظنه قد حان
نظرت جودي إلى شقيقتها الهادئة وأحست بان كل عالمها سيتغير ابتداءا من هذه اللحظة .. سالت بخوف :- ما الذي كتبته امي بالضبط ؟
اقتربت منها أماني وأحاطت كتفيها بذراعها وقالت برفق :- اذهبي إلى البيت الآن واقرأيه على مهل .. وأنا سأكون هنا في انتظار أي استفسار منك .. اتصلي بي في أي وقت
وبينما أماني تقود جودي إلى الباب .. تذكرت جودي بدون تركيز:- وماذا عن توضيب أغراضك ؟ يجب ان اساعدك إن أردت الانتقال إلى شقة سمر في صباح الغد
قالت أماني ساخرة :- لن يأخذ توضيب أغراضي وقتا طويلا .. فقد سبق وأرسلت جميع المشتريات التي أصر خطيبي المستبد على شرائها لي كجهاز إلى شقة الزوجية
تذكرت جودي فجأة ما كانت اختها تعانيه من اضطراب فأحست فورا بمدى أنانيتها .. سالتها بقلق :- هل ستكونين بخير ؟
قالت أماني بحزم :- لا تقلقي .. لطالما تمكنت من الاعتناء بنفسي
عندما انفردت أماني بنفسها .. وجدت المجال أخيرا لتفكر بمشكلتها .. تكومت حول نفسها فوق السرير .. وسمحت لذاكرتها بالعودة إلى اللحظة التي قبلها فيها هشام .. لقد قبلها حقا .. وهي سمحت له باختراق دفاعاتها وقد سبق وأقسمت يوما بألا تسمح لرجل بتجاوزها .
. لقد قبلها .. بكل الحرارة واللهفة التي قد يشعر بهما رجل اتجاه امرأة .. وتأثير قبلته عليها كان ساحقا .. مدمرا .. خدر عقلها وأيقظ داخلها وحشا ضاريا لم تعرف بوجوده من قبل
متى وقعت بالضبط في حب مديرها ؟ هل حصل هذا ببطء مع تطور معرفتها به عن قرب كرجل حقيقي رائع كامل لا مثيل له .. بحزمه وصرامته .. وإحساسه الكبير بالمسؤولية اتجاه أحباءه بشكل خاص .. ومن هم أضعف منه بشكل عام .. لطفه وتفهمه الكبيرين .. أم أن انجذابها نحوه كان موجودا منذ البداية وقد أعماها عنه موقفها العدائي والغاضب اتجاه كل ما هو مذكر ؟
إنها تحب هشام .. تحبه بكل مشاعرها التي ظنت بأنها قد ماتت قبل سنوات .. بينما يتزوج هو بها ليحميها من صلاح
لم يخف عنها إعجابه بها .. وقد أظهر لها بوضوح رغبته فيها .. إنه يريدها بنفس القوة التي تريده بها
سيتزوجان لأشهر قليلو ومن السهل عليها أن تستسلم لمشاعرها وتعيش معه حلما جميلا لفترة .. سرعان ما ينتهي عندما يحين الوقت وتنتفي حاجتها إلى حماية هشام .. سيتركها ويبحث عن فتاة يحبها ويفخر بها كزوجة ورفيقة .. وأم لأبناءه
أما هي .. فستنهار وحيدة بعيدة عن العيان .. بعد أن تجذر حبه عميقا داخلها .. وحفر جرحا عميقا لا شفاء له داخل روحها
لقد كان واضحا معها .. لن يلمسها حتى تلمح له برضاها .. إن حافظت فقط على برودها وتظاهرت بعدم الاهتمام سيتركها في حالها .. وفي النهاية ستحتفظ بكرامتها وكبريائها على الأقل عندما يحين وقت الفراق
قامت بتثاقل لتبدأ بتوضيب أغراضها داخل الحقيبة الكبيرة والمفتوحة
تنتظرها معركة طاحنة بين إرادتها ومشاعرها .. ورغما عنها .. لم تعرف لماذا أحست بأن إرادتها ستكون الطرف الخاسر حتما










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-21, 13:01   رقم المشاركة : 38
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الثلاثون
لعنة العائلة

لم يتأخر اتصال جودي كثيرا ..استيقظت اماني بعد منتصف الليل بقليل لتسكت صراخ هاتفها المحمول .. وعندما قرات اسم جودي على الشاشة رفعته إلى أذنها قائلة بقلق :- جودي
كما توقعت كان صوت جودي منهارا وقد تخللته الشهقات المتتالية وهي تقول :- أخبريني بأن ما قرأته غير صحيح .. لا يمكن ان يكون صحيحا
ردت أماني :- جودي .. اهدئي قليلا .. هل تريدين مني القدوم إليك ؟
نعم .. كانت مستعدة لدخول ذلك البيت من جديد حتى لو خاطرت بلقاء صلاح كي تكون مع جودي في هذه اللحظات
تمالكت جودي أعصابها وهي تقول :- لا .. لا داعي لهذا .. أنا بخير .. اكتشفت فقط بأن القواعد التي كنت أستند إليها في حياتي لم تكن سوى مجسمات ورقية مزيفة .. عرفت لتوي بان أمي لم تحب أبي قط .. وأنها تزوجته لأجل امواله ومركزه الاجتماعي مضحية بمشاعرها اتجاه ابن عمها الفقير ..وأنها لم تكن سعيدة على الاطلاق .. بل كرهت كل لحظة عاشتها داخل هذا البيت
أحست اماني بالهستيريا تتخلل صوت جودي فقالت برفق :- أعرف بأن صدمتك كانت كبيرة .. ولكنك تغفلين عن شيء في قمة الأهمية .. نحن لم نعرف امنا حقا يا جودي .. وهذه فرصتك للتعرف إليها جيدا .. ان تعرفي المرأة التي كانتها تحت ذلك القناع الذي اضطرت لارتدائه أمام زوجها وأمام الناس .. تمعني في احلامها وأفكارها .. لا تغفلي عن الحب العميق الذي كانت تكنه لنا والأمنيات التي كانت تراودها حول حياتنا ومستقبلنا
أخذت نفسا عميقا ثم أكملت :- نعم هي لم تكن سعيدة .. ولكن هذا لم يكن ذنبها .. فهي لم تستطع أن تجبر قلبها على نسيان حبها الأول وتقبل شخص آخر حتى بعد ان أنجبت منه أطفالا .. حاولت لأجلنا على الأقل وفشلت .. فلم تعد ترغب بأي شيء من الدني إلا تجنيبنا التعاسة التي عانت منها .... أبي أيضا لم يكن مذنبا .. فقد أحب امنا بجنون .. حاول إرضائها بكل الطرق الممكنة ولكنه صدم عندما اكتشف بان أمواله بكثرتها لت تستطيع ان تشتري له السعادة .. كنوز الدنيا كلها لا تستطيع منحنا حبا لم يكن مقدرا لنا
عندما لم تسمع صوت جودي قالت بقلق :- جودي .. هل تسمعينني ؟
بعد لحظات من الصمت همست جودي :- وأنت كنت تعرفين منذ البداية .. لهذا كان ابي ينفر منك .. كنت تذكرينه بخيبته الوحيدة .. ولم يسامحك على هذا قط
تنهدت أماني وقالت :- مشكلتي مع أبي تعود إلى أسباب أكثر تعقيدا .. ولكنك محقة .. معرفتي للحقيقة التي حاول انكارها طويلا لم تساعده على تقبلي
:- لهذا كنت مصرة على رفض صلاح .. لم ترغبي بتكرار مأساة أمي
قالت اماني بحدة :- كراهيتي لصلاح لا شك في عمقها .. ولا علاقة لها أبدا بأحلام امي .. كنت لأرفضه حتى لو خرجت من القبر وتوسلت إلي بأن أقبل به
ثم أخذت نفسا عميقا كي تخفف من غضبها وقالت :- قصتي مع فراس كانت ردة فعلي الحقيقية على ما عرفته عن أمي .. أردت بيأس أن أتزوج برجل أحبه .. وكنت قد ضقت ذرعا بمحاولات أبي لتزويجي من صلاح
قالت جودي متفهمة وقد هدأت :- ثم خيب فراس أملك وفقدت أملك بعد ذلك بتحقيق حلم أمنا .. ولكنك الآن مقبلة على الزواج بالرجل الذي تحبينه حقا .. صحيح ؟
تمتمت أماني :- نعم .. هذا صحيح
ساد الصمت للحظات قبل ان تقطعه اماني :- ما الذي ستفعلينه الآن ؟
عرفت جودي ما قصدته اماني فقالت باضطراب :- لا أعرف بعد .. أظنني بحاجة إلى التفكير لبعض الوقت .. انا آسفة لإيقاظك بينما ينتظرك يوم حافل في الصباح
:- لا مشكلة .. ستطلعينني على أخبارك أولا بأول ... أليس كذلك ؟
:- بالتأكيد
أنهت جودي المكالمة .. وأحاطت نفسها بذراعيها محاولة إيقاف الأفكار التي تتصارع داخل عقلها بلا رحمة .. لقد طرحت اماني السؤال الأهم ... ما الذي ستفعله الآن ؟ هل ستتابع التحضيرات لزفافها وتتزوج بطارق ؟
هي لا تستطيع نفي ما تحسه نحوه من مودة .. فهو شخص رائع ولم يكن معها إلا مثال الخطيب الكامل .. وكان من الممكن أن تكون سعيدة معه لو لم تقع في حب تمام
تمام .. رددت اسمه بألم كبير .. وتذكرت ملامحه المجروحة في آخر لقاء لهما عندما قطعت علاقتها به نهائيا .. لن تنسى ما عاشت نظرة عينيه وهي تخرجه من حياتها بقسوة لم تدرك بانها امتلكتها .. لم يكن يومها غضبها منه قد خمد .. كلماته القاسية التي وجهها نحوها خلال عشائهما الأخير مازالت محفورة داخلها .. مع انها بعد أن هدأت .. بالأدق بعد ان أضناها الشوق .. بدأت تعطيه الأعذار .. فهي من بدأ بإهانته والتقليل من شأنه بالإشارة إلى وضعه المادي والاجتماعي المتدني .. وبعدها جرحته بكلماتها بعد أن انتابها الذعر من ضعفها الشديد أمامه
دفاعها المستميت داخل عقلها لا ينفي الواقع .. وهو انه شاب عابث لا يفكر بالزواج منها حتى لو كان يحبها بجنون كما يدعي .. وهي لن تسمح لنفسها أبدا بأن تستسلم له بشروطه مهما كان حبها له كبيرا .. ومهما عذبها فراقه
ضجيج خافت قادم من الطابق السفلي قطع تسلسل أفكارها .. على الفور سيطر عليها الخوف الطبيعي للفتاة تقيم وحيدة في منزل كبير .. فحتى وجود الخادمة النائمة على بعد رواق من غرفتها لن يمنع عنها أذى لص أو مغتصب
نهضت دون ان تصدر صوتا .. وتناولت عصا والدها الضخمة .. وغادرت غرفتها متجهة إلى الطابق السفلي بحذر شديد
على الضوء الخافت لإحدى القناديل الناعمة الموزعة بذوق في أرجاء الصالة .. لمحت ذلك الرجل الجالس فوق الأريكة وقد أحنى رأسه مخفيا وجهه بين يديه وقد بدت عليه التعاسة
أخفضت العصا وهي تهمس :- صلاح
رفع رأسه نحوها فصدمها مظهره المزري .. لم ترى صلاح في حياتها فاقدا السيطرة على نفسه بهذا الشكل حتى عند وفاة والدها
وجهه الوسيم كان شاحبا نحيلا .. وقد أحاطت الهالات السوداء بعينيه الغائرتين .. ونمت ذقنه حتى بدا شخصا آخر مختلف تماما عن ابن عمها الواثق الأنيق الذي عرفته طوال حياتها
ابن عمها القوي يتعذب بشدة في هذه اللحظة
تحركت نحوه ببطء بينما خرج صوته الأجش يقول :- لقد انتهى كل شيء .. سوف تتزوج به بعد أيام ... بينما أنا أقف عاجزا عن فعل أي شيء لإيقافها
جلست إلى جواره قائلة برقة :- لن تستطيع إيقافها يا صلاح .. أماني سوف تتزوج من هشام عطار .. لقد حان الوقت كي تمنحها حريتها لتجد سعادتها التي حرمت منها طويلا
نظر إليها بتعاسة قائلا :- وماذا عني انا ؟ ما الذي سأفعله الآن بدونها
قالت بحزن :- أعرف بأنك قد ظننت لفترة طويلة بأنها تنتمي إليك .. ولكنني آسفة يا صلاح .. أماني كانت دائما ملك لنفسها .. يجب أن تنسى الآن نزعتك التملكية نحوها و تبدأ بالبحث عن امرأة أخرى تحبها حقا هذه المرة
تقلصت ملامح وجهه باستنكار وهو يقول :-
:- ألا تظنين ما أحسسته نحو اماني حبا حقيقيا ؟ ربما عاملتها بقسوة وتجاوزت الحد .. إلا انني أحببتها بجنون منذ دخلت بيتكم طفلا يتيما جائعا إلى الحب والاهتمام .. وقد وجدته لدى عمي .. لديك انت .. حتى لدى زوجة عمي المرحومة ..
أماني كانت الوحيدة التي اعتبرتني دخيلا منذ اللحظة الأولى .. بينما بهرت أنمنا بجمالها وكبريائها وغموضها .. وجعلت هدفي أن أقلب يوما نظرة الكراهية في عينيها إلى الحب العميق الذي كنت أنشده .. كلما كانت تقاوم .. كنت أزداد غضبا وتمسكا بها .. استبحت كل الطرق للوصول إليها .. ولكنها كانت أبعد من نجوم السماء عني
وهاهي الآن تتزوج برجل آخر فقط كي تتحرر وتنتقم مني .. كيف أعيش بعد الآن وأنا أعرف بأنها كرهتني إلى حد وهب نفسها لرجل لا تحبه فقط كي تتخلص مني
ساد الصمت للحظات قبل أن تقول بهدوء :- أنت مخطئ يا صلاح .. أماني تحب هشام .. إنه الرجل الذي فهمها وقدرها واحترمها في الوقت الذي نبذها فيه المجتمع .. إنه إنسان رائع تمكن من منح أماني الأمان الذي افتقدته طوال حياتها .. هشام هو الرجل الذي استحق أماني فعلا .. هو الشخص القادر على حمايتها كما يجب
تذكر صلاح بخزي شديد ردة فعل هشام عندما ضبطه يهاجم أماني في لحظة غضب جنوني لم يعرفها من قبل .. فتمتم معترفا :- إنه كذلك بالفعل
ابتسمت برقة قائلة :- إن كنت تحب أماني فعلا فستتمنى لها السعادة .. وتحاول أن ترمم ما دمرته سنوات من العداء والاضطهاد بينكما
عرف صلاح بأن أماني لن تقبل النظر إلى وجهه بعد الآن ولكنه تمتم :- بالتأكيد
ثم قال :- آسف لأنني أيقظتك في هذا الوقت المتأخر .. كنت يائسا وبحاجة إلى محادثة شخص ما أثق به .. وكنت أنت من خطر على بالي
ابتسمت وأمسكت يده بقوة قائلة :- أنت هو عائلتي الوحيدة يا صلاح
نهض مصلحا ثيابه .. ومرر يده عبر شعره الأشعث وقال :- سأتركك تعودين إلى النوم .. أنت لست بحاجة إلى مشاكلي إضافة إلى همومك .. دراستك .. زفاف أماني .. زفافك المرتقب .. ما يطمئنني هو أنني سأطمئن عليك على الأقل تحت رعاية طارق .. إنه شاب جيد وسيهتم بك كما يجب
هزت رأسها موافقة بصمت .. فقبل جبينها بحنان أخوي قائلا :- تصبحين على خير
راقبته يغادر ثم تكومت هي مكانه على الأريكة وهي تفكر ساخرة بأن النجاح في الحب ليس من سمات عائلة النجار .. ابتداء بوالديها .. وانتهاءا بها وبصلاح
على الأقل تمتلك أماني الفرصة لتحقق ما فشلو جميعا في تحقيقه
السعادة الكاملة



الفصل الحادي والثلاثون
تاريخ أسود

ساد صمت ثقيل بين كل من أماني وهشام داخل سيارته الفارهة .. وهو يقطع بها الطرقات الداخلية للمدينة .. من ينظر إليهما وكل منهما منشغل بفكره عن الآخر لا يمكن ان يخمن على الإطلاق بأنهما سيعقدان قرانهما صباح اليوم التالي
تمنت أماني لو تعرف ما يدور في عقل هشام .. إذ بدا لها جافا وبعيدا منذ تبادلا تلك القبلة اليتيمة في شقتها قبل أيام
بالكاد رأته منذ انتقلت إلى شقة سمر .. لم يزرها أو حتى يتصل بها .. أمه وشقيقته فقط استمرتا في الاتصال بها وزيارتها لإنهاء ترتيبات الزفاف من شراء للفستان وإرسال للدعوات وغيرها من المهام الضرورية
معنويات اماني كانت تنحدر ببطء مع مرور الأيام .. وهي تتساءل عما اقترفته كي يجافيها بهذا الشكل .. هل ندم على تلك القبلة .؟ ألم تعجبه بما فيه الكفاية ؟ هل أحس فجأة بأنه قد علق في الفخ وتورط في الزواج من امرأة لا يريدها ؟
ألمها الشديد كان أكبر دليل على مدى عمق مشاعرها نحوه
إنها تحبه .. يا الله كم تحبه .. وعندما تصل بها قبل ساعات طالبا منها بجفاف أن تلاقيه بعد انتهاء ساعات العمل في مكتبه .. كادت تبكي لمجرد سماع صوته .. أذهلها التغيير الذي أحدثه حبها لهشام في نفسها
منذ متى كانت هي تلك الفتاة الهشة الضعيفة اليائسة إلى كلمة واحدة من حبيبها ؟ أين كانت حساسيتها هذه مختبئة منذ سنوات عندما ظنت نفسها باردة المشاعر والأحاسيس ؟
لم يطلعها على مقصدهما .. ولم تسأله عندما انضمت إليه في السيارة
ثقتها الضعيفة في نفسها وخوفها من الرفض جعلاها تلتزم الصمت مثله تماما .. وإن كانت تسترق النظر نحوه بين لحظة وأخرى .. تتأمل جانب وجهه الوسيم بشغف .. وتلاحظ وجوم ملامحه
عندما أوقف السيارة أدركت بأنهما قد وصلا إلى حارة شعبية فقيرة .. بدا الإهمال واضحا على المباني الآيلة للسقوط .. وفي شوارعها البعيدة عن النظافة .. تجمع الأطفال حول السيارة بفضول .. بينما ظهر عدم الاهتمام جليا على هشام بلفته الواضح للأنظار ..
ترجل من السيارة ودار حولها ليفتح لها الباب ويساعدها على النزول .. رفعت نظرها إليه بتساؤل فتحاشى عينيها قائلا :- طريقنا من هنا
أمسك بمرفقها وقادها فوق الرصيف المهترئ نحو مبنى متهالك أحست بقلبها ينقبض من مجرد النظر إليه .. مدخله كان مظلما وعفن الرائحة .. وسلالمه مهترئة بفعل الزمن .. اضطر للإمساك بذراعها كي لا تتعثر بإحدى الحفر أثناء صعودها .. ورغم قلقها وخوفها المتزايد .. أصرت على التمسك بموقفها ولم تطرح عليه أي سؤال
في الطابق الخامس .. أخرج أخيرا مفتاحا صغيرا .. ودسه في قفل باب كبير تقشر طلاءه .. احتاج إلى دفعة قوية من هشام كي يتحرك امامه .. ويفسح له الطريق للدخول .. فقال باقتضاب :- اتبعيني
تلمست طريقها وسط الظلام .. ثم زفرت بارتياح عندما وصل هشام إلى مفتاح الضوء وأداره .. .وسرعان ما بدد الظلام ضوء ضعيف أصفر صدر عن مصباح سقف بسيط .. تمكنت أخيرا من تأمل المكان من حولها بفضول .. فتبينت شقة صغيرة المساحة .. مزدحمة بأثاث بالي وقديم .. بعض القطع غطيت بالشراشف التي اصفر لونها .. بينما علت طبقات الغبار السميكة الأسطح في كل مكان .
هذه الشقة مهجورة منذ سنوات طويلة .. طويلة جدا
نظرت إلى هشام فصدمتها النظرة المطلة من عينيه وهو يحدق عابسا في زوايا المكان .. لقد كان غاضبا .. ظهر هذا بوضوح من توتر جسده الضخم وانقباض يديه السمراوين وكأنه يقاوم رغبته في تحطيم شيء
ثم رأت تلك العاطفة المستترة في نظراته السوداء .. كمن يستعيد ذكريات قديمة غير سعيدة على الإطلاق
عندها .. فهمت اماني كل شيء .. وهمست اخيرا :- لقد كنت تقيم هنا
تناول إطارا لصورة قديمة .. ومسح الغبار عن زجاجها بأصابعه .. ثم اعادها إلى مكانها قائلا ببرود :- لقد أقمت هنا مع عائلتي لفترة طويلة حتى عشر سنوات خلت
لم تعرف اماني السبب الذي دفعه إلى إحضارها إلى هنا .. وإطلاعها على ماضيه القاسي الذي تجهل عنه الكثير .. ولكنها أدركت بانها تريد أن تعرف .. بل تحتاج إلى ان تعرف ما الذي جعل منه الرجل الذي هو عليه الآن ؟
أكمل كلامه بجفاف :- لقد انتقلنا إلى هنا عندما كنت في العاشرة من عمري .. عندما اضطررنا لبيع شقتنا القديمة الواسعة لسداد جزء من ديون ابي بثمنها
استدار إليها قائلا بسخرية :- لا تتظاهري بالجهل يا اماني .. تعرفين جيدا سمعة أبي السيئة كغيرك من الموظفين لدي .. وقد لمحت لي بها اكثر من مرة أثناء مشاجراتنا المتعددة
احمر وجهها حرجا وهي تقول :- أنا آسفة .. لم أقصد حقا ...
قاطعها بحزم :- أعرف ما كنت تقصدينه بالضبط .. وهو ليس موضوعنا الآن .. غدا سوف تصبحين زوجتي .. لذا فكرت بأنه من الأفضل ان تعرفي كل شيء عني مني انا .. وألا تكتفي بالشائعات التي لاحقتني منذ سنوات .. قد تطلعك سمر على القليل .. وقد تحكي لك أمي القليل .. ولكنهما لن تجدا الجراة على إخبارك بالحقيقة كاملة
فجاو لم تعد اماني راغبة بمعرفة المزيد .. أحست بالخوف مما ستسمعه .. ولكنها عرفت حاجته هو للبوح لها بما لم يبح به لشخص آخر
حاجته لوضع الحمل الثقيل الذي حمله لسنوات على ظهره
تمتمت :- أود حقا ان اعرف الحقيقة
اتجه نحو النافذة .. وفتحها كي يبدد شيئا من رائحة المكان الخانقة .. وسرعان ما تدفق الضجيج من الخارج حتى تلاشى ما احست به اماني بانهما منعزلين عن العالم .. نظر من علو إلى الشارع المزدحم .. إلى الأطفال المتراكضين هنا وهناك ..إلى بائع متجول يصيح معلنا عن بضاعته ثم قال :-
:- كان ابي وحيد رجل ثري .. عانى من طفولة متقشفة فأراد تعويض ابنه بتدليله ومنحه كل شيء .. فكبر فاسدا .. مدللا لا يعرف معنى المسؤولية .. وعندما أدرك والده خطاه فكر بأن تزويجه من فتاة صالحة سيعقله .. ويعيده إلى الطريق القويم .. ووقع اختياره على والدتي .. وكانت ما أراده بالضبط .. امراة صغيرة صالحة ومتدينة .. ولكنها لم تنجح حتى بعد انجابها ل 3 أطفال في إبعاده عن استهتاره وتهوره
التفت إليها .. فبدا وجهه مظلما بسبب ضعف الإنارة .. ولم تستطع معرفة ما يفكر به .. ولكنه أكمل :- كما هو متوقع .. مات والده خائب الأمل .. وأضاع هو ميراثه على اللهو .. وعندما وجد نفسه مفتقرا إلى المال .. لجأ إلى الحل الوحيد الذي فكر به .. وهو النصب على الآخرين .. أقنع بعض معارفه بالاستثمار في مشروع كبير .. ثم أخذ اموالهم واختقى بلا أثر .. سافر فجاة بلا مقدمات أو توضيحات حتى لعائلته .. وسرعان ما وجدت زوجته نفسها وحيدة مع 3 أطفال .. وصفوف من الدائنين يقفون على عتبة بابها
كان لديها فكرة بسيطة عما عانته السيدة لميس من معاناة واضطهاد .. ولكنها فكرت الآن بالطفل ذي السنوات العشر الذي وجد أمه تعاني دون أن يقدر على مساعدتها
:- الأسوأ بالنسبة إليها كان موقف عائلتها .. رفضوا مساعدتها بكل بساطة .. بل اشترطوا عليها أن تتخلى عن أطفالها .. وتحصل على الطلاق كي يتسنى لهم تزويجها مجددا والخلاص من مسؤوليتها فرفضت بشكل قاطع .. ما كانت لتترك أطفالها يتنقلون بين الملاجئ تحت حماية الغرباء .. وما كانت لتطلب الطلاق من رجل رغم جميع مساوئه فقد كان زوجها وحبيبها ووالد أطفالها .. لم يتزعزع إخلاصها أو ثقتها بعودته .. حتى عندما اضطرت للتخلي عن مسكنها والإقامة في جحر حقير كهذا .. والكدح بحثا عن الرزق وهي التي لم تعمل يوما .. ولم تحمل مؤهلا يساعدها على أن تعمل .. لقد ذاقت الأمرين .. عرفت الذل والهوان .. لا يمكنك أبدا أن تتخيلي كيف كانت حياتها خلال السنوات الأولى .. ما زلت أذكر يوم اقتحم أحد الدائنين الشقة وتهجم عليها مصرا على أنها متواطئة مع زوجها .. ذلك اليوم بالذات أظنني قد كبرت .. وودعت طفولتي إلى الأبد .. عندما عرفت إلى أي حد يمكن لأي إنسان أن يكون قاسيا
صوته بدأ يزداد خشونة .. وكسا وجهه الوسيم توحش بدائي وهو يشير إلى الندبة الصغيرة التي قاطعت حاجبه وهو يقول :- هذه الندبة التي سألتني عنها مرارا .. أصبت بها على إثر رمي ذلك الرجل لي قوق طاولة زجاجية عندما حاولت حماية أمي منه ..أقسمت يومها بألا أكون ضعيفا بعدها أبدا .. وألا أسمح لمخلوق بأذية شخص أهتم لأمره حتى لو دفعت حياتي ثمنا لذلك
قالت بتوتر وهي تكبت ارتعاش جسدها :- لماذا تخبرني بهذا ؟ لماذا تعذب نفسك بهذا الشكل ؟
عاد ينظر عبر النافذة إلى الفراغ بعيدا عنها وقال :- سبق واخبرتك بالسبب .. سنعقد قراننا صباح الغد .. وأنت ستصبحين زوجتي .. أردتك أن تعرفي كل شيء عني قبل ان تتورطي معي كي أتيح لك فرصة التراجع قبل فوات الأوان
ساد الصمت لدقيقة كاملة قبل ان تقول بهدوء :- لماذا تظنني سأتراجع بعد معرفتي للحقيقة ؟
لم يجبها .. بل لم تصدر عنه أي حركة .. فاقتربت منه قائلة بحزم :- لقد أخذت فكرة عن ماضي والدك منذ فترة طويلة .. ولم افكر للحظة واحدة بانك تشبهه باي طريقة كانت
تابعت عندما لم يعلق :- قد لا يكون زواجنا حقيقيا .. ولكنني فخورة للغاية بأنك أنت من سيكون زوجي أمام الناس في الغد .. خلال الأشهر التي تلت وفاة أبي .. وقفت إلى جانبي وفهمتني وحميتني أيضا كما لم يفعل أقرب الناس إلي .. لا يهمني على الإطلاق من يكون والدك يا هشام .. ما يهمني هو أي رجل رائع وجدت فيك أنت
استدار إليها فرأت جمود وجهه .. فأسرعت تقول بانفعال :- أنا لا أقول هذا بسبب الامتنان .. مع أنني حقا ممتنة لكل ما فعلته معي
اقتربت منه أكثر حتى لم تعد تفصل بينهما سوى سنتيمترات قليلة
رفعت رأسها إليه .. فارتعش قلبها عندما التقت عيناها بعينيه السوداوين .. بالرغم من قربه منها إلا أنه بدا وكأنه على بعد أميال
دون أن تفكر .. رفعت يدها لتلمس أناملها صدره الصلب .. وقالت :- أتعرف ما الذي أراه عندما أنظر إليك ؟
أحست بتوتر عضلاته تحت أناملها .. ولمحت توتر شفتيه فهمست :-
:- رجل بنى نفسه بنفسه من الصفر .. بقوة وإصرار وشرف .. ليمنح أمه وشقيقتيه الحياة التي حرمن منها .. رجل أعمال فذ ذو عقل عبقري وطباع صعبة .. ولكنه رئيس عادل وكريم .. لم يقلل يوما من شأن أحد موظفيه .. كان لهم دائما كالأب والمرشد .. حسنا .. ليس جميع موظفيك .. نستطيع استثناء الموظفات الوقحات طويلات اللسان
ابتسمت باضطراب .. فكان الصدى الوحيد الذي لقيته منه هو اهتزاز طفيف في عينيه القاتمتين .. أكملت :-
:- رجل لم يتردد قبل ربط نفسه بفتاة أصبحت حديث المدينة بأكملها فقط كي يحميها من ظلم والدها وابن عمها .. أنا لا أعرف حقا لماذا تضحي بنفسك لأجل فتاة لا تعني لك الكثير .. ولكنني أتمنى ألا تندم في النهاية على تضحيتك هذه
أحست بخفقات قلبه تحت أصابعها .. وفجأة .. ساد ذلك التوتر الذي لطالما حل بينهما كلما انفردا .. غطا يدها بيده الكبيرة .. وقال بصوت خشن :- لا يهمني السبب الحقيقي لزواجك مني يا أماني .. ولكنك غدا صباحا ستصبحين زوجتي .. ولن أسمح لك بالتراجع
هزت رأسها هامسة :- لن أتراجع
داعب وجنتها بأنامله بينما يتأمل وجهها بعينين لامعتين ثم غمغم :- من الأفضل أن أعيدك إلى شقة سمر قبل أن تقلق
تركها فجأة فانكسر السحر ... وانتهت لحظات التقارب والمصارحة التي جمعت بينهما .. وعاد هشام إلى تحفظه وتباعده وهو يطفئ الأنوار ويقفل الباب .. وعندما ودعته تحت المبنى الذي تقيم فيه سمر .. رفض مرافقتها إلى الداخل .. بل اكتفى بأن قال لها وهي تغادر السيارة :- سأراك صباح الغد
لم ينطلق حتى تأكد بأنها قد غابت خلف البوابة .. وعندما أغلقت أماني الباب خلفها .. سمحت لدمعتين يتيمتين بتجاوز مقلتيها .. ثم مسحتهما وهي تهمس :- لا تلومي إلا نفسك يا أماني .. لقد كنت تعرفين ومنذ البداية بأن هشام مهما كان قريبا منك .. فإنه أبدا لن يكون لك










