على ما يبدو أن الهندوس عازمون على المضي قدماً في تشويه التاريخ الإسلامي من خلال تشويه صورة حكام المسلمين الكبار الذين حكموا بلاد الهند عبر التاريخ، وذلك بشتى الطرق، فحكومة “مودي ” الهندوسية المتعصبة التي فتحت الباب على مصراعيه نحو اضطهاد المسلمين والتضييق عليهم، وشن الغارة على دينهم ومعتقداتهم وتاريخهم لا تتخدر جهداً في تشويه الإسلام ديناً وعقيدة وشريعة وتاريخاً.
وكما حاولوا من قبل الترويج لعدو الإسلام الأكبر “جلال الدين أكبر” سلطان الهند المغولي الذي خرج عن الإسلام وابتدع ديناً جديداً بإبرازه في حلة المجدد المجتهد الممثل للإسلام الصحيح، كما فعلوا ذلك من قبل ها هم يكررون الأمر ولكن بصورة عكسية مع واحد من سلاطين المسلمين الكبار الذي حقق نجاحات وانتصارات كبرى للحكم الإسلامي في الهند، كما حقق إصلاحات ونجاحات إدارية عظيمة، ومن شدة نجاحاته وانتصاراته ورايته الميمونة التي تنكسر أبداً في القتال لقبه المؤرخون بالإسكندر الثاني، حيث أنه الوحيد الذي نجح في فتح مدن وقلاع هندوسية لم يستطع الإسكندر الأكبر، ولا السلطان العظيم محمود الغزنوي، ولا البطل الكبير شهاب الدين الغوري أن يفتحوها، لذلك لقبوه بالإسكندر الثاني.
هذا السلطان هو “علاء الدين الخلجي” الذي صوره الهندوس منذ أسابيع في صورة السفاح الدموي المجنون الذي خاض حروباً دامية من أجل خطف أميرة هندوسية من زوجها، وهو الفيلم الذي لاقى معارضة واسعة من مسلمي الهند وأفغانستان بسبب تشويه سيرة وصورة هذا البطل العظيم.
التعريف به ونشأته:
هو السلطان البطل صاحب الراية الميمونة التي لم تكسر أبداً، قاهر المغول والهندوس على حد السواء؛ السياسي المصلح، والقائد الفذ، السلطان الذي لقبه مؤرخو الغرب بالإسكندر الثاني لكثرة فتوحاته حتي قالوا عنه أراد أن يفتح العالم! السلطان الذي وصل بجنوده الي بلاد لم يصل اليها مسلم من قبله غازياً في سبيل الله وكتب الله له النصر بكل حروبه السلطان الذي حارب المغول وهزمهم ودهس رؤوس زعمائهم بأقدام الفيلة علي أبواب دهلي؛ السلطان علاء الدين محمد بن مسعود الخلجي الملقب بالملك المؤيد والإسكندر الأكبر.
أصل الخلجيين من الأتراك الأفغان، وكانوا من المحاربين الأشداء، ظهر أمرهم أيام السلطان محمود بن سبكتكين، وكانوا قد تحركوا من خراسان إلى الهند بعد اجتياح جنكيز خان لهذه البلاد، وكان قائدهم سيف الدين الخلجي أحد قادة السلطان جلال الدين متكبرتي خوارزم شاه، وقد فارقه سنة 620هـ وذهب إلى الهند مغاضباً له.
وبالهند التحق الخلجيون بخدمة شمس الدين ألتمش الذي حكم دهلي بعد وفاة قطب الدين أيبك، وعينهم شمس الدين ألتمش ولاة على إقليم البنغال، وكذلك في الوظائف الكبرى في دولته، فلما ذهبت دولة ألتمش رأى الخلجيون أنهم أحق بالأمر من بعده، ولكن البطل الكبير غياث الدين بلبن استولى على الملك، وخاض حروباً شرسة ضد المغول الذين حاولوا غزو الهند عدة مرات، وانتصر عليهم في كل مرة حتى مات سنة 686هـ، وخلفه حفيده معز الدين كيقباذ الذي مكث في الحكم ثلاث سنوات ثم أصيب بالشلل، فثار عليه جلال الدين فيروز شاه الخلجي بدعوى أنه لا يصلح للملك وهو مشلول، وتحرك جلال الدين من البنغال بجيش كبير، واستولى على دهلي في 3 جمادى الآخرة سنة 689هـ وقتل معز الدين كيقباذ، وأصبح هو أول سلطان خلجي على مملكة دهلي الإسلامية، وكان في السبعين من عمره.
