خيوط النور رواية من تأليفي - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > قسم الإبداع > قسم القصة ، الرّواية والمقامات الأدبية

قسم القصة ، الرّواية والمقامات الأدبية قسمٌ مُخصّصٌ لإبداعات الأعضاء في كتابة القصص والرّوايات والمقامات الأدبية.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

خيوط النور رواية من تأليفي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-04-19, 16:35   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










Post خيوط النور رواية من تأليفي

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


إخوتي أخواتي في الله


يسرني أن أقدم لكم رواية " خيوط النور"


وأتقدم بالشكر الجزيل لكل من ساهم في خروجها للنور من قريب أو بعيد بنقد بناء أو رأي أو توجيه


أسأل الله جل في علاه أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن يتقبله إنه سميع مجيب.


خيوط النور:



الحلقة الأولى

بعنوان


صفقة رابحة




في قطر من أقطار الأمة الإسلامية في الألفية الثالثة، تعيش أسرة أحمد في شقة متوسطة في حي جميل وبسيط حيث يدير محلا يضم معملا صغيرا لخياطة زي المرأة المسلمة.
وقد أغنى الله أحمد من فضله، فكان يقسم نفقاته بين والديه وأسرته، ويدخر لتطوير مشروعه ثم يخرج زكاة ماله التي يعتبرها صمام الأمان التجاري لقطره.
وفي يوم من أيام الربيع الجميلة، وقد بدأت الشمس في جمع أشعتها استعدادا للرحيل، والبدر يستعد لينير أرجاء المكان، والسكون بدأ يدب رويدا رويدا في أوصال المدينة.

وصل أحمد بيته مسرورا بالصفقة الجديدة مع شركة "إحسان للقماش"، فقابلته زوجته نور بوجه بشوش كالعادة.
- أهلا بك يا عزيزي.
أحمد: أهلا بك يا رفيقة العمر.
نور: أرى الفرحة تطل من عينيك يا أحمد، هل لديك أخبار سارة عن الصفقة ؟
أحمد: اليوم بفضل الله أتممت الصفقة مع شركة القماش التي حدثتك عنها، استخرت الله واتصلت بالمدير، شرحت له طبيعة عملنا وكيف أن قماش شركتهم مناسب جدا للزي الذي نقوم بخياطته، فوافق بفضل الله ووقعنا العقود بعد صلاة العصر.
نور: الحمد لله على فضله، جعلها الله فاتحة خير ونفعنا بها.
أحمد: يا رب آمين – هكذا يا نور حياتي لا تنسينا من الدعاء دائما...أين الأولاد؟
نور: عمر ويوسف وعثمان يلعبون كرة القدم مع بعض شباب الحي وفاطمة ومريم وعائشة في غرفتهن.
أحمد: إذن أنادي الشباب لنتناول طعام العشاء.
نور: ونحن سنجهز الطعام في انتظار عودتكم بإذن الله.
دخل الأب غرفة البنات بعد الاستئذان فخاطبهن باسما كالمعتاد:
- السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
البنات: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أحمد: كيف حالكن يا قرة عيني ؟
فاطمة: بخير والحمد لله يا أبي العزيز.
وجرت عائشة لتتعلق برقبة أبيها كالعادة وهي تلاعبه ببراءة طفولية تضفي على جو الأسرة طابعا خاصا. فاهتم بها أحمد كالعادة وفاجأها بلعبة جديدة جلبها لها، ففرحت كثيرا وانطلقت مسرعة لتريها لأمها.
ثم قال ضاحكا: سأذهب لمناداة إخوتكم لنتناول العشاء معا ونستمتع مع مريم بقصة اليوم.
ثم ألقى التحية وخرج.
وذهب إلى ملعب الحي باحثا عن أبنائه الثلاثة فوجد يوسف ابنه الأوسط الطالب في " الثانوية العامة "، في نقاش حاد مع أحد أصدقائه.
فاقترب الأب وقد حزن لما رأى، وقال لابنه: استعذ بالله من الشيطان ولا تغضب.
أقبل يوسف باتجاه أبيه وانحنى على يده فقبلها وقال: تامر هو الذي أغضبني يا أبي، سجلت هدفا ولكنه يقول أني لمست الكرة بيدي..
أردف الشاب: نعم والجميع يشهد.
ابتسم الأب وقال: يا ابني يا يوسف ويا ابني يا تامرلا داعي لكل هذا فهي لعبة بالنهاية،
فلا تتركا الشيطان يتسلل إلى علاقتكما فيفسدها...
يوسف مقاطعا: ولكن يا أبي..
فبادره أبوه مبتسما: هونا عليكما وتصافحا لعل الله يغفر ما صدر منكما في هذه اللحظات..
فتصافح الشابان وتبادلا الاعتذار ...
ثم دعا أحمد الشاب للعشاء فاعتذر بلطف، وانصرف الجميع إلى حال سبيله.


التأم الشمل حول مائدة الطعام فافتتح الأب بالبسملة ثم شرع الجميع في الأكل، وهميتجاذبون أطراف الحديث والأب يسأل الجميع عن أحواله الإيمانية والشخصية والدراسية... الحمد لله الذي أطعمنا هذا ورزقنا إياه من غير حول منا ولا قوة.


قالها أحمد بعد أن أنهى طعامه.
ما أروع أن يشكر الإنسان ربه على النعم ليحفظها له من الزوال ويغدق عليه من أفضاله.
فكما قال تعالى :{ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (7)} سورة إبراهيم.
التفت الأسرة حول مريم وكلها آذان صاغية حتى تسمع قصة اليوم فبسملت وحمدت الله تعالى كماعلمها والداها ثم بدأت تحكي القصة ...
يتبع بإذن الله...

بقلم: نزهة الفلاح








 


رد مع اقتباس
قديم 2012-04-19, 22:15   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي



الحلقة الثانية بعنوان:
مفاجأة
افتتح عمر جلسة العائلة بترتيل آيات بينات من أواخر سورة لقمان:


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ



استرسل عمر بصوته الشجي، فنزلت السكينة على الحاضرين، وحرك وجدانهم لتدبر آيات الذكر الحكيم.






بعدها شرعت مريم تروي قصتها والكل يسمعها باهتمام،


وكانت القصة عن عمر بن عبدالعزيز، وكيف أن جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحسن اختيار زوجة ابنه عاصم، الذي بنى أسرة مسلمة على مراد الله وأنجبا أم عمر بن عبد العزيز.


ركزت مريم على أن عمر بن الخطاب كان حكيما في الاختيار، مدركا أن اختيار الزوجة والزوج هما أساس بناء أسرة تبني أساسا متينا لأجيال قادمة.


استرسلت مريم في سردها للقصة، وقد أخذت بمسامع الجميع لما لها من أسلوب جذاب في الحكي.


ثم ختمت حديثها قائلة:


- هكذا يا أفراد أسرتي الحبيبة كانت نظرة الفاروق رضي الله عنه ثاقبة بفضل الله فكان سببا في إخراج إمام عادل ملأ الأرض عدلا وسلاما بعدما دب الفساد في أوصال الأمة في القرن الثاني للهجرة .
رضي الله عن سيدنا عمر بن الخطاب وعن حفيده عمر بن عبد العزيز وأرضاهما.
أردف أحمد بعد أن أنهت مريم القصة قائلا: اختيار موفق يا ابنتي وكأنك وضعت يدك على الجرح ووصفت الدواء.


فكل ما تعيشه أمتنا اليوم من هوان وظلم يحاكي مرحلة ما قبل خلافة عمر بن عبد العزيز بعدة أشكال.


وجزء من الحل في نظري يكمن والله أعلم في زرع بذور أسر مسلمة على مراد الله تسير على منهج واضح المعالم،


أسر تكون سببا في تعاقب أجيال التغيير وعودة الأمة إلى حضارتها وعزها،
وتكون كما يحب الله ورسوله على المحجة البيضاء لا تتبع إلا الحق ولا تلتفت إلى سواه.


استمرت مناقشة القصة واستخلاص العبر منها بين أفراد الأسرة حتى أذان العشاء فتفرق الجمع لأداء الصلاة وتلبية نداء الرحمن.
فجأة أصيبت نور بغثيان ودوار، فهرولت تجاه الحمام وتبعتها فاطمة ابنتها الكبرى بينما جلست البنات بين انتظار وخوف على أمهن.


عادت نور برفقة فاطمة فطمأنت الجميع.


جلست وحولها بناتها وفي أعينهن خوف واستفسار.


فقالت لهن مطأطئة رأسها:


- أنا حامل.


ضحكت عائشة ذات التسع سنوات وقالت:


- ما أروعك يا أمي ستلدين لي من يلعب معي ويسليني؟


قالت مريم: خير يا أمي لعله خير.


بينما سكتت فاطمة ولم تنبس ببنت شفة.


- من الآن يا أمي لن تقومي بأشغال البيت


قالتها مريم وهي تنظر لأمها محاولة تلطيف الجو.


ثم استطردت: قومي يا أمي لترتاحي في غرفتك.


قامت نور إلى غرفتها وذهبت البنات إلى غرفتهن.


- ماذا سأقول لصديقاتي؟ بماذا سأواجه بنات العمارة والحي بعد اليوم؟


قالتها فاطمة بعصبية.


فأجابتها مريم: لماذا تقولين هكذا يا فاطمة ؟ هل أجرمت أمنا؟


فاطمة: لا حاشا لله ولكن أخ أو أخت صغيرة في هذه السن؟ بعدما دخلنا أنا وعمر للجامعة وأنت صرت في الثانوي؟ ماذا ستكون ردة فعل يوسف وعمر؟ وأبي أيضا؟


مريم: هل تعترضين على مشيئة الله يا فاطمة ؟ حملها ليس بيدها فهو سبحانه القائل في كتابه العزيز:


لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) سورة الشورى.


فاطمة: اللهم لا اعتراض على قضائك، لكن ضعي نفسك مكاني يا مريم.


مريم: حبيبتي ألم تسمعي الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم:"تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".



والحمد لله أبوانا صالحان بفضل الله وربيانا تربية على منهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم


ربما شاءت حكمة الله أن يخرج من صلبهما صلاح الدين جديد


فاطمة: وهل صلاح الدين بهذه البساطة؟


مريم: وما أدراك؟


استغفري ربك يا فاطمة وارضي بقضائه فإن الله يريد ونحن نريد ولا يكون إلا ما يريد فإن رضينا بما يريد نلنا أجر من شيمته الصبر والرضا وهما خصلتان عظيمتان لا يتصف بهما إلا مؤمن.


فاطمة: أستغفر الله العظيم – أستغفر الله العظيم


دخل أحمد غرفته حين عودته من المسجد مبتسما فوجد نور شاحبة الوجه شاردة الذهن فسألها بحيرة:


- ماذا بك يا حبيبتي؟ أأنت مريضة؟


نظرت إليه نور وبداخلها خوف من ردة فعل سلبية تجاه الخبر ثم قالت بصوت خافت:


- أنا حامل يا أحمد.


رد أحمد مبتسما محاولا إخفاء أثر المفاجأة تخفيفا على شريكة حياته:


- الحمد لله على فضله ومنه أن رزقنا زينة الحياة الدنيا وأساله تعالى أن يتم علينا نعمته فيجمعنا تحت عرشه رفقة حبيبه صلى الله عليه وسلم في الآخرة.


نور: ألست مستاء من الأمر يا زوجي العزيز؟


أحمد: ولم أستاء؟ وهذا رزق من رب العالمين.


أعلم أن تربية الأبناء صعبة وتحتاج منا جهدا ومتابعة لنؤدي الأمانة ونربيهم كما يحب الله وبرضى، لكن وما يدريك؟ لعل هذا الجنين يعولنا في كبرنا ويؤنس وحدتنا؟


ثم أكمل مازحا: حين نصبح بلا أسنان وظهورنا منحنية وتقولين لي:


ذهب الجمال يا أحمد وبقيت ملامحه.


تنفست نور الصعداء وابتسمت ضاحكة لأن أحمد يشاطرها فكرها وكأن بينهما اتصالا ذهنيا.


سبحان الله الذي خلق الأزواج وجعلها سكنا وألف بين قلوبها بالمودة والرحمة.


أحمد: ارتاحي يا حبيبتي ولا تفكري كثيرا فمدبر الكون كفانا التدبير.


نور: أفرحتني بردة فعلك جزاك الله الجنة وأفرحك بالنظر إلى وجهه الكريم


طرقت عائشة باب الغرفة:


- عثمان عثمان


ماذا تريدين يا عائشة ؟


عندي لك خبر رائع.


عثمان: خير؟


عائشة: أمنا حامل وستأتي لي بطفل ألعب معه.



عثمان: حسنا سأقولها للآخرين.


دخل عثمان غرفته وإخوته وقال لهما مازحا:


- سأزف لكما خبرا جديدا – كم ستدفعون لي؟


عمر بمزح ممزوج بفضول: أفصح يا صاح - ميزانية هذا الأسبوع كلها لك


عثمان: أمنا حامل يا شباب.


انعقد لسان يوسف وعمر من الذهول ونطقا بصوت واحد :


- حامل؟


عثمان: نعم هذا ما قالته لي عائشة قبل قليل، ما رأيكما في الخبر؟


يوسف: بصراحة هذا خبر لم يكن في الحسبان، بعد ميلاد عائشة بتسع سنين ونحن قد كبرنا الآن، ومنا من هو في الجامعة ومن هو في الثانوية...سيكون مصدر حرج لنا بين أصدقائنا ومعارفنا.


عثمان متعجبا: حرج؟ أهو عيب أن تلد أمنا ؟


عمر: عثمان محق يا يوسف – أعلم أن المسألة صعبة لكن هذا رزق من الله ويجب أن نرضى به فهو أعلم بالأصلح لنا – ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟


والحمد لله حالتنا المادية جيدة لاستقبال طفل جديد وأبوانا لازالا في شبابهما لا تنس أنهما تزوجا في أوائل العشرينات.


يوسف: نعم يا عمر لكن المسألة لن تمر هكذا في محيطنا ولا تنس أيضا أن وجود طفل في هذه السن سيقلق راحتنا.


عثمان: لا يحق لأحد أن يتدخل ما دامت المسألة لا تنافي شرع الله.



استأذن الأبناء للاطمئنان على صحة والدتهم ثم انصرفوا إلى غرفتهم للنوم.


وفي غمرة الصمت السائد، انطلق صوت صراخ:


- أنقذوني أنقذوني سيقتلني سيقتلني

يتبع بإذن الله.









