يبتلي الله عبده المؤمن ليسمع تضرعه إليه.
السؤال :
البارحة كان عنوان خطبة الجمعة عن الدعاء وعظمته ، فذكر الإمام أنه جاء في الأثر : ( إن الله عز وجل يسأل جبريل هل العبد ألّح في طلبه ؟ فيقول جبريل : نعم يا رب إنه ألح ، فيقول لجبريل : أعط عبدي غايته ـ، وأخرها فإني أحب أن أسمع صوته ) فتذكرت ما حصل معي منذ سنة ، لقد تركت دراستي لمدة سنة بسبب وضعنا المادي ، فلجأت إلى بلدة أعمل فيها ، وأؤمن المال لي ولأهلي
فدعوت الله ربي زدني علما ، وألححت بالدعاء ، ومن ثم تركته ، لا أعلم لماذا تركته ، إلا إنه بعد زمن اضطر صاحب العمل أن يغلق المحل لأسباب تعنيه ، فبكيت وحزنت بشدة ، لم أعلم أن الله عندما جعلني أخسر العمل هيّأ لي غايتي ومطلبي ، فبكيت في الخطبة وحمدت الله ، فما صحة هذا الحديث ؟
وهل الله فعلاً يحب أن يسمع صوت عبده ؟
وأنا منذ أن بدأت دراستي للثانوية العامة أدعو الله أن يبلغني هدفي وغايتي ، فهل الله سيستجيب لي اعتماداً على هذا القول الذي جاء في الأثر ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
هذا الحديث المشار إليه
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (8442)
وفي "الدعاء" (87)
وابن عساكر (8/244)
وعبد الغني المقدسي في الدعاء (51)
من طريق سُوَيْد بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: نا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ يَدْعُو اللَّهَ وَهُوَ يُحِبُّهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اقْضِ لِعَبْدِي هَذَا حَاجَتَهُ، وَأَخِّرْهَا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَلَّا أَزَالَ أَسْمَعُ صَوْتَهُ .
وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَدْعُو اللَّهَ وَهُوَ يَبْغَضُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ، اقْضِ لِعَبْدِي هَذَا حَاجَتَهُ، وَعَجِّلْهَا، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ ) .
وهذا إسناد ضعيف جدا ، ابن أبي فروة متروك ، قال ابن سعد: يروي أحاديث منكرة ، وقال البخاري: تركوه، وقال أحمد: لا تحل عندي الرواية عنه، وقال ابن معين : لا يكتب حديثه ليس بشيء، وقال أيضا: كذاب، وكذلك قال ابن خراش، وقال عمرو بن علي وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني والبرقاني وابن خزيمة: متروك الحديث.
"تهذيب التهذيب" (1/ 241)
وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 151): " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَفِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ " .
وقال الألباني في "الضعيفة" (2296): " ضعيف جدا ".
ثانيا :
الله تعالى يبتلي عبده ليتضرع إليه ويلجأ إليه ، ويلح عليه في الدعاء ، فيسمع دعاءه وتضرعه ومناجاته ، وهذه عبودية يحبها الله ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام/ 42، 43 .
وقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: " مَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ؛ لِأَنَّ مَا يَكْرَهُهُ يَهِيجُهُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَمَا يُحِبُّ يُلْهِيهِ عَنْهُ " .
وعَنْ كُرْدُوسَ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: " فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْكُتُبِ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْتَلِي الْعَبْدَ وَهُوَ يُحِبُّهُ؛ لَيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ " .
"الفرج بعد الشدة" لابن أبي الدنيا (ص 41-42) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" الله تعالى يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه، وقد ذم سبحانه من لم يتضرع اليه ولم يستكن له وقت البلاء، كما قال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه، والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه، بل أراد منه أن يستكين له ، ويتضرع اليه " انتهى من"عدة الصابرين" (ص/36) .
والمسلم يلزم الدعاء ولا يتركه ، ولا يمل منه ، ولكن يلح على الله ، ويحسن الظن به ، فالله تعالى يحب الملحين في الدعاء ، قال ابن القيم :
مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ: الْإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ " انتهى من "الجواب الكافي" (ص: 11) .
وقال أيضا :
" وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالا، وهو يحب الملحين في الدعاء، وكلما ألح العبد عليه في السؤال ، أحبه وقربه وأعطاه " انتهى من"حادي الأرواح" (ص/91) .