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-21, 13:02   رقم المشاركة : 39
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اتمنى ان تنال الاعجاب و اتأسف على التأخير










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-23, 12:30   رقم المشاركة : 40
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الثاني والثلاثين
زفاف الموسم
راقبت جودي باكتئاب اماني وهي تغادر حفل الزفاف برفقة هشام .. من المفترض بها أن تكون سعيدة .. بل هي حقا سعيدة لأن أماني قد تزوجت أخيرا بالرجل الذي تحب ..
حفل الزفاف كان رائعا ومثاليا كما أرادت السيدة لميس أن يكون عليه زفاف ابنها الوحيد .. وأماني بدت رائعة الجمال مما بهر جميع المدعوين وأنساهم الشائعات التي لم تتوقف حولها منذ وفاة والدها .. بدت مرتبكة قليلا .. قلقة وهي تواجه نظرات الآخرين التي تركزت عليها .. بالعكس من هشام الذي بدا شديد الوسامة بحلته السوداء الغالية الثمن والتي لاءمت بشكل مدهش جسده الرياضي الضخم .. كان شديد الثقة بنفسه .. وأظهر للآخرين وبكل وضوح أهمية أماني لديه .. إذ أحاطها بذراعه معظم الوقت .. وكان يبتسم لها دائما حريصا على راحتها .. وبدت عليه السعادة وهو يطعمها بيده من كعكة الزفاف الضخمة المكونة من 7 أدوار
الشيء الوحيد الذي يعكر على جودي سعادتها لأجل أختها هو ذكرى مواجهتها لطارق مساء الأمس .. لقد أخبرته أخيرا برغبتها في إنهاء خطوبتهما .. ومع الجهد الكبير الذي كلفها به إخباره بهذا .. إلا ان ردة فعله كانت بعيدة تماما عن الصدمة التي توقعتها .. إذ بدا عليه البرود الشديد وهو يسألها عن السبب .. أجابته بارتباك بأنها أدركت لتوها بأنها لا تحبه كما يجب .. وأنه يستحق أخرى أفضل منها تقدر كل ما هو قادر على تقديمه لها
قال لها فجأة بصرامة :- اعفني لو سمحت من سماع كلماتك المنمقة والمدروسة جيدا كي تخفف من غضبي .. وسأكون ممتنا لو كنت صريحة معي بما يكفي لتخبريني عن الرجل الآخر الذي قلب كيانك وغيرك منذ أشهر
أطلقت شهقة ذهول وهي تحدق به مصدومة .. بينما قال هو ساخرا :- هل ظننتني بهذه الحماقة يا جودي .. لقد راقبت وبدقة كل تغير ولو كان طفيفا في تصرفاتك .. في البداية عزوت الامر إلى صدمتك بوفاة أبيك .. ثم قلقك بشأن اماني .. ولكن فيما بعد .. كان من السهل علي أن اعرف بانك قد توقفت فجأة عن حبي .. وبما انني لم اتغير على الإطلاق ولم أقم بأي تصرف من شأنه تغيير مشاعرك .. فقد استنتجت الحقيقة بنفسي .. وهي ان رجلا آخر قد دخل في المعادلة .. وكل ما كان علي فعله هو الانتظار لأعرف إن كنت ستخبرينني بالحقيقة .. أم أنك ستتابعين استغفالي وتمضين قدما في مهزلة الزواج المنتظر
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول :- طارق .. أنا آسفة ..
هب واقفا عن الأريكة حيث كان جالسا في صالة الاستقبال في منزلها وقال بجفاف :- احتفظي باعتذارك .. فانا لست بحاجة إليه .. ونعم .. لقد كنت محقة في شيء واحد .. انا أستحق أخرى أفضل منك بالتأكيد
عادت جودي إلى الواقع مع ارتفاع ضجيج المدعوين الذين أحاطوا بالعروسين أثناء ركوبهما سيارة هشام المزينة بإتقان
معظم المدعوين كانوا قد غادروا ولم يتبق إلا القليل من المقربين إلى عائلة هشام .. راقبت هشام وهو يساعد أماني على حشر نفسها مع فستانها المنتفخ داخل السيارة .. وعندما اغلق الباب برفق ودار حول السيارة ليجلس مكانه خلف المقود .. أنزلت اماني زجاج النافذة ومدت رأسها تبحث بعينيها عن شخص ما .. وعندما رأت جودي .. أسرعت تلك تلوح لها بيدها وهي تبتسم ببشاشة .. لقد أخطأت عندما أخبرت أختها الكبرى صباح اليوم بما حدث معها .. وتمنت لو يتمكن هشام من ان ينسيها القلق لهذه الليلة على الأقل .. ارتاحت عندما بدت الطمأنينة على وجه اماني التي لوحت لها بدورها .. وقبل ان تنطلق السيارة .. لاحظت جودي التغير المفاجئ الذي طرأ على ملامح أماني .. فقد انقلبت الراحة ليحل محلها الذعر الخالص وهي تحدق بنقطة محددة
استدارت جودي غلى حيث تعلقت انظار أماني .. لترى مصدر جميع كوابيس اختها يقف بعيدا وقد غطى الظلام معالمه .. بحيث لم يفطن لوجود أحد .. وقد بدت عليه الوحدة الشديدة .. والحسرة البالغة
لقد كان صلاح


الفصل الثالث والثلاثون
خلف الباب المغلق

ألقى هشام نظرة عابرة نحو أماني بينما يقود سيارته عبر الشوارع الخالية في ذلك الوقت المتأخر من الليل .. وقد أسبغ ضوء المصابيح العمودية الشاحب جوا كئيبا على المدينة .. لاحظ شحوب وجهها فسألها :- هل انت بخير ؟
تمتمت محاولة السيطرة على اضطرابها :- أنا بخير .. ولكنني متعبة قليلا
مد يده الكبيرة واحاط بها أصابعها المرتعشة المكومة فوق حجرها قائلا :- لقد تجاوزنا الليلة المرحلة الصعبة .. كل شيء سيكون على ما يرام من الآن فصاعدا
منحته ابتسامة شاحبة .. وجاهدت كي لا تنزع يدها من بين أصابعه إذ كانت متوترة بما يكفي لرؤية صلاح التي لم تكن متوقعة .. وليست بحاجة لتحمل المشاعر التي تنتابها كلما لمسها .. ولكنه سحب يده وحده ليعود إلى التركيز على القيادة
فقالت كي تبعد تفكيرها عن نوايا ابن عمها الخفية :- لقد كان الحفل جميلا .. أشكرك على ما تكبدته من عناء كي تقنع الناس بجدية زواجنا
قطب بانزعاج وقال بجفاف :- عليك ان تشكري أمي .. فهي من خطط لجميع التفاصيل
بحثت حائرة عن الخطأ الذي ارتكبته وسبب له كل هذا الانزعاج .. ثم قالت مغيرة الموضوع :- لا أفهم السبب الذي منعنا من إيصالها مع نورا معنا في السيارة .. فوجهتنا واحدة
:- ستبيت أمي ونورا في شقة سمر الليلة .. لقد فضلتا منحنا الخصوصية التامة بترك المبنى كاملا لنا
توقفت السيارة أمام الفيلا الضخمة المكونة من 3 أدوار . . والتي بناها هشام منذ سنوات لامه .. كانت قد زارت المكان مرة واحدة منذ يومين عندما دعتها حماتها إلى العشاء لتعرفها على المكان الذي ستقيم فيه .. وعرفت عندها بأن حماتها هي من اصر على هشام عندما بنى الفيلا أن يجعل من الطابق الثالث شقة منفصلة .. لتكون يوما شقة الزوجية في حال قرر أن يتزوج .. وقد بقي الطابق الثالث مهجورا لفترة طويلة حتى اعلن هشام عن نيته في الزواج من اماني .. فبدأت والدته بحماس حملة مكثفة لتنظيف الشقة وتأثيثها وجعلها مناسبة لإقامة العروسين خلال فترة وجيزة .. لم تسمح لها ذلك اليوم بأن تراها معللة بانها يجب ان تكون مفاجأة للعروس
أسرع الحارس ليشرع بوابة الفيلا امام صاحبها وهو يقدم التهنئة له ولعروسه
سارت السيارة عبر طريق محاط بالشجيرات الصغيرة المقلمة بعناية .. وسط حديقة لم تستطع تبين تفاصيلها بسبب ظلمة الليل .. ثم توقفت امام الفيلا اخيرا .. ساعد هشام اماني على النزول من السيارة .. فرفعت رأسها تتأمل المبنى ذي الهندسة الأنيقة والخالية من البهرجة .. وتذكرت منزل والدها الذي صمم خصيصا ليبهر الناظر .. ويخبره بمدى ثراء صاحبه
تمتمت وهي تصارع بين طيات فستانها :- أظنني سأضطر لخلع حذائي إن كنت سأتسلق كل هذا الارتفاع
ابتسم قائلا :- لن تضطري إلى هذا .. هناك باب خلفي يؤدي إلى مصعد كهربائي يؤدي مباشرة إلى شقتنا
حاولت التغطية على اضطرابها بقولها الساخر :- أليس من الرائع ان يكون المرء غنيا ؟
قال بهدوء :- وجد المال لصرفه .. أليس كذلك ؟
دارا حول المنزل .. وسرعان ما كان هشام يساعها مجددا في حشر فستانها داخل حجرة المصعد الصغيرة .. خلال الثواني التي استغرقتهما للوصول إلى مقصدهما .. اضطرت اماني لحبس أنفاسها عندما وجدت نفسها تكاد تلتصق بهشام وقد أحست بدفء جسده وجاذبيته الفياضة
تجرأت وألقت نظرة سريعة نحو وجهه ففوجئت به ينظر إليها .. وقد علت عينيه نظرة غريبة .. جعلتها تلقائيا تشيح بنظرها بعيدا وقد احمر وجهها .. وترفع يدها نحو عنقها وكتفيها بحماية تلقائية ضد نظراته
أخيرا انتهى عذابها عندما توقف المصعد وانفتح بابه .. قادها هشان إلى شقة فسيحة .. ذهلت اماني وهي تتأمل المساحة الواسعة والديكور الأنيق .. والأثاث المرفه .. لقد تكبدت حماتها العناء حقا لجعل الشقة مكانا جميلا لعيش عروسين جديدين
قال هشام من خلفها :- أرجو ان يكون المكان قد أعجبك
تمتمت :- أنت تعرف بانه قد اعجبني
أجفلت عندما أحست بأنامله تلمس ظهرها بخفة وهو يقول بلطف :- لقد ذكرت امي شيئا عن وجبة جاهزة للأكل تنتظرنا في غرفة الطعام .. لابد انك جائعة بعد هذا اليوم الطويل .. إلا إن أردت التخلص من فستانك هذا اولا .. فهو يبدو لي مزعجا
تورد وجهها وهي تتحاشى النظر إليه قائلة :- إنه مزعج بالفعل .. لست جائعة .. وأظنني سأخلد إلى النوم فورا .. فكما قلت انت .. كان يوما طويلا ومتعبا
نظر إليها للحظات بدون تعبير ثم قال بهدوء :- كما تحبين .. دعيني أقودك إلى غرفة النوم
غرفة النوم كانت حلما لأي عروس حالمة .. المفروشات الخشبية الثقيلة و المحفورة بإتقان .. الستائر المخملية ذات الألوان الناعمة .. السجادة الوثيرة التي كست الأرض الرخامية .. وفي الوسط .. انتصب سرير ضخم رائع الجمال .. مكسو بالوسائد الوثيرة و الأغطية الحريرة المخرمة
تصاعد ارتباكها .. واحتارت بالطريقة التي وجب عليها ان تطرح به سؤالها عن ترتيبات نومهما ..
قال فجأة ساخرا وكانه قد قرا أفكارها :- تبدين كهرة على صفيح ساخن .. اهدئي يا عروسي الغالية .. فانا لن أشاركك الغرفة .. سأنام في الغرفة الإضافية
رددت بارتباك :- غرفة إضافية !
:- طلبت من والدتي إعداد غرفة نوم للضيوف مستعملا جودي كحجة .. فنحن عائلتها الوحيدة الأن .. وقد نطلب منها غالبا البقاء معنا
لم تستطع منع نفسها من التساؤل عما سيفعلانه إذا قررت جودي فعلا ذات يوم البقاء
نظر إلى فستانها قائلا :- هل تحتاجين إلى اي مساعدة في التخلص من هذا الشيء ؟
قالت بحدة مبالغ بها :- سأتدبر امري
لوى فمه بابتسامة جعلت قلبها يخفق بقوة .. وقال بهدوء :- في هذه الحالة ... تصبحين على خير
غادر الغرفة مغلقا الباب خلفه بهدوء .. زفرت اماني بقوة .. لقد أصبحت أخيرا وحدها .. عادت تنظر إلى الغرفة الكبيرة بتوتر .. ثم تفحصت الخزائن الممتلئة بالملابس الجديدة التي اشترتها لها حماتها .. واختارت أكثر قمصان النوم احتشاما .. ثم فتحت بابا جانبيا عرفت فورا بانه يؤدي إلى الحمام ... وبعد نصف ساعة كانت قد خلعت فستانها .. وحلت شعرها من تسريحته المعقدة .. وازالت مكياج وجهها المتقن .. وارتدت قميص النوم .. ثم دست نفسها في السرير الكبير
على ضوء الأباجورة الصغيرة المجاورة للسرير .. تساءلت اماني عما يفعله هشام في الخارج .. هل هو قلق ومتوتر مثلها تماما ؟ أم انه غارق في النوم وقد ارتاح ضميره بعد أن أدى واجبه نحوها على اكمل وجه
انتابتها رغبة شيطانية في الخروج إليه .. في التظاهر بالعطش والحاجة إلى الشرب .. وهي ترتدي احد القمصان المثيرة الكثيرة المكومة داخل الخزانة .. فقط كي ترى بريق الرغبة في عينيه .. لترى هشام الرجل القوي يصارع ضد مشاعره كما حدث عندما قبلها داخل شقتها
نظرت إلى قميصها المحتشم .. وبدون تردد ... قفزت من السرير واختارت قميصا آخر وردي اللون ... بقماش رقيق شفاف وناعم .. نظرت إلى نفسها في المرآة .. فبدت كالحلم .. لا .. هي لن تخرج إلى هشام ... كرامتها لن تسمح لها بذلك .. ولكنها على الأقل ستشعر بأنوثتها .. وبجمالها .. بانها جديرة بالرجل الرائع الذي تحبه
عادت إلى سريرها مجددا .. ضمت ذراعيها إلى صدرها وهي تتكوم إلى جانبها كالجنين .. ولم يمضي وقتا طويلا بعدها قبل ان تغط في النوم



الفصل الرابع والثلاثون
نقطة ضعفه الوحيدة

لم يكن هناك زفاف ..لا مدعوين ولا حتى زينة ..لم تكن في الواقع داخل اي مكان محدد .. فقط فستان زفافها الطويل الذي مازالت ترتديه ذكرها بأنها تتزوج بهشام أخيرا .. وبدلا من ان تشعر بالأمان شعرت بالخوف وهي تبحث عن أي شيء مألوف في المكان المظلم الذي كانت تائهة فيه
ظلام .. ظلام .. أحست بالخوف والضياع .. كما شعرت بالضبط عندما صحت من غيبوبتها في المستشفى ..و نظرت حولها حائرة غير قادرة على تذكر ما حدث ..
هبت ريح قوية رفعت حاشية ثوبها الطويل .. وعبثت بشعرها مفسدة تسريحته الانيقة .. صاحت بقلق .. هشام .. هشام
رأته أخيرا يقف والضباب يلفه من كل جانب .. كان يدير لها ظهره وكأنه لم يسمع صراخها .. أسرعت نحوه وهي تقول بارتياح :- أين كنت ؟ انا أبحث عنك منذ مدة .. يجب أن نعود إلى الحفل .. الضيوف في انتظارنا
وعندما لم يمنحها ردا .. مدت يدها وامسكت وأمسكت ذراعه .. عندها ادركت متأخرة بأن هذا الرجل لا يمكنان يكون هشام .. إنه أقصر قامة منه ..
تراجعت مذعورة .. وحاولت الهرب .. إلا أن اليدين القاسيتين امسكتا بها .. والعينين الحمراوين رمقتاها بتلك النظرات الشامتة .. ودوى صوت صلاح يقول لها :- لا مفر لك مني يا أماني .. لا مفر
شقت صرخة اماني الصمت وهي تنتفض قوق السرير الضخم .. صفعها الظلام المحيط بها فظنت لوهلة بأنها ما زالت تعيش الكابوس نفسه .. فعادت تصرخ وهي تلوح بيديها يمنة ويسارا .. حتى سقطت من فوق السرير في نفس اللحظة التي فتح فيها الباب .. وأنير المكان كله بلمح البصر .. ودوى صوت هشام القوي يهتف بقلق :- ما الأمر ؟ ما الذي حدث ؟
أسرع نحوها ليحملها بدون تردد ويضعها فوق السرير .. سماعها لصوته .. وإحساسها بقوة ذراعيه حولها جعلها تنهار باكية بارتياح وهي تضم نفسها إلى صدره بقوة كطفل يطالب بحماية امه
ضمها غليه بقوة وأخذ يربت على شعرها بحنان ويتمتم بخفوت :- أنت بخير .. لن أسمح لأحد بأن يؤذيك .. أي أحد
هتفت بصوت مختنق :- لقد كان هناك في انتظاري .. في قلب الظلام .. وانا لا أحب الظلام .. لقد تركت المصباح مضاءا .. انا متأكدة من هذا
قال بقلق :- لقد أطفأته أنا عندما مررت بك قبل نصف ساعة لأطمئن عليك .. أنا آسف .. لم أعرف بخوفك من الظلام
بدأت تهدأ .. وتحس في الوقت نفسه بسخافتها .. فابتعدت عنه ببطء وهي تمسح دموعها قائلة :- أنا دائما أترك ضوءا صغيرا قبل ان أنام .. أعرف بانك تجدني سخيفة وطفولية .. لابد أنني قد أيقظتك من النوم
أمسك وجهها بين يديه وأجبرها على النظر إليه .. وقال بهدوء :- أماني .. اهدئي الآن .. أنا لم اكن نائما .. وما حدث معك قد يحدث لأي شخص آخر
انتبهت في تلك اللحظة إلى أنه مازال يرتدي نفس الملابس .. ولكن بدون سترته او ربطة عنقه .. ومن خلال فتحة قميصه حيث فتح الأزرار العلوية ظهر عنقه القوي وصدره الأسمر المكسو بالشعر القاتم .. فنسيت فورا كابوسها .. وطار النوم من عينيها لتعود إليها مجددا تلك الأحاسيس المربكة .. تمتمت باضطراب :- آسفة لأنني أزعجتك
ثم تذكرت شيئا .. فنظرت إلى عينيه الداكنتين قائلة :- هل دخلت علي أثناء نومي ؟
هز رأسه قائلا :- لقد كنت غارقة في النوم .. فأطفأت النور ظنا مني بأنك قد نسيته مفتوحا
تساءلت عن السبب الذي دفعه لدخول غرفتها .. وتذكرت الأفكار التي راودتها قبل ان تنام .. ترى .. هل راودته الأفكار نفسها ؟ هل دخا غرفتها محاولا القيام بالخطوة الأولى في التقرب منها فوجدها نائمة ؟ احمر وجهها .. وأبعدت يديها عنه بسرعة فأخطأ فهم سبب توترها .. ابتسم قائلا :- ليس عليك أن تخشي شيئا .. لقد كنت نائمة كالملاك .. والملاءة تغطيك حتى ذقنك .. لم أر شيئا لم ترغبي بأن أراه
انحدرت عيناه إلى الأسفل فجأة لتتفحصا لأول مرة ما ترتديه .. فاختفت ابتسامته .. واحتلت عيناه نيران سوداء جعلتها ترتجف .. وترفع يديها تلقائيا نحو عنقها وصدرها لتحمي نفسها من نظراته
سمعت صوت انفاسه الثقيلة .. وأحست بالجو بينهما يتشبع بالتوتر .. وضع سبابته أسفل ذقنها .. وأجبرها على النظر إليه وهو يقول بصوت أجش :- أنت جميلة جدا يا اماني .. أظنك تعرفين هذا جيدا .. وتعرفين أيضا ما الذي يفعله بي جمالك
كانت المسافة بينهما تتقلص شيئا فشيئا .. وكان خيطا لا مرئيا يجذب كل منهما نحو الآخر ..
همست :- ما الذي يفعله بك ؟
نظر إلى وجهها متمعنا في كل قطعة من ملامحها الناعمة الجميلة .. مد يده نحو شعرها ليتحسس خصلاته الذهبية الحريرية .. ثم لمس بظهر سبابته وجنتها .. ومررها عبر خدها وصولا نحو فمها المرتعش ..
تسارعت خفقات قلبها .. واحست به يكاد ينفجر من ثقل الأحاسيس التي ملاته .. لم تشعر يوما بكل هذا الضعف نحو أي إنسان .. أبدا لم تعرف كيف تفقد الانثى كل إرادة وتعقل أمام لمسة رجل حتى هذه اللحظة
أبدا لم تظن نفسها قادرة على أن ترغب رجلا بهذه القوة قبل الآن
قال بصوت عميق :- يثير جنوني .. يربكني ويضعفني .. وقد أقسمت يوما على ألا أسمح لأي شيء أو أي شخص بأن يفعل هذا بي
أحست بأنه يكره مشاعره نحوها .. ورغبته القوية بها .. أحست بالشفقة والحزن عليه .. هو الرجل القوي القاسي .. الذي يخفي داخله حنان الابن والأخ وحتى ابن الأخت .. هو الذي عانى من طفولة مريرة فأقسم على ألا يكون ضعيفا مجددا .. وجد أخيرا نقطة ضعفه الوحيدة .. هي
رفعت يدها نحو صدره لتلمس عبر قميصه المفتوح عضلاته القاسية .. وتغوص بين الشعيرات الناعمة الكثيفة .. أحست بأنفاسه تضطرب .. ونبضات قلبه تتسارع تحت أناملها
همست :- أنا آسفة .. ما الذي أستطيع فعله لمساعدتك ؟
تمتم :- تستطيعين فعل الكثير
شهقت بإثارة عندما عرفت ما ينوي فعله .. دنا منها ببطء حتى لامست شفتيه شفتيها... وقبلها
انتفض جسدها وكأن تيارا كهربائيا عبر من خلاله .. أظلمت الدنيا من حولها واختفت معالمها .. وأصبح عالمها كله محصورا في الأحاسيس القوية التي انتابتها عندما ضمها بين ذراعيه وقربها من صدره حتى التصقت به ..
ازدادت حرارة قبلاته حتى كاد قلبها يتوقف من فرط الانفعال .. انتابها خوف شديد مفاجئ .. فتراجعت مبتعدة عنه وهي تشهق بعنف .. ولكنه ما كان ليسمح لها بالانسحاب .. ليس وقد اقترب إلى هذا الحد من نيل مأربه
همس لها برقة :- لا تخافي .. سأعتني بك جيدا
الحنان والشغف المطلين من عينيه جعلا عبارة أحبك تكاد تقفز من بين شفتيها .. فعضت عليهما بقوة كي تكبح اعترافها المذل .. فمرر أنامله عليهما مانعا إيها من أذيتهما .. ثم أحنى رأسه ليتناولهما بين شفتيه .. فيسحقهما بقبلاته
في تلك اللحظة .. وعندما أزاحت أنامله حمالات قميص نومها الرقيقة .. فقدت أماني كل خيار أمامها .. وانهارت مقاومتها .. وانهار معها كل أمل لها في الحفاظ على ما تبقى من سيطرتها على حياتها