رد مع اقتباس
قديم 2012-04-20, 11:14   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة الثالثة:

بعنوان: نجدة


قفز أحمد من مكانه ظانا أنه يحلم.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...
- اهدأ يا أحمد، هذا صوت جارتنا سوسن ، أظن أن زوجها ضربها كالعادة.
التفت أحمد بانفعال ممزوج بالصدمة: ماذا؟ وهل هي بهيمة لكي يضربها؟
لا حول ولا قوة إلا بالله.
نور: هذه عادته حين يسكر، كل يوم تقريبا أسمع صراخهم في النهار ولكن اليوم أول مرة أسمع صراخ سوسن في الليل وبقوة، هداه الله وأعانه على نفسه.
أحمد في غضب: وكيف تعلمين بما تعانيه جارتنا ولم تخبريني يوما؟
نور بارتباك: والله يا عزيزي ما كنت أظن أنك ستغضب خصوصا وأنك أخبرتني مرة أنك تحاول التقرب إليه لتعينه على ترك الخمر.
أحمد : وهذا أحرى أن تخبريني لعل الله يرشدني إلى مفتاح الأمر فنكون سببا في إصلاح حال الأسرة.
نور: أنا آسفة، أرجوك لا تغضب علي فإني لا أطيق ذلك.
أحمد بحزم وجدية: دعيك من هذا الآن وسنتناقش لاحقا بإذن الله وهيا بنا الآن لنرى ماذا يجري لعلنا نصلح بينهما.
رن أحمد جرس الباب فإذا بابنتهما ذات الست سنوات تفتح الباب، وهي تبكي بشدة وترتعش من الخوف.
أحمد بذهول: يا إلهي،ماذا بك يا ابنتي؟
وفاء: ماما- ماما
حضنت نور الطفلة بسرعة محاولة تهدئة روعها وطرق أحمد الباب وهو ينادي الأب فلا يصح الدخول للبيت دون استئذان.
خرجت الأم بعد دقائق وهي ترتعش وتلهج بكلمات غير مفهومة ثم سقطت مغميا عليها أمام الباب.
- سوسن سوسن ... يا للمصيبة، ماذا بك يا أختي ؟ أجيبيني رجاءً.
نادت نور سوسن المحطمة وهي تبكي لهول ما رأت.
أحمد: لطفك يا الله ...هذا وحش وليس بإنسان ...
حزن أحمد على الجارة المظلومة، فلقد باتت بلا ملامح، حتى أن وجهها غاب وسط حمرة الكدمات، والعينان شبه مقفلتين، والجسد خائر القوى منهك من الضرب شبه اليومي، ولكن هذه الأخيرة كانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير.
ثم ذهب بسرعة إلى بيته ليتصل بالإسعاف وأخذ وفاء معه، وترك نور مع الجارة المنهارة معنويا وجسديا، تحاول إيقاظها.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك وهدى الله زوجك وأصلحه.
تمتمت نور بهذه الكلمات وهي تمسح جبين جارتها وتواسيها بحنان ورفق رغم أنها غائبة عن الوعي.
تأخرت سيارة الإسعاف للأسف، فأخذها الزوجان إلى المستشفى بعد أن أوصت نور بناتها أن يعتنين بالطفلة.
وصلوا إلى قسم المستعجلات، فانبهروا بالحشد الذي ينتظر دوره، فهذا بطنه ممزقة من أثر شجار وهذا حاول الانتحار وهذه تتوجع من ألم حادثة سير وهذا وهذا...
وما لبثت أن زكمت أنوفهم رائحة كريهة تنبعث من المكان بسبب قلة التنظيف وسوء التدبير.
حالات كثيرة في دقائق معدودة استقبلتها عينا أحمد فأدمت قلبه وجعلته ينقبض حسرة على ما وعى.
ودخل أحمد ليسأل عن الطبيب فنهره الممرض قائلا:
- اخرج يا هذا وقف مع "البشر" حتى يأتي الطبيب.
نظر إليه أحمد وقال:
- اسمي أحمد وليس هذا وقد رزقني الله باسم وهؤلاء بشر نعم ولكنهم أناس خلقهم الله كما خلقك
نظر إليه الممرض بازدراء فاستمر أحمد في تعليقه:
- من تكون في ملك الله لكي تتعامل معنا بازدراء؟ ما أنت إلا إنسان مثلنا ولو كنت ملكا جعلك الله على خزائن الأرض...
ابتسم الممرض محاولا استغلال الوضع لصالحه وقال:
- نعم أناس أناس وأنت أحمد نعم أحمد، هل تبحث عن الطبيب؟
أحمد: نعم
الممرض: الطبيب يرتاح في الاستراحة، وإن كنت تحتاجه على وجه السرعة أنا في الخدمة.
فهم أحمد أنه يريد رشوة فتجاهل الأمر لأنها لعنة من الله لا يطيق عواقبها ثم قال مستنكرا:
- يا الله الطبيب يرتاح؟ ولماذا هو هنا ويدفع له أجر ؟ ليرتاح من الراحة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله...
استطرد أحمد مستنكرا:
- أأنتم فعلا تراعون صحة الناس؟ كذبتم ورب الكعبة. لماذا لا يراعي أغلب الأطباء الله في مهنتهم التي استأمنهم الله من خلالها على صحة خلقه ؟
- يا سيد الطب ليس لقبا ولا منصبا وإنما هو رسالة وأمانة...
تركه الممرض بتبلد غريب في الأحاسيس ولامبالاة وكأنه أقفل على قلبه في ظلمة المادية والطمع ورمى مفتاحه في بحر لجي ودخل إلى غرفة الكشف.
استاء أحمد من هذا الوضع الذي لا تراعى فيه الإنسانية ولا يعطى المواطن أبسط حقوقه وهو العلاج.
فكر مليا ثم ذهب إلى السيارة وركبها منفعلا من آثار المشاهد اللا إنسانية والانتهازية المطبقة على المكان فمن دفع الرشوة عومل باهتمام ومن لم يدفع عومل كالكلب بل حتى الكلاب لها حقوق اليوم.
ثم قال لنور بلهجة حازمة: لابد من إنقاذ جارتنا، إذا انتظرنا أكثر سيتفاقم الوضع ونسأل أمام الله على التقصير.
نظرت إليه زوجته بنظرة ملؤها الفخر والاعتزاز بزوجها التقي الذي يخاف الله، وحمدت الله في نفسها على هذه النعمة التي هي حسنة الدنيا والمعين بإذن الله على الطريق نحو حسنة الآخرة.
ثم قالت: تقصد أن نذهب بها إلى مستشفى خاص ؟
أحمد: نعم يا عزيزتي فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ويقينا سيعوضنا خيرا
نور: إذن توكل على الله.
- وفاء وفاء ...
نادت سوسن بصوت خافت وهي تفيق رويدا رويدا فشدت نور على يدها بحنان وقالت:
اطمئني يا سوسن وفاء مع بناتي في البيت وهي بخير.
سوسن بصوت منهك: الحمد لله .. رأسي يؤلمني كثيرا.
ثم تصفحت بعينيها السيارة وقالت: أين أنا؟
نور: سنأخذك بإذن الله للمستشفى.
سوسن بصوت متعب: ماذا جرى يا نور؟
نور: أغمي عليك ... لا تفكري كثيرا الآن، لا تجهدي نفسك بالكلام، سنصل بعد قليل بإذن الله.
أحمد: حمدا لله على سلامتك أختي سوسن، شفاك الله وعافاك.
سوسن بمشقة: آمين.
وصل الثلاثة إلى المستشفى، فاستقبلتهما ممرضتان وأخذتا سوسن على وجه السرعة إلى غرفة الكشف وجلس الزوجان ينتظران ثم خرجت الطبيبة وسألتهما:
أنتما من أسرة المريضة؟
نور: نعم نحن جيرانها
الطبيبة: لقد أصيبت المريضة بانهيار عصبي ومعظم جسدها عليه آثار ضرب بأداة صلبة .
أحمد: لا حول ولا قوة إلا بالله
الطبيبة: من المجرم الذي فعل هذا؟ ماذا جرى بالضبط؟
فكر أحمد برهة وأجابها: زوجها حسب علمنا يا دكتورة ولكن لا علم لنا بما جرى بالضبط.
الطبيبة : عموما سأكتب تقريرا بالحالة وأبلغ الشرطة لتتخذ الإجراءات.
نور: وكم ستحتاج من الوقت لتعود لحالتها الطبيعية؟
الطبيبة : لا أستطيع التحديد إلا بعد إكمال الأشعة.
نور: بارك الله فيك يا دكتورة.
الطبيبة : لا حاجة لانتظاركما فقد تم نقلها للعناية المركزة بعد فقدانها الوعي والزيارة ممنوعة مؤقتا.
ذهب الزوجان إلى الاستقبال لدفع مبلغ مسبق ريثما يحددون التكلفة النهائية ثم عادا إلى بيتهما متأثرين بالحادث وفي السيارة تجاذبا أطراف الحديث بخصوصه.
أحمد: بصراحة يا عزيزتي فوجئت اليوم بالوضع المؤلم الذي تعيشه جارتنا.
نور: أحيانا كنت أسمع صوت شجارهما وكنت أظنه عاديا لكنني اليوم صدمت بحالة سوسن، المسكينة محطمة والصغيرة مصدومة مما رأت.
اغرورقت عينا نور بدموع الحزن على جارتها وقد تذكرت شقيقتها التي تعيش نفس المأساة مع زوجها اللا مسؤول ثم دعت الله بخشوع لهما في سرها.
اللهم فرج عنهما همهما واكشف عنهما الضر إنك على كل شيء قدير.
التفت إليها أحمد وقد لاحظ ارتباكها وتفاعلها مع مشكل جارتهما: اهدئي حبيبتي وإن شاء الله تقوم بالسلامة، لعل هذا الحدث كله خير لها.
تنهدت نور وقالت: صدقت لعله خير ... رب ضارة نافعة.
أحمد: كنت أتمنى يا نور لو كنت قريبة من جارتنا لعلك تخففين عنها ما تمر به.
نور: حاولت مرارا، كنت أرى الحزن في عينيها وكلما حاولت الاقتراب كانت تصدني بطرق غير مباشرة، فآثرت أن أتعامل معها كما تحب ولا أتدخل في شؤونها.
أحمد: الله المستعان، هكذا بعض الرجال جهلة بما لهم وما عليهم وكذا بعض النساء وللأسف هذا حال الكثير من الأسر إما تجد الزوجة تعاني في صمت أو الزوج صابرا لأجل الأسرة.
نور:على فكرة لماذا أخبرت الطبيبة أن زوج سوسن من ضربها؟ هذا يمكن أن يعرضه للسجن.
أحمد: وهل ترضين أن أكذب؟ أو أن أكتم شهادة حق؟ هو أخطأ ولابد أن يأخذ جزاءه وإلا سيستمر في ظلمه لزوجته ولن يرتدع.
قال الله جل في علاه:
وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) سورة البقرة.
نور: صدقت يا عزيزي، بعض الرجال لا يعون حجم الميثاق الغليظ الذي عاهدوا الله عليه حين تزوجوا بنسائهم، فمنهم من يعاملها كالخادمة ومنهم من يهينها ويضربها كالبهيمة وغيرهم من الجهلة بدين الله الذين يفسرونه حسب أهوائهم.
اللهم إنا نعوذ بك أن نظلم أو أن نظلم، فالظلم ظلمات يوم القيامة ونحن بشر ضعيف لا يقوى على نار جهنم.
أحمد: فعلا معك حق.
وصل الزوجان إلى البيت فوجدا مفاجأة بانتظارهما...
يتبع بإذن الله.









رد مع اقتباس
قديم 2012-04-20, 15:46   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي



الحلقة الرابعة:

بعنوان: التيه



- افتحوا الباب افتحوا الباب ....
قالها سعيد صارخا بأعلى صوته ففزع الجيران وخرجوا يستطلعون ما يجري من الشرف والأبواب، لكن لم يجرؤ أحد منهم على الاقتراب أو إثناء سعيد عما يقوم به ..
بدأ يطرق باب شقة أحمد بقوة ويركله برجله وهو يتلفظ بأسوإ الألفاظ وأقذع الشتائم.

وصل أحمد وزوجته بعد لحظات، فغضب لما رأى بينما اختبأت نور وراءه خوفا من سعيد.


تمالك أعصابه بصعوبة لكي لا يزيد الموقف سوءا مذكرا نفسه بأجر كظم الغيظ والحلم عند الله


ثم قال لسعيد:

- ماذا هناك يا سعيد؟ لماذا تصرخ وتضرب الباب؟
- جئت يا جاري العزيز ...أهلا أهلا ....

قالها سعيد بسخرية وهو يتمايل ولا تكاد رجلاه تحملانه ثم أردف بعد أن أمسك بقميص أحمد:
- أين زوجتي وابنتي أيها المجرم؟ تتآمرون علي لتفرقوا بيني وبين أسرتي أنتم وكل الجيران ...
تحرضون سوسن على التمرد والعصيان.
حاول أحمد تهدئته متحملا الرائحة الكريهة التي تنبعث من فمه والألفاظ البذيئة التي يصفهم بها.

- أعوذ بالله من الوسواس الخناس لا أدري كيف تتحمل زوجتك وابنتك هذه الرائحة، كان الله في عونهما وهداك إلى طريق الرشاد.

تمتم أحمد محدثا نفسه ثم اصطحبه إلى شقته بعد أن أخبره بأن زوجته في المستشفى وأن ابنته نائمة، وأقنعه بصعوبة الذهاب للنوم حتى الصباح.

عاد أحمد إلى شقته بعد أن نام سعيد وهو يهذي بكلام غير مفهوم يدل على نفسية متناقضة غير سوية.

فوجد نور قد دخلت الشقة والأولاد مجتمعين. اطمأن على أسرته فردا فردا وعلى الصغيرة وتأكد أنهم جميعا بخير، ثم نظر إلى وفاء بحنان وحضنها لعله يعوضها قليلا عن غياب أبويها ..

قالت فاطمة: المسكينة عانت اليوم كثيرا، لا أعلم كيف تعيش خالتي سوسن وطفلتها مع هذا الزوج الذي انعدم عنده الإحساس بالمسؤولية.
فاستطرد عمر: بالصبر يا أختاه، ولولا أن الله يعين عباده لما تحملوا مصائب هذه الدنيا الغرور.

أحمد: الله المستعان يا أبنائي، الدنيا دار ابتلاء ولا بد للمرء أن يتشبت بشرع الله ليمر منها بسلام نحو الحياة الأبدية بعدما يؤدي أمانة استخلافه في الأرض فيفوز بخير جزاء وينعم بلقاء رب السماء.

يوسف بتأثر: اللهم اجمعنا تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك واغفر لنا زلاتنا ولا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك إنك أنت السميع المجيب.

أمن الجميع على دعاء يوسف الخاشع ثم قال أحمد:
- هيا يا أبنائي اذهبوا إلى غرفكم لترتاحوا فلم يبق إلا ساعتان لأذان الفجر...
دخلت البنات غرفتهن وقلوبهن لازالت ترتجف من أثر ما شهدن قبل وصول أبيهن...
بين الخوف من اقتحام سعيد للشقة والاستياء من الكلمات البذيئة الخادشة للحياء، وبين الحزن على وفاء وأمها وما تعانيانه في هذه البيئة القاتمة المعالم.
وماذا يُنتظر من شخص لا يعمل ويعيش عالة على زوجته وينام حتى العصر ثم يقوم فيشتري السجائر ثم يخرج بعد المغرب للعربدة مع رفاق السوء لينتهي به المطاف بإحدى الحانات أو المراقص الليلية ليخرج منها ثملا خاوي الجيوب مغيب العقل !!!

ضمت مريم الصغيرة إليها برفق وبدأت تصف لها الجنة بأنهارها ونعيمها بأسلوب بسيط، فاستسلمت وفاء للنوم وقد ارتاحت نفسيتها وذهب الخوف من قلبها الصغير بذكر النعيم، خصوصا وأن خيالها جد خصب لكن تواجدها في هذا الجو المكهرب يعيق اكتشاف مواهبها ويثبط كل إبداع...

بعد لحظات طرق عمر باب الغرفة ليطمئن على أخواته ووفاء فطمأنته مريم أنهن قد نمن، فخلد إلى النوم هو بدوره كإخوته. أما الوالدان فلم يغمض لهما جفن ..

قام أحمد فتوضأ وغير ملابسه ليصلي قيام الليل وزوجته كالعادة، ثم يوقظ أولاده قبل صلاة الفجر.

وعمت السكينة بيت أحمد ونور بعد هذه الليلة الشاقة على النفوس وتآلفت القلوب لترفرف في رحاب الإيمان وتسلم أمرها لخالقها فانمحى كل توتر واضمحل كل هم وانشرحت الصدور استعدادا ليوم جديد.
سلم أحمد بعد التشهد فتبعته نور في تناغم وانسياب، ثم التفت إليها باسما وقال:
- أرجو منك يا رفيقة عمري أن تسامحيني عما صدر مني اليوم ...أسأل الله أن يغفر لي ولك وأن يجمعنا في الجنة كما جمعنا في الدنيا.
ردت نور برفق ومودة:
- اللهم آمين يا رب لم يحدث ما يستوجب الاعتذار يا أحمد، لكن معك حق، فعلا علي أن أستغفر الله على تقصيري في حق الدعوة إلى الله والتي عاهدنا بعضنا على التعاون عليها منذ أول يوم اجتمعنا فيه تحت سقف واحد ... شغلتني الأسرة والأولاد فلم أستطع الموازنة بين الدورين.
أحمد: لا بأس يا حبيبتي سنتعاون على الدورين بإذن الله خصوصا مع حملك للجيل القادم الآن...
نور مازحة: الجيل القادم كله؟ وأنا أستغرب لماذا خجل الأولاد من حملي، يبدو أنهم خائفون من جيل وليس من طفل ...
بعد هنيهة طرق عمر باب الغرفة بلطف فأجابه الأب:
- ادخل يا بني.
عمر: اقتربت صلاة الفجر يا أبي، هل سنذهب إلى المسجد الآن؟
أحمد: نعم يا بني، وهل أنتم جاهزون؟
عمر: نعم يا أبي.
التفت أحمد إلى نور وقال لها: لا بد أن تنالي قسطا من الراحة يا حبيبتي فقد تعبت كثيرا اليوم ...
نور: حاضر يا أحمد سأفعل إن شاء الله.
أحمد: السلام عليكم ورحمة الله
نور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ثم انصرف مع أبنائه للصلاة في المسجد
الله أكبر الله أكبر
أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله
...
ارتفع أذان الفجر مذكرا بأن الصلاة خير من النوم ومؤذنا ببداية يوم جديد وعلى عمل ابن آدم شهيد .. فسبحان فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والنهار معاشا لمن كرمه فاستخلفه في الأرض.
صلى الجمع صلاة الفجر أملا في رضا الله وكرمه وجزيل ثوابه ونعمه.

وما لبث أن أشرق نور الصباح فدبت الحركة في الأرجاء، وعاد أحمد وأولاده إلى البيت لتناول وجبة الفطور ثم انطلقوا إلى أشغالهم، بعدها خلدت نور للراحة في غرفتها، بينما اهتمت فاطمة بالبيت وبالصغيرة، فليس لديها محاضرات في الفترة الصباحية...
رن جرس الهاتف: ترن ترن
يتبع بإذن الله.