وروى البخاري (6340) ومسلم (2735) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ ، يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي ) .
قال الحافظ رحمه الله : " وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَدَب مِنْ آدَاب الدُّعَاء , وَهُوَ أَنَّهُ يُلَازِم الطَّلَب ، وَلَا يَيْأَس مِنْ الْإِجَابَة ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْقِيَاد وَالِاسْتِسْلَام وَإِظْهَار الِافْتِقَار , حَتَّى قَالَ بَعْض السَّلَف : لَأَنَا أَشَدّ خَشْيَة أَنْ أُحْرَم الدُّعَاء ، مِنْ أَنْ أُحْرَم الْإِجَابَة .
وقال اِبْن الْجَوْزِيّ : اِعْلَمْ أَنَّ دُعَاء الْمُؤْمِن لَا يُرَدّ ، غَيْر أَنَّهُ قَدْ يَكُون الْأَوْلَى لَهُ تَأْخِير الْإِجَابَة ، أَوْ يُعَوَّض بِمَا هُوَ أَوْلَى لَهُ ، عَاجِلًا ، أَوْ آجِلًا .
فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتْرُك الطَّلَب مِنْ رَبّه فَإِنَّهُ مُتَعَبِّد بِالدُّعَاءِ كَمَا هُوَ مُتَعَبِّد بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيض " انتهى .
فلا تمل الدعاء ، ولا تتركه ، وأحسن الظن بالله على كل حال ، فقد قال تعالى : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة / 216 .
واعلم أن الله يستجيب لعبده المتضرع إليه ، ولكن الإجابة تتنوع : فإما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها .
وقد تتأخر الإجابة لحكم يعلمها الله ، ولعل منها: محبة إلحاح عبده في سؤاله ودعائه.
والله تعالى أعلم.
........
هل يجزم الداعي بإجابة الله له؟
السؤال
: ما هي الطرق التي يستطيع الشخص من خلالها أن يقوي ثقته بالله ، وأن يدعو وهو متيقن بالإجابة ، فعلى سبيل المثال : عندما أدعو الله بأن يعطيني ثروة ومالاً ، في الوقت ذاته أشك في أن الله قد لا يعطيني
إما أنه يؤخر لي هذه الدعوة إلى يوم القيامة ، أو أنه يصرف عني بها سوءًا ، كما جاء الحديث موضحا لذلك . فهل شعوري هذا يخدش التوكل ، وهل ينافي تيقني بالإجابة ؟
الجواب :
الحمد لله
ينبغي على المسلم أن يعرف فقه الدعاء من جهتين :
1- من جهة نفسه وما كُلِّف أن يستحضر في قلبه : فيكون دائم الطمع في كرم الله ، مستحضرا سعة خزائنه وعظيم فضله ، مستبشرا بما وعد عباده الصالحين من إجابة سؤلهم ومنحهم رغائبهم ، فيستعين بذلك قلبه على الثقة بالله ، والإيمان بما أخبر عن نفسه من إجابة دعوة الداعي ، فينطلق قلبه بالدعاء الصادق المخلص
ولا يثنيه تأخر الإجابة ولا يستبطئها ، وبهذا يمتثل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ) رواه الترمذي (3479) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي .
2- أما الجهة الثانية فهي دخول الدعاء في منظومة أقدار الله وحِكَمه في هذا الكون العظيم ، فلله في خلقه وأمره من الحكمة البالغة ما تقتضي أن يقدر من الأحداث ما يكرهه البشر ، كالفقر والمرض والحروب والكوارث وغير ذلك ، وقد لا يُقَدِّر الرب عز وجل أن يكون الدعاء المعيَّن سببا مباشرا لدفع هذه الشرور
ولكنه – لوعده المؤمنين بإجابة الدعاء – يدخر ذلك عنده أجرا ومثوبة في الآخرة ، أو يصرف به شرا آخر عن الداعي ، فلن يكون الدعاء دائما سببا في تغيير القدر ، وإلا لفسدت الأرض ، ولَما تحققت حكمة الله تعالى في مفردات أقداره في هذا الكون العظيم ، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته
وإما أن يدخرها له في الأخرى ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا : إذا نكثر ، قال : الله أكثر) رواه أحمد (3/18) ، والترمذي (3573) وصححه الألباني في صحيح الترمذي .