وصوله لسدة الحكم:
كان جلال الدين الخلجي مشهوراً بالتسامح مع خصومه بدرجة كبيرة وزائدة عن الحد الشرعي، كان يرى بذلك سبيلاً لتأليف القلوب النافرة والعقائد المغايرة، حتى أنه سمح للأسرى المغول بدخول الإسلام دون التقييد بأحكامه وشرائعه وأنزلهم في ضواحي دهلي ولقبهم بالمسلمين الجدد، وكان لذلك أثر سيء على دولة الإسلام في الهند.
في هذا الوقت كان ابن أخيه علاء الدين الخلجي واليه على مدينة كره وما حولها فغرا بلاد الراجبواتا والمهراتا في جنوب الهند، ووصل بجيوشه حتى ديوكير بهضبة الدكن التي فشل السلطان العظيم محمود الغزنوي في فتحها، وأرغم أميرها الهندوسي على الطاعة ودفع الجزية، فذاع صيته في بلاد الهند كلها، لأنه كان أول أمير مسلم يغزو جنوب الهند ويفتحها.
غارت “ملكة جهان” زوجة السلطان جلال الدين من ابن أخيه وزكى نار الغيرة رجال حاشيته، فسعت به عند عمه وأوغرت صدره ضده، خاصة وأن علاء الدين احتفظ بغنائم حروبه الأخيرة لنفسه ولم يعطها لعمه السلطان جلال الدين بسبب سياسات جلال الدين في الحكم وتسامحه مع الهندوس والمغول.
والخلاصة أن سوء الظن والعداوة استحكمت بين الرجلين وأخذ كل واحد يكيد للآخر حتى كانت الغلبة في النهاية لعلاء الدين بعد أن قتل عمه واستقل بحكم الهند سنة 695 ه /1290 م في قصة تشبه لحد كبير قصة بيبرس مع قطز.
رحلة المجد:
أصبح علاء الدين سلطاناً على الهند ابتداء من سنة 695هـ في فترة عصيبة كانت بلاد الهند وقتها غرضاً لغارات المغول من الشمال، والهندوس المهراتا من الجنوب، فكان علاء الدين رجل المرحلة فشمّر عن ساعد الجهاد، فانتضا سيفه طيلة عشرين سنة واصل فيها الليل بالنهار وعلى كل الجبهات.
افتتح علاء الدين عهده بمواجهة المغول الذين أحسوا بوجود فراغ في الحكم بعد الاضطرابات التي أدت لمقتل جلال الدين الخلجي، فقدم قلتق خواجه عظيم التتار بمائتي ألف فارس غير الراجلين فنهب البلاد وأحرقها وواصل السير حتى صار على مشارف العاصمة دهلي، فكمن لهم علاء الدين بجيش ضخم وأكثر من ألفين وخمسمائة من الفيلة المدربة على القتال، فدار قتال عنيف جداً لدرجة أن القتلى صاروا مثل التلول من كثرتهم، وانجلى الغبار عن انتصار حاسم لعلاء الدين الذي أمر بالقبض على قادة الجيش المغولي، وأعدمهم جميعاً على أبواب دهلي سحقاً تحت أقدام الفيلة. فانكسر المغول بعدها وعلموا أن في الهند أسد كاسر لا يعدو أحد على حماه.
ولكي يدفع هجمات التتار أقام سلسلة من الحصون على حدوده الغربية، وزودها بالجند والسلاح، ولكن ذلك لم يحل دون هجمات التتار على الهند، فتوالت حملاتهم حتى بلغت ست حملات متتالية طيلة ثلاث سنوات، على الرغم مما كان يتكبدونه من خسائر على أيدي علاء الدين وقادته.