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-21, 21:23   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة الخامسة بعون الله

بعنوان: ميلاد جديد

رن جرس الهاتف، ففزعت نور فزع الطير من الصياد، وأسرعت مهرولة إليه، ولكن فاطمة كانت قد سبقتها.

فاطمة: السلام عليكم


السيدة: وعليكم السلام ورحمة الله يا ابنتي.


فاطمة: عفوا من معي؟


السيدة: أنا أم سوسن جارتكم.


فاطمة: أهلا وسهلا بك خالتي أم سوسن.


أم سوسن بصوت مرتبك يشوبه الخوف والتوجس:آسفة على الاتصال باكرا، هل تعلمين با ابنتي أين ذهبت سوسن؟ فأنا أحاول أن أكلمها منذ أمس على الجوال ولكنها لا تجيب.


وصلت نور في هذه اللحظة فسألت ابنتها: من على الهاتف يا فاطمة؟


فاطمة: خالتي أم سوسن تسأل عن ابنتها.


التقطت نور السماعة وقد لفت وجهها غمامة حيرة وتردد ثم أردفت بصوت مرتبك:


- مرحبا خالتي أم سوسن، كيف حالك وكيف حال صحتك؟


أم سوسن: الحمد لله يا ابنتي على كل حال، وأنت كيف حالك وحال زوجك وأولادك؟


نور: بخير والحمد لله


أم سوسن: عذرا يا ابنتي على الإزعاج، فقط كنت أسأل عن سوسن، فقد تعذر علي التواصل معها هل هي بخير؟


أطرقت نور هنيهة وقد ازدادت حيرة وارتبك لسانها وتسارعت دقات قلبها، فقلبت الأفكار في رأسها علها تجد كلمات مناسبة لإخبار الأم الحائرة لكنها كانت مرهقة جدا،فأيقنت ألا مفر من إخبارها مباشرة وقالت:


- لا أعلم ماذا أقول لك يا خالتي، فسوسن في المستشفى ووفاء عندنا بالبيت.


أم سوسن: خيرا؟ ماذا بها؟


نور: لقد أغمي عليها البارحة بعد شجار مع زوجها، ولكن اطمئني ستكون بخير إن شاء الله.


صرخت الأمة مولولة من أثر الصدمة صرخة احترق لها كبدها وسالت لها دموعها كالسيل وانطلق لسانها كالحصى يقذف بالدعاء على سعيد وعيناها إلى السماء، لعل العدل ينصف ابنتها فتتخلص من المعاناة والبؤس اللذين يغرقانها، كل هذا ونور لا تنبس ببنت شفة وقلبها يعتصر ألما على الأم وابنتها. وبعد لحظات استأنفت الأم كلامها واستفسرت عن عنوان المستشفى ورقم الغرفة ثم شكرتها واعتذرت لها وألقت التحية فأجابتها نور بكل أدب وردت التحية. وعادت إلى غرفتها وهي تتنفس الصعداء وقد سكنت جوارحها رويدا رويدا بعد هذا الموقف المحرج، فاستلقت بتراخ على سريرها لتستسلم لهاتف النوم الملح الذي بدأ يثقل جفنيها كي تخلد إلى الراحة.


وبينما كان الهدوء مسدلا خيوطه الناعمة على جنبات بيت نور، أسرعت أم سوسن في توتر حتى أنها أوشكت أن تسقط على وجهها في الدرج، وهي المريضة الكسيرة بعد أن رحل سندها إلى حياة البرزخ وتركها تقاسي الوحدة والوحشة في بيتها الصغير، ثم وصلت بعد ساعة إلى المستشفى، وبحثت عن وحيدتها بلهفة وقلبها يتحرق كمدا عليها، فأبصرتها وهي قابعة على فراش الذل والمهانة، تدفع ثمن عنادها الشديد وحبها القديم للرجل اللئيم، فارتد إليها بصرها حسيرا آسفا على شباب انحنى لنوائب الزمن فركبه الوهن، فاستسلمت الدموع الساخنة وانهمرت ناعية أطلاله.

سارعت الأم إلى فلذة كبدها، فضمتها إلى صدرها كأن لم ترها منذ دهر ولى.




وقالت لها بحنان: ماذا بك يا مهجة فؤادي؟ فأجابتها سوسن بصوت متهدل يعبر عن الحزن والألم اللذين سكنا كيانها فألفا المكان وأبيا الرحيل:


- كدت أفقد حياتي أماه لولا أن أدركتني رحمة ربي.


ضربت الأم بيدها على صدرها وقالت بجزع: خيرا يا ابنتي ما الذي جرى؟


فردت عليها سوسن:


- ضربني السيد سعيد كالعادة، ولكن البارحة كانت القاضية، فقد أتى بعصا وبدأ يضربني بهستيريا على رأسي وكل أطرافي، ثم وكزني فأوقعني أرضا وبدأ يقفز على ظهري بقوة وقد طفح لسانه بمكنون قلبه، فأمطرني بالسب والشتم وذكرني بهفوات الماضي والحاضر، وأنا أصرخ للعالمين أن أنقذوني فخشي أن يعلم الناس بأمري فخرج مسرعا إلى حيث لا أدري.


سألتها الأم: ومن أتى بك إلى المستشفى؟


سوسن: جارتي نور وزوجها جزاهما الله خيرا، ولقد أخبرتني الممرضة أن الجار تكلف بكل مصاريف العلاج، فأجابتها أمها بسيل من الدعوات الصالحة لهذا الرجل التقي وزوجته الصالحة،


ثم نظرت إليها بحسرة وقالت: أنت السبب في كل هذا، أرداك عنادك في حفرة الذلة.


فرفعت سوسن عينيها مستفسرة، فاسترسلت الوالدة قائلة:


- أليس هذا اختيارك؟ أليس هذا هو سعيد الذي تشبثت به وأصررت على الزواج منه إصرارا؟


فأجابتها سوسن وقد انفجرت باكية والندم قد تلبس وجهها :


- ليتك منعتني، ليتك حبستني في البيت قهرا، وأنقذتني من هذه الهاوية التي سقطت فيها.


أردفت الأم بحزم وقد تذكرت تفاصيل الحدث:


- حاولت جاهدة لكنك أقفلت كل الطرق وأوصدت كل أبواب الحوار، أعماك الحب الوهم، فلم تري العيوب الصارخة، بل تجاهلتها وها أنت تتجرعين كأس عنادك.


فقالت الابنة مطرقة:


- صدقت أماه، لكن شبح العنوسة أفزعني حين تراءى لي، فحاولت دفن همي في العمل واقتناء شقة وسيارة وإيداع المال في البنك، لعل متعة المال تنسيني الرغبة في بناء أسرة مثل معارفي. لكن...


قبلت الأم رأس ابنتها وقالت معتذرة:


- ليت لساني اجتث من جذوره، ولم أنطق كلمة عانس لك...


فقاطعتها سوسن بانفعال وهي تجهش بالبكاء وقالت: لو أنك أعرتني اهتماما حقيقيا وأحسست بي منذ نعومة أظافري لاختلف الوضع لكني كنت أقاسي قحط المشاعر الأبوية وسطوة النفس والشيطان ولا أحد يلتفت لاحتياجاتي، حتى أضحى قلبي صحراء جرداء قاحلة أرضها ميتة، تتعطش للمودة والحنان، فألغى الظمأ عقلها وأعمى بصيرتها، فرضيت بقطرات من دم آسن، لم تدرك نكهته حتى تشربته وبدأ النبت ينمو وقد أجاب السقاء، احمدي الله أني لم أنحرف نتيجة جفاف المنابع الطبيعية للحنان، فأخرج للبحث عنها في أي مكان وبأية وسيلة.


انهمرت دموع الأم وابنتها ندما وحسرة، فامتزجت بحنان الأم المكتوم بتنشئتها الخاطئة، وألم ابنتها المدفون بين أضلعها منذ سنين، واستمرت جلسة التصافي والعتاب، عسى أن ترتاح النفوس ويتجدد الأمل في غد أفضل.


أما أحمد فقد وصل إلى عمله، فألقى التحية على فريق العمل، وسألهم عن أحوالهم وأحوال أسرهم، ثم دلف إلى مكتبه وعيناه تصارعان النوم، وأهدابه تدفعه دفعا، فقام وغسل وجهه بالماء البارد، وتنفس بعمق لعل الأوكسجين ينعش دماغه ويعيد إليه نشاطه.


وماهي إلا دقائق حتى جاءته القهوة وقد أرسلت رائحتها الأخاذة، لتكمل ما بدأه الماء والهواء، فشربها وهو يقرأ الجريدة، ليشرف بعدها على استلام شحنة الثوب الجديدة.


استمر العمل إلى أذان الظهر، فأقفلوا المحل من الداخل، وصلوا جماعة خلف السيد محمود، وهو رجل فاضل حافظ لكتاب الله دارس لعلوم الشريعة، انضم لفريق العمل منذ سنوات كمشرف على قسم التصميم، لعلمه بأهمية الزي الشرعي في عفة المجتمع وأمانه.


فجاد بالأفكار المبدعة وشارك في تصميم النماذج المتميزة، ليخرج الزي في أفضل حلة، ويجمع بين الجمال وتناسق الألوان والمواصفات الشرعية.


فرغ الفريق من الصلاة ثم ذهبوا إلى بيوتهم للغذاء، وبقي أحمد والحارس لإقفال المحل ثم الانصراف. ولما هم الحارس بإقفال أول الأبواب، وصلت سيدة في العشرينات من عمرها تود شراء بعض العباءات، فدخل معها الرجلان إلى المحل لتختار ما تريد.


كانت سيدة جميلة الطلعة، رشيقة الحركة، طليقة الوجه.


بدأت المرأة تقلب العباءات، وتختلس النظر إلى أحمد، ففطن لها بعد برهة، وأدار بصره إلى صاحبه يحدثه، حياء ومروءة، فأدركت أنه قد رآها.


طأطأت رأسها خجلا متظاهرة بالانشغال بالملابس. ثم اختارت ما يناسبها وأتمت عملية الشراء وذهبت لحال سبيلها، وأقفل الحارس الأبواب ثم انصرف مع أحمد.


وفي طريقها إلى بيتها، بدأت فاتن تحدث نفسها:


- ما الذي فعلته يا فاتن؟ هل جننت؟ أكيد أن ذلك الرجل الوسيم قد رآك.


لا لا أظن...


لا يقينا رآني وإلا ما أدار بصره.


لا أعلم ماذا انتابني حين رؤيته، شعورغريب بالارتياح ...


لا لا ماذا تقولين يا فاتن، هيثم لم تمر سنة على موته رحمه الله وقد بدأ قلبك يخفق لرجل آخر؟؟


هيثم؟ وهل سأعيش على ذكراه طول العمر؟ نعم كلنا ميتون، لكني مازلت في العشرينات من عمري، وليس لدي أطفال.


بصراحة وجهه مشرق كالبدر حين يكتمل، يغشاه وقار فريد يظهر في حركاته وسكناته وملامحه تنطق بالشهامة والرجولة.


وماذا تريد امرأة أرملة مثلي إلا زوجا تقيا شهما يحيطها بحنانه ورعايته ويخاف الله فيها؟


آه لو يرزقني الله زوجا مثله، سأكون أسعد امرأة....


ثم استمرت تمني نفسها وطارت في سماء الأحلام بزوج مميز في هذا الزمان.


ولم تفق إلا وقد وصلت بيت أبيها، الذي عادت إليه بعد أن توفي زوجها بحادثة سير مفجعة.


دخلت فاتن بيتها وقلبها قد داخله شيء جديد.


ترى هل ستستجيب لما حاك في نفسها؟ أم ستتخلص من الدخيل الجديد وتنسى الأمر برمته؟


يتبع بإذن الله.










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-22, 15:17   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة السادسة



بعنوان: مواهب



حلت العطلة الأسبوعية مع حلول يوم الجمعة


تنفس الصبح عبيرا عطرا فأرسل أشعته الرقراقة، تتسلل بنعومة إلى غرف البيت الهادئة لتغمرها بالضياء.


عاد الرجال من المسجد وخرجت نور وبناتها لغرفة الجلوس ليتدارس الجميع سورة الكهف، ومناقشة محور منهجية إدارة الفتن وكيف يتعلمون من سورة الكهف كيفية إدارتها، وكان موضوع المحور: فتنة الشيطان.


مر الصباح جميلا هادئا، بين رياضة وعبادة وممارسة للهوايات، فهاهو أحمد يتفقد حاسوب الأسرة ويرتب خزانته الصوتية والمكتوبة، ويطهره من رجز الفيروسات.


وهاهي نور تشدو كالبلبل في المطبخ بنشيد تحبه عن الأقصى المسلوب، فتهتز مع كلماته الرنانة حماسة وإرادة.


أما عمر فقد أحب الخيل منذ صغره


وها هو اليوم كعادته يمتطي صهوة جواد اختاره بعناية ليمارس هوايته المفضلة في نادي الفروسية، منطلقا به في حزم وثقة، مطلقا العنان للتفكر في ملكوت الله والتأمل في جمال صنعه.


أما يوسف فكان يلعب كرة القدم مع أصدقائه في ملعب الحي، مستمتعا بهوايته التي تحافظ على نشاطه وقوة جسمه.


بينما كان عثمان يراجع قصار السور ويرتل القرآن الكريم بصوت شجي، يتنقل بين الآيات متدبرا معانيها، فحين يصل للبشرى بالجنة يرفع صوته بهمة ويدعو الله أن يبلغه إياها، وحين يذكر الوعيد، يخفض صوته بخشوع وتأثر بالغين ويدعو الله أن ينجيه من العذاب.


وهذه فاطمة بعد قيامها بالتعاون مع مريم بتنسيق البيت، جلست تقرأ ديوانا شعريا، وتتذوق بلاغته، لتستزيد من علم البيان والبلاغة، فيجود قلمها بالشعر الجميل، الذي يجمع بين سحر الكلمة وصدقها.


أما مريم فكانت تقرأ رائعة أدبية، فتسبح بخيالها الخصب بين صفحات الكتاب وكأن مدادها تجسد حقيقة، لتكتسب بذلك رصيدا لغويا ومعرفيا، تستعين به في كتابة قصصها الشيقة.


في حين دخلت عائشة إلى عالمها الخاص، منشغلة بكل جوارحها في رسم منظر طبيعي جميل. وتخط بأناملها الصغيرة ورؤيتها الطفولية الصافية رسومات رائعة تدل على موهبة فريدة وحس فني مرهف.


أقفل أحمد جهاز الحاسوب، وقد مسحت وجهه سحابة هم مثقلة بالتساؤلات، ثم قام يبحث عن زوجته، فوجدها تعد طعام الغذاء، ومنسجمة انسجاما تاما مع قراءة رائعة للقارئ محمد البراك، حين أوقفته الدموع عن القراءة، وهو يتلو قول الله عز وجل في سورة ق:


مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)


فانسابت دمعات حارة من مقلتيها، فربت رفيقها على كتفها، وكفكف دمعها، وابتسم رغم الهم الذي يخالج فؤاده، ودعا ربه:


رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ


فنظرت إليه، وقالت بحرقة: اللهم آمين يا رب العالمين. ثم أمعنت النظر في وجه زوجها لتطمئن عليه، وقالت وهي تمسح دموعها:


- ماذا بك يا زوجي الحبيب؟ تركتك قبل ساعة أمام الحاسوب، ووجهك طلق وابتسامتك الجميلة تزينه، لكنك الآن مهموم والحزن بادٍ على محياك.


فطأطأ أحمد رأسه وقال:


- حين كنت أتصفح الانترنت، دخلت موقعا لأحمل كتابا، وفي صفحة التحميل فوجئت بصورة إباحية، اكفهر لها وجهي، وغضبت جوارحي، فأقفلت الموقع بسرعة. وأدركت حجم الخطر الذي يحيط بأبنائنا وأبناء أمتنا، فحزنت حزنا شديدا، وأقفلت جهاز الحاسوب، وجئت لأستشيرك في الأمر لعل أفكارك النيرة ترشدني إلى حل ناجع ومفيد.


أطرقت نور للحظات وهي تفكر، وقد طفت الجدية على ملامحها ثم قالت:


- لابد أولا أن نحمي حاسوبنا وهذا دور عمر. فلديه دراية في هذا المجال. كلمه رجاء بهذا الخصوص حتى نطمئن، فعثمان وعائشة لازالا صغيرين، ولا نضمن ما قد يصادفهما في شبكة العنكبوت.


هذا كخطوة أولى، وبعد وجبة الغداء إن شاء الله أقترح أن نناقش مع أبنائنا سموم وسائل الإعلام بصفة عامة، لعلنا نجد حلولا ناجعة خلال المناقشة. ما رأيك يا أبا عمر؟


رد أحمد متحمسا: نعم الرأي يا مبدعة، وأسأل الله أن يحمي أبناءنا وأبناء المسلمين، ويقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.


