نحن الان في 21 شباط – فبراير من عام 1431 . في ذلك اليوم ، وفي قاعة باردة من قصر روان ، حيث جلس بشكل نصف دائري خمسة واربعون من رجال الكنيسة بدأت محاكمة جان دراك في مركز الدائرة ، وعلى كرسي صغير جلست المتهمة " الساحرة " مكبلة بالاصفاد - امام هؤلاء الرجال . افتتح الكاهن كوشون المحاكمة بسيل من المتهم صبها على رأس المسكينة وتتراوح بين الشعوذة والفجور . والواقع ان احداً من الحضور لم يكن مخدوعاً بحقيقة الامر . فالتهم التي ذكرت ليست سوى تغطية لما هو أدهى وأكثر خطرا على البعض . لقد طردت جان داراك هذه الانكليزية من اورليان عام 1492 . وبعد شهرين توجت ولي العهد ملكاً على فرنسا تحت اسم شارل السابع مكان الملك الانجليزي هنري السادس .
هذا هو سبب محاكمة " الساحرة " وهذا هو ايضاً سبب محاكمتها في روان ، التي تعتبر عاصمة الانكليز في فرنسا ، ومن قبل جماعة تعتبر عملية لانكلترا .
عندما طلب منها رئيس المحكمة كوشون ان تقسم على الانجيل بأن تقول الحقيقة في اجابتها عن اسئلة القضاء ، رفضت ان تقسم الا على ما يتعلق ، في هذه الاجابات ، بها وبعائلتها اما فيما يختص بالامور الاخرى ، كالوحى الذي ينزل عليها وينير خطواتها من وقت لاخر ، فقد اجابت بتصميم انها لن تفصح عنه الا لملكها شارل السابع ، حتى ولو كلفها رفضها هذا حياتها .
لم يفد اصرار رئيس المحكمة امام ثبات موقف جان . وعندما سألها ان تذكر اسمها والقابها ومكان ولادتها ، اجابت بكل هدوء ان اسمها جان وانها ولدت في دومريمي من أب فلاح وام علمتها الخياطه والحياكة ، اما الالقاب ، فليس لها شئ منها وقد انتهزتها فرصة لتذكر مآسي قريتها مع الجنود الانكليز الذين كثيراً ما كانوا يقومون بأعمال النهب والسلب والحرق فيها ، مما كان يدفع أهلها للنزوح والالتجاء الى اماكن اخرى مجاورة .
لم يرق للرئيس ، لكنه احتوى الانفعال . بعدها ، سألها :
- مم تشكين ؟
- من الاغلال التي تقيد رجلي
- هذه الاغلال وضعت لانك حاولت الهرب من السجن
- هذا طبيعي . فكل سجين يتمنى الهرب .
هنا انتقل الرئيس الى موضوع اخر وسأل المتهمة :
- متى بدأت بسماع الاصوات الخفية او ما تسميه الوحي ؟
- منذ سن الثالثة عشرة وكنت عندها في حديقة البيت ظهر احد الايام ، انه صوت آت من عند الله لهدايتي الى الطريق القويم.
- باي شكل ظهر عليك هذا الصوت ؟
- لن أعطي جواباً عن هذا السؤال . كل ما يمكنني قوله هو أن الصوت أمرني بالتوجه الى اورليان لتحريرها من الانكليز وتتويج ملك فرنسا عليها .
- هل استقبلك الملك بسهولة ؟
- نعم
- لماذا ؟
- لان الملك ، هو ايضاً ، لديه بعض الايحاءات .
- كيف ؟
- لا يمكنني الاجابة يمكنك ان تذهب عنده وتسأله .
هنا رفع الرئيس الجلسة لتعقد يوم السبت في 24 شباط فبراير وفي ذلك اليوم ايضاً حاول الرئيس كوشون مرة اخرى ان ينتزع من جان داراك ما عجز عن انتزاعه منها في السابق وهو ان تقسم على ان تقول كل شئ بما في ذلك حقيقة مصدر الوحي واسراره ولكن اصرار جان داراك على موقفها الرافض عمق لديه الخيبة ، وهذا الاصرار على ان علاقتها بربها هي علاقة مباشرة ولا تمر بأي وسيط والكنيسة وسيط جعل الفتاه تقع في الفخ الذي نصبه لها كوشون . هنا وبعد نجاح خطته ، أعطى الرئيس الكلام لعضو المحكمة جان بوبير ، الذي بدأ باستجوابها بما يلي :
- متى سمعت هذا الصوت اخر مرة ؟
- سمعته البارحة واليوم .