الفصل الخامس والثلاثون
لا .. بعد فوات الأوان

تسلل ضوء الفجر الخافت بخجل من خلال الستائر الحريرية المنسدلة مبددا شيئا من ظلام الغرفة .. مما أتاح لهشام الفرصة لتأمل وجه أماني النائم بسلام
لا .. لم يكن السلام هو المرتسم على الملامح الناعمة للوجه الجميل .. مازال يذكر تجاوبها الفطري مع لمساته خلال الليلة الماضية .. اللون الداكن الذي كسا عينيها التين فاضتا بالعاطفة والشوق .. قبل ان تسيل دموعها مترافقة مع نشيج مكبوت لم يعرف إن كان ناتجا عن العاطفة أو الندم
أماني التي أصبحت زوجته منذ ساعات قليلة .. كانت كما توقع تماما .. تحت الواجهة الباردة و المتماسكة .. كانت امرأة حساسة جائعة إلى الحب والحنان .. إلا ان أشباحها الخاصة ما زالت تطاردها .. تساءل إن كان سيتمكن يوما من تحريرها أخيرا من عقدها ومخاوفها
تململت بين ذراعيه .. فقربها منه أكثر وكأنه أراد الشعور بقربها .. وبدفء جسدها ونعومته قبل أن تستيقظ .. وتستعيد قوقعتها الصلبة التي تحجب جوهرها الحقيقي عن الناس .. جوهرها الذي اكتشفه بنفسه بعد أشهر من معرفتها عن قرب .. وبعد ليلة الأمس
أفاقت اماني من نومها بقلق مع إحساس بثقل يجثم فوق خصرها .. فتحت عينيها بخوف لتجد نفسها بين احضان هشام المستغرق في النوم إلى جانبها .. قريبا منها إلى حد شعورها بدفء أنفاسه .. نظرت إليه بعينين واسعتين وقد حبست انفاسها خشية إيقاظه .. بدا وسيما للغاية وقد استرخت ملامحه القاسية لأول مرة .. لاحظت عن قرب طول وكثافة رموشه الداكنة .. فمه القاسي كان مسترخيا .. فتذكرت ليلة الأمس .. تذكرت قبلاته ولمساته الحارة .. تذكرت إحساسها بانها محبوبة ومرغوبة .. وكيف غلبها إحساسها بالحب نحوه حتى فاضت دموعها
والآن وهي تنظر إليه .. وتشعر بنبضات قلبه قريبة من قلبها .. أحست بحبها نحوه يخنقها .. وكادت دموعها تفيض مجددا لو لم تتماسك حتى لا توقظه .. فهي ليست جاهزة لمواجهته .. ولن تكون حتى تتمالك نفسها كي لا يكتشف حبها العميق له .. إن لم يكن قد اكتشفه بعد
تصلب جسد اماني واتسعت عيناها ذعرا .. يا إلهي كم هي حمقاء .. ألن يكتشف مقدار حبها له بعد ما حدث ليلة الأمس ؟
عندما لمسها وقبلها .. لم تقاومه على الاطلاق .. لم تقل حتى كلمة لا التي تعهدت بترديدها كلما نظر إليها
لقد استسلمت له وكأنها كانت في انتظار لمساته
لقد عرف بحبها له .. فما الذي سيفعله بعد ذلك ؟
هل ستسمح له بأن يستغل حبها ويستمتع بجسدها كما فعل ليلة الأمس حتى يقرر بأن الوقت قد حان ليتحرر منها .. ويتزوج بأخرى يكن لها مشاعر حقيقية هذه المرة ؟
كيف سيحتمل قلبها فراقه بعد أشهر من الحياة في الجنة معه ؟ أي امرأة ستكون في نظره إن تركته يستخدمها كما يشاء قبل أن يصرفها في النهاية ؟.. هل ستتمكن من خسارة احترامه لها فوق خسارتها له هو ؟
عند هذه الفكرة .. تحركت لا إراديا منتزعة نفسها من بين أحضانه .. مما أجفله وأيقظه .. فتح عينيه الناعستين ونظر إليها وهي تعقد الروب حول جسدها إلى جانب السرير .. وقد بدا عليها الاضطراب .. سألها بقلق :- ما الأمر ؟ ما الذي حدث ؟
نظرت إليه قائلة انفعال :- ما الذي حدث ؟ هذا ما حدث بالضبط
تقلص وجهها باشمئزاز وهي تشير نحو السرير .. فاعتدل جالسا وهو يقول بتوتر :- اهدئي يا أماني .. أهو كابوس جديد
مرأى النصف العلوي من جسده عاريا جعل الذكريات الساخنة تنساب داخل عقلها بغزارة .. جف فمها .. وسرت الحرارة داخل جسدها وهي تبعد عينيها عن كتفيه العريضين وعضلاته المفتولة .. وصاحت يثورة :- وهل هناك كابوس أبشع مما حدث بيننا .. أنت تعرف بأنني لم أرغب بهذا .. لم يكن هذا أبدا ضمن اتفاقنا
اختفى قلقه بلمح البصر .. وحل محله البرود الشديد .. عيناه الداكنتين قستا وخلتا من العاطفة التي أحرقتها ليلة الأمس .. قال ببرود :- لم ترغبي به .. ولكنني لا أذكر أنني سمعت منك كلمة لا في أي مرحلة خلال الليلة الماضية .. أما عن اتفاقنا ..
أزاح البطانية لينهض .. فأشاحت بوجهها بعيدا وقلبها يخفق بدوي أشبه بقرع الطبول .. سمعت حفيف ثيابه فعرفت بأنه يرتديها على عجل .. بينما يقول بلهجته القاسية :- لقد كنت واضحا معك يا أماني .. أنا لم أعدك بزواج عذري .. لقد شرطت أي تطور قد يحدث في علاقتنا بقبولك .. وأنت كنت أكثر من راضية عندما لمستك
احمر وجهها .. واشتعل غضبها من نفسها ومن ضعفها .. ومن سقوطها في هذا المأزق .. نظرت إليه فوجدته قد أنهى ارتداء سرواله الأسود .. ووضع قميصه على كتفيه دون أن يغلق أزراره .. هيئته الفوضوية .. والغير مألوفة .. منحته جاذبية بدائية صارخة .. عززتها ذكرياتها عن علاقتهما الملتهبة ليلة الأمس .. تفجر التوق إليه داخلها عنيفا بحيث دفعها للصراخ بدفاعية :- فلتعلم إذن بأن ما حدث ليلة الأمس .. لن يتكرر مجددا على الإطلاق
رمقها طويلا بنظراته الباردة .. التي شملتها من رأسها حتى أخمص قدميها مستخدما ما لديه من تأثير وسلطة في تقليص ثقتها بنفسها .. وتعزيز إحساسها بالدونية
تكلم أخيرا بهدوء شديد ..:- لقد حصلت في النهاية على ما أريد .. صحيح ؟ .. فلماذا قد أرغب بتكراره ثانية
تحركت أصابعه لتغلق أزرار قميصه ببطء .. بينما علت فمه ابتسامة قاسية وهو يقول بازدراء :- عودي إلى شرنقتك يا أماني .. أنا لن ألمسك مجددا حتى لو توسلت إلي أن أفعل
غادر الغرفة تاركا إياها وحدها ... تتخبط شبه باكية بين مشاعر الصدمة .. والألم .. والغضب .. والندم العميق










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-23, 12:33   رقم المشاركة : 41
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل السادس والثلاثين
تمـــام

وقفت جودي على الرصيف تنظر نحو المبنى القديم الذي توسط الحي المعروف .. والذي يمثل قلب المدينة .. بالكاد كانت واعية لأجساد المارة التي أخذت تصطدم بجسدها الجامد في إحدى ساعات الذروة حيث احتشد الناس فوق الأرصفة يتصارعون بين المتاجر الصغيرة .. كل يمضي في حاله يسعى لكسب رزق أو قضاء حاجة
بينما كان عقلها مركز تماما نحو المبنى القديم الذي علا متجر الأحذية البسيط .. ونحو الطابق الرابع بالذات
ما الذي جاء بها إلى هنا ؟ هل حقا قادت سيارتها من منزلها إلى هنا بهدف لقاء تمام ؟
منذ انفصالها عن طارق وهي عاجزة عن نزعه من عقلها وتفكيرها .. شوقها إليه يكاد يخنقها إلى حد عدم قدرتها على التماسك أكثر
كانت قد قررت إخراجه من حياتها كما فعلت مع طارق بالضبط .. ولكنها بعد مرور أسابيع .. تتساءل عما سيفعله لو عرف بانها قد تركت طارق أخيرا
هل سيفرح لخلو الطريق امامه لبناء مستقبل معها ؟ .. ام انه سيستغل الامر هذه المرة حتى النهاية منتهزا فرصة خلو حياتها من القيود ؟
أيهما تمام الحقيقي ؟ الرجل الرومانسي الرقيق الفائض بالعاطفة .. المتفهم و المستمع الجيد ؟ أم الشاب المستهتر الذي لم يحاول حتى إخفاء عبثه عنها ؟
مهما كان قرار عقلها فإن قلبها لم ينصع إليه .. لقد وجدت نفسها مرارا تذهب إلى المطعم حيث يعمل ..تارة وحيدة وتارة برفقة اصدقائها .. دون ان تراه او تعرف عنه شيئا .. وعندما كانت تسال أحد العاملين في المطعم عنه .. كان يقول ببساطة :- إنه لا يأتي إلى هنا هذه الأيام .. قد تجدينه في أحد الفروع الاخرى للمطعم ..
لم تعرف بانه يوزع عمله بين الفروع الكثيرة للمطعم و المتناثرة في انحاء البلاد .. ولكنها عوضا عن ملاحقته بين المطاعم .. وجدت نفسها تختصر الطريق .. وتقف هنا على بعد أربع أدوار عنه
جزء منها احتاج إلى رؤيته .. إلى النظر في عينيه لمرة أخيرة .. لتعرف بشكل مؤكد هذه المرة حقيقة مشاعره نحوها .. وإن كان لايزال يهتم لأمرها .. ام أنه قد نزعها من قلبه إلى الأبد
خطت إلى مدخل المبنى الباهت الإنارة .. واعتلت الدرج القديم متحاشية الأطفال المتراكضين صعودا ونزولا غير عابئين بخطورة لعبهم .. الجارات التقليديات توقفن عن تبادل الأحاديث السريعة عبر الأبواب المتقابلة .. وهن ترمقنها بفضول وريبة .. لم يكن مظهرها شبيها بمظهر ساكنات هذه المنطقة .. لقد بدت في غير مكانها بملابسها العصرية ورأسها العاري ..ولكنها لم تبالي .. تابعت الصعود وقلبها يخفق بعنف ترقبا للقاء تمام .. وقفت عند باب شقة بني اللون .. قرات على بطاقة صغيرة كتب عليه اسم ( ماجد محفوظ ) ..أهو اسم والده ..؟ ما أقل ما تعرفه عن الرجل الذي تحب .. أجفلها صوت صراخ رجل قادم من الطابق العلوي .. وبكاء طفل قريب .. فترددت للحظات قبل أن تستجمع شجاعتها وتقرع الجرس أخيرا ..
خمس عشرة ثانية مرت بالضبط قبل أن يفتح الباب ويطل تمام من خلفه .. أهذا تمام حقا ؟ الرجل الذي سكن خيالها لأشهر عديدة كان يبدو مختلفا بهيئته المشعثة .. شعره الناعم كان يتدلى بلا ترتيب فوق جبهته ..ذقنه داكنة اللون بسبب لحية لم تحلق منذ يومين على الأقل .. هالات سوداء أحاطت بعينيه البندقيتين الجميلتين .. ثم لاحظت نحول بنيته القوية الظاهرة من قميصه الأبض المجعد والمفتوح الأزرار .. وسرواله الجينز القديم الحائل اللون
والغريب أنه لم يكن يوما اكثر جاذبية لعينيها
بدت الصدمة جلية على وجهه وهو يراها واقفة أمام باب شقته .. التهمها بعينيه للحظات سريعة .. قبل أن يرمش عدة مرات ليتخلص من صدمته قائلا بغلظة :- ما الذي تفعلينه هنا ؟
قالت بشجاعة :- جئت لأراك بما انك ترفض الإجابة عن اتصالاتي .. كما انك لم تذهب إلى المطعم منذ فترة .. قدومي إلى هنا كان الحل الوحيد
شحب وجهه وهو يترك الباب .. ويلوح بإصبعه في وجهها وقد أطلت من ملامحه علامات الغضب الشديد :-
:- كيف تجرؤين .. يا إلهي بل كيف تستطيعين أن ......
بتر ما كان سيقوله عندما ألقى احد جيرانه عليه السلام وهو يمر إلى جانبهما نزولا على الدرج .. ما إن اختفى الرجل حتى أمسك تمام بمعصمها وبغتة وسحبها إلى داخل شقته مغلقا الباب خلفه .. استدار نحوها صارخا بغضب :-
:- هل جننت كي تأتي إلى هنا غير عابئة بما سيقوله سكان المبنى ؟
نظرت حولها في أرجاء الشقة البسيطة
كانت قليلة الأثاث .. إلا أنها تمتاز بالأناقة والعملية .. تناثرت بعض أغراض تمام هنا وهناك .. سترة جلدية .. كتب مبعثرة فوق طاولة القهوة .. صور عائلية مؤطرة موزعة بين الجدران بذوق ..عادت تركز انتباهها عليه قائلة بوقاحة :- ومنذ متى تهتم بما يقوله الآخرون
قال من بين أسنانه :- عليك اللعنة .. سمعتك هي ما كنت افكر به .. ما الذي سيقوله الجيران عند رؤيتهم لك تزورين شقة رجل غريب في وقت .
.....قطع كلامه وقد غلبه الانفعال .. ثم هتف بها :- تبا لك .. ما الذي جاء بك إلى هنا ؟
قالت بتوتر :- جئت لأراك .. أنت لم تترك لي خيارا آخر .. فانا أتصل بك منذ أيام أملا في أن تجيب ولو لمرة عن اتصالاتي .. كان علي ان أراك .. أن أتحدث إليك
شد على قبضتيه وكانه يمنع نفسه من ضربها بصعوبة .. ولكنها و يا للعجب .. لم تكن خائفة .. هناك جزء داخلها كان على استعداد لتحمل أي رد فعل منه مهما كان عنيفا أو متطرفا .. مقابل فقط ان تحس ببعض التواصل معه
قال بغضب شديد :- ولماذا بالله عليك قد أجيب عن اتصالاتك .. لماذا قد أرغب بسماع أي شيء عنك بعد ما فعلته بي ... أنا لا أستمتع بتعذيب نفسي يا جودي وقد أوضحت بنفسك قبل الآن رفضك التام لي
هتفت بعجز :- تمام .. أنا أعرف بأنني قد جرحتك ولكن ...
هتف باستنكار :- جرحتني .. جرحتني يا جودي .. لقد انتزعت قلبي من صدري ورميته للكلاب .. لقد لحقت بك مرة بعد مرة .. وبذلت الجهد الكبير في محاولتي اليائسة لإقناعك بحبي لك .. ولكنك أثبتت لي مرارا بأنك الفتاة السطحية والمدللة التي لم أصدق بأنك هي .. لقد ظننت حقا بأنك أحببتني ولو قليلا ولكنني كنت مخطئا
كل ذلك الوقت الذي قضيناه معا كان مجرد وقت مستقطع في حياة الأميرة الصغيرة المدللة .. ليس من حقي صب اللوم عليك لأنني أنا من كان أحمقا ومغفلا وأعمى في حبه لك
طعنتها كلماته في الصميم .. أحست بأنها تتمزق من الداخل لما سببته له من ألم بأنانيتها وترددها .. اعترافه العاصف بحبها .. وبخذلانها له جعلا الدموع تتدفق من عينيها وهي تهز رأسها قائلة :- أنت تعرف جيدا بأنني احببتك يا تمام .. أحببت كل لحظة قضيناها معا .. ومازلت أحبك رغم كل شيء
أخذ يتحرك في أنحاء الشقة الصغيرة كالنمر الحبيس وهو يقول :- وما الذي تريدينه الآن .. هه .. أن نستمر في اللقاء من خلف ظهر خطيبك المحترم .. أن أقوم بدور العاشق الولهان لأعوضك عما يحرمك منه ببروده وجفافه
نظر إليها فجأة بشراسة .. وعيناه تلمعان وهو يقول :- أهذا ما جاء بك إلى هنا .. الإحباط بسبب تجاهل زوج المستقبل لك .؟ هل تحتاجين خدماتي العاطفية لأعيد إليك ثقتك بنفسك وأشعرك بأنك محبوبة ومرغوبة ؟ إن كان هذا ما جاء بك فلا تعتمدي على نبل اخلاقي .. لأنني لست شريفا بما يكفي لأرفض عرضا مغريا كهذا .. الآنسة تريد الحب .. وستحصل عليه
لم تستوعب معنى كلماته حتى امسك بها فجأة وجذبها إليه .... ارتعشت في البداية شوقا لإحساسها بقوة ذراعيه ودفء صدره .. وعندما غمرتها رائحته الرجولية .. ولكنها صحت من غفوتها فور أن جذبت اصابعه شعرها الناعم بقسوة .. وأحنى رأسه نحوها ليقبلها بوحشية .. قاومته بعنف ويأس وهي تصرخ بذعر :- لا يا تمام .. لا تفعل هذا ارجوك
وفي خضم صراعها المستميت معه .. ومقاومتها الضارية .. تركها فجأة فاندفع جسدها إلى الوراء بقوة مما أسقطها على الأرض
نظر كل منهما إلى الآخر .. هي مذعورة منه كالفأر حين يحاصر في الزاوية .. وهو مذهول من بشاعة تصرفه .. نظرت إلى عينيه الناريتين .. وصدره الذي تسارعت انفاسه .. لا .. هذا ليس حبيبها تمام .. فهو ليس بهذه القسوة والوحشية .. حبيبها الذي تذكر كان ساحرا ورقيقا .. ورومانسيا .. هل دمرت هي بجبنها وترددها كل ما تبقى داخله من حب لها ؟
دون إنذار تفجرت الدموع في عينيها .. تبعها نشيج باكي .. اضطرب تمام .. واهتز كيانه لمرأى دموعها .. وعندما ارتفعت وتيرة بكائها .. انتفض واقترب منها قائلا باضطراب :- أنا آسف .. أنا آسف يا حبيبتي
جثا إلى جانبها .. فابتعدت عنه بخوف غريزي .. ولكنه امسكها هذه المرة بحزم لطيف وسحبها نحو صدره .. بحنان هذه المرة .. فلم تملك إلا ان تدفن وجهها بين طيات قميصه وتتشبث به باكية .. وهي تسمع صوته الأجش يقول بانفعال :-
:- سامحيني أرجوك .. يا إلهي .. لم أرغب قط بان أؤذيك .. ولا أستطيع احتمال رؤيتك تبكين
نعم .. هذا هو حبيبها القديم يعود مجددا .. ضمت نفسها إليه كالطفلة المشتاقة إلى حضن والدها .. بينما اخذ هو يمسد شعرها وظهرها برفق ليشعرها بحنانه ودفئه .. أبعدها عنه أخيرا .. ونظر إلى وجهها الناعم المغطى بالدموع .. فرات بدورها الدموع الحبيسة في عينيه وهو يهمس :- لو تعلمين كم اشتقت إليك .. لم اتوقف عن التفكير بك لحظة واحدة .. بل انا لم أنم ليلة كاملة منذ تركتني
هزت رأسها هاتفة بصوت طفولي :- لن أفعل مجددا .. أعدك
قبل وجنتيها وعينيها .. بشكل مختلف هذه المرة .. بحب وحنان وكأنها فعلا المرأة الوحيدة التي يحب ويرغب
وكانه يهتم لها فعلا ولا يستغلها كما ظنت دائما .. نظرت إلى عينيه هامسة :- تمام
كان عليها ان تستجمع كل قواها كي تتذكر ما جاءت لأجله .. كررت عندما لاحظت بانه لم يسمعها :- تمام .. انظر إلي
نظر إلى وجهها القلق قائلا :- ما الأمر يا حبيبتي ؟
ترددت لثواني قليلة قبل ان تقول :- إن فسخت خطوبتي من طارق .. فهل تتقدم لخطبتي ؟
تصلب جسده بين يديها .. وخلال لحظة كان قد انسحب بعيدا عنها .. وقف إلى جوار النافذة مديرا لها ظهره .. بينما اعتدلت هي واقفة وقلبها يخفق بقوة قلقا واضطرابا ..
أتاها صوته بعيدا وجافا وهو يقول :- لقد سبق وأخبرتك يا جودي بانني لن اكون أبدا بديلا لرجل آخر .. وقطعا لن أكون بديلا لخطيبك
أحست بالألم هذه المرة شديدا بحيث كادت تفقد القدرة على التنفس .. ما الذي توقعته ؟.. منذ عرفته وهو يتبجح بحبه لها دون أن يشير ولو لمرة إلى المستقبل .. ألم تكن محقة في إخفاء خبر فسخ خطوبتها عنه ؟ لقد كان ليأخذها بين ذراعيه ويغمرها بعاطفته وهي ما كانت لتتمكن من مقاومته .. وماذا بعد ؟ كيف كان سينتهي حبهما ؟
كان لايزال واقفا مكانه .. رافضا النظر إليها .. فبذلت جهدا عظيما لتكبت ما تشعر به من انهيار وهي تقول بجمود :- ليس هناك ما يقال بيننا أكثر يا تمام .. آسفة على إزعاجك بزيارتي .. وأعدك بأنك لن تراني مجددا
لم تعرف كيف تحركت نحو الباب .. فتحته وخرجت .. وأغلقته خلفها بهدوء شديد .. لم تبالي بما يظنه الناس وهو يرونها تغادر شقة رجل عازب والشحوب يعلو وجهها والدموع تغشي عينيها .. لم ترهم حقا وهي تنزل الدرج دون أن تتعثر أو تسقط بمعجزة
وعندما وصلت إلى سيارتها .. واحتمت داخلها من عيون الآخرين .. أجهشت بالبكاء


الفصل السابع والثلاثون
جذب وشد

طرقت أمانيي باب مكتب هشام ودخلت بهدوء عندما دعاها صوته للدخول .. كان يملي شيئا على سكرتيرته الصغيرة والانيقة ويوجه لها بعض التعليمات .. قبل ان ينظر إليها قائلا :- اقتربي يا اماني
ابتسمت لها السكرتيرة وحيتها بتهذيب أثناء خروجها من المكتب وإغلاقها الباب وراءه تاركة إياهما في خلوة عن العالم الخارجي
لم تستطع منع نفسها من القول بتهكم :- أظنها تتوقع لقاءا عاطفيا حارا بين عروسين جديدين في منتصف النهار
لم يبتسم .. بل قال ببرود :- و أنت لا تدخرين جهدا في إقناع الآخرين بالعكس
توترت وقابلت نظراته القاسية بصلابة ..لقد مضى على زواجهما 3 أسابيع كاملة .. بالكاد كانت تراه خلال النهار .. وفي المساء كانا يجبران على تناول العشاء برفقة والدته .. فكان يظهر لها كل الاهتمام أمام أنظار والدته الثاقبة .. يطعمها بيده ويناديها بأسماء التحبب مجبرا إياها بنظراته التحذيرية على الابتسام له والتظاهر بالسعادة .. وفور صعودهما إلى شقتهما كان يستأذن بأدب ويغادر عائدا إلى مكتبه .. بينما تبقى هي وحيدة تنتظر في غرفتها حتى عودته بعد منتصف الليل .. فتستمع إلى خطواته .. والضجيج الخافت الذي يصدره بتحركاته .. فتحبس أنفاسها متسائلة إن كان سيطرق باب غرفتها مطمئنا عليها كما حدث في ليلتهما الأولى كزوجين .. فيخيب أملها بالصمت التام الذي يخلفه في الشقة بع خلوده إلى النوم
لم يلمسها مجددا منذ ثورتها صباح زفافهما .. لم يقترب منها أو حتى ينظر إليها بتلك العاطفة العميقة التي ألهبتها تلك الليلة.. في الواقع .. بالكاد ابتسم لها إلا في حضور الآخرين .. هل خمدت رغبته بها ؟ هل أحس بالندم أخيرا على اقترانه بها ؟ هل يفكر بتعجيل انفصالهما وقد اختفى صلاح تماما من حياتها ولم يعد يشكل أي خطر عليها ؟
كل ليلة كانت تسهر فوق سريرها العريض .. تتذكر تفاصيل ليلتهما الوحيدة معا .. وتتساءل بمرارة إن كانت ستنسى يوما ما أحسته بين ذراعيه .. أو أنها ستتوقف عن الشوق إليه بعد انفصالهما ؟
كرامتها وكبريائها القديمين أجبراها على إخفاء مشاعرها عنه .. ولم تدرك مدى نجاحها حتى هذه اللحظة عندما نهض من خلف مكتبه متجها نحوها بينما قالت بتوتر :- لا أفهم ما تقصده
قال ببرود :- بل تفهمين ما أقوله جيدا يا أماني ..كلما اقتربت منك أو حتى تواجدت معك في مكان واحد تتشنجين وتتوترين وكأنك خائفة من أن أقفز عليك وأغتصبك في أي لحظة
احمر وجهها وهي تقول بانزعاج :- لم أفكر بهذا
قال بصرامة :- لم تفكري بهذا ولكنك تظهرينه لكل ناظر إليك .. أتعلمين ما قالته لي والدتي ليلة الأمس ؟ لقد أعربت عن قلقها نحوك بسبب توترك وعدم ارتياحك وكأنك تخفين شيئا .. لقد ظنت بأن شجارا عنيفا قد دار بيننا وأننا نحاول إخفاءه عنها بتعاملنا المهذب أمامها
قالت بعصبية :- لا حيلة لي إن كنت ممثلة فاشلة .. لا أستطيع إظهار مشاعر لا أحس بها حقا .. سأبدو متصنعة ومبتذلة
قال بغلظة :- ستبدأين بالتدريب من الآن فصاعدا .. لقد كنت واضحا معك يا اماني .. أمي يجب ألا تعرف شيئا عن حقيقة زواجنا .. لقد انتظرت طويلا أن تراني مستقرا ومتزوجا ولن أسمح لك بأن تسببي لها القلق بأي شكل كان
قالت بتوتر :- أنا آسفة حقا .. آخر ما أريده هو إثارة قلق والدتك .. أنت تعرف بأنني أجبها وأهتم لأمرها كما لو كانت والدتي .. فقط أخبرني بما علي فعله وسأقوم به
قال بحزم :- اقتربي
أجفلت قائلة :- ماذا ؟
:- لقد طلبت منك أن تقتربي .. يجب أن تتعلمي أن تتوقفي عن التشنج كلما لمستك وكأنني مرض معدي .. لم تنفرك لمساتي ليلة زفافنا .. ولن تفعل الآن
نظرت إليه بارتباك فلاحظت وجوم ملامحه الوسيمة .. عيناه السوداوان كانتا تشعان بالعنف وكأنه قد فقد صبره ..وجسده الضخم كان واضح التوتر وكأنه قد بدا يتعب من علاقتهما وكل ما يتضمنها .. أحست بالخوف وأرادت الهرب .. ولكنها عرفت بأنه غاضب منها بما يكفي .. وأن أي تمرد منها لن يكون لصالحها .. اقتربت منه بتوتر حتى أصبحت على بعد خطوة .. فمد يديه يجذبها إليه لتلتصق بجسده القوي .. خفق قلبها وتسارعت انفاسها وهي تحس بدفئه ورائحة جسده العطرة .. مد يده ليدلك ظهرها برفق كي تسترخي قائلا :- أرأيت ؟ لم يكن الأمر صعبا
رفعت رأسها إليه فرات عيناه تظلمان بالعاطفة .. ووجهه يقسو وكانه يقاوم مشاعره .. ارتجف قلبها وهي تتأمل ملامحه الخشنة بشوق .. مدت يدها لا شعوريا لتتحسس ذقنه التي بدأت تنمو وهمست :- لا .. لم يكن صعبا
أحست بارتجاف جسده الضخم على إثر لمستها .. وعرفت عندما تعلقت عيناه بشفتيها بأنه سيقبلها .. يجب أن يقبلها قبل أن تتوسل إليه أت يفعل
ارتفعت طرقات الباب في هذه اللحظة لتنتزعهما من الحالة التي سيطرت عليهما فزمجر غاضبا :- ما الأمر ؟
ابتعدت أماني عنه وهي تحس بأطرافها ترتعش .. فتحت السكرتيرة الباب ولاحظت بارتباك التوتر السائد بين رئيسها وزوجته .. فقالت معتذرة :- آسفة للمقاطعة .. ولكن السيد نجيب ينتظر في الخارج .. لقد عاد لتوه من رحلته إلى موسكو .. ويقول بأن الأمر طارئ .. ويتعلق بالمعلومات التي طلبتها منه
لاحظت أماني بأن أي أثر للعاطفة قد اختفى من وجهه الذي شحب فجأة .. رغم حفاظه على صرامة ملامحه وهو يقول متمالكا نفسه :- دعيه يدخل
ثم نظر إلى اماني بدون تعبير قائلا :- عودي إلى عملك وسأراك مساءا
أومأت برأسها وهي تتجه نحو الباب لترى رجلا في منتصف الأربعينات يدخل إلى المكتب .. حاملا حقيبة أوراق جلدية وقد بدا التوتر على وجهه
غادرت مغلقة الباب خلفها بهدوء .. بالكاد تمكنت من الابتسام للسكرتيرة المحرجة وهي تسير عائدة نحو مكتبها .. وعقلها لا يتوقف عن التفكير بالرجل الذي تزوجته
الرجل الذي تحب