بعد صلاة الجمعة التفت الأسرة حول مائدة الغداء، وافتتح رب الأسرة الجلسة الشيقة بالدعاء.


وماذا يتمنى أحمد سوى أسرة مؤمنة ينفق عليها من مال حلال طيب، راجيا من الله أن يجمعهم تحت عرشه مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما جمعهم في الدنيا.


بدأ أحمد يمهد لموضوع النقاش، فسأل أبناءه مبتسما:


- أتمنى من كل واحد منكم أحبائي أن يخبرنا عن أحلامه، وماذا يتمنى أن يكون مستقبلا، متفقين؟


فأومأ الأبناء برؤوسهم إيجابا وقد برقت عيونهم حماسا


فقال أحمد: بسم الله نبدأ باليمين، ومع نور البيت، حدثينا عن أحلامك المستقبلية يا نور. - وقد كان أحمد يعرفها بالتفصيل الدقيق، ولكنه فضل أن تقولها أمام أبنائها، فتصحح مسار طموحاتهم، إن كانت لا ترقى لما يحلم به الوالدان، فشرعت نور في وصف حلمها، بعودة الأمة لعزها، وبرؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم عند الحوض، وهو راض عنها وعن أسرتها، قرير العين بهم، مسرورا لخدمتهم أمته، وتفانيهم في الدعوة إلى سبيل ربهم، بالحكمة والموعظة الحسنة.....


ظل الجميع يتابع حديث نور بنظرة ملؤها الإعجاب والفخر بأم عميقة الفكر رفيعة الخلق، بكاءة بين يدي ربها مطيعة لزوجها، متفانية في أداء واجبها، مبتغية مرضاة ربها في كل عباداتها وأحوالها.


ثم جاء دور فاطمة ثاني فرحة للأسرة فقالت:


- طالما حلمت مذ كنت طفلة، أن أكون طبيبة لأداوي المرضى وأخفف آلامهم. فكان حلم طفولة لم ينضج بعد. لكن حينما تفوقت في الثانوية العامة بفضل الله، وبعد إدراكي لطريقي في الحياة، بمساعدة أمنا الحبيبة حفظها الله. قررت أن أطور حلمي وأن أتخصص في مجال أؤدي فيه دورا ورسالة. فوقع اختياري على مجال الطب كما تعلمون، والجديد أني قررت أن أتخصص بإذن الله في طب النساء والولادة. هذا بالموازاة مع تطوير موهبتي الشعرية، ثم أردفت مازحة: لعلي أصبح من عمالقة الشعر الإسلامي.


فنظر إليها أحمد وقال: وما يدريك؟ الشعر فن راق، إن كان كما أراد الله ورسوله. وقد كان حسان بن ثابت رضي الله عنه ينشد الشعر، فما نحن إلا أسباب بين يدي الله، يجريها كيفما شاء ووقتما شاء، وفقك الله يا ابنتي ويسر أمرك.


وانتقل إلى عمر الابن البكر، فتنحنح كأنه سيلقي خطبة وقال:


- أما أنا فقد اخترت مجال الاقتصاد حتى أدرس نظام الاقتصاد الإسلامي الذي شرعه لنا رب السماوات والأرض ومن فيهن الذي يعلم الأصلح لعباده، فأساهم بإذن الله في الحد من التعامل بالربا الحرام الذي جاء فيه وعيد شديد في سورة البقرة:


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)


كما أود ان أطور مهاراتي في عالم الحاسوب، وخصوصا مجال البرمجة الذي أنا مولع به.


فعلقت نور على حلمه قائلة: ما شاء الله يا عمر، أسأل الله أن يعينك على تحقيق حلمك. والتفتت إلى يوسف- وهو الابن الثالث في الأسرة- ، وماذا عنك يا يوسف؟


فقال: سأختار بإذن الله طريق أبي. وحين أجتاز هذا العام امتحان الثانوية العامة، سأدرس إن شاء الله في كلية التجارة - قسم اللغة الإنجليزية-. لأجمع بين تطور العلم وأصالة المهنة، وأستعين باللغة على تصدير الزي للخارج بإذن الله.


فنظر إليه عثمان وهو يقلب عينيه في سقف الغرفة:


- حلمك جميل لكنه صعب، فأردف يوسف في ثقة: يا عزيزي الزي الشرعي فرض رباني له حكمة عميقة، والغرب في حاجة للأمان النفسي الذي يوفره، فإن كان كما يريد ربنا جل في علاه، وكان في قلبي خير، وسعيت للأمر بجد، واستعنت بالله أولا وأخيرا، سأصل إن شاء الله لأبعد من هذا...


والتفت إلى والدته فنظرت إليه بعين ملؤها الرضا والتشجيع.


ثم تحولت إلى عائشة، صغيرة الأسرة وأرقها وجدانا فقالت:


- أريد أن أصير مدرسة أدرس الرسم، كما علمتني يا أبي.


فابتسم أحمد ضاحكا، وقال: نعم يا بنيتي، فالرسم فن يهذب الوجدان ويرقى بالمشاعر الإنسانية، ولكن على منهج الله كي يكون وسيلة لعبادته بالتفكر وإعمال العقل ورسم ما أبدعه سبحانه.


ثم نظر إلى عثمان الفتى الوسيم ذي الصوت الندي فقال له: وأنت يا عثمان؟


فرد بهمة: - أفكر يا أبي أن أستمر في طريق القرآن فأتخصص فيه، أي أنني أدرس الشريعة بإذن الله وأتخصص في علوم القرآن. فلقد أخبرني عمر عن وجود هذا التخصص في الجامعة، فقلت في نفسي: لم لا أدرس وأعمل في مجال أحبه وأستمتع بهوايتي وأطور موهبتي التي حباني الله بها في آن واحد؟


فأردفت نور: رائع يا شيخ عثمان، لعلك تلبسنا تاج الوقار يوم القيامة.


فابتسم في حياء وقال: إن شاء الله يا أمي.


واستطرد عمر: وأنت يا أديبتنا المبدعة، فيمَ تفكرين؟


فطأطأت مريم رأسها حياء ثم قالت: أرى والله أعلم أن أتخصص في لغة الضاد، فهي لغة القرآن، وأطور من خلالها كتاباتي. فأصير بإذن الله كاتبة وناقدة أدبية.


فعلقت فاطمة مازحة: إذن أنت زميلة في المجال، فلتنافسيني إذن وسنرى من يبدع أكثر الهواة أمثالي أم المتخصصون مثلك. فضحك الجميع والتفتوا إلى طعامهم، يأكلون ويمزحون، والوالدان يرقبان المشهد، ويحمدان الله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.


بعد لحظات معدودة، تنبه عمر إلى أن والده لم يعبر عن حلمه. فقال للجميع: توقفوا للحظة يا أسرتي العزيزة. ألم تلاحظوا أن أبانا الحبيب لم يفصح عن حلمه؟


فاحمر وجه أحمد خجلا، وتمتم: نعم فعلا.


فقال الجميع بصوت واحد: وما هو حلمك يا أبي؟


فقال بصوت يتهدج حنانا وحبا لأسرته الصغيرة، كالينبوع إذا تفجر ماء ليسقي الأرض فيمدها بسبب الحياة: حلمي أن تصلوا لأحلامكم واغرورقت عيناه بالدموع.


رقت قلوب الجميع لقول أحمد وانفعاله وكانت جلسة مفعمة بالسرور والحنان والمحبة.


ثم كفكف دموعه مستدركا: ما رأيكم أحبائي، أن نناقش موضوعا هاما في حياتنا بعد الغداء؟


فقال عثمان: وما هو يا أبي؟


فرد أحمد موضحا: الإعلام يا بني ما له وما عليه.

يتبع بإذن الله










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-23, 21:20   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة السابعة:


بعنوان:

بأي ذنب؟؟

أنهت أسرة أحمد وجبة الغداء، بعد ذلك تعاون الجميع على تنظيف الطاولة والمطبخ.

ثم انتقلوا إلى غرفة الجلوس ينتظرون بشوق مناقشة موضوع الإعلام. وكل منهم لديه في جعبته الكثير من الاستفسارات والاستغراب والانتقادات.

افتتحت الأم جلسة النقاش، فبسملت وحمدت الله ثم بدأت تمهد للموضوع والجميع ينظر إليها باهتمام.

فتحدثت عن أهمية الإعلام في حياة الأمة والتناقض الكبير الذي يعيشه. ودوره الجوهري في بناء شخصية الفرد وقناعاته ومفاهيمه.

وبالتالي أثره على تفاصيل حياته ثم مررت الكلمة للأب لكي يفصل قليلا في هذه المسألة مستعملا أسلوبه المعتاد مع أولاده، وهو أسلوب "إياك أعني واسمعي يا جارة". فهو يعرف مفتاح كل واحد منهم ويود أن ينبههم لسموم الإعلام وكيف يتعاملون معها.

وكان يعلم أن أبناءه بما فيهم عائشة الصغيرة ذات التسع سنوات، يتابعون بنظرة متفحصة ما يجري في وسائل الإعلام.

كيف لا وقد تربوا في أحضان الفكر العميق والثقافة الواسعة؟ وتعلموا مسؤولية إعمال عقولهم منذ نعومة أظافرهم لكي يواجهوا بأمان فتن الشهوات والشبهات وابتلاءات الحياة.

واعتمد الوالدان في تربيتهم على قيم الإسلام وترسيخ رقابة الله عز وجل، وأن لا عز إلا به وأن لا خوف إلا منه. لكي يضمنا بذلك حماية أولادهم من الهلاك في غمرة البحر اللجي المتلاطم الأمواج، والريح الشديدة التي تعصف بالقشور، وتذر الإيمان أقوى وأشد قدرة على حفظ صاحبه.

بعد ذلك فتح أحمد باب النقاش وبدأ باليمين هذه المرة بعمر.

فقال مقطبا جبينه:

- صدقت يا أبي في كل كلمة، لكني أفاجأ يوما بعد يوم بالكم الهائل من رسائل الإعلام الهدامة، التي ما فتئت تعرض عبر الفضائيات وشبكة العنكبوت وعبر الإعلانات في التلفاز وفي المجلات وفي الشارع.

فينقبض قلبي وأتساءل:

ما الحل؟ ما السبيل لإنقاذ قيم الحق والفضيلة من عولمة الرذيلة التي تغزونا كل يوم وتتعدد أشكالها وتنفث سمومها في عقول الناس وقلوبهم؟

فسأله أحمد: كيف يا بني؟ أعطنا أمثلة من تلك الرسائل ليتوضح الأمر لنا أكثر، فقال عمر وهو ينظر للجميع:

- حسنا يا أبي. أخطر تلك الأساليب امتهان المرأة واحتقارها واستغلال جسمها لتمرير رسائل تهدم الأخلاق، بينما كرمها الإسلام ورفع قدرها عن أن تكون سلعة رخيصة. حتى أصبحوا يظنون أنهم لن يبيعوا عود ثقاب إلا بوضع صورة امرأة على العلبة.

وبعضها إعلانات تستخف بعقل المتلقي، مثل مساحيق الغسيل الخارقة التي تراها الدهون فتذوب مستسلمة لقدرها فهي لا تعرف المستحيل. تخضع الأوساخ أمامها للأمر الواقع. فتتشتت وتخلي الديار طوعا أو كرها، خصوصا مع المادة الفعالة التي يستحيل تماما وبتاتا أن تصمد أمامها مهما كانت متمكنة من أنسجة الملابس.

والشكولاتة السحرية التي تنقلك إلى الجزر الساحرة مع فتاة جميلة لتعيش أحلى الأحلام وتشعرك بسعادة لا متناهية...

والشيبسالذي يقف بالمرصاد للجوع وقد انتفخت أوداجه ليرديه قتيلا. ثم يرقص فرحا بالنصر عليه، ويخبرك بأنه ترك لك الطعم المثالي الذي يظل في الفم إلى ما شاء صاحب الشركة.

أما الشامبو القاضي على العنوسة،

وقاهر القشرة،

وضامن اللمعان والتألق في سماء النجوم.

فيجعل الشعر سببا لاهتمام الآخرين وجلب العرسان والثقة في النفس....

ابتسم أحمد فخورا بفهم ابنه العميق وبادره قائلا:

- معك حق يا بني تمتهن المرأة كثيرا في تلك الإعلانات والمجلات ومسابقات ملكات الجمال، أسأل الله عز وجل أن يأتي يوم لا تقبل فيه امرأة في بلاد المسلمين أن تسقط في حبائل المتاجرين بكرامتها وحيائها.

وقد أصبت كبد الحقيقة يا ابني الحبيب فأصحاب الإعلانات لا يهمهم إلا تشجيع المادية والاستهلاك، والهدف الأول والأخير هو كسب المال، بغض النظر عن جودة السلعة أو ضررها. ولو على حساب تشويه المفاهيم وتقزيم الأمنيات والإغراق في إشباع الشهوات دون اتزان. والمصيبة أن الكثيرين يتصرفون تجاهه بعقول قد غابت عنها البوصلة.

ثم التفت إلى يوسف وطلب منه أمثلة عما يرى.

فقال: ماذا أقول يا أبي؟ الشاشة تزخر ب" الفن " الرخيص والدعاية لفصل الدين عن أمور الحياة. وخالج الأسى فؤادي حين تمعنت في دور كثير من الأفلام والمسلسلات، فوجدت التي تقزم الدين وتحصره في جماعة متطرفة.

وتغير المفاهيم على أساس أن هذا هو الدين السليم. وتصور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطريقة الإسلام منها براء. فتدعو الناس ألا يتدخلوا في حريات الآخرين. ولا يقدموا لهم النصح وان كل واحد له رب يحاسبه.

وكأن الحرية هي أن يفسد المرء ويفسد من حوله، وأن تخرج الفتاة بلباس خادش للحياء، ويتمايل الشباب بأغاني الحب والهيام والاهتمامات التافهة. لنظل دائما في حفرة الجهل والهوان والضياع.

وأعجب للبرامج التي تدس السم في العسل، وتطالب بتقنين الإعلام، وهم أنفسهم أداة هادمة فيه، وصدق الله عز وجل حين قال في سورة الكهف:

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)

لاحظ أحمد انفعال يوسف وغيرته لما يجري لإعلام يفترض فيه أن يبني ولا يهدم، فقاطعه بلطف قائلا:

- يا بني ستنتصر الفضيلة لا محالة إن وجدت لها رجالا مثلك يخدمونها ويعملون من أجل عولمتها فرسالة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم جاءت رحمة للعالمين. وما تعيشه المجتمعات التي عولمت وشجعت الرذيلة من تفكك وانحلال أسري وانتحار بسبب الشذوذ والانحراف عن الفطرة السليمة يجعلها في حاجة لمن ينقذها بمنهج الحكيم العليم رب العالمين الذي خلق الإنسان ويعلم الأصلح له. ولكنه تدافع الحق والباطل والله مدبر أمر خلقه. لكن من واجبنا بذل الأسباب المطلوبة لانتشال الناس من تشويه الفكر وتفاهة الاهتمام واتخاذ قدوات مصطنعة لا تمت لقيمه بصلة.

هنا استطردت نور مراقبة ردات فعل فلذات كبدها:

- معك حق يا أبا عمر، يا أبنائي العبرة بالعمل للخروج من هذا المأزق وتوفير مناخ أفضل للأجيال القادمة وهذه حرب شعواء بين الخير والشر في أرض الله. وواجبنا نشر الخير والسعي لتقزيم الشر ما استطعنا لذلك سبيلا.

فقالت مريم: نعم يا أمي صدقت، أنا لا ألوم يوسف على حرقته، ولا عمر على غيرته، لكن لابد أن نوقد شمعة بدل أن نلعن الظلام.

فأردفت فاطمة:

- نعم يا مريم. فلا يسعنا أن نقف مكتوفي الأيدي. لأجلنا أولا ثم لأجل أولادنا والأجيال القادمة. فنحن الرابحون إن أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر بشتى السبل المتاحة وكما أمر الله عز وجل كل انطلاقا من دوره وموقعه.

ويقينا سيلبي أبناؤنا بإذن الله النداء فيعم الخير الأجواء ونتنفس عبير حلمنا وهو يجوب الأرجاء. ونرضي رب السماء، فنلقاه بإذنه راض ونعيش في هناء رفقة حبيب رب السماء وما أروعه من جزاء.

فابتسمت نور قائلة: وقد غلب السجع أميرة الشعراء، فضحك الجميع.

واستمرت جلسة النقاش في جو مفعم بالحنان والمحبة ورفع المعنويات. وهذا ما يميز أسرة أحمد. خاصة أن كثيرا من الأسر - بقصد أو عن غير قصد- تتفنن في تحطيم معنويات أبنائها كأمراض فقدان المناعة الذاتية، حين تهاجم الجسم فترديه مريضا هزيلا وضعيفا. ثم تتساءل بعد ذلك عن أسباب فشلهم.