وقد وجدنا للعلامة ابن الجوزي رحمه الله خواطر دقيقة محكمة ، يشرح فيها هذا المعنى الذي نريد تقريره ، كي لا يخطئ أحد في فهم حقيقة إجابة الدعاء ، فيتسخط إن لم يلق من الله الإجابة المباشرة لسؤاله ، أو يظن أن الكون رهن إشارة دعائه ، وأن الله عز وجل سيرفعه أعلى من منزلة الأنبياء الذين ابتلوا وعذبوا وتأخرت عنهم الإجابة .
يقول رحمه الله :
"رأيت من البلاء العجاب ، أن المؤمن يدعو فلا يجاب ، فيكرر الدعاء وتطول المدة ، ولا يرى أثراً للإجابة ، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي احتاج إلى الصبر . وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب . ولقد عرض لي من هذا الجنس
فإنه نزلت بي نازلة ، فدعوت وبالغت ، فلم أر الإجابة ، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده ، فتارة يقول : الكرم واسع والبخل معدوم ، فما فائدة تأخير الجواب ؟ فقلت : اخسأ يا لعين ، فما أحتاج إلى تقاضي
ولا أرضاك وكيلاً . ثم عدت إلى نفسي فقلت : إياك ومساكنة وسوسته ، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدِّر في محاربة العدو لكفى في الحكمة . قالت : فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة ؟
فقلت : قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك ، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء ، فلا وجه للاعتراض عليه .
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة ، فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه ، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب ، من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة ، فلعل هذا من ذاك .
والثالث : أنه قد يكون التأخير مصلحة ، والاستعجال مضرة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لي) .
والرابع : أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك ، فربما يكون في مأكولك شبهة ، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة ، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه . فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود .
والخامس : أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب ، فربما كان في حصوله زيادة إثم ، أو تأخير عن مرتبة خير ، فكان المنع أصلح . وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو ، فهتف به هاتف : إنك إن غزوت أسرت ، وإن أسرت تنصرت .
والسادس : أنه ربما كان فَقْدُ ما تفقدينه سبباً للوقوف على الباب واللجأ ، وحصوله سبباً للاشتغال به عن المسؤول . وهذا الظاهر ، بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ . فالحق عز وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه ، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه ، يستغيثون به ، فهذا من النعم في طي البلاء . وإنما البلاء المحض ما يشغلك عنه ، فأما ما يقيمك بين يديه ، ففيه جمالك ...
وإذا تدبرت هذه الأشياء تشاغلت بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك من رفع خلل ، أو اعتذار من زلل ، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب " انتهى .
"صيد الخاطر" (ص/20-21) .
وقال أيضا :
"يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء ، فهو يبالغ في الدعاء ولا يرى أثراً للإجابة ، ولا يتغير أمله ورجاؤه ولو قويت أسباب اليأس ، لعلمه أن الحق أعلم بالمصالح ، أو لأن المراد منه الصبر أو الإيمان ، فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد من القلب التسليم لينظر كيف صبره ، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء
فأما من يريد تعجيل الإجابة ويتذمر إن لم تتعجل فذاك ضعيف الإيمان ، يرى أن له حقاً في الإجابة ، وكأنه يتقاضى أجرة عمله ، أما سمعت قصة يعقوب عليه السلام ، بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لا يتغير ، فلما ضم إلى فقد يوسف فقد بنيامين لم يتغير أمله ، وقال : (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتيني بهمْ جَميعاً)
وقد كشف هذا المعنى قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ، ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسول والمؤمنين إلا بعد طول البلاء وقرب اليأس من الفرج
ومن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل ، قيل له : وما يستعجل ؟ قال : يقول : دعوت فلم يستجب لي) ، فإياك أن تستطيل زمان البلاء ، وتضجر من كثرة الدعاء ، فإنك مبتلى بالبلاء ، مُتَعَبَّد بالصبر والدعاء ، ولا تيأس من روح الله ، وإن طال البلاء" انتهى .
"صيد الخاطر" (ص/168) .
