رحلت نازك الملائكة عنا سنة 2007م تاركة فراغا أدبيا كبيرا ، لا اريد في هذه السطور أن اترجم لهذه الاديبة البارعة ، و إنما أريد أن أصل الخيط المقطوع من سيرتها التي أضحت مبهمة بل مغيبة عنا حقائقها...
إن النقاد إذا سردوا مؤلفاتها وإنتاجها الشعري والفكري ، يسردون كل شيء من إنتاجها الأول الذي كان يعبر عن مرحلتها الفكرية الأولى ، والتي كانت مؤدلجة بمفاهيم : " الحرية " و " التمرد " و " الثورة " وغيرها من مفردات القومية الاشتراكية البعثية التي كانت سائدة ذلك الوقت ، فيذكرون مثلا على مستوى قضايا المرأة بحثيها :
ـ ( المرأة بين الطرفين : السلبية والأخلاق ) عام 1953 ،
ـ و ( التجزيئية في المجتمع العربي ) عام 1954 .
لكنهم يصمتون أو يتغاضون عن بحثيها التاليين المهمين :
ـ ( العرب والغزو الفكري ) عام 1965 .
ـ و ( مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية ) 1968 .
وإذا نشرت الصحف مقالا نقديا عن البحثين الأخيرين فإنها لا تنشر ـ فيما رأيت ـ إلا المقالات الذامّة والمتهمة للأديبة المبدعة الفاضلة بالتخلف والانتكاسة عن مبادئ الحرية والتقدمية!!
حقا لقد حاربها أعداء الدين والفضيلة ، تماما مثلما حاربوا قبلها ومعها علي باكثير الذي كان إبداعه يطفح بالفن الراقي والخير والفضيلة ومحاربة الاستعمار والصهيونية ، حتى أطلق كلمته الشهيرة في حق الإعلاميين العملاء وقادتهم : (( لقد ذبحوني !! )) وتماما مثلما حاربوا الكثير الكثير من الأدباء والمفكرين الذين تنبض في عروقهم قيم الدين والتاريخ الإسلامي والفضيلة والغيرة والجهاد !!
لتتضح الصورة أكثر أنقل لكم نماذج من كلام نازك في مرحلتها الأولى ، ومرحلتها التالية ، لنأخذ فكرة ولو بسيطة عن حجم التحول الديني والفكري الذي مرت به الأديبة والمفكرة الكبيرة ، وليس الهدف إلا إثارة الانتباه للتوجه إلى مزيد من القراءة لإنتاج الراحلة في مرحلتيها ، ولتكوين صورة وافية عنها والمقارنة بين مرحلتيها ، ولنعرف المزيد من حقيقة الإعلام ومؤسسات الثقافة الرسمية اللادينية وتوجهها الذي لم يعد خافيا على ذي لُب ، ولكن ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد !
المرحلة الأولى :
نماذج من بحثها ( المرأة بين الطرفين ؛ السلبية والأخلاق ) 1953 :
1 ـ " لامعنى لأي قانون اخلاقي لايقدم للمرء حرية كاملة على مخالفته، وذلك لان كل قانون اخلاقي إنما يكتسب قوته من افتراض حرية الناس على اتّباعه او مخالفته، ومن هذه الحرية تنبع اخلاق الناس، هي التي تجعل الخلق قابلاً لان نقضي عليه بالثواب أو بالادانة، وهذا يتضمن ان نقول إنه لو احتوى كل قانون أخلاقي على وسائل للتنكيل بمن يخالفه لفقدت الاخلاق قيمتها وأصبحت معنى قسرياً لافضيلة فيها ".
2 ـ " أبسط دراسة اجتماعية للألفاظ والقواعد العربية تدلنا دلالة موضحة على ان هذه لغة قوم يستهينون بالمرأة. فالتقديم في النحو هو دائما للمذكر على المؤنث.والتغليب يذهب في هذا مذهبا يحتم تغليب مذكر واحد على أي عدد من الاناث ولو بلغ الملايين، والضمائر المفردة تُستعمل سخاءً للتعبير عن جماعة الاناث في بعض النصوص المشهورة، وما يلفت في اللغة كلمات مثل "الأمية" ومعناها الجهل بالقراءة والكتابة، وقد نُسبت الى الأمّ. أما قولهم "شاعر فحل" فهو ينم عن قيمة الفحولة ويتضمن أيضاً الاستهانة بالانوثة، والى هذه الاستهانة ترتكز كلمة "فحل" في قوتها، ونظن هذه الامثلة تكفي ونرجو ان يتاح لنا التفرغ لإفراد بحث حول هذا الموضوع في فرصة أخرى ".