ثم انفض الجمع للقيلولة بعد أن اتفقوا على زيارة بيت جدهم بعد صلاة العصر. وعم السكون البيت وخلد الجميع إلى الراحة. لكن هذا الصمت لم يدم طويلا.

فقبل أذان العصر بلحظات، اهتز الباب حتى عاد الصدى للجدران. هب أحمد إلى الباب فزعا. وما أن فتح الباب حتى جحظت عيناه في ذهول، فقد وجد جاره سعيد لدى الباب.

فابتدره قائلا: ماذا تريد منا؟ ألم يكفك ما فعلته بتلك المسكينة.
فأجابه سعيد والشرر يتطاير من عينيه والغيظ يكاد يشق أسنانه والغدر يطل من وجهه. كالقرش حين يضمر الانتقام ممن أذاه آنفا:
- أنتم السبب في تخريب حياتي وإقناع سوسن برفع دعوى خلع. لهذا سأخلع جذوركم جميعا.

قال هذا وهو يحمل خنجرا في يده ويمسكه باحترافية، استعدادا لغرسه في صدر أحدهم.

فتصدر له أحمد بلطف محاولا تهدئته ونور وراءه، وقد اجتمع الأبناء وراءها بعد سماع صوته المألوف لديهم.

وبعد هنيهة حاول عمر الخروج إليه، لكن نور أمسكت بذراعه، وأمرته أن يتراجع.

فصرخ سعيد في وجوههم وسب الدين ولعن أمهم وانطلق لسانه بفحش الكلام والشتم.

فاندفع أحمد نحوه ولكزه ثم سدد إليه ضربة لعله يفقد توازنه، فيسقط الخنجر من يده. ولكن للأسف خاب ظن أحمد وسبق القدر السبب.

وفجأة وعلى حين غرة، سدد إليه طعنة قاتلة في صدره، وقع على إثرها غارقا في دمائه، وفر هاربا والخنجر يقطر غدرا.

صرخت نور بقلب مكلوم وعيناها تتفقد وجه أحمد ويداها تتفقد نبضه:

- أحمد أحمد... يا رب احفظه ياااااااا رب.

وسارع عمر إلى الهاتف كي يطلب الإسعاف.

بينما التف الجميع حول أبيهم ودموعهم تنهمر حزنا على أبيهم الطيب. وحناجرهم تعلو بالدعاء الخاشع لله ألا يفارق أبوهم الحياة. أبوهم الذي ضحى بنفسه لأجل حماية عائلته. أما عائشة الصغيرة فقد انخرطت في بكاء حار يتفطر له الفؤاد. وعثمان يلثم وجه أبيه ويقول: لا تمت يا أبي، إننا في حاجة إليك.

أما يوسف فقد شل تفكيره تماما في بداية الأمر لحبه الشديد لأبيه. لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه ورفع كفيه متضرعا إلى الله عز وجل لعل الله يرفع عنهم المصيبة التي نزلت بهم.

كفكفت فاطمة دموعها وهي تدعو الله تضرعا وخفية وسارعت لإسعاف والدها وإيقاف النزيف بمساعدة إخوتها، لكن الجرح كان بليغا وغائرا.

وما لبثت أن وصلت سيارة الإسعاف فنقلت أحمد بسرعة إلى مستشفى خاص ومعه نور وعمر وفاطمة. وظلت مريم في البيت تهدئ الجو رغم توترها الداخلي مستعينة بذكر الله وطلب العون منه، كيف لا والله سبحانه يقول في محكم التنزيل:

الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) سورة الرعد.

الصدمة كانت قوية جدا على كل الأسرة، خاصة أنها كانت مفاجئة. لكنها أسرة مؤمنة بقدر الله تعلم أن الدنيا دار بلاء.

نقل أحمد إلى المستشفى وأدخل بعد معاينة حالته إلى العناية الفائقة.

شرح الطبيب الوضع لفاطمة، فأخبرت والدتها وعمر أن الحالة حرجة جدا وأن الرجاء في الله وحده. فجلسوا جميعا ينتظرون فرج الله. ثم أوصت نور عمر بملازمة باب مصلحة الإنعاش ريثما تذهب هي وفاطمة لمسجد المستشفى حتى تصليا ركعتين تتضرعان فيهما إلى الله أن ينقذ أحمد. وكانت قلوب الجميع تخفق خوف كارثة تحوم في الأفق

يتبع بعون الله.










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-24, 21:45   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة الثامنة:

بعنوان

طيف الذكريات

عادت نور وفاطمة وقد ملأت قلبيهما الطمأنينة والأمل بعد صلاة خاشعة ودعاء من قلب مضطر، وكيف لا تغمرهما السكينة وقد قال تعالى:أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)

سورة النمل.

ذهب عمر بدوره إلى المسجد للاستعانة بالصبر والصلاة، بينما جلست نور وفاطمة ترتقبان أخبار الغالي على قلبيهما أحمد.

توالت طيور الذكريات أمام ناظري نور، وكأنها رحلت من أوكار الزمن لتحلق من جديد في مخيلتها، فتنثر حبات السلوى على فؤادها، وتشعرها بأن الرحيل قدر مؤقت، وأن رحلة الخلود تبدد كل الأحزان بجوار العلي الودود، فتنهدت بعمق وكأنها تستنشق نسيم الجنة التي تتوق إليها، وتسأل الله أن يجمعها فيها بأسرتها وأهلها. وبدأت الطيور تتراءى تباعا، فهذا طير أول لقاء للرؤية الشرعية، حين سلك أحمد دائرة طويلة ليخبرها بأنه يود الزواج بها. فأخبر صديقه المقرب الذي بدوره أخبر أخته، التي طلبت من زميلتها أن تخبر نور بحكم قربها منها. ابتسمت نور لهذا الطيف من الذكرى وتوردت وجنتاها حياء وكأنها تعيش الحدث لتوها بعد ثلاثة وعشرين عاما من الحياة الطيبة في كنف الله.

تذكرت يوم الخطبة، ونظرات أحمد التي كانت تلمع فرحا بقدومها، فتعثرت وأسقطت طبق الحلوى من شدة الارتباك والحياء. تذكرت ابتسامة حماتها الحانية حين أخذت بيدها وأجلستها بجوارها لتدارك الموقف. تذكرت كل ذلك وكأنه حدث بالأمس القريب.

أما طائر العرس فحلق بها على مشارف حياتها الجديدة التي بدأتها بعرس يرضي الله ورسوله، كانت سمته الأبرز البساطة في كل شيء، راضية قانعة وموقنة أن السعادة في القلوب، وليست في البذخ والتبذير. ابتسمت نور فرحا بتلك الأيام التي كانت أول أيام سعادتها الزوجية...

تذكرت استشعارها وزوجها الحبيب أحمد لمعاني المودة والألفة والرحمة في الآية الكريمة:

وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) سورة الروم

خاصة أنهما ومنذ الأيام الأولى للخطبة، قررا أن يكاشفا بعضهما بالعيوب قبل المزايا حتى يكملا بعضهما ويبنيا حياتهما على صدق المشاعر والصراحة والوضوح والثقة المتبادلة، وذلك لبناء أسرة سوية المنشأ قوية العقيدة متينة الترابط، وأن يجعلا من بيتهما جنة غناء يغمر قلبيهما فيها الحب والوئام والمودة والعشرة الطيبة. والأهم التسابق فيها إلى رضا الله عز وجل والمنافسة في حبه. فتسدل ظلالها الوارفة عليهما لتظلهما وذريتهما، وتقيهم لهب الفتن، وتمتد بهما بإذن الله تعالى إلى جنة عالية قطوفها دانية لا نصب فيها ولا وصب...

ومر طير أول فرحة حين حملت بعمر، فكان أحمد يصر على إطعامها التمر بيده، بعد أن علم أهمية ذلك للمرأة الحامل من أمر الله عز وجل لمريم عليها السلام أن تهز جذع النخلة لتسقط الرطب حين ولدت نبي الله عيسى عليه السلام. وكان يوصيها بالإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن الكريم. فولد عمر حليما لطيف المعشر، وحفظ القرآن بسهولة ويسر بفضل الله في سن مبكرة.

وها هو طير الخلافات العابرة بينهما، حين كانا يتسابقان إلى الاعتذار لينالا ثواب البدء بالصلح. والإحساس الرائع بقيام الليل الذي يؤلف بين قلبيهما ويسقيهما بالمودةوالحب كالوادي الجاري الذي يذهب بالزبد ويبقي حب الله صافيا نقيا يوحد مسارهما، ويرسل نوره على بصيرتهما، فتتنحى أشواك الابتلاء وتنبت أزهار الأجر والثواب، تتطلع برأسها مؤذنة بموعد قطافها.

مر السرب الضيف على ذاكرة نور فاستسلمت لخيالها، أما عمر فقد كان يقرأ القرآن في ركن من غرفة الانتظار، وقد بدأت الآيات تفك أسر دموعه، لتنهال محررة أوجاعه وأحزانه. أما فاطمة فقد وجدت في الذكر والاستغفار والدعاء ضالتها.

لم تتنبه نور إلا إلى صوت حماتها، التي يبدو أنها اتصلت ببيت أحمد فأخبرها الأولاد بمصابهم في أبيهم، فجاءت متلهفة إلى المستشفى وقلبها ضارع إلى الله أن ينقذ ابنها من الموت.

حضنتها نور بحرارة وقبلت يديها، حتى تخفف من نظرة عتاب كانت في عينيها. لكون نور آثرت عدم إخبارها نظرا لحالتها الصحية التي لا تحتمل نبأ سيئا مثل خبر طعن أحمد. لكن قلب الأم دلها فجعلها تتصل لتسأل عن فلذة كبدها.

كادت أم أحمد أن تفقد جلدها وصبرها وبدأت الدموع تنهمر على وجنتيها ونور تبذل جهدا مضاعفا لتبقى متماسكة وتهدئ من روعها.

وفي هذه اللحظات، خرج الطبيب من غرفة العمليات الطارئة وهو يجفف عرقه الغزير، فانطلق صوبه الجميع مستفسرين وابتدرته فاطمة قائلة :

- خيرا يا دكتور؟

أجابهم بعد تنهيدة قوية:
- الحمد لله .. فالطعنة كانت أسفل الضلع الأيسر والأخير مباشرة مما أدى إلى تمزق الطحال. وهذا ما سبب النزيف الكبير الذي جعلنا نقوم بنقل الكثير من الدم له، كما اضطررنا لاستئصال هذا الطحال بشكل كامل إنقاذا لحياته.
بإذن الله سيسترد عافيته تماما ويعود أفضل مما كان.. ومن حسن قدره أن الطعنة لو ارتفعت قليلا لأصابت القلب مباشرة.. فالحمد لله على كل حال.

تنفس الجميع الصعداء، وكأن صخرة أفسحت الطريق للهواء، بعد طول كتم للمشاعر، والأنفاس، فسجدوا شكرا لله على هذه البشرى، وابتهج قلبا الأم والزوجة وأرسلت عيونهما الدموع وكأنها تفترشها للفرح المحرر، وتحركت شفاههما بالحمد والشكر لله اللطيف العليم، وتهللت الأسارير وانطلقت الضحكات، وعادت الحياة للغرفة ورحلت خيام الحزن بعد اقتلاع أوتادها،وسكن الأمل والسرور محلها.

فما أروع حسن الظن بالله، فمنعه عطاء، وفضله ابتلاء، وحبه للعباد يظهر بجلاء، فما أشد ظلمة الوجود بدونه، وما أحلك الأفئدة لولا نور الإيمان، وما أتعس البشرية لولا الأمل في ربهم سبحانه.

يتبع بعون الله










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-25, 10:05   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
طاهر القلب
مراقب مُنتديـات الأدَب والتّاريـخ
 
الصورة الرمزية طاهر القلب
 

 

 
الأوسمة
وسام أفضل خاطرة المرتبة  الأولى عضو متميّز 
إحصائية العضو










افتراضي

السلام عليكم
يبدو انها رواية جميلة ... سأفرغ لقرائتها لاحقا
بارك الله فيك ... ووفقك للمزيد من الإبداع










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-25, 14:37   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طاهر القلب مشاهدة المشاركة
السلام عليكم
يبدو انها رواية جميلة ... سأفرغ لقرائتها لاحقا
بارك الله فيك ... ووفقك للمزيد من الإبداع
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

وفيك بارك الرحمن أخي الكريم ووفقنا جميعا لما فيه خير عباده

بورك فيك









رد مع اقتباس
قديم 2012-04-25, 14:46   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة التاسعة بعنوان:


الصدمة


فرح الجميع بخبر نجاح عملية الأب والزوج الحنون، ودبت الحيوية من جديد في شرايين الأسرة، بعد أن احتقنت فيها دماء الحزن. وعاد الجميع إلى حياته الطبيعية نسبيا، بعد أن اطمأنت القلوب وهدأت الجوارح.

وفي صباح اليوم التالي، ذهبت مريم كعادتها إلى المدرسة بجد، مسرعة الخطى، تغض من بصرها وتقصد في مشيها.

وحين وصولها، وجدت صديقتها ريم على باب المدرسة، تجلس في ركن ووجهها ينطق حزنا، فذهبت إليها مسرعة وألقت التحية:

- السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهيا صديقتي ريم الجميلة.

ردت عليها ريم باقتضاب: وعليكم السلام يا مريم.

أثار ردها قلقها لأن من عادتها المرح، فبادرتها مستفهمة: كيف حالك يا ريم؟ إن شاء الله بخير.

ريم بوجه شاحب وعينين ذابلتين: الحمد لله على كل حال.

مريم بتمعن: ما بك يا ريم؟ هل هناك شيء يزعجك؟

تنهدت ريم تنهيدة عميقة وقالت: ماذا أقول لك يا مريم، كدت أضيع البارحة لولا لطف الله.

مريم بقلق وتوجس: خيرا؟ أقلقتني، ماذا جرى؟

فقالت ريم بصوت مرتعش، وأسنان تقضم الأظافر:

- أرسلتني أمي أمس لشراء بعض المواد الغذائية... لكن ما أن شارفت على الوصول إلى دكان العم سليم البقال، حتى فاجأني شاب كالثور الهائج، اقترب مني بسرعة وبدأ يتحرش بي.

حاولت أن أصرخ لكنه نهرني وهددني ثم امسك بذراعي وطلب مني الذهاب معه، فرفضت لكنه جرني بقوة، فصرخت وناديت العم سليم لعله يسمعني لكن دون جدوى. فتملكني الفزع من هول ما يمكن أن أتعرض له، فازدادت مقاومتي له...

ومن حسن الحظ، أن أخاك يوسف وبعض رفاقه مروا حينها من الزقاق. فلما سمعوا صراخي هجموا على الشاب فأشهر في وجوههم سكينا، وبدأ يلوح به بيد ويمسك ذراعي بالأخرى، وأنا أصرخ من الألم، ألم القبضة وألم الخوف الذي يعتري قلبي.

فأمسك شاب منهم يده ببراعة وتمكن من انتزاع السكين من يده بعد جهد جهيد. ثم رافقني أخوك وأحد أصدقائه إلى البيت وانصرفوا بعد أن اطمأنوا أني في أمان.

فيم بقي الآخرون مع الشاب ولا أعلم بماذا انتهى الأمر.

وجمت مريم لهول ما سمعت وارتعدت فرائصها، وكأنها هي التي عاشت الموقف، ثم قالت بنبرة حزينة يشوبها غضب عارم:

- لا حول ولا قوة إلا بالله، والله يا ريم لا أجد كلمات أصف بها مدى حزني وخوفي من هذه الظاهرة. فقد أصبحت تهددنا جميعا... شباب ضائع وجائع وبنات عرضة للخطر.

قاطعتها ريم بصوت خنقته العبرات:

- وما الحل؟ ألا تقولون أن الإسلام هو الحل؟

ثم جلست القرفصاء ووضعت يدها على خدها كالتائه في فلاة.

فأمسكت مريم يدها برفق وقالت:

- سامحيني أختي الغالية ريم على هذه الكلمات، لكننا تعودنا أنا وأنت على الصراحة... ألا أقول لك دائما إن الزي الشرعي الذي أمرنا الله به، إنما هو لحفظنا من الأعين الخائنة والنفوس المريضة؟ وأنت يا أختي لباسك ليست له ملامح يكشف أكثر مما يستر.

فماذا تتوقعين من شباب يتصفحون ليل نهار المواقع الساقطة والقنوات الهابطة وأفلام الرذيلة التي أعلنت حربها على العفة والحياء والفضيلة ؟؟؟ أمثال هؤلاء يا أختي وقعوا فريسة للشيطان ولم تعد لديهم غيرة لا على عرض ولا على أرض.

