التشريعُ والتحليلُ والتحريمُ: مِن خصائِصِ اللهِ تعالى، فهو حَقٌّ خالِصٌ لله وَحْدَه لا شريكَ له؛ فالحلالُ ما أحَلَّه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والحرامُ ما حَرَّمه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والدِّينُ ما شَرَعه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فمن شرع من دونِ اللهِ، أو ألزم النَّاسَ بغيرِ شَرْعِ اللهِ، فقد نازع اللهَ فيما اختَصَّ به سُبحانَه وتعالى، وتعدَّى على حَقٍّ مِن حقوقِه، ورفَضَ شريعةَ اللهِ؛ فهذا العَمَلُ شِرْكٌ بالله تعالى، وصاحِبُه مُشْرِكٌ ضالٌّ ضلالًا بعيدًا.
قال اللهُ تعالى حكايةً عن قولِ يوسفَ عليه السَّلام لصاحبيْه في السِّجنِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 40] .
قال البَغَوي: (إِنِ الْحُكْمُ ما القَضاءُ والأمرُ والنَّهيُ إِلَّا لِلَّهِ) .
وقال ابنُ كثير: (أخبَرَهم أنَّ الحُكمَ والتصَرُّفَ والمشيئةَ والمُلْكَ: كُلُّه للهِ، وقد أمر عبادَه قاطبةً ألَّا يَعبُدوا إلَّا إيَّاه، ثم قال: ذلك الدِّينُ القَيِّمُ، أي: هذا الذي أدعوكم إليه من توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العَمَلِ له، هو الدِّينُ المستقيمُ الذي أمر اللهُ به، وأنزل به الحُجَّةَ والبُرهانَ الذي يحبُّه ويَرْضاه، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أي: فلهذا كان أكثَرُهم مُشْرِكين وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] ) .
وقال الشِّنقيطيُّ: (دَلَّ القُرآنُ في آياتٍ كثيرةٍ على أنَّه لا حُكمَ لغيرِ اللهِ، وأنَّ اتِّباعَ تشريعِ غَيرِه كُفرٌ به) .
وقال الشِّنقيطيُّ: (يُفهَمُ مِن هذه الآياتِ، كقَولِه: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا أنَّ مُتَّبِعي أحكامِ المُشَرِّعين غيرَ ما شرعه اللهُ؛ أنَّهم مُشْرِكون بالله، وهذا المفهومُ جاء مُبَيَّنًا في آياتٍ أُخَرَ، كقَولِه فيمن اتَّبَع تشريعَ الشَّيطانِ في إباحةِ الميتةِ بدعوى أنَّها ذبيحةُ اللهِ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] ، فصَرَّح بأنَّهم مُشْرِكون بطاعتِهم، وهذا الإشراكُ في الطَّاعةِ، واتِّباعُ التشريعِ المخالِفِ لِما شرَعه اللهُ تعالى: هو المرادُ بعبادةِ الشَّيطانِ في قَولِه تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 60، 61]، وقَولِه تعالى عن نبيِّه إبراهيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم: 44]، وقَولِه تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء: 117] ، أي: ما يَعبُدون إلَّا شيطانًا، أي: وذلك باتِّباعِ تشريعِه، ولذا سَمَّى اللهُ تعالى الذين يُطاعُون فيما زَيَّنوا من المعاصي شُرَكاءَ، في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ الآية) .
وقال اللهُ تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21] .
قال السَّعديُّ: (يخبِرُ تعالى أنَّ المُشْرِكين اتَّخَذوا شُرَكاءَ يُوالونَهم ويَشترِكون هم وإيَّاهم في الكُفْرِ وأعمالِه، من شياطينِ الإنسِ، الدُّعاةِ إلى الكُفْرِ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنَ الشِّركِ والبِدَعِ، وتحريمِ ما أحَلَّ اللهُ، وتحليلِ ما حَرَّم اللهُ، ونحو ذلك مِمَّا اقتضَتْه أهواؤُهم، مع أنَّ الدِّين لا يكونُ إلَّا ما شرَعَه اللهُ تعالى؛ لِيَدينَ به العبادُ ويتقَرَّبوا به إليه، فالأصلُ الحَجْرُ على كُلِّ أحدٍ أن يَشرَعَ شيئًا ما جاء عن اللهِ وعن رَسولِه، فكيف بهؤلاء الفَسَقةِ المُشتركين هم وآباؤهم على الكُفْرِ؟) .
قال*ابنُ تَيميَّةَ: (ليس لأحدٍ أن يَحكُمَ بين أحَدٍ مِن خَلْقِ اللهِ؛ لا بين المُسلِمين ولا الكُفَّارِ، ولا الفِتيانِ ولا رُماةِ البندُقِ، ولا الجيشِ، ولا الفُقراءِ، ولا غيرِ ذلك؛ إلَّا بحُكمِ اللهِ ورَسولِه، ومن ابتغى غيرَ ذلك تناوَلَه قَولُه تعالى:*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ*[المائدة:50]*، وقَولُه تعالى:*فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا*[النساء:65]*؛ فيَجِبُ على المُسلِمين أن يحكِّموا اللهَ ورَسولَه في كُلِّ ما شجر بينهم)*
أقوالُ العُلَماءِ في التشريعِ العامِّ:
1- قال*الماوَرديُّ*في ذِكرِ أوَّلِ ما يلزَمُ الحاكِمَ المُسلِمَ مِن الأمورِ العامَّةِ: (حِفظُ الدِّينِ على أُصولِه المستَقِرَّةِ، وما أجمع عليه سَلَفُ الأُمَّةِ، فإنْ نَجَم مبتَدِعٌ أو زاغ ذو شُبهةٍ عنه، أوضَحَ له الحُجَّةَ، وبَيَّنَ له الصَّوابَ، وأخَذَه بما يَلزَمُه من الحقوقِ والحدودِ؛ ليكونَ الدِّينُ محروسًا من خَلَلٍ، والأمَّةُ ممنوعةً من زَلَلٍ)*.