ابتسمت اماني وهي تراقب جودي ونورا شقيقة هشام وهما تتبادلان النكات أثناء إعدادهما المائدة في صالة الطعام الواسعة لمنزل حماتها
منذ فترة طويلة لم تر شقيقتها تبتسم وتضحك بهذا الشكل .. حتى أثناء زياراتها المنتظمة لها .. كانت تبدو حزينة ومكتئبة وكان هموم الدنيا كلها تجثم فوق كتفيها .. ورغم محاولات أماني الحثيثة لانتزاع الحقيقة منها .. فقد كانت مصرة على انها بخير .. وأنها متوعكة قليلا بسبب حساسيتها المزمنة اتجاه الربيع
قالت لها حماتها وهي تنظر بدورها إلى الثنائي الضاحك :- تبدو جودي بخير هذه الأيام
حماتها كغيرها من الناس تظن بان سبب ذبول جودي هو انفصالها المفاجئ عن خطيبها .. وحدها اماني تعرف بان الأمر يتجاوز بكثير انفصالها عن طارق .. وكأن هناك عنصر آخر له كامل التأثير في حالة جودي النفسية
عنصر ترفض جودي بإصرار التحدث عنه لأحد .. وكأن مجرد التفكير به يسبب لها الالم والمرارة
تمتمت أماني ترد على حماتها :- هذا صحيح
:- يبدو أن لنورا تأثيرا كبيرا عليها .. هل تظنينها ستقبل قضاء هذه الليلة هنا ؟؟
اعتادت السيدة لميس على دعوة جودي لقضاء الليل في منزلها لتنام في غرفة لبنة القديمة .. وكانت جودي تقبل بسرور .. وكأن عودتها إلى منزلها الكبير الفارغ تخيفها وتسبب لها الاكتئاب
قالت اماني :- لا أظنها كانت لتمانع لولا ارتباطها هذا المساء .. عرفت بأنها مدعوة إلى حفل خطوبة إحدى صديقاتها في الكلية
هزت السيدة لميس رأسها قائلة :- سيكون هذا مبهجا لها .. وفرصة أيضا ليراها العرسان .. جودي فتاة جميلة ومؤدبة وتستحق زواجا يليق بها
ابتسمت أماني ولم تعلق على وجهة نظر حماتها التقليدية .. ثم انهمكت في مساعدتها على وضع العشاء على المائدة في انتظار وصول هشام الذي دخل المنزل في تمام السادسة
حساسيتها الزائدة نحوه جعلتها تدرك بانه لم يكن بخير .. لقد كان تلقيه الترحيب من امه وأخته .. وتحيته المهذبة لجودي مجرد قناع يخفي خلفه عاصفة هوجاء .. نظر إليها قائلا بهدوء :- كيف حالك يا اماني .؟ عرفت بانك قد غادرت مبكرة
قالت حماتها بفخر :- لقد جاءت مبكرة لتساعدني في إعداد الطعام .. إنها موهوبة وسريعة التعلم وسرعان ما ستبدأ بالطهي لك بنفسها
قال متهكما :- أكاد اموت شوقا لذلك اليوم
لم تبالي بتهكمه .. بل اقتربت منه قائلة بعتاب :- وهل لديك شك في قدومه ؟ ما عليك إلا ان تتذوق ما صنعته يداي لتصدق موهبتي الفطرية
وضعت يدها على صدره بعفوية زوجة حنون .. وكأنها معتادة على لمسه باستمرار .. عرف بأنها تنفذ تعليماته الصباحية .. فاستغل الفرصة مقربا إياها منه و هو يقول باستفزاز :- سأفعل إن أطعمتني بيدك
رمشت بعينيها قائلة بدلال :- سيكون هذا من دواعي سروري
راقبتهما السيدة لميس بجذل .. بينما تبادلت نورا وجودي الغمزات الخبيثة .. فابتعدت عنه أماني وقد عرفت بأن ما أراده قد تحقق .. وأن الجميع يفكر الآن بمدى روعة علاقتهما ..
وجبة الطعام كانت ممتعة وقد تخللتها حكايات جودي عن محاولات أماني القديمة في الطبخ .. بينما عارضتها تلك ضاحكة محاولة إسكاتها بلا فائدة .. لاحظت أماني بأن هشام كان ينظر إلى امه بين الحين والآخر وقد ارتسمت في عينيه نظرة غامضة .. لم تستطع أماني تفسيرها
اعتذرت جودي للرحيل متعللة بحاجتها لتجهيز نفسها لحفل الخطوبة قائلة وهي تغمز لكل من نورا والسيدة لميس :- يجب أن أبدو جميلة كي أصطاد عريسا جيدا .. صح ؟
فور رحيلها صعد كل من هشام وأماني إلى شقتهما بصمت .. راقبته وهو يخلع سترته وربطة عنقه وهي تقول بهدوء :- تبدو مشغول البال
التفت نحوها قائلا بتهكم :- نحن وحدنا الآن يا أماني .. فتوقفي عن أداء دور الزوجة الحانية ... لقد أقنعت الجميع بمدى حبك لي .. حتى أنا كدت أشك وأصدق أداءك البارع
احمر وجهها غيظا وخجلا .. ولكنها رفضت السماح له بإحجامها .. فقد عرفت بغريزتها بأنه بتهكمه وهجومه إنما ينفس عن غضبه الدفين وهي مصرة على اكتشاف سببه .. قالت بنفاذ صبر :- بعكسك أنت الذي بدوت راغبا بتحطيم كل ركن في المنزل فوق رأسي .. ألن تخبرني بما أزعجك ؟ بما قاله لك ذلك الرجل الذي زار مكتبك على الأقل ؟
تصلب فكه وهو ينظر إليها ببرود .. فقالت :- من الواضح أن الأخبار التي جاءك بها تتعلق بوالدك .. الجميع يعرف بأنه عندما رحل اتجه إلى روسيا .. وملامح وجهك عندما استقبلت الرجل حكت القصة كاملة
قال بخشونة وهو يحل أزرار قميصه :- وبماذا يهمك الأمر؟ ما أنا إلا محطة عابرة في حياتك فلا تتظاهري بالقلق نحوي ونحو مشاعر عائلتي .. إن كنت أكره شيئا فهو النفاق يا أماني .. فتوقفي عما تحاولين فعله
وقفت في طريقه عندما أراد مغادرة الصالة قائلة بعناد :- لا أسمح لك بالتشكيك بمشاعري اتجاه عائلتك يا هشام .. أنت تعرف جيدا مدى حبي لهم واهتمامي بهم .. أنت رغم عدم تصديقك تمثل شيئا مهما في حياتي .. أنا لم أرك يوما على هذه الحالة .. ولن أتركك حتى تخبرني بما أزعجك
أمسك بكتفيها فظنت بأنه سيدفعها بعيدا عن طريقه .. ولكنه قال بعنف :- هل تريدين حقا أن تعرفي ؟ فليكن إذن ..لقد كنت محقة .. لقد أرسلت السيد نجيب ليجمع لي أخبارا عن ذلك الرجل .. لم أحتمل رؤية أمي تخلص له وتنتظر عودته يوما بعد يوم وتفكر باستمرار بقلق عن أخباره .. أرسلت أعرف عنه ما يطمئن قلبها عليه .. فأنا عن نفسي لا أهتم إن كان حيا أو ميتا .. ولكنني أيضا كنت فضوليا اتجاه حياة الرجل الذي دمر حباتنا ورحل بعيدا تاركا إيانا نتخبط بين نتائج أعماله .. أتعلمين ما عرفته ؟
اتسعت عيناها عندما احمرت عيناه غضبا .. وازدادت ملامحه قسوة .. تركها وتراجع عنها قائلا بمرارة :-
:- لقد بنى لنفسه حياة جديدة هناك بأموال الناس التي سرقها .. أسس عملا محترما وتزوج بامرأة أخرى وأنجب منها أطفالا .. أتصدقين هذا ؟ أنا لدي أخوة لا أعرفهم في سن الدراسة .. والمفاجأة هي أنه كان لهم طوال السنوات السابقة مثالا للأب الفاضل والحنون .. ناسيا أي شيء عن عائلته الأخرى التي نبذها ورماها وراءه
نظر إليها بإرهاق قائلا :- لقد كنت آمل أن أعرف شيئا عن تعاسته .. ندمه العميق .. حياته الفارغة هناك في الغربة نتيجة ما فعله .. ماذا سأخبر أمي الآن ؟ كيف سأخبرها بأن زوجها الذي انتظرته لسنوات قد نسي أمرها تماما وتجاهل حاجتها وحاجة أبنائها إليه .. وأنه قد تزوج بأخرى وأنجب منها .. بل ومنحها الحياة التي عجز عن تقديمها لها هي
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تراقب تعاسته فهمست :- أنا آسفة يا هشام .. أنا حقا آسفة
قال بجفاف :- بما أنك قد أرضيت فضولك الآن .. هلا ابتعدت عن طريقي .. أرغب بأخذ حمام سريع قبل عودتي إلى العمل
وقبل أن يختفي خلف باب غرفته .. التفت نحوها قائلا بسخرية :- وبما أنك تمرين بحالة خاصة من التفهم الزوجي .. فلتقومي بعمل مفيد وتحضري لي لوح صابون جديد
أغلق الباب خلفه .. فتمنت بألم لو تجد طريقة تخفف فيها عنه آلامه .. ليتها تستطيع الإفصاح له عن مشاعرها .. عله يسمح لها باحتضانه على الأقل وبثه دعمها وتعاطفها
ذهبت إلى المطبخ شاردة الذهن لتحضر من الخزانة صابونا من النوع الذي يستعمله عادة .. والمصنوع من زيت الغار الممزوج بزيت الزيتون .. تنشقت الرائحة العطرية للصابون فتذكرت رائحة جسده التي غمرتها عندما ضمها إلى صدره صباحا داخل مكتبه .. فتساءلت إن كان شوقها إليه سيخف في يوم من الأيام
دخلت إلى غرفته .. وعبرتها متجهة متجاهلة ملابسه المرمية بلا اهتمام فوق السرير العريض .. لقد اعتادت على دخول غرفته في غيابه وتأملها كما لو أنها تتخيله فيها .. تتلمس ملابسه .. وتشتاق إليه
كبتت أحاسيسها وهي تتجه نحو باب الحمام الموارب .. اضطربت لسماعها صوت الماء الجاري .. وتخيلته واقفا تحت سيل المياه الدافئة فجف فمها .. وتوتر جسدها بأحاسيس الشوق .. صاحت بصوت مختنق :- هشام .. لقد أحضرت لك الصابون
لم تسمع ردا .. فدفعت الباب ببطء .. وارتعشت لمرأى خيال جسده الطويل خلف زجاج حجرة الاستحمام المموه .. فأشاحت ببصرها وقد تسارعت نبضات قلبها .. عادت تقول :- هشام
سمعت صوت باب حجرة الاستحمام يتحرك .. فلفحتها الأبخرة الساخنة .. وأصابها رذاذ الماء الدافئ .. فمدت يدها المرتعشة بالصابون نحوه وهي تتمنى أن تخرج بسرعة كي ينتهي عذابها
وبدلا من أن يأخذ منها اللوح .. أمسك بمعصمها .. وجذبها إلى داخل الحجرة الصغيرة فانتفضت صارخة عندما غمرتها المياه من رأسها حتى أخمص قدميها مبللة شعرها وثيابها .. صرخت مذعورة :- ما الذي تظن نف......
لم تستطع إكمال عبارة الاستهجان إذ كتمت شفتاه فمها بقبلة ضارية .. جعلت جسدها ينتفض بين ذراعيه المتملكتين .. ارتفعت يداها تلقائيا نحو كتفيه العريضتين المبتلتين لتحس بعضلاته .. وقوة جسده ...
قبلاته الوحشية والمتملكة لم تسمح لها حتى بالتفكير إذ سرت الحرارة كاللهب في كل خلية في جسدها ... وغلبها الشوق الخالص وهي تبادله قبلاته بنفس اللهفة .. تركها للحظات ناظرا إلى وجهها اللاهث ... سامحا لها هي الأخرى برؤية الرغبة الوحشية والتصميم في عينيه السوداوين .. ارتعشت هامسة :- هشام
أحس برائحة الاعتراض تكاد تفوح منها .. فزمجر هاتفا بخشونة :- تجرأي وقولي لا
بيدين قاسيتين أمسك بطرفي قميصها ومزقه بحركة واحدة .. وضمها إلى جسده بعنف دون أن يسمح لها بالتفكير بالهرب منه .. دون أن يدرك بأنها ما كانت أبدا لتقول لا










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-23, 12:35   رقم المشاركة : 42
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الثامن والثلاثون
الكاذب
أقيم حفل خطوبة دنيا في أحد المطاعم الراقية المعروفة في المدينة ... نعم .. لقد كان أحد فروع ذلك المطعم الذي قابلت فيه جودي تمام أول مرة
رغم اختلاف المكان .. وجدت هي في تشابه الديكور الأنيق والمميز للمطعم تحفيزا قاسيا لذاكرتها .. حاولت جاهدة تجاهل ذكرياتها وآلامها الخاصة .. وتذكير نفسها بأن المطعم محجوز بأكمله هذه الليلة لإقامة حفل الخطوبة .. وأنها لن ترى تمام فجأة جالسا على المنصة .. يحتضن غيتاره بحزن مؤديا أروع الألحان .. لا ..لن تراه الليلة وإلا ما جرؤت على حضور حفل خطوبة إحدى أقرب صديقاتها
ركزت انتباهها على نجمة الحفلة التي رأتها فور دخولها فتركت خطيبها الوسيم وأسرعت نحوها وهي تجر ورائها فستانها البنفسجي الطويل لترحب بها قائلة بحرارة :- أهلا بك يا جودي .. لقد خشيت أن تتخلفي عن الحضور . تبدين رائعة الجمال هذه الليلة
لم يفت جودي وميض الشفقة الظاهر في عيني دنيا .. لقد شاع خبر خطوبتها المفسوخة في كل مكان .. والجميع ينظر إليها بعين الشفقة وكأن طارق هو من أنهى الخطوبة لا هي
الحقيقة أنها كانت تبدو جميلة بالفعل .. بفستانها الأبيض المطرز بنعومة .. والذي لائم جسدها الرشيق وكأنه قد فصل خصيصا له .. وشعرها الكستنائي المرفوع فوق رأسها بتسريحة بسيطة إنما أنيقة .. أظهرت تقاسيم وجهها الجميلة
دنيا أيضا بدت مدهشة وقد سبغ الحب والسعادة عليها جمالا إضافيا .. قالت جودي باسمة :- ما كنت لأفوت على نفسي مناسبة كهذه .. أنت أيضا تبدين رائعة
أمسكت دينا بيدها قائلة :- تعالي لأعرفك بوالدي وبرامز .. وأحذرك بأنني أنتظر سماع رأيك الصريح بكل شيء في الحفلة
قالت جودي بخبث وهي تسير خلفها :- تريدين رأيي بالحفلة أم في زوج المستقبل ؟
ضحكت دنيا دون أن تعلق .. وسرعان ما وجدت جودي نفسها تندمج مع باقي المدعوين .. وتستمتع بوقتها برفقة مجموعة من زملاءها في الكلية .. من ضمنهم كانت ريما موجودة برفقة بشار .. وقد بديا في غاية السعادة معا .. وكأن تبرؤ والدها وامتعاض المجتمع من هروبهما وزواجهما لا يؤثر بحياتهما الزوجية الجديدة على الإطلاق
لم تنقطع الاتصالات بين جودي وريما بعد زواجها .. ولكن حديثها الدائم عن مدى سعادتها مع بشار كان يسبب الغيرة القاسية لجودي .. ورغم محاولات ريما الدائمة لمراعاة شعورها بعد تركها لطارق .. كانت تنزلق أحيانا بالكلام فتندفع في حديث متحمس عن حياتها الجديدة الرائعة ..لدقائق طويلة نسيت جودي كل همومها .. وتركت نفسها تنقاد خلف عبث أصدقائها البريء وتضحك من قلبها على نكاتهم المرحة .. حتى عادت دنيا لتجذبها من مرفقها وتسحبها من مجموعتها قائلة :- لا تضيعي الوقت مع هؤلاء البلهاء .. تعالي أعرفك بعزاب عائلتي .. أعدك بأنك لن تخرجي من هذه الحفلة إلا وقد نسيت أمر طارق تماما .. مع ثقتي بأن كل من سيراك سيقع فورا في هواك .. هه .. ابن عمي أحمد يقف هناك مع بعض أفراد العائلة .. تعالي وتعرفي إليه .. إنه طبيب أسنان ناجح .. ووسامته غير عادية
قاومتها جودي قائلة بانزعاج :- دنيا .. أنا لست مهتمة باصطياد عريس .. فتوقفي عن معاملتي كعانس ترغب بالزواج قبل أن يفوتها القطار
تجاهلت دنيا اعتراضها ودفعتها دون إنذار نجو المجموعة التي وقفت في منتصف الصالة
سمعت دنيا تقول ببشاشة :- مساء الخير .. هل تقضون وقتا ممتعا يا جماعة ؟.. آه .. أحمد .. أقدم لك صديقتي جودي .. لقد كانت تسألني لتوها عن طبيب أسنان جيد تستطيع أن ...
تابعت دنيا محاولتها المكشوفة للتوفيق بين جودي و الطبيب المرتبك .. بينما أشاحت جودي بوجهها المتورد بعيدا لتصطدم عيناها بعينين بنيتين بلون الشوكولا .. تعرفهما جيدا .. بل هما لم تفارقا أفكارها منذ فترة طويلة
كانتا تنظران نحوها بقسوة على بعد خطوات منها ضمن نفس المجموعة التي دفعتها دنيا إليها .. ارتجفت وتخبطت أحشاءها وهي تحاول التراجع تلقائيا .. ما الذي يفعله تمام هنا ؟
كان يبدو مختلفا بحلة سوداء في غاية الأناقة .. لاءمت جسده الطويل والنحيل .. شعره الأسود كان مصففا بعناية على غير العادة .. ووجهه الحليق كان شاحبا ونحيلا كآخر مرة رأته فيها
جاذبيته اكتسحتها على الفور .. وجعلت ركبتيها ترتعشان حتى أحست وكأنها ستسقط .. ذكرى لقائهما الأخير جعلها تتمنى أن تختفي من أمامه بمعجزة
هو أيضا كان مصدوما لرؤيتها .. ينظر إليها وكأنه يراها للمرة الأولى بمظهرها الرسمي الجميل .. وفي عينيه الجميلتين شيء من السخرية و البغض
لم يدرك أحدهما بأن جميع الموجودين حولهما قد لاحظوا ردة فعل كل منهما اتجاه الآخر .. نقلت دنيا بصرها بين جودي وتمام .. ثم قالت باهتمام :- جودي .. هل سبق وقابلت ابن خالتي تمام ؟
أجاب تمام ببرود :- أنا وجودي نعرف بعضنا جيدا
احمر وجه جودي بغضب من بروده .. ومن المعنى الذي تضمنه كلامه ..أما دنيا فقد عادت تنظر إليها حائرة وهي تقول :- حقا .. هذا غريب .. وكيف تعرفتما إلى بعضكما ؟
أحست جودي بالدماء تكاد تنفجر من وجهها .. وتمنت لو تتمكن من الركض هاربة من هذا الموقف .. لولا خوفها من ثرثرة الناس التي ستلتهم القصة التهاما وتنسج حولها الفضائح
لقد ظنت نفسها حقا في وسط الطريق نحو نسيانه .. لقد عادت تأكل أخيرا وتضحك .. بل وتنام في الليل دون أن تغزو عيناه أحلامها
ظهرت بوادر الفهم على وجه دنيا وهي تقول بفرح :- آه .. لابد أنكما التقيتما في أحد مطاعم تمام .. أذكر أن طارق كان يحب تناول طعامه هناك
رمشت عينا جودي وهي تحاول استيعاب كلمات دنيا .. متجاهلة جمود نظراته ورددت بارتباك :- مطاعمه ؟
نظرت دنيا بعتاب نحو ابن خالتها قائلة :- هل مارست مع جودي إحدى ألاعيبك القديمة يا تمام ؟ هل تظاهرت مجددا بأنك موظف بسيط .. أو نادل معدم في أحد مطاعمك الخاصة ؟
التفتت نحو جودي موضحة غير مدركة للصدمة التي اكتسحتها :- تمام يا عزيزتي يمتلك سلسلة المطاعم هذه .. ومن ضمنها هذا المكان الذي يقف فيه .. لقد أسس نفسه من الصفر وبنى أول مطاعمه حين عاد من الولايات المتحدة قبل سنوات متبعا خطوات أبيه الذي حقق نجاحا باهرا هناك بمطاعمه المعروفة والمتخصصة بالطعام الشرقي .. شيئا فشئا ومع نجاحه الباهر توسعت اعماله لتشمل عدة فروع في البلاد بالإضافة إلى استثماراته في مجالات اخرى متعددة .. إنه متواضع إلى حد رفضه إظهار نجاحه كما يفعل الآخرون ... فهو يكره أن يتزلف الناس إليه بسبب ما يملك .. ويفضل ان يتعرفوا إلى الإنسان داخله أولا
نظرات الجميع تركزت عليها بينما بدت هي تائهة كالطفل الضائع .. تنظر إلى دنيا تارة .. وإلى تمام تارة أخرى وكأنها قد أصيبت بالخرس
تمام ليس ذلك الشاب المعدم الذي ظنته في البداية .. لقد كذب عليها وسخر منها وعذبها لأشهر طويلة كي يسلي نفسه فقط .. يا إلهي كم كانت غبية ..
كان عليها التماسك .. وإخفاء صدمتها حتى لا تجعل من نفسها أضحوكة امام أقرباءه .. ولكنه لم يرحمها إذ سمعته يقول ببرود :- ماذا عن خطيبك المحترم ؟ لماذا ليس موجودا معك في مناسبة كهذه ؟ أم أنه ينتظر زواجكما حتى يرافقك في المناسبات الرسمية خوفا على سمعته
امتقع وجه جودي .. فالتفتت دنيا نحو تمام وقد أغضبته كلماته الجارحة .. قالت بحدة :- تمام .. لماذا تحدث جودي بهذه الطريقة ؟.. لقد فسخت خطوبتها منذ أسابيع وسأكون ممتنة لو احترمت مشاعرها
همست جودي وقد فقدت قدرتها على الاحتمال :- بالإذن
اندفعت تشق الزحام نحو المخرج غير عابئة بنظرات الآخرين لها .. سمعت صوت تمام يناديها :- جودي
أسرعت في سيرا حتى كادت تجري .. نزلت الدرج المؤدي إلى الشارع .. فلم تشعر حتى بقطرات المطر الكبيرة التي تساقطت فوق رأسها وبللت فستانها .. ما إن وصلت إلى الموقف الخاص بالمطعم .. حتى أمسك تمام بذراعها وأوقفها مديرا إياها نحوه فقاومته بشراسة ونظرات البغض تطل من عينيها قائلة :-
:- اتركني أذهب أيها المنافق المخادع .. لقد تسليت كثيرا على حسابي .. وآن لتسليك أن تنتهي
حاول إيقاف مقاومتها صائحا بحدة :- اهدئي قليلا
ركلته بكل قوتها على قصبة ساقه فتركها متأوها .. اندفعت راكضة نحو سيارتها .. وجاهدت لتتمكن من التقاط المفتاح من حقيبة يدها الصغيرة .. ما إن فتحت الباب حتى أغلقته يد تمام بقوة .. ثم أجبرها على النظر إليه ..أمسك بذراعيها وأسندها إلى السيارة قائلا بحدة :- هل ستسمعينني الآن ؟
قالت بشراسة :- لا أريد أن أسمع منك شيئا .. أي شيء .. لا أريد أن أراك مجددا على الإطلاق
حاولت ركله مجددا ولكنه منعها بتكبيله التام لحركتها وهو يقول بغضب :- لن تتحركي من هنا حتى تجيبين عن سؤالي يا جودي .. متى فسخت خطبتك بالضبط ؟
هتفت بثورة :- هذا ليس من شأنك
تجاهل ثورتها وهو يكرر سؤاله بتوتر :- عندما جئت إلى شقتي ذلك المساء .. هل كان هذا قبل أم بعد فسخك لخطوبتك .. أجيبي يا جودي
هزت رأسها مانعة محاولة منع دموعها من الانهمار :- لم يعد هذا مهما بعد الآن
هزها بقوة قائلا بغضب :- أجيبيني عليك اللعنة .. هل كنت مخطوبة عندما طرقت بابي ذلك المساء
صرخت به وقد فقدت اعصابها :- لا .. لم أكن مخطوبة .. هل ارتحت الآن .. كنت قد فسخت خطوبتي منذ فترة طويلة عندما جئت إلى شقتك كالبلهاء وأهنت نفسي مجددا كما كنت أفعل منذ عرفتك .. أيها الكاذب المخادع
قال بتوتر :- لماذا لم تخبريني بذلك إذن ؟ لماذا تركتني أسيء إليك بالقول والفعل ؟ لماذا لم تخبريني بسبب زيارتك لي ؟
قالت بمرارة :- ما الذي توقعته مني يا تمام ؟ لقد طرحت عليك سؤالا واضحا وقد أجبتني عنه بكل صراحة .. كنت تنتظر أن آتي إليك معلنة فسخي للخطوبة مع اعتراف بحب لا يموت وأرمي نفسي بين ذراعيك بدون ضمانات ..هل كنت تتوقع مني أن أركض وأمنح نفسي لرجل لم يتحدث ولو لمرة عن رغبنه بالزواج بي ؟ .. لرجل كذب علي وأوهمني بأنه بالكاد قادر على إعالة نفسه في حين أنه قادر على إعالة عائلات بأكملها
قال بتوتر :- ما الذي كنت تريدين مني فعله يا جودي ؟ عندما عرفتك كنت مخطوبة إلى رجل ثري وذي مركز مرموق .. إن عرفتك بنفسي على أنني تمام محفوظ صاحب سلسلة المطاعم الشهيرة .. والذي لا يقل عن خطيبك ثراءا .. لما وجدت بي أكثر من بديل له .. كنت ستتخلين عن رجل ثري لأجل رجل ثري آخر قادر على منحك نفس الحياة المخملية التي تنشدينها .. وأنا أردتك أن تري بي أكثر من محفظة وضمانة لحياة مريحة .. أردتك أن تحبيني أنا .. تمام الشاب الذي يحب المتع البسيطة في الحياة .. أن تحبي الشخص الذي أكونه قبل أن تعجبي بما أمتلكه .. وأنت لم تتمكني من اتخاذ قرار نهائي حتى بعد أن أحببتني واكتشفت عقم مشاعرك اتجاه خطيبك .. للقد فضلت حياة باردة خالية من المشاعر مع رجل لا تحبينه لأجل المادة فقط
هتفت من بين أسنانها بغل :- عليك اللعنة يا تمام .. أنا لم أفتقر يوما إلى المال ... بل أنا أكثر ثراءا منكما معا .. ما كنت أطلبه بالإضافة إلى الحب هو الاحساس بالأمان .. وهو ما كان طارق قادرا على منحي إياه .. أما أنت .. فمنذ عرفتك .. لم تتحدث إطلاقا عن الزواج أو المستقبل .. كنت لأرمي طارق وراء ظهري خلال لحظة وأركض نحوك بلا أي تردد لو أنك منحتني ولو لمحة عن جديتك نحوي .. أما عن إخفاءك لثراءك ومركزك عني .. فقد كنت محقا .. أنا ماكنت لأحبك بنفس الطريقة لو أنك أظهرت لي ما لديك من مال في لقاءنا الأول .. ما جذبني إليك هو الطريقة التي سحبتني فيها من العالم المزيف والفارغ الذي كنت أعيش فيه .. العالم البارد القائم على المظاهر الخادعة والقيم البالية ..علمتني كيف يمكن للإنسان أن يكون سعيدا فقط بكونه الشخص الذي هو عليه .. وليس ما يريده المجتمع .. سمعتني وفهمتني .. ومنحتني ما لم أجده لدى أقرب الناس إلي .. ولكنك لم تستطع منحي الشيء الوحيد الذي احتجته أكثر من أي شيء آخر .. وهو الأمان و الثقة .. بعكس طارق الذي تزدريه فقد كان رجلا صادقا جديرا بالثقة كما لن تكون أبدا
اشتعلت عيناه غضبا بينما ازدادت الامطار غزارة فور رأسيهما .. هتف بها غاضبا :- لماذا فسخت خطوبتك إذن مادام يمثل كل ما تحلمين به في الرجل
ابعدت خصلات شعرها المبتلة عن وجهها وهي تقول بمرارة :- لأنني أحببتك أنت يا تمام .. لا أستطيع الزواج منه وقلبي معلق بغيره .. حتى لو لم أحصل عليك .. فعلاقتي بطارق ما كانت لتستمر
أمسك بكتفيها ونظر إلى عينيها قائلا :- مازلت قادرة على الحصول علي يا جودي .. أنا ما زلت متاحا لك ولن أكون لغيرك أبدا
مطت شفتيها قائلة بازدراء وهي تقول :- للأسف .. أنا لم أعد أريدك يا تمام.. فلتهدي نفسك لأي مغفلة أخرى ترضى باستغفالك لها وسخريتك منها
هزها بقوة قائلا بإصرار :- ما تقولينه غير صحيح .. لقد قلت بنفسك بأنك قد أحببتني .. لا يمكن أن تتحول مشاعرك بهذه السهولة
هتفت بانهيار :- لا .. أنا لم أحببك أنت .. أنا أحببت تمام الآخر .. الشاب الجريء والفقير والبسيط.. الصادق الحنون .. أحببت الرجل الذي علمني ما هو الحب الحقيقي .. أما أنت فأنا لا أعرفك .. أنت رجل ثري عابث يلهو في فترات فراغه بالسخرية من النساء ولعب دور المستخدم المعدم فقط لتثبت لنفسك قدرتك على جذب الجنس الآخر بدون مالك وجاهك
صرخ بها وقد نفذ صبره :- أنا لم أكن أتسلى بك يا جودي .. لقد أحببتك منذ رأيتك أول مرة .. لقد عرفت لحظتها بأنك الانسانة التي أرغب بقضاء ما تبقى من حياتي معها
قالت بحدة :- ليس هذا ما قلته لي في شقتك يا تمام .. لقد أوضحت لي بكل صراحة بأنك لم ترغب أبدا بالزواج بي
هز رأسه محاولا إيقاف سيل كلماتها وهو يقول :- لا يا جودي .. لا .. أنا لم أقل هذا .. لقد أخبرتك بصراحة بأنني لن أكون بديلا لطارق .. أردتك أن تتركي طارق بنفسك بعد أن تدركي بأنك لا تحبينه .. أردتك أن تأتي إلي لأنك تحبينني أنا .. وليس لأنك تبحثين عن زوج بدلا عن آخر .. لهذا فقط أخفيت عنك حقيقتي .. لأنني أحبك .. أقسم على أنني أحبك .. وأنني أرغب في الزواج بك في أقرب فرصة
تلونت كلماته الأخيرة باليأس وهو يصرخ بها أمام دموع جودي التي تفجرت في عينيها بغزارة كي تندمج مع قطرات المطر الباردة وتكسو وجهها الطفولي المنهار
نتيجة يأس الأسابيع السابقة .. الحزن والألم والحيرة .. والشوق والسهر لليال متواصلة .. تفجرت الآن في لحظة واحدة .. لم تستطع الاستماع إليه أكثر .. لم ترغب حتى أن تشعر بقربه يعذبها .. أرادت أن تختبئ في جحر مظلم بعيد عن الأنظار تبكي مرارتها
كيف ستثق به بعد الآن ؟.. كيف ستصدق حبه ووعوده ؟ .. هتفت باكية :- لقد فات الأوان الآن .. فات الأوان
دفعته عنها في حركة مفاجئة .. جعلته يندفع إلى الخلف متعثرا حتى كاد يسقط على الأرض المبتلة ... فاستغلت الفرصة لتفتح سيارتها وتدخلها .. ثم تدير المحرك وتندفع بها كالمجنونة
صرخ من خلفها :- جودي انتظري
قادت دون أن ترى بين الطرقات المظلمة وهي تبكي بانهيار ..أحكمت وضع حزام الأمان تلقائيا بيدها المرتجفة .. مشاعرها الثائرة كانت مزيج من المرارة والحزن والغضب .. ما الذي ظنه تبا له ؟.. أنها ستجثو على ركبتيها شكرا له على عرضه الكريم ؟ على تنازله وقراره الزواج منها أخيرا ؟
لقد سخر منها وعذبها وأوهما بفقره كي لا تراه عريسا ملائما .. هل يظنها بهذه السطحية والتفاهة ؟ هل يظن التافه بأنها افتقرت إلى صفوف العرسان لتبحث عن واحد ؟ .. وهاهو بعد انكشاف الحقيقة يخبرها بكل وقاحة بأنه لطالما رغب بالزواج بها
لا والله لن تتزوج به لو كان آخر رجل على وجه الأرض ..
نفير عالي ومزعج صدر من سيارة رياضية حمراء اللون كانت تسير في أعقابها .. وعندما تحركت جانبا لتسمح لها بالعبور ... لمحت وجه السائق .. لقد كان تمام
وأين ذهبت الشاحنة القديمة المتسخة ؟ أم أنه ترك مستلزمات الخداع في البيت ظنا منه بأنه لن يحتاج إليها ؟
عاد يطلق النفير تلو الآخر وهو يشير لها بالتوقف جانبا .. فما كان منها إلا أن زادت السرعة يدفعها الغضب بدون أي تفكير في العواقب .. لقد أرادت فقط أن تبتعد عنه .. أن تفصل بينهما أكبر مسافة ممكنة نظرت إلى المرآة لتجده قد خفف سرعته وكأنه قد فقد الرغبة في مطاردتها .. وعندما عادت تنظر إلى الطريق شهقت لمرأى رجل يحاول قطع الشارع حاسبا أنها تراه .. أدارت عجلة القيادة بسرعة محاولة تفاديه .. فانزلقت إطارات السيارة مع الحركة المفاجئة فوق الإسفلت الرطب .. وفقدت سيطرتها فجأة على السيارة التي اندفعت بسرعة مخيفة نحو عمود الإنارة الضخم .. واصطدمت به بعنف .. وكان هذا آخر ما رأته جودي قبل أن يلفها الظلام بشكل كامل