خفضت ريم رأسها في شرود وقالت:

- هذا ليس مبررا، ألا يغتصبون الأطفال؟ أي عري في الأطفال؟ هذا هراء. أنا الآن يلزمني حل سريع وفعال يا مريم، لا مجال للتأنيب الآن. ماذا أفعل لأتجنب الرعب الذي عشته البارحة، أجيبيني ؟ وانفجرت باكية. والتلاميذ - الواقفون غير بعيد - يلتفتون إليها ويتساءلون عما يحدث.

نظرت إليها مريم وقد امتلأت عيناها بالدموع وقالت:

- لست وحدك من تعرضت لهذا، ولكن هناك فعلا حلول تحول بينك وبينه.

فنظرت إليها ريم في استغراب ثم قامت فحضنتها وقالت:

- والله لم أقصد أن أسبب لك أي ألم. وتعلمين أنك أفضل صديقة لي وأقربهن إلى قلبي، لكني فعلا ما زلت تحت وقع صدمة حادث البارحة، وقلبي يرتجف وجوارحي ترتعش ويغشى الخوف كياني من مصيري بعد اليوم. لم أكن أنوي المجيء اليوم إلى المدرسة مخافة أن يعترض سبيلي ذلك الوحش ثانية انتقاما مني. أو أن أتعرض لموقف آخر، وهذا ما لا أطيق فأعصابي لم تعد تحتمل.

كفكفت مريم دموعها قائلة:

- سأبوح لك بسر لا يعلمه إلا الله ثم أبي وأمي، لأنه علمني الكثير وأرشدتني أمي إلى الحلول الناجعة لمثل هذه المشاكل بفضل الله تعالى.

لهذا ترين أني دائما مطمئنة في الطريق وفي المدرسة، وهذا فضل من الله ونعمة.

فأجابتها ريم بشوق ولهفة: وما هو يا مريم؟

أسندت مريم يدها إلى الجدار القريب منها وشردت بعينيها بعيدا، وكأنها تستدعي حادثا قديما من ذاكرة الزمن. وقالت وقد حضرت الذكرى فجلبت معها ألمها ومرارتها:

- حين كنت طفلة في السابعة من عمري، أرسلتني أمي يوما إلى بيت جارتنا، لأقدم طبق حلوى لزوجها في العيد، كونها كانت مسافرة وهو وحيد بالبيت.

طرقت الباب، فلما خرج، طلب مني الدخول مرحبا بي وقال أني أذكره بابنته.

وكانت أمي قد نبهتني أن أعطيه الطبق عند الباب ثم أعود.

لكني خجلت من رفض طلبه، خصوصا وأنه قال لي أني مثل ابنته، وطلب مني أن أشاركه طبق الحلوى لأنه وحيد في العيد، فدخلت بعد تردد. وفجأة بدأ يخلع ملابسه، فقلت في نفسي ربما لأن الجو حار، لكني فوجئت به بعد لحظات يتقدم نحوي.... فذهلت لهول المنظر وصرخت بأعلى صوتي وجريت مسرعة نحو الباب لكنه تبعني، صرخت بكل ما أوتيت من قوة.

ومن لطف الله، أن العمارة التي نقطنها جدرانها ناقلة للصوت، وبما أن شقته مجاورة لشقتنا، سمعتني أمي، خصوصا أني تأخرت قليلا. فجاءت مهرولة، تطرق الباب بقوة وقد خرج الجيران من بيوتهم، حينها فقط اضطر لفتح الباب، فخرجت واحتميت بأمي.

بينما هو لم ينطق بكلمة، وقد بدا عليه الارتباك والخزي. وما كان من أمي إلا أن قالت له:

- اتق الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى الأطفال لم يسلموا من مرضى النفوس، وانصرفنا إلى البيت.

ثم خفضت مريم رأسها، وأجهشت بالبكاء كالطفل التائه عن أمه واسترسلت:

- كانت تجربة مريرة على طفلة صغيرة مثلي حينها ولولا الله الذي لطف بلطفه، لا أعلم ماذا كان سيكون مصيري.

وبعد هذا الحادث الأليم، علمتني أمي كيف أتجنب مثل هذه المواقف، وكذا أبي الذي قام بالكثير بعد هذا الحادث. فقد اعتبره صفارة إنذار له لتقصيره في توعية الجيران وأهل الحي، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.

أردفت ريم مستفسرة:

- وما هي إرشادات أمك لك؟ وماذا فعل أبوك؟

يتبع بعون الله.










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-26, 16:29   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة العاشرة بعنوان:

صمام الأمان


رن الجرس معلنا بداية اليوم الدراسي، فقطع على مريم وريم حديثهما. انطلقت الفتاتان إلى صفهما ولم تكف ريم عن التأفف ساخطة، فما زال مزاجها سيئا منذ الحادثة الأخيرة.

وبينما هما في الصف تنتظران مجيء أستاذ التربية الإسلامية، اقترب منهما أحد الزملاء وهو ينفث دخان سيجارته، وقد بدا مزهوا بنفسه لحرصه على أن يلبس آخر صيحات الموضة حتى لو كان مصممها ألد أعداء أمته...

ثم قال وهو يهتز فخرا وعجبا: صباح الخير يا بنات.. ومد يده لريم فصافحته وابتسمت ابتسامة مجاملة. وقالت: أهلا يا زيزو، صباح النور. ثم اختلست النظر لمريم لترى ردة فعلها.

قالت مريم بصوت خافت: صباح الخير، وأخفت برفق يدها خلفها ليفهم زميلها أنها لا تصافح الرجال. فهم زيزو الأمر، فأحب أن يستفزها وأصر على مصافحتها.

لكنها قالت: آسفة أخي، لا أصافح الشباب...

فتسمر في مكانه من أثر الحرج، خصوصا وأن الجميع التفت ينتظر ما سيحدث، لعلمهم بطبيعة مريم التي تفرض احترامها بأخلاقها وسلوكياتها الطاهرة.

لكنه سرعان ما سخر قائلا: أخي؟ ها ها ها، لست أخاك يا جارية.. ويحك يا بنت العرب.. آآآ أقصد يا أختي، والتفت إلى زملائه وضحك حتى بدت نواجذه.

ثم أكمل وكأنه يقدم عرضا فكاهيا: لكن ما دمت لا تصافحين الشباب، إذن لا حرج من مصافحة الشيوخ، ها ها ها يا أختي ...

وضغط على الكلمة الأخيرة ثم انفجر ضاحكا.

فتوالت ضحكات الجميع وقهقهتهم، وكأنها سيمفونية مزعجة.

رفعت مريم رأسها في حزم ممتزج بلين وقالت: لست من أخذ قرار أخوتك، إنما الله من آخى بين المؤمنين بقوله تعالى في سورة الحجرات:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) }

ثم أردفت قائلة:

- أما بالنسبة للمصافحة، فتحية السلام عليكم تكفي ولا أرى أي داع للمصافحة...

-

طرقت الآيات أسماع حمزة "زيزو" وكأنه يسمعها لأول مرة، فكانت ردا قويا من مريم أفحمه، فما كان منه إلا أن انسحب في صمت.

بينما عاد اللغط يعم المكان، والكل يدلي بدلوه حول ما حدث، وبعد لحظات وصل الأستاذ، فأخذ كل واحد مكانه ليبدأ الدرس.

انتبه الجميع لما يقول الأستاذ محمد عن الإرث وأنواعه، وعن عدل الإسلام في تقسيم التركة، وإعطاء كل ذي حق حقه...

كانت طريقته في الشرح سلسة وبسيطة مما يجعل الطلبة يتابعون باهتمام، خصوصا مع وقفات المزاح الخفيفة والتعامل الأبوي المفعم بالحنان والمحبة الصادقة والنصح اللين الذكي، حتى زيزو وميزو اللذان يجلسان دائما في أقصى الصف منعزلين عن جو الحصة للتهكم ومضايقة زملائهم، يحترمان هذا الأستاذ، وينتبهان للدرس، فسبحان من القلوب بين أصبعيه...

فتح الأستاذ محمد باب الأسئلة كعادته في نهاية الحصة ليستوعب الطلبة الدرس جيدا، فسألته إحدى الطالبات عن قوله تعالى في الإرث:

{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }

[سورة النساء الآية: 11]

فأجابها مبتسما: لا تخافي يا ابنتي، فالله عز وجل عدل سبحانه، وحفظ حقوق المرأة وهو الأعلم بها - ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير-

المرأة يا ابنتي في شرعنا الحنيف ليس عليها الإنفاق، بل هي معززة ومكرمة في بيتها، والرجل هو من يجب عليه الإنفاق عليها. سواء كان زوجا أو أبا أو أخا، وليس عليها أن تنفق من مالها شيء إلا إذا أرادت ذلك على عكس الرجل الذي يجب عليه الإنفاق، لهذا كان هذا التقسيم منه سبحانه والله أعلم...

مرت الحصة بسرعة كعادتها، فالأشياء الجميلة تمر بسرعة، ورن الجرس فخرج الطلبة وعم الضجيج الأرجاء، لكن ريم لازال يشغلها حادث البارحة، وتركيزها كله فيه.

وبشكل عفوي بحثت عن مريم في الساحة حتى وجدتها تحدث أخاها يوسف، فاقتربت منهما ثم نادتها بصوت خافت فاستدارت مريم واستأذنت من أخيها ثم استأنفا الحديث في موضوع البارحة الذي زلزل كيان ريم، مما جعلها متلهفة فوق العادة لمعرفة الحلول الناجعة والحاسمة في هذا الأمر.

فقالت بتلهف جلي: ألن تخبريني يا مريم عن الحلول؟ أود أن أرتاح من هذا الكابوس المزعج.

ابتسمت مريم وقالت: طبعا يا ريم سأخبرك ..

ريم في جدية: تفضلي، كلي آذان صاغية..

مريم: لكي نصل لحل مشكلة ما نحتاج لبذل أسباب روحية وأسباب مادية ثم نتوكل على الله عز وجل أليس كذلك؟

ريم: ممم كيف؟

مريم: أي أننا نحن فقط أسباب بين يدي الله، لا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا، والمطلوب منا كبشر عند أي مشكلة تواجهنا أن نلجأ إلى الله أولا وأخيرا لأن الأمر بيده وحده، وكذلك مطالبون بأن نبذل الأسباب البشرية مع الاعتماد الكلي على الله عز وجل.

ريم محاولة الاستيعاب: مثلا؟؟

مريم: مثلا في مشكلتنا هذه وهي مشكلة تهدد عفة المسلمين وأمن المجتمع عامة.

الرجال فطرهم الله على الميل للنساء والعكس صحيح. لهذا وضع لنا ضوابط لنحافظ على أنفسنا من جهة ونحافظ على الاستقرار النفسي للرجال من جهة ثانية، فحين نسير في الشارع ملتزمات بما أمرنا الله، سنحمي أنفسنا من مرضى القلوب وأيضا نقي أي رجل شر الفتنة، وبالتالي يأمن الناس ويعم الطهر والنقاء، أليس كذلك؟

ريم بملل: نعم وماذا بعد؟

مريم: هذا أهم سبب بشري يمكننا بذله، ولكي نقي أنفسنا شر النفوس المريضة علينا باللجوء إلى الله بالدعاء دائما وبالتحصن بأذكار الصباح والمساء وذكر الخروج من البيت من جهة والالتزام في الشارع بضوابط الشرع، فاللباس جزء من منظومة متكاملة: الغض من البصر، لأن النظرة سهم من سهام إبليس، والقصد في المشي، واجتناب الضحك في الشارع مع البنات بصوت عال، وعدم الخضوع بالقول، والتعامل مع الرجال بما يرضي الله وفي حدود الضرورة، وعدم الخروج ليلا ..

أتظنين بعد كل هذا ستعانين من أي مشكل من هذا النوع؟ مستحيل طبعا.

ريم: هذا كثير يا مريم، كأنك تطلبين مني أن أدفن نفسي حية، هذا لا يرضي أحدا.

ثم استطردت مازحة: هكذا لن أتزوج يا مريم ولو بعد قرن، وساعتها ذنبي في رقبتك.

ابتسمت مريم ضاحكة وقالت: هنا الخلل يا صديقتي، الزواج رزق بيد الله، فهل نطلبه بغير ما يرضيه؟

فكري مليا في كلامي هذا، وأسأل الله عز وجل أن يكفينا شر الفتن ما ظهر منها وبطن.

أجابت ريم وقد تنبهت لشيء مهم جدا: مريم أواثقة أن سنك خمسة عشر عاما؟

مريم في تساؤل: نعم ولم؟

ريم: لأن هذا الكلام أكبر من سنك يا صديقتي العزيزة...

خفضت مريم رأسها وقالت: هذا بفضل الله الذي أنعم علي بوالدين نشأنا بينهما على تبسيط الأمور وإرجاعها لشرع الله على علم. وأن من كان مع الله فحياته طيبة وهنيئة بإذنه تعالى.

ريم والحزن قد أطل من محياها: طوبى لكم والله، لستم مثلي أعيش في بيئة مختلفة..

مريم: نحن من نغير بيئتنا يا ريم وليس العكس،

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }

[سورة الرعد الآية: 11]

ريم: هذا كلام كتب يا مريم، ليس السامع كالمجرب..

مريم: هذا ما جعلنا أوهن أمة، دائما نتحجج بالظروف وأنها أقوى منا وأن الإنسان ابن بيئته...

ريم وقد تذكرت: دعينا من كل هذا الآن نكمل فيما بعد، نسينا حصة اللغة العربية، لقد تأخرنا هيا...

وبينما هما في الساحة مسرعتان، إذ "ميزو" في الشرفة يتأمل مريم وكأنه يراها لأول مرة...

يتبع بإذن الله










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-27, 15:41   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة الحادية عشرة بعنوان:


وانتفض الوجع


تسارعت الأحداث متلاحقة على أسرة أحمد وجيرانه...

فقد عثرت الشرطة أخيرا على سعيد في كوخ قصي، كان يعيش فيه قبل الزواج بسوسن بعد أن بحثوا عنه لمدة أسبوع كامل.

وألقي القبض عليه وهو في حالة سكر شديد.

ثم تمت محاكمته بعد أيام من اعتقاله بخمس سنوات نافذة، فوقع الخبر عليه كالصاعقة وانقبض قلبه قبل جسده، وهو المنطلق المتحرر الذي يفعل أي شيء يريد في أي وقت...

دخل إلى الزنزانة يسب ويلعن ويغمغم بكلمات يائسة...

ثم التفت حوله متفحصا المكان بعينيه فكشفت له عن وجوه النزلاء في هذا الفندق الفريد...

لعله خير.. هكذا قال له رفيقه في الزنزانة...

الزنزانة... العالم الجديد لسعيد، قبو مظلم شحت عليه نوافذه الضيقة بنور الشمس. فأعلنت هذه الأخيرة تحديها بإرسال بعض أشعتها، وكأنها تخبر الجميع أن الأمل في الله دائم مهما اشتدت رياح البلاء، وأن المنحة هي الوجه الثاني للمحنة...

بدأت حياة السجن والروتين القاتل، في مكان تكاد رائحته تطبق على الأنفاس...

عالم آخر، ووجوه أخرى لم يعهد سعيد مثلها من قبل.

ألفاظ بذيئة ولهجة أكثر قذارة من قاموسه، والشتائم سيمفونية صباحية يعزفها الحراس على مسامع المساجين، والذلة مطبقة على المكان تأبى أن ترحل.

أما القلوب فلو عصرتها لجادت بسواد نادر، درجة جديدة من السواد القاتم...

وفي الجانب الآخر حيث الحرية ترفرف بجناحيها...

عادت سوسن إلى بيتها بعد أيام من ملازمتها السرير في المستشفى، محملة بذكريات الماضي الأليمة وجراح القلب لم تلتئم بعد.

وكان عزاؤها الوحيد ابنتها وفاء التي عادت البسمة إلى شفاهها بعد عودة أمها...

فبدأت من فورها في إتمام إجراءات رفع قضية طلاق على سعيد...

بينما كان جيرانها يستعدون لاستقبال أحمد بعدما بدأ يعود للحياة الطبيعية شيئا فشيئا وأذن له الطبيب بمغادرة المستشفى...

كان صباح يوم جمعة حين وصل أحمد لبيته رفقة أسرته الصغيرة وعائلته.

وكان الكل فرحا بخروجه سالما من ذلك الحادث المؤلم إلا واحدا كان قلبه يشتاط غيظا...

كان يتمنى من كل قلبه أن يموت أخوه، مع أنه كان يظهر عكس ما يبطن...كالتقية التي تحل الكذب الذي حرمه الله لأجل أباطيل وأوهام، ما أنزل الله بها من سلطان.

إنه أدهم الشقيق الأصغر لأحمد.

نشأ أدهم في صراع داخلي متذبذب، تطغى عليه مفسدات القلب، فتحيله إلى عتمة تعشش العنكبوت في أركانها.

