قال محمد البشير الابراهيمي -رحمه الله- في آثاره (5-96):
" أصبح الاستعمار كالشيطان ملعونًا بكل لسان، ممجوجًا اسمه في كل سمع، ممقوتًا في كل نفس، مستنكرًا من كل عقل، ومن ذا يرضى عن الطاعون الذي يبقي من السبعين سبعة، أو على السل الذي يختزل الآجال من التسعين إلى تسعة؟
ولكن الذي يحزن الاستعمار انه لم يضمن البقاء كالشيطان فيكون من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فقد أحاطت به خطيئاته، وريعت بالصيحة الكبرى حجراته، وأمسى في حالة احتضار وسيفارق هذه الدنيا غير مأسوف عليه، فلا تبكي عليه سماء ولا أرض، وسيستريح العالم الإنساني من شر كان مصدر الشرور، وكان مثار النزاع ومؤرث الحروب.
يظن الناس الذين ينظرون إلى الأشياء من جهة واحدة أن الاستعمار مصيبة على الأمم الضعيفة التي ابتليت به، ولا يقلدون على ذلك في فهمه وتحليله، ولو تجاوزوا التفكير السطحي لعلموا أنه مصيبة على أصحابه المتمتعين بفوائده المادية من مال وسلطان وقوّة، لأنه لم يزل- منذ نشأ فيهم وتكون، إلى أن تطور بهم وتلون- شرًّا يلد شرورًا، وعتوًّا ينتج غرورًا، إلى أن أمسى في يومنا مرضًا مزمنًا في أهله، غير أنهم لم يستطبوا له كما يستطب المريض لدائه، ويمنعهم من ذلك أنه زاد على معاني المرض المعروفة بمعنى يشبه أثر الحشيش في نفس الحشاش، وصاحب الحشيش يوقن بأنه سائر في طريق الموت إذا أدمن، ولكنه لا يقوى على الإقلاع، والمستعمرون يعلمون- في هذا الزمن على الخصوص- أن الاستعمار في طريق الزوال، لأنه لصوصية، واللصوصية لا تدوم إلّا بمقدار قوّة اللص، أو بمقدار ضعف الفريسة أو غفلتها، فإذا انهارت القوّة من جانب، أو انجابت الغفلة من الجانب الآخر، بطل الاستعمار ورجع كل شيء إلى أصله، ومع هذا الايقان لا يستطيعون التغلب على نزعة الاستعمار والإقلاع عنه، لأنها أصبحت مرضًا في نفوسهم، مسلطًا على مراكز تفكيرهم، مالكًا عليهم آفاقها. "