فحاصل ما نريد الوصول إليه : هو أن المؤمن مطالب ببذل الأسباب ، ومنها : الدعاء الصادق ، كما هو مطالب أيضا بالتسليم للأقدار ، والإيمان بأن حكمة الله عز وجل قد تقتضي تأخير إجابة دعائه في الدنيا أو عدم ذلك ، فلن يكون أحدنا أفضل من أنبياء الله ورسله الذين تأخر عنهم تحقيق سؤلهم ودعائهم
ولكنهم عرفوا أن الدعاء عبادة ، وأنهم بسؤالهم الرب عز وجل يرتقون عنده في درجات العابدين ، مع القطع بأن الله تعالى سيجيبهم ، ولكن هذه الإجابة لا يلزم أن تكون بإعطائهم ما سألوا في الدنيا ، بل قد تكون الإجابة بصرف شيء من السوء عنهم ، أو بادخار ذلك لهم في الآخرة .
والله أعلم .
......
لإلحاح في الدعاء ليس من الاعتراض على القدر
الأمر الأول : ضرورة الأخذ بالأسباب ، فقد خلق الله الدنيا بنظام السبب والمسبب ، وأوجب على الناس العمل في هذه الدنيا ضمن هذا النظام ، فمن ألغى الأسباب فقد تعدى على شرع الله وقدره .
الأمر الثاني : الإلحاح في الدعاء مما يحبه الله ويرضاه ، وليس فيه اعتراض على القدر ، بل هو إصرار على بلوغ المراد ضمن الأسباب المشروعة ، والدعاء أحد هذه الأسباب ، فهو من قضاء الله وقدره ، وهو علامة العبودية ، وأمارة الإيمان .
قال ابن القيم : " ومن أنفع الأدوية : الإلحاح في الدعاء " انتهى .
" الجواب الكافي " (ص/25) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ : يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي ) رواه البخاري (6340) ومسلم (2735)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" في هذا الحديث أدب من آداب الدعاء , وهو أنه يلازم الطلب ، ولا ييأس من الإجابة ؛ لما في ذلك من الانقياد ، والاستسلام ، وإظهار الافتقار , حتى قال بعض السلف : لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة . وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه : ( من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ) ، الحديث أخرجه الترمذي بسند لين ، وصححه الحاكم فوهم .
قال الداودي : يخشى على من خالف وقال قد دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة ، وما قام مقامها من الادخار والتكفير انتهى ... وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله : اعلم أن دعاء المؤمن لا يرد ، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة ، أو يعوض بما هو أولى له عاجلا أو آجلا ، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه ، فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض " انتهى .
" فتح الباري " (11/141) .
الأمر الثالث ، وهو الأهم فيما نريد تنبيهك إليه :
إذا كان ما تدعين به من أمور الدنيا الفانية ، ومما قد يبتلى به الإنسان في حياته بفقد ، أو مرض أو فقر ونحو ذلك ، فلا نرى لك الحلم به كثيرا ، ولا التعلق القلبي العظيم بتحقيقه ، فقد خلق الله الدنيا ناقصة اللذات ، لا تصفو لأحد ، فلا تظني في قلبك أنها تصفو لك ، ولو بكثرة الدعاء
وهذه لفتة دقيقة أشار إليها العلامة ابن الجوزي رحمه الله ، كي يستريح من يدعو ولا يستجاب له ، وكي لا يقع المسلم في التسخط في آخر المطاف ، بل يرضى بالقضاء ، ويحتسب أجره عند الله ، ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى .
يقول ابن الجوزي رحمه الله :
" من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف ، فإنه موضوع على عكس الأغراض ، فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض ، فإن دعا وسأل بلوغ غرض ، تعبد الله بالدعاء : فإن أعطي مراده ، شكر ، وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح في الطلب ؛ لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض ، وليقل لنفسه : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) البقرة/216
ومن أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه ، وربما اعترض في الباطن ، أو ربما قال : حصول غرضي لا يضر ، ودعائي لم يستجب ، وهذا كله دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة ، ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر ؟! هذا آدم ، طاب عيشه في الجنة ، وأخرج منها
ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده ، والخليل ابتلي بالنار ، وإسحاق بالذبح ، ويعقوب بفقد الولد ، ويوسف بمجاهدة الهوى ، وأيوب بالبلاء ، وداود وسليمان بالفتنة ، وجميع الأنبياء على هذا
وأما ما لقي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم ، فالدنيا وضعت للبلاء ، فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر ، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف ، وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا ، كما قيل:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوًا من الأقذاء والأكدَارِ " انتهى.
" صيد الخاطر " (ص/399) .