الفصل التاسع والثلاثون
بين الحياة والموت

نظر هشام إلى وجه أماني المتورد قائلا :- اعتذر عن خشونتي معك .. وإن كنت قد سببت لك أي ألم
وضعت أناملها على شفتيه وهي تهمس :- لا تعتذر .. أنت لم تؤذني على الإطلاق
فوق السرير العريض .. وبين طيات الأغطية الحريرية .. احتضن هشام جسد أماني النحيل وكأنه يرغب بحمايته من أي نسمة عابرة .. لم تشعر أماني يوما بالأمان كما تشعر الآن .. تمنت لو يتوقف الزمن .. وتبقى سجينة ذراعيه إلى الأبد
تأمل ملامحها الفاتنة .. شعرها الرطب الذي تناثر فوق الوسادة .. عينيها الجميلتين .. فمها الذي بدت عليه بوضوح آثار قبلاته .. علت وجهه علامات الندم وهو يقول :- لقد سبق ووعدتك بأنني لن أفرض نفسي عليك .. وها قد فعلتها للمرة الثانية .. أي رجل يحترم كلمته أنا
أسرعت تقول :- أنت لم تفرض نفسك علي الأن يا هشام .. وقطعا لم تفعل ليلة زفافنا ..
هز رأسه وهو يداعب وجنتها الناعمة :- بل فعلت .. لقد استغليت حالة الضعف التي اعترتك على إثر كابوس مزعج .. أترين أي نذل أنا ؟ .. لقد كنت متلهفا لاحتضانك بين ذراعي إلى حد تجاهلي لكل وعودي .. في الصباح .. عندما قفزت من السرير مذعورة فقدت أعصابي .. وآذيتك بكلمات لم يكن علي قولها .. بل كان علي مراعاة تصارع مشاعرك .. حرجك وخجلك .. أنا آسف
كلماته الرقيقة .. جعلت الدموع تترقرق في عينيها وهي تتأمل وجهه الأسمر الحبيب .. وتتتبع بعينيها خطوط عضلات جسده القوية .. تذكرت هجومه الضاري تحت سيل المياه الدافئة .. تجاوبها المحموم واللا متحفظ معه .. الطريقة التي حملها فيها إلى سريره
أسبلت عينيها عندما غمرتها الذكريات حتى لا يكتشف شوقها المتجدد له .. ثم فكرت .. ماذا لو اكتشفه ؟ .. ماذا لو صرحت له بحبها ؟ .. لو لمحت له به على الأقل ؟
أو ربما اكتفت بأن تمسح عنه إحساسه بالندم والعار من الذنب الذي يظن نفسه قد ارتكبه ..
نظرت إليه فالتقت عيناهما .. أذهلته المشاعر العاصفة التي ارتسمت في عينيها .. تسارعت أنفاسه وتوتر جسده .. عندما قالت بصوتها الناعم :- أنا من عليه أن يعتذر على ما حصل ذلك الصباح يا هشام .. لقد كنت مذهولة ومصدومة من الطريقة التي سلمت فيها نفسي إليك .. لم أتخيل يوما أن أكون ضعيفة وسهلة إلى هذا الحد .. خفت أن تنظر إلي بازدراء لعدم قدرتي على الاعتراض بكلمة .. ولكن الحقيقة هي أنك عندما لمستني .. لم أستطع أن أفكر على الإطلاق
ترقرقت الدموع في عينيها وهي تكمل بصوتها الأجش :- أنت أهم إنسان في حياتي في هذا الوقت يا هشام .. أنت الإنسان الوحيد الذي فهمني واهتم بي وحماني .. أنت الشخص الذي ساعدني على انتزاع الخوف من قلبي .. علمتني بأن الإحساس بكوني امرأة ضعيفة ليس سيئا دائما .. بل هو أمر رائع عندما تكون المرأة محبوبة ومحمية .. وفي حياتها صخرة تقف في وجه الرياح العاتية فتقيها منها ..
الأسابيع التي قضيناها متباعدين وانت بالكاد تكلمني كانت عذابا لا يطاق .. لم أحتمل جفاءك وبعادك وكأنك تكرهني .. افتقدت هشام .. الصديق والحامي الذي عرفته دوما .. أما ما حدث بيننا قبل قليل ....
ارتجفت وهي تحاول منع دموعها من الانهمار بغزارة وهمست :- لقد كنت في انتظار تلك اللحظة فقط كي أشعر بك قريبا مني مرة أخرى .. أنت صخرتي يا هشام .. و بدونك سأتوه لا محالة
ارتجفت شفتا هشام وهو يراقب انفجار أماني العاطفي وغير المتوقع .. سحبها إليه أكثر ليحكم احتضانها فوق صدره وهو يقول بخشونة :- هل تدركين ما تقولينه يا أماني ؟
هزت رأسها قائلة :- أعرف بأن حياتنا معا لن تكون طويلة .. وأننا سنفترق خلال أشهر قليلة حسب اتفاقنا .. ألا يمكننا خلال الفترة القادمة على الأقل أن نعيش معا كزوجين سعيدين .. يمنح كل منا للآخر بلا قيود حتى نفترق في النهاية كصديقين ..؟ أرغب حقا أن أحمل ذكرى لطيفة لنا معا عند رحيلي .. نستطيع فعل هذا يا هشام .. أستطيع كبح لساني في لحظات الغضب .. وأنت قد تخفف من تسلطك قليلا فينجح الأمر
محاولتها الأخيرة للمزاح كانت فاشلة إذ عجزت شفتاها المرتعشتان عن الابتسام .. وهشام أيضا لم يبتسم .. إذ ارتسم على وجهه تصميم قوي وشيء من القسوة .. وهو يقول بحزم لطيف :- استمعي إلي جيدا يا أماني .. نحن لن .....
بتر عبارته عندما دوى رنين الهاتف المجاور للسرير .. نظر الاثنان إلى الجهاز الرابض فوق المنضدة .. ثم عادت هي تنظر إليه قائلة :- هل سترد ؟
توتر وهو ينظر إليها قائلا :- قد يكون طارئا ما .. قد تكون جودي
جودي !!... راقبته وهو يمد يده ليلتقط سماعة الهاتف .. أذهلتها مدى سيطرته عليها بحيث كان هو من فكر بجودي أولا
سمعته يقول :- نعم .. أنا هشام عطار .. ماذا ؟ كيف حدث هذا ومتى ؟
اعتدل جالسا وقد ظهرت عليه الجدية .. حسنا ..لقد طارت الرومانسية بعيدا .. وأخذ العمل هشام منها ..جلست وهي تلف الملاءة حول جسدها وأسندت ظهرها إلى ظهر السرير وهي تبتسم .. لقد تحولت إلى زوجة تقليدية متذمرة من انشغال زوجها بالعمل ... أي تغيرات أخرى ستجد في نفسها
راقبت وجه هشام الواجم وعينيه القلقتين وهو يستمع إلى محدثه .. فأحست بأن المشكلة ليست سهلة على الإطلاق .. سمعته يقول :- سنكون هناك على الفور
أنهى المكالمة ونهض مغادرا السرير .. فقالت بقلق :- هشام .. ما الأمر ؟
التفت إليها فانقبض قلبها لمرأى النظرة التي ألقاها عليها .. ولسماع نبرة صوته وهو يقول بهدوء :- من الأفضل أن ترتدي ملابسك يا أماني .. يجب أن نغادر حالا
لم تكن بحاجة لمزيد من التوضيح لتعرف بما حصل .. لقد أصاب مكروه الفرد الوحيد المتبقي من عائلتها .. إنها جودي


نظر هشام إلى وجه أماني الشاحب وهي جالسة فوق أحد مقاعد غرفة الانتظار في المستشفى .. أمام باب جناح العمليات المغلق .. لم يدهشه صمتها وجفاف مآقيها .. فهو يعرفها الآن أكثر من أي شخص آخر .. إنها أماني .. حبيبته ذات العاطفة السخية .. والقوة الداخلية الجبارة حتى في أحلك الأوقات
ما كانت لتفقد تماسكها في حالة كهذه .. حيث تحتاج شقيقتها إلى صمودها وقوتها .. بل إنها أوصدت الباب في وجهه رافضة أن يمدها بالمواساة .. ولكنه اتخذ قراره منذ فترة .. لن يسمح لها بحجب نفسها عنه بعد الآن .. وهي في حاجة إليه في هذه اللحظة مهما حاولت الانكار
كان يقف مستندا إلى الجدار عاقدا ساعديه أمام صدره على بعد أمتار منها .. يراقبها بينما يعصف قلبه قلقا على شقيقة زوجته الصغرى
جودي الطفلة الجميلة المرحة .. التي تخفي داخلها حزنا يضاهي حزن شقيقتها .. كان تخيلها على منضدة الجراحة بين أيدي الأطباء أشبه بالصدمة له .. وتنبأ بأن أماني تفكر بالتأكيد بنفس الطريقة
قال بهدوء :- ستكون بخير يا أماني
قالت وهي تركز نظرها نحو يديها المعقودتين فوق حجرها :- أعرف
اقترب منها .. وجثى أمامها ممسكا بيديها الباردتين .. وأجبرها على النظر إليه قائلا بحزم :- لا تجلسي هكذا يا أماني .. من حقك إظهار قلقك وخوفك .. اصرخي أو ابكي أو حطمي أي شيء فلن يلومك أحد إن أظهرت ضعفك هذه المرة
نظرت إليه مصدومة من هجومه المباشر .. فقالت باضطراب :- أنا فقط لا أستطيع أن أصدق ما حدث .. أعني أن جودي سائقة ماهرة وحذرة بطبعها .. ما الذي أفقدها السيطرة على السيارة بهذا الشكل ؟ لقد سمعت ما قالوه .. لقد كانت تقود بسرعة جنونية
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول بمرارة :- لقد كنت أعرف بأنها تعاني من مشكلة ما .. ابتسامتها الزائفة ومرحها المصطنع لم يخدعاني .. ولكنها رفضت تماما اطلاعي على مشكلتها وأنا لم أصر .. لقد كانت لدي فكرة مسبقة عن الموضوع وأردتها هي أن تأتي إلي بإرادتها وتفصح لي عن مخاوفها عندما تجد الوقت المناسب لذلك ..كما كانت تفعل فيما مضى .... لو أنني ألحيت عليها وأجبرتها على مصارحتي لتمكنت من مساعدتها بطريقة ما .. لما كانت الآن .....
أسرع يضع يده فوق فمها ليوقف كلماتها الهستيرية وهو يقول بحزم :- ما حدث ليس خطأك يا أماني .. فلا تلومي نفسك .. وجودي ستكون بخير .. أعدك
نظرت إلى عينيه المتفهمتين .. وتمنت لو تسمح له بضمها إليه لتشعر بدعمه وحنانه .. سالت دمعة حارة من عينيها وهي تقول بصوت متهدج :- هشام .. أنا حقا ....
توقفت عما كانت ستقوله عندما قاطعتها ضجة قادمة من آخر الرواق .. حيث رأت شابا طويلا يصرخ بغضب في الممرضة الصغيرة الحجم ذات الملابس الناصعة البياض ..بينما هي تحاول تهدئته بصبر دون فائدة ..
وقفت أماني فجأة مما فاجأ هشام الذي قال بقلق :- أماني .. ما الأمر ؟
سارت ببطء نحو الرجل والممرضة .. لتتضح الكلمات أكثر لمسامعها .. كان يصيح ثائرا :- ما الذي تقصدينه بأنك لا تمتلكين أي معلومات ؟ يجب أن تخبريني بحالها والآن على الفور .. إنها في الداخل منذ فترة طويلة وأنا أقف هنا منذ ساعات كالأحمق أكاد أموت جهلا بمصيرها
قالت الممرضة بتوتر :- إهدأ قليلا أيها السيد .. سيخرج الطبيب في النهاية وسنعرف جميعا التطورات منه
لوح بيديه وقد فقد أعصابه :- لن أنتظر أكثر .. ادخلي إلى هناك حالا .. أو اتصلي بغرفة العمليات أو افعلي أي شيء .. لا تقفي هكذا وكأنك دمية غبية تأخذ أجرا على عدم قيامها بأي شيء على الإطلاق
كلماته الأخيرة جعلت صبر الممرضة ينفذ .. والقسوة ترتسم على وجهها وهي تقول بحدة :- حتى إن كنت قادرة على فعل ما تقوله .. فمعلومات كهذه تكون متاحة فقط لأفراد العائلة .. وأنت لست واحدا منهم على حد علمي
استدارت تاركة إياه فما كان منه إلا أن لكم الجدار بقبضته بقوة أدمتها وهو يشتم بالإنجليزية دون ان يوجه الكلام إلى أحد
راقبته أماني بصمت وهو ينهار على أحد المقاعد البلاستيكية الزرقاء .. ويخفي رأسه بين يديه .. قيمته أماني خلال لحظات مواجهته للممرضة .. لقد كان شابا وسيما .. بالغ الجاذبية رغم اضطراب مظهره .. حلته الرسمية الأنيقة بدت غير مهندمة .. شعره الداكن تشعث بفوضوية فوق رأسه
لم تكن قد رأته من قبل .. ولكن قلبها عرفه .. وكأنها قابلته منذ فترة طويلة .. سمعت صوت هشام يقول من خلفها :- أماني
دون أن ترد عليه .. سارت ببطء نحو الشاب المنهار .. ووقفت أمامه بينما رفع هو رأسه نحوها ونظر إليها بعينيه الحمراوين
التقت نظراتهما فرمشت عيناه .. وكأنه قد عرفها بدوره .. وقف ببطء أمامها بقامته الطويلة .. فكانت هي من قطع الصمت وهي تقول بهدوء :- أنت تمام
اهتزت نظراته وهو يهمس :- أماني
أومأت برأسها .. فقال باضطراب :- هل حدثتك عني ؟
:- لا .. ولكن عيناها أخبرتني الكثير عنك .. كما تفعل عيناك الآن .. أنت تحبها .. صح ؟
اغرورقت عيناه الجميلتان بالدموع وهو يقول بمرارة :- أحبها .. وكدت أقتلها بحبي .. لو أنني لم أطارد سيارتها بسيارتي وأحاول إقناعها بمحادثتي .. لقد كانت تقود كالمجنونة حتى أنني تراجعت وأوقفت سيارتي تماما كي تتوقف عن الهرب وتعريض نفسها للخطر .. وعندما رأيت الحادث ...
ارتجفت شفتاه .. فقال بخشونة :- أخبريني بأنها ستكون بخير
هزت رأسها بسرعة ودموعها تغطي وجهها :- ستكون بخير .. أنا متأكدة من هذا
أحست بثقل يد هشام على كتفها .. فمسحت دموعها وهي تلتفت إليه قائلة :- هشام .. أعرفك إلى تمام .. أنه صديق مميز لجودي
قالتها بطريقة فهم منها بأن هذا الرجل كان هو سبب حزن جودي الحقيقي
غريزته الأولى كانت لتدفعه إلى ضربه حتى يدمي وجهه لما سببه من ألم لأحد أفراد عائلته .. ولكن نظرة واحدة نحو الشاب المنهار .. إلى العاطفة الصادقة في عينيه .. أخبرته بأن جودي لم تكن وحدها من يعاني
صافحه هشام بحزم :- سعيد للقائك .. ومتأكد بأن جودي ستنجو .. وتكون بخير
شد تمام على يده ممتنا له .. فاعتراف كل من أماني وهشام بوجوده جعله بطريقة ما جزءا من حياة جودي التي بقي محجوبا عنها لفترة طويلة
نظرة الامتنان في عيني أماني لتفهمه .. جعلت هشام يحيطها بذراعه ويضمها إلى صدره وكأنه يؤكد لها دعمه الدائم
في تلك اللحظة بالذات
فتح باب غرفة العمليات .. وخرج الطبيب



الفصل الأربعون
جودي

استيقظي يا حبيبتي
تسللت الكلمات الناعمة إلى أذني جودي لتنتزعها تدريجيا من العالم المظلم الذي كانت تسبح فيه
:- جودي
فتحت جودي عينيها ببطء .. ونظرت إلى وجه أماني الشاحب .. إلى عينيها القلقتين فهمست :- ما الذي حدث ؟ أين أنا ؟
سألتها أماني برقة :- ألا تذكرين ؟
حاولت جودي هز رأسها ولكنها فشلت .. إذ أحست برأسها ثقيلا .. ولكنها تذكرت فجأة فهمست :- لقد كنت أقود سيارتي
أومأت أماني قائلة :- هذا صحيح .. وقد فقدت سيطرتك عليها فاندفعت نحو عمود النور
أغمضت جودي عينيها قائلة :- يا إلهي كم أنا غبية .. هل تضررت السيارة كثيرا ؟
ظهرت الدموع الحبيسة في عيني أماني وهي تقول بانفعال :- هل يقلقك وضع السيارة يا جودي ؟ أنت من بقي في غرفة العمليات لساعات .. يا إلهي جودي .. هل تعرفين كيف كان شعوري وأنا أنتظرك خارجا دون أن أعرف إن كنت ستنجين أم لا
سالت دموع جودي فورا وهي تقول :- أنا آسفة يا أماني .. أنا حقا آسفة .. لم أكن أفكر .. لقد كنت مشوشة وغاضبة وكل ما أردته هو أن أبتعد عن ....

صمتت جودي وقد ارتسم الألم على ملامحها .. فمدت أماني يدها لتمسح الدموع عن وجه جودي المكدوم قائلة بهدوء :-
سأستدعي الطبيب ليراك
عندما أتم الطبيب فحص جودي قال لأماني وقد لاحظ دموع مريضته :- لا انفعالات يا آنسة .. لقد كنت واضحا بأن المريضة بحاجة إلى الراحة التامة
تمتمت أماني :- لن أزعجها مجددا
غادر الطبيب برفقة الممرضة ..فجلست أماني إلى جانب جودي قائلة بحنان :- أنا آسفة يا حبيبتي .. ما كان علي الانفعال في وجهك بهذه الطريقة
همست جودي :- لقد كنت قلقة علي فحسب .. أنا من عليه الاعتذار بسبب غبائي .. ما الذي سيقوله زوجك عني الآن ؟
أتاها صوت هشام من الباب المفتوح وهو يقول :- سيقول بأنه سعيد جدا لأن شقيقته الجديدة بخير
نظرت إليه من فوق كتف أماني .. وقد اعتراها إحساس عميق بالأمان .. إنها في وسط عائلتها .. ابتسمت بإرهاق قائلة :- لم ترى شيئا بعد من عائلة النجار يا هشام .. عدني بأنك لن تندم لاحقا على ارتباطك بأحد أفراد العائلة
التقت عينا أماني وهشام للحظة خاطفة .. سرعان ما انتهت عندما عادت أماني تنظر إلى جودي قائلة :- أظنه يفكر بأن عبء واحدة من هذه العائلة المجنونة أكثر من كافي .. وأعتقد بأنه أكثر من متحمس لتزويجك والخلاص منك
قال هشام محتجا :- هذا غير صحيح
ابتسمت جودي وهي تقول مداعبة :- للأسف يا صهري العزيز .. عليك إيجاد عريس مناسب أولا قبل تزويجي
قالت أماني بهدوء :- أظن هناك من يتمنى بشغف أن ينال هذا الشرف
لهجة أماني وطريقة كلامها كانت أكثر من واضحة .. شحب وجه جودي .. مما جعل أماني تقول بقلق :- هل تتألمين ؟
تمتمت جودي :- ليس كثيرا .. مما يدهشني وفقا لكل هذه الضمادات في كل مكان
:- مازلت تحت تأثير المسكنات .. لا تستعجلي الاحساس بالألم لأنه لن يتأخر كثيرا
مرت لحظات صمت طويلة قبل أن تقول أماني :- هل يسبب الحديث عنه كل هذا الألم يا جودي ؟
أشاحت جودي بوجهها بعيدا فقالت أماني :- على كل حال .. لست مضطرة لإخباري عنه بعد الآن .. تمام ينتظر في الخارج منذ ساعات ويأمل بأن يتمكن من رؤيتك
هتفت جودي برعب :- لا أريد أن أراه
قالت أماني بحزم :- جودي .. الرجل يقف في صالة الانتظار منذ وصولك إلى المستشفى .. بل هو من اتصل بسيارة الاسعاف فور وقوع الحادث .. أنت تدينين له بسماع ما يريد قوله
عضت جودي شفتيها .. فقالت أماني برفق :- جودي .. لقد قابلت تمام لأول مرة منذ ساعات .. ولكنني أستطيع أن أقول لك بأنني لم أر يوما رجلا منهارا كما كان قبل أن يخرج الطبيب ويخبرنا عن وضعك
تمام يحبك يا جودي .. وأنت لا تستطيعين إنكار تلهفك لرؤيته .. قابليه فقط .. واستمعي إليه .. وأنا سأكون خلف الباب مع هشام .. نداء واحد منك .. وسيخرجه هشام من الغرفة على حمالة .. أنت أحد أفراد عائلته الآن .. وهو ينتظر بلهفة الفرصة ليرد لتمام ما سببه لك من حزن
قال هشام مؤكدا :- ليس لديك أي فكرة

عندما غادرت أماني وهشام الغرفة بعد فترة .. كان تمام في الانتظار خارجا .. اعتدل على الفور سائلا بلهفة .:- كيف هي الآن ؟
:- لقد استيقظت ..ولكنها مازالت ضعيفة ..
نظرت إليه قائلة :- هل ستكون رقيقا معها ؟
قال غير مصدق :- هل قبلت بأن تراني ؟
هزت رأسها قائلة :- مارست عليها بعض الضغط .. وما كنت لأفعل لولا يقيني بحاجتها لسماع ما ستقول
نظر إليها وتقدير كبير يطل من عينيه وهو يقول :- أعدك بأنني لن أزعجها
أما هشام .. فقد اكتفى بأن يقول لتمام بحزم :- اهتم بها جيدا
اومأ تمام برأسه وهو يقترب من الباب .. يطرقه برفق .. ثم يدخل
نظر هشام في إثره قائلا :- اتظنينها فكرة صائبة ؟ لربما احتاجت إلى مزيد من الوقت لتتحسن على الأقل
تمتمت :- لن يشفى جسدها من جراحه ما لم تعالج قلبها أولا
نظر إليها معجبا برجاحة عقلها .. وطريقة استيعابها لحاجات شقيقتها ... ولكن ماذا عن حاجاتها هي ؟
تحت هذا التماسك .. لم تكن أماني قد صحت من صدمتها بعد .. عرف هذا وهو يقترب منها .. ويحيط وجنتها بكف يده سائلا بحنان :- وماذا عن أماني ؟
هل ستكون بخير ؟
أرادت من كل قلبها أن تجيبه بانزعاج .. بالتأكيد .. ما الذي تظنه بي ؟
ولكنها تحت تأثير عينيه الحانيتين .. وصوته الدافئ .. وإغراء صدره على بعد بوصات عنها .. لم تستطع التظاهر بالقوة لفترة أطول .. تدفقت الدموع من عينيها بدون إنذار وهي تقول :- لقد كدت أفقدها يا هشام .. هل تعرف ما الذي يعنيه هذا ؟ لقد كدت أفقدها بحق الله
سحبها |إلى صدره وضمها بقوة سامحا لها بالنشيج بين طيات قميصه ربت على ظهرها مستمتعا باستسلامها أخيرا .. والسماح له بالغوص بين مخاوفها الكثيرة ..همس لها برقة |:-
:- ولكنك لم تفقديها .. أليس كذلك ؟ إنها بخير .. تتحدث في الداخل إلى حب حياتها .. وسرعان ما ستجد سعادتها المفقودة ولن تقلقي عليها أبدا بعد ذلك
فكرت أماني وهي تتمسك به .. وماذا عن سعادتي أنا .. هل سأجدها معك يا هشام .. أم أنها ستهرب مني ما أن بدأت أعرف مذاقها ؟