نموذج من بحثها ( التجزيئية في المجتمع العربي ) 1954:
تحدثتْ عما سمته " القيم والأخلاق السلبية " التي قالت إن مرجعها إلى :
" سكونية اخلاقنا واحترامنا التقديسي لفضائل مثل العفة والنزاهة والاباء والصدق فهي كلها لو دققنا فضائل سالبة لاتنطوي على فعل وانما تستند الى امتناع، فالعفة مثلا ليست فعلا وإنما هي امتناع عن فعل شرير اثم، وكذلك النزاهة والصدق والصبر والإباء وغيرها ".
المرحلة الثانية :
نماذج من بحثها ( مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية ) 1968:
يبدو التحول الديني والفكري جليا حينما نقارن الطرح السابق بالطرح التالي في هذا الكتاب ، فبعد أن كانت تدور حول مفردات قومية علمانية تخالف مفاهيم الإسلام والفضيلة والحشمة والشعور بالتميز والاختلاف عن الأمم الأخرى والثقافات الأخرى ( سبق بعضها أعلاه ) ، صارت تتحدث عن مفردات من قبيل : " الله الخالق العظيم الكريم الحكيم " و " الخشوع لله " و " المحافظة " و " الأصالة " و " البدعة " و " الأباطيل " و " فساد الدين والأخلاق " و " التفسخ " و " الشهوات " و " الاختلاط غير البريء " و " التبرج " و " التأنق المسرف " و " عدونا الأكبر إسرائيل " و " ضرب إسرائيل " إلى غير ذلك من عبارات ومفاهيم تدل دلالة بينة على توجّه جديد وتديّن وخوف من الله وغيرة على المجتمع !
والأمثلة كثيرة وجلية ، ولا بد من قراءة البحث كله ليتضح فكرها وتوجهها الجديد ، لكن لا بأس من الأمثلة التالية :
1 ـ " عندما تختار المراة العربية اليوم لنفسها أن تكون متبرجة مبالغة في الأناقة فهي بذلك تصدر على ذهنها وروحها حكما قهّارا يزج بها في ظلمات فلسفية وفكرية لا حصر لها ، وأبرز هذه المسالك المظلمة أنها تخلي حياة المراة من فكرة ( الحرية ) إخلاء تاما " .
2 ـ " التعريف الحق للحرية في نظرنا هو سقوط القيود والأغلال عن الذهن الإنساني بحيث يقوى على فرض نظرة جديدة أصيلة إلى الأشياء كلها ، ويستطيع أن يغيرها وفق حاجاته الروحية . فإذا وجد خطأ أو قبحا أو ضررا استطاع أن يحتجّ عليه ويرفضه ويغيره إلى ما ينفع الحياة الإنسانية . والمرأة مع الأسف ما زالت تنقصها هذه النظرة الحرة إلى الأشياء " .
3 ـ " ما زالت المرأة تحيى بعواطفها وغرائزها وحدها ، منحها الله الذكاء والعقل والإبداع ، فلم تستعمل منها شيئا ، وبقيت أشبه بدمية مثلها الأعلى الأناقة المسرفة ، وبذلك جحدت عطاء ربها وجحدت المجتمع وجحدت ذاتها " .
4 ـ " هذه المجلات [ الأزياء والموضة ] تعامل المرأة الحديثة معاملة جواري ألف ليلة وليلة ... " .
5 ـ " بدلاً من أن تعتمد الفتاة على مرونة ذهنها وسعة ثقافتها وجمال روحها ورقة ابتسامتها نجدها تعتمد على كثرة ملابسها والتصنع في شعرها . وبدلا من أن توسع آفاق فكرها بالمعرفة والعلم تلجأ إلى التبرج والتغنج والملابس القصيرة الضيقة التي تبرز أعضاء الجسم كما تُبرَز أجسام الجواري في سوق النخاسين " .
6 ـ " قد تظن الفتاة أن تبرجها شيء ظاهري لا يمس عقلها ، فهي تستطيع أن تكون حرة رغم إمعانها في الأناقة وإسرافها في التصنع ، وهي في هذا مخطئة " .
7 ـ " إنما تأتينا هذه الأناقة الشائهة من بلاد الاستعمار والرأسمالية في الغرب ، وهذه حقيقة لا نكران لها ، ومن عجبٍ أننا لا نتدبرها مطلقا " .
8 ـ " إن الوقت الثمين الذي يضيع عند الخيّاطة كان يمكن أن ينفق في إسباغ الحب على أب شيخ مريض أو زوج مرهق او طفل يحتاج إلى التوجيه ، وبدلا من ان تذهب الفتاة إلى الحلاق تستطيع أن تطالع كتابا ينير عقلها ويهدي روحها " .
9 ـ " ... نعم خرجت المرأة الغربية إلى العمل ، ولكن روحها ما زالت ذليلة ، ومقاييس الجمال القديمة ما زالت نافذة في حياتها " .
10 ـ " ... ولكنّ حكمة الله اوسع من أن ندركها كلها ، والخطأ في الموضوع خطأ البشر ، جلّ العظيم أن يكون عمله ناقصا أو مغلوطا " .
