هل للتاريخ مقعد بين العلوم الاخري
طرح المشكلة:إن العلوم الإنسانية هي مجموع الاختصاصات التيتهتم بدراسة مواقف الإنسان وأنماط سلوكه , وبذلك فهي تهتم بالإنسان , من حيث هوكائن ثقافي , حيث يهتم علم النفس بالبعد الفردي في الإنسان ويهتم علم الاجتماعبالبعد الاجتماعي , ويهتم التاريخ بالبعدين الفردي والاجتماعي معا لدى الإنسان , فالتاريخ هو بحث في أحوال البشر الماضية في وقائعهم وأحداثهم وظواهر حياتهم وبناءعلى هذا فإن الحادثة التاريخية تتميز بكونها ماضية ومن ثمة فالمعرفة التاريخيةمعرفة غير مباشرة لا تعتمد على الملاحظة ولا على التجربة الأمر الذي يجعل المؤرخليس في إمكانه الانتهاء إلى وضع قوانين عامة والعلم لا يقوم إلا على قوانين كليةوعلى هذا الأساس فهل هذه الصعوبات تمنع التاريخ من أن يأخذ مكانه بين مختلف العلومالأخرى ؟ أو بمعنى آخر هل خصوصية الحادثة التاريخية تمثل عائقا أمام تطبيق الأساليبالعلمية في دراستها ؟
محاولة حل المشكلة: الاطروحة الاولى:التاريخ ليسعلماوحوادثه لا تقبل الدراسة العلمية :
يذهب بعض المفكرين إلى أن الحوادث التاريخيةلا تخضع للدراسة العلمية لأن الخصائص التي تقوم عليها الحادثة التاريخية تمثل عائقاأمام تطبيق الأساليب العلمية في دراستها , ومن هذه الخصائص أن الحادثة التاريخيةحادثة إنسانية تخص الإنسان دون غيره من الكائنات , واجتماعية لأنها لا تحدث إلا فيمجتمع إنساني فالمؤرخ لا يهتم بالأفراد إلا من حيث ارتباطهم وتأثير في حياة الجماعة , وهي حادثة فريدة من نوعها لا تتكرر , محدودة في الزمان والمكان ... وبناء على هذهالعوائق التي تقف أمام تطبيق الدراسة العلمية في التاريخ قامت اعتراضات أساسية علىالقول أمام تطبيق الدراسة العلمية في التاريخ قامت اعتراضات أساسية على القول بأنالتاريخ علم منها : انعدام الملاحظة المباشرة للحادثة التاريخية كون حوادثها ماضيةوهذا على خلاف الحادث العلمي في الظواهر الطبيعية فإنه يقع تحت الملاحظة المباشرة , ثم استحالة إجراء التجارب في التاريخ وهو ما يجعل المؤرخ بعيدا عن إمكانية وضعقوانين عامة , فالعلم لا يقوم إلا على الأحكام الكلية كما يقول أرسطو : " لا علمإلا بالكليات " . هذا بالإضافة إلى تغلب الطابع الذاتي في المعرفة التاريخية لأنالمؤرخ إنسان ينتمي إلى عصر معين ووطن معين ...الخ , وهذا يجعله يسقط ذاتيته بقيمهاومشاغلها على الماضي الذي يدرسه ثم إن كلمة علم تطلق على البحث الذي يمكن من التنبؤفي حين أن نفس الشروط لا تؤدي إلى نفس النتائج وبالتالي لا قدرة على التنبؤبالمستقبل في التاريخ .
مناقشة:إنه مما لا شك فيه أن هذه الاعتراضات لها مايبررها من الناحية العلمية خاصة غير أنه ينبغي أن نؤكد بأن هذه الاعتراضات لاتستلزم الرفض القاطع لعملية التاريخ لأن كل علم له خصوصياته المتعلقة بالموضوعوبالتالي خصوصية المنهج المتبع في ذلك الموضوع فهناك بعض المؤرخين استطاعوا أنيكونوا موضوعيين إلى حد ما وان يتقيدوا بشروط الروح العلمية .