فتح تمام الباب وخطا إلى الداخل بتردد .. هبط قلبه بين قدميه بين قدميه عندما رأى حبيبته الصغيرة والرقيقة ممددة فوق السرير الضيق .. والضمادات تحيط بها في كل مكان .. وجهها كان شاحبا .. وقد ساهم مع الرباط المحيط برأسها لمنحها مظهرا هشا وضعيفا .. لم تكن تنظر إليه .. بل كانت تركز بصرها نحو نقطة بعيدة في زاوية الغرفة .. .. تطبق شفتيها بقوة وكأنها تمنعهما من الارتعاش .. وقد توردت وجنتيها وكأنها لم تستطع منع حواسها من الاحساس بقربه
ناداها بصوت خافت :- جودي
ازداد فمها قسوة .. وظهرت الدموع في العينين الزيتونيتين .. عاد يقول متوسلا :- جودي .. انظري إلي .. هلا استمعت فقط إلى ما سأقوله
نطقت أخيرا قائلة ببرود :- لقد سبق وقلت ما لديك يا تمام
اقترب وجلس على المقعد المجاور للسرير قائلا بحدة :- لا .. لم أقل كل ما لدي يا جودي .. أنا أحبك .. ولا أستطيع الحياة من دونك .. لو لم أكن قد قابلتك في الحفلة .. لكنت سعيت إليك بنفسي وبكل طريقة ممكنة فور أن أعرف بفسخك لخطوبتك
هزت رأسها قائلة :- لا أريد أن أسمع أعذارك الواهية يا تمام .. لم تقنعني في المرة السابقة ولن تفعل الآن
ظهر عليها الإرهاق وهي تقول :- فقط اذهب واتركني وحدي .. أرجوك
صمت تمام لفترة طويلة وهو يحدق إلى حذائه اللامع .. ولكنه لم يخرج .. وهي كانت تشعر به قريبا منها إلى حد الألم .. تسمع صوت أنفاسه وتستنشق رائحته .. وتمنع نفسها بصعوبة من النظر إليه ..
إذا نظرت إليه ستراه .. وتؤخذ بجاذبيته وسحره كالعادة .. وتضعف مجددا .. وهي قد سئمت بكل بساطة من الارهاق العاطفي الذ يسببه لها .. كل ما أرادته هو ان تشعر بالهدوء والاستقرار كما كانت قبل وفاة والدها .. عندما كانت حياتها هادئة وروتينية .. وعندما كان التفكير في المستقبل لا يسبب لها أي مشكلة على الإطلاق
قال أخيرا بهدوء :- عندما كنت طالبا في الجامعة .. ظننت بأنني قد وقعت في الحب
توترت .. لم تكن تتوقع منه أن يخبرها بهذا .. :- كان اسمها كريستينا .. وكانت فتاة رائعة الجمال .. شعر بلون الذهب .. وعينان بلون الزمرد .. مجرد سماع ضحكتها كان يذهب بعقلي ويشوش تفكيري .. كنت غارقا في حبها حتى أذني .. وكنت أعرف يقينا بأنني سأطلب يدها للزواج فور تخرجنا من الجامعة .. ومتأكد أيضا من قبولها لطلبي
قبضت أصابع جودي على الملاءة القطنية التي تغطي ساقيها .. وقلبها يحترق غيرة من تلك المرأة التي أحبها تمام وأراد الزواج منها ....ولكن ما الذي حدث ؟ لماذا لم يتزوجها ؟ أم تراه فعل
قال ببرود :- سمعتها صدفة تتحدث مع إحدى صديقاتها دون أن تفطنا إلى وجودي .. سألتها صديقتها مستنكرة إن كانت حقا ستستمر في علاقتها مع العربي الحقير الذي ترافقه .. فأجابتها بأن والد هذا العربي الحقير ثري جدا وأن الزواج منه والبقاء معه لسنوات قليلة .. ثمن رخيص للفائدة التي ستجنيها عندما تقرر إنهاء الزواج
شهقت جودي وهي تنظر إليه هاتفة بعنف :- السافلة الحقيرة
ما فاجأها أكثر .. هو ما رأته عندما نظرت إليه أخيرا .. فهذا الشاب البائس لا يمكن ان يكون تمام .. كان مايزال يرتدي ملابس السهرة بدون ربطة عنق .. وقد تجعدت حتى بدت كالأسمال .. بينما تشعث شعره .. ونمت لحيته لتساهم مع الهالات السوداء المحيطة بعينيه المرهقتين في منحها فكرة عن الوقت الذي قضاه خارجا في انتظارها .. وعن قلقه عليها
منحها ابتسامة باهتة وهو يقول :- لقد أثرت انتباهك أخيرا يا عزيزتي .. اطمئني .. لم أتزوج بها .. بل أنا لم أواجهها بما سمعت .. لقد سافرت فور تخرجي وعدت إلى الوطن .. وقد اعتراني القرف من المادية والأنانية والعنصرية التي وجدتها هناك .. حتى من ظننتهم يكنون لي المشاعر .. لم أظن أبدا بأنني سأسلم قلبي مرة أخرى لامرأة تحطمه بقدميها .. عشت السنوات السابقة أبني نفسي وأعيش حياتي ببساطة وخلو بال ... مستمتعا بقربي من عائلتي وأصدقاء يفكرون كما أفكر .. ويحلمون كما أحلم .. حتى وقعت عيناي ذات مساء على أجمل عينين رأيتهما في حياتي .. عينان عذبتان وبريئتان .. نظرتا إلي بذعر وكأنهما خافتا أن أقرأ ما فيهما من إعجاب
احمرت وجنتاها وقد تذكرت لقائهما الأول .. وضمت يديها إلى بعضهما تفركهما بارتباك .. فأكمل :- عندما أخبرتني شبه صارخة بأنك مخطوبة .. أحسست كمن تلقى صفعة قاسية على وجهه .. أردتك .. ولم أنكر مشاعري حتى لنفسي .. فكرت.. ما الذي سأخسره إن قابلتك لمرة أو مرتين ؟ فقط لأعرف إن كنت بالبراءة والأنوثة الظاهرتين عليك .. لم أرغب بأن أحبك .. ولكنني وجدت نفسي أقع في هواك بقسوة دون أن أدري .. عندما قبلتك أول مرة .. بعد أن شعرت بخطر فقدانك .. عرفت بأنني أحببتك كما لم أفعل من قبل .. وأن ما أحسسته يوما اتجاه كريستي لم يكن أكثر من انجذاب جسدي .. وانه كان ليزول فور أن أعرف أي إنسانة مادية وأنانية هي
تجرأ أخيرا .. وتناول كفها الرقيقة .. فأحس ببرودتها ورقتها .. وتمنى لو يقبلها ويحتضنها إلى قلبه كي يؤثر بصاحبتها ويستعيد حبها مجددا
قال :- تمسكك بخطيبك لم يزدني إلا إصرارا .. عرفت بأنني إن لعبت أوراقي بشكل صحيح .. إن أخبرتك بثرائي وجديتي .. لن يكون الأمر صعبا عليك .. ستتركينه بكل بساطة وتأتين إلي .. لو تعلمين كم كان الأغراء كبيرا .. ولكنني في النهاية لم أستطع أن أفعل .. أردتك أن تأتي إلي لسبب واحد فقط .. لأنك تحبينني أنا .. الشخص البسيط الذي عرفته أول مرة يعزف الجيتار أمام الناس غير عابئ إن كانت ألحانه قد نالت رضاهم .. أعرف بأن طريقتي كانت خاطئة .. وأنني لم أثق بحكمك على الأمور .. وبحبك لي .. ولكنني كنت خائفا ... جزء مني خشي أن يرى فيك شيئا من كريستي وأنت لم تساعديني في التخلص من مخاوفي .. لقد بقيت على تمسكك بخطيبك حتى بعد علمك بعدم حبك له
حرك أنامله فوق بشرتها الناعمة .. مثيرا داخلها إحساسا لذيذا بالإثارة .. قال بصوت أجش :- عندما رأيت سيارتك تصطدم بعمود النور .. ياإلهي جودي .. لقد حسبت بأنني قد فقتك إلى الأبد .. بالكاد تمكنت من إخراجك من السيارة قبل أن تشتعل .. رؤيتي لجسدك المخضب بالدماء كادت تقتلني .. رؤيتهم وهم يحملونك إلى سيارة الإسعاف .. انتظاري لوقت بدا لا نهائيا في انتظار سماع خبر عن حالك .. جودي .. هل لديك فكرة عما كان من الممكن أن يحصل لي لو أن مكروها أصابك ؟ كنت فقدت رشدي .. وكرهت حياتي بل وأنهيتها يأسا .. أنا لا شيء بدونك يا جودي .. أحبك ولن أقوى على فراقك لحظة واحدة .. فقط أخبريني بأنك قد سامحتني .. وأنك ستكونين من الآن فصاعدا جزءا ثابتا من حياتي .. بل كل حياتي
تدفقت دموعها لمرأى اليأس الكامل الذي فاضت به عيناه وهو يجثو على الأرض إلى جانب السرير .. ويدفن وجهه في راحة يدها كي تحس بدموعه
يا إلهي .. كيف تستطيع أن تبعد عن حياتها الهواء الذي تتنفسه .. الشمس التي تستمد منها الدفء .. الماء والغذاء
هل ظنت حقا بأنها ستتمكن من الحياة بدون تمام ..الرجل الذي تعشقه إلى حد الألم
بيدها الأخرى .. ربتت على رأسه .. و داعبت شعره الفوضوي وهي تقول بين دموعها .. :- أظنك ستنتظر حتى أشفى تماما قبل إعلان الخطوبة
رفع رأسه بحدة .. وقفز يجلس إلى جانبها على طرف السرير برفق حريصا على ألا يسبب لها الألم وهو يقول بلهفة :- لا حفلة خطوبة حتى الشفاء .. ولكن العالم بأسره سيعرف بحبي لك .. وأنك ستكونين زوجتي
نظرت إليه بحب وهو ينحني ليقبل جبينها .. إنها لا تصدق
أتراها تحلم .. أم أنها قد عثرت على سعادتها أخيرا مع الرجل الذي تحب ؟










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-23, 12:37   رقم المشاركة : 43
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الحادي والأربعون
كابوس لا ينتهي

فتحت اماني عينيها ببطء متكاسل ليقع بصرها فورا على هشام .. جالسا إلى جانب سريرها .. ينظر إليها باسما وهو يقول :- صباح الخير
كان يبدو بالغ الجاذبية بسرواله الرمادي الداكن وقميصه الناصع البياض ..وبذقنه الحليقة وكأنه يستعد للذهاب إلى العمل .. ردت عليه بابتسامة ناعمة وهي تقول :- صباح الخير
ثم عبست فجأة قائلة :- أهو الصباح ؟ لا .. يا إلهي .. كم ساعة نمت بالضبط ؟
سحبت نفسها لتجلس وهي تشعر بالثقل في جسدها وكأنه لم يستيقظ بدوره بعد .. قالت محتجة :- لماذا تركتني نائمة .. كان من المفترض بي أن أعود فورا إلى المستشفى بعد أن أستحم وأحزم بعض الأغراض .. أنا لا أذكر حتى متى غرقت في النوم بالضبط
قال بهدوء :- في السيارة .. في طريقنا إلى البيت .. اضطررت لحملك إلى الشقة .. حتى أنك لم تصدري حركة عندما وضعتك على السرير وبدلت ثيابك
انتبهت تلك اللحظة لقميص النوم الحريري الذي ترتديه .. فاحمر وجهها وهي ترفع الملاءة لتغطي نفسها حتى العنق وهي تهمس :- لا أصدق بأنك قد فعلت هذا
ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية مغرية وهو يقول :- ولم لا تصدقين .. أنت زوجتي .. وقد سبق ورأيت كل شيء في مناسبات مختلفة
ازداد احمرار وجهها حتى أحست بالدماء تكاد تنفر من وجنتيها وهي تقول :- لا تقل هذا .. أرجوك
أطلق ضحكة سرور عالية وهو ينهض ... وينضم إليها فوق السرير .. ويحيط كتفيها بذراعه قائلا :- تبدين مذهلة والاحمرار يلون وجنتيك .. أمازلت تشعرين بالخجل مني ؟
تمتمت بصعوبة وقربه منها يعذبها :- ما زال الوضع غريبا علي
نظر إلى ملامح وجهها الناعمة وهو يقول بصوت عميق :- ستألفينه مع الوقت
أحست وبوضوح بذلك التوتر المألوف يتصاعد بينهما .. جزء منها تمنى لو يأخذها بين ذراعيه ويقبلها .. وينسيها الدنيا وما فيها .. وجزء منها فكر بجودي .. الوحيدة في المستشفى فتمتمت :- لا أصدق بأنني تركت جودي وحدها طوال الليل
:- لم تكن وحيدة .. تطوعت سمر للحلول مكانك إذ قدرت حاجتك للنوم والراحة بعد قضاءك ما يزيد عن 48 ساعة هناك
أطل الدفء من عينيها وهي نقول :- أنا لا أستحق صديقة كسمر .. لا أرغب باستغلال كرمها أكثر .. من الأفضل ان اعود فورا إلى المستشفى
قال بحزم :- لن تذهبي إلى اي مكان حتى تتناولين وجبة إفطار كاملة .. حتى لو اضطررت لإطعامك بيدي
قالت بقلق :- ولكنني سأؤخرك عن عملك
نظر إليها بهدوء قائلا :- أتظنين حقا بانني سأفضل عملي عليك في فترة حرجة كهذه ؟
قالت بدون تردد :- على الاطلاق
ابتسم لردها السريع .. وقبل رأسها قائلا :- سأتركك قليلا لتستعدي ريثما أجهز لنا الإفطار
قالت مداعبة :- هشام عطار .. لقد أصبتني بصدمة العمر .. لم أتخيلك طاهيا بأي شكل كان
قال ساخرا :- أنا أفضل من يعد المائدة عندما ترسل أمي الافطار جاهزا من مطبخها
هزت رأسها وهي تبتسم بمرح :- لقد خيبت املي .. ظننتك زوجا متعدد المواهب
انحنى فجاة مطلا عليها وقال بصوت أثار الرجفة في جسدها :- هل تطالبينني بعرض لمواهبي يا عزيزتي ؟
التقت عيناهما .. فتسارعت انفاسها تحت تأثير تلميحه المثير .. ابتسم فجأة بغموض قائلا :- نصف ساعة فقط يا أماني .. ثم سأعود لأرى ما أخرك .. وعندها .. قد لا تتمكنين من العودة إلى المستشفى في وقت قريب
غادر الغرفة تاركا إياها تلهث .. متوردة الوجنتين .. هل يعرف كم يحمل عرضه من إغراء لها ؟
ألن تكون صدمة كبيرة له لو عاد ليجدها في انتظاره كما تركها ؟.. تحركت أخيرا منتشلة نفسها من حالة التخدير التي اجتاحتها .. وفكرت يائسة بان جودي تحتاج إليها .. وأن الوقت مازال أمامها طويلا لتركز فيه على علاقتها بهشام

أوقف هشام سيارته أمام بوابة المستشفى قائلا :- اسبقيني إلى الداخل .. وسألحق بك بعد وضع السيارة في الموقف
ترجلت من السيارة .. وسارت وهي تكاد تقفز شوقا للاطمئنان على جودي .. غير قادرة على منع البسمة من مداعبة شفتيها وهي تتذكر وجبة الافطار الممتعة التي شاركت بها هشام .. تبادلهما العفوي للحديث .. مداعباته ومزاحه معها ..هل يمكن ان تكون يوما اكثر سعادة ؟
لم تطق صبرا حتى وصول المصعد الكهربائي .. فاعتلت الدرج بسرعة حتى وصلت إلى الطابق الذي تقع فيه غرفة جودي ... وجدت سمر تقف خارجا وقد بدا عليها التوتر .. وعلا وجهها الممتلئ الشحوب فور رؤيتها لأماني التي قالت باسمة :- صباح الخير يا سمر .. آسفة لاضطرارك لقضاء الليلة بعيدا عن سريرك .. لا أعرف كيف أشكرك على ما تفعلينه معي
ألقت سمر نظرة قلقة نحو باب غرفة جودي المغلق وهي تقول :- لا مشكلة على الإطلاق .. تعرفين أهمية جودي لدي
التقطت أماني القلق في عيني سمر فقالت بحدة :- ما الأمر ؟ هل حصل مكروه لجودي ؟
أسرعت سمر تقول :- جودي بأحسن حال
استرخت حواس أماني وهي تقول :- لقد أخفتني للحظة .. ما الأمر ؟ هل تخشين أن أضبط أختي الصغرى في مشهد غرامي ساخن مع حبيب القلب ؟ لن تستطيعي منعي من إمساك زلة عليها
قبل أن تستطيع سمر منعها .. اتجهت أماني نحو الباب .. إلا أنه فتح قبل حتى أن تمسك بالمقبض لتجد أمامها آخر شخص توقعت بأن تراه مجددا
إنه صلاح
جمد وجهه الوسيم وهو يراها أمامه .. عيناه جرتا عليها وكأنه غير مصدق لوجودها على بعد بوصات منه .. أما هي .. فقد امتقع وجهها وتراجعت إلى الخلف مصدومة .. و قد أحست بثقل ضخم يجثم فوق صدرها حتى عجزت عن التقاط أنفاسها
قال بصوته الذي لم يفارق كوابيسها يوما :- صباح الخير يا أماني
ذلك الصوت .. يا إلهي .. لقد كان يردد في تلك اللحظة العبارات المهينة الواحدة تلو الأخرى داخل رأسها .. أغمضت عينيها وهي تراه في خيالها يمسك بها وهو يضحك
همست بصوت مختنق :- لا
تراجعت إلى الخلف فقال متوترا :- علينا أن نتحدث يا أماني
خرج صوتها أخيرا وهي تصرخ :- لا
استدارت تجري هاربة .. فاصطدمت بجدار بشري بدا وكأنه منحوت من الصخر .. سرعان ما احتواها بدفئه وحمايته .. انكمشت بين الذراعين القويتين وهي ترتعش .. بالكاد قادرة على الوقوف .. سمعت صوت هشام يقول بصرامة :- ما الذي تفعله هنا يا سيد صلاح ؟ غير مرحب بك في أي مكان قريب من أماني
قال صلاح ببرود :- لقد كنت أزور جودي .. وهي كما تعلم ابنة عمي والمسؤولة مني
قال هشام :- لجودي عائلة جديدة الآن تقوم بواجبها نحوها كما يجب .. وهي ليست بحاجة إليك مثلها مثل أماني
كانت يداه تضغطان على ظهرها في محاولة منه لبث الطمأنينة داخلها .. لم تعرف أماني أبدا إلى أي درجة كان مظهرهما مدمرا لصلاح .. أن يرى ابنة عمه القوية والمكافحة .. تنكمش وتحتمي برجل آخر منه .. رجل هو زوجها أمام الله وأمام المجتمع .. رغم ما عاناه خلال الأسابيع الماضية .. تمكن من أن يقول بهدوء :- أماني هي ابنة عمي أيضا .. وصلة الدم بيننا ستبقى موجودة مهما فعلت
ثم نظر إلى اماني قائلا بتوتر :- ما الأمر يا اماني .. لم أعهدك جبانة إلى هذا الحد .. ما كنت تترددين سابقا في مواجهتي بشجاعة .. ما الذي حصل الآن كي تجبني وتعجزي حتى عن الاستماع إلي ؟ ما الذي فعله بك هذا الرجل ؟
تحركت بين ذراعي هشام .. والتفتت إلى صلاح قائلة دون أن تنظر إليه :- فعل ما لم تستطع فعله أبدا يا صلاح .. لقد منحني الأمان .. وأنت لم تعد قادرا على أذيتي بعد الآن .. فإن كان لديك ما تقوله فلتقله الآن
ساد الصمت لدقائق تلاقت خلالها عيون هشام وصلاح بتحدي .. بينما نقلت سمر عيناها بين الجميع قبل أن تنسحب إلى غرفة جودي .. أماني كانت متوترة .. وترتجف من الداخل كورقة في مهب الريح .. وتريد أن تنتهي هذه المواجهة قبل أن تفقد أعصابها
قال صلاح أخيرا بتوتر :- كل ما أريده هو الاعتذار منك .. عما سببته لك خلال السنوات السابقة .. بالأخص عن تهجمي اللا إنساني في شقتك .. أعرف بانك تكرهينني .. وتتمنين ألا تقع عيناك علي مجددا .. ولكنني أحببت أن أطمئنك إلى أنني لن أزعجك بعد الآن يا أماني
نظرت إليه أخيرا قائلة باستنكار :- وهل تظنني أصدق وعودك وأعذارك يا صلاح ؟ هل تمسح كلمات واهية ما فعلته بي لسنوات أنت وأبي ؟ هل تنسيني بأنه قد فضلك علي وحرمني من حبه وعطفه حتى عندما أذاني هو نفسه ؟
شحب وجهه وهو يتذكر تلك الليلة .. عندما سقطت أماني شبه ميتة على إثر ضربة والدها .. الليالي التي قضاها أمام باب غرفتها في المستشفى دون أن يجرؤ على الدخول .. خوفا من رؤية البغض على وجهها عندما تصحو من غيبوبتها
قال بصوت باهت :- لا ألومك على كراهيتك لي يا أماني .. ولا ألتمس منك الصفح لأنني لا أستحقه .. كل ما أريده هو أن تعرفي بأنني نادم على كل ما فعلته .. وأنني لن أتعرض لك مجددا .. لن تري وجهي بعد الآن يا أماني.. قد تتقاطع طرقنا بسبب ارتباط كلينا بجودي .. ولكنني أقسم بأنني لن أؤذيك مجددا
ظهر عدم التصديق جليا في عينيها .. فنظر إلى هشام قائلا بحزم :- أعرف بأنك لن تثق بأي تعامل يتم بيني وبين أماني .. لهذا كلفت المحامي بالاتصال بك لترتيب أمر إعادتي لجميع حقوق أماني التي حرمها منها والدها .. نصيبها من الشركات .. والأموال السائلة .. نصف المنزل فهو من حقها ومن حق جودي .. أعرف بأن الوقت متأخر على قيامي بهذا .. ولكن كل ما أطلبه هو أن أبرئ ذمتى نحوك يا اماني .. وأكفر عن ذنوبي .. وفي النهاية قد تتمكنين من النظر إلي كابن عم لك مستعد للوقوف إلى جانبك عند أقل حاجة منك إليه
الصدمة أخرست أماني .. بينما استحال وجه هشام إلى قطعة من الرخام .. قال صلاح أخيرا بعد أن طال صمتهما :- وإن أذنتما لي .. سأزور جودي من حين إلى آخر .. واتصل بها لأطمئن عليها وأتأكد بأنها بخير .. قد لا تحتاج إلي بعد الآن وقد حصلت على عائلة جديدة .. ولكنني أنا من سيكون بحاجة إليها .. ففي النهاية .. هي آخر من تبقى لي من عائلتي
عندما غادر صلاح أخيرا .. ابتعدت أماني عن هشام ببطء .. وقد خيم الصمت ثقيلا بينهما ... بالكاد شعر أحدهما بالمارة من حولهما .. أو سمع النداء الذي صدح به مكبر الصوت مستدعيا احد الأطباء لسبب ما
نظر كل منهما إلى الآخر .. هي مصدومة .. عاجزة .. وهو جامد الوجه .. غامض النظرات .. نطقت أخيرا بصوت خافت :- لقد انتهى كل شيء
أومأ مؤكدا بهدوء :- هذا صحيح يا أماني .. ما عدت مضطرة للعيش في الخوف بعد الآن
نظرت إلى عينيه قائلة :- وأنت ما عدت مضطرا للإبقاء على زواجنا .. لم أعد بحاجة إلى حمايتك يا هشام .. الغرض من هذا الزواج لم يعد موجودا
ما الذي تفعله ؟ هل تطلب منه حقا أن يتركها ويرحل ؟ .. أن يطلقها ويتحرر منها ؟
تمنت لو يعترض .. أن يصيح بحدة عن سخافة ما تقول .. وأنه لن يطلقها أبدا لأنه يحبها .. ويرغب بها في حياته إلى الأبد
ولكن ما رأته هو البرود يكسو عينيه وهو يقول :- هذا صحيح
حبست أنفاسها وهي تقول :- وما الذي سنفعله الآن ؟
:- لا شيء على الإطلاق
رفرفت بعينيها وقد انتعش الأمل في قلبها .. حافظت بصعوبة على رزانة ملامحها وهي تنتظر بلهفة ما سيقوله .. ولكنه هتف بخشونة :- بالكاد مرت أسابيع على زواجنا يا أماني .. هل ترغبين في التسبب بفضيحة أخرى ؟.. زواج نورا سيتم قريبا ولن أسمح بأن يهدده أو يعكره أي شيء
شحب وجهها .. وقد صفعتها كلماته .. عجزت عن التفوه بأي حرف حتى عندما قال بصرامة :- لا أحد على الإطلاق سيعرف بموضوع الطلاق حتى يتم زفاف نورا بسلام .. وأتأكد بنفسي من نوايا ابن عمك .. وفي هذه الأثناء .. جودي ستكون بحاجة إليك .. ولن يشك أحدهم بالأمر إن اخترت البقاء معها في منزل عائلتك خلال الأسابيع القادمة
أسندت نفسها إلى الجدار كي لا تسمح لجسدها بالتخاذل فوق ساقيها المرتعشتين .. بصعوبة شديدة تمكنت من الاحتفاظ بجمود ملامحها وإخفاء الألم المميت الذي يفتك بقلبها وكيانها .. قالت بجمود :- بالتأكيد
نظر إلى ساعة يده بنفاذ صبر وهو يقول :- سأطلب من والدتي أن توضب لك بعض الأغراض التي قد تحتاجينها .. وتستطيعين العودة لاحقا لأخذ ما يلزمك بنفسك
قالت ببرود :- لا داعي لهذا .. ملابسي القديمة ما زالت موجودة هناك .. سأستخدمها إن دعت الحاجة
نظر إليها .. والتقت عيناهما طويلا .. بذلت جهدا خرافيا لتحتفظ بثباتها قبل أن يقول بلا تعبير :- بلغي جودي تحياتي
ثم استدار مغادرا .. راقبته وهو يبتعد حتى اختفى في نهاية الرواق .. في تلك اللحظة فقط .. شهقت بقوة غير قادرة على
التقاط أنفاسها .. جثت على ركبتيها وهي تشعر بالضعف في جميع أنحاء جسدها .. وألم لا يطاق في صدرها حتى أحست بالاختناق
لن تبكي .. لن تبكي .. رمشت بعينيها عدة مرات كي تجفف دموعها التي أخذت تتجمع بعناد مصرة على التمرد والعصيان
هزت رأسها بقوة وهي تهمس بإصرار :- لن أبكي .. لن أبكي .. لقد كنت أعرف بانني سأخسره يوما .. وهو لم يخدعني .. لم يوهمني بحبه ..لم يظهر أي تمسك بي
صوت جودي القادم من الغرفة منحها القوة لتنهض .. وتهرب إلى حمام السيدات الموجود في نفس الطابق .. وفور أن انفردت بنفسها بعيدا عن مسامع جودي ونظر سمر .. انهارت كل مقاومتها .. وانهارت على الأرض وهي تجهش بالبكاء كما لم تفعل من قبل .. وكأن كل تمسك لها بالقوة لم يعد ذا معنى بعد الآن
لقد خسرت هشام .. خسرت قلبها وحياتها .. ما الذي بقي لها لتحارب لأجله بعد الآن