- في أية ساعة ؟
- سمعته ثلاث مرات ، صباحاً وظهراً ووقت القادس .
- ماذا كنت تفعلين البارحة عندما اتاك الصوت ؟
- كنت نائمة ، والصوت هو الذي ايقظني .
- كيف ؟ بهز الذراع ؟
- ايقظني دون ان يلمسني .
- هل كان الصوت في غرفتك ؟
- كلا ، كان في القصر .
- هل شكرت الصوت وركعت على ركبتبك ؟
- نعم . وطلبت منه ان يساعدني . والان ، يطلب مني هو ان أكون شجاعة .
وهنا ، التفتت الى كوشون ، كما لو كانت تنفذ ما طلب منها الصوت في شجاعة ، وقالت له :
- احذرك ، انت من تقول انك حاكمي ، مما تفعل . أنا مرسلة من الرب فتنبه للخطر ....
كان من الممكن ان يكفهر جو المحكمة لهذا التهديد يصدر بوجه الرئيس من فتاة بسيطة كجان دراك ، لولا أن احتواه كوشون على مضض ، ولولا ان تدخل بوبير على الفور قائلاً لها :
- وهل تعتقدين أن قول الحقيقة يغضب الله ؟
لم تعر جان أي اهتمام للسؤال ، بل أكلمت :
- لقد أوصاني الصوت ان أبوح به للملك دون سواه . وهذه الليله بالذات ، كلفني برسالة له على قدر كبير من الاهمية بالنسبة اليه . واريد ان تصل اليه .
- الا يمكنك اقناع صاحب الصوت ان ينقل الرسالة بنفسه الى الملك ؟
- لا أعرف . فهذا يتعلق بارادة الرب .
- هنا ، بدأ بوبير يفقد صبره :
- أليس لهذا الصوت وجه وعيون ؟
- لن أقول لك شيئاً من هذا .
- اتعتقدين انك تحت رحمة الرب ؟
- ان لم أكن كذلك ، فالرب يحيطني بها ، وان كنت ، فهو يديمها علي .
لقد أدهش الجواب الحضور ، وجلهم من كبار اللاهوتيين . وهذا الجواب ، بجرأته وعمقه وصفائه ، أعطى برهاناُ اخر على ان هذه الفتاه تنعم بسر الهي خارق .
لكن المحكمة معقوده ، لا لتظهر اعجابها ودهشتها ، بل لتحاكم جان دراك بتهمة الشعوذة لذلك ، كان لا بد من تبديد ما علق في الاذهان من ايجابيات للفتاة ، وهذا ما فعله كوشون عندما رفع الجلسة .
ولما عادت المحكمة والتأمت ، كان لا بد من محو الانطباع السابق المتألق في أذهان الحضور ، هذه المهمه اخذها بوبير على عاتقه :
- هل كنت تلعبين مع اولاد قريتك وترعين معهم القطعان ؟
- نعم . عندما كنت صغيره .
- هل تعرفين شجرة الجن ؟
- نعم . وكنت اذهب اليها احياناً مع بعض بنات القريه . لكني لم اجد ايه جنية . كما اني لا اومن بوجود الجن .
- هنا ايضاً ، لم يوفق بوبير في الايقاع بالفتاه المسكينة .
- هل تودين يا جان لبس ثوب امرأه ؟
- لا مانع لدي ، على الرغم من أن ما البسه يعجبني لان الرب لم يعترض عليه .
لقد قصد بوبير ان يبرز جريمة جان ، كما كان ينظر الى انذاك ، يلفت انتباه المحكمة الى ما تلبسه جان وهو بزة عسكرية يلبسها المحاربون ، دون سواهم .
- هل ينبعث امامك نور عندما يتحدث اليك الصوت ؟
- نور وهاج !
هذه الجرأة ، تبديها فتاه بسيطه امام محكمة بهذه الضخامة وذاك المقام ، كلفت جان اجراءات مشددة في سجنها فيوم السبت في 17 اذار – مارس 1431 ، كان قد مضى عليها اسبوع كامل دون ان تخرج من زنزانتها . واذا ما أضيف هذا التشدد الى اجراءات اخرى عرفنا مدى ما تركه موقفها من اثر سئ في نفوس حاكميها . لقد نقلت الى سجن علماني يحرسه جنود انكليز . ومعروف كم حاربت دارك الانكليز . وهذا مخالف للقانون الذي يفرض على من يحاكم كنيسة ان يحجز في سجن كنسي . يضاف الى ذلك ان يجب ان تكون في سجن نسائي ومحروسة من قبل حراس من النساء . ومما يبرز التحيز ، هو انه لم يعين محام للدفاع عنها . ناهيك عن ان اتعاب هيئة المحكمة كانت على عاتق الانكليز دون سواهم . والفضيحة الكبرى في هذه القضية هي ان المحكمة أعلنت ، منذ انعقادها في الجلسة الاولى ، ان جان ستسلم الى الانكليز لتحاكم من قبلهم ، اذا ما قررت المحكمة تبرأتها . كل هذا يعني بوضوح ان المحاكمة برمتها ليست سوى تمثيله يراد بها تغطية الحقيقة وهي مطالبة الانكليز لرأس من اقسمت على اخراجهم من فرنسا .
الجلسه الان تعقد في زنزانة السجينة . وفيها تولى جان دي لافونتين الاستجواب مكان بوبير :
- هل لك ان تقيمي حبك للكنيسة وخدماتك لها ؟
- أحب الكنيسة واتفانى في دعمها بكل ما اوتيت من قوة ، وأود لو تسمحون لي بحضور القداديس . اما اعمالي ، فأترك لرب السماء تقييمها ، الرب الذي ارسلني الى شارل ، الملك الحقيقي لفرنسا ، وبالمناسبة أقول لكم ان الفرنسيين سينتصرون على الانكليز في معركة حاسمة . تذكروا اني قلت لكم ذلك يوماً .
- هل تقبلين حكم الكنيسة مهما كان ؟
- انا اقبل بحكم الرب . ولما كان الرب والكنيسة واحداً ، فلماذا نوقع انفسنا في متاهات السؤوال؟
- هناك كنيسة مظفرة يذوب فيها الرب والقديسون والملائكة . وهناك كنيسة ملتزمة تشمل البابا والكرادلة والاساقفة . هذه الكنيسة معصومة عن اي خطأ لانها بأمره الروح القدس فهل تنصاعين للكنيسة الملتزمة ، الكنيسة الارضية ؟
سؤال محرج . هل ترد بالسلب وتعتبر خارجة على الكنيسة وتحاكم على هذا الاساس ؟
لقد فهمت المأزق . لكنها اختارت طريقها منذ وقت طويل .
- لقد أرسلت الى ملك فرنسا من قبل الرب . والى الرب اقدم حساب ما فعلت وما سافعل .
- هل تقبلين بالافصاح عما رفضت الافصاح عنه امام قداسة البابا ؟
- بالتأكيد . خذوني امامه وسأقول له كل شيء.
كان الجواب واضحاً ومحكماً . لكن المرسوم هو ان تقاد جان دارك امام الانكليز وليس امام البابا . وهذا السؤال يدل على النية المبيته من قبل لافونتين :
- هل يكره الرب الانكليز ؟
- لا أعلم مشاعر الرب اتجاه الانجليز كل ما اعرفه هو انهم سيطردون من فرنسا ، باستثناء من سيموت منهم على ارضها .
- من دفعك الرسم ملائكة بأذرع وأرجل وثياب ؟ هلى يظهرون عليك على هذه الصورة ؟
- هكذا هم مرسومون في الكنيسة .
- لماذا هم اثنان فقط ؟
- لان رايه الجيش المهاجم للانجليز يقودها الرب بواسطة القديسة كاترين والقديسة مارغريت . اللتين قالتا لي : " تسلمي انت هذه الرايه باسم رب السماء " ؟
- هل يعتمد الامل في النصر على الراية او عليك بالذات ؟
- انه يعتمد على الرب .
- لماذا كانت رايتك وحدك حاضرة عند تنصيب الملك وليست رايه سائر القواد ؟
- لانها هي التي جاهدت . فهي اذا التي تستحق هذا التكريم .
- هل تقبلين خلع لباسك العسكري ولبس ثوب نسائي للذهاب الى القداس ؟
- اقبل . ولكني سأعيد بزتي العسكري واعود الى الجهاد حالما اخرج من الكنيسة .
هنا ، وقد اخذ الضيق مأخذه في نفس رئيس المحكمة ، أمر برفع الجلسة . وما هي الا لحظات حتى رأت جان دارك نفسها ثانية في زنزانتها وجهاً لوجه امام حراسها الانكليز .
ثلاثة اشهر مرت والفتاة حبيسة الزنزانة . ثلاثة اشهر عاشت فيها بعذاب نفسي وجسدي فلما أصاب سجيناً اخر . ومع ذلك ، فانها لم تركع . ولما كان يقتضي الانتهاء من هذه القضية خوفاً من تفاقمها وانعكاساتها ، فقد قررت جامعة باريس ، الملتئمة بكامل هيئتها في 15 ايار- ما يو 1431 ، ان تتبنى لائحة من اثنى عشر اتهامياً رئيساً. هذه اللائحة قدمت من قبل كوشون نفسه مرفقه بكتاب من ملك انكلترا . جميع هؤلاء وجهوا الى جان داراك تهمة الشعوذة والهرتقة والوثنية ، كما وجهوا اليها تهمة قتل الانكليز والتعطش للدم المسيحي .
وفي 23 ايار مايو ، طلب من المتهمة العودة عن " اخطائها وتصرفاتها المشينة " لكنها رفضت باصرار " حتى ولو رات النار التي سيحرقونها بها تشتعل " .
24 ايار – مايو في هذا اليوم كان كل شئ قد هي للحكم وللتنفيذ . الحكم بالموت حرقاً . واستكمالاً لفصول المهزلة ، دعي الناس لحضور الجريمة . وعلى رأس هؤلاء ، ملك انكلترا الحقيقي ، اسقف ونشستر وهيئة المحكمة . ومقابل المنصة الرئيسية ، منصة الشرف ، وقفت جان داراك .
بدأ " الاحتفال " بخطاب القاه في وجه المتهمة المحامي غليوم ، صديق كوشون الشخصي :
- جان انت ساحرة ومهرتقة وخارجة على الكنيسة . وملكك الذي اراد استرجاع ملكه بواسطة امرأة هو ، في الواقع ، مثيلك . ثم أكمل بلهجة أكثر ليونة :
- انا ارثي لحالك . عودي عن اقوالك والا ، فان الحكم سيكون قاسياً عليك .
- انك تتعب نفسك كثيراً لتثني عن عزمى ولتحضني على انكار الحق .
هنا ، انبرى جاك كالو ، سكرتير ملك انجلترا ، وأخرج من كم سترته ورقة سطر عليها عليها بضعة أسطر ، هي الدليل على ان كل شئ قد هيء مسبقاً، صرخ غليوم ملتفتاً نحو جان :
- وقعي على هذه الورقة والا فانك ستنتهين الى النار .
أذعنت جان بصوت ضعيف . لكن مفاجأة غير متوقعة حصلت . فقد ثار الانكليز الموجودون في المنصة على الرئيس كوشون نفسه وسائر اعضاء المحكمة متهمين اياهم بنقض الاتفاقية والخيانة: لقد اعتبروا ان الورقة التي عرضت على جان دراك للتوقيع ستؤدي ، عند توقيعها ، الى تبرئة المتهمة وعدم تسليمها الى الانكليز . ماذا كانت تحوي هذه الورقة التي وقعتها الفتاه المسكينة بعد ان شنت عليها حرب نفسية رهيبة ؟ انها اعترف منها بالشعوذة ونكران لسماعها صوت الرب كما انها تعهدت بالامتناع عن لبس الثياب العسكرية . أما كوشون ، العميل الامين الاسياده الانكليز ، فقد سارع ، عندما ثارت ثائرة هؤلاء الاسياد ، الى تطمينهم ، وامعاناً في ذلك فقد عجل في اصدار حكمه على جان داراك : السجن مدى الحياة على الخبز والماء لتغسيل خطاياها ولتكف عن اقتراف غيرها .
امتقع لون المسكينة عند سماعها الحكم وعرفت انها وقعت في الفخ الذي نصب لها ، فتوقيعها على الوثيقة لم يكن الهدف منه سوى اهانتها وهدر كرامتها ، لانقاذها ، كما ذكر امامها.
اما الانكليز فقد ظلوا على انفعالهم . صحيح ان جان دراك ستمضي بقية ايامها في السجن ، لكن الصحيح ايضاً هي انها ستبقى حية ، في حين دبروا ما دبروا ودفعوا ما دفعوا لتنتهي عدوتهم الى النار وليتخلصوا منها الى الابد .
عادت جان دراك الى زنزانتها لتلبس ، كما تعهدت ، لباس امرأه لكن ، لم تمض سوى ثلاثة ايام حتى شوهدت تعود الى لبس الزي العسكري . فما الذي حدث حتى تنقض السجينة تعهدها ؟ الامر غاية في البساطة ، لقد امرها سجانها الانكليز بذلك بقصد اعادتها الى محاكمة جديدة وبالتالي ، اصدار الحكم بحرقها حية .وهكذا وفي اليوم الرابع للمحاكمة الاول، بعد يوم واحد من نقضها القسري لتعهدها ، عادت المسكينة لتواجه المحكمة والمصير المرسوم ، جرت المحاكمة – المهزلة وحكم على جان دراك بالاعدام حرقاً ، ورضي الانكليز .
خمسة وعشرون عاما مرت على موت جان دراك ففي 7 تموز سنة 1456 ، كان اناس كثيرون يتجمهرون في باحة قصر روان ليستمعوا خاشعين الى حكم اخر يقضي ، هذه المرة باعادة اعتبار الشهيدة . كبار رجال الكنيسة في باريس وريمس وكوتانس ومعهم شقيق جان دراك التأموا في اجتماع تاريخي ليعلن كاهن ريمس ياسمهم ما يلي .
" نعلن باسم الرب ، الحسيب الوحيد على اعمالنا ، ان المحاكمة التي ذهبت جان داراك ضحية انحرافها وعمالتها ، باطلة ، وان الحكم الصادر عنها هو ايضا باطل كما نعلن ان جميع الاتهامات بالشعوذه والهرتقة الموجهة الى الشهيدة باطلة ، هي الاخرى لذلك فاننا نحكم بالغائها جميعاً " .
ما ان انتهى الكاهن من قراءة وثيقة البراءة ، حتى ظهرت علامات الرضى على وجوه الحضور وهمهمات الموافقة على شفاههم . وامعاناً في التكريم ، توجه الجميع الى مقبرة سان
- اوين ، حيث انتزع، احتيالاً اعتراف جان دراك بالشعوذه وانكارها لسماع صوت الرب . وهناك قرأ كاهن ريمس حكم البراءة ثانية على مسمع من الحضور . وقد تكرس هذا الحكم من قبل البابا نفسه .
كان هذا تتويجاً لجهود دامت سبع سنوات ، سبع سنوات مليئة باجراءات باعادة محاكمة شاقة ومثيرة . اعيد النظر بكل الوثائق . فندت كل الاقوال ودحضت جميعاً . وقد اشرف على هذه العملية كبار القضاة ورجال القانون من الملك شارل السابع ، ملك جان دراك ، الذي تنبأت المسكينة بانتصاره على الانكليز وبعودته الى عرش بلاده . وقد صدقت النبوءة .
وهكذا انتهت اول محاكمة سياسية في تاريخ فرنسا . كانت محاكمة مثيرة اظهرت بوضوح ما يمكن ان تؤدي اليه عمالة ضعاف النفوس . ان جان دارك اصبحت بطلة وطنية ويطلق اسمها على الساحات والشوارع والمؤسسات في فرنسا وخارجها ، لكن الصحيح ايضاً هو انها ماتت حرقاً ، وهذا المصير ، لمجرد تخيله ، رهيب فكيف به عند المنفذ به ؟ واذا كان من عبره لهذا القضية برمتها ، فهي ان الحق هو المنتصر الاخير في الجولة الاخيرة ذاك هو منطق الامور . ولكن ... كم من الضحايا تسقط وكم من الرؤوس تتدحرج قبل ان تصل الامور الى نهاية منطقها او ، بالاخرى الى منطق نهايتها ؟ قد تكون التضحية بالذات هي القربان الامثل الذي يقدمه المرء لاحقاق حق او لابراز حقيقة . وهذا في نظر الكثيرين ، قمة العطاء .
الموضوع منقول