فمذ كانوا صغارا، وهو يعتبر أحمد خصمه وعدوه لأنه كان المفضل في البيت.

ومنذ نعومة أظفاره وهو يرى الجميع يشهد لأخيه بالذكاء والجدية والاتزان.

أما هو فغالبا ما كان يوصف بالغباء والتهور في كل تصرفاته. ويحرم من حنان الأبوين، وكذا الدعوات الطيبة والرضا الذي تتفتق ينابيعه...فيغدق بلا حساب على باقي الأبناء، إما لجمالهم أو مالهم أو نجاحهم في حياتهم العملية...

بينما هو لا يناله من كل ذلك سوى رذاذ بارد في أوقات قليلة...

والسبب أنه كان بدين الجسم، لا يشبه إخوته جمالا ولا هيئة. تخرج أدهم من الجامعة بمعدل متوسط، فلم يجد عملا.

مما زاد الطين بلة، فأغرقه في وحل المشاعر الحانقة ونار الانتقام الحارقة.

فكان يزداد حقدا وغلا لأحمد ولكل من حوله مع كل إهانة في البيت أو الشارع.

أما أحمد فقد كان رفيقا به حريصا على صحبته، غير راض عن هذا التفريق والتمييز في المعاملة بينه وبين أخيه.

لكن هيهات هيهات فإن تربية والديهما الخاطئة وعدم مراعاتهما العدل بين أولادهما، وإغداق الحنان أكثر على الضعيف منهم بدل إهانته وتحقيره.

قد أشعلت نار الغيرة والحسد والضغينة، ودمرت نفسية أدهم الذي لا ذنب له، بل كان ابتلاء ابتلاهم الله به...

كان أدهم طفلا ساذجا بشوشا، وكان يصغر أحمد بثلاث سنوات، وكان يعاني الأمرين منذ طفولته... فهو آخر إخوته الستة.

وحين بشرت أمه بحمله، اكفهر وجهها حزنا، وعادت إلى بيتها وكأنها ارتكبت جرما في حق البشرية.

ولما أخبرت أباه بالخبر، انفجر في وجهها غاضبا، وقال مهددا ومتوعدا:

- هذا الجنين لابد أن يجهض، وإلا كان هذا آخر يوم لك في بيتي.

فلما سألته: - لم؟

قال في غضب:

- ألا ترين أن البيت يعج بالأفواه الجائعة وراتبي محدود ؟ من أين سأنفق عليكم؟ لا ينقصني سوى هذا الوافد الجديد. خذي هذا المبلغ من المال واذهبي غدا إلى المستشفى لإجهاضه، ولا تأتي إلا وقد انتهى كل شيء، ثم أشاح بوجهه عنها وانصرف...

وفي صباح اليوم التالي، ذهبت أم أحمد إلى المستشفى حائرة بين طاعة زوجها وطاعة ربها.

وأسرت بالأمر لممرضة هناك، فقالت لها:

- اتقي الله يا امرأة، هل تطيعين زوجك وتغضبين ربك؟

فقالت الأم بصوت وجل:

- إذا لم أطعه سيطردني، فهو صعب الطباع، وإذا قال شيئا فإنه ينفذه دون نقاش.

- فأجابتها الممرضة: إذن الجئي إلى ربه وربك وقفي له بالمرصاد. ويقينا لن يخذلك الله.

وبعد حديث طويل مع الممرضة، اقتنعت أم أحمد بكلامها واطمأن قلبها لرأيها.

عادت الزوجة إلى البيت مسرعة الخطى، قبل أن يعود زوجها من العمل والأولاد من مدارسهم.

توضأت فأسبغت الوضوء، ودخلت غرفتها فصلت ركعتين، وجلست تثني على الله وتذكره بأسمائه الحسنى، وتصلي على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وبدأت مناجاة ربها بكل ما يجول في خاطرها، وهو الأعلم بها من نفسها، وانهمرت دموعها الحارة، وقد طفت كل أوجاعها التي تسكن بين جنبيها، فأجهشت بالبكاء وتذللت لله وانكسرت بين يديه، وأحسنت اللجوء والخضوع بين يديه والتوكل عليه وهي تدعوه وتلح عليه أن يهدي زوجها ويحفظ عليها جنينها.

وكلما ذرفت الدموع، اشتد دعاؤها ورافقه يقين وليد، أن الله هو الوحيد الذي بيده نجاتها مما فات ومما هو آت. وأحست لأول مرة في حياتها بقرب، تعجز اللغة عن نسج كلمات وصفه. وبدأت الأوجاع تسكن رويدا رويدا، والألم يرحل فيترك مجالا للأمل والطمأنينة...

خرجت أم أحمد من غرفتها، وقد نفذت وصفة الممرضة بحذافيرها، فكانت النتائج الأولية مبشرة بكل خير، وهدأ روعها فذهبت لإعداد وجبة الغداء.

ولما جاء زوجها، سألها عما فعلته بالجنين، فأخبرته برفق أنها لن تقتل نفسا، وأخذت تذكره بأن الله هو الرزاق وهو من أمر عباده ألا يقتلوا أولادهم خشية أن يطعموا معهم.

واجتهدت في إقناعه بكل ما أوتيت من قوة علم بمفاتيح شخصيته، وبعد عدة دقائق تهللت أساريرها، وقد وافق على مضض...

ولد أدهم وكان طفلا جميلا ينشرح له القلب، لكن به عيبا لم يتنبه له الوالدان إلا بعد خمسة أعوام.

مرت الأيام وكبر أدهم، فكبرت معه الإهانات في البيت والشارع، بين أطفال يلقبونه بالأعرج، وكبار تزدريه أعينهم.

أما إخوته، فكانوا عند الشجار الذي يفرز عن مكنونات النفوس، يصفونه بأقبح الألفاظ، التي تعلموها من الكبار، ويركضون بعيدا حتى لا يضطروا للعب معه.

أما جارات أمه، فكان يرى نظرة الشفقة في أعينهن: وسئم من سماع قولهن: المسكين قليل الحظ، اصبري واحتسبي.

كل هذه التصرفات، كانت شظايا تشعل فتيلها في قلبه الصغير.

فينزوي في الحمام ليبكي بعيدا عن الأعين، حتى يفرغ ما في قلبه من جمرات لاهبة من الإحساس المرير بالاحتقار، ويدعو الله أن يعوضه خيرا في يوم من الأيام.

وزادت وتيرة الإهانات حين زاد وزنه، فبات يسمع ألقابا إضافية يهتز لها وجدانه...

والغريب في الأمر، أنه كان يحولها إلى شراهة في الأكل، نتيجة الحرمان من الحنان والجوع العاطفي الذي يعاني منه.

وكان كلما أنهى طعامه، أحس بألم نفسي فظيع لكنه ما يفتأ أن يعاود الكرة.

فلما جاوز العشرين من عمره، أصبح يحس بحجم الكارثة التي يسير إليها فقد صار وزنه كبيرا جدا، لكنه اعتاد على نظام حياة وعادات أقنع نفسه أنه لن يستطيع تغييرها.

فتواكل عن تغيير نفسه ووهنت رجله المريضة نتيجة الوزن الكبير، فصار كالمعاق جسديا والمعقد نفسيا.

كل هذا وأحمد لا يتوانى عن نصحه بكل الطرق، ويحاول أن ينقذه من الهاوية التي يسير إليها، لكنه يزداد عنادا وشراسة على نفسه، وكأنه ينتحر ببطء...

اشتعل قلبه غيرة على هذا الاهتمام بأحمد والسعادة التي تنطق بها أعين الجميع حبا لأخيه...

انفض الجمع بعد ساعات من التواصل الجميل والسرور الذي يريح القلب العليل، وعاد الهدوء إلى بيت أحمد وانهمك كل في اهتماماته وأشغاله...

مرت أيام استعادت فيها الأسرة عافيتها النفسية وأزاحت عنها غبار الدنيا الذي بدأ يترسب على القلوب وعادت إلى حضن أحمد الدافئ، الذي استعاد عافيته بعد ابتلاء

جعله أًصلب عودا. فاستعاد رباطة جأشه وزاد صبره ويقينه بالله عز وجل.

وذات صباح بينما كانت الأسرة تتناول وجبة الإفطار، رن جرس الهاتف فرد أحمد على الهاتف وإذا بأبيه يخبره بارتباك أن أخاه أدهم قد وجد في غرفته وقد قطع شرايين يده فتم نقله إلى المستشفى بسرعة...

يتبع بإذن الله









رد مع اقتباس
قديم 2012-05-16, 09:52   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة الثانية عشربعنوان:


وبدأ التغيير

كانت صدمة الجميع بالغة من هول الخبر، فلهجت الألسنة بالدعاء لله عز وجل وتسارعت دقات القلوب، وهي تحاول أن تدفع شبح التفكير في حدوث نهاية مؤسفة لذلك العم الصامت، الذي تحدث أخيرا بطريقته، لكن هل يا ترى فات الأوان؟

سارع أحمد ونور إلى المستشفى بعدما تمكنا بصعوبة بالغة أن يقنعا أولادهما بالذهاب إلى مدارسهم، وان أخبار عمهم ستصلهم أولا بأول، وأنهما إن احتاجا لأي مساعدة، سيتصلان بهم على الفور.

وصل الزوجان إلى المستشفى بعد نصف ساعة، فوجد أحمد والده في غرفة الاستقبال يذرعها جيئة وذهابا، أما والدته فما كانت رجلاها الضعيفتان تقويان على حملها، فلاذت بأقرب كرسي وجدته لدى وصولها، وكلما استجمعت قواها وجففت دموعها إلا وانهارت من جديد. أكب أحمد ونور على يديهما يقبلانها ثم سأل أحمد والده في لهفة عما جرى.

أبو أحمد: لم نعرف شيئا إلى الآن يا بني ما علينا إلا الدعاء، وأجهش بالبكاء -وقلبه يتمزق من الألم، ومشاعر متضاربة تنتابه...أما أم أحمد فتارة تبكي وتارة تشرد بذهنها وكأنها في عالم بعيد..مر الوقت بطيئا والساعات طوالا... والكل يضرع إلى الله بالدعاء وقلوبهم تخفق بذكره رجاء في رحمته.

خرج الطبيب بعد طول انتظار وطمأن الأسرة أن أدهم قد اجتاز مرحلة الخطر وبعون الله سيعافى بعد أيام معدودات.
تهللت أسارير الحاضرين وحمدوا الله على نعمه وأفضاله...

وبعد أيام قضاها بجانب أخيه في المستشفى، ذهب أحمد إلى بيت أهله للاطمئنان على والديه، فوجدهما يشربان الشاي في بهو المنزل ويتجاذبان أطراف الحديث فقابلاه كالعادة ببشر وسعادة وكذا هو، استأذن بعد دقائق ليدخل إلى غرفة أدهم، وفكرة واحدة تسيطر عليه وهي لماذا؟ لماذا أقدم أدهم على الانتحار وهو يأس من رحمة الله في الدنيا وعذاب يوم القيامة والعياذ بالله.

دخل الغرفة ففوجئ بالفوضى التي تعمها، والصور الغريبة المعلقة على الحائط، فبدأ يدرك حجم تقصيره في حق أخيه والدليل أنه لم يدخل غرفته منذ زمن بعيد ولم يهتم بمعرفة أحواله أو حتى السؤال عنها بعمق." واغفلتاه، أين كنتَ يا أحمد؟ أتدعو الناس وتترك أخاك؟ ماذا ستقول لربك حين يسألك عنه؟ الويل لك كل الويل" هكذا خاطب أحمد نفسه لشدة صدمته.

ثم بدأ يبحث بين كتب أخيه عله يجد خواطر أو مذكرات تفسر له سبب ما جرى، لكنه ما لبث أن وجد ورقة على الطاولة فالتقطها بسرعة وكأنها طوق النجاة من حيرته.

ثم بدأ يقرأ :

" ارتاحوا الآن، ها أنذا ذهبت فانعموا يا موتى القلوب وعمي الأبصار، لم أكن أحتاج منكم سوى أن تحسوا بي فشكرا جزيلا على إحساسكم الميت.إلى اللقاء في نار الجحيم. "

امتقع وجه أحمد لوقع كلمات لم يتخيل يوما أن يقرأ مثلها، فضلا عن أن تصدر عن أخيه ابن أمه وأبيه، وخرج على الفور إلى البهو فاستأذن للذهاب وفكره تتنازعه أسئلة كثيرة تبحث عن جواب.حتى أنه رد على والدته باقتضاب، حين لاطفته وهي تطلب منه أن لا يطيل الغياب، قائلا: إن شاء الله إن شاء الله.

ثم خرج بسرعة منطلقا إلى بيته...وصل فوجد نور في المطبخ تجهز الطعام وتنتظره لمرافقة الأولاد وزيارة أدهم في المستشفى..التفتت إليه فرأت وجهه قد علاه الشحوب، فعلمت بفراستها وطول عشرتها له، أن هنالك أمرا جللا يشغله، فمسحت على شعره برفق وحنان وأحجمت عن السؤال والكلام حتى لا تزيد الضغط عليه، لعلمها أن من طبيعة الرجل أنه يفضل عدم الإفصاح عن حزنه حتى يستعيد توازنه.

ثم ابتسمت قائلة: اذهب لترتاح قليلا ريثما أنهي تجهيز الطعام، فالأولاد على وشك الوصول، ثم نذهب إن شاء الله معا للغداء مع أدهم...

في هذه الأثناء كان محل أحمد مفتوحا والعمل يسير على ما يرام والمصمم محمود يحل محل أحمد في القيام بمهامه.وقبل صلاة الظهر بنصف ساعة، دخلت المحل امرأة اعتادت رجلاها ارتياد المكان بحجة الشراء وكلها أمل أن تجد ضالتها فيه.إنها فاتن، تلك الأرملة الشابة التي أعجبت بأحمد وأخلاقه من أول يوم، ولم تفتأ تزور المحل بين الفينة والأخرى. خصوصا بعد أن علمت من أحد العمال بنبإ إصابته، فانشغل بالها عليه ولم يقر لها قرار إلا بعد أن اطمأنت على نجاته وتحسن صحته.

دخلت المحل وقد خفت نضارتها، ذابلة العينين شاحبة الوجه منهكة القوى وقد عزمت في قرارة نفسها أن تحسم أمرها وليكن ما يكون، طلبت من العامل مقابلة رب العمل لأمر هام، فأخبرها أنه غير متواجد بالمحل وأن المصمم محمود يحل محله.فطلبت مقابلته على وجه السرعة، اهتم محمود للأمر وطلب منها الانتظار قليلا، ريثما يتصل بأحمد. ثم أخبرها قائلا :يمكنك الحضور يا سيدتي لمقابلة السيد أحمد على الساعة العاشرة في صباح الغد إن شاء الله. فرحت أيما فرح لهذه المقابلة التي انتظرتها طويلا، وقفلت راجعة إلى بيتها وقد وطنت نفسها وأعدت حوارا في مخيلتها حسب ما سولت لها أحلامها.

اجتمعت الأسرة وانطلقت إلى المستشفى وأدهم لا يعلم بالمفاجأة، فدخل الجميع مسرورين برؤيته واجتمعوا حوله يضحكون ويمرحون، وهو لا يفهم شيئا لكنه بعد هنيهة استساغ الجو غير المعتاد بالنسبة له، واندمج فيه وتناسى كل جروحه وآلامه ودفنها بين أضلعه ليحس بطعم المتعة الحقيقي بعيدا عن هواجسه وشكل جسمه...

تجاذب زواره أطراف الحديث وأدهم ينصت فقط كعادته، لأنه لا يجرؤ أن يتفوه بأي كلام ليقينه أنه سيواجه بالتحقير أو التسفيه أو أنه لا يعلم شيئا... لكن أحمد نظر إليه نظرة تشجيع، بعد أن فتح موضوعا متعمدا في تخصص أدهم وهو الأدب العربي. ثم طلبوا منه أن ينشدهم شعرا مما يحفظه، فامتنع بشدة لكنهم أصروا وبدؤوا بالتصفيق والتشجيع وهم يصرون على أنهم متأكدون من براعته ولكنه يخفيها...