الفصل الثاني والأربعون
لا للانتظار

أجاب تمام عن سؤال اماني بدون تركيز حقيقي :- سيصلان في صباح يوم الثلاثاء القادم
لاحظت بأن عيناه تعودان باستمرار للتركيز على السلم العريض المؤدي إلى الطابق الثاني فابتسمت قائلة :- وما رأيهما في الموضوع ؟
أجبر نفسه على النظر إلى أماني قائلا :- متحمسان للغاية للقاء جودي .. لا يصدقان بأنني قررت الاستقرار أخيرا
في تلك اللحظة .. برقت عيناه وهما تتأملان الجسد الضئيل الذي ظهر أعلى الدرج .. وأخذ ينزل ببطء شديد .. بقدم ما تزال تعرج حتى بعد مرور أسابيع على الحادث .. وذراع ملفوفة بحامل قماشي لم يخف جمال وبساطة ملابسها الأنثوية .. لاصق طبي على جانب جبينها لم يؤثر إطلاقا في جمال وجهها الجميل و المشرق من شدة السعادة .. بينما انسدل شعرها الداكن حول وجهها وفوق كتفيها بدلال
وقف ببطء وعيناه تلتهمان كل جزء منها .. قبل أن تركزا على العينين الصافيتين والمتلهفتين إليه بشوق مماثل .. قال لأماني دون أن تفارق عيناه جودي :- بالإذن منك يا شقيقة المستقبل
خلال لحظات كان قد اعتلى الدرج بقفزات قليلة حتى وصل إلى حيث تقف جودي .. وانحنى يحملها بين ذراعيه بسهولة شديدة .. أطلقت على إثرها صرخة رعب استحالت على الفور إلى ضحكة عالية وهي تقول :- تمام .. أستطيع السير وحدي
قال مداعبا :- حتى تشفى قدمك تماما .. سأحل محل ساقيك .. لن أسمح لك بالشعور بالألم مجددا
راقبتهما أماني وعلى شفتيها ابتسامة باهتة .. في حين أنزل تمام جودي فوق الأريكة وجلس إلى جوارها وهو ينظر إليها بشوق قائلا :- كيف حالك اليوم يا أميرتي ؟
توردت وجنتا جودي وهي تجيبه هامسة .. بينما وقفت أماني التي أحست بأنها متطفلة بين العاشقين وقالت :- سأعد القهوة لنا جميعا
انسحبت إلى المطبخ لتجد الخادمة قد بدأت بإعداد القهوة بالفعل .. نظرت المرأة المسنة إليها قائلة :- لم أر جودي سعيدة هكذا منذ فترة طويلة
هزت أماني رأسها قائلة :- وأنا أيضا
صبت الخادمة القهوة في الفناجين الصغيرة قائلة :- أخيرا ستجد كل منكما السعادة .. ليت والديك على قيد الحياة ليشهدا على هذا
جمدت الابتسامة على وجه أماني وهي تقول :- اتركي فنجاني هنا لو سمحت .. سأشربه في المطبخ
لم تعترض الخادمة إذ عرفت بأن أماني تحاول توفير الخلوة للخطيبين .. هذا صحيح .. تمام وجودي خطيبان رسميا الآن .. لقد فاجأها ذات نهار في المستشفى بخاتم الخطوبة الذي اشتراه خصيصا لها .. وألبسها إياه أمام عينيها الذاهلتين .. وأصر على أن يعقد القران فور وصول والديه من الولايات المتحدة
جلست أماني على المقعد الخشبي .. وأسندت مرفقيها إلى الطاولة الصغيرة وهي تخفي وجهها بين يديها .. أخيرا ستجد جودي السعادة .. ستتزوج من الرجل الذي تحب .. الرجل المناسب القادر على العناية بها ومنحها ما تستحقه من الحب والحنان .. سيتزوجان قريبا .. وسيعيشان في هذا المنزل الكبير بعد أن يشتري تمام حصة أماني فيه ليجعل منه عش الزوجية .. ومكانا مناسبا للأطفال الكثر الذين يخطط لإنجابهم .. فشقته الحالية لا تناسب مخططاته بأي شكل كان .. وهو كان يقيم فيها مؤقتا كشاب عازب .. مستمتع بالذكريات التي تملأ جدرانها إذ كانت المكان الذي تزوج فيه والداه وعاشا قبل سفرهما إلى الولايات المتحدة .. وأماني لم تتردد في الموافقة على طلبه .. خاصة وقد أوفى صلاح بعهده .. وأعاد إليها جميع حقوقها .. بالإضافة إلى التزامه بعدم التعرض لها .. اتصاله بجودي لم ينقطع .. وقد حضر لزيارتها عدة مرات .. وفي كل مرة كان يقابل فيها أماني كان يحدثها فيها بتهذيب .. متحاشيا النظر إليها .. وكأن عينيه ستكشفان خبايا قلبه إن فعل
كان يتطرق إلى مواضيع غير شخصية عن صحة جودي .. عن شؤون العمل .. حتى أنه عرض عليها بشكل عابر أن تشارك في إدارة أملاك والدها .. ولكنه أبدا لم يتطرق إلى الماضي .. كما لم يسألها يوما عن هشام .. بعكس جودي التي كانت حائرة من انقطاع زياراته .. وكانت دائما تطالب أماني بالعودة إلى بيتها .. فتجيب هي بحزم بأنها لن تغادر المنزل حتى تشفى تماما .. وأن هشام يتصل بها باستمرار .. وهو ما لم يكن كذبا
كان يتصل بها كل بضعة أيام يطمئن على وضع جودي .. ويستفسر عن احتياجاتها هي .. بهدوء وكأنه رجل غريب .. وكأنهما لم يعيشا معا لحظات حلوة وغالية لا تنسى .. هي أيضا كانت ترد بنفس الهدوء نافية حاجتها إلى أي شيء منه
السيدة لميس كانت تزورها باستمرار .. برفقة سمر .. وأحيانا برفقة نورا .. العروس السعيدة التي بدأ العد التنازلي لموعد زفافها .. كن يسألنها عن موعد عودتها إلى بيتها وزوجها .. فتمنحهن الإجابة التي لقنها إياها هشام .. جودي بحاجة إليها .. وستبقى حتى تشفى تماما
أما عندما كانت تنفرد في غرفتها ليلا .. بعيدا عن نظرات جودي الثاقبة .. فقد كانت تترك العنان لمخاوفها .. ماذا ستفعل بعد أن تشفى جودي ؟.. كيف ستطلع أختها على حقيقة علاقتها بهشام ؟ إن عرفت فستصر على بقائها في المنزل معها .. واماني لن تستطيع البقاء بعد زواج جودي .. لن تكون دخيلة في حياة أختها الجديدة ..
إذن .. تنتظرها مهمتان ضروريتان ..إيجاد مكان تقيم فيه .. وهو ما لن يكون صعبا الآن وقد استعادت حقوقها وميراثها .. تستطيع شراء شقة جميلة وصغيرة .. ستؤثثها وتجعل منها مكانا رائعا للعيش ..
أما المهمة الثانية .. فهي إيحاد عمل جديد .. لا تضطر فيه لمواجهة هشام باستمرار .. واحتمال لمزات الآخرين وتخميناتهم .. قد تؤسس عملا خاصا يريحها من تسلط المدراء وإزعاجهم
نعم .. لقد اتخذت قرارا نهائيا .. ستبدأ في تأسيس حياتها .. لن تنتظر هشام حتى يقرر الوقت المناسب لتحريرها من زواجهما .. لن تترك الألم يكويها مجددا .. لقد عاشت بدون هشام خمسة وعشرين عاما .. تستطيع بقليل من الجهد نسيان الأشهر التي عرفته فيها عن قرب .. والأسابيع التي عاشتها معه
نعم .. ليس هناك أسهل من التخطيط والكلام .. وقد عرفت أماني بأن التنفيذ أكثر صعوبة منذ يومين فقط .. إنها حامل
بالإضافة إلى العلامات المعروفة .. أكد جهاز كشف الحمل المنزلي شكوكها .. إنها تنتظر طفلا .. طفل هشام .. وهذا يغير كل شيء .. صحيح ؟
بالنسبة إليها .. كان الخبر مخيفا .. ومثيرا في الوقت ذاته .. أن تمنح الحياة لطفل من لحمها ودمها .. تحبه وتمنحه ما افتقدته في حياتها من حنان وأمان .. لهدية عظيمة
المشكلة هي أنه سيكون طفل هشام أيضا .. وهو ما لن تستطيع إخفاءه عنه او عن الناس .. سيعرف هشام عن الطفل عاجلا أم آجلا .. وسيرغب بتربيته بنفسه تحت حمايته ورعايته ..سيحرص على ألا يحرم من والده كما حصل معه هو .. حتى لو اضطره هذا لإعادتها إلى بيته .. كزوجة له وأم لطفله .. وهي لا تريده بهذه الطريقة .. تريده أن يعيدها بسبب حبه ورغبته بها .. نعم .. لقد فكرت طويلا .. وأدركت بأن هشام لابد أن يكن لها شيئا من العاطفة .. لا يمكن أن يفعل ما فعله لأجلها لو لم يكن يحبها ولو قليلا .. لقد ساعدها .. حماها وتزوج بها .. والرجل لا يتزوج بامرأة لا تعني له شيئا
وخلال زواجهما .. جمعت بينهما لحظات مميزة لا تنسى .. كل ما فيها دل على عمق مشاعره نحوها .. لمساته .. نظراته .. كلماته الدافئة .. وقوفه إلى جانبها في المستشفى
لا .. لن تترك نفسها في حيرتها .. يجب أن تعرف الحقيقة .. وإن كان هشام غير قادر على اتخاذ قرار حاسم بشأنها .. فهي سترغمه على هذا
صباح اليوم التالي .. ذهبت إلى مكتبه قرابة الساعة العاشرة .. كان قد منحها إجازة غير محدودة كي تبقى إلى جوار جودي وتهتم بها .. أما هي .. فقد شكت بأنها مجرد وسيلة ليتحاشى فيها إحراج تواجدهما في مكان واحد .. ولكنها ملت الانتظار .. وقررت بأن الوقت قد حان لتضع النقاط على الحروف
لم تكن سكرتيرته موجودة في المكتب الخارجي .. فطرقت باب مكتبه .. وانتظرت سماع صوته قبل أن تدخل وقلبها يخفق بقوة توترا لرؤيته
كان هناك .. يتحدث إلى اثنين من مدراء الأقسام لديه .. وقد ظهر عليه الانشغال التام .. قطب عندما رآها قائلا :- ما الذي تفعلينه هنا يا أماني ؟
قالت بتوتر :- آسفة للمقاطعة .. أرى بأنك مشغول .. سأنتظر في الخارج حتى تنتهي
قال بحزم عندما كادت تغادر :- انتظري
بنظرة واحدة منه .. اعتذر الرجلان وغادرا المكتب وهما يحييانها بتهذيب .. فور خروجهما .. وإغلاقهما الباب خلفهما .. نهض هشام من كرسيه الجلدي .. بينما قالت هي :- لن تكن مضطرا لانهاء اجتماعك
قال وهو يدور حول مكتبه متجها نحوها :- ما دمت قد تكبدت عناء الحضور بدلا من الاتصال .. فأقل ما استطيع فعله لك هو منحك بعض الوقت .. هل من مشكلة ؟ هل جودي بخير
:- جودي بخير .. لقد تماثلت تقريبا إلى الشفاء
أومأ برأسه وهو يتأمل وجهها الشاحب الذي حاولت إخفاء إرهاقه بالزينة دون فائدة .. ونحول جسدها الواضح رغم أناقة ملابسها المختارة بعناية .. ثم قال :- وماذا عنك ؟ تبدين مريضة .. هل تهملين نفسك مجددا يا أماني
قالت بانزعاج وقد نفذ صبرها :- هلا توقفت عن أداء دور الفارس المغوار ولو لمرة يا هشام ؟
جمد مكانه وهو ينظر إليها ببرود .. دارسا مزاجها المتوتر .. مدركا بأن عاصفة هوجاء تختبئ أسفل هذا المظهر المتماسك .. قال بهدوء :- ما الذي جاء بك يا أماني؟
أخذت نفسا عميقا ثم قالت :- لقد جئت لأقدم لك هذا ؟
مدت يدها إليه بظرف مغلق .. نظر إليه دون أن يحاول أخذه .. قال بهدوء :- ما هذا بالضبط يا أماني
قالت بعصبية :- ستعرف فور أن تفتحه
قال بصرامة :- ولماذا أفعل مادمت واقفة أمامي وتستطيعين إخباري بمحتوياته
اشتدت أصابعها فوق الظرف .. والتقت أعينهما بتحدي قوي .. لن تسمح لسلطته عليها بإضعافها .. قالت بحزم :- إنها استقالتي يا هشام
ساد الصمت في المكان ثقيلا حتى بدا لها صوت أنفاسها صاخبا ومزعجا .. لم يطرأ أي تغيير على الملامح القاسية لوجه هشام الذي قال ببرود :- فسري كلامك
قالت بحدة :- ليس هناك ما أفسره .. إنها استقالتي .. بوضوح أكثر أنا لا أرغب في العمل لديك بعد الآن
:- والسبب
كادت تفقد اعصابها لبروده الشديد .. أحست بأنه يمارس عليها إحدى حيله التي يرهب بها موظفيه عادة .. وقد كانت دائما تنجح وببراعة معها
قالت متمسكة بهدوئها :- وجدت بأن عملي لديك بعد طلاقنا لن يكون منطقيا .. سيكون مزعجا لي .. ولك .. ومثارا للأقاويل في المبنى .. ونحن لسنا بحاجة إلى المزيد من الفضائح كما سبق وأشرت لي
قال بصرامة :- أنا لم أطلقك بعد
قالت بوقاحة :- سرعان ما ستفعل .. لم يعد هناك ما يمنعك كم هذا .. خدماتك الحمائية لم تعد مطلوبة بعد الآن
لاحظت بدقة كيف تشنجت أصابعه وهو يضمها على شكل قبضتين إلى جانبيه .. تعرف بأن هشام لم يكن يوما سريع الغضب .. كان دائما صبورا ومتأنيا .. إلا أنه حين يغضب أخيرا . فهو يفقد سيطرته الأسطورية على نفسه .. وهي تشهد الآن معركة طاحنة بين غضبه الشديد منها .. وإرادته الفولاذية
قال بشيء من التوتر :- لقد سبق وأخبرتك بـأن الطلاق غير وارد قبل زواج نورا
قالت بضجر :- زواج نورا سيتم الأسبوع المقبل .. وقد سبق ووعدتك بأنني سأحضره كأي كنة صالحة .. وأكون مصدر فخر لوالدتك أمام الناس .. وبعدها سينتهي كل ما بيننا أخيرا يا هشام .. أنت ستطلقني وتبحث عن زوجة أخرى تناسبك أكثر .. وأنا سأتابع حياتي وأبنيها من الصفر
شتم بغضب وهو يقول :- هل تظنين الأمر بهذه السهولة ؟ لن أطلقك بكل بساطة وأتركك تتخبطين وحيدة في حياتك مجددا
قالت بغيظ :- أستطيع تدبر أمري
:- حقا .. وهل فكرت إلى أين ستذهبين بعد زواج جودي وشراء خطيبها لحصتك من المنزل ؟
أجفلت قائلة :- كيف عرفت بهذا ؟
قال ساخرا :- ما زلت زوجتي يا أماني .. وكل ما يخصك يخصني .. وإن أردت أن أعرف كل شيء عنك فلن يقف شيء في طريقي
اشتعلت عيناها الخضراوان غضبا وهي تقول :- هذا يجب أن يتوقف الآن يا هشام .. لن أحتاج إلى رعايتك بعد الآن ..أنا أملك ما يكفي الآن لشراء شقة لائقة .. كما أن مكاني في شركات والدي محفوظ وفي انتظاري كي أساهم في إدارتها
لم تكن تفكر حتى بالأمر قبل أن تنطق به .. ولكنها أرادته أن يتوقف عن اعتبار نفسه مسؤولا عنها .. هي لا تريد أبا جديدا .. ولا تحتاج إلى ولي أمر يرعى شؤونها .. بل تريد زوجا وشريكا .. تريد رجلا يريدها بالمقابل ليس ليحميها فقط .. بل ليحبها أيضا
لم تدرك فداحة ما قالته حتى ارتسم تعبير وحشي على وجهه وهو يهدر :- لن تعملي لدى ذلك السافل إلا على جثتي
عرفت بأنه قد قصد صلاح .. قالت بغيظ :- ذلك السافل هو ابن عمي .. وأنا لن أعمل لديه بل معه وهناك فرق .. صلاح لا يستطيع أذيتي بعد الآن يا هشام فتوقف عن القلق
شهقت عندما تجاوز المسافة بينهما فجأة .. وأمسك بذراعها بقسوة وهو يقول :- منذ متى أصبح ذلك الرجل ابن عم بالنسبة لك ؟ لطالما كان الرجل الذي تكرهين .. الأن هو ابن عمك .. وغدا تعملين معه وترينه باستمرار .. ألم تفكري بأنها إحدى خططه الوسخة للحصول على ما لم يحصل عليه بالقوة ؟
حاولت أن تجذب ذراعها من بين أصابعه القاسية دون فائدة وهي تقول :- أنا لست غبية إلى حد الوقوع في إحدى خططه الفاشلة .. لن أثق بصلاح ولو بعد مليون سنة .. ولكنني أيضا لن أكون بحاجة إلى حمايتك أنت
قال من بين أسنانه :- لن أسمح له بالانفراد بك .. هل تسمعين ؟ لن تتمكني من مواجهته إن حاصرك مجددا .. وهذه المرة لن أكون موجودا لحمايتك منه
حررت ذراعها أخيرا من قبضته .. وزمت قمها الجميل وهي تقول متهكمة :- ما الذي تقوله الآن يا هشام ؟ هل أنت مستعد للبقاء متزوجا بي إلى الأبد فقط لتحميني من صلاح .. إن كان هذا ما تقصده .. فأنا آسفة .. لن أسجن نفسي في زواج فاشل كهذا فقط كي ترضي غريزتك الأبوية
دلكت ذراعها حيث كانت أصابعه وهي تقول متجاهلة علامات الغضب المرتسمة عليه :- سأكون موجودة ليلة زفاف نورا .. سيوصلنا تمام أنا وجودي فلا تزعج نفسك بعرض خدماتك .. وبعدها .. سيكون لنا حديث جدي آخر
خرجت بهدوء مغلقة الباب خلفها .. لتسمح لدموعها بأن تطل أخيرا من عينيها متجاوزة قناع القسوة الذي قابلت به هشام
همست لنفسها بضعف :- أنا آسفة يا هشام .. إن لم تكن لي بالطريقة التي أحتاج إليها .. فأنا لا أريدك على الإطلاق




