الحمد لله وبعد
فهذه قصة عجيية منقولة لرجل علم اختار الله والدار الآخرة وآثرهما على الدنيا الفانية فآتاه الله نصيبه من الدنيا ونسأل الله أن يتغمده الله برحمته ويسكنه الفردوس الأعلى
والجزاء من حنس العمل
فما أعظم هذا الذكر الحسن الذي خلفه الله له في الدنيا وكأني به جزاء لما فاته من التبجيل والتكريم الذي زينه الشيطان لشيخه في القصة (لكن انظر تعليق الكاتب أسفله)
رحمه الله وغفر له
قصة الإمام أبي محمد عبدالله الميورقي الترجمان (المتوفى سنة 832هـ)، الذي كان من أكبر قساوسة النصارى في وقته ، بل كان مهيئا لأن يصبح البابا الأكبر ، ثم أسلم عندما وقع على آية في الإنجيل تبشر بقدوم النبي (، ثم ألف كتاب " تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب " ، وقسمه قسمين ؛ القسم الأول : في ذكر قصة إسلامه ، والثانية في الردود المفصلة على النصارى ، وذكر قصة انتقاله إلى الإسلام في سبع عشرة صفحة هذا مختصرها:
قال : اعلموا رحمكم الله أن أصلي من مدينة ميورقة(جزيرة في البحر الأبيض جنوب أسبانيا وتابعة لها )، وكان والدي محسوبا من أهل حاضرة ميورقة ، ولم يكن له ولد غيري ، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين ،قرأت عليه الإنجيل حتى حفظت أكثره في مدة سنتين ، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل وعمل المنطق في ست سنوات، ثم ارتحلت من بلدي إلى مدينة لاردة من أرض القسطلان(مدينة في الأندلس)، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر ، ويجتمع فيها طلبة العلم من النصارى ، وينتهون إلى ألف وخمسمائة ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرؤون عليه ، فقرأت فيها علم الطبيعيات والنجامة مدة ست سنين ، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازما ذلك مدة أربع سنين ، ثم ارتحلت إلى مدينة بلونية من أرض الأنبردية، وهي مدينة كبيرة جدا ،وهي مدينة علم ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلا الملف الذي هو صباغ الله ،فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم كبير القدر اسمهنقلاو مرتيل)، وكانت منـزلته فيهم في العلم والدين والزهد رفيعة جدا ، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية ، فكانت الأسئلة في دينهم تَرد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم ،ويصحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه ، ويرغبون في التبرك به ، وفي قبوله لهداياهم ، ويتشرفون بذلك .
فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه ،ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني من أخص خواصه ، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلىَّ مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله ومشربه ، وصير جميع ذلك على يدي ، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدى إليه ،والله أعلم .
فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين ، ثم أصابه مرض يوما من الدهر ، فتخلف عن حضور مجلس إقرائه ، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم ، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل - على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل - : ( إنه يأتي من بعده نبي اسمه (البارقليط)، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه ، وعظم مقالهم وكثر جدالهم ، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة ، فأتيت مسكن القسيس ، فقال : ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم (البارقليط) وسردت له أجوبتهم ، فقال لي:وبماذا أجبت أنت ؟فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل . فقال لي: ما قصرت وقربت ، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب ، ولكن الحق خلاف هذا كله ؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم ، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل ، فبادرت قدميه أقبلهما وقلت له : يا سيدي قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد ، ولي في خدمتك عشر سنين ، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها ، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم .
فبكى الشيخ وقال لي : يا ولدي ، والله أنت لتعز علي كثيرا من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليَّ ،في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة ، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك ، فتقتلك عامة النصارى في الحين . فقلت له : يا سيدي ، والله العظيم ،وحق الإنجيل ومن جاء به ، لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك .
فقال لي : إذن فاعلم يا ولدي أن البارقليط هو اسم من أسماء نبي المسلمين محمد ( ، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام ، وأخبر أنه نزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق ، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل.
فقلت: وما تقول في دين هؤلاء النصارى ؟ فقال لي : يا ولدي لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول ، لكانوا على دين الله ؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله ، ولكن بدلوا وكفروا .
