· المعرفة الإنسانية تنمو بقدر تنوع المصادر التي يستخدمها ذهن الإنسان لاستقبال العلم والمعرفة ويحجب الإنسان عن نفسه من المعرفة بقدر ما يحجب عنها من المصادر {على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا}.
· وكلما اتسعت المصادر المعرفية الصحيحة اتسعت معرفة الإنسان وعلومه الصحيحة {إنما يخشى الله من عباده العلماء} {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}
· فالماديون الذين يقولون لا إله والحياة مادة ليست مشكلتهم مع الله ولا مع الأنبياء بل مع المعرفة ومصادرها حيث حصروها بالعالم المادي فخسروا عالم الروح والغيب أي نصف المعرفة الإنسانية .
· ومثلهم السفسطائيون الذين ينفون أن يكون للأشياء أصلا حقيقة وجودية وبناء عليه قالوا بأنه لا العقل ولا الحس يمكن أن يكونا مصدرا للمعرفة.
· والمهووسون دينيا والمتعصبون طائفيا ومذهبيا ليست مشكلتهم مع الآخرين بقدر ما هي مع مصادر المعرفة وإخراجهم العقل عن دائرة الفعل في ضبط ممارساتهم وانفعالاتهم .
· وعندما يخرج بوش ويقول بأن الرب يخاطبه ويحثه على الحرب ويخرج نجاد ويقول بأن المهدي يؤيده لم يقولوا هذا من فراغ بل هناك سر ما قد يكون حقا أو باطلا .
· والسبب في اشتهار الشرق بالحكمة الصينية والهندية واشتهار الغرب بالفلسفة اليونانية هو الخلاف في مصادر المعرفة الإنسانية والغاية من المعرفة نفسها .
· فالشرقيون اهتموا في الروح وضبط السلوك وتهذيب النفس حتى لا تقع في الرذيلة وهو غاية العلم عندهم بينما اهتم الغربيون أكثر بالعقل حتى لا يقع في الخطأ والزلل في أحكامه .
· ويمكن لك أن تعرف الإنسان من خلال كلامه أو كتابته أو سلوكه على أي مصدر معرفي من مصادر المعرفة الإنسانية يعول وإليه يرجع في أحكامه وتصرفاته.
· فموضوع مصدر المعرفة الإنسانية من أخطر قضايا الفكر الإنساني وقد قامت له فلسفات كالمدرسة العقلية التي تجعل العقل هو مصدرها، والمدرسة الطبيعية التي ترى الحس هو مصدرها.
· وفي الوقت الذي كانت الفلسفة العقلية في أثينا تشق طريقها، نحو الوصول إلى حقيقة هذا الوجود، كان جنون السفسطة يعترضها ويعيقها .
· حيث خرج (بروتاغوراس) ليبطل المعرفة العقلية والحسية كلها، وليؤكد أن مصدر المعرفة الإنسانية ليس الحواس التي تغلط، ولا العقل الذي يخطئ، بل المصدر هو الشعور والوجدان الشخصي لكل إنسان .
· فالإنسان نفسه هو معيار المعرفة، فلا حقيقة مطلقة، بل الحقيقة نسبية بحسب ما يجده كل إنسان في نفسه، فكانت (الفلسفة العندية) التي ترى الحقائق عند كل إنسان بحسب ما عنده من الإدراك.
· وعليه فلا يوجد خطأ ولا صواب، ولا حق ولا باطل، ولا خير ولا شر، بل الحقيقة هو ما يجده كل إنسان وما يشعر به وحده !
· ثم جاء (غورجياس) ليصل بالسفسطة إلى حد الجنون، حيث أنكر وجود الأشياء ذاتها، وأبطل إمكانية المعرفة من أساسها، لا عن طريق الحس ولا طريق العقل ولا طريق الشعور الشخصي، فالمعرفة مستحيلة، لأن الأشياء التي تريد المعرفة الحكم عليها لا وجود لها !
· فانهارت بتلك الفلسفة السفسطائية المعرفة العقلية، والقيم الإنسانية، إذ لا معنى للفضيلة والرذيلة، والخير والشر، والحسن والقبح، وهي دعوة للإباحية والانحلال!
· وفي الوقت الذي فشل فيه أرباب الفلسفة بجدلهم العقلي حسم الخلاف فيما بينهم، فضلا عن تغيير واقعهم وإصلاحه، كان الأنبياء والرسل يقودون أممهم نحو التوحيد والفلاح، والعدل والإصلاح، كما قال تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.
· ظهور سقراط وفلسفته :
· لقد بلغ الانهيار الفكري في أثينا أوجه بسبب الشك واللاأدرية والأزمة المعرفية والنفسية، حتى جاء (سقراط) ليعيد للعقل اليوناني اتزانه، وللخلق مكانه.
· فوضع أسس المعرفة العقلية الصحيحة، وأقام فلسفة المعرفة على أساس العقل وقدرته على تصور الأشياء والحكم عليها، ليتوصل بذلك إلى حماية (الحق) و(الخير) و(الفضيلة) .
· إذ لا يمكن أن تكون هذه الأشياء نسبية إذ يعني ذلك انهيار المجتمع الإنساني كله، إذا لم يشترك الإنسان في عقل جمعي، يستطيع الاتفاق على قدر من الحق والخير والجمال.
· وإلا أصبح الظلم في نظر الظالم حقا وعدلا، بحسب ما عنده، فلا يعود للعدل حقيقة، ولا للظلم حقيقة، ولا للخير حقيقة، ولا للشر حقيقة، وهو ما يتنافى مع بقاء المجتمع الإنساني ويفضي إلى سقوطه وانهياره!
· وقد قرر (سقراط) أن المعرفة لا يمكن أن تبنى فقط على الحواس، إذ حواس كل إنسان تتفاوت في قدرتها عن الآخرين، ومن ثم يختلف إدراك الأشياء باختلاف الأفراد وتفاوت قدراتهم.
· وعليه لا بد من بناء المعرفة على أصل مشترك بين الإنسانية كلها، ولا يكون ذلك الميزان إلا العقل، فإدراك الحواس للأشياء إدراك جزئي، وهو يتفاوت من شخص وآخر، إلا أن هناك إدراكا كليا، هو من حكم العقل لا الحس .
· فإدراك حقيقة زيد وصفاته الجزئية العارضة، كفرد من أفراد الإنسان، يختلف عن إدراك عمرو وصفاته الجزئية، إلا أن العقل يحكم حكما كليا لا يختلف فيه اثنان بأن زيدا وعمروا كلاهما إنسان ناطق، يمكن حده وتعريفه والحكم عليه.
· مع أنه لا وجود للإنسان الكلي في الخارج والواقع، وإنما الموجود هو أفراد النوع الإنساني الذين يختلفون فيما بينهم اختلافا كبيرا، فالإدراك الجزئي لهم هو من عمل الحواس كالبصر والسمع واللمس والشم والذوق التي تختلف في قدراتها بين شخص وآخر، وتختلف في إدراكها بين حال وأخرى، وبين زمان وآخر.
· وأما الإدراك الكلي فهو من عمل العقل الذي تشترك فيه كل العقول، فوجب أن يكون هو مصدر المعرفة الإنسانية.
· وكذا للعقل قدرة على إدراك المعاني والقيم إدراكا كليا، كالعدل والظلم، والفضيلة والرذيلة، مع أن الحواس تدركها إدراكا جزئيا .
· فحين يأخذ زيد مال عمرو، وعمرو مال خالد، يختلف الأخذ في كل حالة بين شخص وآخر، بحسب السبب والقصد في كل جزئية، إلا أن العقل يقضي بحكم كلي عام، بأن أخذ مال الإنسان بلا سبب ولا إذن ظلم وعدوان، ورده إليه عدل وإحسان.
· وكذا الجمال والحسن فإنها معاني كلية يدركها العقل، من خلال جزئيات كثيرة يستحسنها الحس ويستلذ بها، على اختلاف أشكالها وألوانها وروائحها، إلا أن المعنى المشترك بينها وهو الجمال والحسن إنما يدركه الإنسان بواسطة العقل وحكمه الكلي.
· ظهور أفلاطون :
وجاء أفلاطون ووافق أستاذه سقراط على نظريته في المعرفة العقلية، إلا أنه قال بنظرية (المُثُل) وهو أن إدراك العقول لمعنى الجمال المشترك في المستحسنات حسا، مسبوق بفكرة عن الجمال في عالم المثل، قبل أن تأتي النفوس البشرية إلى عالم المادة.
· فحين ترى الجمال تتذكر المثال السابق الذي عرفته في عالم الروح والمثل، ومن خلال المقارنة بين هذا وذاك تحكم له بالجمال بحكم العقل، وكذا الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، فالعلم هو تذكر العقل للمثل السابقة، والجهل هو نسيانها!
· وكأنه يدور حول ما جاءت به الأنبياء عن خلق آدم في الجنة، وما آتاه الله من العلوم والمعارف وهو في الجنة قبل الهبوط إلى الأرض، كما في قوله تعالى {وعلم آدم الأسماء كلها}، وعن أصل الخلق والشهادة الأولى {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون}، {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكونا بما فعل المبطلون.وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون}، وعن الجنة وجمالها ونعيمها وحسنها، وعن الهبوط منها إلى الأرض{قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
· وهذا التذكير بعالم المثل الذي حام حوله أفلاطون ولم يستطع تحقيقه، يؤكده كون القرآن تذكرة {كلا إنها تذكرة. فمن شاء ذكره}، {وإذا ذكروا لا يذكرون}، {قل هل يستوي الذين لا يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}، {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب}، {وما يتذكر إلا من ينيب}، {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون}، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
· لقد توصل أفلاطون بأن الوجود لا يمكن عقلا أن يكون صدر عن صدفة، بل إن نظامه وجماله، يجعل العقل يحكم بصدوره عن قوة عاقل كامل حكيم!
· وقد ألف أفلاطون كتابه في السياسة والمدينة الفاضلة التي يتحقق فيها العلم والمعرفة والعقل والفضيلة والخير، إلا أنها ظلت أحلاما جامحة، وأماني كاذبة!
· ظهور سقراط :
ثم جاء أرسطو ليكمل ما بناه قبله سقراط وأفلاطون في نظرية المعرفة، وأنها تبدأ من الحسيات، حيث تدرك الحواس عن الأشياء من حولها مدركات وتصورات جزئية، ثم تنتقل إلى الذهن، الذي يجربها ويقارن بينها، ويتعرف أسبابها وعللها، ثم يقيس ويستنتج منها، ليتوصل إلى الأحكام والتصديقات، وهو ما عرف بعلم (المنطق) الذي يضع وينظم القواعد البدهية، التي تعصم العقل من الخطأ والزلل، للوصول للمعرفة الإنسانية الصحيحة.
· لقد كانت نظرية المعرفة العقلية وتطورها على يد سقراط ثم أفلاطون ثم أرسطو أنضج ما توصل له العقل البشري في الغرب آنذاك من قواعد للمعرفة.
· وظلت البشرية مع كل جهدها العقلي لا تستغني عن هدي الأنبياء ووحي السماء ولهذا استطاع إبراهيم بالبحث والتفكر والشك والنظر العقلي الوصول إلى الحق الذي تاه فيه أرسطو.
· إلا أنه سرعان ما انتكس دور العقل من جديد على يد الفلسفة الرواقية التي ترى بأن العقل لا يستطيع معرفة الحق والباطل، إذ أن المصدر الرئيسي له هو الحسيات وإدراكها للجزئيات، التي يقع منها الخطأ، وبناء عليه لا يمكن الاطمئنان إلى أحكام العقل الكلية، مادام الخلل قد تطرق للمدركات الجزئية، وتوصلوا إلى أن الطريق الصحيح للمعرفة هو (الشعور) و(الوجدان)، فالحقيقة تفرض نفسها على الشعور والوجدان إلى حد لا يستطيع الإنسان معه إلا القول بأنها حقيقة!
· وجاء أبيقور والأبيقورية وقصروا مصدر المعرفة على المدركات الحسية الصحيحة، وما يستنتج عنها من أحكام صحيحة أيضا، وأنه لا يمكن البحث فيما وراء ذلك مما هو في دائرة الغيبيات وما وراء الطبيعة البتة لأنه عرضة للخطأ.
· ثم عاد الشكاكون واللاأدريون من جديد ليعلنوا نهاية عصر أرسطو ونظريته في المعرفة العقلية، حيث قرروا أنه لا يعرف من الأشياء إلا ظواهرها لا حقائقها، ولا يستطيع الحس معرفتها على ما هي عليه، لاختلاف الحس بين إنسان وآخر، وبين زمان وآخر، وحال وآخر، وعليه فلا حقيقة للأشياء يمكن الوقوف عليها، كما أن المبادئ العقلية الأساسية للمعرفة الإنسانية لا يمكن إثباتها ببرهان قطعي، ومن ثم استحال تحقق المعرفة!
· وقد حاول العقليون إبطال هذه الفكرة بالحجة ذاتها، وأنه كيف يمكن الجزم بهذا الرأي، إذ هو من المعرفة، بينما المعرفة مستحيلة عندكم؟ وكيف جزمتم أن الحس يخطئ، والعقل لا يصلح وسيلة للمعرفة؟ وكيف توصلت لهذا الحكم مادام لا توجد حقيقة يمكن الوثوق فيها، فكيف وثقتم بهذه النتيجة؟!
· وكما دار الجدل في فلسفة الوجود، وفلسفة المعرفة، دار الجدل حول فلسفة القيم، والفضيلة والرذيلة، والحسن والقبح، ووصل الحال أن صارت اللذة والمتعة والمنفعة هي المعيار الذي يحكم على كل فعل من خلاله.
· فكل ما حقق للإنسان لذة ومتعة ومنفعة ومصلحة فهو فضيلة وحق وصواب، بقطع النظر عن كونه مما يقره العقل، أو يقبله الضمير، أو يضر بالغير، وهي الفلسفة التي كانت سبب انهيار المجتمع اليوناني وانحلاله، إلا أنها ستبعث من جديد بعد ألف سنة، وستكون أساس الفلسفة البرغماتية المصلحية المعاصرة!
· وعلى أساسها الفلسفي قامت البرغماتية المعاصرة فالحق والصواب يعرف على أساس المصلحة والمنفعة بحسب كل إنسان ودولة ومجتمع وليس هناك معيار آخر.
· وهذه الفلسفة تؤثر في واقع مجتمعاتنا السياسي والاقتصادي والمعرفي والثقافي والأخلاقي بشكل عميق ولهذا صارت عبادة المادة والمصلحة ظاهرة اجتماعية.
· فالإنهيار السياسي العام وفساد الوسط السياسي في كل بلد عربي تقريبا يؤكد أن الأزمة الإجتماعية وانهيار القيم الإنسانية كان وراءه خلل يحتاج إلى ثورة أخلاقية.
· ولن تكون هناك ثورة إحياء أخلاقي وقيمي ما لم يسبقه وعي معرفي واستثارة للعقل العربي ليستعيد من جديد شهوده الحضاري {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.