وفي الوقت الذي كان فيه علاء الدين مشغولا بالقضاء على هجمات المغول كان يعد الجيوش لاستكمال فتح الهند، فأرسل في سنة (699 هـ 1299 م) قائديْه ألن خان و نصرت خان لفتح حصن رنتنبهور أعظم حصون إقليم راجبوتانا، فنجحا في مهمتهما بعد حروب دامية، ودخل الإقليم في طاعة علاء الدين الخلجي، ثم فتح إمارة موار، وكانت أمنع إمارات الراجبوتانا بقلعتها الحصينة القائمة على قمة جبل منحوتة في الصخر، ثم استولى على ملوه و أوجين و دهري نجري، ولم يكد يأتي عام (706 هـ / 1306م) حتى كان علاء الدين الخلجي قد فتح الهندستان كلها من البنغال إلى البنجاب.
وواصل علاء الدين فتوحاته؛ فأرسل قائده الحبشي كافور، فاخترق أقاليم ملوه و الكجرات، ثم أردف ذلك بجيش آخر يقوده أد لوغ خان، واستولى الجيشان على ديو كر، وتوالت انتصارات علاء الدين بفضل كافور القائد المظفر، فقاد حملة هائلة في سنة (710 هـ 1310 م) تمكنت من فتح الجنوب الهندي كله.
دور العلماء في دولة علاء الدين:
اغتر علاء الدين بهذه الانتصارات التي تحققت على يديه حتى لُقّب بالإسكندر الثاني، وأسكرته الغنائم والكنوز التي غنمها في حروبه، وتراءى له أن يفتح العالم بجنده، كما فعل الإسكندر، وسرح به الخيال إلى أبعد من ذلك، وزين له بعض جلساء السوء أنه في منزلة لم يصل لها أحد من البشر من قبل، فصرح أن قادته هم بمنزلة الخلفاء الراشدين، ولكن عمه القاضي علاء الملك أيقظه من أحلامه الضالة، وذكَّره بأن هذه الأحلام ما هي إلا وسواس من مداخل للشيطان لإضلاله وإفساده، ورده إلى جادة الصواب، فعاد إليه عقله، وانتبه من غفلته، بعد أن كاد أن يهلك ويُهلك.
ومن العلماء الذين كان لها أثر كبير في مسيرة علاء الدين الخلجي ؛ الفقيه الحنفي رأس الحنفية في زمانه القاضي مغيث الدين اليبانوي، وكان السلطان يدنيه ويجعله من خاصة جلسائه، يستشيره في الأمور كلها، وكان القاضي لا يخاف في الله لومة لائم، وكان يعترض كثيراً على القرارات المخالفة للشرع، وهو الذي أفتاه بشأن التعامل مع الهندوس في مسألة قبول الجزية منهم، كما رفض احتفاظ علاء الدين بأموال الغنائم لنفسه، وأصرّ على ضمها لبيت مال المسلمين، بل ألزم علاء الدين بمنع النفقات الباذخة على نسائه وأبنائه وأمرائه، وقرر له موقف الشرع في راتب الحاكم المسلم ونفقة بيته. وله مواقف كثيرة من الصدع بالحق والجهر بحكم الشرع تشبه سيرة السلف الصالح من علماء الأمة.
إصلاحاته الإدارية:
بعد أن استتبت الأمور لعلاء الدين ونجح في الوصول بدولة الإسلام لأقصى اتساع لها بعد فتح هضبة الدكن، وانصرفت عنه هواجس فتح العالم والسير على درب الإسكندر الأكبر، ثم جمع وزراءه وقادته وشاروهم في أسباب خروج الناس على السلطان، وكان ذلك أعقاب محاولة اغتيال فاشلة قام بها ابن أخته “سليمان شاه”، ، وعدة محاولات انقلابية من أقربائه وبعض قادته، فقالوا له: إن أسباب ذلك أربعة:
الأول: غفلة الملك عن الناس ومعاملتهم فيما بينهم.
الثاني: إدمان الخمر وإعلانه.
الثالث: مصاهرة الملوك والأمراء فيما بينهم.
الرابع: كثرة الأموال في أيدي الناس وانتشار الترف.