فقلت : يا سيدي وكيف الخلاص من هذا الأمر ؟ فقال: يا ولدي بالدخول في دين الإسلام.فقلت:وهل ينجو الداخل فيه ؟ قال: نعم ينجو في الدنيا والآخرة. فقلت: يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم ؛فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه ؟ فقال: يا ولدي إن الله لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به إلا بعد كبر سني ، ووهن جسمي، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك ، لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة ،وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى ، من رفعة الجاه والعز ، والترف ، وكثرة عرض الدنيا ، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام ، لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين ، فأقول لهم : إني جئتكم مسلما . فيقولون لي : قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق ، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت فيه نفسك من عذاب الله . فأبقى فيهم شيخا كبيرا فقيرا ابن تسعين ،لا أفقه لسانهم ، ولا يعرفون حقي(وهذا سوء ظن بالمسلمين ولكنه كما قال هو : ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) ، وحدثنا أحد المتخصصين في كتب النصارى من أساتذة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة أن هذا الرجل أسلم أيضا وقتلته النصارى.) . فقلت :يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل دينهم؟ فقال : إن كنت عاقلا ، طالبا للنجاة ، فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة ، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن ، فاكتمه بغاية جهدك،وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك ، ولا أقدر على نفعك ، ولا ينفعك أن تنقله عني، فإني أجحده وقولي مصدق عليك ، وقولك غير مصدق علي ، وأنا برئ من ذلك إن فهت بشيء ، فعاهدته بما يرضيه.
ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته ، فدعا لي عند الوداع بخير ، فانصرفت إلى بلدي ميورقة، ثم سافرت إلى جزيرة صقلية ، وأقمت فيه خمسة أشهر وأنا انتظر مركبا يتوجه لأرض المسلمين، فحضر مركب يسافر إلى مدينة تونس ، فسافرت فيه من صقلية وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق ، فوردنا مرسى تونس قبل الزوال،فلما نزلت بديوان تونس ، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى أتوا بمركب وحملوني معهم إلى ديارهم، وصحبتهم أيضاً بعض التجار الساكنين أيضاً بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر ، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد – رحمه الله- فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلاً فاضلاً من أكبر خدامه اسمه يوسف الطبيب وكان طبيبه، ومن خواصه ،ففرحت بذلك فرحاً شديداً،وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب ،فدللت عليه واجتمعت به ، وذكرت له شرح حالي ، وسبب قدومي للدخول في الإسلام ،فسر الرجل بذلك سروراً عظيماً بأن يكون تمام هذا الخير على يديه ،ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان ، ودخل عليه فأخبره بحديثي ، فاستأذنه لي فأذن لي ،فمثلت بين يديه،فأول ما سألني السلطان عن عمري ،فقلت له:خمسة وثلاثون عاماً، ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته ،فقال لي: قدمت قدوم خير ، فأسلم على بركة الله . فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور- : قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد من دين إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه ، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم ،وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي ،وحينئذ أسلم إن شاء الله تعالى، فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب "عبد الله بن سلام" من النبي ( .
ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم وأدخلني في بيت قريب من مجلسه ، فلما دخل النصارى عليه قال لهم: ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب ؟ قالوا له: يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا:إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا ، فقال لهم: وما تقولون فيه إذا أسلم ؟ قالوا:نعوذ بالله من ذلك هو ما يفعل ذلك أبداً. فلما سمع ما عند النصارى بعث إليّ، فحضرت بين يديه (وشهدت)شهادتي الحق بمحضر النصارى ، فصلّبوا على وجوههم، وقالوا: ما حمله على هذا إلا حب التزويج، فإن القسيس عندنا لا يتزوج . وخرجوا مكروبين محزونين ،فرتب لي السلطان - رحمه الله - ربع دينار كل يوم في دار المختص ، وزوجني ابنة الحاج محمد الصفار، فلما عزمت على البناء بها، أعطاني مائة دينار ذهباً وكسوة جيده كاملة ، فبنيت بها ،وولد لي منها ولد سميته محمد على وجه التبرك باسم نبينا