نقيضالاطروحة:التاريخ علم يتوخى الوسائل العلمية في دراسة الحوادث الماضية :
يذهببعض المفكرين إلى القول بأن الذين نفوا أن تكون الحوادث التاريخية موضوعا للعلم لميركزوا إلا على الجوانب التي تعيق الدراسة العلمية لهذه الحوادث فالظاهرة التاريخيةلها خصوصياتها فهي تختلف من حيث طبيعة موضوعها عن العلوم الأخرى , وبالتالي منالضروري أن يكون لها منهج يخصها . وهكذا أصبح المؤرخون يستعملون في بحوثهم منهجاخاصا بهم وهو يقترب من المنهج التجريبي ويقوم على خطوط كبرى هي كالآتي :
أ- جمعالمصادر والوثائق: فبعد اختيار الموضوع يبدأ المؤرخ بجمع الوثائق والآثار المتبقيةعن الحادث فالوثائق هي السبيل الوحيد إلى معرفة الماضي وفي هذا يقول سنيويوس : " لاوجود للتاريخ دون وثائق , وكل عصر ضاعت وثائقه يظل مجهولا إلى الأبد " .
ب- نقدالمصادر والوثائق: فبعد الجمع تكون عملية الفحص والنظر و التثبت من خلو الوثائق منالتحريف والتزوير , وهو ما يعرف بالتحليل التاريخي أو النقد التاريخي وهو نوعان : خارجي ويهتم بالأمور المادية كنوع الورق والخط .. وداخلي يهتم بالمضمون
ج- التركيب الخارجي: تنتهي عملية التحليل إلى نتائج جزئية مبعثرة يعمل المؤرخ علىتركيبها في إطارها الزمكاني فيقوم بعملية التركيب مما قد يترتب عن ذلك ظهور فجواتتاريخية فيعمل على سدها بوضع فروض مستندا إلى الخيال والاستنباط ثم يربط نتائجهببيان العلاقات التي توجد بينهما وهو ما يعرف بالتعليل التاريخي . وعليه فالتاريخعلم يتوخى الوسائل العلمية للتأكد من صحة حوادث الماضي .
مناقشة:انه مما لا شكفيه أن علم التاريخ قد تجاوز الكثير من الصعوبات التي كانت تعوقه وتعطله ولكن رغمذلك لا يجب أن نبالغ في اعتبار الظواهر التاريخية موضوعا لمعرفة علمية بحتة , كمالا يجب التسليم بأن الدراسات التاريخية قد بلغت مستوى العلوم الطبيعية بل الحادثالتاريخي حادث إنساني لا يستوف كل شروط العلم .
التركيب :إن للحادثة التاريخيةخصائصها مثلما للظاهرة الحية أو الجامدة خصائصها وهذا يقتضي اختلافا في المنهج وهذاجعل من التاريخ علما من نوع خاص ليس علما استنتاجيا كالرياضيات وليس استقرائياكالفيزياء و إنما هو علم يبحث عن الوسائل العلمية التي تمكنه من فهم الماضي وتفسيرهوعلى هذا الأساس فإن القول بأن التاريخ لا يمكن أن يكون لها علما لأنه يدرس حوادثتفتقر إلى شروط العلم أمر مبالغ فيه , كما أن القول بإمكان التاريخ أن يصبح علمادقيقا أمر مبالغ فيه أيضا وعليه فإن الحوادث التاريخية ذات طبيعة خاصة مما استوجبأن يكون لها منهجا خاصا ..
حل المشكلة : العلم طريقة في التفكير ونظام فيالعلاقات أكثر منه جملة من الحقائق . إذ يمكن للمؤرخ أن يقدم دراسة موضوعية فيكونالتاريخ بذلك علما , فالعلمية في التاريخ تتوقف على مدى التزام المؤرخ بالشروطالأساسية للعلوم . وخاصة الموضوعية وعليه فإن مقعد التاريخ بين العلوم الأخرى يتوقفعلى مدى التزام المؤرخين بخصائص الروح العلمية والاقتراب من الموضوعية