2- قال*ابنُ حزمٍ: (لا خِلافَ بين اثنينِ مِن المُسلِمينَ ... أنَّ من حَكَم بحُكمِ الإنجيلِ مِمَّا لم يأتِ بالنَّصِّ عليه وَحيٌ في شريعةِ الإسلامِ، فإنَّه كافِرٌ مُشْرِكٌ خارجٌ عن الإسلامِ)*.
3- قال*ابنُ تَيميَّةَ: (نُسَخُ هذه التَّوراة مُبَدَّلةٌ لا يجوزُ العَمَلُ بما فيها، ومن عَمِلَ اليومَ بشرائعِها المبدَّلةِ والمنسوخةِ، فهو كافِرٌ)*.
4- قال*ابنُ القَيِّمِ: (قالوا: وقد جاء القرآنُ وصحَّ الإجماعُ بأنَّ دينَ الإسلامِ نَسَخَ كُلَّ دينٍ كان قَبْلَه، وأنَّ من التزم ما جاءت به التَّوراةُ والإنجيلُ ولم يتَّبِعِ القُرآنَ، فإنَّه كافِرٌ، وقد أبطل اللهُ كلَّ شريعةٍ كانت في التَّوراةِ والإنجيلِ وسائِرِ المِلَلِ، وافتَرَض على*الجِنِّ*والإنسِ شرائِعَ الإسلامِ؛ فلا حَرامَ إلَّا ما حَرَّمه الإسلامُ، ولا فَرْضَ إلَّا ما أوجبه الإسلامُ)*.
5- قال ابنُ كثيرٍ: (مَن تَرَك الشَّرعَ المحكَمَ المنزَّلَ على مُحَمَّدٍ خاتمِ الأنبياءِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتحاكَمَ إلى غيرِه من الشَّرائعِ المنسوخةِ؛ كَفَر، فكيف بمن تحاكَمَ إلى اليَاسقِ**وقدَّمَها عليه؟! مَن فَعَل ذلك كَفَر بإجماعِ المُسلِمين؛ قال اللهُ تعالى:*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ*[المائدة: 50]*، وقال تعالى:*فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا*[النساء: 65]*)*.
وقال أيضًا: (يُنكِرُ تعالى على من خرج عن حُكمِ اللهِ المحكَمِ المُشتَمِلِ على كُلِّ خيرٍ، النَّاهي عن كُلِّ شرٍّ، وعَدَل إلى ما سواه من الآراءِ والأهواءِ والاصطلاحاتِ التي وضعها الرِّجالُ بلا مُستنَدٍ من شريعةِ اللهِ، كما كان أهلُ الجاهليَّةِ يحكُمونَ به من الضَّلالاتِ والجَهالاتِ، مِمَّا يَضعونَها بآرائِهم وأهوائِهم، وكما يحكُمُ به التَّتارُ من السِّياساتِ المَلَكيَّةِ المأخوذةِ عن مَلِكِهم جَنْكزخان، الذي وضع لهم الياسقَ، وهو عبارةٌ عن كِتابٍ مجموعٍ مِن أحكامٍ قد اقتبسها عن شرائِعَ شَتَّى؛ من اليهوديَّةِ، والنصرانيَّةِ، والملَّةِ الإسلاميَّة، وفيها كثيرٌ من الأحكامِ أخذها من مجَرَّدِ نظَرِه وهواه، فصارت في بَنِيه شَرعًا مُتَّبَعًا، يُقَدِّمونَها على الحُكمِ بكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومن فَعَل ذلك منهم فهو كافرٌ يجِبُ قِتالُه حتى يرجِعَ إلى حُكمِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يُحكَّمُ سِواه في قليلٍ ولا كثيرٍ)*.
فمن وضع قوانينَ تشريعيَّةً مع عِلْمِه بحُكمِ اللهِ، وبمخالفةِ هذه القوانينِ لحُكمِ اللهِ، فقد بَدَّل الشريعةَ بهذه القوانينِ، ومن سَنَّ قوانينَ تخالِفُ الشريعةَ، وادَّعى أنَّها من المصالحِ المُرسَلةِ، فهو كاذِبٌ في دعواه؛ لأنَّ المصالَح المرسَلةَ والمقيَّدةَ إنِ اعتبَرَها الشَّرعُ ودَلَّ عليها، فهي من الشَّرعِ، وما نفاه فليس بمصلحةٍ، وما سكَتَ عنه فهو عَفْوٌ.
*صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنَّه رسولٌ إلى النَّاسِ كافَّةً؟ وأين التصديقُ بعُمومِ رسالتِه وأنَّها عامَّةٌ في كُلِّ شَيءٍ؟ كثيرٌ من الجَهَلةِ يظُنُّون أنَّ الشَّريعةَ خاصَّةٌ بالعبادةِ التي بينك وبين اللهِ عَزَّ وجَلَّ فقط، أو في الأحوالِ الشَّخصيَّةِ مِن نكاحٍ وميراثٍ وشِبْهِه، ولكِنَّهم أخطَؤوا في هذا الظَّنِّ، فالشَّريعةُ عامَّةٌ في كل شيء.