فقال ضاحكا: لابد لي من "ميكروفون" فأنا أكبر من إنشاد الشعر على سرير... فأمسكت فاطمة بمشط طويل وكأنه ميكروفون وقالت له: تفضل يا عمي، اعتبره ميكروفونا تقليديا وشنف أسماعنا فضحك الجميع. والعجيب أن أدهم لم يعتبرها إهانة في حقه بل تقبلها بصدر رحب، لأنها فعلا كانت مداعبة بريئة، الهدف منها الترويح عنه وإدخال السرور على قلبه، فوافق وأمسك بالمشط ورفع رأسه كأنه في أمسية شعرية وتنحنح والكل يصغي باهتمام ثم أنشد:


جَـمَالُ الـرُّوحِ ذَاكَ هُوَ الْجَمَالُ *** تَـطِيبُ بِـهِ الـشَّمَائِـلُ وَالْخِلالُ

وَلَا تُـغْنِي إِذَا حَـسُنَتْ وُجُـــوهٌ*** وَفِـي الْأجـْسَادِ أرْواحٌ ثِـقالُ

وَلَا الْأخْـلاقُ لَـيْسَ لَهَا جُذورٌ *** مِـنَ الإِيمَانِ تَـوَّجَهَا الْكَمَالُ

زُهُـورُ الـشَّمْعِ فـَاتِنَةٌ وَلـَكِنْ*** زُهُـورُ الرَّوْضِ لَيْسَ لَهَا مِثَالُ

حـِبَالُ الـْوُدِّ بِالْإِخْلَاصِ تَقْوَى*** فـَإِنْ يـَذْهَبْ فَلَنْ تَقْوَى الْحِبَالُ

حَـذارِ مـِنَ الْجِدَالِ فكَمْ صَدِيقٍ*** يـُعَـادِيهِ إِذا احْتَدَمَ الْـجِدَالُ

بِأرْضِ الْخِصْبِ إمَّا شِئْتَ فَازْرَعْ ***وَلَا تُـجْدِي إذا زَرَعَـتْ رِمَالُ

صفق الجميع له بحرارة لأنه فعلا أتقن إنشاده وقاله بإحساس عارم لا سيما أنه يمسه بعمق...فرح أدهم جدا فهذا ما كان يبحث عنه أن يحس به الآخرون وأن يرفعوا معنوياته ويصوبوا أخطاءه برفق وذكاء وليس بقسوة وجفاء...استمرت الجلسة الرائعة في جو مميز لم ينهه إلا الممرضة التي جاءت تخبرهم بنهاية وقت الزيارة، فسلم الجميع عليه بحرارة وطلبوا منه أن يدعو لهم.

وبينما همَّ الجميع بالخروج من الغرفة، نادى أدهم أخاه أحمد فالتفت أحمد بسرعة: نعم يا شقيقي العزيز.فنظر إليه نظرة الغريق المستنجد به دون أن ينبس ببنت شفة، أراد أحمد أن يستفسر منه، لكن فوجئ بابنه عمر يخبره أن سيدة تنتظره بالخارج.

يتبع بإذن الله










رد مع اقتباس
قديم 2012-05-17, 15:54   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
أمتي
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أمتي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحلقة الثالثة عشرة

بعنوان: روميو الشاشة

خرج أحمد من غرفة أدهم ليستطلع خبر المرأة التي أنبأه عمر أنها تنتظره، ولم تكن غير أمل ابنة جيران أهله. تلك الفتاة التي كان أدهم قد تقدم لخطبتها لكنها رفضت طلبه حينها.

لذلك فقد فوجئ أحمد بزيارتها لأدهم، بادرته أمل بمجرد رؤيته، وقد خفضت رأسها حياء واحتراما:

أهلا أخي أحمد، كيف حالك وحال أسرتك؟

أحمد: بخير والحمد لله كيف حالك وحال عمي كامل وخالتي راضية؟

أمل: الحمد لله، كيف حال أدهم الآن، إن شاء الله بخير؟

أحمد: الحمد لله تحسن كثيرا، نسأل الله أن يتم شفاءه على خير.

أمل: هل لي أن أراه؟

أحمد: لحظة أستأذن منه.

دلف أحمد إلى الغرفة لكي يلطف الأجواء ويهيئ أدهم نفسيا للقاء أمل، وقد كان يخشى من ردة فعله تجاهها.

فأجابه أدهم وقد علا الغضب وجهه: لا أريد أن أراها، أخبرها أني مت فلتفرح..

أحمد: هدئ من روعك يا أخي، هي ضيفتك الآن جاءت لزيارتك، حاول أن تعاملها بالتي هي أحسن.

أدهم: هذه الحمقاء أحببتها من أعماق قلبي وكنت مستعدا لتغيير كل حياتي لأتزوجها وأستمتع بالحياة معها، ولكنها رفضتني ولم تأبه لمشاعري.

أحمد: اسمعها، ربما تجلب الخير معها، وما يدريك؟

أدهم بغضب: دعها تدخل لعل الله أطال عمري لأرد لها الصاع صاعين..

سكت أحمد، لعلمه بأن تصويب سلوك أخيه لابد له من عمل حثيث وليس مجرد كلام وخرج ليطلب من أمل الدخول - وكله امل أن يكون ظهورها من جديد في حياة أخيه عاملا مساعدا في التغيير الذي ينشده-.

مرحبا بالأمل... قالها أدهم بسخرية وهو ينظر إليها بحنق.

فبلعت ريقها بصعوبة وقالت: حمدا لله على سلامتك.

أدهم: ماذا تريدين؟ ألم تطرديني من بيتكم حين جئت خاطبا؟ أنسيت ما قلته لأمك على مسمع مني، أعنس ولا أتزوج ذلك المعاق، من يظن نفسه ليتجرأ ويطلب يدي للزواج؟ هل جننت لأعيش مع كتلة لحم متحركة؟

أمل في خجل: جئت لأطمئن على صحتك...

ثُم خرجت مهرولة وهي تبكي بحرقة...

انفجر أدهم بالبكاء كالطفل حين تهان كرامته وقد تذكر كل ما قالته وفعلته في حقه.

وقال يكلم نفسه: لماذا وقد أحببتك بصدق وكنت أنوي أن أتغير جذريا لأجلك، ونظر إلى الباب وقال في تحدّ وعينه تبرق إصرارا: سيأتي اليوم الذي ترين فيه هذه الكتلة من اللحم ماذا تصنع، وستتمنين لو أنها تلتفت فقط لتراك.

ذهب أحمد إلى البيت برفقة أسرته وعند وصوله نظر إلى نور ووجهه ينطق حزما وجدية: أحتاجك في أمر مهم جدا، ما رأيك أن نناقشه سوية؟

نور: نعم حاضر حبيبي، وأومأت برأسها موافقة.

دخل أحمد غرفة المكتب ولحقت به نور بعد لحظات، فبسمل وحمد الله تعالى ثم شرح لها وضع أدهم بشكل تدريجي قبل أن يريها في نهاية المطاف الورقة التي كتبها أدهم.

صدمت نور هي الأخرى وهي تقرأ تلك الكلمات، لكنها حاولت أن تتمالك نفسها حتى تخفف على شريك عمرها مصابه في أخيه.

لكن أحمد استطرد قائلا : إن أشد ما يؤلمني هو الإحساس بالذنب أني أهملت أخي وقصرت في حقه حتى وصل به الحال إلى هذا المآل؟

نور: هون عليك يا أغلى الناس، بدايةً المسؤولية ليست مسؤوليتك وحدك، بل هي مشتركة بيننا جميعا إضافة إلى محيط أدهم القريب الذي له أكبر الأثر في ذلك.

فكرت نور مليا ثم أضافت قائلة بحزم:

نحن لن نستسلم بإذن الله، وأنا متفائلة أن الله عز وجل ما أنقذه من محاولته للانتحار إلا لخير أعده له سبحانه. ولن نعدم الوسيلة إن شاء الله إن وضعنا خطة عمل محكمة بعد جرد أسباب كل ذلك.

ومن وجهة نظري لو حللنا كلامه سنجد الآتي:

+ على مدى سنوات انغلق أدهم على نفسه، وبسبب انشغالنا عنه لم يعد أحد منا للأسف يعلم ما بداخله ولا يفكر في سؤاله أو الاهتمام به ؛

+ لا أحد منا استطاع مد جسر ود معه حتى يتمكن من فهمه، فلم نحس بمعاناته ولم نستشعر آلامه. ولو فعلنا لكنا استطعنا تخفيفها قبل أن تتفاقم؛

+ كل هذا أوصله لدرجة كبيرة من الحقد والكره لمن حوله لدرجة أنه يعلم أن المنتحر في النار ويتمناها لمن في نظره تسببوا في وصوله لهذه الحالة.

+ لكن هناك حلقة مفقودة في الموضوع لا يعلمها إلا الله ثم أدهم ولابد من إيجاد طريقة للوصول إليها لاكتمال الصورة.

تهللت أسارير أحمد ثم قال موافقا: هو ذاك، أصبت يا حبيبتي ولابد أن نتفق على خطة متدرجة نغير مفاتيحها كلما تقدمنا في تحقيق هدفنا، الذي هو بلا شك أن نكون سببا في تغيير حياة أدهم إلى حياة طيبة متوازنة بإذن الله.

فأجابت نور بجدية واضحة: متفقة معك تماما يا عزيزي فيما تفضلت به فمن أحياها كمن أحيا الناس جميعا وأرجو من الله أن يعيننا على هذا الأمر ويوفقنا فيه.

أحمد: اللهم آمين يارب العالمين، إذن على بركة الله نتفق على الخطة وطبعا كما تعلمين لابد من مشاركة أبنائنا جميعا فيها وسنناقش معهم الأمر في جلسة الليلة بإذن الله.

ثم شرعا في وضع خطة لهدفهما الذي اتفقا عليه. وفي المساء شرحاها لأبنائهم ونقحاها من خلال النقاش إلى أن توصلا إلى صيغة مناسبة للبدء في تنفيذها وكانت أول قطرة اتصال عمر بعمه للاطمئنان عليه وإبلاغ سلام الجميع له وأنهم يطمئنون على صحته.

وفي اليوم التالي ذهب أحمد إلى محله كما وعد محمود رغم انشغاله بأخيه الأصغر، لكنه فضل إنهاء هذا الأمر رغم عدم علمه بمضمونه.

دخل المحل فألقى التحية ببشاشة على العمال الذين وجدهم يضعون شحنة جديدة من الأثواب في المخزن. بينما محمود وزميله منهمكان في تصميم نموذج جديد.

تجاذب أطراف الحديث مع زميليه، وما لبثت أن تواردت على ذهنه أفكار إبداعية جديدة، فسارع إلى تسجيلها في مفكرته الصغيرة حتى لا ينساها. ثم عرضها عليهما فاستحسناها. وتمت مناقشة كل التفاصيل التي من شأنها أن تجعله زيا متكاملا. ثم تم الاتفاق في النهاية على النموذج النهائي ومواصفاته والألوان المناسبة له.

وفي تمام العاشرة صباحا وصلت فاتن فقابلها أحمد ومحمود في المكتب:

تفضلي أختي هل تريدين اقتناء أزياء جديدة، لدينا نماذج رائعة: قالها أحمد بأدب جم كعادته.

ارتبكت فاتن وتمتمت بصوت خافت: شكرا لك، ليس هذا ما جئت من أجله، الأمر حساس شيئا ما ولا أستطيع أن أفصح عنه إلا لحضرتك.

فهم أحمد بفراسته أن الأمر لا يتعلق بالعمل، ففكر بسرعة في حل لا حرج فيه للجميع ثُم قال بنبرة حازمة:

كما ترين أختي الكريمة لدينا عمل كثير، هل يمكنك إخبار الأخت هاجر بما تريدين، إنها أخت فاضلة تعمل معنا منذ مدة وهي محل ثقة؟

فاتن بعد تردد: ممكن...

ثم طلب من محمود إبلاغ الأخت هاجر بالأمر، وحين حضرت عرفهما على بعضهما ثم تركهما الرجلان لوحدهما في المكتب وخرجا..

مرت لحظات، وفاتن صامتة لا تدري ما تقول، فابتسمت هاجر في وجهها ونظرت إليها نظرة تشجيع لعلها تشرع في الحديث...

فرفعت رأسها وقد حسمت أمرها وقالت لها: بصراحة لا أعلم من أين أبدأ، الموضوع حساس ولا أستطيع البوح به بسهولة...

هاجر مبتسمة: ابدئي من أي نقطة، وتأكدي أن الموضوع سيصل للأستاذ أحمد بسرية تامة.

فاتن بارتباك وتلعثم: بدون مقدمات، منذ أن رأيت السيد أحمد وأنا في عالم آخر، أحببته لا أعرف لم ولا كيف ولا متى ولكن أحببته، وأجهشت بالبكاء..

واستمرت تحكي لها عن ظروفها وكيف بدأ الموضوع وهاجر تنصت وتومئ برأسها دلالة على المتابعة والاستيعاب إلى أن أكملت فاتن قصتها...

نظرت إليها هاجر بحنان وقالت لها: هوني عليك أختي، يقينا هناك حل ولا مستحيل ولا إحباط حينما نحسن التوكل على الله..

أتفهم الأمر والأستاذ أحمد إنسان مميز خصوصا في زمننا هذا، ولكن إن سمحت لي - وهذا ليس تدخلا مني- ولكنه لحاجة في نفسي: هل أنت أحببت أحمد أم أحببت أخلاق وشخصية أحمد؟

أطرقت فاتن تفكر وقد فاجأها السؤال وقالت: وضحي قصدك أكثر رجاء.

هاجر: ما قصدته هو أن أي امرأة كيفما كانت تتمنى رجلا بحق يصونها ويتقي الله فيها ويعاملها بما يرضي الله.

وصدقيني أنت لم تحبي أحمد ولكن أحببت نموذج أحمد المفتقد في زمننا هذا...

وحسب علمي، فإن أحمد يحب زوجته كثيرا وسعيد في أسرته وحتى لو تزوجك فلن يعدل لانشغاله الشديد بأسرته ورسالته ولعلمي ببعض اهتماماته، أنصحك ألا يعلم شيئا، وأقترح عليك أن يبقى الأمر بيننا وأنا كفيلة بإيجاد حل يرضيك بعون الله. فما رأيك؟

نظرت إليها فاتن ولما تستوعبْ كلامها بعد ثم قالت:

اتركي لي مهلة للتفكير في كلامك، لعل الله يقضي أمرا لا نعلمه...

هاجر: إذن إليك رقم هاتفي ولنبقَ على تواصل وتأكدي أختي في الله أني لا أريد إلا مصلحتك وسأقول للأستاذ أحمد أنه موضوع استشارة لما عرفتِه عن طاقم العمل هنا من اتزان وحكمة..

فاتن: جزاك الله عني كل خير، والله لا تعلمين مدى فرحتي بالتعامل مع أخت مثلك، بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك.

خرجت المرأتان وسار الأمر كما اتفقتا.

ظلت هاجر تفكر في أمر فاتن وتبحث عن مخرج للموضوع، بينما تفكر فاتن في كلام هاجر وتعرضه على العقل والمنطق، لعلمها بأن حاجتها هي فعلا لرجل تقي وليس لأحمد ولكن هو الفراغ العاطفي الذي تركه هيثم لازال مسيطرا عليها.

وفي صباح اليوم التالي، في حي غير بعيد عن بيت أحمد، قامت ريم صديقة مريم من النوم تتثاءب، واتجهت مباشرة إلى الحاسوب فشغلته، ودخلت بسرعة على موقع التواصل الاجتماعي كعادتها في العطلة وكل ليلة، فوجدت "ميزو" زميلها في القسم متصلا..

فتحت نافذة التواصل معه وبادرته قائلة: هاي ميزو

ميزو: هاي ريري

ريم: كيف حالك؟

ميزو: مهموم .. لست بخير

وأنت؟

ريم: مهمومة هههه

إذا كان ميزو مهموما فأنا على وشك الانتحار...

ميزو: مممم لم؟

ريم: يا ابني اترك الهموم للفقراء مثلنا وتذكر فقط أسماء فتياتك وقصات شعرك الشهرية..

ميزو: كفاك سخرية يا ريري، أنا فعلا لا أنام جيدا هذه الأيام ولا آكل تقريبا والملل سيقتلني...

ريم بسخرية مضاعفة: لماذا كل هذا؟ لا تقل لي أن الحب قد ألهب قلبك؟ ههه

ميزو: ليس الحب، لست أحمقَ لأحب، بل هي لعبة أو لنقل رهان بيني وبين زيزو أبحث عن طريقة مناسبة لها، ولابد أن أربح.. وأحتاج مساعدتك ..

ريم بتعجب: لعبة؟ وما دوري أنا فيها؟

ميزو: الأمر جدي وسأقول لك ماذا أريد ولكن عديني أن تنفذي لي طلبي، اتفقنا؟

ريم: مممم وما المقابل؟

ميزو: اطلبي ما تشائين..

ريم: اتفقنا

ميزو: أريد إميل ورقم جوال صديقتك مريم..

ريم متفاجئة: مريم؟ لم؟

ميزو: لا تسألي كثيرا، هل ستعطيني ما طلبته أم لا؟

ريم تفكر: أتعرف ماذا تعني لي مريم؟ هي بالذات لا أستطيع إيذاءها..

ميزو: اطلبي ما تشائين، فالأمر مسألة حياة أو موت.

ريم: دعني أفكر وسأرد عليك الليلة على الخاص.

ثم ظهرت أمام ناظريها نافذة أخرى كتب فيها: هاي يا قمر...

يتبع بإذن الله










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
النور, تأليفي, حجوط, رواية

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 10:56

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc