السؤال:
طلَّقني زوجي بدون حضور الشهود، وسألتُ ـ بعد مُضِيِّ فترةٍ مِنَ الزمن ـ أحَدَ أئمَّة المساجد فأفتاني أنَّ طلاق زوجي لا يُعَدُّ صحيحًا لانتفاء الإشهاد فيه، فالرجاءُ إفادتي: هل وَقَع الطلاقُ أم لا؟ أي: هل لا أزال زوجتَه؟ وهل الإشهادُ شرطٌ في صحَّة الطلاق؟ وبارك اللهُ فيكم.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالإشهاد ليس شرطًا في صحَّة الطلاق ـ على أرجحِ قولَيِ العلماء ـ بل يقع الطلاقُ صحيحًا ولو مِنْ غيرِ إشهادٍ، وإنما استحبَّ جماهير العلماء ـ ومنهم الأئمَّة الأربعةُ وغيرُهم ـ إشهادَ الرَّجلِ على طلاقه؛ لِمَا في ذلك مِنْ حفظ الأمانات وصيانةِ الحقوق، وإثباتِ حكمِه مِنْ غيرِ نكولٍ منعًا للتجاحد بين الزوجين، وقد حَمَل الجمهورُ الأمرَ على الندب في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق]؛ وذلك لوجودِ قرائنَ عقليةٍ وأخرى شرعيةٍ تصرف حُكمَ الوجوبِ إلى الاستحباب، فمِنَ القرائن:
ـ أنَّ الطلاق جعله الشرعُ خالصًا مِنْ حقوق الزوج بمُفْرَده؛ فلا يحتاج صاحبُ الحقِّ إلى شهادة الشهود أو إلى بيِّنةٍ ليباشر حقَّه، فحكمُه لا يختلف عن بقيَّة الحقوق وسائرِ الإشهادات.
ـ ولأنه ورَدَتْ آياتٌ قرآنيةٌ وأحاديثُ نبويةٌ غير مقرونةٍ بالإشهاد؛ فمِنْ ذلك: حديثُ ابنِ عمر رضي الله عنهما: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ـ وَهِيَ حَائِضٌ ـ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا..»»(١)، فلم يأمره النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالإشهاد لا على الرجعة ولا على الطلاق، فلو كان الإشهادُ واجبًا لَأمَرَه بذلك؛ إذ «تَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوزُ».
أمَّا مَنْ أفتى بوجوب الإشهاد في الطلاق فهذا مذهبُ بعض السلف كعمران بنِ حُصَيْنٍ وعليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنهما وعطاءٍ وابنِ جُرَيْجٍ وابنِ سيرينَ، وهو مذهب الشافعيِّ في القديم ـ ثمَّ رَجَع عنه إلى القول بالندب ـ وبه قال ابنُ حزمٍ وارتضاه الألبانيُّ رحمهم الله، فغايةُ ما تدلُّ عليه أدلَّتُهم: وجوبُ الإشهاد على الطلاق وأنَّ تارِكَه آثمٌ، وليس فيها أنَّ الإشهاد شرطٌ في صحَّة الطلاق، مع أنها قابلةٌ للتأويل.
وعليه، فإنَّ ما تجري عليه الفتوى مؤسَّسٌ على كلام الجمهور، باعتبارِ أنَّ الطلاق حقٌّ للزوج؛ فلا يُشترَطُ له الإشهادُ ليُباشِرَ حقَّه إلَّا على وجه الاستحباب.
فإِنْ كان الذي أفتى بأنه لا يقع هذا الطلاقُ إلَّا بالإشهاد مِنْ أهل الفتوى عُمِل بفتواه، ولم يُعتَدَّ بطلاق زوجك ـ حالتَئذٍ ـ بناءً على ما أفتى به المفتي، وحكمُ فتواه يبقى سارِيَ المفعول في تلك القضيَّة المحكومِ فيها؛ سعيًا لاستقرار الأحكام؛ جريًا على قاعدةِ: «الاِجْتِهَادُ لَا يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ».
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الطلاق» بابُ قول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ [الطلاق: ١] (٥٢٥١)، ومسلمٌ في «الطلاق» (١٤٧١)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما.
https://ferkous.com/home/?q=fatwa-1195