11 ـ " ... لو أنزلت كل امرأة نفقات أناقتها إلى الربع لا ستطعنا شراء طائرات تكفي لدحر عدونا الأكبر إسرائيل " .
12 ـ " أول واجب يقع على هذه الحكومات أن تحافظ على روح اللباس الشعبي العربي بدلا من أن نقلد في لباسنا الغرب بدعوى أن أزياءه عالمية !! ... علينا أن نحيي ملابس جداتنا الطويلة التي تصون العفة وتحفظ الجسم من الحر والبرد أجمل حفظ ، وفي وسعنا أن نطور هذه الملابس بما يلائم العصر على أن نضع الأنماط في بلادنا دون أن نستوردها من الخارج ... وفي مقابل هذا تُمنع مجلات بُردة اليهودية وأمثالها من دخول العالم العربي ، وتُمنع المجلات والجرائد العربية من نشر أنباء الميني جوب كما يسمونها وغيرها ، وما أكثر ما تقوم جرائدنا بالدعوة إلى هذه الأزياء وهي غافلة " .
13 ـ ثم قالت بعد ذلك : " ثم تعيد الحكومات العربية النظر في الإذاعات المرئية التي أفسدت الحياة العربية أيما إفساد ، فإن مذيعات التلفزيون قد أصبحن شر نموذج للأناقة المصطنعة ، تقلدهن تلميذات المدارس وربّات البيوت في نمط شعرهن ولباسهن ، وقد كان على الإذاعة المرئية أن تدرك أن المذيعة ينبغي أن تكون مثالا للحشمة والوقار وبساطة الشعر والملبس لتكون قدوة صالحة للمواطنة العربية العاملة التي يهمها عقلها وبيتها ووطنها ، وتنفق وقتها في التعلم والتوجيه والخدمة " .
14 ـ " إن هناك تخطيطا عاما في مجتمعنا يرسم للمرأة أن تنهار أمام الغزو المادي الغربي ، ولو أرادت الحكومات العربية أن تخطط تخطيطا آخر لاستطاعت ، وذلك بأن تمنع مجلات الأزياء الغربية منعا صارما ، وتقيم معامل للأقمشة عربية وتحيي أزياءنا الشعبية ، وتستعمل وسائل الإعلام في تشجيع المواطنة العربية على تقليل نفقات زينتها والتبرع بها للمجهود الحربي وللآلاف المؤلفة من اللاجئين العر اة .. " .
15 ـ " اليهود كما ثبت في هذا العصر يسعون إلى أن يسيطروا على العالم ويحكموه بعد القضاء على الحكومات العالمية جميعا .... يسيطرون على المال ويفسدون الدين والأخلاق ... ويحققون ايضا قتل الأخلاق القومية للشعوب ، فيشيعون التفسخ وينشرون الشهوات ، وإنما الملابس القصيرة ابتكار يهودي ، فقد رفعوا ازياء النساء فوق الركبة ، ليزول الحياء وتنتشر الرذيلة ، ويشيع الاختلاط غير البريء بين الشبان والشابات ، وتضيع طهارة الفتاة وتتهدم الأسرة وتنتشر الأمراض الجنسية ويبتلى الأطفال الأبرياء وينشأ جيل ضائع موبوء ، كل هذا يصنعه اليهود ونحن غافلون ، والمرأة العربية تسعى إلى حتفها وحتف أمتها ، فهل آن لها أن تعرف هذا وتفيق من احلامها ؟! " .
إلى غير ذلك من كلامها الشريف العالي والغيور الواعي ، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته .
ولعل التأمل في هذه الكلمات وخاصة النقد اللاذع الموجه للحكومات والإعلام يفسر لمن لا يدري حقيقة موقف الإعلام اللاديني من هذه الأديبة الغيورة والمفكرة النابغة ، وذلك بعد أن غنّوا لها وطبلوا في أول حياتها ، حينما اغترّت بدعوات الشيوعية والعلمانية الملحدة ، لكنها في حقيقة الأمر كانت تنطوي على ضمير حيّ وفكر نبيل وإحساس صادق ، ولذلك ما لبثت أن اهتدت ، فالله يحب الصادقين ويهديهم ، وحينئذ قلبوا لها ظهر المجن ، ونسوا تماما من سموها رائدة الشعر الحر ورائدة الحداثة والحرية بين النساء !!!
بل أخذوا ينشرون مقالات عن انتكاستها الفكرية والأدبية ، ويبررون ذلك باعتلالات نفسية وضغوط اجتماعية ينسبونها إلى نازك !! وقد كذبوا في ذلك وافتروا ، فالقوم على نهج أتباعهم من ملاحدة الغرب الذين إذا رأوا المرأة تحتشم وتنزوي عن الرجال بما يمليه عليها حياؤها الفطري ظنوا فيها أنواعا من الأمراض النفسية والشذوذ الاجتماعي ، فقاتلهم الله من ضالين منحرفين هم وأسيادهم !!!
يتبع......