مفهوم «المنهج»: تعريف وتحليل
بادئ ذي بدء نلاحظ أن الدور الاستراتيجي لمفهوم «المنهج العلمي» خصوصًا، تكمن من ورائه أهمية استراتيجية أكثر شيوعًا لمفهوم «المنهج» عمومًا، وللمنهجية في كل فكر وفي كل فعل نظاميَّين. إن المنهج بشكلٍ عام آية دقة، ومفهوم محوري ومرتكز أساسي في كل ما ينزع إلى الجدوى والجدية والانضباط.
وبإزاء هذا الرصيد الهائل، لا بد أن نصل إلى «المنهج العلمي» عبْر تعريف مفهوم «المنهج» في حد ذاته، وتحليل دلالته وتطوراته ومتغيراته؛ لكي ننتقل من هذا انتقالًا مشروعًا إلى مفهوم «المنهج العلمي» تحديدًا. إنها تحليلات أولية، تعمل على تمهيد الطريق وتحديد معالمه.
نبدأ بتحليل الدلالة اللغوية والاشتقاقية للفظة «منهج» من حيث الأصول في اللغة العربية والمقابل في اللغات الأوروبية، ثم ننتقل من «المنهج» كلفظة إلى «المنهج» كمصطلح.
وإذا كانت الإتيمولوجيا Etymology هي علم البحث في الأصول اللغوية للفظة، فإن التحليل الإتيمولوجي للفظة «المنهج»، على سبيل استكناه الأصول وعمق الدلالات، يقودنا توًّا إلى صلب في اللغة العربية، وذلك قبل المراسي الشائعة الذائعة في اللغات الأوروبية، التي درجنا على أن نتعلم منها حديث المنهجية!
وقد كانت اللغة العربية وعلومها أولى الدوائر المعرفية في البنية العقلية، التي حملها التراث العربي الإسلامي، وكان لها الدور الفخيم، فلا غرو أن تحمل أصول الألفاظ فيها، وفي مقدمتها لفظة «المنهج»، الكثير الجم من كنوزنا الحضارية المذخورة، التي تنتظر البحث والتنقيب والسبر … أَوَليست اللغة العربية هي البحر في أحشائه الدُّر كامن؟ على أية حال، فإن أصول وتطورات لفظة «المنهج» في اللغة العربية وفي اللغات الأوروبية، معًا، تلقي الضوء الكثيف على طبيعة المفهوم ودلالاته ودوره، وكيفية الاستفادة منه.
لفظة المنهج والمنهاج ومرادفاتهما معروفة في لغة العرب، وهي من ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف، حتى إن المنهج لفظٌ قرآني، ومصطلح تراثي بامتياز.
«المنهج» في اللغة العربية هو الطريق الواضح المستقيم، الذي يفضي بصحيح السير فيه إلى غايةٍ مقصودة،١ بسهولةٍ ويسر. ومن هذا الأصل جرى استعمال لفظ المنهج، لتعني بوجهٍ عام «وسيلة محددة توصل إلى غايةٍ معينة».٢ نهجَ نهجًا تعني اتخذ منهاجًا أو طريقًا للوصول إلى غاية.٣
ومن عبقرية اللغة العربية نجد اللفظة «نَهَج»؛ أي تلاحقت أنفاسه من سرعة الحركة لوضوح الطريق ويُسْره (ومن هذا الأصل تُستعمل اللفظة أيضًا على عمومها، فيُقال نَهَج من السمنة، أو من سواها). هكذا تتضمن أصول لفظة «المنهج» الإسراع في السَّير في الطريق لوضوحه، أو في إنجاز العمل لوضوح طريقته، ويأتي أصل هذه الألفاظ لغةً من الجذر نَهَج وأنهج، ونهج الطريق نهوجًا بمعنى وضح واستبان، وصار نهجًا واضحًا بيِّنًا، ونَهَجته وأنهجته أوضحته، وأيضًا سلكته. الطرق الناهجة هي الطرق الواضحة. النهج والمنهج: الطريق المستقيم، والمنهاج: الطريق المستمر.٤
وخيرُ مفتَتحٍ لورود اللفظةِ في تراثنا قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (سورة المائدة: الآية: ٤٨)، وفي حديث ابن عباس، رضي الله عنه: «لم يَمُت رسول الله ﷺ حتى ترككم على طرقٍ ناهجة.» وقال يزيد بن الخَذَّاق العبدي:
ولقد أضاءَ لك الطريقُ وأنْهَجَت سبلُ المكارم والهُدَى تُعْدي
تُعدي معناها أن تُعِين وتُقوي،٥ أما «أنْهَجَت أو أنْهَجَ» فتعني الاتضاح، وشق الطريق الواضح: اتخذه وسلكه.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن المنهج — كما ذكرنا — هو الطريق والطريقة، لكان بنظرةٍ أعمق أكثر ظهورًا في القرآن الكريم؛ إذ ورد عشرات المرات لفظ الطريق والطريقة، وأيضًا السبيل والصراط، «كما ارتبط السياق الذي وردت فيه هذه الألفاظ بالهدى والضلال؛ فالله يهدي إلى سواء السبيل؛ أي الطريق المستقيم، والمؤمنون يدعون الله أن يهديهم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم فاهتدَوا إلى الطريق، غير المغضوب عليهم، الذين عرفوا الطريق وتنكَّبوه، ولا الضالين الذين ضلوا وتاهوا فلم يعرفوا الطريق».٦اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (سورة الفاتحة، الآيتان: ٦-٧)، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (سورة الأحقاف، الآية: ٣٠)، الضلال يحمل الزلل المنطقي والزلل الأخلاقي معًا، المعرفي والقيمي.
والسُّنة أيضًا لفظ قرآني تبوَّأ موقعًا فريدًا في الدين الإسلامي وفي التراث العربي، لارتباطه بالدلالة النبوية أو الطريق النبوي، وهو الآخر يعني في أصله اللغوي الطريق، والسُّنن هي الطرائق، وبالتالي يقترب في دلالاته من لفظة المنهج. والخلاصة أن ثمَّة دلالات مشتركة في ألفاظ المنهج والمنهاج والطريق والسبيل والصراط والسُّنة،٧ جميعها تشير إلى طريقٍ مستقيم واضح ميسَّر لسعي الإنسان ليبلغ به غاية مقصودة، تقع في مستوياتٍ مختلفة تبعًا للمقاصد المختلفة، ومساعي الإنسان الشتَّى نحو الغاية النهائية وهي حسن المآل، في الدنيا وفي الآخرة، وتظل «قيمة المنهاج هي اتخاذه طريقًا إلى المقصد، والحركة في اتجاه ذلك المقصد».٨
وفضلًا عن هذا يحفل القرآن — كما أشار طه جابر العلواني — بألفاظٍ منهجية في المقام الأول، لا تنفصل عن نمط ومهام وسبل التفكير المنتج، من قبيل: التعقل، التفكُّر، التفقُّه، التبصُّر، الاعتبار، التدبُّر، النظر، التذكر … ولكن مقصدنا الآن لفظة «المنهج» تحديدًا وتعيينًا.