فوقعت هذه الأسباب في نفس علاء الدين وقرر بناء منهجه الإصلاحي في ضوئها؛ فبدأ علاء الدين في إصدار سلسلة من القرارات الإدارية المثيرة في شكل مراسيم ومناشير واجبة النفاذ على الجميع، وشرع في استخدام العيون والجواسيس حتى بلغ من شدة احتياطه أنه كان يطلّع على مآكل الناس ومشاربهم في بيوتهم، واتضحت جميع السلوكيات الطيبة والسيئة في المجتمع، وضرب بيد من الحديد على المفسدين وقطاع الطرق، وابتكر عقوبات شديدة فيها تجاوز شرعي لم يقره عليه أهل العلم وقتها؛ ولكنه تذرع باستخدام التعزيز حتى يأمن الناس، وهو ما تحقق بالفعل حتى صارت المحال والقوافل التجارية بلا حراسة من متانة الأمن والاستقرار.
كما أصدر منشوراً بمنع الخمور منعاً باتاً في عموم بلاد الهند، وألغى مجالس اللهو والطرب حتى لا ينشغل الناس بها عن جهاد الهندوس والتتار، وعاقب على بيع الخمر عقوبة عظيمة بأن حفر جباً في ظاهر دهلي، أمر بإلقاء كل من يبيع الخمر فيه للأبد، فارتدع الناس وارتعبوا من مجرد ذكر الخمر.
بعد ذلك قام بمصادرة كل الأموال التي قام الملوك السابقين بمنحها لبعض خواصهم، ثم أعاد توزيعها على الناس جميعاً، بصورة دفعت بعض المؤرخين المعاصرين لوصفه أول من طبق النظرية الشيوعية في الاقتصاد. ثم وضع قواعد لأسعار السلع الغذائية والاستهلاكية من ملابس وأقمشة وغيرها ولضبط الأسعار في الأسواق وضع المحتسبين، لكل سوق وسلعة محتسب مختص بها. وكان يتفقد أمور الرعية بنفسه ويسأل عن أسعارهم ويحضر المحتسب في كل يوم برسم ذلك ويذكر أنه سأله يوماً عن سبب غلاء اللحم فأخبره أنه ذلك لكثرة المغرم على البقر في المرتب فيأمر برفع ذلك، ويأمر بإحضاره التجار وأعطاهم الأموال وقال لهم اشتروا بها البقر والغنم وبيعوها ويرتفع ثمنها لبيت المال ويكون لكم أجرة على بيعها ففعلوا ذلك، وفعل مثل هذا في الأثواب التي يؤتى بها من دولة أباد وكان إذا غلا ثمن الزرع فتح المخازن وباع الزرع حتى يرخص السعر.
وكان لرقابته على الأسواق وشدته في معاقبة التجار المدلسين ومنعه من الاحتكار أثرها في رواج التجارة ورخص الأسعار، وبلغ من شدته أنه كان يأمر بالمطفف من التجار فتقطع من لحمه حيًا قطع يستكمل بها الميزان عظة لغيره من التجار !!.
وكان له أيضا من العمارات توسعة مسجد قوة الاسلام ومنارة علاء الدين الخلجي الشهيرة وبوابة علاء الدين الخلجي ومدرسة علاء الدين الخلجي بدهلي.
بالجملة رغم أن إصلاحاته الإدارية وقوانينه الاقتصادية آتت ثمارها في بلد مضطرب إلا إن كثيراً من عقوباته كان مخالفة للشرع وفيها تجاوز وقسوة لا يبررها أبداً تردي الأخلاق أو انتشار الفساد. هذه الشدة التي دفعت المؤرخين لوصفه بالقسوة والدموية، ولكنه يبقى رغم ذلك أحد أشهر سلاطين الهند المسلمين وأقواهم وأكثرهم نفوذاً وأشدهم على الهندوس، لذلك يكرهونه ويشوهون صورته حتى بعد وفاته بمئات السنين، ويكفي أن نعرف أن هذا السلطان خاض 84 معركة ضد المغول التتار والهندوس لم يهزم في أي معركة منها. حتى مات عفا الله عنه وسامحه سنة 716ه.
منقول عن موقع : ملتقى الخطباء