الفصل الثالث والأربعون
سيدتي أنا

زفاف نورا كان مختلفا عن زفاف اماني .. فعائلة العريس الشديدة التحفظ أصرت على إقامة حفلين منفصلين .. أحدهما للنساء والآخر للرجال .. وقد ناسب هذا أماني إذ شجعها على ارتداء فستان سهرة رائع الجمال لا يتجاوز طوله الركبتين .. أبرز لونه الأسود جمال بشرتها البيضاء الناعمة .. ومنح جمالها ذلك الغموض الذي لطالما ميزه
اما جودي وبفستانها المشرق والمتعدد الالوان .. عكست مزاجها السعيد والمتفائل .. وبدت مدهشة خاصة في عيني تمام الذي ذهل لرؤيتها أثناء انتظاره لهما في الصالة
ارتدت أماني معطفا طويلا يخفي فستانها القصير .. ونظرت إلى نفسها في المرآة وهي تتمتم :- إنه آخر ظهور لك في المجتمع كزوجة هشام يا أماني .. تألقي ما استطعت .. كوني في نظر الناس المرأة المثالية لرجل كهشام .. إن لم أستطع رؤية هذا في عينيه فلأره في أعين الآخرين
انضمت إلى جودي وتمام في السيارة .. ثم اتجهوا جميعا إلى الفندق حيث يقام الزفاف
نورا .. السمراء الرائعة .. كانت تتألق بفستانها الأبيض الثمين .. السعادة كانت واضحة في العينين الشبيهتين بعيني هشام ..بينما قامت أماني بدور المضيفة إلى جوار حماتها .. ولفتت جميع الأنظار بجمالها .. ورقيها الفطري الموروث
..لاحظت بدقة إشارات النساء نحوها أينما تحركت .. هي ليست بحاجة لمن يخبرها بما يثرثرون به عنها .. فحكايتها القديمة مع والدها ما زالت شيقة رغم مرور وقت طويل عليها ..
انتهى الحفل بدخول العريس إلى صالة النساء في وقت متأخر .. وأخذه لعروسه بين الزغاريد وتحت بتلات الورود المنثورة فوق رأسيهما .. ثم بدأ المدعوون في العودة إلى منازلهم هانئين مطمئنين .. باستثناء أماني التي مازالت حائرة وقلقة نحو المستقبل
حماتها الباكية لوداع صغيرتها بدت منهارة .. فاصطحبتها سمر للمبيت في شقتها كي لا تعود إلى المنزل الخالي وتتذكر غياب أصغر أولادها
غادرت أماني صالة الاحتفال برفقة جودي التي لم تتوقف عن الثرثرة حتى رأت تمام في انتظارهما أمام سيارته الفارهة .. لوحت له وهي تنبه أماني لوجوده .. دون أن تدرك بان عيني شقيقتها كانتا معلقتين بالجسد الطويل لزوجها .. الذي انهمك في وداع ضيوفه أمام بوابة الفندق .. تتأملان رجولته الكاملة بملابس السهرة
بدا مرهقا رغم الابتسامة الدبلوماسية التي ارتسمت على شفتيه .. والتي اختفت فور التقاء نظراتهما ليحل محلها البرود الشديد وهو يعتذر من الرجال المحيطين به .. ويشق طريقه نحوها
شحب وجهها وهي تجر شقيقتها جرا نحو سيارة تمام قائلة بتوتر :- من الأفضل أن نعود إلى البيت .. فأنا متعبة
وقبل أن تعبر جودي عن حيرتها .. أمسكت يد قاسية بذراع أماني وانتزعتها من حماية أختها .. وأبعدتها عن سيارة تمام بينما دوى صوت هشام يقول بنعومة :- لم لا أوصلك أنا يا حبيبتي
قالت وهي ترتجف لإحساسها بجسده القريب منها بينما تضغط أصابعه على ذراعها محذرة :- لا داعي بأن تتعب نفسك .. سيوصلنا تمام .. لديك ما يكفي من المشاغل
نظر إلى تمام وحياه بسرعة .. ثم قال لها بلهجة مبطنة :- أنا متأكد بأن تمام وجودي لن يمانعا العودة وحدهما
نظرت جودي إلى أماني بقلق .. لقد خمنت منذ فترة بأن علاقة أختها مع زوجها ليست على ما يرام .. ورغم استجوابها الدائم لأماني .. فإن الأخيرة كانت تصمد دائما نافية وجود أي مشاكل بينها وبين زوجها
و الآن .. وهي ترى الذعر في عيني شقيقتها .. والغضب البارد في وجه صهرها .. تجهل إن كان عليها التدخل أم لا
إلا أن تمام هو من حسم الأمر قائلا :- لنذهب يا جودي .. سأوصلك قبل أن يتأخر الوقت أكثر
من الواضح أن بصيرة تمام كانت أكثر عمقا من بصيرة خطيبته .. لقد أدرك حاجة الزوجين إلى الكلام. فأماني التي كان يراها خلال الأسابيع السابقة .. مختلفة تماما عن تلك التي قابلها أول مرة .. والتي بالكاد كانت قادرة على الابتعاد عن زوجها ..
بنظرة واحدة منه .. أذعنت جودي وهي تعتلي المقعد الأمامي .. بينما تبادل هو نظرة تفهم رجولية مع هشام الذي سحب زوجته المتمردة نحو سيارته السوداء
راقبت أماني بيأس من فوق كتفها سيارة تمام تبتعد .. ثم استسلمت لقدرها عندما فتح لها هشام باب المقعد الأمامي آمرا :- ادخلي إلى السيارة
رمقته بنظرة غاضبة لم تهز منه شعرة واحدة .. ثم نفذت أمره متأففة .. بينما دار هو حول السيارة .. وجلس خلف المقود قائلا بغلظة :- ضعي حزام الأمان
نفذت أمره وهي تقول بلهجة لاذعة :- ما ينقص الآن هو أن أناديك بسيدي كي يكتمل سيناريو السيد والأمة الذي تمثله
قال بخشونة :- اصمتي يا أماني .. من الأفضل لك بأن تصمتي وإلا دفعت ثمن تصرفاتك الطفولية .. والآن حالا
أطبقت فمها بغضب .. وعقدت ساعديها أمام صدرها بتمرد وهي تراقبه يقود السيارة بأعصاب باردة .. متناقضة تماما مع المشاعر العاصفة في عينيه..
قالت بعد دقائق وهي تنظر من النافذة :- هذا ليس طريق البيت
قال بحزم :- بل هذا هو بالضبط طريق البيت .. بيت زوجك أن كنت قد نسيت بأنك ما زلت متزوجة
قالت بتوتر :- هل تختطفني يا هشام ؟.. أنا لا أريد الذهاب إلى ذلك المكان مجددا
اشتدت أصابعه حول المقود وهو يقول كاتما غيظه :- سنذهب إلى هناك يا اماني .. وسنحظى بالخصوصية التامة دون أن يقاطعنا أحد .. أم تراك نسيت الحديث الجدي العالق بيننا ؟
تذكرت بالتأكيد الطريقة التي غادرت فيها مكتبه بعد أن أثارت غضبه كما لم تفعل من قبل .. حسنا .. في النهاية يجب أن يتحدثا .. ويضعا النقاط على الحروف ليحددا مسار علاقتهما
ترى .. هل سينطق هشام بتلك الكلمة أخيرا .. هل سيطلقها ويخرج من حياتها إلى الأبد ؟
خلال لحظة .. كانت روحها القتالية قد خمدت .. وحل محلها الألم والمرارة .. ألم تكن هي من اقتحم مكتبه وعجل المحتوم ؟ .. كل ما أرادته هو دفعه لاتخاذ القرار النهائي .. مع علمها بأن رجلا مثل هشام ليس من النوع المتردد .. فهو إن أراد شيئا .. سعى نحوه دون مواربة .. وإن لم يرده .. فسيقولها مباشرة
أهذا ما يخطط له .. أن يخبرها مباشرة بأنه سيطلقها ويحررها أخيرا ؟
دخلت السيارة عبر البوابة المفتوحة .. فترجلت منها فور أن أوقفها أمام الفيلا.. سارت أمامه قبل أن يلمسها نحو المصعد الكهربائي .. حيث احتواهما بمساحته الضيقة المشحونة بالذبذبات الصادرة عنهما معا
تحاشى هشام النظر إليها حتى فتح المصعد .. هذه المرة .. أصر على أن يمسك بمرفقها ويدخلها بنفسه إلى شقتهما .. تحررت منه فور أن توسطا الصالة الواسعة .. رفضت النظر حولها وتذكر الأيام التي عاشتها هنا .. استدارت إليه قائلة بهدوء :- حسنا يا هشام ... ها قد انفردنا أخيرا .. وتستطيع أن تقولها لي بعيدا عن الشهود .. كلمة الطلاق سهلة للغاية ولن تكلفك الكثير من الجهد
ارتسم ذلك التعبير الصارم في وجهه وهو يقول ببرود :- أنا لن أطلقك يا أماني
استغرقت لحظات لتستوعب ما قاله قبل أن تقول بارتباك :- لماذا ؟
:- لم يحن الوقت لذلك بعد
ما الذي ظنته حقا ؟ أن يعترف بحبها وتمسكه بها ؟ استشاطت غيظا وهي تقول :- لست أنت من يحدد الوقت المناسب لطلاقنا يا هشام .. لقد اتفقنا منذ البداية على أن تطلقني فور أن أطلب منك الطلاق
حل ربطة عنقه وسحبها من حول رقبته وهو يقول ببرود :- لقد قلت وبوضوح بأنك حرة في طلب الطلاق متى شئت .. ولكنني لم أقل أبدا بأنني سأطلقك
اضطربت انفاسها وهي تراقبه يحل أزرار قميصه بنزق وكأنه يشعر بالاختناق .. بينما كانت هي مرتبكة الأحاسيس تسأله :- ولكن لماذا ترفض أن تطلقني ؟ ما الداعي للاستمرار في زواج لم يعد لأحدا أي فائدة منه ؟
أحنى رأسه قليلا وهو ينظر إليها قائلا بلهجة ناعمة :- إذن .. فقد انتفت حاجتك إلي يا أماني .. وما عدت بحاجة إلى خدماتي كحارس شخصي .. أليس كذلك ؟
قالت بعصبية وهي تتراجع إلى الخلف :- أنا لم أقل هذا
:- ولكنك عنيته بتلهفك للانفصال عني فور تأكدك من سلامة نية ابن عمك .. أليس هذا صحيحا ؟
قالت بحدة وهي تلاحظ كيف تغيرت لهجته .. وتبطنت بالتهديد المستتر :- لا تلعب دور الضحية يا هشام .. لقد كان الهدف من زواجنا هو حمايتي من صلاح .. ولكنك لم تخرج من هذا الزواج خالي الوفاض .. لقد أسكت والدتك التي تركض وراءك منذ سنوات متلهفة لزواجك .. بينما كنت أنت رافضا لمنح نفسك لأي امرأة وكأن استسلامك وجه من وجوه الضعف الذي تكرهه .. ترفض أن تشعر بالحب نحو امرأة تستغل مشاعرك وتذلك كما أذل أمك حبها لأبيك .. تخاف أن تجد نفسك في موقع تستجدي فيه العطف كما كنت وأنت طفل صغير في العاشرة من عمره
أصابته كلماتها في الصميم .. وكأن خنجرا مسموما غرز في صدره .. فقطع المسافة بينهما ممسكا لذراعها بقوة وهو يجذبها إليه .. ويزمجر بغضب :- أيتها ال....
لم ينطق بالشتيمة .. ولكنها فهمتها .. كالعادة عندما تجد أماني نفسها عاجزة ومحاصرة .. تفقد السيطرة على لسانها .. وهذه المرة .. أنساها يأسها وألمها الخوف و الحذر .. فهتفت به ببغض :- هيا قلها .. لماذا لم تفعل ؟.. ولتضربني أيضا إن استطعت .. ولكنك لن تؤذي دجاجتك التي تبيض ذهبا .. لقد وجدت امرأة تستمتع بمعاشرتها دون أن تكون مضطرا لأن تحبها .. فلماذا تتخلى عنها ما دامت تمنحك ما تحتاج إليه
هالته بشاعة كلماتها فهزها بعنف وهو يصرخ بها :- اخرسي
تحرر شعرها من عقاله تحت تأثير عنفه .. وتطاير في جميع الاتجاهات ليعود فيستقر ثائرا حول وجهها المتورد بفعل الغضب ليمنحها جمالا وحشيا هز كيانه .. تدفقت دموع القهر من عينيها وهي تقول صارخة :- ما الأمر يا هشام ؟ هل تخيفك الحقيقة .. أم أنها تقرفك كما تقرفني ... ربما أكون قد استغليتك لتحميني من صلاح .. ولكن استغلالك لي لم يكن أكثر بشاعة .. ما الأمر ؟ .. ألا تظن بأنك قد حصلت على ما يكفي ثمنا لخدماتك .. هل تريد المزيد يا هشام ؟
أسقطت معطفها عن كتفيها على الأرض .. لتتيح له النظر إلى جسدها المغطى بالفستان الرقيق .. تراجع مرتجفا وهو يشيح ببصره عنها .. وقد انحنى كتفاه وكأن ثقلا كبيرا يجثم فوقهما
أغمضت عينيها بقوة للحظات .. وكتمت أنفاسها كي لا يعلو نشيجها .. لا يمكن للحقيقة أن تكون أكثر وضوحا .. إنه حتى لم ينفي صحة كلماتها .. انحنت تلتقط معطفها .. ثم اتجهت نحو الباب بساقين ثقيلتين .. لم تعرف إلى أين ستذهب في هذا الوقت المتأخر .. ولكنها أرادت فقط أن تبتعد عنه .. أن تبكي دون أن يشهد هزيمتها
وقبل أن تعبر نصف الصالة .. أمسكت يده الخشنة بكتفها .. وأدارتها نحوه .. وسرعان ما وجدت نفسها بين ذراعيه .. قاومته بشراسة وهي تصرخ به :- ما الذي تفعله .. ما الذي تريده مني ؟
ارتفعت قدماها عن الأرض .. في اللحظة التي كتم فيها صراخها بفمه ... قبلها بعنف وقسوة كما لم يفعل من قبل .. شيئا فشيئا كانت مقاومتها تختفي .. وشوقها إليه يعود إلى الحياة مجددا .. ذراعيها التفتا حول عنقه وهو يحملها إلى غرفة النوم .. وكأنه يحاول إبقائها بالطريقة الوحيدة التي لم يستعملها معها .. لقائهما اتسم بالعنف واليأس .. كل منهما كان يظهر للآخر مشاعره بالفعل بعد أن عجز عن استخدام القول .. دموع أماني سالت أنهارا وهي تضمه إليها وتمنحه حبها الكامل .. لم تفكر على الإطلاق في مغبة استسلامها هذه المرة .. لقد أحبته إلى حد الجنون .. وأرادته إلى حد الألم .. وكل ما رغبت به في تلك اللحظات هو أن تنعم بقربه كما لو أنها لن تفعل بعد الآن
لم تكن قد استعادت أنفاسها بعد ..عندما أحست به يبتعد عنها .. فتحت عينيها لتراه ذاهلة وهو يرتدي ملابسه .. فسألته باضطراب :- ما الذي تفعله ؟
نظر إليها من علو.. فحبست أنفاسها لما قرأته على ملامح وجهه المظلمة .. قال ببرود :- أرتدي ملابسي وأتركك في حالك يا عزيزتي .. أعتقد بأننا قد تساوينا الآن .. وأنا قد أخذت ثمنا عادلا لخدماتي لك .. وتستطيعين من الآن فصاعدا الذهاب حيث تشائين .. أنت حرة يا عزيزتي .. ولن أعيقك مجددا
غادر الغرفة دون أن يمنحها نظرة أخرى .. أو حتى الفرصة لتصحو من صدمتها .. سمعت صوت باب الشقة يصفق بعنف .. فجلست فوق السرير الذي شهد لتوه إعصار حبهما .. ونظرت حولها كالمجنونة قبل أن تطلق ضحكة هستيرية سرعان ما استحالت إلى بكاء مرير .. دفنت وجهها في الوسادة التي مازالت تعبق برائحته وأخذت تنشج بقوة لفترة طويلة لم تحسبها .. في النهاية .. وعندما بدأت تشعر بنفسها على وشك أن تموت تعبا وإرهاقا توقفت عن البكاء .. ولكنها لم تستطع أن تنام .. وكيف تنام في شقة رجل طردها لتوه من حياته .. سحبت نفسها من السرير .. ودخلت إلى الحمام .. وقفت تحت المياه الساخنة لساعات وهي ترفض حتى أن تفكر بما فعلته بنفسها .. هي لم تخطئ .. لقد أحبت زوجها ومنحته قلبها وجسدها .. وهو بكل بساطة خذلها ونبذها وكأن شيئا لم يكن
أوقفت شلال المياه .. ولفت نفسها بروب الحمام الطويل .. ستشرق الشمس بعد دقائق .. من الأفضل لها أن تجهز نفسها وتحزم بعض أغراضها وتخرج من هذا المكان قبل عودة هشام .. فهي لا تستطيع مواجهته مجددا .. بل هي ترفض أن تراه مجددا .. ستغادر الشقة وتبتعد أميالا عن كل ما يتعلق به .. وعندها .. ستتخذ قراراتها بهدوء وروية .. وتتذكر بأنها تحمل طفلا في أحشائها .. طفلا تقع على عاتقها مسؤولية توفير حياة آمنة ومريحة له ..حياة خالية من التعقيدات ..
بينما كانت تمشط شعرها أمام المرآة .. سمعت صوتا مكتوما من الصالة .. فسقط المشط من يدها وقد اعتراها الذعر .. أهو هشام ؟ هل عاد قبل أن يتيح لها فرصة الرحيل بكرامتها
انتظرت أن يقتحم عليها الغرفة .. إلا أنه لم يفعل .. وبعد دقائق حدثت نفسها بأنها إنما كانت تتوهم ذلك الصوت .. ورغم هذا .. سارت إلى الصالة لتتأكد بنفسها .. لتجد هشام هناك .. جالسا فوق الأريكة محنيا رأسه إلى الأسفل وقد احتضنه بيديه ..
أحس بوجودها فرفع رأسه إليها ... أذهلها ما رأته من إرهاق وتعاسة في وجهه وعينيه الحمراوين .. وبدلا من أن يبادرها بأي من الكلمات المهينة التي توقعتها .. التزم بالصمت .. وهو ينظر إليها بلا أي تعبير .. فتمتمت بخفوت :- لم أتوقع عودتك قريبا .. وإلا ما كنت وجدتني هنا
صمت للحظات طويلة قبل أن يقول بهدوء :- أعرف .. ولهذا بالضبط .. أنا لم أغادر الشقة على الإطلاق
ماذا ؟ .. وماذا عن صوت انصفاق الباب ..؟ هل كان موجودا هنا طوال الوقت ؟ هل استمع إليها وهي تبكي كالمجنونة ألما على فراقه ؟
شحب وجهها وضاقت أنفاسها حتى أحست بأنها ستفقد الوعي .. ولكن صوته أعاد لها التركيز وهو يقول :- لقد كنت على وشك الرجيل .. ولكنني لم أستطع .. عرفت بأنني ما أن أتجاوز عتبة هذا الباب حتى أفقد أي حق لي بالعودة
عرفت بأنه لم يقصد العودة إلى الشقة .. فنظرت إليه بذهول تنتظر منه أن يكمل ما بقول
هز رأسه وهو يقول :- جلست هنا لساعات .. أستمع إلى بكاءك .. غير قادر على الدخول إليك ومواساتك .. وكيف أفعل وأنا لا انفك أبعدك عني ببرودي وكبريائي السخيفين
نهض واقفا فشهقت بخفوت عندما استعادت كل ذكرى حميمة جمعت بينهما .. نظر إليها بتعاسة صدمتها وهو يقول بصوت أجش :- لقد كنت محقة يا أماني .. محقة في كل كلمة قلتها عني .. أنا فعلا أكثر رجال الأرض جبنا عندما يتعلق الأمر بالعاطفة .. رأيت أمي لسنوات تعاني من حب رجل لم يبادلها الحب بمثله .. لن تعرفي أبدا صعوبة أن تتعذبي في حب انسان لا يعيرك أي أهمية .. لم أسامح والدتي يوما على ضعفها هذا .. وأقسمت يوما على ألا أسمح لنفسي بأن أصل إلى هذا المستوى من الضعف و التخاذل .. في الواقع .. لم أشعر بهذا النوع من التهديد أبدا حتى قابلتك يا أماني
أغمضت عينيها وهي تتوسل إليه سرا ألا يقول شيئا .. لن تستطيع تحمل المزيد .. ولكنه قال :- لقد كنت مخطئة في شيء واحد فقط يا أماني ... وهو أنك ما كنت أبدا بالنسبة إلي مجرد امرأة أعاشرها دون أن أحبها .. لقد كنت دائما وابدا المرأة التي لم أحبب يوما كما أحببتها
تدفقت الدموع من عينيها غزيرة وهي تهمس :- توقف أرجوك .. لا تقل شيئا لا تعنيه .. لا تكن نبيلا إلى هذا الحد لأنك سمعتني أبكي فحسب.. بكائي لا يعني شيئا ..
قال بتوتر :- وقد يعني كل شيء .. كل ما أردته يا أماني ان أشعر منك بشيء من العاطفة .. شيء مختلف عن الخوف والتوتر الذي وصم علاقتنا في بدايتها .. والألفة والامتنان بعد زواجنا .. لم أعرف إن كنت سأجرؤ يوما على الإفصاح عن شعوري نحوك لأنني كنت قد قررت منذ خمس سنوات بأن أدفن كل ما أحمله من عاطفة اتجاهك وألا أظهره مهما كلفني الأمر
منذ خمس سنوات .. خمس سنوات طويلة .. منذ بدأت في العمل لديه .. أحست بالدوار وكادت تفقد توازنها لو لم ترتكز إلى إطار باب غرفة النوم الذي لم تجرؤ بعد على تجاوزه
لاحظ شحوب وجهها .. وصدمتها القوية .. ولكنه تابع قوله بصوته الجامد :- نعم يا أماني .. منذ خمس سنوات دخلت إلى مكتبي فتاة صغيرة .. رائعة الجمال .. إلا أنها كانت بقوة عشرة رجال .. لم تسمح لأحد باختراق حصونها والاقتراب منها مما أثار فضولي بداية .. ثم إعجابي بعد ذلك .. ليتطور مع معرفتي بك عن قرب إلى مرض لعين لم أستطع منه فكاكا
ألم تفكري حقا بالسبب الحقيقي الذي دفعني لعرض الزواج عليك ؟
تمتمت بصوت مختنق :- لقد أردت .. لقد أردت حمايتي من صلاح
:- لقد كان هذا أحد أسبابي .. لقد عجل هجوم صلاح ما كنت أخطط له منذ فترة .. كنت أهدف إلى كسب ثقتك أولا .. ثم حبك ثانية .. وبعدها أعرض عليك الزواج كأي رجل تقليدي .. ولكن خططي تغيرت مع تغير الظروف .. وفكرت بأنني سأسعى لكسب حبك مستعينا بألفة الزواج .. لم أفكر أبدا بانك لن تنظري إلي يوما إلا كوسيلة للخلاص من صلاح
اقترب منها وهو يقول :- ذلك اليوم في المستشفى .. عندما رفع عنك صلاح تهديده الدائم .. نظرت إلي بكل بساطة وتحدثت عن الطلاق .. هل تتخيلين كيف أحسست في تلك اللحظة ؟ .. عرفت بأن الوقت قد داهمني .. وأنك رغم كل شيء تريدين الطلاق .. فكرت بأنني في النهاية لم أترك لك خيارا عندما فرضت عليك الزواج .. وأنك تحتاجين إلى بعض الوقت فقط لتدركي بأنك أحببت العيش معي ولو قليلا .. وأنك لا تمانعين إن أكملت حياتك معي .. وفي الوقت المناسب ... ربما بعد أن تتزوج جودي .. سأجد كل الوقت لأهجم مجددا .. بطريقة مختلفة هذه المرة .. حتى اقتحمت علي المكتب ذلك النهار مطالبة إياي بالطلاق ..
أغمضت أماني عينيها غير قادرة على رؤية النظرة البائسة في عينيه .. ضم قبضتيه وهو يقول بانفعال :- رغبت بضربك وأنت تقدمين استقالتك بكل برود .. بل وتتكلمين عن العمل مع ذلك الحيوان .. أنا لا أهتم لو أنه أعاد إليك حقوقك أو حتى تنازل لك عن حقوقه هو .. ما كنت لأسمح له بالاقتراب منك إلا على جثتي ..
أمسك بذراعيها .. وهزها برفق ليجبرها على النظر إليه قائلا :- انظري إلي يا أماني
شهقت وهي تبعد وجهها عنه فكرر بيأس هذه المرة :- انظري إلي .. أرجوك
فتحت عينيها أخيرا لتنظر إلى وجهه الذي فقد لونه .. كان البؤس مرتسما على كل ملامحه وهو ينظر إلى تقاطيع وجهها بشغف .. قال بصوت أجش :- أحبك يا أماني .. أحبك كما لم أفعل من قبل .. وقد ظننت نفسي عاجزا عن حب أي انسان غير أفراد عائلتي .. كلماتك القاسية هنا قبل ساعات مستني في الصميم لمدى صحتها .. لم أدرك إلى ـأي حد أنا ضعيف وعاجز حتى واجهتني أنت بهذه الحقيقة .. الضعف الحقيقي هو أن أعجز عن الاعتراف بحبي للمرأة التي أحب أكثر من أي شيء آخر .. الضعف هو أن أراها ترحل وأعجز عن إيقافها بكلمة ..
لمس وجنتها بيده متحسسا نعومة بشرتها التي بللتها الدموع .. ومنع نفسه بصعوبة من أن يضمها إليه .. ليس قبل أن يضع النقاط على الحروف .. ليس قبل أن يبسط أوراقه أمامها بكل وضوح .. لن يكون هناك التباس هذه المرة .. ستكون الحقيقة .. والحقيقة فقط ما يجمع بينهما
قال بصوت خشن :- رأيتك تسيرين نحو الباب فلم أفكر إلا بأنني يجب أن أمنعك من الخروج .. وعندما لمستك .. لم أستطع حتى أن أمنع نفسي من تقبيلك مجددا .. من الإحساس بجسدك .. بدفئك وبحبك .. وتجاوبك لم يساعدني حتى على المقاومة .. أدركت بعدها فداحة ما فعلت .. إذ أنني أسرق منك خياراتك مجددا .. لقد فرضت نفسي عليك من جديد بلا مراعاة لمشاعرك .. كلماتي الجارحة لم تبد لي كذلك وقتها .. كنت وكأنني أحاول محو ما حصل وكأنه لم يحدث قط .. ثم عرفت .. عرفت بأنني أخسرك مجددا .. وللابد هذه المرة .. سماعك تبكين وحدك جعلني أفكر بأنك ما كنت لتجرحي بهذا الشكل لو لم أكن أعني لك الكثير .. بل أنك ما كنت استسلمت لي ومنحتني تلك العاطفة الجياشة لو لم أحتل مكانا في قلبك .. أنت أماني النجار .. سيدة الجليد التي لا تهزها الرياح .. لن تسمحي لي أبدا باختراق حصونك لو لم تحبيني كما أحبك بالضبط
احمر وجهها وهي تشيح بوجهها بعيدا .. فأمسك بذقنها .. ورفع وجهها إليه .. نظر إلى عينيها الخضراوين الغارقتين في العاطفة .. ثم قال هامسا :- إن كنت مخطئا في تحليلي لمشاعرك ... قوليها لي فقط .. ولن أزعجك أبدا بعد الآن ..
عادت دموعها تتدفق على وجنتيها وهي تهمس :- أنت تعرف بأنني أحبك .. لربما كنت في معظم الأحيان موظفة سليطة اللسان .. وزوجة متمردة ومزعجة .. إلا أنك أنت من كان يحتل قلبي دائما .. حتى قبل أن أعرف بأنني أحبك .. لطالما كنت أنت .
نظر إلى وجهها المتورد غير مصدق ..ثم طبع على شفتيها قبلة قوية وهو يقول :- يا إلهي .. هل تقولين الحقيقة ؟ أتحبينني حقا ؟
هزت رأسها متمتمة :- . كل عنادي وتمردي وإصراري على الطلاق كان رغبة في اكتشاف مدى تمسكك بي .. أردتك زوجا وحبيبا .. وليس حاميا متذمرا من مسؤولية رميت فوق أكتافه بلا إنذار .. كلماتي القاسية لم أعنيها حقا .. لقد كنت غاضبة لأنني ظننتك عاجزا عن حبي كما أحبك بالضبط
أمسك وجهها بين يديه قائلا :- أنا لست آسفا لأنك قلتها .. لقد أيقظتني كلماتك من غفلتي .. حررتني من غيبوبة دامت لسنوات .. أنت بين يدي الآن .. حبيبتي ولي وحدي .. ولن أسمح للحظة أن تمر بعد الآن دون أن أعبر لك فيها عن حبي
قبلها بشغف كاد ينسيها الأخبار التي ما زال يجهلها .. ثم فكرت بأن معرفته بحملها .. ستسبب له صدمة كبيرة خاصة بعد الطريقة القاسية التي عاملها بها قبل ساعات .. قد تؤجل اطلاعه على الأخبار حتى صباح الغد .. أو ربما الصباح الذي يليه .. ستحظى به لنفسها لساعات طويلة قبل أن تسمح لطفلهما بان يكون جزءا من حياتهما
تمتمت بين قبلاته :- هل كنت حقا سترحل لو لم تسمع بكائي ؟
هز رأسه قائلا :- ما كنت لأستطيع الرحيل .. عرفت بانني إن غادرت الشقة .. فإنني لن أجدك عندما أعود .. ستختفين من حياتي وتتركينها باردة .. وخاوية كما كانت قبل أن أعرفك
تمتمت :- كما حدث في قصة سيدة الشتاء
نظر إلى عينيها وهو يبثها حبه الخالص بنظراته الحانية قائلا :- أنت ما كنت يوما سيدة للشتاء ..
لقد كنت دائما بالنسبة إلي سيدة كل الفصول
أنت سيدتي أنا




* * * * * * * * * * *
تمت بحمد لله

{[ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ - إلهي لكـ الحمد والشكر نستغفركـ ياعفو ياغفور ))










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-23, 12:39   رقم المشاركة : 44
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

السلام عليكم

انتهت الروايه

وأتمنى أن تنال أعجابكم <3










رد مع اقتباس
قديم 2015-06-27, 16:25   رقم المشاركة : 45
معلومات العضو
ithran sara
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية ithran sara
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة MAHA ISLAM AHMAD مشاهدة المشاركة
الفصل الخامس
بلا قلب

كانت أماني مستغرقة تماما في عملها عندما ارتفع رنين الهاتف الداخلي .. رفعت السماعة لتسمع صوت (سحر) .. سكرتيرة المدير يقول :- ماذا دهاك ؟ أنا أحاول الاتصال بك منذ دقائق
اشتمت أماني رائحة المشاكل .. فزفرت قائلة :- لقد عدت منذ دقائق من استراحة الغداء ثم انهمكت في العمل ولم أسمع صوت الهاتف .. مالأمر ؟ هل يطلبني الكونت في مكتبه ؟
كانت قد أطلقت عليه منذ عام لقب الكونت كدلالة على تعجرفه واستبداده .. وقد أعجب اللقب باقي الموظفين ودفعهم لاستعماله بحرص فيما بينهم كي لا يصل الأمر الى المدير
قالت سحر بتوتر :- الكونت غاضب لتأخرك .. لذا أنصحك بترك ما في يدك والقدوم الى هنا فورا بكامل أسلحتك .. في حال قرر أن يلتهمك كتحلية بعد الغداء
أنهت أماني المكالمة .. وتنهدت بسأم .. لا مزاج لديها اليوم للشجار معه .. ولكن إن كان مصرا فهي مستعدة له دائما
تناولت بعض الأوراق التي طلبت منها سحر إحضارها معها .. وتأكدت من حسن مظهرها وأناقتها قبل أن تغادر مكتبها
وقبل أن تدخل إلى مكتب المدير .. أخذت سحر تلقي عليها عشرات التعليمات ( أرجوك .. كوني مهذبة – لا تغضبيه هذه المرة – فقط استمعي إلى ما يقوله و ........)
كان خوف سحر منه طبيعيا كأي موظف آخر في الشركة من المدير الصارم الذي أسس ثروته من لا شيء .. وفقا للقليل الذي أخبرتها به خالته سمر عنه .. فإنه لم يترك عملا شاقا أو مهينا إلا ومارسه منذ كان في العاشرة من عمره .. وهذا يفسر بالتأكيد صلابته .. وافتفاره التام إلى العاطفة في التعامل مع الغير
أخذت نفسا عميقا وطرقت الباب .. ثم دخلت عندما سمعت الصوت الصارم يدعوها إلى الدخول .. خطت إلى داخل المكتب الفسيح .. وركزت اهتمامها نحو مركز الغرفة حيث استقر (هشام عطار)
وقد ملأ مقعده الجلدي بكتفيه العريضتين .. منهمكا في إحدى مكالماته الهاتفية المهمة .. رفع بصره إليها .. وأشار لها بيده أن تقترب .. ثم تجاهلها تماما وهو يستمع إلى محدثه
أقفلت الباب ورائها بهدوء .. وظلت واقفة على بعد مترين على الأقل عن مكتبه بمنأى عن الخطر .. تململت بضيق عندما استغرق وقتا أطول مما توقعت في مكالمته .. وإن كان الحديث كما فهمت يتعلق بصفقة مهمة .. ظهرت على ملامحه السمراء الخشنة علامات الاهتمام وهو يتحدث بصوته الأجش المتسلط .. أشفقت على محدثه الذي يجفف عرقه الآن في الغالب محاولا مجاراة خصمه الذكي والحازم .. الذي اعتاد على الحصول على ما يريده بأي ثمن كان
أزاحت عينيها عنه نحو محتويات المكتب الخشبي الضخم الذي تراصت فوقه الأجهزة الحديثة بأنواعها .. ثم دارت ببصرها حول المكان تتأمل الأثات الفخم الذي ملأه .. وغيرها من مظاهر الثراء التي لا يتردد أمثاله في إظهارها للآخرين .. لم تدرك بأن نظرة الازدراء كانت مرتسمة بوضوح في عينيها حتى سمعت صوته البارد يقول :- هل انتهيت من تقييمك للمكان ؟
رفعت عينيها إليه بسرعة . وغضبت من نفسها عندما احمر وجهها بحرج .. متى أنهى مكالمته وبدأ بمراقبة تفحصها الدقيق لمحتويات مكتبه ؟ لم ترغب بزيادة الأمر سوءا فتنحنحت قائلة بتهذيب :- أخبرتني سمر أنك طلبت رؤيتي
تراجع فوق مقعده ورمقها بإحدى نظراته السوداء وهو يقول ببرود :- أنا لا أطلب في هذا المكان يا آنسة أماني .. ونعم لقد أمرت سحر باستدعائك منذ نصف ساعة على الأقل .. وأرغب بشدة في أن أعرف سبب هذا التأخير
تمالكت أعصابها وقد عرفت بأن مزاجه اليوم يتوق إلى توبيخ أحدهم وقد وقع اختياره كالعادة عليها .. قالت بصبر محافظة على تهذيبها :- لم تنته استراحة الغداء إلا منذ ربع ساعة ..
:- كنت في صالة الطعام إذن
:- نعم .. برفقة باقي الزملاء
كست الصرامة ملامحه وهو يقول :- إذن .. فلتبلغي زملاءك بأن استراحة الغداء تعتبر ملغاة منذ هذه اللحظة و حتى شهر من الآن .. وأي تقاعس عن العمل خلالها أو مغادرة للشركة من أي موظف .. ستؤدي إلى تمديد العقوبة إلى أجل غير مسمى
صرت على أسنانها بغيظ .. سيقتلها زملاؤها في حال عرفو بالكارثة الجديدة التي جلبتها عليهم بسبب تأثيرها غير المسبوق على هذا الرجل .. لم تتمالك نفسها .. ورمت بتهذيبها عرض الحائط .. قائلة بحدة :-
:- مفهوم .. سأخبر الجميع بالحمية الإجبارية الجديدة .. وأنصحهم بتسريب سندويتشات منزلية داخل معاطفهم منذ الغد لاستراق اللقيمات من وراء ظهرك ريثما تصدر أوامرك التالية بمنعنا عن التنفس
.. رمى قلمه من يده فأجفلت لحركته المفاجئة .. لاحظت عينيه السوداوين تلمعان بغضب شديد .. ولكنه تأملها طويلا حتى أحست بنظراته ستقتلعها من مكانها .. ثم ارتفع صوته الجهوري فجأة :- أنت تستمتعين بهذا .. أليس كذلك ؟
قالت بحذر :- ماذا تقصد ؟
:- أنت تستمتعين باعتماد اللامبالاة في تصرفاتك .. وإحالة جو العمل إلى نوع من السخرية والفوضى
قالت بتوتر :- لقد سبق واعتذرت عما حدث الأسبوع الماضي .. ووعدتك بألا يتكرر
قال بجفاف :- وماذا عما حدث اليوم ؟
ارتفع حاجباها بدهشة وهي تقول :- ماذا ؟؟
لوى فمه القاسي بابتسامة بالكاد ظهرت .. بدا واضحا مدى استمتاعه بحيرتها .. نهض واقفا ودار حول المكتب فتراجعت تلقائيا عندما دنا منها بطوله الفارع وجسده الضخم المكسو بالبذلة الأنيقة .. توترت وهو يزيد من اقترابه ببطء قائلا :- دعيني أخمن .. هل تبادلت حديثا شيقا مع زملاءك أثناء تناولكم الغداء في كافيتيريا الشركة ؟
شحب وجهها وقد فهمت قصده .. لقد انخرطت في حديث ساخر مع مجموعة من زملائها .. وقد كانت أصواتهم مرتفعة بحيث سمع الحديث جميع الجالسين حول طاولتهم .. أخذت تقلد المدير الصارم بأسلوب
فكاهي أضحك الجميع .. ثم استرسلت في الحديث عن الجليد الذي يجري في عروقه بدلا من الدماء .. وافتقاره التام للإحساس .. وعن قناعتها بأن السبب في عزوفه عن الزواج رغم تجاوزه الثلاثين بسنوات هو هروب النساء من وجهه العابس الذي لا يبتسم إلا لكسب صفقة أو مال وفير كغيره من محدثي النعمة ..
لقد قالت الكثير من الكلام المسيء والمهين له .. ولكن من يلومها إذا كان صورة لا تختلف كثيرا عن والدها أو صلاح ؟
لقد كان هشام عطار نموذجا للرجل المستعد لفعل أي شيء لأجل زيادة ثروته .. قد تتفهم دوافعه نظرا إلى نشأته الصعبة .. ولكنها لن تتفهم أبدا تصرفاته المتسلطة والمتكبرة وقسوته الغير مبررة نحو موظفيه .. تمالكت أعصابها وقالت ببرود :- كيف عرفت هذا ؟
نظر إليها ببرود أخافها .. لطالما أخافتها نظراته الغير مفهومة والغامضة المطلة من عينيه الحادتين كعيني الصقر .. فال :- لدي مصادري
قال بحدة :- تقصد جواسيسك
رفع حاجبيه القاتمين فلاحظت بوضوح ذلك الأثر القديم لجرح طولي قاطع أحدهما .. مما ذكرها بندبتها المخفية تحت خصلات الشعر المسدلة بعناية حول وجهها وقال :- ربما
تراجعت خطوتين كي تجد الشجاعة لأن تقول بعصبية :- إن كنت تطالبني باعتذار فلن تحصل عليه .. عملي لديك لا يمنحك السلطة للتحكم بأفكاري ورأيي بك ..
هدر بصوت جمد الدماء في عروقها :- موقف آخر من هذا النوع وستجدين نفسك خارج جدران هذا المبنى دون رجعة
هتفت باستنكار :- هل تهدد بطردي ؟
:- ولم العجب ؟ أنا رجل عديم الإحساس والعاطفة .. ومحدث نعمة لا أخلاق له .. ما الذي يمنعني من إلقائك خارجا بدون أي تردد ؟
احمر وجهها وهي تستمع إلى صدى كلماتها المهينة من خلال صوته الغاضب .. إنه محق بغضبه بالتأكيد .. ولكن طردها لهذا السبب لن يكون عادلا
تراجع عنها وعاد إلى عرشه الواقع خلف المكتب وهو يقول بهدوء :- من حسن حظك أن علاقتك بسمر تشفع لك .. وإلا لكنت تبحثين عن عمل آخر منذ فترة طويلة
قالت بحدة :- أنت لا تبقيني هنا إكراما لسمر فأنا موظفة كفؤة وأنت تعرف هذا تماما
عاد يرسم على شفتيه تلك الابتسامة الساخرة .. ورفض منحها تأكيدا شافيا .. بل قال وهو يسترخي فوق مقعده :- في الواقع ..أستغرب أن يكون لامرأة مثلك أي علاقة صداقة بسمر .. فهي امرأة دافئة ورقيقة .. لا تكف أبدا عن العطاء .. أما أنت ...
ارتجفت عندما جرت عيناه السوداوان الحادتان فوق ملابسها الأنيقة بتقييم مشمئز وهو يقول :-
:- طفلة مدللة وثرية .. اعتادت الحصول على ماتريده بأي ثمن .. تكاد تدمرك عقدة التفوق التي ولدت معها .. وهذا واضح من طبيعتك العدوانية والمتهكمة .. التي لاتعرف أبدا كيف تحب أو تعطي
تمنت لو أنه لا يلاحظ شحوب وجهها .. فهو قد أصابها بالصميم دون أن يدري 00 بذلت جهدا خرافيا كي تحافظ على ثبات ملامحها وتحاشت النظر إليه كي لا يقرأ الألم في عينيها .. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد .. بل تأملها طويلا قبل أن يقول بهدوء :- لقد كنت محقا .. أليس كذلك ؟ كلماتك التي قصدت وصمي بها لم تكن إلا انعكاس لك ولقلبك الميت .. كأمثالك ممن ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب ..يمتلكون كل شيء .. ولكن هذا يخلق داخلهم فراغا هائلا وافتقار إلى الإحساس والآدمية .. في المرة القادمة التي تتبجحين فيها وتبدأين بتعداد نواقص الغير .. تذكري نواقصك فهي أكثر مما تظهرين على ما يبدو
رفعت رأسها بصلابة لتواجهه .. كان قادرا على ملاحظة الحقد الوحشي يلمع في عينيها الواسعتين .. قالت ببرود :- هل أستطيع العودة إلى مكتبي الآن ؟
أشار بيده قائلا بتهكم :- لم أستدعيك لنتبادل حديثا اجتماعيا .. سنتحدث في العمل ثم تنصرفين إلى مكتبك
ثم اعتدل على كرسيه وهو يقول بجدية :- اجلسي من فضلك .. وأخبريني عن ......
اختفى تماما أي أثر لتهكمه وقسوته .. وعاد من جديد رجل الأعمال المحترف .. من يراهما الآن وهما يتناقشان بهدوء ماكان ليصدق مدى كراهية كل منهما للآخر
كان يتحدث .. ويلقي عليها بملاحظاته وتعليماته .. بينما تمنحه هي الإجابات المقتضبة وعقلها بعيد تماما عن العمل .. لقد كان غارقا بمدى إصابة هشام عطار للواقع في كلماته التي قصد بها إهانتها
ترى هل يعرف بأن قلب أماني قد مات حقا قبل سنوات قليلة ؟
وأنها لا تعرف إن كان سيعود يوما إلى الحياة .. أو أنها ستكمل ما تبقى من حياتها بلا قلب ..


اشكرك جزيل الشكر









رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
أدبي, الروايات


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 00:39

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc